مقدمة المترجم
إلى القارئ
المقدمة
1 - النداء
2 - البشرى
3 - السحب
4 - الكفاح
5 - الآلام
مقدمة المترجم
إلى القارئ
المقدمة
1 - النداء
2 - البشرى
3 - السحب
4 - الكفاح
5 - الآلام
ابن الإنسان
ابن الإنسان
حياة نبي
تأليف
إميل لودفيغ
ترجمة
عادل زعيتر
مقدمة المترجم
يحيط بحياة السيد المسيح غموض، ووجد من أفرطوا في النقد فقالوا: إنه من صنع الخيال، وذهب من اعتقدوا ظهوره مذاهب شتى في اكتناهه مما لا نرى الخوض فيه.
ويضع المستشرق الفرنسي إميل درمنغم في سنة 1929م كتابا عن سيرة السيد الرسول فيسميه «حياة محمد»، ويقول في مقدمته: «لم يشك أحد بعد في ظهور النبي العربي، ولم يفكر أكثر النقاد تطرفا في إنكار وجوده.» ونتصدى لنقل هذا الكتاب إلى العربية، فتطبع الترجمة في سنة 1945م.
ويضع الكاتب العالمي إميل لودفيغ قبل ذلك بسنتين؛ أي في سنة 1927م، كتابه المشهور: «ابن الإنسان»، وفيه يذهب إلى ظهور السيد المسيح، ويترجم هذا الكتاب إلى أرقى اللغات، وتظل المكتبة العربية عاطلة من ترجمة له، ولم يتعرض أحد لنقله إلى العربية مع افتقار مكتبتنا العربية إلى مثله ليكون بجانب كتاب «حياة محمد».
ويلوح لي أن أترجمه والكتاب قد وضع باللغة الألمانية التي لا أعرفها، وأطالع ترجمته إلى اللغات الثلاث: الإنكليزية والفرنسية والتركية، فيروعني ما وجدته فيها من غموض والتواء.
وكان على رأيي في صعوبة الكتاب واستغلاقه جميع من حدثتهم عنه، ولكنني رأيت مع ما كان يساورني من عوامل الإقدام والإحجام، أن أنقله من تلك الترجمات المتطابقة - تقريبا - على أن أضاعف الجهود فأجعل الترجمة جلية حرفية ما استطعت إلى ذلك سبيلا، فكانت الحال التي أعرضها بها على القراء.
أجل، قد يكون النقل من الأصل الألماني أولى من «النقل عن التراجم حين يمكن النقل عن الأصل»، ولكن سكوت من يجيدون اللغة الألمانية واللغة العربية مدة عشرين سنة مع هضم للموضوع، يجعل لي ما أعتذر به عن اعتمادي في ترجمة هذا الكتاب على تلك التراجم الثلاث الصحيحة.
ومما حدث أن ترجمت إلى العربية كتاب «نابليون» الذي وضعه إميل لودفيغ سنة 1924م، فطبعت ترجمتي له سنة 1946م، وقد اعتمدت في نقله أيضا على تراجمه لتلك اللغات الثلاث. ومما ذكرته في مقدمتي لذلك الكتاب: «وفي كتاب نابليون خيال وغموض وإبهام ... والغموض والإبهام مما لا يلائم الروح الفرنسية الجلية الواضحة ... فكان ما تراه من بعد الترجمة الفرنسية النسبي عن روح الغموض ... وما كانت الترجمة الفرنسية لتبلغ هذا إلا باختصار يعدل خمس الكتاب ... وقد قابلت بين ترجمة كتاب «نابليون» إلى اللغات الثلاث ... فوجدتها تختلف فيما بينها اختلافا كبيرا في غير موضع، فعزوت ذلك إلى ما في الأصل الألماني من إبهام والتباس ... والأمر مهما يكن فقد نقلت الكتاب في البداءة نقلا يكاد يكون حرفيا، مع اجتهادي في التوفيق بين ما اختلف في تلك الترجمات الثلاث ... ثم أعدت النظر في الترجمة بعد سنة، فرأيت أن أهذبه وأصقله، وأوجز القليل من فقراته مع تقديم وتأخير في بعضها أحيانا، فجعلته أكثر انسجاما وارتباطا، وأقل إبهاما، وأحسن أسلوبا، وأجزل عبارة، وأسهل منالا ... ولا أدعي خلو هذه الترجمة من أي خطأ؛ لما ذكرته من غموض الأصل، واختلاف تلك الترجمات الثلاث فيما بينها ...»
ويقول كاتب مصري: «ولعل الترجمة الفرنسية أدق من الإنكليزية إلى حد ما وإن جنحت أحيانا إلى الاختصار ...» والترجمة الفرنسية هي التي اعتمدت عليها في ترجمة ذلك الكتاب على الخصوص؛ لردها النصوص التي اقتطفها لودفيغ - وهي تعدل ثلث الكتاب - إلى أصلها الفرنسي. ومن غريب المصادفات أن بلغت صفحات الترجمة العربية لكتاب «نابليون» 560 صفحة من القطع الكبير، وأن كانت صفحات الترجمة الفرنسية 560 صفحة من القطع الكبير.
وقد جعلنا ترجمتنا لكتاب «نابليون» الضخم في جزء واحد كالأصل لا في جزأين، ولم نقصر في طبعها وحروفها وحركاتها وورقها، ولم نتوخ الربح المادي عند وضع ثمن للنسخة منها ما كانت وجهتنا خالصة لوجه الثقافة والأدب وخدمة العرب، مع ما كابدناه من جهود عنيفة مضاعفة في سبك عباراتها، وجعلها بعيدة من العجمة والألفاظ الحوشية، ومع ما زهدنا عنه في أثنائها من كسب نناله من مهنة المحاماة وغيرها، فكان ما لاحظه القراء من إتقانها، وبعدها من التعجل والاختطاف، وإقبالهم على مطالعتها، وتقديرهم إياها بما لا يقل عن كلمة أحد الأساتذة الأفاضل الآتية، التي نشرها عنها في صحيفة راقية: «لا يكفي أن يكون عمل المترجم نقل العبارة الأجنبية إلى العربية، بل إن ما هو أهم وأعظم من هذا بمراحل كثيرة هو أن ينفذ المترجم إلى روح الكاتب، وروح الكتاب، وأن يفهم شخصية المؤلف تمام الفهم، ويهضم مادة الكتاب أكثر من مرة، وكل هذا استعداد للبدء في كتابة الترجمة لتخرج عربية مائة في المائة؛ أي إن المترجم البارع هو من ينقل الكتاب إلى لغته وكأنه هو الكاتب المؤلف. وهذا هو رأينا في ترجمة كتاب نابليون التي بين أيدينا، فأنت حين قراءتك لها تكاد تجزم بأن العبارة ليست منقولة عن لغة أجنبية؛ لما تقع عليه فيها من فصاحة وبلاغة ملازمتين للأسلوب العربي الرفيع الذي يمتاز به الأستاذ عادل زعيتر ...»
ونعود إلى كتاب «ابن الإنسان» فنقول: إننا لم نسوغ السير في ترجمته ما سوغناه في صيغة ترجمة كتاب «نابليون» الثانية، من إيجاز بعض الفقرات، ومن تقديم وتأخير فيها، ومن تهذيب يخرجها أحيانا عن الترجمة الحرفية؛ لما رأيناه من تقارب ترجماته إلى تلك اللغات الثلاث؛ ولما وطنا عليه أنفسنا - جهد الاستطاعة - من نشر ترجمة حرفية له، مع جعل عبارة هذه الترجمة سائغة غير مملة.
ولم يشر لودفيغ إلى محال النصوص التي اقتطفها من التوراة والأناجيل الأربعة، وهي تعدل ثلث الكتاب؛ شأنه في كتاب «نابليون». فكنا نضطر إلى البحث عدة ساعات في أسفار التوراة الكثيرة والأناجيل الأربعة؛ كي نعثر فيها على النص العربي الأصلي للعبارة الصغيرة الواحدة، وكثيرا ما رأينا الأمر الواحد يرد في غير إنجيل بعبارات مختلفة، فكنا نضطر إلى المقابلة بين هذه العبارات وما عول عليه المؤلف منها، فنقضي في ذلك وقتا غير قليل، فبلغت مطالعتنا للتوراة والأناجيل عشرات المرات، وكان توقع هذه المشاق من أسباب ترددنا في ترجمة الكتاب في بدء الأمر.
ومما كان يجعلني أتهيب نقل الكتاب إلى العربية ما أبصرته من سلوك المؤلف طريقا قد لا ترضي رجال الأديان؛ غير أنني رأيت، بعد امتناع، أن ما وسعته المكاتب: الألمانية والإنكليزية والفرنسية والتركية وغيرها لا تضيق المكتبة العربية به ذرعا، والعرب من تعلم من شدة تساهل وكبير تسامح، كما أثبت ذلك تاريخ حضارتهم العظيمة الشأن.
والمؤلف، كما ذكر في كلمته التي وجهها إلى القراء، ذهب إلى أن السيد المسيح ظهر حقا، غير أن المؤلف وجده إنسانا ابن إنسان، فوفق - على رأيه - بين ما جاء في الأناجيل عن سيرته توفيقا ملائما للسنن النفسية، غير ناظر إلى ما طرأ على النصرانية من الطقوس والمبادئ اللاهوتية بعده. ومن قول المؤلف: «فسرت ما أشرت إليه من معجزات يسوع تفسيرا طبيعيا. ما قصدت كتابة تاريخ رجل، وما أردت بيان أخلاق إنسان؛ فليس مما يزيد يسوع عظمة أو يحط من قدره عزو مائة معجزة جديدة إليه، أو إنكار أية معجزة له. فتراني قد مزجت مختلف الروايات مزجا تبدو به الحقائق ... من أجل ذلك تجد لما هو مسطور في هذا الكتاب من قول ليسوع أو عمل له أصلا في الأناجيل، ولم نر إتمام ذلك إلا بما تصورناه له من نظرات وأوضاع وأوجه تعبير، ووصل بين الفكر والكلام، وبيان للأسباب، وتسلسل للمشاعر.»
وتجد تفصيلا لمناحي المؤلف في وضع هذا الكتاب في كلمته تلك. والمؤلف ظل مخلصا لتلك المناحي في جميع الكتاب. ومما لاحظناه في أثناء ترجمتنا أن المؤلف يحول أحيانا بعض الوقائع التي وردت في الكتاب المقدس تحويلا تقتضيه السنن النفسية التي يراها، والمؤلف قد سار في وضع الكتاب على أسلوبه في القصص والوصف كما سار عليه في كتاب نابليون، مبتعدا عن الأسلوب التاريخي.
وإنني - ككل مسلم - لا أوافق المؤلف على ما ذهب إليه في أمر السيد المسيح. ويدرك القارئ مما تقدم أن إقدامي على ترجمة هذا الكتاب الذي يمثل ناحية من التفكير الغربي هو حرصي على عدم خلو المكتبة العربية من ترجمة له. وإنني إذ أقتصر في عملي على الترجمة، أترك البحث في آراء المؤلف لغيري. فإذا كنت قد وفقت لترجمة هذا الكتاب ترجمة صحيحة لم يضع فيها معنى ، ولم يضطرب فيها لفظ؛ فإنني أكون قد أصبت الهدف.
عادل زعيتر
نابلس «فلسطين»
المعمودية.
إلى القارئ
يعلم الناس ما أقصه في هذا الكتاب من تاريخ بني قومي ما رجع البحث التاريخي الخالص في سيرة يسوع إلى القرن الثامن عشر، الذي هو عصر النقد العقلي.
ومن الصعب وصف رجل كيسوع لا نكاد نعلم شيئا عن حياته وأوصافه وسريرته قبل بلوغه الثلاثين من عمره، وليس لدينا غير معارف متناقضة عن عامي سنه الأخيرين؛ فالأناجيل الأربعة التي هي كل ما لدينا متباينة، ويدحضها ما هو غير نصراني من المصادر القليلة. ونحن إذا حذفنا الأقوال المكررة لم يبق لدينا من ذلك كله سوى خمسين صفحة تحتاج إلى تمحيص جديد.
أضف إلى ذلك ما تراه في تاريخ حوادث يسوع من خلط أثار أسف الباحثين في كل قرن. وأول تلك الحوادث وآخرها؛ أي العماد والحكم، فقط هما ما صح مكانه منها، وأما أخبار ما بين هذين الحادثين فبادية التخليط.
قال لوثر: «الأناجيل غير منظمة، وليس في هذا كبير أهمية، فإذا ما بحث في نصوص الكتاب المقدس ولم يمكن التوفيق بينها وجب العدول عن البحث.»
فعدم انتظام هذه النصوص هو سبب تناقضها تقريبا، ويصبح كل شيء منطقيا فيها عند الرجوع إلى ما يقول به علم النفس من الترتيب. وبهذا وحده يمكن تفهم دوري حياة يسوع: دور الخشوع والهدوء والتعليم، ودور الرسالة. والباحث حين يفترض تتابع هذين الدورين يرى تواري ما في سجية يسوع من التناقض، ويطلع على تطور حياته تطورا طبيعيا.
ولا نلم بعلم اللاهوت الذي وضع بعد يسوع بطويل زمن إلا قليلا، فلا نعد يسوع في هذا الكتاب إلا إنسانا، لا مخلصا. ولا نقص من أنباء يسوع إلا ما هو مجرد مما أضيف إليها بعد زمن مما لم يعرفه يسوع ولم يرده، فترى هذا الكتاب خاليا مما ذهبت إليه تفاسير الأناجيل من تأييد لنبوءات سابقة، أو دعم لكنيسة حادثة.
ولا يجد القارئ في هذا الكتاب ما نقضه العلم من شتى الأمور. والقارئ إذا لم يعثر في هذا الكتاب على نص مألوف لديه منذ صباه؛ فليذكر أن هنالك كتبا كثيرة ألفت لدحض مثل هذا النص، فأكثر الناس لا يعرفون حياة يسوع من الأناجيل كما يعرفونها من الأقاصيص اللاحقة. فغابت عنهم تفاصيل غير قليلة لهذا السبب، فلم يلاحظوا مثلا أن متى ومرقص لم يدخلا يسوع الطفل إلى المعبد، كما أن ثلاثة من الأناجيل الأربعة أماتت يسوع في غياب مريم ويوحنا.
وهنا أقول: إنني فسرت ما أشرت إليه من معجزات يسوع تفسيرا طبيعيا، ما قصدت كتابة تاريخ رجل، وما أردت بيان أخلاق إنسان؛ فليس مما يزيد يسوع عظمة أو يحط من قدره عزو مائة معجزة جديدة إليه، أو إنكار أية معجزة له، فتراني قد مزجت مختلف الروايات مزجا تبدو به الحقائق، فلم أعتمد إلا قليلا على إنجيل يوحنا، الذي وجه إليه من الانتقاد في الوقت الحاضر ما يوجه إلى غيره، مستندا إلى إنجيل مرقص وإنجيل متى على الخصوص.
ولم أضف إلى هذا الكتاب ما هو جديد، فكان ما ترى من صغر حجمه، فليس القصص التاريخي الذي هو مسخ للقصة والتاريخ معا - كما قال غوته - بجائز عند قلة المصادر، وإن أحل عند كثرتها؛ فيجب على من يرغب في وضع أقوال على لسان يسوع للدلالة على مقاصده أن يكون شبيها له في بصيرته ووجدانه.
من أجل ذلك، تجد لما هو مسطور في هذا الكتاب من قول ليسوع أو عمل له أصلا في الأناجيل. ولم نر إتمام ذلك إلا بما تصورناه له من نظرات وأوضاع وأوجه تعبير، ووصل بين الفكر والكلام، وبيان للأسباب، وتسلسل للمشاعر.
ولم نسر في هذا الكتاب على طراز الأناجيل ما أدى ذلك إلى ابتعاد المعاصرين عن مطالعته. وما دمنا على علم باعتراك الأهواء، واصطدام الأغراض، وضروب المحرضات، واختلاف الأحكام، وما إلى ذلك من الأمور الملازمة لضمائر الناس.
ونحن إذ اجتنبنا في كتابة هذه القصة تزويق الكلام؛ لما يجر إليه من الخيال، لم يبق لدينا غير ما هو مماثل لحفر الخشب.
وليس من مقاصد هذا الكتاب زعزعة إيمان من يؤلهون يسوع؛ وإنما نثبت فيه للذين يرونه من صنع الخيال أنه بشر حقيقي، قال روسو: «لو لم يظهر يسوع حقا لكان واضعو الأناجيل عظماء مثله.»
ولم أعرض في هذا الكتاب مذهبا معروفا، بل أوضحت فيه باطن حياة ذلك النبي الذي فاق جميع معاصريه، وإن لم يكن لديه من السلاح ما يغلبهم به، ولم أبال بما نسب إليه من عمل لاحق ما دام ذلك من فعل الآخرين، لا من فعله، بل حاولت أن أوضح فيه تاريخ قلبه، وإن شئت فقل تاريخ شعوره ومقاصده، وعوامل قيادته للناس، وميوله وأحلامه، وتبدد أوهامه، وما قام في نفسه من صراع بين الإقدام والإحجام، وبين البأس واليأس، وبين الدعوة والسعادة.
وإذ إن غايتي هي كما ذكرت لم أكن جازما فيما شرحت وفسرت، فكان ما تراه من البساطة، وعدم التصنع، وملاءمة روح الزمن الحاضر.
وقد صدرت كتابي بمقدمة رسمت فيها البيئة السياسية الفكرية التي ظهر فيها نبي من ذلك الطراز، وأبنت فيها كيف نضجت فيه الأفكار السائدة لذلك العصر، وكيف بشر بها. وفي هذا ما يكفي لإثبات عظيم عبقريته.
وهذا إلى أن سر عمله العجيب في قلبه الإنساني، لا في عبقريته.
إميل لودفيغ
موشيا 1927
المقدمة
أورشليم «القدس»
لا يزال الليل مرسلا سدوله
1
على أروقة الهيكل، وينظر كهنة الهيكل إلى الظلام جثيا أو ضاجعين، ولا يكادون يتعارفون بين سدف
2
وهمس، ولا عند حركة أذرعهم حينما يردون إلى أنفسهم أرديتهم ليشتملوا بها، ويمور
3
البحر وتضطرب أمواجه في شهر الاعتدال مارس؛ فتكنس عواصفه قناطر الرصيف العالي.
وترى المدينة الكبرى الحجرية هاجعة في أسفل الهيكل، وترى فيها الأبناء، والغرباء، والحكماء، والأغنياء، والأحبار، والسائلين، والمؤمنين والكافرين نياما، وترى الحقد بين بيوتها، والمحبة في منازلها، وترى قليل سرور وكبير أمل فيها، وتراها معبدة يزدري المغلوب فيها الغالب، وترى السلطة فيها ساكنة، والحديد باردا، والأسلحة صامتة، ولا تسمع للأوامر صوتا، فكأن السماء تمطرها سلاما.
تلك العاصمة لم تعرف صلصلة السيوف منذ عشرات السنين، ولكن ما يغلي في صدور هؤلاء القوم من الحقد على الفاتحين لم يفتر فائره؛ فمع ما كان يبدو من عدم اتقاده في الظاهر لم يفتأ أولئك الناس المؤمنون بإله واحد يسبحون في الرؤى قائلين: «سيعود هذا الإله ملكا لليهود، وربا للعالم.»
والأمر فيما هو كذلك إذ كان يسمع صليل حديد، وخفق نعال، ويرى التماع نور تحت قباب الرواق وتواريه؛ ليعود فينصب بشدة، فينهض الكهنة النائمون لحضور الضابط العسكري الذي يطوف هو وجنوده ثلاث مرات حول ذلك الهيكل في كل ليلة؛ لحراسته ظاهرا، ومراقبته باطنا، فتلتقي أنظار الفريقين على ضوء المشاعل من غير أن يتبادلا كلاما، مع اشتعال قلب كل منهما غلا على الآخر.
وماذا يرى الكهنة على ضوء المشاعل؟ يرون بضعة جنود ذوي التماع كالذهب الضارب إلى حمرة، مربوعي القامة، مكشوفي الذرعان والسيقان، مدرعي الأجسام، حاملين سيوفا ورماحا، ويرون تحت خوذ هؤلاء الجنود وجوها مردا سمرا ملزة
4
جافية تدل على قلة التفكير، وكثرة الضحك، والأكل والسير، وسرعة العشق والغرام، ويرون رداء فوق لأمة
5
ضابطهم اللطيف القسمات، والشارد الفكر. والحق أن من عادة هذا الضابط أن يخفي وراء ذلك ما يشعر به في كل مرة من الهزؤ بأولئك الكهنة، والحق أن نور المشاعل يسفر عن نظره إلى أولئك الكهنة الغريبي الأطوار، المائلين إلى الأمام، والبادين طورا طوالا عاطلين من الظرف، وطورا قصارا سمانا، والمجررين أذيالهم فوق نعالهم، والذين تظهر بين شعورهم ولحاهم السود، وجوههم المصفرة المتكرشة بفعل السهر والسهاد، والذين تدل عيونهم السود على التعصب المملوء أملا وزهوا.
ومن ثم تبصر تقابل عالمين: عالم المؤمنين وعالم المقاتلين، أو عالم المغلوبين وعالم الغالبين؛ ومن ثم تبصر التقاء اليهود والرومان في أورشليم ليلا.
مضت ثلاث ساعات فطلعت الشمس فوق جبال الأردن الجرد؛ فكشفت للكهنة والحرس عما تعودوا أن يروه كل يوم من المناظر، ومن ذلك منظر التلال الباردة الجافية الخضر الصفر العاطلة من الماء والشجر، والمحيطة بالمدينة الكبيرة البيضاء، التي يخيل إلى الناظر اختلاط الصخر بأسوارها؛ فلم تكن بالحقيقة سوى قلعة طبيعية، فلم يصنع الإنسان في هذه القلعة غير تحويل حجارتها إلى متاريس، وتلالها الخمسة إلى أسوار، فأسفر ذلك في مجموعه عن قيام تلك المدينة بينها.
يسوع وصيادو السمك.
وقديما مهد الملك سليمان التل الذي أقيم عليه الهيكل الأول وسواه، ثم أقيم عليه الهيكل الثاني بعد إسارة بابل. وفي هذا التل تبصر أولئك الكهنة والحرس، ويقع في جنوبه الغربي تل آخر يوصل إليه بجسر، فيبدو أعلى من ذلك وأجمل. وعلى هذا التل الذي يدعى بجبل صهيون شاد الملك داود صرحه في أيام سعادة ولت، فيأمل اليهود عودتها. وعلى جبل صهيون هذا بنى الأغنياء بيوتهم، فكان حيا لهم. وفي الأمام من جهة الشمال، قامت قلعة أنطونيا الرومانية البغيضة على الربوة التي اعتصم بها المكابيون، عندما ثار إسرائيل على عبدة الأصنام قبل ذلك بمائتي سنة. وخلف تلك القلعة من جهة الشمال مستنقع لم يقم به غير الفقراء؛ ومن ثم ترى أن من يملك تلك القلعة يسيطر على الهيكل، والمداخل، وعاصمة أولئك القوم المشاغبين وجنوب ذلك البلد الضيق الواقع بين الصحراء والبحر المتوسط، فيمكن اجتيابه في قليل زمن. •••
أفاق الناس في الأحياء المكتظة الواقعة في سفوح الجبال، فدبت الحياة في شوارعها الضيقة، ورددت جدرها صدى أصوات الباعة، وأخذت تعج بألوف الغرباء ما اقترب عيد الفصح، وبدأت الفنادق والحظائر تغص بالناس والجمال، وصار التجار والصناع والسكافون والخياطون والحلاقون والبقالون وكاتبو العرائض يصيحون، ويسيرون، ويدفعون دوابهم من سوق إلى سوق عارضين سلعهم وأعمالهم؛ طلبا للزبن.
ويتوجه الناس في تلك الأثناء إلى تل الهيكل، وإن كان ما يقع اليوم لا يختلف عما يقع عادة، ويقوم هذا الهيكل على أرض مربعة يبلغ كل ضلع منها خمسمائة ذراع، ويحيط بجدره ثلاثة أرصفة منضدة رائعة. وإلى هذه الأرصفة يسير الجمهور بغية مجاوزة أدنى القناطر، والالتقاء في فناء الغرباء. وفي هذا الفناء ألواح ذات كتابات باللغتين اللاتينية واليونانية يحذر الكافرون فيها من دخول الرصيف الثاني، الذي يرقى إليه بتسع عشرة درجة فاصلة بين الإيمان والكفران. والكافرون يعلمون من تلك الألواح أن القتل جزاء من يصعد في تلك الدرج.
ذلك حد لا يقدر على تعديه أحد من الرومان الغالبين واليونان المثرين، ولا من البابليين والعرب الذين كانوا من الأعداء، فتم لهم السلطان على تلك المدينة في غابر الأزمان، ولا ممن ليسوا على الإيمان الصحيح.
واليهودي - مهما يكن تربه
6 - ينتفخ غرورا وتكبرا حينما يرتقي في تلك الدرج التسع عشرة المؤدية إلى الرصيف الثاني، فيقف على الساحة الواقعة بين الجدر والعمد ناظرا إلى ما فوقه، فإذا ما تقدم اثنتي عشرة خطوة بلغ الهيكل الحقيقي حيث قدس الأقداس.
7
ترى الجمع منتظرا، ويغادر الكهنة حجراتهم، ويوزعون أعمال يومهم بينهم بالقرعة، فيلزم أحدهم بإحضار قربان الصباح، ويلزم آخر بجلب الحطب إلى الهيكل، ويلزم ثالث برفع الرماد منه، والعناية بالبخور، وأمور النور، وخبز التقدمة والآنية، فإذا أعد كل شيء سيق الكبش إلى المذبح، وأخذ كل مرتل مكانه، وهيئت الأجران، وفتح الباب الكبير، ونقر في النواقير
8
ثلاث مرات، فتشخص أبصار من هم على الرصيفين الأسفلين حين ذبح ذلك الكبش المنذور.
هنالك يتقدم الكهنة تحت الأروقة رافعين أصواتهم بالصلوات، راكعين ما أحرق البخور في المذبح الذهبي، ويقرع اللاويون الأجران، وتعزف المعازف، ويرتل المنشدون الزبور، وفي كل ثماني فواصل ينفخ في الصور
9
فيخر القوم ساجدين.
وكلما تقدم النهار ضاقت أروقة الهيكل بالناس، فإذا حل وقت الظهر ودنا وقت الشعائر الثانية ازدحموا، وعلت الأصوات، فكانت سوق في فناء الغرباء؛ حيث يباع ويشرى جميع ما يعرضه الأهلون، وما قد ينتفع به الغرباء. ومما يحدث أن يعرض شائب جالس على درج كبشا للبيع، فيعيش بثمنه ثلاثة أشهر على أن يسومه يهودي إسكندري زائر لأورشليم في عيد الفصح مقدر له، عارف بأن تقريبه مما يرضي الرب. وإلى أورشليم يؤتى بقطاع الشياه لحفز الحجيج إلى تقديم القرابين، وإنعاش التجارة. وفي أورشليم حركة للأخذ والعطاء، وفي أورشليم ضروب للأطياب المترجحة بين عنبر آسية وعطور مصر، وفي أورشليم جريد للنخل يباع للذكرى، وقراطيس مشتملة على حديث الأنبياء بحروف عبرية دالة على الرجولة، وحروف يونانية ذات مسحة نسوية، وفي أورشليم صرافون جثي خلف موائد صغيرة قائمون بأعمالهم المالية وراثة. والهيكل يرفض النقود الإغريقية والرومانية المشتملة على صور بشرية، فعلى اليهودي الأجنبي أن يستبدل بنقوده نقودا أخرى قبل أن يؤدي إلى الهيكل ما يجب، أو أن يضع دينارا في صندوق الفقراء.
ويزدحم الحجاج فوق تلك الدرج هادئين فيصلون وقوفا، وأنظار هؤلاء كانت قد توجهت منذ سنوات من أثينة، وسراكوسا، ومراكش، والغول إلى تلك البقعة، منتظرة اليوم الذي ترى فيه موطن الإيمان؛ الهيكل الثاني الذي أقامه هيرودس في مكان الهيكل الأول فزينه. والآن يتدرج هؤلاء الذين أولهتهم الأدعية والصلوات إلى الأبواب المقدسة، مبصرين ذلك الحجاب الموشى الذي حدثهم عنه آباؤهم، وتلك الكرمة الذهبية التي هي رمز الخصب والبركة. والآن تطأ أقدام هؤلاء الرواق الكبير الذي يتقدم الهيكل، مضيفين إلى مئات قرابين الشكر الثمينة تقادمهم، التي هي ثمرة ما اقتصدوه بجد، فضموها بالأمس إلى صدورهم عند هياج البحر، ووضعوها بالأمس تحت وسائدهم في الفنادق. والآن يتمثلون ما لا يجوز لهم أن يروه في غير يوم العيد، فيتنورون من خلال ذلك الرواق ذي الظل الحوض النحاسي المحمول على ثيران؛ ليكون رمزا إلى الماء الذي استوت عليه روح الرب في بدء الخلق.
ويجلس بضع عشرات من الصبيان حول سارية مستمعين لكاتب يقرأ لهم مفسرا ما في قديم القراطيس، فلا يأبهون لدعاء الغرباء، وضوضاء التجار. ويستطيع هؤلاء الصبيان أن يقاطعوه مستوضحين، وكلما وضع أسئلة بدوا بارعين في الأجوبة، ثم ينقلب الدرس إلى مناظرة، فمن يبز رفقاءه فيها يشر إليه بالبنان؛ فيصل ذات يوم إلى مرتبة كاتب.
والآن يقطع المعلم محاورة طلابه؛ فهو يبصر موكبا كبيرا من فلاحي بلاد الجليل قضوا الليلة في العراء، فيعرفون بأزيائهم وبثورهم ذي القرنين الذهبيين الذي يجلبونه ليكون قربانا، وبسلالهم المشتملة على بواكير ثمارهم. ويسير أمام هؤلاء كهنة، وينشدون قائلين: «تقف أرجلنا في أبوابك، يا أورشليم.» ثم يأتي موكب آخر آت من مكان بعيد مؤلف من رجال لابسين ثيابا زاهية، وراكبين جمالا محملة هدايا ثمينة في صرر. •••
حل وقت الظهر، فيقصد الكهنة في موكب الحاكم الروماني، فما أقرب رومة من أرض الميعاد ما قامت المسافة بينهما على النزول من ربوة، والصعود في ربوة أخرى! ولكن الجمهور الذي يملأ الشوارع يبصر الهوة العميقة بين الربوتين فيشتاط غيظا من ذل تلك الزيارة التي يبدأ بها كل عيد، والحاكم الروماني يرغب في إهانة ذلك الشعب المختار، فيجيء إلى قلعة أنطونيا أربع مرات في كل سنة؛ ليدله على أن رومة صاحبة السلطان. والحاكم الروماني هذا يحفظ الحلل المقدسة في صوان خاص ليعير أولئك الضرعة المبتهلين إياها في كل مرة، ولماذا تظل حلة رئيس الكهنة قبضة الكافرين بين موسم وموسم ما اقتضى تطهيرها بالبخور؟
يدخل الكهنة باب القلعة فيستقبلهم الحاكم الروماني واقفا، لابسا خوذة وسلسلة، متقلدا حساما لامعا، فينحني الكهنة منتظرين، فيأتي جنديان بالصوان المختوم، فيكسر الحاكم الختم الرومانية، ويكسر الكهنة ختمهم اليهودية التي لم ينالوا حق وضعها إلا بعد طويل جدل، فيخرجون من الصوان الحلل المطرزة بالذهب وثمين الحجارة، فيتبادلون هم والحاكم التحية من غير أن ينطق بكلمة، فينصرفون من حضرته حاملين تلك الحلل عائدين إلى الهيكل.
بيلاطس حاكم غليظ القلب، أفليس لذلك الذل من آخر؟ أفتعجز رومة التي فتحت العالم عن إخضاع ذلك الشعب الصغير الضعيف؟ مضى أكثر من خمس سنوات على قيامه بشئون الحكم باسم القيصر، وعلى ما في تقاريره من أخبار السكون والطاعة، كان يعلم أن النار تحت الرماد، وأن الشرر قد ينتشر منها في أي وقت.
ما أبعد عجز بيلاطس عن رسم صورة القيصر على نقود اليهود من الصواب! وما هو الضرر في اشتمال هذه النقود على صورة القيصر؟ حقا يحترم القيصر كإله، ولا يخرج عن كونه قيصرا مع ذلك، فأين البلد الآخر الذي يكون إلهه ملكا؟ وماذا يقصد اليهود بتسمية مدينتهم بلد الرب؟ وحقا لم يتعرض أحد لما يقوم به اليهود من الشعائر في هيكلهم، ولم تفكر رومة في فرض آلهتها عليهم، فما هو سر ما يثيرونه من الضجيج حول بعض الرموز والصور والأفكار؟
لقد أتى بيلاطس في أول ولايته بالرايات الحاوية لصور القيصر ورفعها فوق المدينة المقدسة؛ فكانت فتنة، وكان احتشاد أمام القلعة خمسة أيام، فحاصرت كتائب بيلاطس اليهود، فهددهم بضرب رقابهم إذا لم يعودوا، فمدوها طالبين الموت، فماذا بقي له غير طي الرايات؟
لم يكن اليهود ليبالوا بغير ما يدفعونه إلى الهيكل من الخرج، واليهود ينادون بالويل والثبور إذا ما دعوا إلى إعطاء رومة ما يفرض عليهم من الضرائب الخفيفة، مع أنهم يدفعون المال إلى الهيكل طائعين؛ واليهود إذا صنعوا ذلك فلكيلا تكون رومة رقيبة على ثرواتهم. ومن يدري ماذا يصنع بالأموال التي يؤدونها إلى الهيكل إذا ما اشتعلت الفتنة في أورشليم، وإذا ما اضطربت بلاد الجليل، وإذا ما وجد من يبلغ رومة حبوط سياسة بيلاطس عزل من ولايته؟
اتجهت أفكار بيلاطس إلى رومة، وساورته الهواجس حول بقاء حامية سيجانوس حيا؛ فمن ذا الذي يخبره بذلك؟ ومن المحتمل أن يكون القيصر قد مات، ورأت زوجة بيلاطس أحلاما مزعجة. وزوجته هذه تؤمن بالرؤى، فألقت الرعب في قلبه، فصار يفكر في أمر القيصر.
كان القيصر طيباريوس شيخا، وكان يقيم بكابري معتزلا، وعاش سيد العالم هذا سنوات في هذه الجزيرة الصغيرة بعيدا من عاصمته، مهملا لشئون حكومته، عاطلا من العمل، عبوسا خصما للجميع، وأنشأ فوق هذه الجزيرة الصخرية قصرا فسكنه، فأخذ يقضي أوقاته في تأمل البحر وفي أمور السحر، فيبدو خليا يوما وظالما يوما، فيعفو مرة ويقتل مرة، ويضطهد ساعة ويحرر ساعة، وهو إذا ما فوض أمور السلطة إلى أناس آخرين ذات حين؛ فلكي يقبض على زمامها في كل حين مستبدا متحرزا محوطا كئيبا.
سال ما سفكه القيصر طيباريوس من الدماء كالنهر، ولماذا؟ فقد ابنه الوحيد فلم يقدر على الانتقام، فوطن نفسه على الحقد والقتل، فصار حرسه يحذر وزيره سيجانوس، وصار هو يحذر حرسه، وصار الجميع يحذرونه.
رأى ذلك القيصر الأمان في تلك الجزيرة الصخرية، وهل يجد في غيرها ما يعتصم به؟ وهل يبصر في الفلسفة الملجأ؟
جاء في رسالة لسينيكا عن ديوجين: «إن مما يعدل مملكة ألا يصيب المرء أذى في عالم من المنافقين والقاتلين والمفسدين.» وقرأ القيصر في مقالة لسينيكا قوله: «ليس بيننا من لم يقترف ذنبا ، ولن ننفك عن اجتراح السيئات حتى نهرم، ولا يكون مصدر الآثام إلا فينا، وما الجسم إلا إصر
10
الروح وعقابها، وما مرد النفس إلا مأتاها حيث السكون والنور، واليوم الذي تتحرر النفس فيه من أوزار الحياة آت لا ريب فيه، والفضيلة في أن يقرن المرء في الأصفاد، أو أن يبتر منه عضو، أو أن يسمر على الصليب.»
ألا ترى في هذا ما يشابه معتقد أورشليم الغريب؟ فكر القيصر في اليهود ففوض إليهم في رومة أمر القيام بشئون خاصة به وبالدولة، وأرسل إلى هيكلهم ثمين الهدايا مع الإشارة بأن يقرب فيه كل يوم ثور وحملان «تمجيدا لله العلي». ومن هو هذا الإله العلي؟ هذا الإله هو الذي لا يقدرون على تصويره، ولا على النطق باسمه المقدس، وهل نجاهم هذا الإله حينما استرد القيصر بغتة ما حباهم به من حظوة، وما شملهم به من حماية؟ كلا، لم يأت هذا الإله لنصرتهم، ولكن الألوف منهم فضلوا العقاب على حرق آنية القربان المقدس، فيا لغرابة طبائعهم! كان هيرودس رفيقا لدروزوس ابن القيصر في الطلب، وكان كل منهما محبا لصاحبه، فلما قتل ابن القيصر أقصي هيرودس من البلاط؛ لما في وجوده من إيلام للقيصر. والقيصر هذا لم يعتم أن استدعى هيرودس إلى كابري ليكون بجانبه قبل أن يلحق بولده، وإلى أين؟ إلى عالم الفناء حيث الراحة والسكون، كما قال سينيكا.
مرت تلك الأمور بخاطر بيلاطس، فترجحت أفكاره بين كابري ورومة، ولم يكن بيلاطس أسوأ من الولاة الآخرين، وإن بدا أحيانا مستبدا متكبرا فظا بسبب منصبه الاستعماري، وسار بيلاطس كأسلافه على قاعدة القبالة
11
في أمر المكوس والضرائب، وهل كانت تهمه حسرة القوم من ظلم العشارين الجائرين السالبين، الذين يزيد ما يأخذونه لأنفسهم عما يؤدونه إليه؟ هؤلاء العشارون عادمو الأمانة فاقدو الاستقامة، وبيلاطس ذو يدين نقيتين. •••
ينعقد، بعد الظهر، المجمع اليهودي الكبير المعروف بالسنهدريم في الردهة الحجرية الغضة الواقعة بين الرواق وقدس الأقداس، ويتألف ذلك المجمع من خواص الكهنة، فيؤلف هؤلاء الذين وخطهم
12
الشيب حلقة، على أن يكون صدر الاجتماع العالي للحبر الأكبر الزعيم يوسف قيافا، الذي صار رئيس الكهنة قبل أن يصبح بيلاطس واليا على اليهودية، فلم يصنع بيلاطس غير تثبيته مع رفقائه في وظائفهم، ولم تكن عادة إجازة الوالي الروماني لقرارات ذلك المجمع سوى أمر شكلي، فإذا عدوت هذا وجدت ذلك المجمع حرا في ممارسة أعماله؛ فذلك المجمع الذي هو مجلس شيوخ، هو صاحب السلطة المدنية والدينية والقضائية، ولا تستأنف أحكامه التي يخضع لها كافة اليهود وأمراؤهم وكهنتهم، خلا حكم القتل الذي لا بد من موافقة الوالي الروماني عليه إذا ما صدر بأكثرية الآراء.
أجل يختار أعضاء ذلك المجمع أندادهم، بيد أن وظائف هؤلاء وراثية محصورة في قديم الأسر بالحقيقة، وستظل رئاسته في آل الحكيم هلل لبضعة قرون أخرى. وقيام ذلك المجمع على الشيبة والوراثة يجعل منه مجلسا محافظا، وتمكن الرومان في كل مرة من انتخاب أناس مثرين ليكونوا أعضاء فيه يجعل منه مجلسا متسامحا.
والصدوقيون هؤلاء شرذمة قليلون من الأشراف الأقوياء الذين لم يريدوا أن يكدروا صفو حياتهم الناعمة، الناشئة عن امتيازاتهم، ويعرضوها للخطر بأن يثوروا على الأجنبي الغالب، وبأن يغالوا في القيام بالشعائر الدينية. ويرى الصدوقيون اتباع شريعة موسى، لا ما طرأ عليها من التفاسير التي لم يوح بها إلى هذا النبي. ومما قالوه: أين نص تلك الشريعة على حظر جمع الأموال، والأكل بآنية من فضة، وتحريم ما أحل الله من أطايب النعم؟ أجل، إن الرومان من الأرجاس، ولكن الأموال التي يجلبونها من الغرب غير محرمة علينا ما صمنا في الأيام المقررة؛ فهذه أمور لا يقدر العوام على إدراكها، وليس في تفهمهم لها من فائدة، فعدوهم بما حكى عنه الأنبياء من الأجر الدنيوي كطول الحياة، وعظوهم بصدق العيش واجتناب الآثام غير خائفين من آخرة أو آملين فيها، واذكروا لهم أن خلودهم بأبنائهم، وحرضوهم على كثرة النسل ليبارك لهم.
يسوع يعلم.
وبجانب هؤلاء الأغنياء المترفين الجالسين في تلك المحكمة العليا، والبعيدين من التعصب في المسائل الروحية، والمتشددين في المسائل الدنيوية ، يجلس أعداؤهم الفريسيون. فالفريسيون هؤلاء أناس شاحبون ذوو وجوه مستطيلة، ونظرات تدل على التعصب، ويعني اسمهم «المتجانبين، الخلص»، ومنهم يتألف الحزب الوطني الكبير، ويبلغ عدد المنتسبين إليه نحو ستة آلاف، وهم إذ كانوا ديموقراطيين نسبا وعلما وسيرا لم تغب عنهم تفاسير الشرع الحديثة، وهم إذ كانوا أبناء لحدادين ودباغين وسكافين، أو إخوة لهم، طالبهم حزبهم بأن يقضوا ثلث النهار في الأعمال اليدوية، أو أن يقضوا جميع الصيف في هذه الأعمال، على أن يقضوا الشتاء كله في الدرس، وهم إذ كان أكثرهم من الفقراء راعوا أحكام الشرع الذي يحرم عليهم أن يأخذوا أجرا على تعليمهم له، فنالوا بذلك احترام الشعب.
والفريسيون بدوا بعيدين من حياة الشعب اليومية مع ظهورهم من صميمه، فكان ذلك ثمنا لما أصابوه من الاعتبار، والفريسيون مع زهدهم في السلطة وحطام الدنيا خلافا لأعدائهم الصدوقيين، أدركوا مكانا عليا؛ بفضل وقوفهم على الشريعة، ومباحثهم فيها، وتفسيرهم لها. ولو اطلعت على سرائرهم لوجدتهم يزدرون الفلاحين والمحترفين من إخوانهم؛ لعجز هؤلاء عن تلاوة التوراة، وجهلهم تفسيرها، وعدم إتقانهم العمل بأحكامها. ومن شأن العصائب التي يمسكها الفريسيون بأيديهم على الدوام، والأهداب المجهزة بها ثيابهم ألا تغيب الشريعة عن بالهم ثانية.
والفريسيون إذ كانوا يحسبون، في كل مرة، درجة تقبل الأزلي الصمد لكل قربان، والفريسيون إذ كانوا يظهرون المكث في الصلاة والتقشف وإيتاء الزكاة على مرأى من الناس في الميدان العام، وفي الهيكل، ويفرطون في الصوم والوضوء والغسل، والفريسيون إذ كانوا يقومون بشعائر الدين غير تاركين شيئا منها، وغير غافلين عن أمر أو نهي من أوامر الشريعة ونواهيها؛ بدوا أئمة للشعب، مهذبين له، فيتساءل الصدوقيون، الذين وطنوا أنفسهم على الشك والارتياب، مستهزئين عن الوقت الذي يصقل الفريسيون قرص الشمس فيه.
والعبرة للأعمال لا للنيات عند الفريسيين؛ فالذي يكثر من الهبات للهيكل يعفى، عندهم، من الإنفاق على والديه العاجزين، والذي يذكرونه في دروسهم هو عدد الخطوات المباحة يوم السبت، أو عدد الجلدات التي يجلد بها المذنبون، لا الخطايا والبغاء ونقاء الضمير. وقد دام جدلهم عدة سنوات حول صلاح الغلات التي تقدم إلى الهيكل إذا ما حصدت سنابلها في اليوم الثاني من عيد الفصح، وكان هذا اليوم سبتا. ومن مسائلهم: هل تنعقد اليمين بالقسم على الهيكل أو ذهب الهيكل؟ وهل تظل النفساء دنسة في الأيام السبعة الأولى أو الأيام الأربعة عشر الأولى؟ وهل يجب في يوم الغفران أن يحرق البخور أمام قدس الأقداس قبل حضور رئيس الكهنة أو بعد حضوره؟
وبينما كان الفريسيون يأتون تلك السفاسف فتطفو على اللباب كانوا ينفخون في الشعب روح الأمل في مقاديره السياسية، فيحدثونه عن موسى، وعن الخلاص، وعن مملكة الرب، وعن احتقار المشركين. واليوم تراهم يرفضون يمين الولاء للرومان كما رفض آباؤهم قسم الإخلاص لآل الملك هيرودس في غابر الأزمان.
