ويهزه كلامه ذلك فيصمت قليلا، ثم يود أن يطيب خاطرها بأكثر من ذلك فيقول بلهجة قدماء الأنبياء: «الحق أقول لكم: حيثما يكرز بهذا الإنجيل في كل العالم يخبر أيضا بما فعلته هذه تذكارا لها.» •••
غضب يهوذا، أفلم يبذل جهودا عظيمة لكسب أموال في سبيل الفقراء؟ أفلم يضح بجميع ما يملك في سبيل حياته الأدبية؟ ولماذا؟ لقد شعر بفساد احترام امرأة للمعلم بدهنه بما يساوي ثلاثمائة دينار، فأحس أنه خدع، فاشتعل قلبه ارتيابا، فتذكر قول موسى: «إذا تكلم النبي باسم الرب فلم يتبع؛ كان ذلك افتراضا فلا تخشه.» ويؤثر فيه ما رآه بأورشليم من إنذار أهله له، وسخريتهم به، فلا يدفع عن نفسه مؤثرات الشباب وقوة قديم العادات، ويرى المعلم ساكنا لا يبدي حراكا فيعزم على الحركة والعمل، ولم لا يطوي دور الانتظار الذي أضحى لا يطاق؟
أيعرض عن معلمه؟ أيهجره؟ ليس هذا قليلا ولا كثيرا؛ وإنما أراد أن يحمل يسوع وأعداء يسوع على اتخاذ خطوة حاسمة، فأخذ يبحث عن أسباب سائغة ليست بالحقيقة سوى انتقام شخصي؛ لما اعتوره من قنوط، فوجد في ذهنه ما يطلبه، أفلم يقل المعلم في الأيام الأخيرة مكررا بمختلف الصيغ: إن آلامه المنتظرة هي مرحلة إلى المجد الأبدي؟ ألم يخبر بدنو أجله؟ فإذا كان هو المسيح حقا، وكان يتردد في إثبات ذلك بالأعمال، لم يستطع أن يثبته للناس بغير آلامه، وتتضح عداوته للهيكل وللقائمين بأموره من الوثائق والشتائم، ومن شكاوى كلا الحزبين، فإذا ما سلم لأعدائه بدا في العالم جوهره وحقيقة إنجيله لكل ذي عينين.
والتلميذ الذي يقود المعلم إلى حيث يألم يكون وحده قد فتح له طريق المجد، ومن المحتمل أن يكون يسوع العالي النسك منتظرا اليد التي تعينه على الوصول إلى النهاية، ومن ثم إلى البداية، فإذا ما أتى الرب إذ ذاك بمعجزة فنصر ابنه؛ وجد التلميذ الملحد ما يسوغ به فعلته من وجهين: فالمعلم يثبت آنئذ لنفسه ولتلميذه سلطانه الرباني، وتكون جميع الشكوك والريب حول رسالته قد تبددت بذلك إلى الأبد.
حاول يهوذا أن يستر بتلك التأملات ضعفه وتأثره من إيمانه الماضي بيسوع وكفره الحاضر به، فذهب إلى أحد بيوت الكهنوت التي يعرفها بأورشليم لا ريب.
أوصد الباب دونه بسرعة ثم استمع إليه؛ فقد كان أعضاء من المجمع الكبير مجتمعين لاتخاذ قرار في الأمر ما ألحف الوقت عليهم بذلك، فلم يبق لعيد الفصح سوى يومين، فإذا ما برز يسوع الناصري أمام الجموع المجتمعة، فكرر تهمه الشائنة ضد الجالسين على كرسي موسى بدا الخطر، فيجب القبض عليه ليلا في مكان بعيد من الهيكل والمدينة، ومن أعين الناس إذن، وليحاكم وليحكم عليه، ولينفذ الحكم فيه قبل يوم العيد بالاستناد إلى شهادة شاهدين أو ثلاثة شهود إذن؛ ففي ضوضاء العيد ما يؤدي إلى نسيان أمره عاجلا.
قدر أولئك الأعضاء ذلك وعلموا أيضا، أن من الخطر أن ترسل إلى بيت عنيا كتيبة مسلحة لحصار بيت مطمئن، والقبض على نفر من الناس قد يقاومون فتسفر مقاومتهم عن شغب، ثم رأوا المعين في تلميذ له أتى من تلقاء نفسه ليساعد على ذلك، فوجدوا إنجاز الأمر منذ هذا المساء ممكنا، فأوعزوا إلى يهوذا بألا يغفل عن مراقبة معلمه.
أراد يسوع أن يصنع كل يهودي تقي في خميس العيد، فأوصى على خروف فصحي من المدينة، ما ظل وفيا لهذه العادة القديمة مع مقته تقريب القرابين، وما فكر، على ما يحتمل، في الأكل من الخروف الفصحي للمرة الأولى والأخيرة بأورشليم، ويخص الأغراب بغرفة وفقا للعادة، وتسلم إليهم أغطية ووسائد، ويأتي هؤلاء بلحم وخمر، وتهيأ كعكة رقيقة قليلة الحلاوة مصنوعة من دقيق البر، وسليقة غليظة مصنوعة من الفواكه ومر الكلأ تخليدا لذكرى محن مصر، ويأخذ التلاميذ الخروف إلى الهيكل، وينتظرون البركة مع ألوف الناس، ثم ينتهون إلى الكهنة المقربي الذبائح، المرتلين لمزاميرهم رابطي الجأش بين الدماء والأحشاء، وأصوات الأنعام والأبواق.
وينزل يسوع إلى المدينة مساء فيجد في الغرفة أربع وسائد كبيرة، وأغطية منظمة على شكل نصف دائرة، فيستطيع أن يتكئ على كل وسادة ثلاثة أشخاص، ويخص يسوع بمكان الشرف في الوسط على أن يستند أحد تلاميذه إلى ظهره، وآخر إلى صدره، ويختار بطرس ويوحنا لذلك، ويبدو ربا لأسرة مراعيا للتقاليد، ويقوم بجميع الشعائر ويقرنها بكل ما يدل على اقتراب أجله ، ويقول منذ جلس حول المائدة: «شهوة اشتهيت أن آكل هذا الفصح معكم قبل أن أتألم؛ لأني أقول لكم: إني لا أشرب من نتاج الكرمة حتى يأتي ملكوت الله.» وتصب له خمر حمراء فيخلطها بالماء وينطق بالبركة عند أول كأس: «حمدا لإلهنا رب العالمين خالق ثمرة الكرمة.» ثم يدير الكأس فيقول: «خذوا هذه واقتسموها بينكم؛ لأني أقول لكم: إني لا أشرب من نتاج الكرمة حتى يأتي ملكوت الله.»
والمائدة وطيئة فيستطيع الآكل أن يتناول الطعام منها متكئا، ويبدأ بالأعشاب المرة ثم بسليقة الفواكه مع حمد الرب على جميع ذلك، وترفع المائدة قبل أن تخلط الكأس الثانية، وتدار الخمر مع الإنشاد، ثم تعاد المائدة وعليها رغيفان رقيقان مدوران، ويقطع يسوع أحدهما، ويضع القطع على الرغيف الآخر ويقول: «حمدا لذلك الذي يخرج الخبز من الأرض.» ثم يلف قطعة من الخبز بأعشاب ويغمسها في سليقة الفواكه ويأكلها وينطق بدعاء آخر، وإنهم لكذلك إذ يؤتى بالخروف فيغمسون أصابعهم في الصحفة معا على حسب عادة الشرق ويأكلون.
Unknown page