والموضوع الذي يبحث فيه المجمع اليهودي «السنهدريم» في هذا النهار هو تعيين الشخص المجرم الذي يطالبون الرومان بإطلاقه؛ فمن العادة التي استقرت منذ جيل أن يلتمس اليهود من الوالي الروماني في كل عيد فصح العفو عن مجرم محكوم عليه بالقتل، فمن هو الذي سيطلبون العفو عنه في هذه المرة من بيلاطس؟ •••
من عادة أغنياء الأشراف أن يجوبوا الشوارع على هوادج عند امتداد الظل، وعلى ما كان هؤلاء يسدلونه من الستائر بين حين وحين عندما تنقبض صدورهم، لم يأنفوا من نظر الدهماء إليهم. وهم حين يفكرون في أمر أورشليم التي أضحت، بعد قوة، عاصمة فقيرة لولاية فلسطين الحقيرة، إذا ما قيست بالولايات الاثنتين والعشرين الواقعات في عبر البحر، تتجه أنظارهم إلى رومة والإسكندرية. وما هي صادرات فلسطين البائسة؟ قليل زيت وفواكه، مضافا إلى ما تبذره في العالم جميعه من أعمال الذكاء، ودقائق الذهن، والإيمان القوي بالله الذي لا تدركه الأبصار، ورفض تقديس ملوك الدنيا، والقيصر منهم، بشمم، والأمل بالله أن يكب الآلهة القديمة، وما إلى ذلك من الشئون التي تجعل اسم إسرائيل يتغلغل في مراكز الحضارة والثقافة، وبنو إسرائيل القليلون كلما خسروا سلطانهم عمت شهرتهم في عالم المال والجبروت، ولا مراء في استهزاء بعض الناس بهم، ولكن لا مراء في خشية أناس آخرين من ثبات معتقدهم، وتركهم إياهم أحرارا في ممارسته.
أولئك الأشراف اللابسون ديباجا، فيحملهم عبيدهم على ذلك النمط مارين بهم من ضيق الشوارع هم حفدة عبيد؛ فقد استرق فاتح أورشليم الأول بومبي أسرى اليهود في رومة، ثم فك رقابهم، فبدوا من صغار التجار في جزيرة طيبر التي تجمعوا فيها، فلما آل السلطان إلى يوليوس قيصر الأكبر عرف ذكاءهم، فقربهم منه ومنحهم حق التصويت في مجلس الأمة، وعهد إليهم في تدارك ما يحتاج إليه الجيش من الميرة والعدد، فلم يمض وقت قصير حتى أصبحوا موضع ثقة، فأضحوا صرافين للقيصر، ودائنين للملوك المخلوعين، وملتزمين لدور التمثيل والرقص، فكانوا جماعين لفضائل الشرقيين ونقائصهم في المرونة والملاءمة والمعرفة وما إلى ذلك.
ومستعمرة اليهود الرومانية تلك كانت تشتمل على ثمانية آلاف يهودي، فزاد عدد سكانها بمن قصدها من الغرباء والأفاقين، فلم تنشب أن اغتنت وزادت نفوذا، مع ظهورها منعزلة في مدينة رومة العظيمة، والقليلون غدوا مشركين، وتسمى بعضهم بأسماء لاتينية منتحلين عادات الرومان، غير مقاطعين لألعاب البرابرة كاتمين ختانهم، ولكنهم ظلوا أوفياء لدينهم تقريبا، فيقوم به أكثرهم علانية، ويعمل به آخرون منهم سرا غير مختلطين بالمشركين إلا عند الضرورة.
ومما أصبح عادة أن تجتمع الرومانيات المتبرمات على الخصوص في صلوات
13
اليهود. وهؤلاء النسوة المترفات حين يتكئن لتناول الغداء فيعبثن بشواء الطاووس الساموسي، أو الشلق
14
الطرطسوسي، أو المحار الساقزي، أو حين ينظرن إلى تبديل أثاث المائدة، بعد أن يقئن، منتظرات عودة شهوة الطعام إليهن، يبصرن حلول الزمن الذي يعتنقن فيه دين الله الواحد الخفي.
ألم تشرف الآلهة القديمة على الموت منذ طويل زمن؟ ألم يدع الرواقيون الناس جهرا إلى عبادة إله واحد، مستندين إلى أفلاطون الذي أسف، قبل ظهور يوليوس قيصر بثلاثمائة سنة، على هبوط الروح إلى الجسم من العالم الأثيري، فانتظر مسرورا يوم رجوعها إلى حيث كانت؟ أفيكفي هذا وحده للزهد في ملاذ الحياة؟ فاسمع ما قاله حديثا الحبر الروحاني العلماني، والخطيب السياسي الفيلسوف سينيكا: «مثل الحياة العاطلة من الاضطراب، والآمنة من النوازل كمثل البحر الميت، والأب الرب قد أنعم علينا بأطايب النعم قبل أن نبتهل إليه بصلواتنا.» «أب ورب»! يا له من تعبير غريب! يا لعظيم الخطر في الانتساب إلى أب واحد، وما يجر إليه هذا الانتساب من المساواة! وأبعد من هذا قول سينيكا: «ليس العبيد من الآدميين فقط، بل هم أيضا ندماء وأصدقاء ورفقاء لنا في الرق. وبيان الأمر أن زينة الحياة التي نبدو أصحابا لها؛ كالأولاد والعز والشرف وفتنة الغواني، ليست ملكا لنا، بل هي ودائع أعدت لزخرفة العيش، على أن تعود إلى ربها كما يعود الأثاث إلى الفندقي بعد سفر السياح.» فإذا ما سمع العبيد هذا تداعت دعائم الدولة!
ولم يكن ذلك كله مقصد الفيلسوف سينيكا؛ فقد قال: «أسرعوا في التمتع بالمسار التي يوحي بها أولادكم، ولا تبطئوا في اقتطاف اللذة التي تلوح لكم؛ فالعمر قصير، وأمسكوا بكل ما يعرضه الحظ عليكم؛ فستحرمونه بعد حين.» ومثل هذا ما قاله الفيلسوف أبيقور، وإن حذر من أكل الكمأة والمحار.
ذلك ما يفكر فيه أولياء الأمور برومة، ولم يروا غير صنع ما يسكنون به اضطراب النفوس على ضوء ما في المذاهب الفلسفية الأجنبية من الترياق الروحي. وفي المجتمع زال متوسطو الحال، ولم يبق فيه غير الأغنياء والفقراء، وفي الشوارع يتسكع ألوف الكسالى فيأكلون من أهراء
15
الدولة، وينجز الأفاقون والوسطاء والمضللون والوشاة كل عمل ثم يفسدونه، ويختل في العهد الإمبراطوري ما كان في الدور الجمهوري من النظام، ويحوك الولاة الدسائس حول الحرس، ويحوك الحرس الدسائس حول المقربين، ويحوك المقربون الدسائس حول القيصر الغائب، وتلطم موجة البؤس مهددة نفائس القادة، وإن كان ذلك كلطم موج البحر للصخر. ويرى هؤلاء القادة أن الوقت لا يزال ملائما للاحتراز من أي طارئ، والوصول إلى ما فيه خير الدارين، وإن كان الصخر يهتز تحت قصورهم الفخمة. وكيف يعلم أن قدرة رب اليهود القديم أو أرباب السفسطائيين المعاصرين لا تكون في عجز الأبصار عن إدراكها لهم؟
واليهودي الغني، حين يكون في هودجه فيجوب شوارع بلد الرب، ينعم النظر في آراء أصدقائه من المشركين، وهو حين ينزل بفندقه يلاقي فيه، على ما يحتمل، صاحبا عميلا من الإسكندرية، فيخبره هذا الإسكندري بإفلاس ملك مخلوع، ويحدثه عن أنباء أبناء دينه بمصر، وعن مطالعاتهم ومناظراتهم، وعن الحد الذي يمزجون به الروح بالإيمان ويفصلون بينهما ...
والواقع أن اليهود استقروا بمصر منذ عهد بطليموس، فبلغ عددهم الآن مليون شخص، وأن نصف الأحرار في الإسكندرية منهم، وأن لهم في هذه المدينة حيين، وأنهم قابضون على زمام التجارة بين الشرق والغرب، وأنهم يديرون معظم أمور النقل في البحر منذ أن وثق بهم القيصر أغسطس، فعهد إليهم في مراقبة مستودعي الحبوب لرومة: النيل والدلتا.
والإسكندرية أصبحت عاصمة العالم الثقافية قبل أن تصبح رومة عاصمته السياسية بقرنين، ولم يعرض اليهود برومة عن الفن الإغريقي، الذي أدخل إلى عبر البحر المتوسط منذ زمن الإسكندر الأكبر، فلا يتخذونه في معبدهم المنافس لهيكل القدس زهاء ورقة؟ إذا كان اليهود يقرءون كتب أفلاطون وهوميروس؛ فلأن هذه الكتب روايات تعجز عن زلزلة حكم رجال الدين الرباني، وقد نقلت صحف موسى وسليمان وشريعة الشعب المختار وحكمته إلى اليونانية في زمن بطليموس الأول، فكان لها بذلك حظ الانتشار في العالم بأسره. وفي الأساطير أن اثنين وسبعين عالما من اثنتي عشرة قبيلة هاجروا إلى جزيرة، فترجموا في اثنين وسبعين يوما أسفار موسى الخمسة، فأسفر ذلك عن خروجهم من دائرتهم القبلية إلى الدائرة العالمية، وعن تمجيد اليوم الذي ذهبوا فيه إلى تلك الجزيرة بأمر ملك مصر المفضال بطليموس فيلادلفوس، فعلم الناس أن موسى أعظم من فيثاغورس.
واليوم، في الفندق، يسأل يهودي رومة يهودي الإسكندرية عن أنباء فيلو: أيذهب رسولا إلى القيصر؟ أليس كتابه الأخير عن الأحلام ذا مناح طليقة حرة؟ ألا يؤدي إلى ضعف الإيمان بالأنبياء؟
فيلو؛ ذلك اليهودي الذي هو قبس دين اليهود في الخارج، يبلغ الستين من عمره، فيجمع في كتبه العالمين المتقابلين على ضفاف النيل، وإن شئت فقل: تنطوي كتبه على الأفكار السائرة التي تختلط أمواجها في دلتا عصره، وفيلو؛ ذلك الحكيم الذي هو من أبناء الدولة الأولى في العالم ، والذي هو تلميذ حضارتين، يقطن بميناء تجلب السفن إليه سلعا وأفكارا، وفيلو؛ ذلك الفيلسوف، يتحرر من ربقة الخرافات فلا يداري بني قومه؛ فيضع الروح بعيدة من حدود اليونان وإسرائيل مستندا إلى تعاليم الأنبياء وآراء أفلاطون، فيرسم صورة لإله إنساني يعد الناس إخوة ما دام أبا لهم جميعهم، فيقيم بذلك على سدة المملكتين مملكة الروح للمرة الأولى.
يرى فيلو أن الإنسان سقط، وأن الله يريد أن يقيل عثرته بمعرفته لنفسه وبالتوبة. ومن قول فيلو: لا تقسموا بالله، وادعوا إلى الألفة والاتحاد وشيوع الأموال، واحترموا جميع الأمم على السواء، وأعينوا عدوكم إذا خانه الحظ فتضور جوعا، واعنوا بأسير الحرب، وداروا العبيد، وارفقوا بالحيوان والأشجار المثمرة، وابتعدوا عن المادة، واتركوا الملاهي، واطلبوا العزلة، وكفوا عن الشهوات؛ ففي ذلك كله قهر أجسامكم، وسمو أرواحكم إلى الله، واجتنبوا الخصومات، ورفع الدعاوى، ولا تترددوا إلى الأسواق والمجتمعات العامة، والتزموا جانب البساطة والحلم والدعة، وإياكم والتفاخر والغنى؛ فالدنيا هي المنفى، والسماء هي الوطن، فمن يعرف ذلك ويفعله، ومن يعمل الصالحات ويقف نفسه على الله؛ فهو ابن الله، كما في الشرع، فالله يحب الخاشعين وينجيهم، والله في عون من يؤمنون به قبل أن يولدوا، وروح الله تتجلى في نفوس الأولياء فتنير بصائرهم، فيرتقون من المنطقة البشرية إلى المملكة الإلهية. •••
لنفترض أن شيخين من الفريسيين جالسان في ناحية من الفندق، فيستمعان إلى ما يدور بين اليهودي الروماني واليهودي اليوناني من الحديث، لنعلم أنهما يعدان كل كلمة ينطقان بها إهانة لهما، كما تدل عليه نظراتهما، وإن اليهودي الروماني ليلبس ثوبا ثمينا ويبدو سمينا، حليقا، حسن المنظر، محاكيا المجتمع الذي يعيش فيه، وإن اليهودي اليوناني الإسكندري ليظهر طليق الوجه، لين العريكة، حلو العينين، وإن الفريسيين ليلوحان أعجفين
16
جائعين، متجهمين، مستطيلي الوجهين، أبيضي اللحيتين، مرسليهما، متميزين من الغيظ والحقد على ذينك الفاتري الإيمان أكثر مما على الكافرين.
ومن الحنث
17
العظيم عند الفريسيين أن نقل شيوخ الزنادقة التوراة إلى لسان المشركين، فاطلع هؤلاء على عهد الله لشعبه المختار . ومما يجهر به الفريسيون في مدارسهم أن من يقرأ كتاب إشراك يحرم السعادة في الدار الآخرة، وأن اليونانية هي لغة العبيد لا الأحرار، وأن دور الانحطاط الثاني بدئ بتلك الترجمة، وأن يهود اليوم إذا كانوا عبيدا لا سادة، فلما أنزله الله من العقاب على اليهود بسبب تلك الترجمة، وأن أولئك الطلقاء أدخلوا إلى أرض الميعاد، حتى درج الهيكل، عاداتهم وطبائعهم الخطرة.
ومما يعلنه الفريسيون قولهم: آلروح؟ لنا مذهب في الروح أيضا، وأما كبح جماح الشهوات الجسدية وإماتة البدن بذلك، فمما يضعف قوة شعبنا، ومما لا ريب فيه أن هؤلاء الأجانب ذوو أجسام منفوخة، ولم يكن لهم غير أبناء ضعفاء ملحدين بأوامر الأنبياء، فقصر كل وحي على الروح وحدها يعني جحودا بالعالم الحسي، وإنكارا لماضي بني إسرائيل الجليل، ومستقبلهم المجيد، مع أنه يجب علينا تجاه العدوان الذي نضام به أن نبذل أنفسنا في الدفاع عن روح أجدادنا، ومذهبنا وشريعتنا التي لن تقدر رومة على نزعها منا!
ألم يسر آباؤنا على هذا النهج؟ حتى إن بومبي نفسه لم يسطع أن يفتح أورشليم إلا لأن اليهود لم يريدوا أن يعدوا في السبت فيردوا عادية الغزاة بالسلاح. وفي ذلك الحين كان اليهود شعبا واحدا تسري فيه روح المكابيين، فأطفأ هيرودس جذوة تلك الروح فيما بعد.
يتكلم ذانك الشائبان الجالسان القرفصاء في زاوية من ذلك الفندق في شأن الملك هيرودس الكبير، الذي أدركا آخر عهده أيام صباهم، فكان أدوميا ظالما آثما ملحدا خائنا لبلاده، فسلمها إلى القنصل سيسرون، وأتى ببومبي وكراسوس ليحاصرا أورشليم. وهيرودس هذا كان ابن رقيق، فسم أباه وإخوته، فاشترى من أفاقي الرومان عرش الملك بالذهب والكنوز، ثم خسر هذا العرش في آخر الأمر، وما الذي ناله بنو إسرائيل في زمن حكمه الطويل؟
حقا أنه وسع رقعة مملكته إلى حدود سورية وجزيرة العرب فجدد مملكة داود، ولكنه لم يصنع ذلك بإيمان داود، بل بحيل أبشالوم ومكايده، وذلك بأن قدم إلى رومة ألوف الهدايا، وبأن أنشأ للمشركين، حتى منطقة فنيقية، معابد وحمامات ودور تمثيل ، وبأن نظم حتى أبواب الهيكل مباريات لمصارعي الرومان، وبأن تذرع بالظلم والقسوة لينزع من العالم مجدا واسما لنفسه، وإن استحق ازدراء بني قومه له، وحقا أنه أنفق ملايين الدراهم لإعادة الهيكل، وذهب أبراج هذا الهيكل، وفرش صحونه
18
بالرخام، وصفح أبوابه بنحاس من كورنتوس، وستر قدس الأقداس بحجاب من الديباج، ولكنه لم يسطع أن يكتم بالذهب والستار ما جنته يداه، وحقا أنه قرب للهيكل ثلاثمائة ثور، ولكن ذكرى الخمسة والأربعين فريسيا الذين حمل المجمع اليهودي الكبير على إعدامهم لم تفتأ تحوم حول ذلك الهيكل، وحقا أنه أنزل الراية الرومانية بعد أن رفعها فوق الباب الأكبر، ولكنه كان لنصب تلك الراية من الأثر ما لم يقدر على إزالته صدأ نصف قرن ومطره.
وهو لأنه أقام الهيكل وملك عدة نسوة، ظن نفسه سليمان الثاني، وهو لأن كليوباطرة أرسلت إليه أربعمائة رماح، ولأن حرسه من الدروز والجرمان، رأى نفسه قيصر الثاني، وهو لأنه كان لديه خصيان وعرافون وعيون وندامى كثيرون، ولأنه انتحل صفة الخطيب، ولأنه سمى أولاده بأسماء رومانية، ولأنه تزوج عشر مرات فولدن له اثني عشر ولدا؛ اعتقد أنه أبو الوطن!
فهل من العجيب إذن أن تصبح البلاد فريسة الفتن عند موت هيرودس؟ نادى الجنود بأنفسهم ملوكا في كل مكان، فتقاتلوا إلى أن أرسل العقلاء إلى رومة رسلا لينضموا إلى مهاجري اليهود فيها، فيضرعوا إلى القيصر المشرك أن يطرد ملوك اليهود الغاصبين الكاذبين، ويعيد الأمن والنظام إلى أرض الميعاد، فاستمع أغسطس لدعاء ثمانية آلاف يهودي في معبد أبولون متكلفا الجد، ضاحكا في قرارة نفسه، فاستجاب لهم تبعا لمبدأ «فرق تسد» الروماني، فقسم فلسطين إلى خمسة أقسام، معطيا أبعد هذه الأقسام وأفقرها لأبناء هيرودس الذين تباهوا انتفاخا بما تم لهم من ألقاب الملك، واحتفظ باليهودية فجعل منها ولاية رومانية، فصار الوالي الروماني يشرف من حصنه على الهيكل بأورشليم، قابضا بذلك على قلب فلسطين النابض.
يذكر ذانك الفريسيان الشائبان البلايا التي أصيبت بها بلادهما، ما ذكرا الماضي ونظرا إلى المستقبل في كل عيد فصح، فيسألان : ألا نزال شعب الله المختار ؟ لم يلمع على صدر رئيس الكهنة منذ مائتي سنة؛ أي منذ زمن متياس، العقيق الذي هو رمز لحضور الرب تقريب القرابين، فأين الخلاص؟ كل شيء في أورشليم مرتج
19
موقوف مراقب مهدد. فلترفع راية العصيان في الشمال، في بلاد الجليل المرتجاة حيث الشبان الحمس عازمون على فك قيود العبودية. ألم يكف إحصاء النفوس لحمل يهوذا الجليلي على الثورة؟ صاح هذا الوطني الحر أمام الحامية الأجنبية قائلا: «الإحصاء خزي وعار!» فجمع كتيبة من ذوي الحمية، فاشتعلت الفتنة في وجه رومة، وفي وجه أذناب الرومان من اليهود، وعلى رأسهم هيرودس، وفي وجه الثراء، وفي وجه السلطة الزمنية، فقيل: لا ينبغي ليهودي أن يعترف بسيادة أحد؛ فالله هو رئيس دولتنا، وشريعة موسى هي دستورنا، والرب في عوننا ما دمنا في عون أنفسنا، فنحن أرباب السيف، ونحن أهل القتال، ذلك ما رفعوا به أصواتهم حينما زحفوا لينازلوا كتائب القائد فاروس الروماني، بعد أن تسلحوا في مصانع الجليل السرية.
أجل، إنهم غلبوا، ولكن الحماسة التي اشتعلت في نفوسهم لم تخب، بل زادت سعيرا في قلوب أبناء من خروا صرعى في ميدان الوغى، فلم يبق لهؤلاء غير اهتبال الفرص عندما تلوح، ما تسلحوا سرا ووطنوا نفوسهم على دفع الشر بالشر، ومقابلة العدوان بالعدوان، فهذا جيش غير جيش قديسي الأردن الذين طمعوا في إعادة بناء المملكة بالصلوات والحلم وماء العماد؛ فمن بلاد الجليل، ومن بلاد الجليل وحدها يأتي الخلاص. •••
تزاور
20
الشمس عن سطح الهيكل الذهبي فتغرب في البحر، وتنير أشعتها الأخيرة معبد جوبيتر «المشترى» في قيصرية لا ريب. وتلك الشمس هي الشمس نفسها، وملك اليهود هيرودس الذي زخرف هيكل أورشليم بضروب الزينة، هو الملك هيرودس نفسه الذي أنشأ معبد جوبيتر ذلك، ونقص إيمان الناس منذ تم للسلاح فلاح لم تسمع بمثله أذن، فقامت دولة عالمية على شواطئ البحر المتوسط، فارتقى أناس إلى مصاف الآلهة، وإن لم تختلف أفكار المؤمنين عن أفكار آبائهم، وبلغت الآلهة زوس وجوبيتر ويهوه من الكبر درجة لم ير الإنسان معها أن يناضل عنها، ويقاتل إخوته في سبيلها، وانتشرت في رومة والإسكندرية وأورشليم مذاهب متعارضة متناقضة، فعاد الوحي الواضح لا ينير بصيرة الباحث الناصح، وقيل: إن أمثال الأجداد وشرائعهم ذوت في جميع الممالك واللغات والصحف المقدسة، وتذبذب السلطان، واحتقرت التقاليد، وصارت الصواعق لا تلقي الرعب في القلوب، وأضحت الشمس لا تغري الناس بالعبادة، ونصبت تماثيل للآلهة صرفا للنفوس عن الآلهة الخفية، ولا سيما ذلك الإله الواحد الذي لا تدركه الأبصار، ولا يناله خيال.
مثل الانقلابات الكبيرة، وأطوار النفس الكثيرة، وتموج المعتقدات القديمة كمثل الشفق الذي يبدو فوق أورشليم، ويترجح نوره بين جبالها والبحر المتوسط إلى أن يغيب، فإذا ما تلاشى المعتقد القديم كتلاشي آخر ضياء للشمس بعد غروبها كان ظلام، فتتابع نجوم، فإنارة فلك، وتتقدم الفلسفة حيث تتأخر الآلهة، وتتناجز المذاهب وتتناقض بدلا من أن تتحد، فهل في العالم مذهب نقي بعد؟ وأي الرجلين أشد عجبا وانتفاخا: آلرواقي اللوذعي الذي يتصنع الزهد فيلبس لباس الزهاد، ويؤمن بالقضاء والقدر، ثم يكافح وينافح، أم الأبيقوري الشهواني الخلي النكات في قاعات ذوي الثروات سعيا وراء أطايب النعم؟ كلاهما يدعو إلى الإخاء، والعناية بالفقراء، وتحسين حال الأرقاء، ولتعط الدولة ما تطلبه من المال والخدم لتكافئ كل واحد على حسب جدارته، وعكس ذلك ملكوت السماوات المفتح الأبواب للجميع، ولا سيما البائسين والمذنبين التائبين من غير نظر إلى الفروق والأهليات والقوات.
ويرى فيلو أن الشر في الصدر، وأن الإثم في الجسم، وأن البدن سجن للروح، وأن الناس متساوون أمام الرب الأب، فيطمعون أن يجتمعوا عنده حيث وطنهم الأبدي. فما أقرب هذا من قول الفريسي هلل، الذي جهر بمذهبه قبل فيلو بجيلين فجعل من نفسه المثل، فتصدق على الفقراء بما يملك فعاش وفق قوله: «لا تفرح بسقوط عدوك خشية غضب الله وانتقامه، وكن مع الضعفاء المظلومين لا مع الأقوياء الظالمين، واحذر نفسك بنفسك حتى يأتيك اليقين.»
21
ثم لخص ذلك في مثل واحد فجعل منه أساس اليهودية؛ وهو: «لا تعامل غيرك بما لا تحب أن يعاملوك به.» ومثل ذلك قول أبيقور في بلد قاص: «عمل الخير أفضل من نيله.»
وهنالك ما يباين ذلك، فلو نظرت إلى أكثر أتباع هلل تشددا لرأيت أفئدتهم تهفو
22
حبا لمتاع الحياة الدنيا، فهم يقولون: إن الله إذا كان ربا جبارا رءوفا معا؛ فإن الدنيا طيبة، فالله لم يحرم الغنى ولا نعم العيش، وقد أمر أبناءه بأن ينالوا حظا من الحياة، فيراعوا أحكام الشريعة من غير زهد، ويتزوجوا شبابا للإكثار من الأولاد، ويحظوا بالنساء والخمر ضمن حدود التوراة، وفي التلمود: «الجنة لمن يسر أصحابه.»
ووجد ما ينقض مذهب أولئك أيضا؛ فقد سأل بعض الأنبياء: لماذا يريد الإله الخفي المقدس تقريب القرابين تسكينا لغضبه؟ وإذا كان الله قد جعل من اليهود شعبا مختارا؛ فلم يسومهم خسفا
23
على الدوام، ويأذن في استعبادهم؟ أليجازيهم؟ ألا يدل ذلك على عدم نصره لهم؟ أليس اليونان أكثر حرية وأعظم أدبا من اليهود الذين قيدتهم شريعتهم بما لا يحصيه عد من القيود؟
تبدد سحر العزلة بفعل اللغات الأجنبية في أثناء الإسارة البابلية، واليوم يخاطب الوالي الروماني اليهود باللغة اليونانية، واليوم تتم المرافعات أمام القاضي الروماني باللغة اليونانية، واليوم تكتب العقود التجارية باللغة اليونانية، واليوم يضطر الكهنة والعلمانيون والعمال والفلاحون إلى التفاهم هم والجنود باللغة اليونانية، وأخذت التوراة الأصلية المقدسة تفسح المجال لترجمتها الإغريقية، فأخذ اليهود الذين ذلك شأنهم يفضلون هذه الترجمة على الأصل العبري، فبدت بذلك ثغرات في السد المنيع، فصارت مياه الغرب تغمر غيرها.
تجاه ذلك الترهل،
24
رأى الفريسيون أن يمعنوا في المحافظة على صفاء الشريعة والشعائر، فأسفر هذا الشعور عن وجد ووله فيهم، فغدوا يعدون كل عمل في أرض الميعاد أمرا مقدسا، فالأرض إذا ما أعطيت زكاة ثمراتها تقدست، والحبوب إذا ما نظفت تقدست، وأورشليم إذا ما قربت فيها القرابين كل يوم تقدست، فيتجلى الرب في قدس الأقداس.
25
وفي مراعاة الشعب لأوامر الدين استرداد لحريته، وعودة لسلطان الأرض المقدسة السياسي، وطرد لرومة كما طردت مصر وبابل وآشور من قبل!
ولكن الوصول إلى ذلك يتطلب حياة مثالية، فيجب على اليهودي عند الفريسيين أن يقوم بشعائر الأعياد والصيام، وأن يميز بين ما أحل وما حرم من الطعام، وبين الخبز الخمير والخبز الفطير، وأن يراعي عيد المظال،
26
وأن يعمل بشريعة موسى، ويجب أن يدخل إلى قلوب الأولاد حبها، وأن يعلم الأب أبناءه الطقوس منذ السنة الثالثة من أعمارهم، وأن يعلم المعلم تلاميذه معاني التوراة، وأن يحترم هذا المعلم الذي لا يسأل طلابه على دروسه أجرا، فيطرد الوساوس، ويزيل الشبهات بنصوص التوراة والزبور.
والفريسيون يقفون عند ظاهر الشريعة غير معتمدين في تفسيرها على الباطن، وذلك في زمن تعقدت فيه الأفكار وتصادمت؛ فحل فيه الشك محل اليقين، وما درى الفريسيون أن الفناء لا الشفاء في تشددهم. •••
أرخى الليل سدوله فوق أورشليم مرة ثانية، واقترب عيد الفصح، فغصت أورشليم بألوف الحجيج الذين وجفت
27
قلوبهم انتظارا، وفيم كان يفكر أولئك الأتقياء في صلواتهم مساء؟ وصحف أي نبي كانوا يقرءون على نور الشموع قبل أن يخالط الكرى أجفانهم؟ أحلام دانيال! أربعة حيوانات عظيمة شرسة تعاقبت، وهي الممالك العالمية: بابل والإسكندرية وآشور، التي اضطهدت شعب الله فانهارت، و«الحيوان الرابع الذي كان مخالفا لكلها، وهائلا جدا، وأسنانه من حديد، وأظفاره من نحاس، وقد أكل وسحق وداس الباقي برجليه.» هو رومة التي أخبر عنها النبي العظيم دانيال؛ صاحب المنقذ يهوذا المكابي، والتي ستسقط كما سقطت أخواتها الثلاث، «والمملكة والسلطان وعظمة المملكة تحت كل السماء تعطى لشعب قديسي العلي، ملكوته ملكوت أبدي، وجميع السلاطين إياه يعبدون ويطيعون ... كنت أرى في رؤى الليل وإذا مع سحب السماء مثل ابن إنسان أتى وجاء إلى القديم الأيام فقربوه أمامه، فأعطي سلطانا ومجدا وملكوتا لتتعبد له كل الشعوب والأمم والألسنة، سلطانه سلطان أبدي ما لن يزول، وملكوته ما لا ينقرض.»
ابن إنسان! لم ينطق قدماء الأنبياء بهذه الكلمة، وإن دل كلامهم عليها؛ فقد عرفوا ذلك جميعهم منذ سقوط مملكة داود التي كانت تمتد من لبنان إلى البحر الأحمر؛ فمن آل داود سيخرج ملك إسرائيل القوي الجديد «فيغرس الرب غصنا من الأرز المكسور في صهيون »، وهل يأتي المنقذ بالسلم أم بالحرب؟ أخبر بعض الأنبياء فرحين أن الرب سينصر في البداءة شعبه في قتال يقع في صهيون فيقيم له المملكة التي وعد بها، «وسيكون في الأيام الأخيرة يقول الله: إني أفيض من روحي على كل بشر فيتنبأ بنوكم وبناتكم، ويرى شبانكم رؤى، ويحلم شيوخكم أحلاما ... ويكون في ذلك اليوم أن الجبال تقطر عصيرا، والتلال تفيض لبنا، وجميع ينابيع يهوذا تفيض ماء، ومن بيت الرب يخرج ينبوع.»
بيد أن زكريا لم ينبئ بغير ظهور ملك للسلام، فجاء في سفره: «ابتهجي جدا يا ابنة صهيون، اهتفي يا بنت أورشليم، هوذا ملكك يأتي إليك، هو عادل ومنصور وديع، وراكب على حمار وعلى جحش ابن أتان، وأقطع المركبة من أفرايم، والفرس من أورشليم، وتقطع قوس الحرب، ويتكلم بالسلام للأمم، وسلطانه من البحر إلى البحر، ومن النهر إلى أقاصي الأرض.»
ومثل ذلك نبوءة هركانوس الذي رأى في المنام، منذ قرن، ثورا أبيض ذا قرون ذهبية قد دخل الهيكل أبا كبيرا، وجاء في نشيد وضع في زمن الملك هيرودس: «انظر يا رب، وأيقظ ملكهم، ابن لداود وعبد لك، سيظهر ليحكم إسرائيل في الزمن الذي عينت.»
ومن يكون المخلص؟ وهل ولدته أمه؟ وهل يعيش في فلسطين؟ وهل يحمل بعض الطامعين لقب ذلك المنقذ المنتظر كما فعلوا بعد موت هيرودس؟ هذا ما كان يسأله الفريسي المدقق عند صلاة كل مساء، وبين الشعب أفاقون خادعون يحاولون إغواءه بكتبهم السحرية، وبشفائهم المرضى، وفي بلاد الجليل مردة لا يتورعون عن ارتداء أي رداء وصولا إلى السلطان، وعلى ضفاف الأردن يمارس الآزيون عماد الصباح، فيبكون في مياهه مبشرين بدنو سيادة الروح، فويل لبني إسرائيل إذا ما انتحل أحد أولئك العصاة أو المتهوسين قول النبي، فبدا رسولا لنسخ كلام الرب، وويل لمثل هذا الدجال! لم يولد ملك اليهود بعد إذن!
وهكذا كان المؤمنون يترجحون بين الشك والرجاء، ولم يشذ عن ذلك الحجاج الآتون من رومة والإسكندرية بعد أن قرءوا في قصائد شاعري أغسطس: فيرجيل وهوراس، خبر اقتراب العصر الذهبي الذي يسود السلام فيه العالم ، وليس قليلا عدد الذين رأوا الحظ حليفا لسيدة العالم رومة مع اعتقادهم صحة نبوءة دانيال وصدق وعده. وفي السحب رأى فيلو «الوجه الرباني يقود اليهود إلى بقعة واحدة من الأرض، فيشفع لهم عند الأب فيعفو عنهم، فيعاد بناء المدن الخربة، وتصبح البراري عامرة، والأراضي الجديبة خصيبة.»
يسوع والمرضى.
يطول الليل تحت أروقة الهيكل، ويتجاذب الكهنة يقظة وكرى، وينسون جنود رومة، ويغفلون عن سوء ما هم فيه ما اقترب عيد الفصح، وتدور في رءوسهم أغنية المنقذ المنتظر.
وتحلم أورشليم النائمة بالمسيح.
الفصل الأول
النداء
فتى مضطجع على العشب فوق الجبل، ناظر إلى السماء، فتلقي الشمس أشعتها المائلة عليه وقت الصباح؛ فيظن أنه راع ما مرت قطاع الضأن قريبة منه.
يبدو كل شيء هادئا، وتنحدر الجبال برفق إلى الوادي، فلا تسمع للإنسان ركزا، فيستطيع ذلك الفتي أن ينام، فإذا ما ذهب عنه الكرى وجد شياهه كاملة.
ليس ذلك الفتى بنائم، وليس للغنم بصاحب، وقد حبب إليه أن يتسلل في صباح كل سبت ما كان السبت يوم راحة، وما هجر العامل فيه المصنع، فلا احتياج إلى ذلك الفتى في ذلك اليوم إذن، ويكون طليقا ساعة بين صلاة الصبح وقصد المعبد، وله متعة في تأمل الزرقاء
1
وحيدا فوق الطور.
2
فعلى الطور وفيما وراء السحب يقيم أبوه الأعظم ...
أجل لا تدرك الأب أبصار فتى وإن رآه موسى ذات مرة، وتجلى لقدماء الأنبياء أحيانا، غير أنه قريب مع بعده، والريح حين تهب من البحر فيسجد شجر الزيتون، فتئن سوقه، والماء حين ينزل من السماء فيخر
3
في السواقي بين ثغاء الشاء، والغمام حين يتراكم على جبل حرمون فيحجب ذروته يسمع صوت الرب المحب للجبال لا السهل.
ذلك الفتى بين الجبال، فيبصر من هنالك جميع الجبال، فيرى عن شماله جبل تابور المدور، ويرى عن يمينه جبال السامرة، ويرى في آخر السلسلة جبل الكرمل الحاد المهدد بغرقه في البحر.
ويصعد الفتى جبل تابور فلا يبصر شواطئ البحيرة المستترة خلفه، جاهلا أمر ذهابه يوما إلى مينائها، ولا شيء يجذبه إلى ذلك، والناس يكثرون على مسمع منه من الحديث حول المدن والسفن، وحول الأمم التي تملك هذا أو ذلك، أو التي انتزعت هذا أو ذلك، فلا تجد أقوالهم إلى قلبه سبيلا واضحا كما يبدو.
هنا المكان حسن؛ فهو ذو أشنة
4
ناعمة، وهو ذو شجر تين ظليل، فلا يؤذي وهج الشمس عيني من يجلس تحته، وهو ذو دغل يسهل اجتناب شوكه، وهو ذو قنابر تدنو من الإنسان من غير أن تنفر ما راعاها الرعاة إذا ما كانوا فيه، وما رعت أنعامهم كلأه هادئة صامتة. ولا ريب في أن الرب الأب ينظر إلى هذه الأنعام بحنو وإن عجزت عن الدعاء إليه، ولا ريب في أن الرب الأب الموجود في كل مكان يرى شجرة التين، ويرى الفتى يتفيؤها.
ويذهب الفتى إلى الناصرة المدينة الصغيرة ذات البيوت البيض؛ حيث يتكلم القوم عن الرب وبيت الرب، وعن استيلاء المشركين على بلد المؤمنين، وعن سلطان الكافرين على الشعب المختار، ويخوض الأغنياء والكتبة في ذلك أكثر من الفقراء، فيدخلون دورهم ليروا هل يصلون كما يجب، ويصل فريسي إلى النجار أبي الفتى، فينظر إليه هذا الأب من منجره مغموما؛ فهو يعلم أن الفريسي هذا سيبحث مدققا في آنيته وجدره ليعرف مقدار نظافتها، ودرجة قيام صاحبها بما يأمر به الشرع، فيضيع عليه ساعة من نهار فلا ينجز عمله.
يا لروعة التوراة! تلا أبو الفتى سفر دانيال ليلة أمس على حين كانت أخواته نائمات، وكانت أمه جالسة في ركن من البيت صامتة منصتة، ويفكر الفتى في إخوته وأخواته الأحدث منه سنا، وفي لغة أبويه الجافية، وفي عجزه عن النظر إلى الله بعين بصيرته في حضرة هؤلاء جميعهم.
بلغ الفتى البيت فوجد آله متأهبين للذهاب إلى الكنيس نظيفي الثياب بعد أن غسلتها أمه أمس، ويجمع الأب الأمتعة في بيته الحقير المؤلف من غرفة واحدة يأكل آله فيها وينامون، فيذهب وتذهب معه الأم حاملة أصغر أولادها، وتبدو مائدة النجار أمام البيت خالية، ويظل باب البيت مفتوحا، ومن يجرؤ على السرقة يوم السبت؟ ومن يأتي ليسرق هنا؟
ويمر أولئك بجانب الحوض المقبب حيث تملأ أم الفتى جرتها في كل صباح، فتحملها على كتفها، ثم يسيرون من حدائق كثيرة يملكها الأغنياء حول بيوتهم، فيدخلون في أفيائها، وما أنضر ما في ذلك الوادي المرتفع ذي المياه الوافرة! يكثر فيه ارتفاع أشجار السرو ذوات الرءوس المنحنية قليلا، ويكاد النخيل فيه يعدل تلك الأشجار علوا، وتورق الكروم، وتخرج أشطاءها،
5
وتبرز أزهار الرمان الحمر بين أوراقه الخضر، وتحيط بتلك الحدائق أشجار شائكة لمنع الناس من دخولها، وتسترها طبقة من الغبار، فيخفى أمرها على الصبيان فتخمشهم وتبكيهم.
ويلاحظ الفتى نظر فريق من الناس إلى البيوت المزخرفة وأعمدتها شزرا ما فطر على الدقة والنفوذ إلى ما يخالج الأفئدة، ولم يأكل قلبه الحسد من ذلك ما بعد من ذهنه أن يعيش كأولئك الأغنياء، أفلم يكفه لبن المواعز وإقط
6
الضوائن والتين؟ أفيكون النجار أقل قيمة من المتعلم عند الله؟ أفلم يسمع أن فريسيين كثيرين كانوا صناعا؟ هو حين يدخل الكنيس، يفضل أن يدفن تحت الأرض على أن يجلس في الصف الأول حيث يكون الأغنياء.
ولم يسطع آل الفتى أن يذهبوا إلى أورشليم حجاجا منذ طويل زمن لفقرهم، فيثير ذلك في نفوسهم أشد الآلام. ومدة السفر إلى أورشليم ثلاثة أيام، ونفقة السفر إلى أورشليم تكلف غاليا. وفي العام الماضي، زار جار للفتى أورشليم فحدثه عن كل ما رآه، وعن زخرف هيكل هيرودس، وعن كثرة القرابين في المذبح، وعن حلة رئيس الكهنة الزاهية، وعن الضوضاء في الأسواق.
ولكن يسوع لم يتمن السفر إليها ولم يشتق إلى الهيكل فيها. •••
درج تؤدي إلى الكنيس البارد الطويل، فيصعد فيها الأب وأولاده الكبار فيدخلونه، وتدخل الأم المكان المفصول الخاص بالنساء، فتعلو أصوات الرجال ويحتدم جدلهم، فيدعوهم إلى السكوت كاهن القداس الجالس على كرسي عال في صدر المحل، فيقفون لتلاوة دعاء، ثم يسأل عن أيهم يرغب اليوم في قراءة ما تيسر من التوراة، فينهض من الصف الأول رجل بادن ذو لحية بيضاء، لابس رداء من حرير، وشالا موشى بكريم الحجارة ، فيفسح الجميع له في المجال، فيرتقي المنبر، ويرتل ما يقرأ. وهذا الرجل من أغنى أبناء بلده، وهو كثير العلم، وهو لا يبارى في إيتاء الصدقات، وهو لا يعطيها إلا جهرا، وهو أول الداخلين لبيت الله، وآخر الخارجين منه، فيقضي أوقاته فيه بالصلوات، وهو يتقن الصوم، ويحسن تربية أولاده الكثيرين خشية الله، وهو يعطي المعبد والفقراء أكثر من عشر دخله، وهو أسوة حسنة للقوم، والقوم لا يحبونه مع ذلك؛ لأنه لا يحب أحدا.
بدا فاترا مغموما ذلك الفتى البائس الواقف على أطراف أصابعه ليبصر من بين الجمع الكرسي العالي الموضوع في صدر القاعة، ولم يرقه ما ينطق به ذلك السمين الأمين، ثم لام نفسه على هذا ما نزه ذلك الرجل من إيذاء أي إنسان، وما امتدح أبوه كرمه الذي تجلى حينما دفع إليه أكثر مما اتفق عليه ثمنا لباب صنعه له، وما الذي يباعد بين الفتى وبينه إذن؟ وإن النقاش ليشتد بين أولئك غير موافقين على تفسير ما قرأ، وإن النقاش ليشتد بين أولئك حول دلالة كلمة «المسيح» على معنى «ابن الله» أو «ابن داود»، فيستند كل واحد منهم إلى آية من التوراة دعما لرأيه؛ إذ يترجح ذلك الفتى بين الاحمرار والاصفرار ضنينا بما في نفسه من الكنوز الخفية، فيود لو يفر بها من الكنيس الضيق الخانق إلى ذلك الجبل؛ حيث تدنو القنابر فيه، وحيث يألف جدول الماء، وحيث يظلل الغمام رأسه، وحيث يتيه نظره من خلال السحب في ملكوت السماوات.
ويقصد الصبيان الكنيس البارد بعد الظهر فيتألف من جلوس بعضهم بجانب بعض حلقة، ويمسك كل واحد منهم قرطاسا ذا كتابات فيرددون ما يتلوه المعلم الجالس في وسط الحلقة، مشيرين بأصابعهم إلى ما في قراطيسهم مما يقرؤه حرفا حرفا، ولا تلبث الحروف أن تتحول إلى كلمات، والكلمات إلى جمل فيرتلها الطلاب.
تلك هي مدرستهم الوحيدة، فإذا ما كدر أحدهم صفو الدرس ضربه المعلم، ومن الإنصاف أن يقال: إن عمل المعلم شاق ما اختلفت اللغة التي يتكلمون بها عن اللغة التي يقرءون بها، فلبلادهم الجبلية لهجة مختلطة يضحك من نبراتها الآرامية جميع إسرائيل، فإذا ما تم الدرس انصرفوا إلى حيث أرادوا.
وفي الشارع أشياء كثيرة تستوقف النظر؛ فمن هذا الشارع الناصري، الذي هو شارع أمم بالحقيقة، يمر من ينزلون إلى مرفأ بتولمايس، مع ما لديهم من السلع وغيرها، قاصدين الداخل وطبرية والمناطق الشمالية ودمشق، ويشاهد الصبيان في هذا الشارع تتابع الجمال والخيل والحمير والمركبات والجنود والتجار ونساء هؤلاء وعبيدهم، فيتعلمون بضع عبارات إغريقية، وتبعد صفوري ثلاث ساعات من هنالك، ويزيد في صفوري عدد المشركين عن اليهود.
ويأتي من الشرق إلى ذلك الشارع تجار فنيقيون وعلماء عرب، ويأتي إليه أيضا أفاقون من الأجانب ليعودوا إلى أوطانهم بحرا، وإذا ما اهتزت الأرض وعلا الضجيج كان مصدر ذلك جنود حاملون سيوفا قصيرة، مدرعون، جمعهم قيصر رومة من جميع البلدان، فترى بينهم السمر، وترى بينهم الشقر، وتبصر بينهم الممشوقين، وتبصر بينهم المتوحشين، ويولي جميع اليهود الرايات الرومانية ذوات الصور الوثنية ظهورهم لكيلا يلزموا بتحيتها، ويشير صبيانهم إليها بأصابعهم كمن يريد أن يتبين في صورها المحرمة مكان اللعنة والشر.
واليهود حين يرون تدفق أولئك المشركين من كل صوب وحدب يستحوذ عليهم ذعر مع ثبات إيمان، فيثير ذلك بينهم من الأحاديث ما لا حد له، وذلك الفتى الصامت، حين يجلس مساء على عتبة المنزل بالقرب من أبيه فيسمع تحسره مع جاره من بؤس الزمن، يرى في ذلك إيضاحا لما شاهده في الشارع، فينقش في ذاكرته أن جميع المنطقة التي يراها من أعلى جبل تابور، وجميع الأراضي التي تحيط بها إلى مسافة مئات الأميال كانت ملك اليهود، فنزعها الرومان منهم، فضلا عما يطالبونهم به من الضرائب والمكوس. والرومان هؤلاء استولوا منذ بضع سنوات على الهيكل بالنار والحديد، فولجوا قدس الأقداس كما قيل، فظهر سمعان الجميل عبد الملك هيرودس فحرق قصر الملك بأريحا، وظهر عملاق قوي الشكيمة كموسى، فوضع التاج على رأسه وحارب الرومان.
بيد أن هؤلاء جميعهم غلبوا. •••
اشتعلت الفتنة بغتة في الناصرة وسائر بلاد الجليل التي ارتجفت أيام نشوب الثورة في مناطق الحدود؛ ففي جمالا، البعيدة بضع ساعات من الناصرة، التف حول يهوذا الجليلي رجال أشداء لتحرير الوطن، ولدى يهوذا هذا ما يحفزه إلى الثورة؛ فقد قتل صنيعة الرومان هيرودس أباه، فأصبح لزاما عليه أن يثأر به، فبدا ساعد حزب المتطرفين الجديد الذي يرأسه صادوق، فكان من برنامجه عدم الخضوع للرومان، ومن أقوال رجاله: نحن أحرار فلا نشعر بواجب نحو أحد غير الله، أتريدون حمل الأهالي على دفع الضرائب؟ ألا تعلمون أن الأنبياء هددوا الملك داود عندما ود إحصاء بني إسرائيل؟ أنتم راغبون في جمع إتاوة من أقل سنبلة ننبتها، وأصغر زجاجة زيت نصدرها! أنتم تجاوزون حدود الطمع بهذا! أنتم تقصدون إذلال شعب الله المختار على مرأى من المشركين! والفريسيون إذا صبروا على ذلك فلجهلهم سر ما جاء به قدماء الأنبياء، وأما نحن فإننا - بما عليه من عدم الاحتمال، وشدة السخط، وزيادة الحركة - نوجب ظهور المسيح المخلص.
رفع يهوذا الجليلي وصحبه راية العصيان فباغتوا مستودع الأسلحة بصفوري، فأخذوا ما فيه من عدد الرومان ونقودهم، فدعا لهم الكهنة بالنصر والتوفيق، فانطلقوا إلى طرد الأجانب من فلسطين، ولم يفتأ جيشهم يعظم حتى ضاق ما وراء جبال الجليل بهم ذرعا، وعلم القائد الروماني فاروس ذلك فأسرع في الحضور من سورية، وحضر معه جنود يزيد عددهم على عدد أولئك العصاة خمس مرات، وانضمت إليه كتائب الأمراء المجاورين، فألقى الرعب في أورشليم بعد إنقاذ، وقمع الثورة وقتل ألفي ثائر على الصلبان، وفر يهوذا.
يقص آباء الفتيان وأساتذتهم عليهم أنباء انتصار شبان الجليل وانكسارهم، فيرتجفون، فتتجاذبهم عوامل الحقد والأمل، فيتمثل لهم يهوذا بطلا مختبئا في كهوف لبنان مفكرا في وضع خطة جديدة للثأر، ولكنهم لم يلبثوا أن علموا أن الرومان اعتقلوه وصلبوه، فطأطئوا رءوسهم. ولسرعان ما رفع ذكر يهوذا فعد شهيد الأمة! فنظمت القصائد تكريما لذكراه، فقيل فيها: إنه قتل في سبيل حرية بلاده، والثأر بأبيه وأجداده، وأضحى القوم ينظرون إلى الصليب المصلت على أبواب أورشليم رمزا للمجد والشرف ، وصاروا يتحرقون انتظارا لعمل شيء جديد بعد غيظ، وغدوا يعتقدون أن ظهور المسيح المنتظر موقوف على رفع نير الرومان عنهم.
ويظل ذلك الفتى المفكر وحده هادئا في الكنيس متعطشا إلى المعرفة، مستمعا إلى أحاديث الكبار راجيا أن يكتشف ما يدور في أفئدتهم، وإذا ما مر يهودي إسكندري اتفاقا من الناصرة، فتكلم عن مكتبة الإسكندرية العظيمة وحكمائها المعاصرين، أنصت له وعلق بذهنه ما في كلامه من طريف المعاني. ومن المحتمل أن سمع يونانيا يحدث عن نبي وثني كان يعظ القوم في الشارع أيام ازدهار أثينة وعظمتها، فيضع الصانع السوقي فوق المعبد والمدرسة فيقول: «من يجد في معرفة نفسه يعمل الصالحات على الدوام فيصبح سعيدا.» فأمور مثل هذه تقرع ذهن ذلك الفتى؛ فيستنبط منها أغرب النتائج.
بدا ذلك الفتى ثابتا رابط الجأش حينما قيل بمقت المشركين، وازدراء الرومان، ورأى غليان شعور الغرور في بني قومه، فجالت في خاطره الأسئلة الآتية: أيعني حب الله لنا كرهه للآخرين؟ أنحن مبرءون من العيوب حتى نضع أنفسنا فوق الآخرين؟ وما أهمية ملك الفنيقيين لجبل الكرمل وملك فيليبس بن هيرودس لشمال بحيرة طبرية؟ وما احتياجنا إلى المدن والجبال ما كنا شعب الله المختار؟ ألا يكفينا التصرف في الهيكل؟ وما ضرر فرض الرومان علينا ضرائب ومكوسا؟ وما ضرر نقص ثروات الأغنياء ما وجد الناس ما يأكلونه في نهاية الأمر؟ وما هي علاقة مملكة إسرائيل بملكوت الله؟ وما اضطرار صادوق ويهوذا إلى أسلحة المشركين في مستودع صفوري ما ابتغيا ملكوت الرب؟ •••
لم يخب أوار الفتنة عدة سنين، وستدوم عشرات السنوات، فالصواب في سلوها والتفكير في غيرها.
وترعرع يسوع فغدا شابا، ويفرق شعره الأسود على الطراز الناصري، وسيكون ذا لحية عما قليل، وهو ضليع جيد الصحة ما جال في الجبال، وليس الهواء في منجر أبيه حارا كما في أسفل الوادي، ويسمع للرياح هزيزا بين التلال، ويرى اخضرار سفوح الجبال بفعل المياه، ويروى أنه فقد أباه يوسف حين كان في السنة التاسعة عشرة من عمره، فكفل هو وأمه إخوته الصغار.
ولم يفكر يسوع في الزواج مع أن الشريعة تحرض عليه مباركة للأب الكثير الأولاد، ويكن يسوع محبة للنساء والصبيان فيحبونه. ومن المحتمل أن كان يبدو شاذا ما ظهر هادئا كريما رءوفا رحيما بالناس، مجتنبا للخصام، أنيسا، مصغيا أكثر منه متكلما، وكان جامعا لمقادير البشر في صدره، مدققا في عواطفهم وآلامهم، كاشفا لعوامل السير فيهم كما لو كان قابضا على عصا سحرية، وأظهر ما يكشفه على الخصوص هو الضعف الخفي خلف الظواهر الصاخبة التقليدية، ويسوع إذ عرف كل شأن كان يلتمس المعاذير لكل إنسان، ويسوع إذ ابتعد عن الظهور حكما قاضيا كان موضع ثقة لكل إنسان.
ومن المحتمل أيضا أن كان القوم يعطفون على يسوع ما رأوا تجرده من الحرص، وابتسامه عند غضب الآخرين، ويدعوه الأغنياء إلى بيوتهم لاطلاعه على التوراة وعدم اندفاعه إلى الأمام، ويجلس حول موائدهم، ويشرب خمرا من التي تستخرج من عنب تلال البلاد، وما كان ليهرب من الأعياد ولا من مجالس النساء، وما كان ليقصر في مداعبة المدعوين.
ويفضل يسوع مجالسة أقرانه الفقراء على حافة الطريق أو على درج الكنيس، فيصغي إلى شكاواهم، ويصاحب يسوع المشردين مع تجنب الأتقياء العابدين إياهم، وما كان ليخشى البغايا، وما كان ليبتعد عن الجلوس حول موائد العشارين مع ازدراء العالمين إياهم، وما كان اليهود بالحقيقة ليعفوا عن أي واحد منهم يجمع الضرائب والمكوس التي يفرضها الأمير، فيدفعها الأمير جزية إلى رومة، فما يبقى للعشارين من الثروات حري بالاحتقار لذلك، والمال العام مال مسروق لذلك، وليس على اليهودي التقي أن يدفع شيئا إلى غير الهيكل لذلك.
وما الذي يدفع ذلك النجار الفتى إلى محادثة تلك الطغمة؟ يعلم كل واحد في الناصرة أنه لا مغنم له من وراء ذلك، فعليه أن يعرف أن مصاحبة العشارين والآثمين مما يشينه، والقوم لم ينشبوا، مع ذلك، أن أدركوا أن بحث هؤلاء الضلال عنه هو لعدم شتمه لهم، ولاستماعه إليهم عندما يقصون عليه سبب سلوكهم سبيل المال والغرام، وكيف أنهم لم يتركوا بابا إلا طرقوه قبل ذلك، ويظهر أن في الفتى استعدادا عجيبا لاكتشاف بقية الشرف في أرذل الآثمين، من غير أن يدرك هؤلاء ذلك، فإذا ما حضر فتح المردة أفئدتهم، ولانت قلوب الأشرار القاسية.
وأبناء الجليل أولئك متقلبو المزاج، فطورا تراهم من الشجعان المخلصين المتحمسين لمثل عال، وطورا تراهم من المنحطين النادبين القانطين لغير سبب، وليس من صفاتهم الاعتماد على النفس. ومما زادهم عدم ثبات اتصالهم بالمشركين من جيرانهم بصلة النسب، بعد أن انتحل هؤلاء ديانة اليهود، ولا بلد كالجليل يشتمل على ذوي الحماقة والخبل، وليس يسوع ممن يخاف الممسوسين؛ فهو يرى الشيطان الذي يتخبطهم فلم يحجم عن زيارتهم مع ابتعاد الآخرين عنهم مذعورين.
وإذا وجد من يمقتهم يسوع، أحيانا، فهم الكهنة والفريسيون الذين يجهرون بالزهد، ويبدون الطهر على ملأ من الناس، وكلما تبحر يسوع في التوراة وجد خلافا بين النص والروح، والمثل الفريسي يقول: «إذا اجتمع اثنان من غير أن يتباحثا في الشريعة؛ كان مجلسهما مجلس تجديف وإلحاد.» ومن أقوال الفريسيين: «ويل لمن يسير مفكرا في الشريعة فيقف ليقول: ما أجمل هذه الشجرة! ما أحسن هذا الحقل الذي أثير حديثا! فهو بهذا يعرض حياته للهلاك، وويل لمن يفسر الشريعة بما يخالف ما نص عليه الكهنة! فهو بهذا يخسر نصيبه في الحياة الآخرة!» ماذا؟ بهذا يحظر علينا الإعجاب بنخلة إذن؟ ماذا؟ بهذا يحرم علينا أن ننعم النظر في الأرض حينما نفكر في الرب إذن؟ ماذا؟ بهذا يفرض علينا أن نستعين بالكتبة حينما نرغب في الاطلاع على معنى الزبور إذن؟
ويسوع لا يقل عن الكهنة علما بالعادات والوصايا وحقوق الكهنوت، وأحكام النكاح والشريعة والصدقات وتاريخ إسرائيل والأنبياء، ويسوع في قرارة نفسه كاهن أيضا مع زهده عن الاشتهار بذلك، ولم يمشي أولئك في الأسواق ويبثون الأرصاد والعيون ليراقبوا نظافة الفقراء، وهم إذا ما سئلوا عن فك رقاب عبيدهم عند انقضاء سبع سنوات قالوا: «سننتظر حلول السنة الخامسة!» والأغنياء يمتصون الفقراء غير تاركين لهم ما يسد الرمق خلافا لما تأمر به الشريعة؟ وهم حين يطالبون الفقراء ببواكير الفواكه السبع في سبيل الهيكل يأخذون منهم صوفا وحطبا وغنما ضريبة للهيكل أيضا، فيزيدونهم فقرا، ولا يزيدونهم تقوى.
ويرى يسوع أن الأحرى بالفقير أن يجلس على طرف الطريق منتظرا من يستأجره ليومه، فالرب لا يدعه يموت جوعا، فلم يفكر في غده إذن؟ ومن المناسب أن تذهب أمه وإخوته معه إلى الجبل للاغتذاء باللبن والتين ما اشتغل أهل المدينة هنا بأنفسهم، وما أحبوا أن يرى الناس ما يصنعون من خير، وما التمعت عيونهم؛ حينما يقرءون التوراة أكثر من التماعها حينما ينظرون إلى نجوم السماء.
بمثل هذا يحدث يسوع صاحبين أو ثلاثة أصحاب له فينصتون له، فينقلون ما سمعوه إلى أناس آخرين، ويأتي إليه بعض الناس في مساء الغد فيذكرونه بذلك الحديث، وهو إذ يجلس على عتبة البيت الصغير؛ حيث تقوم أمه بشئون المنزل، يستمع إلى نداء ضميره، ويسهل عليه اتخاذ التوراة نقطة ارتكاز بعد أن عرف ما في قديم الكتب وحديثها. ومن المحتمل أن تكلم يسوع في ذلك المساء عن الحبر الفاضل هلل الذي مات أيام كان يسوع صبيا، فذكر قوله: «لا تعامل غيرك بما لا تحب أن يعاملوك به.» وذكر أن هذا مما ورد في كتاب طوبيا مع ذلك، واليوم ألقيت مقاليد مجمع السنهدريم القضائي بأورشليم إلى تلاميذ شمعي العابسين الزاهدين القائلين: «أحرى بالإنسان ألا يكون قد ولد.» أفلا ترى الحنث
7
في هذا ما أنعم علينا بما نتأمل به الشمس والجبال والحملان والأولاد والأزهار؟
وفي الغد ينضم مستمعان إلى الآخرين، فيجلس هؤلاء جميعهم حوله فينصتون له، كما كانوا ينصتون لرجل من الشعب، فيلتهب حماسة التهاب الأنبياء، فيختار من كلامهم ما يلائم أفكاره، فيذكر قول إشعياء على لسان الرب: «لماذا لي كثرة ذبائحكم؟ ... اتخمت من محرقات كباش وشحم مسمنات ... البخور هو مكرهة لي ... أيديكم مملوءة دما ... تعلموا فعل الخير، اطلبوا الحق!» ثم يردد يسوع قول الرب في سفر هوشع: «إني أريد رحمة لا ذبيحة.» فيشعر بأن هذا شعاره.
وفي مساء اليوم الرابع، لم يجده مستمعوه؛ فقد قصد الجبل وحده؛ ليلقي السكينة إلى قلبه ما تأجج ضد الكهنة، وما خشي أن يزيد سعيرا، ففي الجبل ما يهدأ به فؤاده، وفي غاب الجبل يسمع عزيفا، وفي المساء ينشر الزنبق البري رائحة ذكية، وفي البعد ترى مدينة شكيم «نابلس» حيث مقر الأنبياء فيما مضى.
هنالك ترى يسوع مستلقيا فوق الكلأ، وتراه ناظرا إلى النجوم، وترى قلبه مفعما بحب الأب. •••
علم ذلك النجار الشاب المشترع قيام مذهب بلا ضوضاء بين الأحزاب المتناجزة في جميع البلاد، ولم يكن من مقاصد أتباع هذا المذهب المعروف بالطريقة الآزية السعي في إصلاح البلد، أو الكنيس، أو إقناع إنسان، بل العيش الهانئ فيما بينهم فقراء أطهارا. ويبلغ عدد هؤلاء الآزيين أربعة آلاف رجل وامرأة، وظاهرتهم أنهم من الشيوعيين الأتقياء فلا يكافحون الغنى والفريسيين، ولا يغضبون إنسانا؛ وإنما يعملون بمبادئ محبة الأقربين وشيوع الأموال التي بشر بها الأنبياء، وهم ليسوا من الكهنة مع ذلك؛ وإنما هم من العمال والفلاحين والرعاة والنحالين، وما كانوا ليحرموا على أنفسهم غير المهن الرجسة، فلا يكون أحدهم تاجرا أو ملاحا أو حدادا.
يسوع يشفي.
وعلى من يصبح آزيا أن يجعل ما عنده من عروض ونقود ملك زمرته، وعلى من يكسب أكثر مما يحتاج إليه أن يسلم الزيادة إلى هذه الزمرة، فينال كل واحد من أفرادها ما يعوزه مبادلة من حيث النتيجة. ولكل واحد من هؤلاء أن يتصرف فيما يملك كما يشاء في سبيل الفقراء، لا في سبيل الأقرباء، ولتلك الزمرة وحدها أن تقرر كيفية استعمال المال المشترك، والكلمة الأخيرة في مباحثاتها للسن والأكثرية، وهي التي تقوم على مبدأ «إن ما أملك وما تملك هما لك».
قامت تلك الزمر في حدود الصحراء، ثم اقتربت خطوة خطوة من المراكز الزاخرة بالسكان، وهي تعيش في الأرياف أو في المدن الصغيرة تبعا لما تقتضيه الأعمال اليومية المباحة، فإذا ما ساح أناس منها في أية ناحية من بلاد إسرائيل وجدوا إخوانا من أبناء طريقتهم يقومون بقضاء احتياجاتهم، ما ابتعدوا عن مسائل السياسة والدولة والهيكل التي تفرق بين بني إسرائيل وما بدوا يهود.
أولئك من المؤمنين وإن كانوا يأتون غير أمر لا تقول به الشريعة، فهم يقيمون، بعد أن يصبحوا، صلاة روحية مقدار ساعة، ثم يقدسون لمصدر النور الشمس عند طلوعها، وهم لا يذكرون منبع الحكمة الرب في الظلام ما تجلى في النهار، وهم يغتسلون وقت الظهر ويلبسون ثيابا بيضا، ثم يأكلون معا، فلا يؤذن لاثنين منهم في الكلام في وقت واحد، وهم لا يتناولون لحما ولا خمرا، مغتذين بالخبز والبقول واللبن والعسل والفواكه، وهم يبالون بالطهارة والوضوء أكثر من مبالاتهم بالمظاهر، وهم لا يقربون القرابين ولا يحلفون أيمانا، وهم يصومون كثيرا ويراعون يوم السبت فلا يمسون فيه آنية منزلية، ولا يسدون فيه خلة، وهم يدرسون أمور النبات والحجارة بحسب ما ورد في قديم النصوص، فيستعينون بها على السحر وقراءة العزائم، وتفسير الأحلام، وكشف المستقبل، ويتمتع أولئك بثقة الشعب، والشعب يستشيرهم في كثير من المسائل لتجنبهم جر المغانم، وتجردهم من المطامع.
وليس النكاح حراما عليهم، والكثيرون منهم عزب مع ذلك، فيقومون بتهذيب أبناء الآخرين، وتقسم زمرتهم إلى أربع طبقات، ولا يبوحون إلى إخوانهم وأخواتهم بأسرار الطريقة إلا بالتدريج، محلفين إياهم بيمينهم الوحيدة المباحة على كتم أسرار مذهبهم، وكتم أسماء إخوانهم، فمن يحنث منهم أو ينقض عهدا؛ يطرد من الزمرة ويشرد، فيهلك معذب الضمير، وهو لا يسمح له بالعودة إلى إخوانه إلا في آخر عمره رحمة به، ويسمو أتباع تلك الطريقة فوق المادة بابتعادهم عن الحرب والغضب والعنف والتملك، وتحليهم بحب أعدائهم، وبتواضعهم، ورأفتهم، وقلة طقوسهم، والروح عندهم لا تموت، والروح عندهم تحلق في النور بعد حياة مثالية، والروح عندهم تستقر تحت الأرض بعالم من العذاب والظلام بعد حياة شر وأذى.
ظهرت تلك الطريقة في شواطئ البحر الميت، وانتشرت في بلاد الجليل بهدوء ومن غير مبشرين، فاستوقف أمرها نظر يسوع لمشابهتها أفكاره في مجموعها. أجل، إن يسوع لم ينتسب إليها، ومن الجميل حقا أن يصلي أتباعها للشمس وإن خالفوا أحكام الشريعة، وكان عملهم ذلك من الشرك، ومن الجميل حقا أن زهدوا في المال والسلاح، ومن الجميل حقا أن قالوا بعدم تقديم القرابين، ولكن لماذا يصومون أكثر مما تأمر به الشريعة؟ ولماذا يمتنعون من تناول الخمر ويحرمون الولائم والغناء؟ ولماذا يعتزلون ويبتعدون أسرارا جديدة؟ ولماذا يجتنبون الناس إذا كانوا يحبونهم؟ من أجل ذلك لن يكون يسوع آزيا وإن كانت آراؤه الخاصة قريبة من آراء أولئك.
ولم يعتم الناس أن شاع بينهم خبر وجود رجل في جوار الصحراء وعلى ضفاف نهر الأردن يأمر بالتوبة، ويستبدل بالختان العماد بالماء تطهيرا للروح والبدن كما يصنع الآزيون، وذلك الرجل ذو شعر أشعث، ولحية طويلة، وثوب وبري، ونطاق جلدي، وقد نهكته الصلاة، وألهبه الإيمان، فينذر القوم بصوت مرهوب، وقد قيل: إنه إيليا الذي سكن كهفا في جبل الكرمل، فكان يخرج منه بين حين وحين لينصب ملوكا ويخلع آخرين، والذي لم يمت فلا بد من ظهوره ذات يوم لينقذ إسرائيل، كما أنبأ به الأنبياء، فكان هذا الذي هو آية الهول والانتقام.
اسم ذلك الرجل يوحنا، ويوحنا رباه أبواه تربية زهد ونسك منذ نعومة أظفاره إيفاء بنذر أوجباه على نفسيهما، ويوحنا تعود عيش البرية التي ولد في جوارها، وتبصر سلسلة الجبال الجرد في تلك البقعة متاخمة للأرياف المروية الخضر، وتبصر النهر في تلك البقعة قريبا من البرية ساعة واحدة في الغالب، وخطوة واحدة في بعض الأحيان، والبرية هنالك هي غرفة نائية من بيت كبير كما وصفها بعضهم. وفي أورشليم حمل يوحنا على تعلم الشريعة ليكون كاهنا كأبيه، ثم فر من المدرسة لما رآه من كثرة ما يجب عليه أن يتعلمه أو قلته، فهجر تلك المدينة وكهانها وسكانها عائذا بالبرية معتزلا فيها.
ومن المحتمل أن كان يوحنا ذا صلة بالآزيين، وإن لم ينتسب إلى طريقتهم؛ فقد قضى سنوات لا ريب في الصيام والفقر، ولكنه لم يشاطرهم عملا، ولم يتبع لهم نظاما، وقد انقضت سنوات قبل أن يعرف يوحنا نفسه ويعلم رسالته، وما في المسائل التي تساور يوحنا من عنف، أو ما فيه من شوق إلى الحياة الروحية كان يحفزه إلى الزهد، وما فيه من حرارة التوبة، وحب دعوة الناس والتأثير فيهم كان يدفعه إلى الخروج من العزلة. وهنالك؛ حيث خسف قسم من البرية في البحر الميت على حدود جزيرة العرب، وحيث تبحث الضواري عن الفرائس عبثا، وحيث اضطر الشجاع الثائر يوحنا إلى طلب الملجأ بين الصخور وفي المغاور، كان طعام يوحنا هذا من الجراد المحمس في النار على الطريقة الشرقية، ومن قليل عسل يجتنيه النحل البري من نادر الأزهار وآخرها، وهنالك عاش يوحنا عاطلا من سلاح الصيد، راغبا عن الصيد، مجردا من وسائل الدفاع، مفتقرا إلى الطعام، مفكرا في غضب الرب وعذابه، أفلم تزدهر سدوم في تلك البقعة فخربها الرب، فصرت لا ترى فيها غير قليل نبات؟ أفلا يصيب أريحا، البعيدة بضع ساعات من هنا، مثل ما أصاب سدوم؟
لقد برح الصوم والتقشف بيوحنا فدعا ربه أن ينير له السبيل الذي يسلكه، فلم يسمع نداء مثل نداء الرب: «قم أيها النبي ودع الشعب يرى وجهك!» ولكنه سمع صوتا في أعماق نفسه يدعوه إلى تبليغ الآخرين دنو أمر جلل، محذرا إياهم من الحياة الدنيا التي هي متاع الغرور، آلآخرون؟ ومن هم هؤلاء الآخرون؟ أجميع شعبه؟ ومن يعلم؟ ومن يدري أن إيليا قد بعث في شخصه؟ تقهقر يوحنا مذعورا مما استحوذ عليه، ثم تجلد حينما تذكر قول إشعياء: «صوت صارخ في البرية! أعدوا طريق الرب! قوموا في القفر سبيلا لإلهنا!»
قضى يوحنا زمنا مضطرب النفس مذبذبا بين الشك واليقين، وبرز معلنا سبب هجره لأورشليم واعتزاله الناس، وعاد إلى الأردن حيث تهيمن الجبال الجرد على البحر الميت، وحيث النهر المنهوك يجمع قواه الأخيرة، فيجيش ويدور ويتلوى، وحيث اختفى داود من شاول والتجأ الملك صدقيا فرارا من البابليين، وحيث السهول الرملية التي تنبت ما يقيت قليلا من القطاع، ويتوجه يوحنا إلى أول ما يصادفه في طريقه من البيوت، وهل يولي الرعاة فرارا من هذا المخلوق الوحشي أو يطرحونه ليقيدوه بالسلاسل؟ كلا، فأمور مثل هذه لا تقع في بلاد اليهودية التي يظهر فيها كل سنة قديسون غريبو الأطوار، والتي لم تفتأ ترى أناسا ينتحلون صفات الأنبياء بأزيائهم وأوضاعهم، والتي من طبيعتها التمرد على كل نظام وقيد، والتي يبدو كل عجيب أمرا محتملا فيها.
وبضعة رعاة هم أول من وجه يوحنا دعوته إليهم، ثم أخذوه إلى أقرب واحة لينظر إليه جميع من في القرية ويستمعوا له، ولسرعان ما التف حول هذا الغريب الشبه العاري أكثر من مائة رجل ليسمعوا قوله: «توبوا؛ لأنه قد اقترب ملكوت السماوات!» فيمتثلوا أمره فيتعمدوا بماء الأردن.
لا تبعد أورشليم من هنالك أكثر من عشرة أميال، وأورشليم يقظة ساخطة منتظرة حدوث أمر عظيم على الدوام، أفيكون ذلك الرجل الذي ذاع خبره فيها دجالا، وهنالك ما يحمل على الظن بأنه إيليا؟ يقال: إنه يشابه إيليا بقده المتوعد، وصوته المحرض، وبحفائه وثوبه المصنوع من وبر الجمل، وأخبر الكهنة والفريسيون منذ عدة سنوات بقرب الزمن الذي يظهر فيه المنقذ المنتظر، أفيكون ذلك الرجل ككل آزي يرى محو الذنوب بماء المعمودية والحالة ما ترى؟ ألا إن قلب أورشليم أخذ يخفق أملا عندما ذاع فيها نبأ وصول يوحنا إلى الأردن ...
غادر أورشليم بضعة أناس ليروا النبي الجديد، ولم يلبث عدد قاصديه أن زاد فيتوجه إليه الأغنياء من هؤلاء؛ حبا للاستطلاع، ويتوجه إليه الفقراء منهم بدافع الرجاء، ولم يلبث ذكر ذلك الذي عرف بالمعمدان أن عم البلاد، فيتقاطر الناس إلى مصب الأردن عن شك ويقين، وعن يأس وأمل ليروه.
وهكذا يظهر في بلاد إسرائيل نبي بعد فترة مائة سنة. •••
يخالج قلب يسوع النجار عدة مسائل؛ فقد شاعت أنباء المعمدان في عقر الناصرة، فعلم يسوع الكثير منها، وبيان الأمر: أن أصحابا له ذهبوا إلى عبر الأردن فعادوا حاملين لأغرب الأخبار، فسألهم بشوق عن أوصاف المعمدان، وعن صوته وكلامه، وعن أثر رسالته، فأخبروه أنهم سألوا المعمدان عما يفعلون، فكان جوابه: «من له ثوبان فليعط من ليس له، ومن له طعام فليفعل هكذا.» وأن المعمدان لا يرد عشارا يأتي ليتعمد، وأن العشارين سألوه عما يعملون فقال لهم: «لا تستوفوا أكثر مما فرض لكم.» وأنه قال للجنود حينما سألوه عما يصنعون: «لا تظلموا أحدا، ولا تشوا بأحد، واكتفوا بعلائفكم.»
وكلما استمع يسوع لهم خفق فؤاده فيقول: أآزي فواعظ؟ أمعتزل فرسول؟ أصامت فمتكلم؟ أليست هذه هي المرة الأولى التي يسمع يسوع فيها خبر ظهور رجل يجهر بمثل ما في قرارة نفسه، فلم يبح به إلا إلى أصحابه القليلين فقط؟ أليست هذه هي المرة الأولى التي يهاجم بها رجل علنا رئاء الفريسيين، وتقديم القرابين والطقوس والغنى، داعيا إلى تقسيم الأموال بين الجميع؟ أليست هذه هي آراء يسوع التي يتعهدها النبي الجديد بالماء على ضفاف الأردن؟ يا له من رسول هجر البادية والعزلة ليعود إلى من يفكر في سعادتهم من الناس! يا له من مصلح جاوز دور التأمل وعدل عن صوم الآزيين وحياتهم الضيقة ليكون لسان الخلق الناطق! قلب يسوع الأمور فسأل في نفسه: «لم لا تنهض؟ لم لا تجهر أمام الملأ بأفكارك في الإيمان الصحيح وفي الورع الكاذب؟» فإذا كان يوحنا قد هجر البرية ليدعو القوم إلى الحق؛ فلماذا يلتزم يسوع جانب الصمت أكثر مما صنع إذن؟
نبه مثال المعمدان من يسوع غافلا، وأيقظ فيه روح المسئولية. ومن المحتمل أن يكون قد أثار حرصه فذهب مع قافلة الحجاج التالية إلى الأردن.
انتهى يسوع بعد سفر دام ثلاثة أيام إلى أخلاط من الرجال والنساء منتظرة التعميد في الوادي الضيق بين جبال مهيمنة على الضفة ذات العوسج
8
والقصب والبردي، وتمتد حول ذلك الوادي أخاقيق
9
جرد، ومرتفعات ملس، وتأتي ريح الجنوب إلى ذلك المكان بهواء البحر الميت المالح، فيبدو موحشا قاسيا، فإليه يهرع مئات الناس بخيولهم وحميرهم ومواعزهم ذوات الألبان الصالحة لتغذية أطفالهم، وجميع أولئك من الفقراء تقريبا، وبعضهم من الهرمى، والكثيرون منهم مرضى، ولا يقرأ على وجه أي واحد منهم معنى السعادة، ولا يرى فيهم سوى الحنين، ومنهم القاعدون، ومنهم الواقفون، وكلهم مصلون، ويبصر يسوع يوحنا المعمدان فوق شفير النهر.
برز رجل لابس ثوبا مزقه شوك العوسج، طويل، هزيل، أشعث، لحياني، غضوب، مشابه لإشعياء إذا ما تكلم، فيختم كل موعظة بقوله : «توبوا؛ لأنه قد اقترب ملكوت السماوات!» والجميع قريبون منه، ويحف به بعضهم فيلوح أنهم تلاميذه، وهو بعد أن يفرغ من كل موعظة يجبذ واحدا من الحضور لبضع خطوات، فيدخل معه مكانا من النهر قريب القعر، فيصب عليه بدلو قديم ماء أسمر أصفر من الأردن.
وإن الأمر لكذلك إذ يسمع للجمع ضوضاء، فتتوجه أبصار الجميع إلى الشرق لمشاهدة أناس ينزلون إلى الوادي من طريق أورشليم، وكان يسوع أول من عرف أمر أعدائه الخفيين، هؤلاء الذين لم يزد عددهم عن العشرة إلا قليلا، هؤلاء الذين هم من الكهنة واللاويين والفريسيين، فجاءوا للبحث في شأن ذلك الرجل الذي يأتي بالمعجزات، ويبدو التناقض بينهم وبين أولئك الفقراء؛ لثيابهم الحسنة وأوضاعهم مع تركهم أردية الأعياد في منازلهم بأورشليم، ويبدون فاترين؛ لأنهم لم يأتوا إلا ليروا ماذا يحدث في ذلك المكان الذي يبعد من أورشليم يوما واحدا، وفي أورشليم عقد مجلس، وعينت لجنة لترى وتسمع وتسأل ما قضت المصلحة بألا تقع تلك التجمعات طليقة، ومما ورد في التقارير أن المعمدان يحرض على نظام التملك، ومما وقع أن بيلاطس نفسه علم ذلك.
فسح الجمع للقادمين المجال احتراما أو اتباعا للعادة، فصار القادمون أمام يوحنا المعمدان، فتقابلت عيونهم الفاترة وعيناه الملتهبتان، وكان في كلامه ما يستفزهم، ما انطوى كل جواب منه على معنى التحدي، وما انقلب الوضع إلى ظهوره بمظهر المتهم، وظهورهم بمظهر المتهمين، وظهور الحجيج بمظهر الحضور.
سألوه: «من أنت؟»
فأجاب معترفا: «لست أنا المسيح.» - «إذن ماذا؟ إيليا أنت؟» - «لست أنا.» - «آلنبي أنت؟» - «لا.» - «من أنت لنعطي جوابا للذين أرسلونا؟ ماذا تقول عن نفسك؟»
كان صمت وتوتر مع انتظار، وكان شعور من يسوع بأن المعمدان سينطق بكلام كالصاعقة، وكان جواب المعمدان الشديد: «أنا صوت صارخ في البرية، قوموا طريق الرب كما قال إشعياء النبي.»
فسألوه: «فما بالك تعمد إن كنت لست المسيح ولا إيليا ولا النبي؟»
فأجابهم: «أنا أعمدكم بماء، ولكن يأتي من هو أقوى مني، من لست أهلا لأن أحل سيور حذائه، هو سيعمدكم بالنار.»
ارتعش الحاضرون وتنفسوا الصعداء؛ لأن يوحنا تفلت من الشرك الذي نصبه الكهنة له بأسئلتهم، وساور القلق قلوب الحاضرين مع ذلك؛ لأنه تكلم عن المسيح وأعلن أنه ليس بالمسيح، وتبادل الفريسيون النظرات مضطربين، ورأوا أنهم لا ينقضون دفاعه بمثل ذلك، فسأله أحدهم عن السبب في عدم ذهابه إلى السامريين أو غيرهم من عبدة الأصنام ما احتاج هؤلاء إلى التوبة، فقال لهم بغلظة: «يا أولاد الأفاعي! من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي؟ فاصنعوا أثمارا تليق بالتوبة، ولا تبتدئوا بالقول في أنفسكم: لنا إبراهيم أبا؛ لأني أقول لكم: إن الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولادا لإبراهيم. والآن قد وضعت الفأس على أصل الشجرة، فكل شجرة لا تصنع ثمرا جيدا تقطع وتلقى في النار.»
قال بعض اللاويين والكهنة لبعض: لقد علمنا ما فيه الكفاية. ثم عادوا، ومن المحتمل أن ساور الخوف غير واحد من هؤلاء فتدبر وهو في الطريق قول إشعياء: «من أجل ذلك حمي غضب الرب على شعبه، ومد يده عليه وضربه حتى ارتعدت الجبال.» ويسود الصمت ذلك الجمع عبر النهر، ولم يسطع الجمع أن يهتف كما يود ابتهاجا بيوحنا المعمدان، الذي أنذر مهددا أولئك الأقوياء والأغنياء، وأحاط به من غير أن يبدر منه صوت.
ويسوع وحده هو الذي ظل واقفا بعيدا من الجمع، ويسوع لم يسمع اللعنة الأخيرة التي صبها المعمدان، فلم يزل قول المعمدان: «يأتي من هو أقوى مني» يرن في أذنيه ويخالج فؤاده، فكان مثل يسوع وقتئذ كمثل النائم الذي يواثبه الفكر فيتلاشى ليعود إليه وليتلاشى مرة أخرى، فكان كلام المعمدان يصعد في قلب يسوع ويهبط ليزول منه عند صحوه من غفوه!
وفي الغد جاءت نوبة يسوع ليعمد، ومما لا ريب فيه أن ذكر يسوع ليوحنا اسمه وبلده وحرفته وما إلى ذلك، ومما لا ريب فيه أنه لم يدر في خلد يسوع شيء يعترف به حينما جاء دور الاعتراف؛ فهو وإن كان يستغفر ويدعو الرب كبقية الناس؛ حبا للرب وشعورا بالذنب، لم يكن لديه إثم معين يذكره، وهو لو عد حقده على الكهنة ذنبا فاعترف به ليوحنا؛ لتضمن ذلك عد يوحنا نفسه مذنبا أيضا. من أجل هذا آثر يسوع السكوت على الكلام ما استطاع، مدققا عن كثب في يوحنا المتعصب الشديد الذي يبدو عليه جلال النبوة من غير أن ينتحل لقب النبي، والذي يدعو إلى الثورة على المال والسلطان من غير أن يغادر البرية، فهذا هو الوضع الذي كان عليه يسوع تجاه المعمدان.
ولم يكن تدقيق يوحنا القوي الفراسة في يسوع حينما طلب منه هذا باتزان أن يعمده أقل من ذلك، فلاحظ يوحنا في يسوع مع فقره وهدوئه من أوضاع الملوك ما لم يجد له تفسيرا، فرآه ذا نظر ثاقب، وصوت عذب، وطراز تحية بعيدة من الذل، ورأى فيه عظيم قيمة مع محاولته إخفاءها؛ فمن أين اتفق لهذا النجار ذلك؟ أفيعرف هذا الناصري حقيقة أمره؟ أخفى كل منهما عن صاحبه ما دار في خلده ودخلا النهر.
وقف كل من الصاحبين العاريين بجانب الآخر في الأردن، ويترجح عمر كل واحد منهما بين الثلاثين والأربعين سنة، ويغمرهما الماء الفاتر الثقيل الأصفر إلى سرتيهما، ويبدو سيد البرية يوحنا طويلا ذاويا، بادي العظام، أشعث الشعر واللحية، ناسكا متعصبا، ويبدو صديق الحدائق يسوع أهيف متناسبا مزرفن
10
الشعر شاعرا خياليا، أفليس من طبيعة الأمور أن يحني ألطف الرجلين رأسه، وأن يضع أخشنهما يده عليه ليصب الماء على بدنه؟ ويفكر يوحنا في عمله، ويفكر يسوع في أبيه.
ويخرج يسوع من الماء مطهرا من ذنوب لم يقترفها منقبض الصدر أكثر من قبل؛ لما يراه من عدم انطباق سبب العماد عليه، حائرا أكثر منه مغاثا، مرتبكا من تعاقب صور الماء والمعمدان والجمهور في ذهنه، فيتنحى قليلا ليجمع حواسه، فيتكئ على العوسج ويغمض عينيه، وفيما هو كذلك إذ يسطع نور أمامه فيرى رؤيا ويسمع صوتا: يرى أبواب السماء فتحت، وحمامة منها نزلت، ويسمع من السماء صوتا قائلا: «أنت ابني الحبيب الذي به سررت.»
هنالك ارتعد يسوع وألقى السمع فقال: هذا هو صوت أبي، ويسوع كان قد سمع هذا الصوت غير مرة في خرير السواقي، ونور الكواكب، وكلام الأولاد، فلم يعد ذلك، آنئذ، حد الشعور والهمس بغير نطق، وأما الآن فيسمعه برفق ووضوح مخاطبا إياه بلغته، وداعيا إياه بابنه.
ذعر يسوع ففر من الجمهور ومن المعمدان إلى البرية. •••
يخرج يسوع من ذهوله بعد يوم من دخوله البرية، فيتذكر بالتدريج ما حدث مع دوام دهشه، وتزيد نفس يسوع اضطرابا في تلك العزلة القاسية التي اختارها لنفسه، وهو الذي لم ير البرية فيما مضى، فأخذ يضغن عليها الآن. والبرية عاطلة مما تعود أن يرى فيه، منذ طفولته، وجه الرب، من المياه والأزهار والحيوان والإنسان وضروب الأعمال، والبرية مشتملة على الحصى والرمال المتفتتة المتموجة تلالا، فلا يقدر على الصلاة فيها.
ناداه الرب، فهل كان ذلك بالأمس فقط؟ دوى في أعماق قلبه صوت غريب بعيد داعيا إياه بالابن، وحدث هذا حينما غادر ماء العماد منقبض الصدر، وحدث هذا حينما رأى في المنام حمامة تنزل من السماء فتطير إليه، والآن في البرية يسأل نفسه عن معنى ذلك، فلم يجد فيما حوله حلا لذلك وبلدته وحرفته بعيدتان من هنالك، والآن يخرج من طور حياته الواضحة الهادئة التي تعودها معتزلا ليناضل الروح التي نادته عازما، على ألا يغادر البرية قبل ظهور فجر الحقيقة.
وهل كان ذلك نداء أبيه الرباني؟ أما كان ذلك النداء يبدو أوضح مما حدث لو صدر عن الرب مثل ما اتفق للعظماء من قدماء الأنبياء؟ وإذا كان ذلك النداء قد أتى من السماء لشد عزيمته، فما هو سر مطابقته لأفكاره الخفية؟ هو قد قابل في أثناء وجوده عبر الأردن بين نفسه وبين الذي عمده وعمد الآخرين، فسأل: هل يرضي الرب منظر المعمدان وصوته؟ وهو قد وضع نفسه في مكان يوحنا المعمدان، فسأل: كيف يقضي شعائر المعمودية بذاته على وجه آخر؟ ألم يساوره شيء من الغيرة حينما رأى الجمهور ملتفا حول ذلك الغيور الهزيل الذي لا يفوقه فقها بالإيمان، ألم يظهر هلوعا
11
حين خروجه من النهر فيسأل: لماذا سلم أمره طوعا إلى آخر لأول مرة في حياته؟ ألم يسمعه الرب العالم بما يخفي صدره؟ فلماذا اختار الرب ذلك الوقت الذي بدا فيه أضعف مما في أي زمن، ليثبت قدميه، مع أنه لم يسبق أن كلمه بغير واسطة؟
كلا، لا بد من وجود معنى لذلك أسمى من ذلك، لا بد من أن ينطوي ذلك النداء على معنى الرسالة، أفيعمل كما عمل المعمدان؟ أفيدعو الناس إلى التوبة ويسيح ويعلم؟ أفيهجر حرفته وبلدته وهناءته وقرابته وقصيدته ليدخل دور العمل والحركة؟ أفيقتدي بيوحنا المعمدان، وبيوحنا المعمدان وحده في كل شيء؟ أفلم يحل يوحنا المعمدان طريقة جديدة محل طريقة قديمة؟ ولم الزهد والبرية والصيام وإماتة النفس؟ ألا تقرب هذه الأمور من الضحايا التي ردها المعمدان؟ ولم الحديث عن العذاب والبلايا بدلا من الحديث عن حلم الأب الرب؟ وما نفع الوعيد في تخويف الناس وحملهم على الركوع؟ أمن شأن الوعيد أن يقوي اليقين؟ ألا يرضي الرب إنهاض الخلق عبر النهر أكثر من خفضهم؟ أليس الأفضل أن يقصد الناس في ديارهم وأماكن أعمالهم، وأن يجمعوا في روضة أو على سفح جبل بالقرب من قراهم فيخاطبوا بالقول اللين عن مشاعر أبينا الرب ورغائبه؟
ومع ذلك: ما أعظم يوحنا! ما أشبه عينيه بالبرق عند نظره إلى الكهنة! ما أروع سخريته بهم حينما ذكر أولاد إبراهيم قاصدا أن مؤمنا بعد شرك قد يكون خيرا منهم! لم يحرض يوحنا على قتال الرومان ولم يدع إلى الثورة، بل كان يوصي بالشيوع والفقر والتواضع، وما كان يوحنا ليرضى بأن يدعى نبيا.
قال يوحنا: «يأتي من هو أقوى مني!» أهذا هو يسوع؟ أمن أجل ذلك سمع يسوع نداء أبيه آنئذ؟ ماذا؟ أيكون يسوع خليفة يوحنا؟ أيحل محله؟ حاول يسوع أن يرد بشدة هذا الوسواس الحافز إلى خيانة يوحنا الذي وضع يديه الكريمتين على رأسه منذ هنيهة.
وإن يسوع لفي هذا الغم إذ رأى أن يصوم كما صنع يوحنا قبله في البرية، وبذلك يكون يسوع قد أمات نفسه أكثر من يوم للمرة الأولى في حياته ما بعدت روحه من الاضطراب، وما كان في غنى عن التجربة والابتلاء، وما عطل من الدافع إليهما فيما مضى، وكلما مضى يوم على يسوع الناسك الجائع بعد ذلك راق قلبه، ودق عصبه، ورق فكره.
ويترجح يسوع بين الحماسة والهزال، وتتعاقب عليه صور الحياة التي لم يعرفها فيتأملها قبل، ويضعف الجوع جسمه فتتجاذبه التجارب فتكاد تفتنه.
ورأي يسوع في أنه الصفي المختار كان يحثه على مطالبة نفسه بما لا عهد له به، فينمو بذلك شعوره بقدر نفسه، فيسمع في باطنه صوتا يسأله عن السبب في عدم تحويله الحجارة إلى خبز كما بشر به يوحنا، وينتبه يسوع فيحجم عن التجربة عند سماعه: «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من الله.» ويصحو يسوع من غفوته، فيعلم أن ذلك المجرب هو إبليس الهائج في المجانين؛ فيحصن يسوع نفسه من جديد.
ويرى يسوع في المنام أنه نقل إلى جناح الهيكل فوق جميع الشعب، فيسمع صوتا كالذي أخذ بمجامع قلبه، حينما كان في حضرة المعمدان يقول له: «إن كنت ابن الله فاطرح نفسك إلى أسفل؛ لأنه مكتوب أنه يوصي ملائكته بك، فعلى أياديهم يحملونك لكيلا تصدم بحجر رجلك.» ويلمع السطح الذهبي تحت قدميه، وتسطع أورشليم التي لم يرها بعد، فيتمنى أن يكون نبيا فيها، ولو طرفة عين، ولكنه يرى المخرج بصوت قلبه القائل: «مكتوب أيضا: لا تجرب الرب إلهك!»
تزاحمت على يسوع التجارب، فغدا في حالة يرثى لها، فأن فحن شوقا إلى وطنه، فأين راحة البال التي كان يتمتع بها أيام عيشه في كنف أبيه؛ حيث لا جحود ولا طمع، وهل يكافح؟ عاودته حمى الخيال، وهو الذي امتحن غير مرة في البرية؛ حيث اعتزل وجاع وارتجف؛ فقد رأى في المنام في هذه المرة أنه نقل إلى ذروة جبل عال فرأى ممالك العالم، فقال له إبليس: «أعطيك هذه جميعها إن خررت وسجدت لي.» فرده بعنف صارخا: «اذهب يا شيطان؛ لأنه مكتوب: للرب إلهك تسجد، وإياه وحده تعبد!»
اتبع يسوع دوي صوته في أذنيه فهرب من منطقة الهول الصحراوية ؛ حيث كدرت الرؤى صفوه بأشد مما فر به إليها مغتما قانطا، فأراد أن يعود إلى بلده، إلى كوخه، إلى منجره، إلى قريته الصغيرة الواقعة على سفح الجبل، إلى عالم السلام؛ حيث ينبت العشب.
دنا يسوع من النهر، فرأى أن يدور اجتنابا لمنطقة المعمدان، وفيما هو كذلك إذ وقفه جمع كبير فار، فرأى في مكان بعيد جنودا متوجهين إلى الشرق، فاستوقف الأمر نظره، فاقترب من الهاربين سائلا عن النبأ، فعلم أن أمير تلك الإيالة هيرودس أنتيباس قد أرسل جنوده المرتزقة فقبضوا على يوحنا المعمدان، فساقوه مقرنا في الأصفاد إلى سجن لا يقدر أحد على إطلاقه منه.
بهت يسوع؛ فقد وجد في ذلك تأويلا لما رأى، فما كذب فؤاده، فالرب هو الذي أمره، فاطمأنت نفسه؛ فقد أذن له في العمل، فليعمل إذن! من أجل ذلك كان نداء الرب! من أجل ذلك جربه الشيطان! كان ذلك لشد عزيمته فيخلف المعمدان القائل: «يأتي من هو أقوى مني.» توترت ملامح يسوع بعد حلم فنظر إليه أولئك مذعورين، فلو كان بينهم من عرفه اتفاقا لعاد غير راض؛ لما رئي من تشنجه الدال على الصلف والكبرياء.
ويسوع، بعد أن تخلص من دهشه، توجه إلى بلده مفكرا على طراز آخر، فأخذ يرسم الخطط على خلاف عادته، ويسأل في نفسه: كيف يبدأ؟ وأين يبدأ؟ وهل يصدقه بعض أصدقائه؟ ويقابل يسوع، في أثناء توجهه إلى الشمال وحيدا، بين ما صنعه المعمدان وما يصنعه فيقول: هل أصاب يوحنا في مناهضته للفريسيين؟ أما كان ينتهي إلى ما هو أفضل مما تم لو تذرع بالحلم والقول اللين، فلم يستفز السلطة الزمنية؟ ثم يسأل عن قدرة إخوته على القيام بشئون الحرفة لو تركوا وحدهم، ومن يقوم منهم مقامه في إمساك المطرقة ودق المسامير؟
وصل يسوع إلى الناصرة، فعلم أن أمه وإخوته ذهبوا إلى قانا البعيدة ساعتين لحضور عرس، فهل يذهب إليها أيضا؟ تمثلت له الثياب الفاخرة والأصوات الجميلة، وله في عادات بلده الطيبة فتنة، وفيه ميل إلى اللهو والراحة مع ما حدث.
ذهب إلى قانا، وفي قانا وجد الفرح بالغا غايته، فرأى الفلاحين يرقصون أمام البيت على صوت الصنوج
12
والمزامير كما لو كانوا جاهلين لأمر اليوم الآخر، فراقبهم عن كثب قصير وقت، فأبصرهم سكارى من غير أن يراهم يشربون، فهل الخمر قليلة؟ وهل استنفد العرس في ثلاثة أيام جميع ما يمكن أولئك الفقراء أن يأخذوه من قبوهم؟ وهل هؤلاء الراقصات غير أخواته حقا؟ وهل ذلك الذي يخبط الورك ضاحكا غير شقيقه حقا؟ هنالك الصراع بين ما في ذهنه من جديد الأفكار وقديم الخواطر ...
ولم يسد السكون إلا حينما دنا يسوع منهم فعرفوه؛ فقد شعروا بأنه أخذ يراقبهم غير عاطف، فليست أوضاعه بالتي تلائم الأعراس، فكان لهم بها ما يكدر صفوهم، وسأله بعضهم ضاحكا على ما يحتمل عن عودته من الأردن، وعن رأيه في العماد، ووكز آخر ثالثا بكوعه مشيرا إلى ترصد يسوع الطارئ للمائدة، وقال له رابع: إن الخمر نفدت، فهل لديه وسيلة للحصول عليها؟ بيد أن يسوع ظل واقفا صامتا مراقبا.
ثم التفتت إليه أمه الجالسة حول المائدة قاصدة إنقاذه من خياله، فقالت له برفق: «ليس لهم خمر.»
ويسوع إذ سمع صوت أمه وفهم معناه امتعض، فلم ينشب أن شعر بانفصاله عن كل ما يحيط به، وقد أقصته الرؤى والنداءات عن عوامل الفرح والسرور فتنكر، فألقى على أمه التي وضعته نظرة فاترة وقال لها: «ما لي ولك يا امرأة؟»
ذعر الضيوف النشاوى وامتقعت أمه، فصحا الجميع فطفقوا يحدقون إلى النجار الناصري يسوع الذي ما انفكوا يعدونه ابنا طيبا وصاحبا كريما مع غرابته، فما دهاه؟ أجن؟ وإلا فما الذي ينظر إليه شاخص البصر؟
بنت يايرس.
وأما يسوع فيظهر أن روحه تقوت، فكانت تلك هي المرة الأولى التي يشعر فيها بقدرة على التأثير في الآخرين وتوجيههم وقيادتهم، وكانت تلك هي المرة الأولى التي يشعر فيها بأنه نبي، والآيات منقادة ليسوع، وفقدان الخمر هو الآية الملحة، أفيعجز يسوع عن تحويل الماء إلى خمر وقد اختير ليخلف يوحنا المعمدان؟ فإذا كان عاطلا من مثل هذه القدرة، فكيف يستطيع أن يهدي الشعب؟ أحس يسوع حلول الوقت الذي يجرب فيه قدرته التي لا يعلمها أحد، وقد أفزع الضيوف حينما كلم أمه منذ هنيهة!
أمر يسوع الخدم بأن يأتوه بالأجران الستة الموضوعة هنا، وبأن يملئوها ماء، وبأن يأخذوا نموذجا منها إلى الطاهي الذي لا علم له بما حدث، ويصنع يسوع ذلك والحضور ينظرون إليه وإلى الذي دخل من الباب حائرا قائلا للعريس: «كل إنسان يضع الخمر الجيدة أولا، فمتى سكروا وضع الدون، وأما أنت فقد أبقيت الخمر الجيدة إلى الآن!»
هنالك حدقوا مرة ثانية إلى يسوع الذي اتفق له من القدرة ما استطاع به أن يلقن الطاهي من خلال الجدار ما أراده له من الإيمان فقالوا: يا له من ساحر!
ثم كانت عربدة؛ فقد دارت الخمر في رءوس الحضور، ولم يسلم منها سوى واحد، فصار ينظر إليهم مدققا متسامحا ما كان صفيا، فذلك أمر أولئك القوم الذين أرسل إليهم هاديا، فهل يتبعونه ولم يأتهم بغير الفكر؟ استوعبت يسوع تأملاته فترك العرس.
تلك هي الآية الأولى التي أتى بها ذلك النبي الناصري.
الفصل الثاني
البشرى
آمنوا بالبشرى!
ذلك ما جهر به الغريب المجهول الأمر في البهو الكبير على حين كان يحدق إليه من غص بهم الكنيس من النواتي والتجار والصناع والسياح، فنحن في كفر ناحوم الواقعة في شمال بحر الجليل؛ حيث تمر القوافل التي تسير من الطريق الكبرى الممتدة من البحر إلى دمشق، وفي القوافل العلماء والهواة والأغنياء والكهان والحكماء. وفي السبوت يزور المسافرون الكنيس، ومنهم يعلم الأهالي أخبار العالم الخارجي، ويقدم ناحومي إلى الغريب الكتاب المقدس ليتلو منه ما تيسر طالبا إليه أن يفسره على أحدث طريقة في أورشليم.
والذي يحدث في هذا اليوم قد وصل إلى مدينة كفر ناحوم أمس، وليس البلد الذي سافر منه بعيدا، كما قال الناس هنالك؛ فالذي يغادر الناصرة وقت الفجر يصل إلى كفر ناحوم في نهار واحد، وهل يأتي من الناصرة ما هو صالح؟ قام ذلك الناصري وأخذ يصلي، فبهت القوم من صوته الخافت ، ولما علا المنبر أيقنوا أنه ليس معلما لعطل ردائه من الأهداب الأربعة التي تأمر بها الشريعة، وهل هو من تلاميذ يوحنا الذي اعتقل؟ ومنذ أي وقت يطوف هؤلاء المعمدون في البلاد بدلا من البقاء عبر الأردن؟ كلا، إن أنسه ولطفه دليلان على أنه ليس منهم، وهو لا يلبس مسحا
1
كالنساك، وهو لا يلبس حلة نبي كما يحلم به من يود أن يكون إيليا المنتظر، وتخلو نظراته وكلماته من الكآبة والوعيد.
قال يسوع: «قد كمل الزمان، واقترب ملكوت الله، فتوبوا وآمنوا بالبشرى «الإنجيل»!»
هذا غير ما يعظ به معمدو الأردن، فيسوع لا يهدد ولا يحرض ولا يطالب باعتراف ولا عماد، وهو يفسر قديم النبوءات على ضوء الحياة الراهنة، وهو إذا لم يلبس حلة الكاهن ذات الأهداب، وهو إذا لم يستعن في مواعظه بالكتاب مقتصرا على توكيدها بلغة الإقناع المألوفة، ومبلغا أن الرجاء مع الإيمان، لم يلبث أن ملك قلوب الصيادين والفلاحين الذين ملوا ما في مناظرات الفريسيين من الدقائق، وأولئك لم يسمعوا أحدا يحدثهم عن «البشرى» مع بساطة هذه الكلمة، وقدرة الصبيان على فهمها، وهو يشبه ملكوت السماوات بالشرك الذي يلقى في البحر فيجمع جيد السمك ورديئه.
يتلاكز
2
الصيادون برفق متبسمين تبسم القبول لمطابقة هذا المثل ما يرون في الغالب، ويستمر الرجل على الكلام، ويلقي الجميع أسماعهم إليه حين ذكره للزارع الذي يبذر بعض حبوبه على الطريق، وبعضها بين الأدغال
3
الشائكة، وبعضها بين الحجارة، وبعضها في الأرض الصالحة. ويدور حديث الرجل حول ملكوت السماوات، ويعي الحضور ما يقول في الدائنين والمدينين والمرابين، مشيرا إلى أهمية الحساب مع الله في آخر العمر، وتصغي إليه النسوة الجالسات خلف سياجهن مطرقات عند بحثه في قميص رث لا يمكن رقعه، وفي زجاجات قديمة قصفة غير نافعة لحفظ الخمر الجديدة، وفي أرملة تشتكي إلى القاضي، وفي ربة منزل تسأل في كل مكان عن دينار أضاعته. ولا غرو، فالرجل يعبر عن العالم الذي يعرفنه، وهن اللائي سئمن أدعية الكهان النمطية، ومواعظهم الصاخبة، والرجل يروقهن بلحيته الأنيقة، وشعره الممسوح بالزيت، وصوته العذب الرخيم وإن كان غريبا لم يولد على شاطئ البحيرة.
ولم يرق يسوع ثلاثة أو أربعة من الكتبة جالسين في الصف الأول؛ فقد ظهر لهم أنه لم يلازم مدرسة للكهنة، وأنه وإن كان ملما بالتوراة يجهل التفاسير التي هي أمر مهم، ويرون أنه لا خطر لأناس كيسوع تخرجوا على الطبيعة ما بقوا في قراهم؛ حيث يعرفهم أهلها فلا يعبئون بهم، فإذا ما تغربوا ظن الفلاحون أنهم أعلم من شيوخهم، فيخسر هؤلاء الشيوخ ما يتمتعون به من الثقة، ويرون أن يسوع ابتكر طريقة جديدة لحمل الناس على الإنصات له، فالمستمعون إذا ما أصغوا إليه خيل إليهم أنهم يسمعون حديثا زمنيا من أحاديث الأسواق، فبذلك يتقبلون يسوع بقبول حسن، فيرتع أسابيع على حساب البسطاء.
وإن أولئك لجالسون هنالك في غم منتظرين ختام كلام يسوع، وإن يسوع ليتكلم فيرسم بيديه ما يصفه بلسانه؛ إذ دوى صوت في الكنيس، فيقطع حديثه، وينهض ويلتفت القوم إلى الركن الذي صدر منه ذلك الصوت؛ فقد حدث أن رجع الحضور إلى الوراء أمام رجل سقط متشنجا وهو يقول: «آه، ما لنا ولك يا يسوع الناصري؟! أتيت لتهلكنا. أعرف أنك قدوس الله!»
بمثل تلك الكلمات يعبر شباه المجانين عن جميع الانطباعات الملائمة والمخالفة الناشئة عن فعل كلام ذلك الغريب في الأفئدة، فكأن أعصاب ذلك الأرعن قد سجلت ارتباك بعض الفريسيين الصامت، واستحسان الأميين الكثيرين الصامت، فكان ما رأيت من اختلاط التدنيس بالتقديس في كلمته تلك.
وجل يسوع، ويسوع، الذي جهر للمرة الأولى أمام جمع بأمور كان يتأملها طويل زمن، قد شعر بأن تلك القاعة الطويلة الشهباء تميد، وأن تلك الرءوس تتموج كالدخان فيعتريه غم من ينتظر قيامه بالأعمال، ويسوع الذي أعلن أمام الجمهور ما أخفاه في نفسه كبير وقت، قد أبعده من بلده إلى شواطئ تلك البحيرة، التي يعرف فيها كثيرا من المدن والقرى، ما أصابه من الفتور عندما كلمته أمه في ذلك العرس بقانا، وما وطن نفسه عليه من تبليغ الناس رسالته في عالم أوسع من منطقة الناصرة، وما عزم عليه من التأثير البالغ في الرجال. ويسوع الذي انقبض صدره في أوائل تلك الخطبة حينما التقى نظره وأنظار أولئك الكتبة التي تنم على معنى السؤال والاعتراض، لم يلبث أن وقع بصره على أبصار الحضور من الفلاحين والصيادين والفتيان والنساء، فأدرك كيف يخاطب عقولهم، ويلمس قلوبهم، ولكن صراخ ذلك الممسوس، ومنظر تلك القاعة التي استولى عليها الذعر والهيجان أعادت يسوع إلى مثل حالة التوتر التي استحوذت عليه في ذلك العرس حينما نفدت الخمر وكلمته أمه.
تقدم يسوع إلى الممسوس بخطى واسعة، وفسح الحضور له في القاعة كما لو كان طبيبا، فجثا بالقرب منه فأمسكه وجبذه قائلا: «اخرس يا شيطان، واخرج منه!» ويسقط المريض مرة أخرى على الأرض، ويتقلب ويتقلص ويدير نظره، ثم يسلم أمره إلى ذلك الحليم ذي الناظرين الثاقبين، فيرخي أعضاءه، ويغمض عينيه، ويهدأ تنفسه، ثم ينظر إلى ذلك الذي راضه، فيشعر معه بأن الشيطان غادر المكان، وهو يشعر بذلك؛ لأن ذلك الغريب قد حمله على اعتقاده ذلك، وهكذا هدأت الزوبعة، ونهض المريض مفرج الغم، تعبا قليلا، متعافيا كما يظهر.
رأى مئات الشهود هذه المعجزة فقالوا: إن ذلك الغريب من أولئك السحرة الذين يقدرون على طرد الشياطين كما كان يصنع قدماء الأنبياء، وغادر الغريب المكان محترما تعبا، فزالت منه لذة الوعظ التي زادت فيه كلما تقدم في خطبته تلك، وزالت منه قوة العزم التي تجلى فيها نشاطه عندما بدا طبيبا، ففر من الجمهور، وترك الشارع، وهجر المدينة، وهو حين وصل إلى الريف على شاطئ البحيرة، جلس على الرمل بين القصب مستجما جامعا لحواسه وأفكاره. •••
يبدو بحر الجليل من منحدرات الجبال أخضر رائقا لامعا بعد الظهر، وتمتد كفر ناحوم على فرضة واقعة بين الماء والجبل الواقي لها من الريح، وترى من مرتفعات الشمال عدة مدن وقرى في تلك الفرضة، وتسمى القرية القائمة عن اليمين، فتبعد ميلين، فتبدو بيضاء ساطعة ذات برج بطبرية التي بنيت حديثا؛ حيث يملك هيرودس أنتيباس أمير الإيالة فيتملق القيصر الروماني ما ثبت ملكه تبعا لهوى هذا القيصر ، ويصب نهر الأردن في شمال تلك البحيرة، ويستطيع يسوع أن يتمثل، عند عدم الرؤية، المكان الذي يترك فيه هذا النهر تلك البحيرة ليجري إلى الجنوب حتى يصب في البحر الميت.
ومن المحتمل أن ذكر يسوع في تلك الساعة مصب النهر الجنوبي، والرجل الذي عمده، وصوت الأب العذب الذي أيقظه من سبات السنين، ولا يفكر يسوع في هيرودس ما ابتعد عنه ابتعاده عن القيصر الروماني طيباريوس، المقيم بجزيرة في بحر غير قريب، وابتعاده عن جميع دول العالم الزائلة، ويفكر يسوع في الطيور التي ترفرف حوله، ومنها القمر
4
التي يعرفها في بلده، فتعرفه أيضا؛ لخروجها من بين البردي ودنوها منه وقفزها على الإناء، ويظل البجع
5
الطويل بعيدا منه؛ لحذره من الإنسان أكثر من حذر القمر، والمسافر يسوع إذا ما أزاح الصدف وحك الأرض بطرف صدفة كبيرة وصل إلى صخر أسود نجم عن بركان ثار هنالك منذ سنين قليلة دافنا تحته مئات الآدميين.
ونظر يسوع إلى تلك الأمور غير نظر الآخرين إليها؛ فهو يحس ما تنطوي عليه من المعاني كما يحس الشاعر، وهو يجعل دائرة تأملات من الجبال والصخور والنهر والقصر والزلزلة والبركان والسفوح الخصبة التي يستوي العنب والبطيخ فيها على السوق منذ شهر أبريل. ويبدو وراء يسوع جبل حرمون ذو الصخور والقعور والتخاريم والثلوج نذيرا، وتمتد البحيرة على سفح ذلك الجبل المتوعد رائعة روعة الحياة، فيعرف يسوع السر في اختيار الرب لها من بين بحيرات إسرائيل السبع.
ثم يبدأ الليل بإرخاء سدوله، فيبصر يسوع السائح زوارق كثيرة تخرج من المراسي لرفع الشباك، ما اقترب السمك من سطح الماء عند الشفق على الخصوص، ويعد بزوغ النجم الأول من الشرق علامة انتهاء السبت وإباحة العودة إلى العمل، فيتنادى الصيادون من القوارب، ويجذبون الشباك ويشولونها ويقلبونها، ويرمون الأسماك في المراكب وهي تنتفض، ثم يجدف الصيادون بالمجاديف مسرعين إلى الشاطئ ما كان الليل يحل سريعا في ذلك العرض.
أقبل صيادان على يسوع الغريب فعرفا فيه الساحر الواعظ في ذلك المعبد صباحا ، وعرف يسوع أحدهما أندراوس الذي وجده تلميذا ليوحنا المعمدان عبر الأردن، فعرفه أندراوس هذا بأخيه سمعان، فتصافحوا جميعهم بحرارة، وما كان هؤلاء ليشعروا بما سيسفر عنه هذا اللقاء، وما كان يسوع ليعلم أنه سيسمي سمعان هذا ببطرس ذات يوم.
ثم أقبل صيادان آخران على صانع المعجزات يسوع راغبين في معرفته أكثر مما في الماضي، وكان اسم هذين الصيادين الأخوين يعقوب ويوحنا، ثم جاء آخرون وبدوا كلهم واثقين بيسوع الغريب مطمئنين إليه، ولم تنشأ ثقتهم به عن طرده الشيطان من رجل ممسوس فقط. ما كان بين الفريسيين من يفعلون مثل ذلك، بل نشأت أيضا عن خروج ما وعظ به في المعبد من قلبه، ونفوذه في قلوبهم، وساد الظلام فكان لا بد من أن يأوي أولئك إلى بيوتهم، فدعا سمعان يسوع إلى بيته، وطلب إليه أن يتعشى من مائدته، وما عتم نصف أهل المدينة الصغيرة أن تجمع أمام الباب، فالوقت وقت راحة، وود الجميع رؤية ذلك الغريب الذي استطاع أن يشفي ذلك المريض.
وفي البيت كانت حماة سمعان مضطجعة محمومة، ويسوع إذ أقام دليلا قويا على استعداده لشفاء المرضى جيء به إليها، فحدقت إليه العيون، فعلم ما ينتظر منه، أفيأتي بالعجائب؟ هذا ما كان راغبا عنه، وقد دخل الناس البيت فازدحموا خلفه منتظرين ما يصنع؛ أفلم يأت موسى وغيره من الأنبياء بالمعجزات لكي يؤمن الناس برسالاتهم؟ كانت تلك الحماة العجوز قد آمنت بيسوع، وكانت قد سمعت عن شفاء ذلك الممسوس في المعبد على يد يسوع، فصارت تنظر إلى هذا الغريب الذي هو مصدر الحلم والصلاح مطمئنة ضارعة إليه أن يشفيها، فلم يخيب رجاءها؛ فمن إيمانيهما المزدوج انبثقت القوة التي تشفي، فأمسكها بيده ونظر إليها، فحملها على تسليم أمرها إلى سلطانه، فقهر مرضها فنهضت.
نظر الحاضرون إلى يسوع نظر شكر واحترام، وأما يسوع فذعر واغتم خشية أن يرى الناس في تلك الأعمال معنى السحر، وأخذ المرضى يتقاطرون إلى باب سمعان منذ الغد، ومن المرضى من نقلوا إليه على فرشهم، ومنهم الكمه والبرص والمفاليج ، فانتظر هؤلاء جميعهم أن يبرئهم ، ولم يأل يسوع جهدا في ذلك، فشفى بعضهم لطويل زمن، وشفى بعضا آخر لوقت قصير، ومسح بعضهم بالزيت، ومسح بعضا آخر بالطين؛ ولكنه لم يبرئ أي واحد من هؤلاء بغير الإيمان، وحمله على الإيمان. ويسوع مع مقته لهذا العمل كان يرحم المصاب فيطبه، فإذا ما شفي طلب منه ألا يبوح لأحد بما تم؛ ولكن خبر الشفاء ما كان ليكتم، بل كان يذاع مع مبالغة، فهرب يسوع وقت الفجر إلى كفر ناحوم جمعا لقواه.
ويتبعه العامة والصيادون والفلاحون ليستمعوا إلى مثل قوله في ذلك الكنيس، ويتبعه النساء وعلى رأسهن أم يعقوب ويوحنا. ولسرعان ما تعود القوم أن يروه بينهم حينما يجلسون على شاطئ البحيرة ليرقعوا شباكهم، أو ليزفتوا قواربهم، أو ليشذبوا مقاذيفهم، فيشعر يسوع بغبطة وسرور عندما يحيط به هؤلاء الناس فيرفعون عيونهم من أعمالهم؛ لينظروا إليه جالسا بين الصدف، أو تحت ظلال الأثل،
6
أو بين حفيف القصب وصوت الأمواج، أو بين الأميين والمؤمنين والطيبين، فتجري أفكاره إذ ذاك في مجرى الرموز ما كان عليه أن يشير بإصبعه إلى السماء وقتما يتكلم في تلك الأمكنة عن ملكوت الرب.
وما أصغر ذلك العالم الواسع! فعلى مسافة كل ميل تقوم قرية، ويكفي سير ساعة للوصول إلى الشاطئ المقابل، ويحتاج يسوع مع ذلك إلى عدة أسابيع، وإلى قسم من الصيف قبل أن يزور جميع مدن بحر الجليل وقراه، وما كان يسوع لينتظر مجيء الناس إليه؛ خلافا ليوحنا المعمدان، بل كان يأتي إليهم بعد أن يكون تلاميذه المرافقون له قد مهدوا له السبيل بين قرية وقرية، فيسبقه صيته إليها.
وليس بمستبعد أن يجد سيد سائح كيسوع في زمن الانتظار ذلك، تلاميذ بين شعب الرب يتبعونه ويساعدونه، وما هو الخسر الذي يصيب أبناء أولئك الصيادين إذا ما غادروا بلدهم؟ فأولئك إذ كانوا قوما أميين فلا يكادون يفرقون بين ملكوت السماء واستقلال بني إسرائيل في الأرض، وهم إذ كانوا مفعمين بالأخيلة والآمال كان من السهل عليهم أن يتبعوا رجلا قادرا على الإتيان بمثل تلك البشارات، وعلى إيقاظ مبادئ أروع من التي عرفوها فيما مضى. وهذا إلى أن يسوع أنيس مولع بالجلوس حول المائدة غير محرم للخمر ولا لمعاشرة النساء؛ فالفتوة وروح المخاطرة، وحسن البشائر، والشخصية المحبوبة، والتفاؤل، ورجاء ثواب الآخرة أمور كلها كانت تحفز الشباب إلى اتباع يسوع النبي الجديد في رحلاته.
والقوم ينسلون
7
من كل صوب وحدب لمشاهدة ذلك الراقي
8
الشافي وسماع كلامه. ويجتمع أهل القرى التي ليس فيها كنيس على شاطئ البحيرة، فيعتلي يسوع زورقا فيطلب من أصحابه أن يبتعدوا عن الشاطئ، فالماء ينقل إليهم صدى بشائره. ويسوع إذا ما كان واقفا على سفينة بدا كصخرة سائدة لأولئك الجالسين القرفصاء على الشاطئ، أو المستلقين عليه، فيحدثهم عن رسالته بالرموز والأمثال الطريفة المقتبسة من حياتهم اليومية النقية، والأمثال ما كان يراها خير وسيلة لتثقيف الجموع، ولم يحجم عن تشخيص الرب بالصور القولية تقريبا لأذهان الجمهور، مع أن تصوير الرب محرم على اليهود، فيجعل من الرب ملكا جالسا على عرشه مالكا للكرم، قاريا للضيف، سيدا للعبيد.
هنالك يرى يسوع بعين بصيرته ما لكلامه من الأثر في قلوب البسطاء، ويسوع يجيب عن أسئلة هؤلاء، ويشفي من يأتون من المرضى ما استطاع، ويداوم على سيره، والناس يجتمعون أمام بيت مضيفه ليسمعوا كلامه، فيقف على مفرق الطرق فيخطب فيهم مهما كان عددهم قليلا، وإذا ما كان المجتمعون من النساء والصبيان رق لسانه، ووضح كلامه أكثر من قبل، وأفضل شيء عنده هو أن يجلس حول الموائد ومعه تلاميذه؛ فهو يميل إليهم إذ ذاك واثقا، كما كان أمره في غابر الأيام تجاه أصدقائه القليلين الذين كانوا يقصدونه أمام بيت النجار بالناصرة لينصتوا له.
وكبريات المدن وحدها هي ما كان يجتنبه يسوع؛ فهو لم يذهب إلى طبرية مع أن كل صبي من أبناء تلك المنطقة كان يمتع ناظريه بها عن كثب، وظل يسوع بعيدا من طرشيحة وصفوري ما شعر بأنه يسود تلك الأماكن حياة صاخبة، وروح القهر والحرص والتأثل
9
فلا يلقي ساكنوها سمعا إلى رسالته.
وفي الجنوب، حيث بلاد اليهودية تقوم المدينة الكبيرة التي يقيم بها الكهنة النافذون، ومفسرو الكتاب المقدس، وقارئو العزائم، فما بدا ليسوع في كنيس كفر ناحوم من عداء الكتبة الخفي أثبت له أن أناسا من هذا الطراز هم أعداؤه.
فظل يسوع بعيدا من أورشليم لذلك. •••
يشعر جميع الذين يقتربون من يسوع بحبه لهم، ويسوع لم يظهر ليبغض الناس، بل ليحبهم، وما كان ليسعى إلى مقاتلة أحد، وما كان يعلم أهل بحر الجليل الفقراء الهادئين إياه، فمصدره قلبه، وما كان علماء البلد يقابلون ما يلقيه في الأفئدة بغير الشك الذي هو وليد التعليم.
وينفذ كلام يسوع نفوس البسطاء، ويتألف من هؤلاء الصيادين الذين تعودوا الصبر والانتظار جالسين على الشاطئ، أو في زوارقهم، بالقرب من شباكهم جمع من المستمعين الحلماء الطيبين البعيدين من المطامع، وليس في خطب يسوع ما قد يزعجهم، فلا تجد فيها بحثا عن سيادة العالم، ولا عن المجد، ولا عن الاستعباد الراهن، ولا عن ماضي الشعب العظيم، ولا عن انتقام الله وعقابه وغضبه وقصاصه.
ويفيض فؤاد يسوع الذي هو معدن الحب رأفة وحنانا، ويقابل يسوع بالمحبة أباه الرب الذي أنعم عليه بها، والجميع أبناء للرب، وأكثر الناس معرفة بالأب الرب هم الخالصو النية، السليمو السريرة، الرحماء الأميون الذي يشابهون الأولاد في أفكارهم. ومن يعتمد على كرم الرب ينل حمايته، ويعش تحت رعايته، والرب «يشرق شمسه على الأشرار والصالحين، ويمطر على الأبرار والظالمين»، فمن يعتقد هذا لا ينشب أن يملك ملكوت السماوات على الأرض، فيجد كنزا في حقل هذا العالم.
ويدرك الفلاحون الخرافيون المحيطون بيسوع مغزى تلك الكلمات، فالهواء مملوء بقصص العجائب، والأنبياء رأوا فتح أبواب السماء، وأولئك الفلاحون سمعوا قصة الكنز الذي اكتشف بحرث الأرض، وهم لا يجهلون أن المطر يروي حقل جارهم البغيض كما يروي حقولهم، وهم يكادون يعرفون أن النبي دانيال حدث بمثل ذلك عن نزول السماء إلى الأرض، وهم لا يكادون يعرفون أن ذلك النبي الناصري ألقى في صباه السمع إلى الأرض، فشعر بحضور الرب المحب الذي يصفه الآن، وليس على أولئك البسطاء إلا أن يثقوا بيسوع ما أتى بالبشرى، وابتعد عن الوعيد، وقرب إليهم السعادة التي سماها بملكوت السماوات فلم يحرق الأرم
10
مثل المعمدان حين قال: «اسألوا تعطوا، اطلبوا تجدوا، اقرعوا يفتح لكم.» فهل خاطب كاهن الفقراء بمثل هذا الكلام المسري الكاشف للغم؟
أليس من الصواب دعوة يسوع لنا بالإخوة ما دام الرب أبا للجميع؟ وهل يجب أن يعمل بما يقول به الصدوقيون في أورشليم من أن يأخذ الأخ حقه من أخيه، وأن تكون العين بالعين، والسن بالسن؟ كلا، ولكن ما يأمر به يسوع ليس أخف وطئا من ذلك؛ فقد قال: «من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضا، ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك؛ فاترك له الرداء أيضا.» فبينما يتساءل أولئك الفلاحون والصيادون عن سبب ذلك، وعن قدرتهم على العمل بذلك إذ سمعوا يسوع يقول: «اغفروا يغفر لكم.» فرضوا بذلك ما علموا الآن أن كل واحد منهم سيثاب على إنكار ذاته.
وأمرهم يسوع بأكثر من ذلك أيضا، فيسوع إذا اقتصر على توصيتهم بأن يحبوا من يحبهم، فإنه لا يكون قد حثهم على أكثر مما يقدر عليه المشركون، ولكن يسوع قال لهم: «أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم.» بيد أن حب المرء لأعدائه هو أصعب شيء، فسأل بعضهم يسوع: «كم مرة يخطئ إلي أخي وأنا أغفر له، هل إلى سبع مرات؟» فنظر إليه يسوع بحزم وأجابه من فوره قائلا: «لا أقول لك إلى سبع مرات، بل إلى سبعين مرة سبع مرات.»
ظل أولئك جالسين حيارى متسائلين عن مبالغة يسوع في ذلك كله، ولكنهم لم يلبثوا أن أدركوا مقصده حينما نصحهم بصوته الرخيم قائلا: «لا تدينوا فلا تدانوا، لا تقضوا على أحد فلا يقضى عليكم ... وكما تريدون أن يفعل الناس بكم، افعلوا أنتم أيضا بهم هكذا؛ لأن هذا هو الناموس والأنبياء.»
ويجهل أولئك أن الكاهن الأكبر هلل قال مثل ذلك منذ خمسين سنة، وما يجهلون أن هلل كان من العمال كما هم الآن، ويرى أولئك بأعينهم أن يسوع ليس من رجال المجمع اليهودي الكبير بأورشليم، فلا يعيش في بيوت الأقوياء، ولا على موائد الأغنياء، وما يرونه إلا زائرا لهم في أكواخهم على شاطئ البحيرة بعيدا من المعبد والقصور، ويسوع إذا أحب الجلوس حول موائد هؤلاء فلما يقتضيه ذلك من انحنائه ليمر من أبوابهم الواطئة، ودنوه من الأطفال في مهودهم، وسؤاله عن مواشيهم، ولعبه مع أولادهم، وإسعافه نساءهم، وهنالك يؤمنون به حينما يقول لهم في أثناء طعامه من مائدتهم المعتدلة: «طوبى لكم أيها المساكين؛ لأن لكم ملكوت الله ... لا تكنزوا لكم كنوزا على الأرض؛ حيث يفسد السوس والصدأ، وحيث ينقب السارقون ويسرقون، بل اكنزوا لكم كنوزا في السماء؛ حيث لا يفسد سوس ولا صدأ، وحيث لا ينقب سارقون ولا يسرقون؛ لأنه حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضا.» وهنالك ينظرون إليه خافضين رءوسهم استحسانا لما في الجليل من كثرة اللصوص، ويسوع يعرف ما يقول، ويعتقد أولئك صحة ما يعدهم به من ملكوت السماوات.
ألا يعمل يسوع نفسه بما يأمر به؟ قال يسوع: «إذا صنعت غداء أو عشاء؛ فلا تدع أصدقاءك ولا إخوتك ولا أقرباءك ولا الجيران الأغنياء؛ لئلا يدعوك هم أيضا فتكون لك مكافأة، بل إذا صنعت ضيافة؛ فادع المساكين الجدع العمي، فيكون لك الطوبى؛ إذ ليس لهم حتى يكافوك؛ لأنك تكافى في قيامة الأبرار.»
قتل يوحنا المعمدان.
لم يرتح الأغنياء لسماعهم ذلك القول. أليس ذلك الذي يدعو القوم إلى تلك المبادئ الخطرة ثائرا محرضا؟ بيد أن بين أولئك المستمعين من هم شباب وارثون، فنفذت تلك الكلمات في قلوبهم. ومن هؤلاء الشباب الأغنياء من سأله: «أي صلاح أعمل لتكون لي الحياة الأبدية؟» فأجابه: «إن أردت أن تدخل الحياة؛ فاحفظ الوصايا.» فقال له الشاب: «هذه كلها حفظتها منذ حداثتي، فماذا يعوزني بعد؟» فراقت آماله واتضاعه يسوع، فود يسوع أن يظفر به فقال له: «إن أردت أن تكون كاملا؛ فاذهب وبع أملاكك وأعط الفقراء، فيكون لك كنز في السماء.» فكان لهذا القول وقع شديد على ذلك الفتى الغني، فنظر إلى يسوع نظره إلى مفتون، فمضى مغتما حزينا، فتبعه يسوع بعينيه، ثم قال لتلاميذه: «ما أعسر دخول ذوي الأموال إلى ملكوت الله؛ لأن دخول جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله.»
لاحظ المستمعون معاملة يسوع لذلك الفتى الغني برفق مع عده الغنى إثما، ولاحظوا تفضيله الآثمين على الصالحين، فيا له من تناقض! قرأ يسوع على وجوه أولئك هذا المعنى؛ فلاح له مثل أوحت به روح تلك الساعة فقال: «أي إنسان منكم له مائة خروف وأضاع واحدا منها، ألا يترك التسعة والتسعين في البرية ويذهب لأجل الضال حتى يجده؟ وإذا وجده يضعه على منكبيه فرحا، ويأتي إلى بيته ويدعو الأصدقاء والجيران قائلا لهم: افرحوا معي؛ لأني وجدت خروفي الضال، أقول لكم: هكذا يكون فرح في السماء بخاطئ واحد يتوب أكثر من تسعة وتسعين بارا لا يحتاجون إلى توبة.»
ثم يقص يسوع نبأ ابن أنفق ما يملكه سفها فعاد إلى أبيه تائبا، فيقبله أبوه ويلبسه ثيابا حسنة، ويذبح من أجله العجل المسمن، فيغضب الابن الثاني الذي لم ينفك يعمل ما يرضي أباه من غير أن ينال جديا، فيصنع منه طعاما لأصدقائه، فيقول له أبوه: «يا بني، أنت معي في كل حين، وكل مالي فهو لك، ولكن كان ينبغي أن نفرح ونسر؛ لأن أخاك هذا كان ميتا فعاش، وكان ضالا فوجد.»
ماذا؟ ألا يحق للولد المجد الطائع أن يألم من أبيه الذي ضن عليه بجدي مقابل خدمه الكثيرة؟ أيجب أن يؤدي حب الناس إلى مثل ذلك الإجحاف؛ حينما تخرب الأسداد فيفيض سيل الرحمة فيض رحمة الأب الرب؟ ألا يعني ذلك أن العبرة فيما يشعر به الإنسان وما يفكر فيه، لا فيما يصنعه وما لا يصنعه؟ هنالك عين تنفذ ما وراء الظواهر فترى دقات قلب الإنسان وضعفه، وما أبصره يسوع الصبي في صلاح بلده يبصر مثله الآن، فيبدو أشد من الشريعة نفسها تجاه الذنوب الخفية.
ويعرف يسوع أن الناس يوكدون اليمين من أجل الأمور المشكوك فيها، ولم يحلف الإنسان بالله ؟ «فلا تحلفوا ... لأنك لا تقدر أن تجعل شعرة واحدة بيضاء أو سوداء، بل ليكن كلامكم نعم، نعم، لا، لا، وما زاد على ذلك فهو من الشرير.» ولم يتصدق الإنسان على الفقراء فيذيع ذلك نافخا في الصور؟
11 «فاحترزوا من أن تضعوا صدقتكم أمام الناس لكي ينظروكم، وإلا فليس لكم أجر عند أبيكم الذي في السماوات، فمتى صنعت صدقة فلا تصوت أمامك بالبوق كما يفعل المراءون في المجامع وفي الأزقة؛ لكي يمجدوا من الناس، الحق أقول لكم: إنهم قد استوفوا أجرهم، وأما أنت فمتى صنعت صدقة فلا تعرف شمالك ما تفعل يمينك؛ لكي تكون صدقتك في الخفاء، فأبوك الذي يرى في الخفاء هو يجازيك علانية.» ولم يصلي الإنسان جهرا حتى يراه الجميع؟ «فمتى صليت فادخل إلى مخدعك، وأغلق بابك، وصل إلى أبيك الذي في الخفاء، فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية.» ولم يبدو الإنسان شاحبا؟ «فمتى صمت فادهن رأسك، واغسل وجهك؛ لكيلا تظهر للناس صائما، بل لأبيك الذي في الخفاء، فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية.»
ولا تظنوا أن قرابينكم تكفر عن كل شيء، «فإن قدمت قربانك إلى المذبح، وهناك تذكرت أن لأخيك شيئا عليك؛ فاترك قربانك أمام المذبح واذهب أولا اصطلح مع أخيك، وحينئذ تعال وقدم قربانك.» ويسوع الذي لم يقرب النساء قد عرف خائنة الأعين؛ فقد قرأ ذات يوم في عيني رجل ينظر إلى امرأة جالسة مع نسوة في المعبد معنى الشهوة، فتتظاهر بأنها تجهله فلا يبدو من الحضور ما يدل على علمهم أمر خيانتهما، فأبصر يسوع ما يدور في خلدهما، فقال مخاطبا سامعيه: «إن كل من ينظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه.»
هنالك ارتبك من رأوا من السامعين انطباق ذلك القول عليهم فغضوا أبصارهم. •••
ولا تجد في يسوع واعظ توبة مع ذلك، فيسوع الذي يأتي عوام القوم بالبشرى لم يعد الفقر أو المرض فضيلة، بل كان يواسي ويشفي، ويسوع لم يشجع الخطأة ولم يعدهم بتحمل خطاياهم، فكان يقول لمن ينقذ: «اذهب ولا تخطئ أيضا .» وبهجة الحياة التي كانت تدني ذلك الولد الشاكر من الأب الرب أضحت ضعفي ما كانت عليه، بعدما أصبح الفتى البالغ الذي يستطيع أن يصب الآن كنوز محبته في قلوب كثيرة، وقد قال لمن يظهرون غلوا في التقوى: «لا تكونوا عابسين كالمرائين ...» والمرض خطيئة، أو دليل عليها؛ فقد قال لرجل شفاه: «ها إنك قد عوفيت فلا تخطئ بعد لئلا يصيبك أعظم.» ويسوع إذ هو في عافية يستطيع أن ينام في زورق فوق بحر هائج، ويسوع إذ هو مغتبط بحسه أنه ابن الرب لا يبالي بالغد الذي تكلم بعضهم عنه في حضرته لا ريب، ويسوع إذ يفكر في الحيوانات والنباتات التي رافقها منذ صباه يقول: «لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون، ولا لأجسادكم بما تلبسون، أليست الحياة أفضل من الطعام، والجسد أفضل من اللباس؟ انظروا إلى طيور السماء، إنها لا تزرع ولا تحصد، ولا تجمع إلى مخازن، وأبوكم السماوي يقوتها، ألستم أنتم بالحري أفضل منها؟ ومن منكم إذا اهتم يقدر أن يزيد على قامته ذراعا واحدة؟ ولماذا تهتمون باللباس؟ تأملوا زنابق الحقل كيف تنمو، لا تتعب ولا تغزل، ولكن أقول لكم: إنه ولا سليمان في كل مجده كان يلبس كواحدة منها، فإن كان عشب الحقل الذي يوجد اليوم ويطرح غدا في التنور يلبسه الله هكذا، أفليس بالحري جدا يلبسكم أنتم يا قليلي الإيمان؟ ... فلا تهتموا للغد، فإن الغد يهتم بما لنفسه.»
ويسوع يرضى شاكرا بما يأتيه به النهار اتفاقا؛ سواء عليه اجتمع بالناس في مكان عام، أم اجتمع بتلاميذه، أم قضى ساعة على شاطئ البحيرة وحيدا هادئا مفكرا، أم تناول طعاما حول مائدة عيد مشتملة على خبز أبيض، وحمل وخمر حمراء مستخرجة من كروم البلاد. ويسوع قد سئل ذات يوم: «لماذا يصوم تلاميذ يوحنا، وأما تلاميذك فلا يصومون؟» فأجاب مسرورا: «هل يستطيع بنو العرس أن ينوحوا ما دام العريس معهم؟ ولكن ستأتي أيام حين يرفع العريس عنهم فحينئذ يصومون؟»
وما كان يسوع ليرضى بأن تشوب صيغة دينية نفوس تلاميذه حينما يجلسون معه ليتناولوا طعاما حول مائدة، وما كان يسوع ليطالب بأن تغسل الأيدي والأطباق على حسب الطقوس، ولا بأن ينطق بسلسلة من الأدعية، أفلا تكفي جملة قصيرة لذلك؟ فالحق أن يسوع لم يحظر شيئا، ولم يفرض على أحد أن يقتدي به في صلواته ودعواته، وهو الذي لم يقرب قربانا، ولم يعمد إنسانا، ولم يحدث أن انقلب الدعاء الذي يقوله يسوع إجابة لرغبة تلميذ له إلى صيغة مقررة، فكان لا يعاد إليها ثانية، وبلغ يسوع من الجرأة واستقلال النفس ما كان يصرح به أن البشرى تناجي القلوب بغير صيغة معينة؛ فيسوع كان يرى الإثم أو العفو أمرا باطنيا، وإن شئت فقل: ثمرة لما لا يعبر عنه بالكلام من الأعمال الذهنية.
من أجل ذلك كان يسوع يحب الصغار والفتيان والجهال والفقراء ومن إليهم من الذين ليس عندهم من الأموال ما يحيدون به عن الصراط المستقيم، وقد انتهز تلاميذه نسوة أتين بأولادهن لكي يلمسهم فقال: «دعوا الأولاد يأتوا إلي ولا تمنعوهم؛ لأن لمثل هؤلاء ملكوت الله، الحق أقول لكم: من لا يقبل ملكوت الله مثل ولد؛ فلن يدخله.» فهنالك احتضن الأولاد ووضع يديه عليهم وباركهم، ولم يلبث يسوع أن رأى نفسه مضطرا إلى معاملة تلاميذه بأشد من قبل. ويسوع كجميع الأنبياء الذين ظهروا قبله وكيوحنا المعمدان نفسه قد احتاج إلى تلاميذ قليلين يتبعونه، فبهؤلاء يستطيع أن ينال بسرعة ما لا بد له من الصيت الضروري ليكون نافذا مؤثرا، ويسوع قد اعتمد على انطباعاته الأولى في اختيارهم، وهو الذي طلب منهم أن يتبعوه، فإذا حدث أن عرض أحدهم نفسه عليه أساء الظن به فرده، مع أن الجميع خذلوه في نهاية الأمر.
وكان بعض أولئك تلاميذ للمعمدان، وكثيرون منهم من أهل الثراء، فأمرهم بأن تكون أموالهم مشاعة كما بين الآزيين؛ ليعيش هو وتلاميذه منها، وكان أحبهم إليه سمعان بطرس ذو النفس العملية، ويعقوب الحمس، ويوحنا الحليم، وعلى ما عليه هؤلاء الثلاثة من التقوى وحرارة الإيمان والحب ليسوع كانوا من ذوي الأثرة والتردد، ومما وقع أن مر يسوع ذات مرة من شاطئ البحيرة، فرأى عشارا جالسا عند مكان الجباية، فأراد أن يجعل منه مثلا فقال له: «اتبعني!» فلبى هذا العشار المسمى لاوي دعوته هاجرا كل شيء، فلاوي هذا الذي يدعى متى أيضا عمل فيما بعد أكثر من أي واحد إعلاء لشأن معلمه، ومن الذين اختارهم يسوع إليه: سمعان الغيور الذي كان فيما مضى تلميذا ليهوذا الجليلي الثائر. ويهوذا الجليلي هذا من كان لأعمال بطولته وخاتمته الفاجعة أبلغ الأثر في يسوع أيام صباه.
وجميع أولئك من أبناء الجليل، عدا يهوذا الإسخريوطي الذي هو من أبناء الجنوب؛ أي من اليهودية، ولم يسمع يسوع نداء يحذره من اصطفاء هذا الرجل الذي هو وليد بيئة أورشليم.
وكان أكثر أولئك أصغر سنا منه، فيسهل عليه قيادتهم، فيدعوهم بأبنائه وعماله، فيأمرهم بتجهيز السفينة والتجذيف وتهيئة الطعام، وكان يقول لهم بصوت عال عند عدم إدراكهم لكلامه: «إذا كنتم لا تعرفون هذا المثل، فكيف تعرفون كل مثل؟»
ولم يؤلف يسوع جمعية، بل كان يحمل تلاميذه على تسميته بالمعلم والسيد عندما يقول مفاخرا: إنهم ملح الأرض ونور العالم.
وما كان يسوع ليبدو فارغ الصبر تجاه النساء اللاتي تبعنه في ترحاله، فظلت ثلاث أو أربع منهن بالقرب منه في أثناء ذلك، وجميع هؤلاء غريبات، فلم تكن واحدة منهن من بيته، ولا من بلده، وكن أغنى من الرجال، وكانت إحداهن حنة زوجة وكيل خرج هيرودس، فآمنت به كما آمنت سوسنة؛ لأنه شفاهما، وتبعت اثنتان من أولئك أبناءهما الذين هم من تلاميذه.
ويسوع إذ قامت تعاليمه على المحبة كان النساء أكثر إدراكا له من الرجال، فيضفون على اغترابه من الإعزاز ما يلائمه وما لا يلائمه، ويمجدنه بما لم يسع إليه، وما لا غنية له عنه، وهن حين يمسحنه بالعطور والأطياب فيستمعن إليه سابحات في عالم من الأخيلة، تنقلب المحبة التي يحملها في فؤاده إلى حقيقة، فيوزع بين عدة نسوة من المحبة ما يوجهه الرجل العادي إلى امرأة واحدة.
ويسوع إذ كان صفي الله شاعرا بقدر نفسه وكفايتها؛ فإنه يندد بالزواج الذي يعمل فيه كل من الزوجين على ما فيه رضا الآخر من دون الله، ولا يطالب يسوع الناس، ومنهم أقرب تلاميذه، بالطهر والعزوبة في الحياة العملية ما وجد بين تلاميذه المختارين فتيان متزوجان، وما رافقت بطرس زوجته، وما دافع عن الزواج بأن الله جامع الزوجين، وما حظر الطلاق بأشد مما في شريعة موسى نفسها، ولا يرفض يسوع شيئا تقدمه النساء إليه، فيسر ممن تبدو أحمس من غيرها في ذلك. ومن هذا القبيل أن كان يسوع في بيت أختين بإحدى القرى، فأخذت إحداهما مرثا تعمل في أمور المنزل على حين جلست الأخرى مريم عند قدميه، فسألته مرثا أن يأمر أختها مريم بأن تصنع مثلها، فتبسم قائلا: «مرثا! مرثا! أنت تهتمين وتضطربين لأجل أمور كثيرة، ولكن الحاجة إلى واحد، فاختارت مريم النصيب الصالح الذي لن ينزع منها.»
ويعد الجميع المعلم الجديد نبيا، ويبدو المعلم الجديد نبيا، ولم يفكر يسوع في أنه أكثر من نبي، وليس بقليل أن يرى نفسه في بعض الأحيان دون النبي، ولم يحدث أن بدا من يسوع ما يخيل به إلى السامع أن له خواطر وآمالا فوق خواطر البشر وآمالهم، وما كان يسوع ليذهب إلى أبعد من ذلك فيدعي أنه المنقذ المنتظر، فإذا ما قال الناس: إنه أحد قدماء الأنبياء راقه ذلك موجها أفكارهم إلى ملكوت السماوات، إلى أبينا جميعا، وإذا ما قال: إنه ابن الرب كان ذلك محمولا على أنه ابن الرب كجميع الذين يشعرون بانطواء أنفسهم على القوى المبدعة التي يشتق منها وجودنا. والآن يجد يسوع كلمة جديدة صالحة للتعبير عن تواضعه بقوله عن نفسه: إنه ابن الإنسان، وقديما أراد الأنبياء أن يلفتوا الأنظار إلى الهوة الواسعة التي تفصلهم عن الله، فكانوا يسمون أنفسهم بأبناء الإنسان، ومن هؤلاء دانيال وحزقيال اللذان أظهرا الرب مخاطبا كل واحد منهما بابن الإنسان؛ أي بآدمي ضعيف هالك ولد ليفنى بعد ألم، ولكن مع استعداد لنيل عفو الرب.
اختار يسوع هذه التسمية من الكتاب المقدس؛ وذلك حينما بحث عن أوضع اسم تصوره الأنبياء، فابن الإنسان ولد ليخدم لا ليخدم كما قال. وسار يسوع على غرار يوحنا في الكلام عن مأتى الإنسان ومرده، فلما دعاه الفتى الغني ب «المعلم الصالح» رفض هذا ولامه بقوله: «لماذا تدعوني صالحا، ليس أحد صالحا إلا واحد؛ وهو الله.» •••
تلك هي حياة يسوع التي ظهر بها في معزل عن يومه وقومه، ويجتنب يسوع، كجميع اليهود، أية صلة بالمشركين، محذرا تلاميذه منهم، ولم يخطر ببال يسوع أن يرشد المشركين أو يشفي مرضاهم، وهو إذا حدث عنهم فباشمئزاز، وهو إذا وصف خطيئة قال: «أليس الوثنيون أيضا يفعلون هكذا؟» فالمشركون يجدون في طلب الفلوس والأموال، فلا ينبغي لتلاميذه أن يحملوا إليهم البشرى، كما أنه لا يجوز إعطاء ما هو مقدس للكلاب، وطرح اللآلئ أمام الخنازير، ويجب على تلاميذه أن يبتعدوا عن السامرة الآهلة بأخلاط السكان، والحاجزة بين الجليل واليهودية، ويسوع على ما يبدو من تحاشيه عن أورشليم لا يرى أن يحمل إلى السامريين رسالة الرب الذي يعبده اليهود في الهيكل المقدس.
وما كان يسوع ليمس شعور أحد في أمور الدنيا؛ فهو لم يرفع عقيرته ضد هيرودس مع سجنه ليوحنا المعمدان، وهو لم يفه بكلمة ضد رومة ولا ضد دولتها العالمية، ولا ضد أي قوي، وما كان يسوع ليبالي بالخصومات الراهنة مهما صغرت أو عظمت، فلما قال له أحد تلاميذه: «قل لأخي أن يقاسمني الميراث.» أجابه بعنف: «من أقامني عليكما قاضيا أو مقسما؟» ويسوع لم يأل جهدا في ربط مذهبه الجديد بالمذهب القديم بلباقة فقال: «لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء، ما جئت لأنقض بل لأكمل، فإني والحق أقول لكم: إلى أن تزول السماء والأرض، لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل.» حتى إن يسوع يأمر الجمهور باتباع الفريسيين في أمور الشريعة، فقال: «إنكم إن لم يزد بركم على الكتبة والفريسيين لن تدخلوا ملكوت السماوات.»
ويسوع عدو أولئك الكهنة وهم أعداؤه مع ذلك، فكانوا يتبعون خطواته بحذر في البداءة ، وكانوا يدعونه إلى الطعام معهم ، وفي كفر ناحوم باحثه مديرو المعبد ودعوه ب «السيد»، وأنصتوا لتفاسيره اللبقة، بيد أن الغم ساورهم بعد قليل زمن عندما ذاع صيته، فأخذوا يتحينون الفرص لفض الجمهور من حوله، فمما حدث أن رأوه ذات يوم يأكل من مائدة العشارين والخطأة فرحا مسرورا، فسأل فريسي أحد تلاميذه: «لماذا يأكل معلمكم مع العشارين والخطأة؟» فسمع السؤال يسوع الجالس أمام ناحية أخرى من المائدة، فعرف مغزاه، فاستشاط غيظا فقال له بحدة: «لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب، بل المرضى؛ فاذهبوا وتعلموا ... لم آت لأدعو أبرارا، بل خطأة إلى التوبة.»
هذه هي الضربة الأولى التي وجهها يسوع إلى أعدائه، فنالت من نفوسهم كثيرا، فغادروا المكان من غير أن ينبسوا بكلمة، فكان هذا أول الخصام.
ولكن كيف يؤخذ يسوع؟ إذا راقه الجلوس اليوم حول مائدة الخطأة وحل المعبد في الغد، سأله الجمهور أن يعظه، فلا يقدر أولئك على منع ذلك، أليس يسوع من المبدعين الخطرين الذين يبدءون مواعظهم في أقاصي البلاد بين فقراء القرى؛ حيث لا تحاسبهم جمعية على ما يقولون؟ ألم يهاجم الأغنياء كأن الغنى إثم؟ لم يكن ما بدأ به يوحنا المعمدان غير ذلك، وكاد خطبه يتفاقم لو لم يزجه هيرودس بالسجن. أجل، أجل، يجب أن يراقب يسوع بحذر على أن يترك حبله على غاربه لوقت معين؛ فهو كلما سار طليقا فيما يقول، دنا من الساعة التي يخالف فيها الشريعة، فيقبض عليه.
ذهب يسوع وتلاميذه في يوم سبت من أيام مايو للنزهة؛ أي حين حل وقت حصاد القمح، فجاعوا، فقلع شبانهم وهم سائرون سنابل ليأكلوا حبوبها، فلقيهم فريسيان من الرقباء مصادفة فسألاهم عن سبب خرقهم لحرمة السبت - والسبت عند أولئك القوم هو الناموس المقدس الأعظم القادر على تقييد الطبيعة، فيصفون الينابيع التي لا تجري منتظمة بالسبتية - فقال لهم يسوع الذي يخاطب العوام بلغتهم، ويخاطب الكهنة بلسان الشريعة: «أما قرأتم قط ما فعله داود حين احتاج وجاع هو والذين معه؛ كيف دخل بيت الله وأكل خبز التقدمة الذي لم يحل أكله له ولا للذين معه ، بل للكهنة ... السبت إنما جعل لأجل الإنسان، لا الإنسان لأجل السبت، إذن ابن الإنسان هو رب الشعب أيضا.»
فتبادل الفريسيان النظرات مغاضبين عند سماعهم كلام هذا الذي انتهك حرمة السبت.
وبعد قليل زمن أتي إلى يسوع بمفلوج يحمله أربعة رجال على سرير، فلم يستطيعوا الوصول إليه لشدة الزحام؛ فنقلوه إلى بيته، ويسوع إذ كان يرى الخطيئة في المرض قال للمريض: «يا بني، مغفورة لك خطاياك.» وكان هذا على مسمع من بعض الكتبة فسألوا في قلوبهم: «لماذا يتكلم هذا هكذا بتجاديف؟ من يقدر أن يغفر الخطايا إلا الله وحده؟» فتنبأ يسوع بما لم ينطقوا به، ويسوع قد فطر على تبين أعدائه حتى بين الجمهور، فأجاب عن ذلك بقوله الحازم: «لماذا تفكرون بهذا في قلوبكم؟ أيما أيسر أن يقال للمفلوج: مغفورة لك خطاياك، أم يقال: قم واحمل سريرك وامش؟»
هنالك أثرت جاذبية عيني يسوع في المريض، فنهض المريض وحمل السرير وانصرف.
بهت الحاضرون، ولم يسطع أحد منهم أن يعرب للمعلم عن سروره بالهتاف، فقالوا: «ما رأينا مثل هذا قط!» وأما الفريسيون فعادوا إلى بيوتهم، ورفعوا أيديهم إلى السماء قائلين: إنه جدف
12
على الله! إنه غفر الذنوب! إنه يستحق القتل!
لم يجرؤ الفريسيون على الجهر بذلك؛ فالجمهور محب له، وهو في بلاد الجليل المضطربة بعيد من العاصمة، فلا يسهل القبض على مثله فيها، ثم تمخضت أذهانهم عن زعمهم لزمن محدود أن يسوع يغري النساء بالتحول عن واجباتهم المنزلية، فرأى يسوع أن يسير على خلاف ما توحيه إليه طبيعته بأن يدافع عن نفسه مهاجما، فضرب مثلا رجلين: أحدهما عشار، والآخر فريسي صعدا إلى الهيكل ليصليا. أما الفريسي فوقف يصلي في نفسه هكذا: «اللهم أنا أشكرك، إني لست مثل باقي الناس الخاطفين الظالمين الزناة، ولا مثل هذا العشار. أصوم مرتين في الأسبوع، وأعشر كل ما أقتنيه.» وأما العشار فوقف من بعيد لا يشاء أن يرفع عينيه نحو السماء، بل قرع على صدره قائلا: «اللهم ارحمني أنا الخاطئ.» فعند ذلك فرغ صبر السامعين ليروا خاتمة المثل ، وهل يكون دفاعا عن المذنب؛ فاسمع قول يسوع: «أقول لكم: إن هذا نزل إلى بيته مبررا دون ذلك؛ لأن كل من يرفع نفسه يتضع، ومن يضع نفسه يرتفع.»
ولم يعتم يسوع الناصري أن عرف أنه عدو للكتبة، ولم يعتم يسوع الناصري أن عرف أمره في أورشليم لدى المجمع الكبير المعروف بالسنهدريم، كما أخبره به وكلاؤه المنبثون في بلاد الرب ليراقبوا أقوال المبدعين وأعمالهم، فقال هذا المجمع: «تعقبوه! تصيدوه!» فدعاه أحد الفريسيين إلى تناول الغداء في بيته، فلبى يسوع دعوته، وإن الآكلين لجالسون حول المائدة؛ إذ فتح الباب فدخلت البيت فتاة حسناء بغي كانت قد سمعت عن محبة يسوع الرحيم للآثمين، وكيف تدنو منه؟ فهي إذا ما اقتربت منه عند وجوده بين الجمهور سخر الناس منها فلم يدعوها تمر، فهي ترصدت لذلك وجوده في بيت ريفي يقل فيه الناس لتدخل عليه، وقد فكرت في أي الأمور تفعل لتروقه، فلم يخطر ببالها سوى العطور التي تدهن بها بدنها لإغواء الفاسقين.
والآن ترى يسوع حول المائدة، فقرأت في ناظريه من الرأفة ما لم تجده في عيون الآخرين القاسية، فاضطربت ورمت نفسها على قدميه الحافيتين باكية، فبللتهما بدموعها، فنظر إليها الجميع بصمت، فبدت باحثة عن نسيج، فلم ينهض أحد لمساعدتها على ذلك، فوجدت شعرها الذي كانت تغوي الناس به، فطفقت تمسح به قدميه منتحبة مقبلة لهما بلهف، ثم بدأت تدهن رجليه بيديها المرتجفتين مما في زجاجتها، خافضة البصر غير مجترئة على النظر إلى وجهه.
قال صاحب البيت في نفسه ساخطا: «لو كان هذا نبيا لعلم من هذه المرأة التي تلمسه وما هي. إنها خاطئة.»
فعلم يسوع ما دار في خلده فقال بصوت عال: «يا سمعان، عندي شيء أقوله لك!»
سمعان : «قل يا معلم!»
يسوع : «كان لمداين مدينان، على الواحد خمسمائة دينار، وعلى الآخر خمسون، وإذ لم يكن لهما ما يوفيان سامحهما جميعا، فقل أيهما يكون أكثر حبا له؟»
سمعان : «أظن الذي سامحه بالأكثر.»
يسوع : «بالصواب حكمت.»
ثم التفت يسوع إلى تلك التي هي عند رجليه، وقال لسمعان: «أتنظر هذه المرأة؟ إني دخلت بيتك وماء لأجل رجلي لم تعط، وأما هي فقد غسلت رجلي بالدموع، ومسحتهما بشعر رأسها، قبلة لم تقبلني، وأما هي فمنذ دخلت لم تكف عن تقبيل رجلي، بزيت لم تدهن رأسي، وأما هي فقد دهنت بالطيب رجلي؛ من أجل ذلك أقول لك: قد غفرت خطاياها الكثيرة؛ لأنها أحبت كثيرا، والذي يغفر له قليل يحب قليلا.»
دهش الجالسون حول المائدة حين سمعوا ذلك الكلام الإلحادي، فلم يستطيعوا قولا؛ لما استحوذ عليهم من شديد نفور. وكان من الصمت الذي استولى على القاعة ما يخيل به أنه لم يكن فيها سوى يسوع والبغي، فاتحدا حينا من الزمن باللمس واللثم والشعر والدمع وكلام الحب، وهي المرأة التي كانت تبيع نفسها من كل طارق، وهو الرجل الذي لم يعرف امرأة، وكان من القول أن دوى في بيت تاجر واقع على شاطئ بحيرة مجهولة بعيدة من ضوضاء العالم، كلام جديد لا تزال القرون تردده ...
أعان يسوع تلك المرأة على النهوض، فقال لها برفق: «مغفورة لك خطاياك، إيمانك قد خلصك، اذهبي بسلام.»
ذهبت لتعود فتتبعه، فجاءت من المجدل مفعمة بجديد الآمال، أفلم تبك أمام هذا الغريب؟ ومن ذا الذي كلمها مثله بلطف من غير أن يرغب في التمتع بجمالها؟ هي قد زلت فأقال عثرتها، وهي قد كانت مضطربة فألقى السكينة إلى قلبها، فكان لها الطبيب المداوي، وهي إذ اتبعته فرافقته سنة قد اكتشفت من خلال لحمة نفسه زهده الذي لم يقدر على اكتناهه أحد، وهي قد أدركت حقيقة أمره أكثر مما أدركه تلاميذه؛ لما كان من ظهورها فريسة الشهوات قبل أن تعرفه.
من أجل ذلك ظلت المجدلية واقفة تحت الصليب حينما فر جميع تلاميذه، فكانت وحدها سبب خلوده بتخيلها أمر بعثه. •••
كان يوحنا في السجن، وكل ما يستطيع أن يراه من نافذة السجن ذات القضبان، فيأتيه من خلالها الهواء والطعام، هو قسم من جدار القلعة الخارجي المصنوع من ضخم الحجارة البركانية السود، وزاوية من الصخر الكلسي الذي تستند إليه تلك القلعة، ويمر بين حين وآخر من المضيق إلى السجن بخار ودخان فيزيد رطوبة، وليس الجنود الموآبيون والأدوميون - الذين يسيرون ذهابا وإيابا أمام حجرته فينظرون إليه فيتوجعون له تارة، ويضحكون منه تارة أخرى - إلا غرباء عنه، فلا يفهم ما يقولون.
وفيم يفكر صامتا؟ تتوارد على ذهنه صور ما رآه أيام الأردن، ثم يوغل في التفكير فتتمثل له أيام البادية، ثم أيام صباه في المدينة الكبرى، ثم يقرأ للمرة المائة سفري النبيين دانيال وإشعياء اللذين أنارا له السبيل، فيجد في كفاحهما أسوة تلقي السكينة إلى قلبه، ألا يزال يؤمن بحريته وبنصره؟ أم يكون له مثل نصيب موسى الذي ألقي من مكان قريب في جبل نبو آخر نظرة إلى أرض الميعاد؟ ألم يغل فؤاد موسى حقدا على قومه الجاحدين؟ أيعتقد يوحنا ثبات أولئك؟ مرت عليه أسابيع وأسابيع وهو يعد الأيام منتظرا عودة أخلص تلاميذه الذين أرسلهم ليتنطسوا
13
له الأخبار، ما دام قد أذن له في مكالمتهم من خلال قضبان السجن، فتلاميذه هؤلاء هم الحمائم المرسلة للبحث له عن فيضان الأردن الذي يأمل ارتفاعه على الدوام من غير أن يهبط أبدا.
أنبأه أولئك في آخر مرة ظهور رجل ناصري يأتي بالآيات والمعجزات، فيملأ اسمه الأفواه والآذان، ويظهر أنه عمده أيضا، وحاول عبثا أن يتنوره من بين المئات التي عمدها، ومما قالوه له: إن صيته دوى في بلاد الجليل، ثم لا يستطيع يوحنا أن يتذكره. ومما قالوه له أيضا: إن ذلك الرجل الذي يجيء بالعجائب يلازم موائد العشارين وبنات الهوى، وإنه لا يصوم هو وتلاميذه، وإنه مرح ذو وجه طليق. أتلك هي البشرى؟ وما فيها من البشرى؟ فلم لا يعمد؟ ولم لا يقول بالاعتراف؟ ومع هذا ترى ذهن يوحنا مشغولا بذلك الذي يبشر بملكوت السماوات، وينذر الأغنياء وذوي البأس، ويتقاطر الجمهور إليه بما لا يسعهم به معبد، أليس من الغريب أن يظهر يسوع هذا في زمن يزج فيه يوحنا نفسه في السجن؟ أما كان الأجدر بالشعب أن ينظر إلى يسوع خليفة له؟ ألم يمهد له السبيل بقوله: «الذي يأتي بعدي هو أقوى مني»؟ وما الأمر إذا كان ذلك الناصري نبيا كاذبا مشعبذا يستغل ما صنعه يوحنا؟
صلصلت سلاسل باب السجن فدخله جنديان وبلغوه بالإشارة أن يتبعهما، أكان هذا ليقتل؟ غادر الديماس
14
بين الخوف والرجاء، بيد أنه لم يقتد إلى قاعة مظلمة، بل سيق إلى درج مؤدية إلى قصر ولي الأمر فأصعدوه فيها.
كان هيردوس أنتيباس ضعيفا جبانا فاسقا، غير حقود ولا نشيط كأبيه هيرودس، وهو حين كان نزيل أخيه برومة فيما مضى، وجدت زوجة أخيه هيروديا فيه الوسيلة التي تصل بها إلى السلطان، بعد أن جرد زوجها من الإرث، فأضحى رماحا عند القيصر، وهيروديا هذه هي سليلة هيرودس الكبير أيضا، فكانت تشابه جدها هذا، فحققت ما كانت تأمل، فهي لم تنشب أن أغوت أخا زوجها، فحرضته على تطليق زوجته، ومصاحبته لها زوجة في إيالته، فاضطرت زوجته الأولى التي هي ابنة ملك عربي - اسمه والي الحارث - إلى الاعتصام بأبيها في قلعة مخيروس، فاشتعلت الحرب، فاستولى هيرودس على تلك القلعة، ثم أخذ يقيم في الغالب بحدود بلاد العرب؛ إطفاء لنار الفساد بأسرع مما يقدر عليه لو كان في طبرية من بلاد الجليل.
كان يوحنا العابس في مكانه المناسب حيث الضفة الشرقية من البحر الميت، وما فيها من الأودية ذات الهوي، والينابيع الكبريتية، والصخور البركانية، وإلى هنالك أتى به جنود الأمير في يوم ربيع؛ لما رئي من التفاف جمع كبير حوله عبر الأردن، ولما بدا من خوف ذوي السلطان بأورشليم اتقاد فتنة جديدة. ومما لا ريب فيه أن بيلاطس كلم المجمع الكبير «السنهدريم» فيما يجب اتخاذه لمنع ذلك.
وكان المكان الذي يجتمع فيه فريق الساخطين خارج المنطقة التابعة للحكم الروماني رأسا، فأشار بيلاطس على الأمير التابع هيرودس بأن يحفظ النظام في إيالته، وما كان الاضطراب الأزلي ليهدأ في تلك البقعة من الدنيا، ففي الوقت الذي وقف فيه المعمدان أرسل بيلاطس فرسانه إلى جبال السامرة التابعة له؛ ليشتتوا فيها شمل أنصار مذهب جديد ، ويأسروا منهم، ويقتلوا من يرون خشية الفتنة.
سيق يوحنا من أروقة طويلة وحمامات مفروشة بحجارة ملونة، فإذا ما نظر من النافذة العالية أبصر في أسفل القصر أعتدة للحرب، ودارا للصناعة، ومن ذلك المحل سير بيوحنا مرتين فيما مضى.
السامري الصالح.
كان يوحنا قد زار تلك الردهة الكبيرة التي يدخلها الآن، ومن دأب ذوي السلطان في هذه الدنيا أن يجلبوا الطراوة إلى الرداه المصنوعة من حجر باستعمال الستائر السمر، وأن يأتي إليهم العبيد بالفواكه المثلجة عندما يؤمرون، وقد يزل من ينقل في بضع دقائق من سجنه المظلم ذي الهواء الخانق إلى تلك الردهة الزاهية، كما نقل يوحنا، ما لم يكن من ذوي العزم من الرسل، فهل ذلك ابتلاء جديد ليوحنا؟ أجل، إن ملامح ذلك الرجل الذي وخطه الشيب،
15
وأخذ وجهه يتكرش بعد جمال، فتراه متكئا على وسائد لا تدل على الرغبة في تعذيب الناس، غير أن تلك التي تسترق السمع من وراء حجاب، فتسمى هيروديا، فيلمحها يوحنا تتوارى حينما جيء به إلى هنالك، لا تزال في عنفوان شبابها، فتبدو ذات سلطان قوي، فتعرف كيف تحمل زوجها ذلك على الخضوع لإرادتها.
رفع ذلك الأمير عينيه من بين تلك الوسائد الحريرية ذات الألوان الكثيرة إلى ذلك النبي الهزيل الرث الثياب الواقف أمامه، فيحاول الأمير أن يخفي خلف نظره التعب وجله وإعجابه وحبه للاطلاع، فيكتشف النبي ذلك فيزول خوفه، ولا يعرف ماذا يرغب هيرودس أن يسأل يوحنا عنه، وإن علم أن يوحنا يؤاخذه على زواجه الإجرامي، فيطالبه بتطليق زوجته؛ لما في تزوج امرأة الأخ الحي من مخالفة للشريعة، ولما ينطوي عليه هذا الزواج من الزنا، فضلا عن خيانة الأخ لأخيه المضيف له، وليست هذه هي المرة الأولى التي تلام فيها تلك الأسرة على مثل ذلك؛ فقد سبق أن عاب كهنة أورشليم هيرودس الكبير على كثرة ما عقد من نكاح وحل من زواج؛ ولكن الذي يتكلم ذلك هو الآن مسكين سجين في قلعة منعزلة، فيمكن ضرب رقبته فيها على حسب هوى الأمير.
ويجرؤ يوحنا على القول، ويتردد هيرودس في القتل مع ذلك، ويتفرق أتباع يوحنا أيدي سبأ، ويظهر نبي جديد، ويبدو حملة الشريعة مناهضين للاثنين، فما الذي يمنع الأمير الجبان من الفتك إذن؟ ولم لا يأمر بإعدام ذلك الذي استفزه وأهان زوجته؟ ها هو ذا واقف أمامه طويلا شبه عار مجلجل الصوت، شديد الوعيد، خشن اللحية، أشعر البدن، محذرا إياه سوء العذاب الأبدي، وإنه ليبتعد إذ جاءت هيروديا، وهي تنعت الأمير بالنذالة، وتنظر إليه شزرا، ويعاد النبي يوحنا القوي إلى السجن بهدوء، ويستقبل فيه تلاميذه، ويبلغ الرسالات في البلاد لا ريب.
لم يلبث التلاميذ أن رجعوا إلى السجن حاملين للمعمدان أنباء انتصارات الناصري، ويجهر يسوع بعداوته للفريسيين، ويجهر الفريسيون بعداوتهم ليسوع، ويسوع لم يفتأ يبرئ المرضى، والنزاع بين الفريقين يتفاقم، فلم يعتم يوحنا أن اعترف بأن يسوع يسير على سنته، فيجاهد كما كان يجاهد، فصار يوحنا يدحض وساوسه حول يسوع النبي المرح المحب للرحلات وللولائم، فطفق يسأل تلاميذه عن بعض الجزئيات في مواعظ يسوع وسلوكه، وتقابل الاثنين؛ إذ كان متعذرا، وكان يوحنا يسأل في نفسه كل يوم عن مدى رسالته، وعاقبة عمله، رأى أن يستوضح يسوع أمره.
ومع ذلك ترجح يوحنا بين الخوف والرجاء، فإذا قال يسوع: إنه المسيح المنتظر لم تذهب آلام يوحنا سدى، وكان لعمله قيمة، ولحياته معنى، ومع ذلك لم ير يوحنا الصواب في مناقضة يسوع لقدماء الأنبياء في أساليبه مناقضة جالبة للنظر، وإن كان أعظم منه.
أمر يوحنا التعب المضطرب من خلال قضبان السجن تلاميذه بأن يسألوا يسوع: «أأنت هو الآتي أم ننتظر آخر؟» •••
لم يتكلم يسوع عن المعمدان قط، فكأنه يريد أن يتجنب ذكراه، ففي المعمدان يرتبط أشد أدوار حياته عندما خرج معمدا بماء الأردن فرأى الحمامة بعين بصيرته، فسمع بعد مسافة صوت أبيه الرب، أكان ذلك في الربيع الماضي؟ ألم تمض بضعة أشهر فقط منذ كان مرتبكا فأخبره أوائل الحجاج بالقبض على يوحنا واقتياده إلى السجن؟
وكان يسوع يكثر من الحديث عن الأنبياء السابقين، مع تحاشيه عن ذكر يوحنا الذي هو نبي في زمانه ، وما كان يسوع راغبا في غير المحافظة على القديم مع تجديد، ولا شيء أبعد عنه من جهاد يهوذا الهدام الذي نغص صباه، وهو يذكر حسرات إشعياء ضد الظالمين، وهو يكرر قول هوشع: «إني أريد رحمة لا ذبيحة.» وهو يقتدي بالأنبياء وخطباء الشعب الذين وضعوا الأغنياء والزنادقة منذ قرون على مستوى واحد تعظيما للفقراء، وهو يجد في كتاب النبي أخنوخ «إدريس» ابن الإنسان الذي ظهر لقذف الملوك من عروشهم إلى جهنم، فقال: «ويل لكم أنتم الذين تشيدون قصوركم بعرق الآخرين، فكل حجر فيها خطيئة.»
انقضى دور الانقلاب الصيفي، وبدأت أوراق الكرمة تهتز، وجمعت الغلال وحب الزيتون، وأخذت حرارة الشمس تخف، وصار يفتر ما كان من الحماسة حينما لاقى يسوع المعمدان. أجل، إن عدد من يلتفون حوله يزيد، وإنه جاب جميع المدن والقرى القائمة على الشاطئ الغربي من بحر الجليل، وإنه قطع هذا البحر وأوغل في بعض أودية شاطئه الشرقي وضفة الأردن اليسرى، بيد أن مجال رسالته ظل ضيقا بعيدا من ولاية اليهودية التابعة لسلطان رومة، مقتصرا على إيالة هيرودس التي وجد فيها تسامحا من موظفين لم يروا في جمعه القليل الحمس، المؤلف من الفلاحين والصيادين والصناع، ما يزعج.
ويصبح شفاء المرضى أمرا مزعجا ليسوع، ويظهر أنه كان يخجل من قدرته على شفائهم بالتلقين، فيخشى أن يطفو ذلك على رسالته. ومن الناس من زعموا أنه ممسوس. وهو القائل بوجود صراع بين شيطانين عندما يطرد أحدهما من جسم الممسوس، فمما حدث أن أمسكت مريضة رداءه من الخلف ليشفيها، فلاح له أن قوة خرجت منه، وما أكثر ما يعود المرض إلى المرضى بعد أن يبتعد عنهم! وما أكثر ما سمع الممسوسين والعمي والمفلوجين يذكرون اسمه متحسرين في أثناء نزهه بين سنابل القمح وعلى شاطئ البحيرة! ويعترض هؤلاء في طريقه، ويكدرون مواعظه، وينغصون سروره، وإذا لم يسطع أن يبرئهم لعدم إيمانهم نظروا إليه بغيظ؛ لظنهم أنه يقودهم إلى جهنم. ومن الغريب ألا يغادر من يشفيهم بسلام، بل يأمرهم متوعدا بالصمت .
وبينما كان يسوع في سوق ازدحم القوم فيها فيبرئ ويعظ؛ إذ جاءه رسولا يوحنا، فدهشا حين رأيا يسوع جالسا هادئا، والناس حوله، فيغتاظان على ما يحتمل من أكثر النبيين هناء، ويفكران في أمر معلمهما المسجون في قبو رطيب محرق. ومن الجائز أن يكون يسوع قد قرأ ما في قلبيهما؛ لما رآه من تناقض بين مقتضى الحال ووضعهما، فحدق إليهما قائلا: «ماذا تودان أن تعلما؟» فسألاه باسم يوحنا: «أأنت هو الآتي أم ننتظر آخر؟»
طار طائر يسوع كما لو هوى عليه شيء، فمن الذي يخامره هذا الرأي فيجرؤ على إبدائه؟ تلك مسألة عظيمة، تلك مسألة ربانية، تلك مسألة لا ينبغي لأحد أن يسأل عنها، تلك مسألة لا يجوز لغريب كيوحنا أن يطرحها، تلك أسرار بين الأب والابن، تلك أمور لا يعبر عنها فتمر كالضباب الخفيف الذي يغشى احمرار الشمس وقت الغروب، أو كالهواجس الأثيرية التي تساور الأفئدة في الليل البهيم، تلك معضلة تؤدي إلى أرق الاعترافات وأحلاها مع ما تتضمنه من خوف البت ... يرن جميع ذلك في أذني يسوع، ويسوع يفاجئه غريب في مكان عام بذلك السؤال، فيطلب منه أن يجيب ب «لا» أو «نعم»، وكيف استطاع ذلك النبي العابس أن يسأل من غياهب
16
السجن يسوع الحليم عن ذلك؟ وما هو الجواب الذي يأمله؟ وما هو الجواب الذي يسمح به؟ يواثب ذلك كله يسوع، وتتجاذبه الأجوبة، فيجيش فيه صوت فيسأل في نفسه: أتلك هي آية جديدة يأتيني بها المعمدان؟ أفيوحي إليه أبوه السماوي بأن يكون أصلب عودا مما كان عليه؟ أجل، قد تكون هذه آية جديدة كالتي تلقاها حينما عمده يوحنا قبيل سجنه.
تضطرب تلك الأفكار في يسوع، ولا يعرف يسوع أيبقى صامتا على تلك الحال طويل وقت قبل أن يعود إليه صحوه؟ يظهر أن شيئا من روح المعمدان تسرب فيه فيهزه، وإنه لكذلك إذ أخذته العزة كالتي أخذته نحو أمه في قانا، فانتحل بها أوضاع الملوك، فأشار إلى الجمع بذراعه، وقال لرسولي يوحنا: «اذهبا وأخبرا يوحنا بما تسمعان وتنظران، العمي يبصرون، والعرج يمشون، والبرص يطهرون ، والصم يسمعون، والموتى يقومون، والمساكين يبشرون، وطوبى لمن لا يعثر في.»
وهل وجد بين الجم الغفير من أدرك ماذا حدث؟ إن المعلم الذي ما فتئ يترك أمكنة معجزاته وشفاءاته غير متخذ لها دليلا على عظم قدره، يفتخر بها اليوم أكثر من افتخاره بغيرها، فيرسل خبرها إلى يوحنا الذي لم يشف مريضا قط، فيقوم نفوذه على الكلام، ويظهر أن يسوع قال ذلك مهددا يوحنا؛ لما أبصره من معنى السخرية والغيرة في سؤاله، فترى من ذلك أنه أرسل إليه في سجنه وعيدا بدلا من السلوان والسلام!
ابتعد رسولا المعمدان، وظل يسوع مبلبلا بفعل ذلك السؤال وذلك الجواب وكل ما ساوره، وكانت هذه هي المرة الأولى التي يحدث فيها عن يوحنا وعن جميع الذين ينبئون بدنو اليوم المنتظر، فينذر الجاحدين الذين عاملهم برفق حتى الآن، وذعر الجمع فور سماعه يسوع، الذي لم يبد منه غير الرفق فيما مضى، ينطق بالكلمات القاسية الآتية: «ماذا خرجتم إلى البرية لتنظروا؟ أقصبة تحركها الريح؟ ولكن ماذا خرجتم لتنظروا، إنسانا لابسا ثيابا ناعمة، هو ذا، الذين يلبسون الثياب الناعمة هم في بيوت الملوك؛ لكن ماذا خرجتم لتنظروا؟ أنبيا؟ نعم، أقول لكم، وأفضل من نبي، فإن هذا هو الذي كتب عنه. ها أنا أرسل أمام وجهك ملاكي الذي يهيئ طريقك أمامك. الحق أقول لكم: لم يقم بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان؛ ولكن الأصغر في ملكوت السماوات أعظم منه ... فهذا هو إيليا المزمع أن يأتي، من له أذنان للسمع فليسمع.»
عجب الجميع من نبرات يسوع، بيد أن قليلا من المستمعين أدركوا ما يدور في خلده، فلم تتحول أنظارهم عنه مذعورين، فإذا كان يسوع يذكر إيليا ويصف يوحنا بالذي يمهد السبيل، فإنه يكون قد عنى بالمسيح نفسه وإن لم يقل ذلك، فاسمع قوله: «وبمن أشبه هذا الجيل؟ يشبه أولادا جالسين في الأسواق ينادون إلى أصحابهم ويقولون: زمرنا لكم فلم ترقصوا، نحنا لكم فلم تلطموا؛ لأنه جاء يوحنا لا يأكل ولا يشرب، فيقولون فيه شيطان، جاء ابن الإنسان يأكل ويشرب، فيقولون: هو ذا إنسان أكول وشريب خمر، محب للعشارين والخطأة.» •••
يا لتلك الطريق ذات المخاطر التي فتحت أمام يسوع بغتة! يا لذلك الابتلاء في سؤال يوحنا الذي قد يكون إنذارا من الرب! ظل شعور يسوع بقدره راقدا فيه منذ صباه لسيره مع الله لا مع الناس، فلم يتحرك فيه إلا لوقت قصير بعد العماد والقبض على المعمدان، ثم تنبه فيه فجأة عند طرح ذلك السؤال عليه. ويسوع إذ رأى المعمدان يربكه للمرة الثالثة أملى احترامه للأنبياء عليه شعورا بأن المعمدان أرسل ليمهد له السبيل. ويسوع حين أبصر خصومه وفكر في المؤامرات التي تحاك حوله، وشاهد زيادة عدد من يؤمنون به، ومن شفاهم، ومن يعبدونه سمع النداء أعلى مما كان عليه؛ لقربه منه.
بدت حماسة قوية في يسوع النبي بعد ذلك القول، فلام المدن التي تم على يديه كبير شفاء فيها؛ لعدم إيمانها، وحذرها من يوم الحساب، وأنذرها بعذاب أشد مما أصاب سدوم، وأصبح جديدا غضبه ولهجته وكلامه، فيقابل بهز الرءوس، وتبع يسوع بعض تلاميذه، وتوجهوا معه إلى شاطئ البحيرة الآخر، وأوغلوا بين الأودية والجبال.
وإن تلك العوامل لتؤثر في يسوع؛ إذ أخبره تلاميذه بأن أمه وإخوته خرجوا ليمسكوه قائلين: «إنه مختل.» وليس قريبا الوقت الذي أضحى به هؤلاء غرباء عنه، ومما حدث في تلك الأثناء أن كانت امرأة من الشعب في حالة وله ووجد فقالت: «طوبى للبطن الذي حملك!» فلم يقابلها بالشكر، بل قال: «طوبى للذين يسمعون كلام الله ويحفظونه!»
وإذا أضفت ما كان عليه يسوع من المحنة الروحية إلى عده ممسوسا من أولئك؛ وجدت نفسه مكلومة مرتين. أليس هذا الجحود مما يحفز قلبا جريحا إلى السير قدما في سبيل المجد؟ يجعل مثل هذا الجحود من أهله سبب ابتلاء له ما عدوه مفتونا؛ على حين تحترمه بلاد الجليل وتقدس له، وليست الناصرة بعيدة من تلك الأودية، فإذا غادر هذه صباحا انتهى إلى تلك مساء، فأمر تلاميذه بأن يظلوا حيث هم راغبا في الذهاب وحده ، فسار وشاطئ البحيرة الجنوبي، ومر بالقرب من المجدل، ومن المنطقة الغربية ذات العوارض تاركا جبل تابور عن شماله، ماشيا على طريق يعرفها جيدا.
يا لمضي الزمن! يا لسرعة دقات قلبه! أحقا أنه وجد أهله منذ بضعة أشهر في عرس بقانا الواقعة في تلك الأودية، فأحدث للضيوف خمرا، فعرف أمره؟ أجل، إنه جاب عالما في بضعة أشهر! والآن تبدو له أنوار تلك المدينة الصغيرة البيضاء الجاثمة فوق الوادي الأعلى، فيراها كما كانت عليه حينما تركها، ويسمع خرير الماء، ويدخل الكوخ، ويكون بين أهله، يا لشدة ذعرهم حينما أبصروه! أخوه يعقوب تقي ويراعي أحكام الشريعة، ويتبع رضوان الفريسيين، وتظهر على أمه وأخواته، على الخصوص، علائم الخوف؛ إذ ينظرن إليه بعد أن ترك حرفة النجارة من غير سابق إنذار، فيعود الآن بهدوء مثله يوم ذهابه، كما لو لم يحدث شيء، وغدا سيكون السبت، فماذا يقع؟
وينهض يسوع غدا صباحا في المعبد؛ حيث قضى شبابه صامتا، ويخبر الكاهن بأنه يرغب في الكلام فلا يمنع، فيحضر الخادم إليه سفر إشعياء، فيتوجه إليه الحضور بين ناظر وحاذر، فماذا يكون وعظ ابن الناصرة هذا؟ أفيحرك أفئدة الجمع بعذب الكلام كما صنع في غير مكان؟ نشر يسوع الرق قليلا فوجد الإصحاح الذي يرغب فيه، فقرأ من سفر إشعياء: «روح الرب علي؛ لأنه مسحني لأبشر المساكين، أرسلني لأشفي المنكسري القلوب؛ لأنادي للمأسورين بالإطلاق، وللعمي بالبصر، وأرسل المنسحقين في الحرية، وأكرز
17
بسنة الرب المقبولة.»
ثم يطوي يسوع الرق، ويعيده إلى الخادم، ويصعد في المنبر، ويتفرس في أبصار الجمهور الذي عرفه منذ سنين، فيقول بعد قليل صمت: «اليوم قد تم هذا المكتوب في مسامعكم.»
فدهش الحاضرون، فماذا يعني؟ ويداوم يسوع على القول مع أنه لم ينته إلينا جميع ما قال، ويهز السامعون رءوسهم استحسانا وإن وجد بينهم من ارتابوا فسألوا: «من أين لهذا هذه؟ أليس هذا هو النجار ابن مريم، وأخو يعقوب ويوسي ويهوذا وسمعان؟ أوليست أخواته ها هنا عندنا؟» فصاروا ينظرون إليه حذرين.
ويبصر يسوع، وهو الذي تعود مخاطبة الجمهور ، علائم المقاومة الأولى، فيمتعض فينقلب إلى محرض فيقول: «على كل حال تقولون لي: أيها الطبيب، اشف نفسك، كم سمعنا أنه جرى في كفر ناحوم، فافعل ذلك هنا أيضا في وطنك.»
كلمهم يسوع بهذا الأسلوب؛ لأنه ظن أن آياته قد ذاع أمرها، فرأى أن صيتها مما يساعده على التأثير فيهم، فداوم على تحريك ساكنهم بقوله: «الحق أقول لكم: إنه ليس نبي مقبولا في وطنه، وبالحق أقول لكم: إن أرامل كثيرة كن في إسرائيل في أيام إيليا حين أغلقت السماء مدة ثلاث سنين وستة أشهر لما كان جوع عظيم في الأرض كلها، ولم يرسل إيليا إلى واحدة منها إلا إلى امرأة أرملة، إلى صرفة صيداء، وبرص كثيرون كانوا في إسرائيل في زمان أليشع النبي، ولم يطهر واحد منهم إلا نعمان السرياني.»
وينهض الجمع مغاضبا قائلا: «إنه يسخر منا! إنه يتخذ أمثلته من المشركين ليعلمنا الإيمان ويهدينا إلى سبيل النجاة! إنه مختل كما قالت أمه! سمعتم ما قال! أسفر تقديس نسوة شاطئ البحيرة له عن انتفاخه عجبا فامتلأ إلحادا! ها هو ذا يعود إلى بلده ليجدف
18
على الله!»
ويشاهد يسوع ارتفاع الأيدي مهددة، ويلتفت فيرى عدوه الشائب الغني الذي كان محل مقته يرفع صوته متوعدا أكثر من غيره، ويحدث كما كان يسوع قد أحس، ولا بد من وقوع ما كتب، ويشعر يسوع الأعزل بأنه يحمل على الكفاح، ويبصر أن طريقه حافلة بالمكاره والآلام، وإنه ليقلب هذه الأمور في ذهنه فلا يبدي حراكا؛ إذ يطرده الجمهور الصاخب الغاضب إلى خارج المعبد، ويدفعه إلى اتجاه ذلك الجبل الذي تنور فيه أباه الرب، فينقذ المعز من مهالكه.
ويعرف يسوع في بلده مخابئ الجبل، ولا غرو فقد كان في صغره يستلقي فيه مفكرا ناظرا إلى القطاع. وهنا حيث المرج المقدس الذي عرف فيه أباه الرب قبل كل شيء، يستحيل قتله، فبينما يبحث الجمع الهائج عن أصلح الأمكنة ليقضي عليه، فيسأل مجادلا عن إمكان إعدامه بغير حكم قضائي؛ إذ يتفلت من القابضين عليه، ويتوارى بين ذلك الجمع، ثم يختفي في مأوى يعلمه منذ صباه.
وينجو يسوع من الخطر فيتنفس الصعداء، ثم ينظر إلى ما حوله فيشعر بأن هذه المحنة جاءت مؤكدة لثقته بنفسه، فيدور في خلده أنه كسب المعركة الأولى، أفلم يصرخوا في وجهه هازئين؟ أفلم يريدوا قتله؟ والله ينجيه من الهلاك مع ذلك، ويحس قطع الصلات، ويزول بقية ما في قلبه من الحب لأهله، وينكر يسوع هؤلاء الذي يستهزئون به، ويودون القضاء عليه مع أن من الواجب أن يكونوا أول المؤمنين به، فيرى نفسه في حل من آله وبلده، فيذوي بذلك حبه الوطني. ويسوع إذ أخرج من دياره طريدا فلم يفر من الموت إلا بأعجوبة أضحى ذا حب بشري شامل.
ويرجع يسوع إلى تلاميذه، ويلوذ الجميع بالفرار ما صارت مغادرة الجليل أمنيته، وليس عليهم إلا سير يوم ليبلغوا بلاد الشرك؛ حيث صور وصيدا اللتان لا يطالب الناس فيهما بحياة يسوع، فيحس أنه صار بمأمن من الخطر، وفي بلاد الشرك تلك لم يجهل وجه يسوع، فما كاد يصل إليها حتى عرفته امرأة فنيقية فودت أن يساعدها، فتملقته بأن خاطبته بلقب يهودي قائلة له: «ارحمني يا سيد، يا ابن داود! ابنتي مجنونة جدا.»
بيد أن من عادة يسوع أن يعين اليهود لا المشركين، فيبتعد من غير أن يجيبها بكلمة، فيقول له تلاميذه: «اصرفها؛ لأنها تصيح وراءنا.» ويظل يسوع مخلصا لأحكام الشريعة فيهز رأسه رافضا قائلا: «لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة.»
وتصر المرأة، وتمنعه من السير، وتخر عند قدميه وهي تقول: «يا سيد أعني!» فلا يغير ذلك من موقفه شيئا فيجيبها بعنف: «ليس حسنا أن يؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب.»
ولكنه يجري على لسان المرأة الجواب الملهم الآتي: «نعم، يا سيد، والكلاب أيضا تأكل من الفتات الذي يسقط من مائدة أربابها.»
قطع بهذه الكلمات آخر خيط يربطه بما تعلمه من الوصايا في صباه؛ فهو يشعر بأن تلك المرأة الكنعانية السائلة الراكعة بين الغبار ليست أقل جدارة بعنايته من أية امرأة يهودية، مهما كان عدد الأصنام التي تعبدها ، فيقف متأثرا بكلامها، فلم يلبث أن رأى فيها ببصيرته النبوية صورة عالم جديد ينشد الخلاص، فيزيل من ذهنه الوهم القائل بأن اليهود هم الشعب المختار، فيفتح قلبه لجميع البشر مجاوزا حدود العادات والتقاليد، فيقول لتلك المرأة: «يا امرأة، عظيم إيمانك، ليكن لك كما تريدين!»
فكانت هذه هي المرة الأولى التي يشفي يسوع فيها امرأة وثنية.
الفصل الثالث
السحب
والآن تبدأ الهجرة، فيسوع الحليم والسراج المنير الذي جال صيفا بأكمله في بلاده مواسيا شافيا، فلم يدع أحدا إلى مقاتلة الأقوياء، ولم يهاجم شعب الرب وزعماءه بأورشليم يضطر إلى الاختفاء في الغاب، وفي قعور الصخور، وإلى مجاوزة شاطئ البحيرة والحدود؛ ليقضي الخريف والشتاء خارجها فرارا من مضطهديه.
انقضى دور التنقل بين المدن والقرى كما بين الأعراس، انقضى دور لذة تنفيذ المقاصد وسعادة الهداية إلى الدين الجديد، فانقلب ينبوع المحبة الصافي، الذي كان يفجره كلامه في قلوب الجمهور إلى نهر كبير ذي مياه صفر عكرة، انقضى دور النصر الجميل بغير قتال، فيخشع الإنسان به أمام رحمة الرب وكرمه، انقضى دور العصمة الأول البعيد من الغيرة، فعلى الرسول أن يواجه الآن خيانة وغدرا وافتراء وجحودا وسخرية، فيثقل ذلك على نفسه، فيؤدي إلى إظهار ثقته بذاته من مخبئها الخفي، فتتحول هذه الثقة إلى اعتزاز، فتقوم الأوضاع الملكية مقام الخشوع، وينتحل ابن الإنسان مظهر ابن الله.
ويظهر أن يسوع ركب سفينة فهاجر في بدء الأمر إلى جولان، فإلى بيت صيدا الواقعة في منطقة بحر الجليل الشمالية الشرقية الهادئة الخصيبة؛ حيث يصب نهر الأردن فيؤلف طبقة غرينية،
1
وبالأمس كان السلطان في تلك المنطقة لفيليبس، الذي هو أحسن أبناء هيرودس، واليوم آلت السلطة فيها إلى أمراء تابعين لرومة، فضمت إلى سورية، وتبعد هذه المنطقة من العاصمة الجديدة دمشق، وأبعد من ذلك رومة التي تصدر منها الأوامر، فلا يستطيع هيرودس أنتيباس أن يتدخل في شئون بلاد مجاورة مثلها عاطلة من سيد. ومن الملحوظ أن يجد مهاجر كيسوع أمنا في بلد يرتبك في دور انتقال كذلك البلد، ولا نعرف عدد الأسابيع التي قضاها يسوع مطمئنا هنالك؛ وإنما نعلم أنه وجد بعد زمن من تلك السنة في مدينة جدرة الصغيرة السورية الواقعة في جنوب البحيرة الشرقي، فيقطن بها أناس من الإغريق، ففيها يرى يسوع أنه في مأمن من أعدائه، فمن ذا الذي يظن وجود معلم يهودي في مثل تلك القلعة الوثنية؟
لم تلبث قدرة يسوع على الشفاء أن أخرجته من مهجره، وبيان الأمر أن قطيع خنازير كثيرة كانت ترعى الكلأ في الوادي الملاصق لتلك المدينة، فيركض من بينها مجنون إلى يسوع؛ لما سمعه عنه بعد أن كان يسكن القبور والمغاور، فكسر قيوده، فلم يسطع أحد أن يزجره لرميه الحجارة على كل من يدنو منه، فينادي يسوع قائلا كما قال المجنون الأول الذي شفاه في كفر ناحوم: «ما لي ولك يا يسوع ابن الله العلي، أستحلفك بالله ألا تعذبني!» فيسأله يسوع: «ما اسمك؟» فيجيبه بصوت راعد: «اسمي لجئون؛ لأننا كثيرون.» فيحدق إليه يسوع، فيهزه، فيقرأ عليه العزائم، فيهدأ جنونه فيشفى، ويراقب الرعاة ما حدث، فيسقط في تلك الأثناء بعض الخنازير الضالة من فوق الجرف إلى البحر.
ذعر أولئك الرعاة فاعتقدوا أن الشيطان ترك ذلك المجنون ودخل في الخنازير، ففروا إلى المدينة، فقصوا ما حدث على ساكنيها مع مبالغة، فيهرع هؤلاء فيجدون الممسوس مبرأ، ويجدون الخنازير غارقة، ويجدون الغرباء الذين هم سبب ذلك هنالك، فيستحوذ عليهم فزع، فيطلبون من هؤلاء السحرة أن ينصرفوا عن تخومهم.
غشاء كثيف يغشى أعمال المحسن فيطرد، ولماذا؟ أمن أجل بضعة خنازير لم تلبث القصة أن جعلت منها ألوفا كما اعتقد ذلك المجنون وجود جوقة من الشياطين فيه؟ يظهر أن يسوع خسر بعض فتنه؛ لما أصابه من الاضطهاد، فأضحى يجتنب ويطرد، بعد أن كانت تفتح له الأبواب؛ لما بدا عليه من علائم التشرد، وحب الاطلاع، وتنافر الصوت، فلم يبق لديه سوى العودة إلى الجليل؛ حيث ينتظره أعداؤه، وحيث تحيق به الأخطار.
مرثا ومريم.
إليك الفريسيين في الجليل يجدون في طلب يسوع، فأين يلاقونه إذن؟ يعلم جميع من في البلاد ، منذ زمن، ماذا حدث في الناصرة، وفي هذا سبب عدم ظهوره حتى في المعبد، حتى على رأس الجبل، حتى على شاطئ البحيرة، حتى في الميدان العام، فهل خاف فغاب عن الأنظار؟ فأما وقد عاد أخيرا إلى البلاد، فإنه لا يستطيع الاختفاء يوما واحدا ما ذاع خبر رجوعه، وأخذ يطوف في المدن والقرى الواقعة حول البحيرة منذ اليوم الثالث، والناس ليسوا من الحمقى كأهل الناصرة؛ فهم لا يريدون مهاجمته بغير حذر، وهم في ذلك كالعدو الذي يفاوض عدوه ليكتشف محل الضعف فيه قبل أن يهاجمه.
ويعرفهم يسوع بمشيهم في السوق، وتناسب خطاهم، واتزان حركاتهم، وحدة نظراتهم، وانقباض شفاههم، وفتور سلامهم المؤدب، ويبصر يسوع من خلال هلعه دنو العدو، فينضب حبه الفياض للناس في أعماق قلبه، ويسأله فريسيان واقفان على حافة الطريق باهتمام: «متى يأتي ملكوت الله؟» فينتحل طوريهما، فيجيب عن سؤالهما كمن يريد أن يعلم لا أن يلوم: «لا يأتي ملكوت الله بمراقبة، ولا يقولون هو ذا ها هنا، أو هو ذا هنالك؛ لأن ها ملكوت الله داخلكم.» ثم ينصرف فيتعقبانه بعيونهما هازين أكتافهما غير شاعرين بالنفحة النبوية التي صدرت عنه، وإن شئت فقل بالمبدأ الجديد الذي هو من القوة؛ بحيث يكفي لرج العالم القديم. أجل، إن يسوع النجار قال لهما: «ها ملكوت الله داخلكم.» وسار في طريقه؛ غير أن ذينك الفريسيين كانا من الغرور ما لم يسمعا معه حفيف الأجنحة الخفية، فيشعرا بحضور الرب الذي يريان أنه «لا يدرك».
ويرى آخرون ذات يوم امتحان النبي الجديد فيسألونه أن يريهم آية من السماء، فتعتريه سورة غضب، فيضبط نفسه بدلا من إبدائها، فيجيب عابسا: «إذا كان المساء قلتم صحو؛ لأن السماء محمرة، وفي الصباح اليوم شتاء؛ لأن السماء محمرة بعبوسة. يا مراءون! تعرفون أن تميزوا وجه السماء، وأما علامات الأزمنة فلا تستطيعون! جيل شرير فاسق يلتمس آية، ولا تعطى له آية!»
والحق أن السماء مكفهرة، وفيها الآيات، وليس زمن نزول صاعقة منها ببعيد، وتصل أنباء يسوع الناصري إلى أولياء الأمور بأورشليم تباعا ، فيرسلون إلى الجليل كتبة؛ ليروا من يتبعه، وليروا هل يجدف على الله، وليبحثوا عن وسائل للقبض عليه، ولا يصعب العثور عليه ما التف الجمهور حوله من جديد، وجمع الشهود ضده هو ما يرغب فيه أعداؤه.
لم يسمع الكتبة إلحادا؛ وإنما علموا أن تلاميذ يسوع لا يغسلون أيديهم قبل الطعام، وغسل كهذا لم يكن واجبا إلا قبل الأكل من الموائد القربانية، ثم وسع تفسير الشريعة فقيل بضرورة غسل الأيدي قبل الطعام من الموائد العادية، فأضحى ذلك عادة في العاصمة، لا بين فلاحي المناطق القاصية المساكين الذين لم يسمعوا شيئا عن ذلك على ما يحتمل، وليس في ذلك كبير أمر؛ وإنما يعد بداءة يستدرج منها يسوع الثائر، ومن المحتمل أن يكون ذلك قد وقع مساء في مكان عام؛ حيث يجلس الناس على عتب بيوتهم، أو يتكئون على عمدها، أو يسيرون ذهابا وإيابا طلبا للطراوة، ويقترب أولئك الكتبة من يسوع ويسألونه جهرا: «لماذا يتعدى تلاميذك تقليد الشيوخ، فإنهم لا يغسلون أيديهم حينما يأكلون خبزا؟»
ويعلم يسوع حضور الكتبة، وهو لو لم يرهم لشعر بقربهم منه، وهو يعترض عليه للمرة الأولى في حياته بالنظام العام وبالشريعة وبأورشليم، ومثل هذا ما رآه حينما تصدى رسل مجلس السنهدريم ليوحنا مؤنبين مجادلين، فكانوا رسل الناس أمام رسول الله، فلم يختلفوا عن هؤلاء عبوسا ورفع أصابع، فيتمثل يسوع شخص المعمدان وصوته، ويتذكر قوله: «يأتي من هو أقوى مني!» وسؤاله عما إذا كان هو الذي أقوى منه، فينتبه فيه شعوره بقدر نفسه بغتة، بعد أن رقد فيه بفراره، فيبعث فيه حب مهاجمة العدو علنا، وإلى هذا يضاف ما يساور يسوع من القلق التقليدي عند نظره إلى تلك الوجوه، كما يضاف إليه توتر الوضع الحاضر. وليس في سؤال الكتبة المضحك ما يستحق أن يجيب عنه؛ وإنما يلوح أن سلاحا خفيا أصبح في يديه المعصومتين، فتحدى أعداءه في الميدان العام بصوت المعمدان الرخيم: «وأنتم أيضا لماذا تتعدون وصية الله بسبب تقليدكم؟ فإن الله أوصى قائلا: أكرم أباك وأمك، ومن يشتم أبا أو أما فليمت موتا، وأما أنتم فتقولون: من قال لأبيه أو أمه قربان هو الذي تنتفع به منى، فلا يكرم أباه أو أمه؛ فقد أبطلتم وصية الله بسبب تقليدكم. يا مراءون! حسنا تنبأ عنكم إشعياء قائلا: يقترب إلي هذا الشعب بفمه، ويكرمني بشفتيه، وأما قلبه فمبتعد عني بعيدا، وباطلا يعبدونني وهم يعلمون تعاليم هي وصايا الناس.»
وهكذا يناهضهم يسوع بتقاليدهم، وهكذا يخاصمهم بكلام أنبيائهم، وهكذا يصفعهم بما يألم به من أثرتهم الأثيمة. ويظهر أن سهمه مس القلب فلم يقولوا كلمة، بل انقلبوا راجعين؛ وإنما أصاب سهمهم الذي صوبوه إليه مقتلا منه حينما حل وقت انتقامهم.
ويشعر يسوع بأن كلامه ناري، ولم يكلم يسوع الشعب منذ وقت غير قصير، ولم يحدث أن خاطب يسوع الشعب بمثل تلك الشدة، ويحدث يسوع الجمهور بحماسة يوحنا، وعلى ما تراه من وجود يسوع في بلد صغير كثير الغبار، فإنه يستأنف بذلك القول حكم أورشليم لدى بلاد الجليل بأسرها، ويهزأ يسوع بحظر بعض أنواع الطعام على أنه غير نظيف خلافا لأحبار أورشليم، فيقول على مسمع من أولئك الكتبة: «ليس ما يدخل الفم ينجس الإنسان، بل ما يخرج من الفم هذا ينجس الإنسان.»
وذعر تلاميذ يسوع، فهم لم يروه هائجا مثل ذلك فيما مضى، وساورهم القلق من حدوث صراع جديد، فدنوا منه قائلين له بصوت خافت: «أتعلم أن الفريسيين لما سمعوا القول نفروا؟» ولكنه، وهو الذي كان حليما حذرا، لم يضبط نفسه في هذه المرة بعد أن تعاقبت الصور في ذهنه، فتحفزه إلى الاستهزاء بالفريسيين، فيقول بصوته الداوي: «كل غرس لم يغرسه أبي السماوي يقلع، اتركوهم، هم عميان قادة عميان، وإن كان أعمى يقود أعمى يسقطان كلاهما في حفرة.»
ألم يسمع وراءه صدى لضحك إلحادي؟ ويزيد تلاميذه غما، ويود بطرس ردعه فيقول له: «فسر لنا هذا المثل!» فيألم يسوع من قطع كلامه، فيجيب مؤنبا: «هل أنتم أيضا حتى الآن غير فاهمين! ألا تفهمون بعد أن كل ما يدخل الفم يمضي إلى الجوف ويندفع إلى المخرج، وأما ما يخرج من الفم فمن القلب يصدر، وذاك ينجس الإنسان؟» ويتطاير الشرر من عيني يسوع خلف الفريسيين الذاهبين فيقول: «من القلب تخرج أفكار شريرة: قتل، زنى، فسق، سرقة، شهادة زور، تجديف، هذه هي التي تنجس الإنسان. وأما الأكل بأيد غير مغسولة؛ فلا ينجس الإنسان.»
وبهذا يكون يسوع قد أجاب عن سؤال الفريسيين المثير، وليعودوا إلى الكهنة إذن! وليحدثوهم عن جرأة يسوع النجار المتعصب إذن! ولتعلم أورشليم ذلك إذن! وهكذا يصرح يسوع لأعدائه أمام الناس بما يجول في خاطره نحوهم، فيفك قيوده فيصبح طليقا. •••
يزيد عدد مستمعي يسوع مرة أخرى فيتبعونه برا وبحرا في رحلاته، ويستقر يسوع أقل من قبل، وتقل خططه الصريحة أكثر من قبل، ويلتفت يسوع إلى خلفه في الغالب باحثا عن مكمن الخصم، ويضاعف إعلانه العداء عدد أتباعه لا ريب، ما انحاز إليه الفلاحون بغرائزهم ضد الكهنة، فهل قاسمهم الكهنة همومهم؟ وهل طالبوهم بغير مراعاة الشريعة؟ أفلا يمشي الكهنة في الأسواق مفتخرين بتقواهم مجتنبين غيرهم؟ وعكس هذا أمر يسوع الذي لم يفاخر بشيء، فكان يعاشر الفلاحين وينفخ فيهم روح الشجاعة ما دام واحدا منهم.
ولم يمنع ذلك من أن يكون إيليا أو غيره من الأنبياء الذين يظهرون قبل بدء العصر السعيد، ولكن أولئك لم يفكروا في أنه هو ابن داود أو المسيح، فكانوا يدعونه بابن الإنسان الذي سمى به نفسه مؤمنين بأنه صالح الأعمال في هذه الدنيا، أفلا يجيء إليه الفريسيون أنفسهم طالبين منه العون عند اشتداد الحاجة؟ ليس قليلا أن يلجأ إليه كهنة المعابد راكعين. ومن هذا أن جاءه رئيس المجمع فقال له متوسلا: «إن ابنتي الآن ماتت، ولكن تعال وضع يدك عليها فتحيا.» فيوافق يسوع على ذلك فيتبعه الجمهور فيسمع صراخ الخدم وهم يقولون: «ماتت البنت!» ويعرف يسوع تسرع الخدم في نعي المحتضر، فيسرع ماشيا ومعه بعض تلاميذه، فيدنو من البنت المغمى عليها فيقول: «لماذا تضجون وتبكون؟ لم تمت الصبية؛ لكنها نائمة!» فيضحكون عليه، فيخرج الجميع خلا أبوي البنت فيقول لأبيها: «لا تخف، آمن!» ثم يمسك بيدها ويقول لها: «يا صبية، قومي !» فيخضعها لإرادته على حسب عادته فتقوم.
ويستولي الدهش والخوف على الجميع، فإذا كان يسوع قادرا على إحياء الموتى؛ فإنه يكون ساحرا من النوع الهائل لا ريب، وإن قدرة الشفاء التي كانت تمهد له السبيل في البداءة فتبدو عاملة في انضواء الناس إليه؛ تقف حائلا بينه وبين الجمهور كما حدث في أمر خنازير جدرة، ثم تفض الناس من حوله كما هو واقع اليوم.
خاب أمل يسوع في ذلك الشعب بعد أن أسرف في حبه والصبر عليه، وكيف لا يفكر في تلك المرأة الوثنية التي هي على خلاف أهل ذلك البلد؛ حطمت قيود العناد بإيمانها المتين؟ والآن يبدأ يسوع بتعزير الجمهور الذي أكثر من إلقاء السكينة إلى قلبه، فيقول مغاضبا: «ويل لك يا كورزين، ويل لك يا بيت صيدا؛ لأنه لو صنعت في صور وصيداء القوات المصنوعة فيكما لتابتا قديما في المسوح والرماد؛ ولكن أقول لكم: إن صور وصيداء تكون لهما حالة أكثر احتمالا يوم الدين مما لكما، وأنت يا كفر ناحوم المرتفعة إلى السماء ستهبطين إلى الهاوية؛ لأنه لو صنعت في سدوم القوات المصنوعة فيك لبقيت إلى اليوم.»
ويستمع اليهود إلى كلام يسوع منغضين
2
رءوسهم، ويقولون: كان يسوع يخاطبنا كراع، فأخذ الآن يخاطبنا كيوحنا، فهل هو المعمدان نفسه؟ ولماذا يستشهد لنا بالوثنيين؟ ولماذا يفتخر بالآيات التي أتى بها مع أنه لم ينكرها أحد؟ ألم يطالب من أبرأهم بكتمان السر؟
وإن قنوط يسوع من ذلك الشعب الضال ومقته حملة الشريعة يبعدانه من هذين الفريقين، فيزيد ميله إلى ترك بلاد الجليل والطواف في بلاد الإشراك، وسواء أتوجه يسوع إلى السامرية في الجنوب، أم إلى صور في الغرب، فإنه يعين أهل الإلحاد فيهما، ويشفي مرضاهما من غير أن يحاول بينهم وعظا، أو دعوة إلى إيمان، ومما لا ريب فيه أن جوابه عن سؤال ناموسي: «من هو القريب الذي يجب أن أحبه أكثر من أي شخص آخر؟» أمر واقعي عرفه في بلاد الإشراك، فهذا الجواب الذي هو: «إنسان كان نازلا من أورشليم إلى أريحا، فوقع بين لصوص فعروه وجرحوه ومضوا وتركوه بين حي وميت، فعرض أن كاهنا نزل في تلك الطريق فرآه وجاز مقابله، وكذلك لاوي أيضا؛ إذ صار عند المكان جاء ونظر وجاز مقابله، ولكن سامريا مسافرا جاء إليه، ولما رآه تحنن فتقدم وضمد جراحاته، وصب عليها زيتا وخمرا، وأركبه على دابته، وأتى به إلى فندق واعتنى به، وفي الغد لما مضى أخرج دينارين وأعطاهما لصاحب الفندق وقال له: اعتن به، ومهما أنفقت أكثر فعند رجوعي أوفيك، فأي هؤلاء الثلاثة ترى صار قريبا للذي وقع بين اللصوص؟ ... اذهب أنت أيضا واصنع هكذا.» قد علمه ملايين البشر منذ قرون فخلد السامري المجهول به اسم شعبه المشرك.
ويشعر يسوع بأنه مطارد ومشتبه فيه، فلا يخالط الشعب مقتصرا على تلاميذه، وليعلم تلاميذه أفكاره، ولينشروا من الأقوال ما يجادل فيه، فلا يوثق به في كل مكان، وكلما حمل يسوع على العزلة تصور مذهبه في باطنه، لا على صيغ مقررة، وعاد يسوع لا يكلم بلهجة عاطفية كما يكلم الأب أبناءه، بل أخذ يبدو سيدا آمرا، ويلوح من خلال تعاليمه لتلاميذه الذين يدعوهم بالحواريين أيضا، مقدار المرارة فيه بعد أن مد ذراعيه لكسب القلوب فقوبل بالمقاومة تارة، وبعدم الاكتراث تارة أخرى.
قال يسوع: «ها أنا أرسلكم كغنم في وسط ذئاب، فكونوا حكماء كالحيات وبسطاء كالحمام.» ولم تفارق السذاجة يسوع في أي وقت، ولم يبد حكيما كالحية في أي حين. ويسوع إذ أصبح أبا لتلاميذه وجب على هؤلاء الأبناء أن يعتبروا بتجاربه، فيغدوا أشد حكمة منه.
ويتجنب يسوع كل ما يشعر بأنه صاحب طريقة خاصة كالآزيين، ويحظر يسوع كل شعار، ويطالب يسوع تلاميذه بأن يكونوا ذوي عوز لم يأمر بمثله سيد قبله، فلا فلس ولا خبز ولا كيس، ولا عصا عند السفر، فهم يجدون بيوتا مقراة
3
كما يجد، فعلى من يأتي الفقراء والعزل بالبشرى أن يكون فقيرا أعزل، «فأي بيت دخلتموه فهناك أقيموا، ومن هناك اخرجوا، وكل من لا يقبلكم فاخرجوا من تلك المدينة وانفضوا الغبار أيضا عن أرجلكم شهادة عليهم .» فيا لقسوة المعلم بعد حلم! وإلى أين ذهبت نبرات المحبة؟ لقد أضحى شبيها بنبي غضوب.
وقد بدا تلاميذه خرقا ذات مرة فعنفهم بقوله: «لماذا تدعونني بالمعلم ما دمتم لا تعملون بما أقول؟ ... تقولون: إنا أكلنا وشربنا أمامك، وقد علمت في شوارعنا ... أقول لكم: إني لا أعرفكم. من أين أنتم؟ أبعدوا عني يا جميع فاعلي الإثم.» ويحس بعده من جلسائه، ويؤنب متجبرا تلاميذ جددا أتوه بقوله: «ليس من تلاميذي من يأتيني غير مزدر لأبيه وأمه وزوجته وأولاده وإخوته وأخواته وحياته أيضا.»
وراقه رجل يوما فقال له باختصار: «اتبعني!» فقال له هذا الغريب: «يا سيد، ائذن لي أن أمضي أولا وأدفن أبي!» فقال له يسوع: «دع الموتى يدفنوا موتاهم، وأما أنت فاذهب وناد بملكوت الله.»
وأراد أحدهم أن يودع أبويه قبل أن يتبعه فتركه حيث هو قائلا بازدراء: «ليس أحد يضع يده على المحراث وينظر إلى الوراء يصلح لملكوت الله.» وعاد يسوع لا يكون ذلك الرجل الذي يلوم الفريسيين على منعهم الابن من العناية بأبيه وفق تعاليمهم.
ولم يتورع يسوع عن تهديد أمه في مكان عام؛ فقد أرادت أمه وإخوته ذات مرة ردعه عن سلوكه سبيل الخطر، فأرسلت إليه أمه من يخبره بأنها راغبة في محادثته، فخاطب تلاميذه قائلا لهم بحدة: «من هي أمي؟ ومن هم إخوتي؟» ثم مد يده إلى تلاميذه وقال: «ها هي أمي وإخوتي؛ لأن من يصنع مشيئة الله هو أخي وأختي وأمي.»
ويعود يسوع بين حين وحين إلى حكمة ماضيه المرح؛ فقد سمع تلاميذه في نزهة يتحاجون في من هو أعظم في ملكوت السماوات، فيجلس على صخرة في حافة الطريق كاتما ما تورثه تلك المجادلة الغليظة فيه من خيبة الأمل، فينادي ولدا كان يلعب على قارعة الطريق فيحتضنه ويخاطب تلاميذه قائلا: «الحق أقول لكم: إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد فلن تدخلوا ملكوت السماوات، فمن وضع نفسه مثل هذا الولد فهو الأعظم في ملكوت السماوات.» •••
تدوي أصوات العيد في قلعة مخيروس؛ فقد دعا هيرودس قادة الجيش وأكابر الموظفين والأعيان إلى الاحتفال بعيد ميلاده جاهلا ماذا يحاك في غيابه.
ما فتئ رؤساء الكهنة بالقدس يحرضون هيرودس على قتل يوحنا المعمدان الذي هو سجين في ديماس
4
واطئ فيزيد شهرة منذ إساره؛ لما يرونه في ذلك من إرهاب تلميذه يسوع الناصري الذي يسير على غراره بما هو أشد خطرا كما يظهر، ولكن هيرودس رفض ذلك حتى الآن؛ فهو يعلم - كقطب سياسي - ما للشهيد من سلطان، وهو يتذوق كفيلسوف محادثة حكيم. وهذا إلى خوفه مغبة قتل لا ينفع أحدا.
وتزيد هيروديا عن زوجها حقدا وجسارة وحرصا، فتنصت لنصائح مجلس اليهود الكبير «السنهدريم»، وهيردويا هذه وإن لم تشعر بأن زواجها في خطر بفعل ذلك الأسير، ترى في الصورة التي ينظر بها إلى زواجها ما يجرحها في الفؤاد، ويعرف الفريسيون والصدوقيون هذا فيوجهون نزقها إلى تنفيذ مآربهم السياسية، وتجعل هيروديا لابنتها سالومة إصبعا في حوك الدسيسة ما كانت فتاة بعد وفاة زوجها المسن فيلبس، وما كانت تطفح حياة، وما وصلت شهرتها في الرقص إلى رومة.
هيأت الأم ابنتها، وترقص الابنة في قاعة الوليمة أمام الضباط والموظفين، وترقص على الخصوص من أجل هيرودس الذي يخيل إليه حين يراها وهي ابنة زوجته رجوع صباه إليه، ويحل منتصف الليل ويتكئ هيرودس إلى المائدة بفعل الخمر، ويسمع هتافات الإعجاب، ويرى التماع عيون الندماء، وغض أبصار العبيد، ويرى ربيبته تلك ترقص عارية على أنغام المزمار والصنج ذي الأوتار، فتتحرك فيه شهوة العطاء التي لا يخلو قلب شرقي منها، ويتنبه فيه حب عرض قدرته وثروته على حاشيته تقديرا للجمال. ومن المحتمل أن حثت هيروديا زوجها على إكرام ابنتها ملكة السهرة بسخاء مع امتعاضها عادة من عرض فتنة ابنتها هذه على زوجها التعب، ومن المحتمل أن فكر زوجها في أستير ذات الحظوة لدى الشعب، فرغب في نسج أسطورة لنفسه، فخاطب الراقصة سالومة بكلمات أحشويروش: «مهما طلبت مني لأعطينك حتى نصف مملكتي.»
وينهض الحاضرون شاعرين بأن تلك الساعة من الأوقات النادرة الثمينة، راغبين في سماع جواب الراقصة ، أفتطلب أسورة من لؤلؤ لتزين بها معصميها وكعبيها؟ أم تطلب مدينة؟ أم تطلب نصف ولاية؟ ولماذا تعرب عن رغبتها بصوت خافت لكيلا يسمعها أحد؟ أفي رغبتها هذه ما هو شائن؟ وما هو سبب اصفرار وجه هيرودس ونهوضه بغتة واضعا يده على قلبه؟ وأي شيء أقدمت عليه؟ لم يدرك ذلك أحد؛ وإنما رئي بروق عيني هيروديا، وتوارى الأمير.
ينزوي هيرودس في الردهة المجاورة فيسأل في نفسه مبهورا: أرأس يوحنا؟ أجعل الرب ابتلاءه في نقاب الراقصة الحسناء؟ ألا يستطيع أن يمنحها شيئا آخر؟ فيستدعيها ويستحلفها بأن تعدل فيتمثل لها أمر أمها، فلا تتنزل عن رغبتها، فلا ترضى بأية مدينة أو ولاية بدلا من ضرب رقبة يوحنا، ووضع رأسه على طبق من ذهب، وعبثا حاول هيرودس أن يحمل زوجته على دعوة سالومة إلى سبيل العقل والحكمة، بل ظلت هذه الزوجة صامتة جامدة، ولم لا بعد كل هذا؟ ليس يوحنا غير مسكين مفتون مسجون في الديماس هنالك، ليس يوحنا غير عدو للأغنياء والأقوياء، ليس يوحنا غير حاقد على الناموسيين؛ فما فائدة مداراته؟ ألم يسع في عبر الأردن فسادا؟ ألم يهيئ النفوس للعصيان؟
ويشير هيرودس على عبيده ويأمر بقطع الغناء.
ولا أحد يدري ما حدث ولا ما يحدث، وينتظر الضيوف، ويصمت بعضهم، ويتكلم بعضهم همسا، ولا يتناول أحد منهم خمرا، ويحاول هيرودس أن يتجلد تجاه ما يقع، وتسمع خطوات ثقيلة على الدرج، ويصعد فيه رجال مسلحون باتزان، ويحمل آخرهم طبقا عليه رأس يوحنا المعمدان، ويقدمه الجلاد إلى سالومة فترتد متكمشة ثم تتقوى، فتأخذ الطبق وتسلمه إلى أمها.
ذاع الخبر في البلاد بسرعة البرق، والبلاد تهتز لحوادث وقعت قبل ذلك، فبلاد الجليل على الخصوص كانت مضطربة، ففيها خلفت عصابة من ذوي الحمية يهوذا الجليلي فتقدمت إلى أورشليم؛ حيث شتمت الرومان، وهاجمت حرس الهيكل، فتمكن بيلاطس من القبض عليهم، فكان المسمى باراباس أحدهم، فعلم يسوع ذلك في أثناء عزلته، فرآه أمرا متصلا برسالته، نذيرا لفتنة شاملة مصدقة لآياته، ويسقط في تلك الأثناء برج بالقرب من بركة سلوام ، فيهلك ثمانية عشر رجلا، فتزيد أعصاب يسوع توترا.
هنالك أخبر يسوع تلاميذه بإعدام يوحنا المعمدان فبهت، فيتمثل حوادث الأردن وسجن يوحنا وذبحه، فيرتعد وتشل حركته، ثم يجد في يوحنا المثل الذي يعين مكانه، فيلوح أن يوحنا يصرخ من قبره قائلا له: «يأتي بعدي من هو أقوى مني.»
أفيأتي؟ أفتكون حياة المعمدان مثلا لمصيره؟ تثير زوبعة من المشاعر قلبه، فتبدو الطريق التي كان يسره أن يرى غيره سائرا فيها خالية، فلم يبق ما يجعله مترددا، فليطبق على العمل ما ساوره في الأسابيع الأخيرة من السوانح إذن.
وهكذا يحفزه يوحنا إلى سلوك طريق مجهولة للمرة الرابعة، فلما غسله يوحنا بماء المعمودية أوجب خروجه من جباله ليختلط بالجمهور، ولما قبض على يوحنا حمل عبء عمله، ولما سأله يوحنا أيقظ المسيح الراقد فيه، واليوم يحمله قتل يوحنا على البت جهرا، ويوحنا حين يتوجه تتويجا خفيا يكون قد عين له طريق الآلام.
يستحوذ الخوف على يسوع للمرة الثانية، فيسمع من جديد صوت أبيه البعيد كما سمع في المرة الأولى، ولكن صوت اليوم هو صوت صاعقة، لا صوت حمامة كالذي جاء ليخبره عن أيام البهجة والسرور.
ويحيق الخطر بيسوع من الخارج ما عزم هيرودس على ذبح كل ذي بدعة، ويلوح شبح الاضطهاد ليسوع من الخارج ما شعر الفريسيون بأنهم في مأمن؛ غير أنك ترى يسوع متعطشا في صميم فؤاده إلى تأدية دين رسالته الثقيل إلى الرب، وإلى بلده وشعبه ونفسه.
يفر يسوع مذعورا هو وتلاميذه إلى شرق البحيرة، فيعبر الأردن فيتوجه إلى الشمال حتى سفح جبل حرمون. •••
يقع على ضفة الأردن اليمنى واد واسع خصيب، فيرتفع بالتدريج إلى سفوح الجبل، ويندلق الأردن فيبدو نشيطا في هذا المكان الذي لا يزيد عرضه فيه عن عشرين خطوة، فإذا ما رفع السائح عينيه إلى ذروة التلال وجد فوق رأسه قلعة قيصرية فيلبس الجبارة، والمدينة الجديدة الجميلة المحيطة بها، وليس ببعيد زمن حكمها من قبل فيلبس بن هيرودس؛ زوج سالومة التي أجادت الرقص، فأسفر رقصها عن قطع رأس المعمدان، فلو كان فيلبس حيا، وظلت زوجته سالومة بجانبه؛ لأنقذت حياة يوحنا مع أمور شتى، وما كان يسوع ليجيء إلى هنا على ما يحتمل.
وما كان يسوع ليجهل أن ذلك المكان واقع على حدود إسرائيل في زمن الاستقلال والسلطان، وما كان أي أمير يهودي، حتى داود، ليوسع رقعة دولته إلى ما هو أبعد من ذلك في الشمال. واليوم يسكن الإغريق ومن إليهم من عبدة الأصنام تلك البقعة، ومن هنا يسير النهر الغريب نحو الجنوب بسرعة، ويسوع حين يكون في ذلك المكان فيرجع بصره إلى منبع الأردن يتعقبه بفكره إلى مصبه، فيتمثل ما اتفق له هنالك.
ويسوع إذ أصبح في ذلك المكان في شهر فبراير كان الزمن الذي انقضى بين الأمرين سنة كاملة، وهذه السنة غنية بحوادث أكثر مما حدث له في السنين الثلاثين التي عاش فيها من قبل، وما هو عدد السنين التي ستنقضي بعدئذ؟ أفلا يكون الأردن مع منبعه ومصبه مرآة لحياته؟ لقد ضرب عنق يوحنا.
ويجد يسوع وتلاميذه خلف تلك المدينة المكان الذي يعده أولئك المشركون منبعا للأردن، ويدخل يسوع كهف إله الرعاة، فيرى فيه ما لا يعرفه من ألواح منذورة، وتماثيل رخامية، وكتابات يونانية، فيمر رجل من قيصرية فيلبس فيبصر يسوع وتلاميذه، فيوضح لهم كل ما في المغارة فيقول لهم: هذا تمثال الحورية التي تعيش في الينبوع، وهذه تماثيل آلهة النهر، وذلك تمثال الصدى الذي ينقل الصوت من صخرة إلى أخرى، ويقول لهم: إن جميع ذلك خاص بإله الرعاة الأكبر الذي يملك ما بين الهواء والماء في كل مكان، فيباغته الرعاة نائما عاريا على صخرة وقت الظهر، فيغتاظ تلاميذ يسوع عند سماع ذلك، فيديرون ظهورهم خشية الفتنة.
غير أن يسوع ينظر إلى كل شيء، وينصت مدققا لكل ما يقوله ذلك الوثني الغريب، ثم يخرج ويلحق تلاميذه، فيستلقي الجميع فوق ظل الكهف، ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي يسمع يسوع فيها حديثا عن التماثيل الإلهية، وإن لم يسمع قبلها شيئا عن إله الرعاة الأكبر؛ صاحب ذلك الينبوع المقدس، ولم يصور إله الرعاة ذلك، فهل هو روح؟ وإذا كان يملك جميع ما بين الهواء والماء؛ فهل من المحتمل أن يكون قد تاه في جبال الناصرة؟
وكيف يستطيع الرعاة أن يروه؟ يسوع راع، وقد سمع أصوات العوسج والهواء والكلأ والشجر من غير أن تتمثل له روح، فأبوه وحده هو الذي يشرف على هذه الأصوات لا إله الرعاة.
مضى وقت غير قصير على الزمن الذي كان فيه قليل الاختبار كتلاميذه، فيا لهم من أغبياء! يا لضعف إدراكهم للأمور! هم لا يكادون يعرفون الذي يتبعون ويطيعون، ومن أين يعرفونه إذا لم يكشف لهم عن حقيقته؟ وهل يمتحنهم؟ لن يعترف به تلاميذه إذا ما ظهر أن الحق الذي أدخله إلى روعه قتل يوحنا هو من عمل الشيطان، ومن يدري أنهم ينكرونه ولو ظهر أن الله مصدر هذا الحق؟ فالله وحده قادر على أن يشرح صدورهم لذلك؛ فهل يفعل ذلك؟
وإن تلك الأمور لتدور في خلد يسوع؛ إذ سألهم: «من يقول الناس إني أنا؟» فلكل جوابه، «فقالوا - قوم: يوحنا المعمدان، وآخرون: إيليا، وآخرون: إرميا، أو واحد من الأنبياء.»
ثم يتباحثون في أي الأجوبة أصح من الآخر، وهل يجرؤ على وضع السؤال العظيم الخطر؟ ألا يعني وضعه طلبا إلى الرب أن يظهر قدرته؟ يكاد هذا السؤال يخرج من بين شفتيه ثم ينطق به على الرغم منه، فيقول: «وأنتم من تقولون إني أنا؟»
فيعتري تلاميذه صمت، ويعتري تلاميذه دهش، فيطأطئون رءوسهم، فيخشون الإفصاح عما يجول في خواطرهم، خلا سمعان «بطرس» الذي هو أمتنهم خلقا، فينظر إليه مجيبا: «أنت المسيح!»
تهلل وجه يسوع وأضاء العالم في نظره، وما يبغي؟ فقد نطق بالكلمة المقدرة التي خالجت ضميره منذ سؤال يوحنا المعمدان، فلم يبح بها، فبهذه الكلمة أشرق النهار عنده، وبها يكون قد عرف فيثق بنفسه، فينهض فيمد ذراعيه فيبارك سمعان «بطرس» بما لم يسبق أن بارك به، فيقول: «طوبى لك يا سمعان بن يونا، إن لحما ودما لم يعلن لك؛ لكن أبي الذي في السماوات.»
بيد أن يسوع لم يعتم أن ندم على إظهاره سر قلبه، فأوصى تلاميذه متوعدا بألا يقولوا لأحد: إنه المسيح.
وقع هذا المنع متأخرا، فأما وقد نطق بتلك الكلمة؛ فإن الزمن يدفعه، والعزة والاضطهاد والجرأة تحفزه إلى السير قدما في طريق المختار، وماذا يصنع المسيح في أقصى شمال المملكة بين الوثنيين إذن؟ فهل بقي في الجليل ما يأتيه من عمل؟ فليذهب إلى حيث امتنع عنه حتى الآن! فليذهب إلى أورشليم ليفتحها! دنا عيد الفصح فيهرع الشعب اليهودي إلى العاصمة من كل ناحية في العالم، وحان الوقت المناسب، فيجب على المسيح أن يختار ذلك المكان ليعظ وليكافح كما أخبر به الأنبياء.
ويدني المسيح تلاميذه منه، ويبلغهم بصوت خافت عزمه على السفر إلى أورشليم، وينبئهم بانتظار الموت له فيها.
اقشعرت جلود تلاميذه، فذلك لم يخطر ببالهم قط، فلم يكن الذهاب إلى هنالك تنفيذا لما جاء في العهد القديم إلا ضربا من الجنون، حتى إن بطرس نفسه أمسك ذراع معلمه منتهرا: «حاشاك يا رب، لا يكون لك هذا!»
ويشعر يسوع بأن أحدا لم يدرك أمره حتى ذلك الذي اعتقد منذ هنيهة أنه ملهم من الرب، ماذا؟ أيجهل جميع تلاميذه الأوفياء السر العظيم الذي أطلعهم عليه بحذر؛ حينما نطق بكلمة المسيح؟ ألا يدل ذلك على أن هؤلاء لا يفكرون في غير الأكل والنوم والسبت؟ ويدفع يسوع بطرس بعنف ويقول: «اذهب عني يا شيطان، أنت معثرة لي؛ لأنك لا تهتم بما لله، لكن بما للناس.» ويثب تلاميذه من مكانهم وينظرون إليه مترجحين بين هول واحترام، ويدعو تلميذه المفضل بالشيطان، ويقال حينما دفعه: إنه عظم بين ثانية وثانية، ويشابه الآن قدماء الأنبياء، ويتفرس في كل واحد من أولئك، ويشعر بشدة إقدامه أكثر من شعوره في أي وقت، ويبدو مستعدا للكفاح للمرة الأولى، فيعزم على ملاقاة نصيبه فيقول: «من أراد أن يتبعني فليكفر بنفسه ويحمل صليبه كل يوم ويتبعني؛ لأن من أراد أن يخلص نفسه يهلكها، ومن أهلك نفسه من أجلي يخلصها، فإنه ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه ، أم ماذا يعطي الإنسان فداء نفسه؛ لأن ابن الإنسان مزمع أن يأتي في مجد أبيه مع ملائكته، وحينئذ يجازى كل أحد بحسب أعماله. الحق أقول لكم: إن قوما من القائمين ها هنا لا يذوقون الموت حتى يروا ملكوت الله.»
ويعود يسوع وينصرف كملك على رأس تلاميذه. ••• «من ليس معي فهو علي!» هذا هو الشعار الجديد للنبي يسوع الذي قصد بلده لوقت قصير كي يتأهب للسفر إلى أورشليم، بعد أن وطن نفسه على الكفاح؛ فقد لاح له بعد طويل تردد أن ما بدا من إحجامه وتسويفه وحلمه وطبه لم يرده الرب؛ فلتقع الحرب إذن. ودعي الرب، الذي لم يقصر يسوع في إظهار خالص الحب له إلى الفصل بين الأشرار والأبرار من أبنائه.
يسوع يصلي.
كلا، ليس ذلك بين جميع أبنائه، فلقد استحوذ على يسوع وجد وانجذاب منذ شعر بأنه المسيح فبلغ رسالته، الملائمة للنبوءات القديمة، إلى تلاميذه، فيعتقد يسوع بعد الآن أن عليه أن ينجز ما جاء في التوراة، وعاد «الابن» لا يكون واحدا من الأبناء الكثيرين المتساوين في حب «الأب» لهم؛ فهو المختار الوحيد الوسيط الحكم بين إخوانه، ويرى يسوع كما يرى العالم أن زمن الهناء والسلام قد انقضى، وأن ملكوت السماوات الذي أنبأ به منذ زمن طويل سيأتي من الخارج مع الحساب والصواعق، على أن تتحقق جميع النبوءات، وأن يقبض أعداؤه من بني قومه عليه بلؤم، وأن يحكموا عليه ويقتلوه قتلا مخجلا.
ويقوم بذلك حاجز كبير بين المعلم وتلاميذه، وبين الواعظ الجائل ومستمعيه، وبين يسوع والعالم، ويغدو كلامه مع الرب أمرا خفيا، ويشق عجب شغف فؤاده الرقيق الذي بدا منذ صباه فريدا في تواضعه وخشوعه، كما لو نسج ليمنع بروز نزواته للأعين، ويتمازج فيه ضبطه لنفسه واتزانه وسموه وعظمته، وصفاؤه الضروري لمن يعتقد أنه ذو رسالة عامة، وعزمه على استقبال موت فيه سر مجده، فتكمل بذلك رجولته، وتزيد أناته، ويضحي من العبوس ما لا ينم عليه مزاجه ومذهبه وطيبته ونظراته وشفتاه وكلامه.
وإن يسوع وصحبه لفي طريقهم إلى بلدهم في يوم عاصف؛ إذ يشير يسوع إلى ثلاثة من أفضل تلاميذه - وهم: بطرس ويعقوب ويوحنا - بأن يتبعوه، فيصعد هؤلاء في جبل تاركين الآخرين خلفهم؛ ففي ذلك الجبل، حيث كان يقطن فيه بعض الأنبياء العظام، يستطيع يسوع أن ينفذ في نفوس أولئك الثلاثة، فيلقي السمع إلى نصائحهم، ويغشى المكان سحاب كثيف، فيستولي عليه ظلام فلا يكاد الإنسان يرى أقرب شجرة فيه، ويغير السحاب وجه الإنسان فيبدو أعظم مما عليه عادة، ويخامر التلاميذ الثلاثة شك فيما يحدث، فيدنو بعضهم من بعض، ويغيب المعلم عن أبصارهم فيتمثل لهم طيفا أبيض لامعا، فيكلون فيستلقون فينامون.
ويملأ النبيان موسى وإيليا ذهن بطرس، فيرى في المنام أنهما يكلمان يسوع، ويلتمس بطرس طريقا لخلاص يسوع من الأخطار عند ظهور المسيح له في شخص يسوع، فيقول صارخا وهو نائم: «يا رب، جيد أن نكون ها هنا، فإن شئت نصنع هنا ثلاث مظال؛ لك واحدة، ولموسى واحدة، ولإيليا واحدة.» ولكنه لم يلبث أن يصحو فيتسرب بالتدريج إلى ذهنه المرتاب ما بلغه يسوع، فيسمع من بعيد صوتا مرددا لما سمعه يسوع بعد العماد في الأردن: «هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت؛ فاسمعوا له.»
وينتصب بطرس بين اليقظة والمنام فجأة ويسجد فيقتدي به الآخران، ما جاز أن يظهر الرب بين السحاب فوق الجبال، بيد أنهم لم يروا أمامهم غير يسوع عندما رفعوا رءوسهم، ولم يسمعوا غير يسوع يقول لهم بصوته العذب: «قوموا ولا تخافوا!» ثم يوصيهم يسوع بصوته العادي المملوء خشوعا بألا يفشوا للشعب سر ما رأوا.
ولسرعان ما عادوا إلى البحيرة، ولسرعان ما أصبح عرضة لاستطلاع الفلاحين، وأنظار خصومه، وأبصار الحجيج في طريقهم إلى أورشليم، فيشتد عزمه على السير بما تقتضيه رسالته المسيحية، فيكون كل قول يصدر عنه أمرا، ويكون كل أمر يصدر عنه وعيدا.
قال يسوع لتلاميذه: «من سمع منكم فقد سمع مني، ومن احتقركم فقد احتقرني، ومن احتقرني فقد احتقر الذي أرسلني ... كل من اعترف بي أمام الناس يعترف به ابن الإنسان أمام ملائكة الله، ومن أنكرني أمام الناس ينكر أمام ملائكة الله.» ولما عجز تلاميذه عن شفاء صبي مجنون قال مؤنبا: «أيها الجيل غير المؤمن، إلى متى أكون معكم؟ إلى متى أحتملكم؟»
وجاء عشارو هيرودس يطلبون من بطرس «سمعان» ضرائب عنه وعن الآخرين، فيسأل يسوع عما يصنع، فيقع بينهما ما يأتي:
يسوع : «ممن يأخذ ملوك الأرض الجباية أو الجزية، أمن بنيهم أم من الأجانب؟»
بطرس : «من الأجانب.»
يسوع : «فإذن البنون أحرار.»
وأضحى يسوع يعلم قدر نفسه كما لو كان ملكا، فتؤذيه معاملة الدولة له كواحد من رعاياها، على أن ما بقي فيه من الحذر يدفعه إلى أن يرى من الصواب ألا يدع لأعدائه حجة عليه، فله في مصير يهوذا الجليلي الذي نغص صباه نذير، فيجد ذريعة لدفع ما تطلبه الدولة من الضريبة.
والحق أن يسوع راغب عن أي مجد دنيوي، وأنه لم يعمل لدنياه بفكره ولا بعمله؛ ظانا أن الإيمان به وبرسالته يكفي لتجديد عالم الروح من غير خطة مرسومة، ووضع وسائل لتنفيذها، ويسوع يعيش في صميم شعب الرب الذي ينتظر ظهور المسيح، أفلا يكفي شعوره الرباني المنير الصافي لإقناع جميع من يبوح إليهم بسره؟ والآن يساق إلى زوبعة مهلكة. يسوع الذي لم يرد انقلابا مدة طويلة ولم يدع إلى غير الألفة والمحبة.
ويتدرج يسوع يوما بعد يوم إلى تعظيم ما قدر له، فيعلن أنه أكبر من إبراهيم وسليمان فيقول: «كل شيء قد دفع إلي من أبي، وليس أحد يعرف من هو الابن إلا الأب، ولا من هو الأب إلا الابن.» وينقلب شعوره الرقيق نحو الأب المحب إلى عجب كأن أباه لم يحب غيره ولم يعرف سواه، وينتحل يسوع أفكار قدماء الأنبياء الانتقامية المنافية لطبيعته الخاصة ما شعر بضرورة النضال، غير مقدر لوسائله التي ستقوده إلى مصيره المحتوم، فيخيل إلى الناظر أنه يدع نفسه إلى شديد القول؛ ليخفي صوته الملائم لحلمه الطبيعي، فاسمع قوله: «جئت لألقي نارا على الأرض، فماذا أريد لو اضطرمت؟ ... أتظنون أني جئت لأعطي سلاما على الأرض؟ كلا، أقول لكم، بل انقساما؛ لأنه يكون من الآن خمسة في بيت واحد منقسمين ثلاثة على اثنين، واثنان على ثلاثة، ينقسم الأب على الابن، والابن على الأب، والأم على البنت، والبنت على الأم، والحماة على كنتها، والكنة على حماتها.»
ويعلم يسوع مما أصاب يوحنا المعمدان، أن الله يدع أنبياء يألمون ويهلكون في الحال كما في الماضي، وليس بخاف عليه ما ابتلي به إبراهيم وموسى وأيوب، وهو يحب الحياة مع ذلك، وهو يجاهد لينصر مع ذلك، ولا يجد في حديث الأنبياء الذي يحفزه إلى أن يكون المسيح ما يوجب عليه أن يألم، وهو يعلن أحيانا أنه يطلب الموت ليقيم ملكوت السماوات، وهو يبحث، أحيانا، عن الألم والعذاب حيثما يكون؛ لما يرى فيهما من اللذة، وهو يلوح له أحيانا تمام كل شيء مع عرقلة الأشرار لما هو تام؛ فمن أجل ذلك تبصر ارتباط روحه في البعث والحساب، وشعوره بدنو أجله، فيقيم في الآخرة عالم نصره.
وعند يسوع أن يوم البعث الذي أنبأ به دانيال وأخنوخ «إدريس»، فلا يؤمن به اليهود، آت لا ريب فيه، فتراه يبشر به الأبرار تارة، ويهدد به الأشرار تارة أخرى، وعند يسوع أن يوم الحساب آت لا ريب فيه مع جهل الزمن الذي يحل فيه، أفيأتي بغتة كلص في الليل أم كبرق في الأفق؟ يعلم ذلك الأب وحده، ويعد يسوع مع ذلك تلاميذه برؤية ملكوت السماوات بعيونهم عندما يحثهم ويشد عزائمهم، وهكذا تجد تناقض يسوع في مسألة اقتبسها من قدماء الأنبياء؛ ففرضت عليه مع ما فطر عليه من محبة الآخرين.
ولم يخامر يسوع شك في مكانه بالسماء، وأستاذ يسوع المفضل في هذا هو أيضا دانيال الذي رأى «ابن الإنسان» يصعد إلى الرب مع سحب السماء، فيعلن يسوع أنه سيجلس عن يمين أبيه، فيملك بعد الدينونة إلى الأبد، وأنه سيمنح السلطان الذي احتفظ الأب به لنفسه حتى الآن، «فلا يدين الأب أحدا، بل قد أعطى كل الدينونة للابن؛ لكي يكرم الجميع الابن كما يكرمون الأب.» ويسوع الذي أعطي من القدرة ما لم ينله أحد قبله ، يستطيع أن يقضي منذ اليوم ، ويحكم ويختار، كما يريد، الأبرار، ويرفض الأشرار: «من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية، ولا يأتي إلى دينونة ... أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئا كما أسمع أدين ودينونتي عادلة؛ لأني لا أطلب مشيئتي، بل مشيئة الأب الذي أرسلني.»
وهكذا يسفر ولهه المسيحي عن وعد ووعيد متعاقبين، وهكذا يحمل نجار فقير الرب في قلبه، فيكافأ بحب فياض لأبيه وإخوانه، وللأبناء والحيوان والنبات، فيحمل في سنة واحدة على سلوك طرق تضيق وتصعب مقدارا فمقدارا؛ وذلك لأنه أكره على الإتيان بمعجزات يستثقلها، ولأن الجمهور يهتف له، ولأنه أضحى عرضة لريب الكبراء وهجماتهم وتقديس أهله وازدرائهم، ولأنه صاحب وجه بشير، ومصير نذير، ثم يعتقد أنه المنقذ الذي ينتظره شعب جريء معذب لينجيه فيسوسه، وبدا ميدان القتال صغيرا، وأسباب القتال تافهة في البداءة، فمن قلع بضع سنابل قمح في السبت، فإلى عدم غسل الأيدي قبل الطعام، فإلى محادثة العشارين والآثمين، وما كان النبي الجديد ليحرض الشعب عن نبذ الوصايا، وتجاهل النصوص، وإهمال القرابين، وإن كان ينفر من هذه الأمور، ولكن الذى يفصله عن أعدائه أمر نفسي أعمق من الشعائر والطقوس، وأبعد من أن يعرب عنه ناطق بفم.
حقا إن ذلك الرجل يعلن الآن أنه المسيح، ويدعي أنه مثل الله، وحقا أنه يهز الآن أقدم أعمدة هيكل موسى فيهتز ملكوت الرب، وحقا أنه يهدد حكومة الكهنوت من أساسها، فأية حكومة تظل مكتوفة الأيدي تجاه أعمال رجل يلوح أنه دجال أو ممسوس؟ فالآن يبدأ الكاهن الأكبر بزوي ما بين عينيه؛ فقد أنبئ بأن رجل الناصرة عاد إلى معبد كفر ناحوم، حيث أعلن أمام جميع الناس: «أنا خبز الحياة، من يقبل إلي فلا يجوع، ومن يؤمن بي فلا يعطش أبدا ... لأني قد نزلت من السماء ليس لأعمل مشيئتي، بل مشيئة الذي أرسلني ... لأن هذه هي مشيئة الذي أرسلني. إن كل من يرى الابن ويؤمن به تكون له حياة أبدية، وأنا أقيمه في اليوم الأخير.»
وتذمر اليهود لأنه قال: «أنا الخبز الذي نزل من السماء .» فقالوا: «أليس هذا هو يسوع بن يوسف الذي نحن عارفون بأبيه وأمه؟ فكيف يقول هذا: إني نزلت من السماء؟»
ويكرر كلامه غير مرة مؤكدا، فيقول كثيرون من تلاميذه: «إن هذا الكلام صعب، من يقدر أن يسمعه؟» فيعرف أنهم أصبحوا من المرتابين، فينظر إليهم نظر الظافر فيقول: «أهذا يعثركم؟ فكيف إذا رأيتم ابن الإنسان صاعدا إلى حيث كان أولا؟ الروح هو الذي يحيا، وأما الجسد فلا يفيد شيئا، والكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة؛ ولكن منكم قوما لا يؤمنون.»
هنالك ينهض أولئك الذين استمعوا له منذ زمن طويل، ويطوون كشحا عنه ويهجرونه، ويقول الشعب: «به شيطان!»
ويطلع المجمع الكبير بأورشليم على كل ما حدث منذ اليوم الثالث، فيأمر عيونه بأن يكونوا آذانا، ويعرف هيرودس نفسه ذلك، فيرتعش حينما يعلم أن الناصري يعلن أنه المسيح، وحينما يخبره الناس مذعورين بأنه إيليا، فيصرخ قائلا: «هذ هو يوحنا الذي قطعت أنا رأسه. إنه قام من الأموات؛ ولذلك تعمل به القوات.»
ولم يكد الفريسيون يسمعون ذلك حتى أخذوا يلقون شباكهم بين مخيروس وأورشليم، وبين كفر ناحوم وأورشليم، فيهمسون إلى يسوع بقولهم: «اخرج واذهب من ها هنا؛ لأن هيرودس يريد أن يقتلك.»
هذا هو الوقت الذي يدفعه الملك المتجلي فيه إلى البت؛ فهو يسمع الكلام الغادر الذي يهمس به إليه، وهو يرى أعداءه ينظرون إليه بأطراف أعينهم، وهو يشعر بأن تلاميذه لم يدركوا حقيقته، وهو يعرف أن الشعب يعده مجنونا، وهو يعلم أن هيرودس والرومان يترصدونه، وهو يختار لذلك ميدانا للقتال، تلك المدينة المقدسة وغير المقدسة التي ظل بعيدا منها مع إمكان وصوله إليها في ثلاثة أيام، فإما هنالك وإما لا، وإما الآن وإما لا! واليوم تدوي في البلاد إذاعة الفلكيين خبر حلول نيسان (أبريل)، فسيحل عيد الفصح قريبا إذن، وسيصل إلى ذلك البلد ألوف الساخطين منتظرين من يقودهم إذن.
ولا يعلم يسوع ماذا يصنع، ولكنه يبدو مطمئنا؛ لما عرفه من استياء العاصمة وجميع البلاد ومن روح الوقت وحال الجمهور ، وينظر يسوع شزرا إلى أولئك المرائين الذين يتظاهرون بأنهم يريدون نجاته ويقول لهم: «امضوا وقولوا لهذا الثعلب: ها أنا أخرج شياطين، وأشفي اليوم وغدا، وفي اليوم الثالث أكمل، بل ينبغي أن أسير اليوم وغدا وما يليه؛ لأنه لا يمكن أن يهلك نبي خارجا عن أورشليم.»
الفصل الرابع
الكفاح
ترن أصوات التجار في الشوارع الضيقة بتلك المدينة الكبيرة، وتردد جدر بيوتها الحجرية صداها، وتصل مواسي الحلاقين، ويخبط السكافون النعال بعضها ببعض، ويقرع باعة العطور أطباقهم النحاسية، وتصرف
1
محاور
2
العجل،
3
وتشحج
4
البغال ألما من سياط العبدان، ويحلف السائقون في مفارق الطرق المزدحمة، ويصب باعة الفواكه الشتائم عندما تمر كتيبة من جنود الرومان، فتشق لنفسها طريقا بغلظة فتكب سلالهم، وتعوي الكلاب، ويزعق الصبيان بين الجمهور الحانق. وإن ذلك الصخب ليحدث في الشوارع المائلة؛ إذ تنبعث روائح كريهة عند الظهر؛ ففي أبريل الشديد الحرارة يتميع الشمام، وتتعفن نفاية كل شيء، وتتسع الأخاديد، ويسطع قتار
5
شحم الضأن ودهن الكعك من ألف مطبخ ومطبخ، وينتشر بخار المراحيض والأصابل والأزقة فيختلط بدخان البخور والمر
6
الصاعد من مائدة هيكل الرب الذهبية، فيتكاثف هذا كله في سحابة غير شفافة، في سحابة جارضة
7
معلقة في هواء ساكن فوق المدينة الحجرية.
ويجد جمع الحجاج من الغرباء هواء أنقى لا ضوضاء أقل؛ حينما يأتون ليشهدوا عيد الفصح فيسيرون سيرا وئيدا إلى المرتفعات، فيصلون إلى الأحياء الخارجية. واليوم آخر جمعة قبل عيد الفصح فتمر القوافل الأخيرة مسرعة لقضاء هذا الأسبوع الأخير في ضوضاء، ثم للقيام بشعائر ذلك العيد في رحابة وسكون، والقوم يحتفلون بذكرى الخروج من مصر وبدخول دور الحصاد، والقوم إذ إنهم مستعبدون في الوقت الحاضر يجدون في ذكرى غابر مجدهم تذكيرا بقيمتهم، وإلى الشمال الغربي يتوجه محبو الاطلاع من الأهالي والأجانب؛ حيث تمر طريق أريحا من بين جبل الزيتون وجبل المعصية ما جاء من هذه الطريق حجيج البلاد فانتظرهم أقرباؤهم كما في كل عام؛ ليقتسموا الخروف الفصحي، والحجاج كلما دنوا من المدينة اقترب بعضهم من بعض، ويكاد الموكب لا ينقطع بين هذا المكان وأورشليم البعيدة ساعة واحدة؛ على حين يكون المستقبلون على حافتي الطريق.
وبينما يبتعد محبو الاطلاع والأصدقاء والغرباء والأهالي الراغبون في مشاهدة ذلك المنظر عن المدينة المقدسة، متوجهين إلى الطريق الضيقة النافذة إلى البرية فلا يرى منها آخر البيوت؛ إذ يقف هذا الجمع المرصوص دهشا فيسد هذه الطريق؛ فقد وجد بين العجل والخيل والبغال والجمال، الحاملة رجالا ونساء مع حقائبهم وزنابيلهم، فريق تعب أغبر منفصل من الجماعة سابق لها بسرعة.
ويؤلف هذا الفريق الفتي من اثني عشر رجلا وبضع نسوة، ويعرف أنه من الجليل بشعوره المسدولة، ويتقدم على الطريق لامع العيون متسعها، وينشد ويهتف متزن الخطى، ويهز بعض أفراده غصون التوت والتين، ويجمع بعض آخر سعوف النخل من طرف الطريق، فيصلون جميعهم مكثرين من الحركات، ناشرين ورق الشجر، هازجين متكتفين ماشين بغير ترتيب، طافحين شبابا، فرحين مشيرين بأصابعهم، ودالين بأصواتهم إلى ذلك الذي يحفون من حوله.
ويركب ذلك أتانا ويبدو أسن من أصحابه، ويلبس مثلهم رداء رماديا أغبر عاديا، ويريد أصحابه أن يزينوه قليلا، فيضعون تحته ثياب العيد لا سرجا، ويتبع الأتان فلوها فيضربها برأسه بين حين وآخر من العطش، ويدنو هذا الفريق من الناس ويسمعون أنشودته: «أوصنا، مبارك الآتي باسم الرب، مباركة مملكة أبينا داود الآتية باسم الرب، أوصنا في الأعالي.»
أليس هلل الكبير هو الذي ينشدون له في الكنيس سائرين حول المذبح محركين جديد الأوراق؟ وما معنى إنشاد المزمار الخاص بابن داود؟ وينظر القوم بعضهم إلى بعض ويتبادلون إشارات الاستفهام والتعجب حين يسمعون إنشادهم: «افرحي يا بنت صهيون، هو ذا ملكك يأتيك وديعا على أتان وجحش ابن أتان!»
ويضحك الكثيرون منهم ويتدافعون بالمرافق ويسألون: «من هم هؤلاء؟ أهم من المجانين؟ أيظنون أنهم آتون بالمسيح إلى أورشليم؟»
ويزيد الجمهور بين دقيقة ودقيقة، ويزدحم حول ذلك الفريق القليل، ويداوم ذلك الفريق على الإنشاد وهز الغصون، ويذيع الخبر بسرعة في الطريق كلها فيقال: هذا نبي! هذا هو الذي حدثنا عنه صديقنا بطبرية! هذا من الجليل! هذا نبي الناصرة!
أمن الناصرة ؟ ألا يعلم هؤلاء الفلاحون الجاهلون أن المسيح سيجيء من بيت لحم، وأنه سيكون من آل داود؟ وهل أتت الناصرة بصالح في أي زمن؟ فيا لهم من مفسدين! ويا لهم من لصوص! ويا لهم من مجانين! لا تدل ملامح هذا على الخطر وهو يركب أتانا، ويدل مظهره على بؤسه أكثر مما يدل على بأسه، ويظهر أن رفقاءه عاطلون من السلاح! اسمعوا ماذا ينشدون! «مبارك الملك الآتي باسم الرب، سلام في السماء ومجد في الأعالي!»
ويعظم ذلك الفريق الصغير فيبلغ مائة، ثم ألفا عند اقترابه من المدينة نصف ساعة مجاوزا الطريق الغاصة بالناس، وينشد هؤلاء ويهتفون وإن كان أكثرهم لا يعرف حقيقة الأمر، وتلمع عيون التلاميذ، وتنظر النسوة إلى الجمهور بعيون ملتهبة، ثم يرفعن عيونهن إلى معلمهن كأنهن يردن الاطمئنان. سبحان الله «هللوليا»!
بيد أن المعلم يظل راكبا أتانه غامض الأمر ناظرا إلى أمامه، غير ملتفت إلى الجمهور ولا راد تحية إليه، وإن لم يمنع أصحابه من الهتاف له وقول الأناشيد بالثناء عليه.
ويسوع بعد أن خرج هو وصحبه من أريحا المرحة ودخل منطقة التلال الصخرية الباردة المقفرة العاطلة من الحياة والنبات، أخذ يغتم ويخشى، خلافا لما كان عليه في المراحل السابقة من رحلته، فيشعر بأن هذه هي طريق سجن أكثر من أن تكون طريقا لمدينة مقدسة، وهو يمعن في الصمت كلما زاد تلاميذه ثرثرة وحركة، وهو لم يرفض ركوب أتان عندما دنا هو وتلاميذه من الشعب
8
بالقرب من قرية بيت فاجي، فعرضوا عليه ذلك وفقا للحال التي يكون عليها المسيح عند دخوله أورشليم بحسب النصوص.
ويخالطه شك حينما وضع على ثيابهم فرآهم كالأولاد لا كالحكماء يحبرون،
9
وحينما أخذوا يربطون الغصون، وينشدون، ويغذون في السير؛ لتشاهد المدينة الكبيرة من هو الذي يصحبون، وحينما سمع الزبور فمجد للمرة الأولى في حياته راكبا على دابة بين مشاة، وحينما دوى في أذنيه مدحه تحت سماء أبيه على مسمع من الناس، وحينما أبصر في أطراف تلك المدينة اجتذاب تلاميذه لجمهور لا يعرفه من الغرباء.
هللوليا «سبحان الله»! ويبدو أسير الموكب الغريب ، ويرى المدينة المزعجة التي سمع عنها منذ صباه، ولا بد من أن يكون برج أنطونيا ذلك البناء الذي يسطع عظمة في الجنوب، فكان يعلم أنه عن اليسار، ولا بد من أن يكون البناء القائم عن اليمين - فيظهر أزهى من ذلك ببياضه وباحاته وأبوابه وقبابه وسقفه الرخامي، فيخيل إلى الناظر أنه صخر فاتر متوعد خارج من صخر - هيكل هيرودس الحصن الملكي الذي يجب فتحه بالروح ما كان مقرا لأعدائه.
ولم لا يرى شجرة؟ هنالك منحدر أخضر فيه عين جارية لا ريب، والمدينة العظيمة البيضاء المنيعة عاطلة من الظل قاسية حاقدة جافية مع ذلك! ولم يهتفون قائلين: المجد لله «أوصنا» إذن؟ ألا يرون أن هذه المدينة صماء لا تسمع دعوة إلى الرحمة إذن؟ هي تستقبل الغرباء بين الدخان والعفن صاخبة صالة
10
نابحة، ويتخلل في الهواء عجاجها وذفرها،
11
فيتحولان إلى سحاب كثيف حاجب بين المدينة والسماء، وبين الله والناس.
هللوليا «سبحان الله»! يكثر الجمهور، ويفرش الكثيرون منه ثيابهم في الطريق ليسير عليها أتانه، وتزيد الأغصان التي تهز حوله كثافة، ويقترب الصبيان من دابته فيعمل على منعها من دوس أحد.
أوصنا «المجد لله»! وي! ما أشد رغبته في ختام ذلك! ألا يرى أصحابه في ذلك ما يزعج؟ ألا يعجبون من عدم سجود أحد في طريقه؟ لم يفعل الجمهور غير الصراخ والإنشاد وهز الأغصان كما لو كان ذلك للسخرية والمجون؟!
لم يلبث أن نفض عنه غبار الفتور والوجل والوضع السلبي؛ فقد بدت وجوه معادية أمامه؛ أي وقف سير الموكب. فريسيون أعداء له كانوا يعرفونه فاقتربوا منه بعجبهم وحقدهم، فقال له بعضهم: «يا معلم، انتهر تلاميذك!»
هنالك ينتبه النبي ويستوي على الأتان وتتحرك فيه جميع المشاعر التي حفزته إلى المجيء هنا، وينتحل وضع المقاتل ما علم قبل أن يتوجه إلى أورشليم أن على كل واحد أن يناضل فيها بنفسه، وما وطن نفسه على السير إليها لفتحها! فيخلع عن ذلك السائل نقاب هدوئه المصنوع، ويعرب منذ وصوله إلى أبواب المدينة عما يغلي في صدره، فيجيب عن ذلك بصوت جهير يسمعه أقصى عدد ممكن: «أقول لكم: إنه إن سكت هؤلاء فالحجارة تصرخ!»
فيرتبك الفريسيون ويغضبون وينصرفون من غير أن ينطقوا بكلمة على حسب عادتهم، ويتجدد هتاف الجمهور حول يسوع، ثم يسود نداء حاد ضوضاء المدينة، فهذا بوق التل! هذا صوت الكهنة!
يحدق يسوع إلى التل وينكز الأتان ويسير من أقصر الطرق إلى الهيكل. •••
أتلك سوق؟ أيهزأ بهم الدليل؟ أيبدأ بإراءتهم مركز الحياة الفاسقة قبل أن يسير بهم إلى الهيكل؟ أهنا الهيكل؟ أمكان الشغب هذا هو بيت الله حقا؟ قد يسود هذه الرداه الرخامية الصاخبة إله شديد، أو رئيس دولة، أو قاض منتقم، لا الأب اللطيف الذي سمع يسوع صوته في الجليل، ولا يجد النبي حوله غير الضوضاء والهياج، ويؤخذ إلى الباب الشرقي الأساسي المعروف بباب شوشن، فيكاد يخلع نعليه ويضعهما مع عصاه جانبا وفق أحكام الشريعة، فيدهش من عدم وجود أحد من ألوف الذين يصعدون مسرعين في الدرج يصنع ذلك، فيرى أنه في ساحة الوثنيين، وأن ذلك الجمع مؤلف من مشركين أتوا للاطلاع لا للعبادة. ويؤيد وجهة نظره هذه ما يسمعه من غريب اللهجات، وما في الإعلان المكتوب بثلاث لغات من الأمر بالوقوف هنالك، ومن إنذار من يجاوز الحد من غير المختونين بالموت. ويأتي الصوت من الداخل حيث الرواق المسقوف.
يسوع والمرأة الزانية.
ويبلغ يسوع وسط الرواق، ويهاجم ببحر من الصراخ متموج صعودا وهبوطا بين بلاط كثيرة الألوان وسقف من خشب الأرز، وتثغو الشياه قطيعا قطيعا حول باعتها الجالسين على الأرض. ويقف يسوع مبهوتا حين يشاهد هؤلاء البائعين ينادون الحجاج ليحملوهم على اشتراء أحسن الضأن وأسمنها، وحين يرى تجارا وزبنا يساومون محركين أيديهم على حين تبحث العجول عن أماتها وهي تخور، وحين يبصر بالقرب من هذا الركن باعة الحمام يعرضون طيورهم للبيع وهم يرفعونها مربوطة الأرجل زوجين زوجين، فتصفق بأجنحتها جافلة، وحين يسمع الخمار صاحب القنينة الملفوفة بالموص
12
والزيات الجالس القرفصاء بجانبه يدعوان المشترين إلى ابتياع ما عندهما، وحين ينظر آخرين يسعون إلى بيع أكياس القمح والملح إلخ ، فيظن يسوع ذلك كله حلما في الكرى لا تقاس به أحلامه في الجليل.
ويدفع الجمهور يسوع فيفصله عن أصحابه، فيجد نفسه وحيدا بين أوباش، وترن على مائدة صراف نقود وتتدحرج، ويؤدي الصيارفة إلى الغرباء ما يصح دفعه إلى الهيكل من النقود بدل ما عندهم، ويهز الصيارفة أكياسهم معلنين أنهم يستبقون لأنفسهم السدس وفقا لنظام الهيكل ما أذن لهم الكهنوت في ذلك واعترف بهم، ويساوم الغرباء رافضين أن يأخذ الصراف السدس منهم، فيرضى صراف آخر بأخذ السبع فقط، فيعلن الصراف الأول عدم استقامة هذا الآخر فيشي به، ويعد الجميع ويحسبون، ويروزون الذهب والفضة والنحاس، فتثير هذه المناظر غضب يسوع، وما هز يسوع في اليوم الأخير من رحلته، وما أحسه من القلق والهوان والغيظ والتردد والأمل واليأس منذ دخوله المدينة المقدسة، وما اتفق له من قصد الهيكل، كلها أمور حرمته النوم وشهوة الطعام، والصولة التي ساورته بعد مغادرته شواطئ البحيرة الهادئة، فكانت عوامل أعنف ثورة في حياته، كما أنها كانت الأولى والأخيرة فيه.
يضرب يسوع بجمع كفه الأيمن أقرب مائدة إليه، مع أنه لم يسبق أن ضم يده لمثل ذلك فيما مضى، فتتناثر النقود في الهواء، ويقبض يسوع بيده اليسرى على هذه المائدة فيلقيها إلى الأرض، وينتقل النبي يسوع الهائج إلى المائدة التالية فيقلبها قبل أن يتدبر الحاضرون أمر ما حدث، وقبل أن يفكر ذلك الصراف المبهوت في العدو وراء ماله، ويخبط يسوع خبط رجل محتدم قوي مباغت جميع ما حوله ذات اليمين وذات الشمال فيكبكبه، ويركض تحت الرواق بعنف، فيفر الناس ويتفرقون مذعورين.
وينتهي يسوع إلى الأنعام المعدة لتقرب قرابين فيختطف سوط راع فيضربها ويضرب التجار من غير تمييز، ويختلط الحابل بالنابل، فيعدو الباعة والغرباء والملحدون والمؤمنون والعجول والخراف إلى الدرج بغير انتظام فرارا من السوط كما لو زلزلت الأرض زلزالها، على حين ينال بعض الحمام حريته فيطير، ويدوي خلف الفارين صوت يسوع الراعد: «مكتوب أن بيتي بيت الصلاة، وأنتم جعلتموه مغارة لصوص!»
ويدهش سدنة الهيكل فلا يبدون حراكا، ولم ينشب الشعب الذي ظن أول وهلة أن يسوع ممسوس هائج يضرب كل ما حوله، أن زال وهمه، فأخذ يرى من خلال انتظاره ومذهبه ظهور إله هنا، أو أن هذا هو متياس الثاني، أو الحمي يهوذا الجليلي في شخص ابن بلده، أفلم ينطق بكلام إرميا؟ ولم يبالي الشعب بخسارة تجار كثيري الربح؟ يرى حرس الهيكل ما حدث فلم يتحرك، ويشاهد ضابط الهيكل ذلك أيضا فيشعر بأن ذلك الرجل ينطوي على قدرة علوية، فلم يأمر بالقبض عليه، ولا يتدخل أحد في الأمر.
ويبقى يسوع وحده في الرواق الواسع، وتبدو خلفه الأعمدة التي يمر من بينها إلى قدس الأقداس، ويجلس على درجة، وتهدأ الزوبعة التي أثارها هذا الرجل السلمي، ورجل كهذا عاش منزويا عن العالم، فلا حول له هنا؛ لا يستطيع أن يقدر مدى ما ناله من النصر بأورشليم منذ الساعة الأولى، فيوسع نطاق فتحه، فتراه يمكث جالسا تعبا صامتا.
وإليك عصبة من الأولاد في الرواق محبة للشغب غير خائفة، فيسير هؤلاء الأولاد في الرواق طليقين من غير أن يزعجوا، ويدنو أشجعهم من يسوع الوحيد هنالك فتعلو وجه يسوع بشاشة كالتي يقابل بها الصبيان والنساء عادة، ويحتضن أحدهم وهو لا ريب من الذين شاهدوا دخوله أورشليم فسمع الأناشيد فأنشد مع الآخرين، وهو لا ريب قد عرف في يسوع الراكب على الأتان، فهنالك يرتل برفق وتردد قوله في الطريق: «أوصنا، مبارك الآتي باسم الرب!» فيشاركه رفقاؤه في إنشاده عن كيد على ما يحتمل: «أوصنا في الأعالي!»
والآن يستمع يسوع لنداء فؤاده مرة أخرى، فيبتعد عنه الحلم الهائل بغتة، ويهده الهجوم الأول الذي قام به كمكابي يشتعل قلبه بنار ربانية، فلا يبقى لديه من القدرة ما يستطيع به متابعة القتال، ويسر يسوع المعلم المرشد أن يجد في أولئك الأولاد حين يكلمهم موضع لطفه، وأن يكون ملكهم ما دام ملكوت السماوات لهم.
وفيما هو كذلك إذ ينهض فجأة فيهرب كأولئك الذين هزمهم، ليجد بعض تلاميذه، فيغادر الهيكل مسرعا نازلا من جبل الزيتون قاصدا أصحابا يعنون به في بيت عنيا. •••
في صباح الغد يحفز أمر جديد يسوع إلى المدينة إلى الهيكل، فهل سأل أباه ليلا؟ وهل اشتدت عزيمته برؤية تلاميذه وأصحابه وما سمعه عن أثر عمله بالأمس، فوجد ما يدعوه إلى استئناف الجهاد؟ يجد يسوع في رسالته ما يثبت فؤاده فيدعه إلى مواصلة الكفاح دعا، فيجب أن يمثل الدور المنصوص عليه في التوراة حتى النهاية إذن! أجل قد يكون أعداؤه أمهر منه، ولكن ليثبتوا ذلك أمام الشعب بأسره إذن!
ويكلل بنجاح باهر هجوم ذلك الذي اجتذبه الفريسيون إلى أورشليم فانتظروه فيها، وينال هذا الغريب صوت الشعب إذا لم يكن أخرق، فيقف في منتصف الطريق ما كان هذا الشعب متقلبا عادم الثبات، كما دل عليه أمره بعد ثلاثين سنة مرة أخرى، ويوجه الله خطوات هذا الغريب إلى خارج الهيكل لتكون الشريعة سالمة. وليس من الحكمة اتهام هذا الغريب من أجل زلة، وإن أمكن إثبات حق الصيارفة والتجار في وجودهم هنالك مع مواشيهم ونقودهم، ولكن رجلا من هذا الطراز يفترض خطره على الكهنوت، فيجب إيقاعه في شرك إلحاده، وعده مجدفا على الناموس.
ويسوع حين يعود في هذه المرة إلى الهيكل مع بعض تلاميذه يتجنب التجار في الرواق الغربي، فيبدو في هذه المرة معلما لا سلفيا، ويعرفه الكثيرون ولا يهاجمه أحد، ويمتدحه غير واحد سرا، ويجيء إليه بعض الأحبار ويحيونه بأدب، ويجلسون بين الآخرين، وتتألف حولهم حلقة من المستمعين ما علم أنهم سيناظرونه في التلمود، ويتساءل القوم عن معرفة نبي الجليل شيئا آخر غير كفت الموائد بيد قوية، وهزم الباعة والأنعام، ويسأله الأحبار عن شتى المواضيع، ثم يسأله بعضهم عن فعلته تلك بقوله: «بأي سلطان تفعل هذا، ومن أعطاك هذا السلطان؟»
وهل كان يسوع منتظرا هذا السؤال؟ يعلم يسوع أن الرب في حكومة الكهنوت مصدر السلطة، وأن انتحال سلطان الرب مما يصعب إثباته. ويسوع إذ كان يحذق الجدل في أمور الشريعة يحول السؤال بسؤاله: «وأنا أيضا أسألكم كلمة واحدة، فإن قلتم لي عنها أقول لكم أنا أيضا بأي سلطان أفعل هذا : معمودية يوحنا من أين كانت؟ من السماء أم من الناس؟»
ويسكت ويفكرون في أنفسهم قائلين: «إن قلنا من السماء يقول لنا: فلماذا لم تؤمنوا به؟ وإن قلنا من الناس نخاف من الشعب؛ لأن يوحنا عند الجميع مثل نبي.»
فيرون من الحكمة إذن أن يصمتوا، وأن يكون جوابهم: «لا نعلم.»
فينظر يسوع إليهم ساخرا قائلا: «ولا أنا أقول لكم بأي سلطان أفعل هذا.»
ويومئ المستمعون برءوسهم إيماء الاستحسان ما رغب الشعب أن يضع السائل سؤالا فلا يستطيع المسئول جوابا، وسيعلم نصف أهل المدينة في المساء ما حدث لا ريب، ويداوم يسوع، ويسوع قد أخطأ أمس؛ لأنه لم يلحق نصر القوة أمس حتى النهاية، ويخطئ الآن؛ لأنه أراد أن يلحق اليوم نصر الروح إلى النهاية، أفيرى ضرب أعدائه علنا؟ أفيستنفد في هذا الهيكل وفي أورشليم جميع قدرته على الكفاح؟ يقص الآن مثل الولد الصالح والولد العاصي، فيقول: «كان لإنسان ابنان، فجاء إلى الأول وقال: يا ابني، اذهب اليوم اعمل في كرمي، فأجاب قائلا: ما أريد؛ ولكنه ندم أخيرا ومضى، وجاء إلى الثاني وقال مثل ذلك، فأجاب قائلا: أذهب يا سيدي، ولم يمض، فأي الاثنين عمل إرادة الأب؟»
قال الكتبة له: «الأول!» آملين أن يكون في جوابه قذف، فكان ما انتظروا؛ فقد التزم يسوع خطة الهجوم فقال بصوت عال: «الحق أقول لكم: إن العشارين والزناة يسبقونكم إلى ملكوت الله؛ لأن يوحنا جاءكم بطريق الحق فلم تؤمنوا به، والعشارون والزناة آمنوا به، وأنتم رأيتم ذلك ولم تندموا أخيرا لتؤمنوا به.»
ويستمع الشعب إليه بخوف واحترام، أفلا يذكر الناس يوحنا حينما يسمعون كلامه، بيد أن أولئك الذين يتربصون به الدوائر يتجاذبهم الغضب والطرب، فهم يرون أنه يقع في الشرك الذي نصبوه له حينما يسبهم، وهو لا يحس غير أثره في الجمهور لا في الفريسيين، وهو لجهله ما في أورشليم من النفاق، حينما طعن أولئك بتلك الضربة، هز سلاحه الروحي مرة أخرى فأكثر من ضرب الأمثال، فاختلط بعضها ببعض، فأفسد أثرها ، فأصبح ما قاله في أمر الوالد والكرمة أمرا معقدا، فقال مهددا: «إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمة تعمل أثماره.»
وتؤذي هذه الكلمات مستمعيه، فلا يريد أحد منهم سماعها، فينهض الكتبة ويختلطون بالجمهور فيذيعون بينه أن يسوع مختل الشعور.
وتشبه الحظوة لدى الشعب نقابا مترجحا، فترتد هذه الحظوة عن يسوع بعد أن مالت إليه، وبيان الأمر أنه سهل على الرؤساء وأولياء الأمور أن يؤثروا في الرأي العام بأورشليم، فعاد التجار إلى موائدهم، وعادت التجارة بين البائعين والمشترين إلى ما كانت عليه؛ لعجز الحجاج الغرباء عن تقريب القرابين الفصحية بغير هذا، فيستهزأ عما قليل بجليلي ممسوس رغب بالأمس في تقويض ثابت التقاليد، فلا يحرك اليوم ساكنا تجاه عودة الأمور إلى مجاريها، قانعا بالجلوس على الدرج ليكذب الكتبة ويناقضهم.
ويشعر يسوع بما يقع، وينفذ إلى سرائرهم من أسارير وجوههم، ولا يرضيه ما ناله من نصر ناقص، ويحس أن تلك المدينة قد تضني بنظمها أصلب الناس عودا، فيغادر الهيكل للمرة الثانية راجعا إلى عزلته الهادئة، حاملا أفكارا بائسة مختالة في آن واحد.
ويعطش يسوع فقد تكلم نصف ما قبل الظهر من ذلك اليوم، ويكاد يحترق من حرارة ذلك الجو، ويجتنب سوق التجار، وتكثر أشجار الفواكه في المنحدر الغربي من جبل الزيتون، ويباح للمار أن يقتطف منها. ويسوع إذ يبتعد كثيرا عن جذور طبيعته منذ يومين يذهل عن الموسم فيبحث قبل حلوله عن تينة في شجرة ليس عليها غير الورق، ويسوع إذ كان ملما بنمو النبات لم يسبق أن طلب في بلده تينة قبل شهر يونيو، فتراه يريد تينة في اليهودية الصخرية منذ شهر أبريل، والشجرة إذ لم تجبه إلى طلبه فيتضاعف عطشه، يرفع يديه إليها ويلعنها قائلا: «لا يأكل أحد منك ثمرا بعد إلى الأبد.»
وعلى ما قام به يسوع من وعظ منذ سنة فيكثر من منح البركات، وعلى كثرة إنذار يسوع ووعيده في المدة الأخيرة لم يسبق أن نطق باللعنة في تلك الأثناء، واليوم تراه في الهيكل يلفظ بأفظع نبوءة ضد المرائين فيطردهم من ملكوت السماوات، والآن تراه في تلك الطريق الصاعدة الجافة تعبا صاديا
13
مغاضبا متأثرا من الجدل الأخير، فيلعن نباتا بريئا يثمر وفق سنة الله، فينسى بركاته الطيبات، فيستدعي قدرته التي اتفقت له ابنا لله؛ لإفناء إحدى مخلوقات الرب الأب التي لا تؤذي أحدا!
وهكذا تبصر أن شمس أورشليم تحرق قلب نبي وتجففه بعد أن كان هذا النبي لا يند عن طريقه في بلاد الجليل الندية. •••
ينسى الفريسيون والصدوقيون تباغضهم فيتفقون ضد عدوهم المشترك، فيتشاورون فيقررون ما يصنعون، ما بدا هذا العدو لهم أخطر مما يتصوره هو وتلاميذه، ويعرف الكهنة طيش أورشليم وخفتها، ويعلمون - أحسن مما يعلم هؤلاء الجليليون - تقلب الجمهور، وحبه للاطلاع، ومحاباته وفتوره، ويراقب الفريسيون الشعب ويخبرهم رسلهم في نواحي البلاد بظهور مذاهب جديدة فيها، وبذيوع تفاسير حديثة للشريعة، فيدركون أنه يمكن رجلا نشيطا ناري القول أن يثير الفتنة، وينشر راية العصيان في أثناء العيد.
يقول الفريسيون: حقا لا تدل مظاهر ذلك النبي على أنه رجل عمل، وليست فيه شعلة يوحنا، ولكنه يعرف كيف يوجه التوراة ضد الكهنة. ومما لا يطاق أن يعمل ذلك جهرا. وحقا أن دخوله الغريب في المدينة من عمل تلاميذه الحمس. وها هو ذا ينسى ما فعله ضد الباعة، غير أن إعلانه في فناء هيكل الرب أن العشارين والزناة والمشركين سيدخلون ملكوت السماوات قبلنا ينطوي على أعظم الأخطار، فيجب إسكات هذا الرجل إذن!
ويقول الفريسيون: لو نعلم ماذا يرى الصدوقيون الهينون أن يصنع تجاه ذلك، أفيكتفون في هذه المرة أيضا بالاستهزاء لا بالعمل؟ وماذا يعمل لتحريك الهيروديين؟ يمكن وصل ما بين طرفي الهوة؛ فمن المعلوم أن أنصار دولة هيرودس ما فتئوا يرجون إحياءها، فيمقتون الرومان مقتهم لأي قديس شعبي، وأن الصدوقيين - وإن كانوا أصدقاء للرومان - أعداء للمسيح، فإذا ما تضافرت أيدي ذينك الفريقين قام بذلك جسر، وقد يكفي لاصطياد ذلك النبي وضع سؤال سياسي له، فإذا كان قوله ضد رومة أقيمت عليه قضية سياسية وقبض عليه الوالي، وإذا جاء قوله مؤيدا للمسيح خاصمه الهيروديون الذين يشعرون اليوم بقوتهم، بعد أن جاء أميرهم هيرودس أمس لحضور عيد الفصح، وليكن السير على مهل!
حل اليوم الثالث، وكان يسوع في الهيكل، فدنا منه شبان أعدهم الفريسيون والهيروديون، فقال له أحدهم بأدب: «يا معلم، نعلم أنك صادق وتعلم طريق الله بالحق ولا تبالي بأحد؛ لأنك لا تنظر إلي وجوه الناس، فقل لنا: ماذا تظن، أيجوز أن تعطى جزية لقيصر أم لا؟»
لم يسبق أن شغل يسوع باله في أمور الضرائب ولا في أمر القيصر، فإذا حدث أن أراد عدم دفع الضريبة في كفر ناحوم فلكي يظهر بمظهر ابن ملك قبل أن يدفع، ويذكر يسوع الآن ابن بلده يهوذا الجليلي الذي أوقد نار الفتنة، فكان زعيمها من أجل تأدية جزية إلى الرومان؛ لما رآه من العار في ذلك، ويشعر بما بيت له فيجيب: «لماذا تجربونني يا مراءون؟ أروني معاملة الجزية!»
يعرض عليه دينار روماني، ويظن أنه يزيد هياجا عندما ينظر إلى الصورة المحرمة فيه، ولكنه يسأل: «لمن هذه الصورة والكتابة؟»
فيقولون له: «لقيصر!» «أعطوا إذن ما لقيصر لقيصر، وما لله لله!»
كان هذا جواب معلم فصمتوا مرتبكين شاعرين بأنهم أخزوا وهزموا، ويعلم الصدوقيون ذلك فيشمتون بخصومهم الفريسيين ساخرين لا ريب، ويأتي دور الصدوقيين فلا يرون خيرا في غير الهزوء به، أفلم يحدث عن البعث الذي يؤمن به الفريسيون من دونهم؟ فلذلك يسأله الصدوقيون في الهيكل عن سبعة إخوة تزوجوا بالتعاقب امرأة واحدة من غير أن تلد لهم ولدا، ثم تموت هذه المرأة فتلاقي في السماء أزواجها السبعة، فزوجة أيهم تكون في الحياة الآخرة بعد أن كانت زوجة لهم جميعهم في هذه الحياة الدنيا؟ وينتظر الصدوقيون الجواب، وينتظره معهم الجمهور المستمع، وكل جواب عن هذا السؤال سيثير سخرية السامعين ما خص بها واحد من الأزواج السبعة، وظل الستة الآخرون غير أزواج لها.
فاسمع جواب يسوع: «تضلون إذ لا تعرفون الكتب ولا قوة الله؛ لأنهم في القيامة لا يزوجون ولا يتزوجون، بل يكونون كملائكة الله في السماء، وأما من جهة قيامة الأموات أفما قرأتم ما قيل لكم من قبل الله القائل: أنا إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب، ليس الله إله أموات، بل إله أحياء؛ لأن الجميع عنده أحياء.»
ويدهش رجال الشريعة، ويعجب بعضهم باطلاع هذا العلماني على التوراة من غير أن ينطقوا بكلمة، ويسر الفريسيون في هذه المرة بما صفع به النبي خصومهم، وقد قيل: إن كلا الفريقين يتبارى في إسقاطه، فالآن يرسل الفريسيون كاتبا ليسأله: «أية وصية هي أول الوصايا؟»
فيجيبه يسوع: «إن أول كل الوصايا هي اسمع يا إسرائيل، الرب إلهنا رب واحد، وتحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل فكرك، ومن كل قدرتك، هذه هي الوصية الأولى، وثانية مثلها هي: تحب قريبك كنفسك. ليس وصية أخرى أعظم من هاتين.»
كان لهذه الكلمة أبلغ الأثر؛ فقد شعر السائل شعورا مبهما بأن المعتقد القديم والتفسير الجديد يتعارضان في جملتين، فيهز رأسه، وينسى رسالته، ويقول حائرا: «جيدا يا معلم بالحق قلت.» ثم يكرر كلمات يسوع مضيفا إليها: «هذه هي أفضل من جميع المحرقات والذبائح.» ويبدو يسوع متساهلا بعد أن سمع لهجة السائل السلمية، فيقول له: «لست بعيدا عن ملكوت الله.»
وهكذا يقترب ذانك العالمان أحدهما من الآخر لوقت قصير.
ويستمع الفريسيون إلى ما قصه صاحبهم فيقولون: أيمكن القبض عليه إذن؟ ألا يؤخذ بسبب عطفه على الخطأة المذنبين؟
ويعن لأحدهم رأي؛ فقد قبض في هذه الليلة على امرأة وهي تزني، فيخوض أهل المدينة في أمرها، فليؤت بها إلى النبي، فمن يدري أنه لا يبرئها؟
طلبت المرأة السجينة، وبحث عنه فوجد في إحدى الباحات الدنيا جالسا مع أصحابه على الأرض في أسفل الدرج الأربع عشرة المؤدية إلى داخل الهيكل، فيدهش إذ يرى الجمع الآتي إليه، ويرى امرأة يؤتى بها من الشوارع، فيسأل في نفسه متفرسا: من هي هذه المرأة؟ فيقول الذي يمسكها: «يا معلم، هذه المرأة أمسكت وهي تزني في ذات الفعل، وموسى في الناموس أوصانا أن مثل هذه ترجم، فماذا تقول أنت؟»
نظر يسوع إلى المرأة عن كثب وإلى المتهم لها، فوجده سيئ الحمية، ووجدها حزينة خجلة، فهل يجيب بما يملي عليه قلبه؟ وهل بين الجمهور من يدرك أمره إذا ما فعل ذلك؟ تحدق إليه العيون، ويغض البصر ناظرا إلى الأرض كاتبا عليها بإصبعه، ويتبادل الحضور النظرات ويتساءلون عما يدل عليه ذلك وينتظرون، ثم يفرغ صبرهم فيسألونه ثانية، فيرفع عينيه فيرى أنه لا يستطيع الدفاع عن تلك الأثيمة، وإن كان راغبا في توبتها، مبغضا لعرض الفضائل والجهر بها، فيخاطب أفئدة المتهمين بقوله: «من كان منكم بلا خطيئة فليرمها أولا بحجر!»
ثم يحني رأسه ثانية على استحياء ويكتب على الأرض.
ولم يحدث أن كان لقول له فعل وأثر أكثر مما كان لتلك الكلمة.
وما أكثر من تابوا في الجليل لما سمعوه منه؛ فقد عدل عشارون بفضله عن مهنتهم الآثمة، وأتته البغي مريم المجدلية باكية، فاقتبست منه نوعا جديدا للحب. وفي هذا الصباح، يجد كاتب الحق بجانبه فيعترف بغلبه، والآن ينفذ كلامه العذب في قلوب هؤلاء القابضين على تلك الأثيمة الراغبين في قتلها، فيجد كل واحد منهم خطيئة لم يكفر عنها، فلا يجرؤ على رفع حجر ليرجمها به فيتركونها، وينفضون بهدوء كما لو كان كل واحد منهم يود أن يخفي نفسه عن الآخرين، ويظل النبي وحده والآثمة واقفة أمامه.
هنالك ينتصب يسوع ويسأل ما رأى تفرق أولئك مع شعور كل واحد منهم بخطيئة اقترفها: «أين هم أولئك المشتكون عليك؟ أما دانك أحد؟»
فقالت: «لا أحد يا سيد!»
ويذهل عن شأنه الجديد وينطفئ فيه شعوره بأنه المسيح طرفة عين، فيحس أنه ابن إنسان كالآخرين، فيخاطبها بالكلمة ذات المعنى الخفي: «ولا أنا أدينك، اذهبي ولا تخطئي أيضا!» •••
أشك في نفسه، أم إن جو أورشليم الجاف استنزف معين خياله؟ مضت ثلاثة أيام من غير أن يحدث شيء خلا مجادلات حول بعض الكلمات والعادات، فأين معجزاته؟ وأين ينبوع المحبة الذي ود تفجيره بضربه تلك الصخور الجديبة كما فعل موسى في حوريب؟ يقول تلاميذه: إن الشعب تحرك قليلا فكان فريق قائلا له وفريق ضده ، وأسفر العيد وانصراف أذهان الأجانب إلى ألف طرفة وطرفة عن نسيان سابق مكافحته للتجار، ولم يقع ما يستفز الإيمان، أو يحرك في النفوس حب الاطلاع، فلاح بعد الهدف، وتبدد دور الرجاء والخوف.
يتوجه إلى الهيكل للمرة الرابعة، ويرى أن يكون هو واضع السؤال في هذه المرة؛ ليعلم وجود أناس من غير تلاميذه يؤمنون برسالته، وكان قد اغتم حين سأل تلاميذه أمام كهف إله الرعاة بالقرب من قيصرية فيلبس عن رأيهم في حقيقة أمره، واليوم يغتم أكثر مما في ذلك اليوم؛ لما يراه من مخاطبة الفريسيين، لا تلاميذه، حول المسيح، ويلبس سؤاله شكلا ملائما للمناظرات الدينية فيقول: «ماذا تظنون في المسيح؟ ابن من هو؟»
فيقولون: «ابن داود!»
فيقول: «كيف يدعوه داود بالروح ربا قائلا: قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئا لقدميك، فإن كان داود يدعوه ربا؛ فكيف يكون ابنه؟»
لم يجب أحد عن السؤال، بيد أن الفريسيين الذين هم على شيء من الفطنة والذكاء استنبطوا من السؤال أن يسوع يشعر في نفسه بأنه هو المسيح، وبأن ولادته في الجليل وعدم اتصال نسبه بداود مما يقف حجر عثرة في طريقه، وأنه ينتظر اعتراضا عليه، فيحاول أن يحرف معاني النصوص القديمة ما تأصل فيه إيمانه بأنه المسيح مع قليل شك في أنه هو.
ولكن يسوع إذ لاحظ صموتا ولم يسمع جوابا، وكان قادرا على قراءة أفكار الناس من وجوههم، فلم يجد عطفا عليه في عيون الجمع، وكان تعبا من الصد والرد بين جماعة معادية، فيتلمس مخرجا على غير جدوى، رأى أن يكافح كفاح اليائس فيهاجم.
يجب أن يقع ذلك في ساعة يتقاطر الجمهور فيها إلى الهيكل، فيلتف حوله متعطشا إلى سماع كلامه، كما كان يحدث على شاطئ البحيرة من بلاد الجليل، فيجمع يسوع قواه ليتهم الفريسيين بما يجول في خاطره، فيفضحهم بصادق القول، ولا يهمه أن يؤخذ بكلامه بعد ذلك.
قال يسوع من غير أن يحرض على الفتنة رأسا: «على كرسي موسى جلس الكتبة والفريسيون، فكل ما قالوا لكم أن تحفظوه فاحفظوه وافعلوه، ولكن حسب أعمالهم لا تعملوا؛ لأنهم يقولون ولا يفعلون، فإنهم يحزمون أحمالا ثقيلة عسرة الحمل، ويضعونها على أكتاف الناس، وهم لا يريدون أن يحركوها بإصبعهم، وكل أعمالهم يعملونها لكي تنظرهم الناس، فيعرضون عصائبهم، ويعظمون أهداب ثيابهم، ويحبون المتكأ الأول في الولائم، والمجالس الأولى في المجامع، والتحيات في الأسواق، وأن يدعوهم الناس: سيدي سيدي ... ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراءون؛ لأنكم تغلقون ملكوت السماوات أمام الناس، فلا تدخلون أنتم، ولا تدعون الداخلين يدخلون.» «ويل لكم أيها القادة العميان القائلون: من حلف بالهيكل فليس بشيء، ولكن من حلف بذهب الهيكل يلتزم. أيها الجهال والعميان، أيما أعظم: القربان أم المذبح؟ ... ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراءون؛ لأنكم تعشرون النعنع والشبث
14
والكمون، وتركتم أثقل الناموس: الحق والرحمة والإيمان، كان ينبغي أن تعملوا هذه ولا تتركوا تلك. أيها القادة العميان، يصفون عن البعوضة ويبلعون الجمل. ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراءون؛ لأنكم تنقون خارج الكأس والصفحة وهما من داخل مملوءان اختطافا ودعارة. أيها الفريسي الأعمى، نق أولا داخل الكأس والصفحة؛ لكي يكون خارجهما أيضا نقيا. ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراءون؛ لأنكم تشبهون قبورا مبيضة تظهر من خارج جميلة، وهي من داخل مملوءة عظام أموات وكل نجاسة، هكذا أنتم أيضا من خارج تظهرون للناس أبرارا، ولكنكم من داخل مشحونون رياء وإثما. ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراءون؛ لأنكم تبنون قبور الأنبياء، وتزينون مدافن الصديقين وتقولون: لو كنا في أيام آبائنا لما شاركناهم في دم الأنبياء، وأنتم تشهدون على أنفسكم أنكم أبناء قتلة الأنبياء، فاملئوا أنتم مكيال آبائكم. أيها الحيات أولاد الأفاعي، كيف تهربون من دينونة جهنم؟»
ويذعر الحضور، فهل ظنوا أن يوحنا قد بعث؟ وهل ذكر يسوع ما كان من شدة يوحنا فرأى أن سبيل الندم والتوبة أولى فعاد اليوم إلى مثل سنة يوحنا؟ كلا، لم يذكر ذلك، ويرى يسوع أن يترك الهيكل الذي لم يجد فيه أثرا للتقوى فيهم بالخروج من الجمع، وإنه لفي الفناء التالي هو وتلاميذه؛ إذ يرى القوم مجتمعين حول ثلاث عشرة خزانة؛ كي يضع المؤمنون فيها ما عليهم، وتقف نظره عجوز تفك عقدة منديلها بصعوبة؛ لتخرج منه فلسين باحثة عن ثقب خزانة لتدخلهما فيه، ويدفعها الأغنياء اللابسون أزهى ثياب، والذين من عادتهم أن يضعوا في تلك الخزائن مبالغ كبيرة على مرأى من الناس، فتتنحى العجوز المسكينة الرثة الثياب جانبا مرتجفة، ثم يخلو الجو فتضع بأصابعها الشثنة الفلسين في خزانة، فيؤثر ذلك في يسوع؛ لما يجده في القدس من خالص التقوى في آخر الأمر فيقول: «الحق أقول لكم: إن هذه الأرملة الفقيرة قد ألقت أكثر من جميع الذين ألقوا في الخزانة؛ لأن الجميع من فضلتهم ألقوا، وأما هذه فمن إعوازها ألقت كل ما عندها كل معيشتها.» •••
لم يدرك تلاميذ يسوع أمره في هذه المرة أيضا، فلم يعرفوا المصيبة التي تساوره، ولا الريب التي تخامره، ولا القنوط الذي يعتوره، ولم تمتد آمالهم ورغباتهم إلى ما هو أبعد من اليوم التالي، وهم إذا ما خاطبوه في أحوال خاصة لم يدر ذلك حول الأمور الروحية. ومن هذا أن جاءت سالومة أم يعقوب ويوحنا وولداها خلفها لتراه، فدل هذا على أنهما هما اللذان أرسلاها إليه، فركعوا وقالت سالومة: «قل أن يجلس ابناي هذان، واحد عن يمينك، والآخر عن اليسار في ملكوتك.»
ذلك، إذن، ما كان يشغل بال أفضل تلاميذه! هما رافقا المعلم أكثر من سنة فلم يريا في مذهبه غير ذلك! فاسمع جوابه مغاضبا: «لستما تعلمان ما تطلبان، أتستطيعان أن تشربا الكأس التي أشربها؟»
فيقولان له: «نستطيع!»
فيقول برفق: «ليس لي أن أعطي الجلوس عن يميني وعن يساري إلا للذين أعد لهم من أبي!»
وفي الغد يحتدم النقاش بين تلاميذه فيخرجونه من صمته؛ فقد كثر اللغط بينهم حول من هو أعظمهم، ناسين قول المعلم لهم: إنه لا ينبغي لأحد أن يرتفع فوق الآخر، وإنه لا يكون في الملكوت الجديد قوة ولا سلطان ولا سلسلة مراتب، فاسمع قوله المر لهم: «أنتم تعلمون أن رؤساء الأمم يسودونهم، والعظماء يتسلطون عليهم؛ فلا يكون هذا فيكم، بل من أراد أن يكون فيكم عظيما فليكن خادما، ومن أراد أن يكون فيكم أولا فليكن لكم عبدا، كما أن ابن الإنسان لم يأت ليخدم، بل ليخدم.»
وفيما هم يتجادلون على هذا المنوال، وفيما هم يتكلمون حول ما أجاد المعلم في صنعه، وما وجب ألا يفعله في تلك الأيام بأورشليم، كان أحدهم يهوذا صامتا مستمعا مفكرا.
ويهوذا هذا وحده هو غير الجليلي بين أولئك الرجال والنساء، ويهوذا هذا قد ترك المنطقة اليهودية منذ طويل زمن؛ ليتبع المعمدان في البداءة على ما يحتمل، ثم لحق بيسوع الذي أعجبه كلامه ومذهبه أكثر من أن يعجبه شخصه على ما يظهر، ويلوح لنا أنه هجر أهله وطلق صنعة ونقدا ومالا، وقد جعل قيما على المال المشترك لروحه العملية، وهو الوحيد من بين رفقائه في الاطلاع على العالم قبل التحاقه بالنبي الناصري الذي لم يعرفه سابقا، فكان يعرف أولياء الأمور ويعرف أورشليم، ويعرف ماذا ترك ولماذا ترك، وغير ذلك أمر الذين وجدهم مقربين لدى المعلم فأصبحوا إخوانا له؛ فقد كانوا خياليين متحمسين من الجنسين، وقد نشئوا في مدن صغيرة، وبيئات ضيقة، وفيهم ما في أهل الجليل من اتقاد الذهن والحماسة، وهم لم يتركوا شباك صيدهم ومحاريثهم إلا تلبية لنداء ذلك الناصري العذب الكلام في شواطئهم.
ويسأل يهوذا عما كان يعمل في هذه الحال أو تلك الحال لو كان في محل معلمه، وعما فعل هذا المعلم من خير، وكلما دنا يهوذا من وطنه القديم تنبهت فيه دوافع صباه السابق، وكلما حن إلى أسرته ومهنته وعاودته أفكاره التي أقصته عن أهله اغتم بما لا يقل عن غم المعلم نفسه على ما يحتمل، وماذا حدث؟ وماذا صنع المعلم لينال السلطان، ويحقق واسع الآمال؟ أيعتقد حقا أن الرب سيغمس يده من أعلى السماء في هذا العالم المعقدة أموره، فيمهد السبل لابنه؟ أجل زاد التلميذ بين يوم ويوم ألما من الانتظار، واستمع في الهيكل مع الآخرين إلى الأمثال والتهم والأجوبة، ولكن من غير أن تتمخض حركة منذ طرد يسوع أعداءه من الهيكل في اليوم الأول، وها هو ذا البطل يصفر وجهه غير متقدم إلى الأمام!
جثسيماني.
ويقول ليهوذا همسا أصدقاؤه القدماء وأقرباؤه فيزيدون ريبه: أهذا هو معلمه؟ أمن أجل هذا ترك صنعته وماله وهجر كل شيء؟ أمن أجل اتباع مجنون لم يسطع أن يحمل الناس على إطاعته؟ ويجد يهوذا بعد عودته ما يجذبه في السلطة، وفي الكهنة، وحللهم واتزان خطاهم، وفي إعجاب الأجانب، وأما ذلك الذي ضحى من أجله بكل شيء فقد دخل أورشليم بسيط المظهر عابسا راكبا أتانا! وهو الآن لا يبدي حراكا!
وتساور الشكوك يهوذا فيما يقوله معلمه، فيعزم على البت بإخلاص لا عن طفرة، ويرى يهوذا معلمه مغتما فيألم؛ لما يبصره من إضاعته للساعات الأخيرة التي يمكن العمل فيها، ولما يشعر به أكثر من إخوانه، من أن الشريعة تجمع قواها لتدوس ذلك الممسوس المزعج، ويهوذا هو أول من قدر أن شعور يسوع بدنو أجله هو الذي أملى عليه خطبته الأخيرة التي قالها في الهيكل، فأخاف بها تلاميذه أكثر مما أنار بها بصائرهم.
والآن يبدو يسوع جامعا لقواه مرة أخرى، فيظهر أمام تلاميذه أنه المسيح بما أوتي من قوة، فيعرض نفسه على أنه المخلص بين الشدائد والزلازل والمجاعات، فاسمع ما يقوله وهو جالس هو وتلاميذه في المساء الخامس حول المائدة في بيت عنيا: «وحينئذ تبصر جميع قبائل الأرض ابن الإنسان آتيا على سحاب السماء بقوة ومجد كثير، فيرسل ملائكته ببوق عظيم الصوت، فيجمعون مختاريه من الأربع الرياح من أقاصي السماء إلى أقاصيها ... لا يمضي هذا الجيل حتى يكون هذا كله، السماء والأرض تزولان، ولكن كلامي لا يزول ... ومتى جاء ابن الإنسان في مجده وجميع الملائكة القديسين معه، فحينئذ يجلس على كرسي مجده، ويجتمع أمامه جميع الشعوب، فيميز بعضهم من بعض كما يميز الراعي الخراف من الجداء، فيقيم الخراف عن يمينه، والجداء عن اليسار، ثم يقول الملك للذين عن يمينه: تعالوا يا مباركي أبي، رثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم؛ لأني جعت فأطعمتموني، عطشت فسقيتموني ... بما أنكم فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر ، فبي فعلتم.»
وهكذا يسعد يسوع أو يدين من يعمل الخير أو الشر، وهكذا يعلن نفسه قاضيا ربانيا بأصرح مما في أي زمن، فلا يتردد في إنباء هؤلاء الذين يسمعون كلامه بأنهم سيرونه نازلا من السماء في هذه الحياة الدنيا، وهكذا يبوح بذلك إلى جمعه الصغير متمثلا ما فكر فيه بقيصرية فيلبس، بعد أن طوت أورشليم كشحا عنه فعادت لا تصغي إليه، وينظر إليه أولئك الذين يحيطون به فيؤمنون به، ويهوذا وحده هو الذي يصعب عليه أن يرضى بذلك فيسأل: لماذا يرتد يسوع في معترك الحياة فيذكر متمدحا أمام خلصائه سلطانه ذلك، ومجده ذلك؟ فبهذا تشتد شكوك يهوذا!
وإن السكوت ليسود المائدة بعد ذلك؛ إذ يفاجأ الجالسون حولها بامرأة رأت يسوع حديثا، فهذه المرأة الجميلة جمال مريم المجدلية فيما مضى لم تبد من الضراعة مثل ما أبدت، فتتوجه إلى يسوع الذي أدخل الإيمان إلى قلبها كتمثال، تتوجه إليه وهي تحمل بيديها قارورة من رخام أبيض، فتكسر عنقها، فتصب جميع ما فيها من الطيب الهندي الثمين على شعره، فتدهن جسمه، فيدهش الحاضرون خلا يهوذا الذي تحول الشك فيه إلى أزمة، فيجرؤ على لوم المعلم الذي لم يمنع مثل هذا التبذير فيقول: «لماذا كان تلف الطيب هذا؟ كان يمكن أن يباع هذا بأكثر من ثلاثمائة دينار ويعطى للفقراء!»
لم يسبق أن عامله تلميذ بمثل هذا، ويحدق إلى هذا الذي يرفع صوته فوقه، فهل شعر ببذرة التمرد في بيته، أو يعد يهوذا عصبيا مقدرا أن دخول الهدايا في خزانته خير من تبذيره على شعر المعلم؟ فاسمع تعنيف يسوع إياه برفق. «اتركوها! لماذا تزعجونها؟ قد عملت بي عملا حسنا؛ لأن الفقراء معكم في كل حين، ومتى أردتم تقدرون أن تعملوا بهم خيرا، وأما أنا فلست معكم في كل حين، عملت ما عندها، قد سبقت ودهنت بالطيب جسدي للتكفين.»
ويهزه كلامه ذلك فيصمت قليلا، ثم يود أن يطيب خاطرها بأكثر من ذلك فيقول بلهجة قدماء الأنبياء: «الحق أقول لكم: حيثما يكرز بهذا الإنجيل في كل العالم يخبر أيضا بما فعلته هذه تذكارا لها.» •••
غضب يهوذا، أفلم يبذل جهودا عظيمة لكسب أموال في سبيل الفقراء؟ أفلم يضح بجميع ما يملك في سبيل حياته الأدبية؟ ولماذا؟ لقد شعر بفساد احترام امرأة للمعلم بدهنه بما يساوي ثلاثمائة دينار، فأحس أنه خدع، فاشتعل قلبه ارتيابا، فتذكر قول موسى: «إذا تكلم النبي باسم الرب فلم يتبع؛ كان ذلك افتراضا فلا تخشه.» ويؤثر فيه ما رآه بأورشليم من إنذار أهله له، وسخريتهم به، فلا يدفع عن نفسه مؤثرات الشباب وقوة قديم العادات، ويرى المعلم ساكنا لا يبدي حراكا فيعزم على الحركة والعمل، ولم لا يطوي دور الانتظار الذي أضحى لا يطاق؟
أيعرض عن معلمه؟ أيهجره؟ ليس هذا قليلا ولا كثيرا؛ وإنما أراد أن يحمل يسوع وأعداء يسوع على اتخاذ خطوة حاسمة، فأخذ يبحث عن أسباب سائغة ليست بالحقيقة سوى انتقام شخصي؛ لما اعتوره من قنوط، فوجد في ذهنه ما يطلبه، أفلم يقل المعلم في الأيام الأخيرة مكررا بمختلف الصيغ: إن آلامه المنتظرة هي مرحلة إلى المجد الأبدي؟ ألم يخبر بدنو أجله؟ فإذا كان هو المسيح حقا، وكان يتردد في إثبات ذلك بالأعمال، لم يستطع أن يثبته للناس بغير آلامه، وتتضح عداوته للهيكل وللقائمين بأموره من الوثائق والشتائم، ومن شكاوى كلا الحزبين، فإذا ما سلم لأعدائه بدا في العالم جوهره وحقيقة إنجيله لكل ذي عينين.
والتلميذ الذي يقود المعلم إلى حيث يألم يكون وحده قد فتح له طريق المجد، ومن المحتمل أن يكون يسوع العالي النسك منتظرا اليد التي تعينه على الوصول إلى النهاية، ومن ثم إلى البداية، فإذا ما أتى الرب إذ ذاك بمعجزة فنصر ابنه؛ وجد التلميذ الملحد ما يسوغ به فعلته من وجهين: فالمعلم يثبت آنئذ لنفسه ولتلميذه سلطانه الرباني، وتكون جميع الشكوك والريب حول رسالته قد تبددت بذلك إلى الأبد.
حاول يهوذا أن يستر بتلك التأملات ضعفه وتأثره من إيمانه الماضي بيسوع وكفره الحاضر به، فذهب إلى أحد بيوت الكهنوت التي يعرفها بأورشليم لا ريب.
أوصد الباب دونه بسرعة ثم استمع إليه؛ فقد كان أعضاء من المجمع الكبير مجتمعين لاتخاذ قرار في الأمر ما ألحف الوقت عليهم بذلك، فلم يبق لعيد الفصح سوى يومين، فإذا ما برز يسوع الناصري أمام الجموع المجتمعة، فكرر تهمه الشائنة ضد الجالسين على كرسي موسى بدا الخطر، فيجب القبض عليه ليلا في مكان بعيد من الهيكل والمدينة، ومن أعين الناس إذن، وليحاكم وليحكم عليه، ولينفذ الحكم فيه قبل يوم العيد بالاستناد إلى شهادة شاهدين أو ثلاثة شهود إذن؛ ففي ضوضاء العيد ما يؤدي إلى نسيان أمره عاجلا.
قدر أولئك الأعضاء ذلك وعلموا أيضا، أن من الخطر أن ترسل إلى بيت عنيا كتيبة مسلحة لحصار بيت مطمئن، والقبض على نفر من الناس قد يقاومون فتسفر مقاومتهم عن شغب، ثم رأوا المعين في تلميذ له أتى من تلقاء نفسه ليساعد على ذلك، فوجدوا إنجاز الأمر منذ هذا المساء ممكنا، فأوعزوا إلى يهوذا بألا يغفل عن مراقبة معلمه.
أراد يسوع أن يصنع كل يهودي تقي في خميس العيد، فأوصى على خروف فصحي من المدينة، ما ظل وفيا لهذه العادة القديمة مع مقته تقريب القرابين، وما فكر، على ما يحتمل، في الأكل من الخروف الفصحي للمرة الأولى والأخيرة بأورشليم، ويخص الأغراب بغرفة وفقا للعادة، وتسلم إليهم أغطية ووسائد، ويأتي هؤلاء بلحم وخمر، وتهيأ كعكة رقيقة قليلة الحلاوة مصنوعة من دقيق البر، وسليقة غليظة مصنوعة من الفواكه ومر الكلأ تخليدا لذكرى محن مصر، ويأخذ التلاميذ الخروف إلى الهيكل، وينتظرون البركة مع ألوف الناس، ثم ينتهون إلى الكهنة المقربي الذبائح، المرتلين لمزاميرهم رابطي الجأش بين الدماء والأحشاء، وأصوات الأنعام والأبواق.
وينزل يسوع إلى المدينة مساء فيجد في الغرفة أربع وسائد كبيرة، وأغطية منظمة على شكل نصف دائرة، فيستطيع أن يتكئ على كل وسادة ثلاثة أشخاص، ويخص يسوع بمكان الشرف في الوسط على أن يستند أحد تلاميذه إلى ظهره، وآخر إلى صدره، ويختار بطرس ويوحنا لذلك، ويبدو ربا لأسرة مراعيا للتقاليد، ويقوم بجميع الشعائر ويقرنها بكل ما يدل على اقتراب أجله ، ويقول منذ جلس حول المائدة: «شهوة اشتهيت أن آكل هذا الفصح معكم قبل أن أتألم؛ لأني أقول لكم: إني لا أشرب من نتاج الكرمة حتى يأتي ملكوت الله.» وتصب له خمر حمراء فيخلطها بالماء وينطق بالبركة عند أول كأس: «حمدا لإلهنا رب العالمين خالق ثمرة الكرمة.» ثم يدير الكأس فيقول: «خذوا هذه واقتسموها بينكم؛ لأني أقول لكم: إني لا أشرب من نتاج الكرمة حتى يأتي ملكوت الله.»
والمائدة وطيئة فيستطيع الآكل أن يتناول الطعام منها متكئا، ويبدأ بالأعشاب المرة ثم بسليقة الفواكه مع حمد الرب على جميع ذلك، وترفع المائدة قبل أن تخلط الكأس الثانية، وتدار الخمر مع الإنشاد، ثم تعاد المائدة وعليها رغيفان رقيقان مدوران، ويقطع يسوع أحدهما، ويضع القطع على الرغيف الآخر ويقول: «حمدا لذلك الذي يخرج الخبز من الأرض.» ثم يلف قطعة من الخبز بأعشاب ويغمسها في سليقة الفواكه ويأكلها وينطق بدعاء آخر، وإنهم لكذلك إذ يؤتى بالخروف فيغمسون أصابعهم في الصحفة معا على حسب عادة الشرق ويأكلون.
ومن ينظر إلى هنالك من بعيد يشاهد أصحابا مرحين اجتمعوا ليحمدوا الله على ما أنعم به عليهم، ويشاهد يسوع آكلا معهم كما في كل وقت، مع أن نفس يسوع بعيدة منهم أكثر مما في أي وقت، فيسوع يشعر بأنه خسر المعركة، خسرها بين أصحابه، فهل هم أصحابه إذن؟ وعلى أيهم يعتمد؟ أفيدرك أحدهم أمره؟ أفيقاتلون من أجله وعددهم اثنا عشر وهم رجال سلم لا حرب؟ أفينطقون بكلمة ويرفعون صوتا في سبيل إنقاذه؟ هم ضعاف على الدوام، وقد فتر إيمانهم منذ وصولهم إلى تلك المدينة المعادية، فلا تجد بينهم من هو مستعد لكفاح عدل عنه يسوع، فيا أورشليم!
أفيشك فيهم جميعا؟ أفيلاحظ جميع الأيدي التي تغمس في الصحفة؟ أينتقل نظره الثاقب من يد يهوذا السافرة المرتعشة الأصابع إلى وجهه السافر؟ قد يكون ذلك؛ وإنما الذي لا ريب فيه هو أن المعلم ترك الصحفة فقال بعد صمت: «الحق أقول لكم: إن واحدا منكم يسلمني!»
ذعروا كلهم وتركت الأيدي الصحفة وتبادلوا النظرات ، ثم نظروا إلى يسوع، ثم تبادلوا النظرات، فماذا حدث؟ أفلاح له عندما أحس دنو أجله أنه لن ينصره أحد من تلاميذه، وأن تلاميذه الاثني عشر سيخونونه؟ أفيعلم أن ذلك الذي يتكئ على ظهره سينكره منذ هذه الليلة؟ أفليست هذه هي الخيانة؟ أم إن بصره الحديد القادر على معرفة الرجال اكتشف العدو الخفي في صمت يهوذا الذي ينتظر؟
يعلم يهوذا وحده فيم يفكر المعلم فيصاب في فؤاده، وماذا يحدث لو أن يسوع نهض حالا وأشار إلى يهوذا بإصبعه قائلا: أنت الذي عقدت نيتك على خيانتي؟! كان يجد في يهوذا آثما تائبا فيسر به أكثر مما يسر بالأحد عشر الباقين الذين سيخذلونه في نهاية الأمر! هذه هي الساعة التي ينتظر يهوذا المرتاب أن يظهر فيها الملك الذي هو ابن الرب قدرته، فلو فعل ذلك لكان وقعه عليه كالصاعقة، ولخر على قدميه من فوره ساجدا عابدا هذا الذي لم يدرك أمره، أفشاهد المعلم اصفرار وجه ذلك الذي أصابه بكلامه؟ أوحده هو الذي رأى درجة ارتعاش يده محاولا إخفاء وجهه بعيدا من نور المصباح؟ «هل أنا؟ هل أنا؟» هذا ما سأله تلاميذ يسوع، ويبدي هؤلاء كالأولاد ثقتهم بمصدر ذلك القول، ولكن يهوذا الذي يضع هذا السؤال كالآخرين ينتظر السهم الذي سيصيبه من عيني المعلم، والمعلم يكتفي بقوله: «هو واحد من الاثني عشر الذي يغمس معي في الصحفة. إن ابن الإنسان ماض كما هو مكتوب عنه؛ ولكن ويل لذلك الرجل الذي به يسلم ابن الإنسان، كان خيرا لذلك الرجل لو لم يولد!»
ويسأل يهوذا في نفسه: أهذا كل شيء؟ ويهدأ روعه فيقول في نفسه: أأجد في ذلك غير الرغبة في الموت؟ ألم يكن قد عطل من النشاط فلا يشير إلي بإصبعه أمام جميع الشهود؟ أهذا هو النبي الذي آمنا به؟ هو لا يعرف حتى الذي سيخونه، وهو لو عرفه ما أراد الكفاح. الموت وحده هو الذي يحل هذه الألغاز.
إكليل من الشوك.
وتنتهي الوليمة بغم بين حديث ذاو، وما قاله يسوع عن الخيانة كان كختمه حكم موته على ما يظهر؛ فقد أخبر في تلك الليلة غير مرة بقرب موته، وها هو ذا ينبئ في زهد بأنه سيتلاشى ويتوارى من بين تلاميذه.
أصحيح أن هؤلاء الصيادين الفقراء والفلاحين البائسين ناقصو الحمية والإيمان، فلم يتبعوه من شواطئ بحر الجليل إلى المدينة المقدسة إلا ليجتمعوا به في تلك الغرفة الضيقة؟ تغص المدينة بالناس انتظارا للعيد، وتخفق ألوف القلوب عن تقوى بسبب العيد، ولا يبحث أحد، مع ذلك، عن الاحتفاء بالنبي الذي أتى ليفتح أورشليم، من أجل هذا كان ذلك العشاء الرباني مع أول تلاميذه وآخرهم، وهو حينما تناول في نهاية العشاء رغيفا ثانيا، فقسمه شعر بأنه يقسم حياته بأصابعه، وهو حينما عرض على تلاميذه الخبز بيديه التعبتين أكثر من تعبهما وقتما قسم الرغيف الأول قال برفق: «خذوا كلوا، هذا هو جسدي!»
ثم أدار آخر كأس بحسب العادة، فلما رأى ضياء أحمر فيها قال: «هذا هو دمي الذي للعهد الجديد، الذي يسفك من أجل كثيرين، الحق أقول لكم: إني لا أشرب بعد من نتاج الكرمة هذا إلى ذلك اليوم حينما أشربه معكم جديدا في ملكوت الله.»
وينهض يسوع وينشد مسبحا وينصرف، ويتبعه تلاميذه إلى جبل الزيتون خلا يهوذا.
ظل يهوذا في المدينة، وذهب ليخبر الخفراء.
الفصل الخامس
الآلام
عاد يسوع وصحبه إلى جبل الزيتون في ساعة متأخرة من الليل، وكانت السماء صافية، والهواء رطيبا، ويصل إليهم ضجيج المدينة المعيدة فلا يسمعونها ما تذكروا صامتين كلام المعلم.
ويبدو أنه تحول، أفنشأ هذا عن طراوة الهواء؟ أم عما رآه من تواري يهوذا؟ أم عن شعوره باقتراب الخطر؟ لا مراء في أن النشاط دب فيه منذ خروجه من المدينة، فأخذت تساوره عوامل الكفاح والنضال، ومن المحتمل أن فكر في الفرار ما خاطب تلاميذه بقوله: «حين أرسلتكم بلا كيس ولا مزود ولا أحذية، هل أعوزكم شيء؟»
فقالوا: «لا.»
فقال لهم: «من له كيس فليأخذه ومزود كذلك، ومن ليس له فليبع ثوبه ويشتر سيفا.»
ويجفل التلاميذ عند سماع ذلك كما لو أخذوا متلبسين بجرم ، ولا سيما أن بعضهم كان قد فكر في القتال وما يتطلبه القتال من السلاح، فتشجع اثنان منهم فجازفا بإظهار سلاحيهما فقالا: «ها هو ذا هنا سيفان!» ويتكمش عند رؤيته هذه الأسلحة الضعيفة؛ وذلك على حسب عادته عند مواجهة الحقائق، مقدرا بطلان المقاومة؛ لتمثله مناقضة الروح للقوة، ولمقابلته بين الله والعالم، فيعدل عن رأيه في بضع ثوان، فيكتفي هادئا بقوله المبهم: «يكفي!»
ويواثبه تفكيره بدنو أجله، ويحاول بين حين وحين أن يلطف وقعه في نفسه على ضوء التوراة، ويقول لتلاميذه كمن يريد امتحانهم: «كلكم تشكون في هذه الليلة؛ لأنه مكتوب أني أضرب الراعي فتتبدد خراف الرعية.»
ويقاطعه بطرس بحماسة كما في قيصرية فيلبس فيقول: «إن شك فيك الجميع فأنا لا أشك أبدا.» فينظر يسوع إلى بطرس مغتما ما عرف تقلبه وتقلب أصحابه فيقول: «إنك في هذه الليلة قبل أن يصيح ديك تنكرني ثلاث مرات.»
فيقول له بطرس: «لو اضطررت أن أموت معك لا أنكرك.» فيردد التلاميذ الآخرون قوله.
ويدهش يسوع حين يسمع عهود الإخلاص والوفاء هذه، وتتجاذبه المتناقضات، أفيسلم نفسه إلى العدو بغير مقاومة؟ أليس تلاميذه مسلحين؟ كلا، لا يذهب في هذه الليلة إلى بيت عنيا؛ حيث يبحث عنه لا ريب، فإذا كان يهوذا الغائب شريكا في المؤامرة؛ فإن مجيء هذا الخائن مع العدو إلى هنالك يكون غير مجد، ثم تشتعل فيه روح النضال مرة أخرى، فيترك الطريق بغتة، ويأمر تلاميذه باتباعه، ويبحث عن مختبأ، وهكذا يود يسوع في آخر أيام حياته أن يختفي على غير هدى، كما كان يفعل عندما يسير ضد العالم في كل مرة، ويدخل يسوع في الليل البهيم في بستان زيتون يروية وادي قدرون، ويقع على المنحدر الغربي من الجبل، ويحيط به سياج صبار، فيحميه من اللصوص كما تحمى بساتين الأهالي الأخرى.
وإليك يسوع وصحبه في ذلك البستان، ودخول بستان للاختفاء تجربة حديثة مزعجة ليسوع الحليم الذي بلغ السنة الحادية والثلاثين من عمره، فلم يدخل قبل ذلك في غير أفئدة الناس، وفي تلك الأيام يسمع يسوع طقطقة وهمسا، وتحاك حوله المؤامرات، ويكشر الموت الذي أكثر من ذكره عن أنيابه له فجأة، ويزحف إليه بما لا عهد له بمثله، فتصول فيه من جديد أرواح الحياة الحسية بذلك البستان، بعد أن ديست فيه شتاء بأجمعه، وبعد أن خنقت فيه خلال الأسبوع الأخير بأورشليم، ويستهويه من جديد ما حوله من الهدوء، وتفتنه رائحة شجر الزيتون، وطل الليل والكلأ الناعم تحت قدميه، والنجوم التي تلقي أشعتها من بين الأغصان، وتبدو التوراة ووحي التوراة أمرا منسيا، أو معنى مبهما، وتثور في نفس يسوع رغبة حارة في الابتهال إلى أبيه أن يدع له حياته.
وهل يبيح يسوع لنفسه أن يبوح لتلاميذه بما فيه من ارتباك أفكار واختلاط مشاعر؟ انتحى يسوع بتلاميذه الثلاثة المفضلين: «بطرس ويعقوب ويوحنا» جانبا، تاركا الآخرين تحت الشجر، وأخذ يسير هو وإياهم قليلا في الظلام، وصار يرتعش ويتردد ويخاف أن يترك وحيدا، فقال لهم: «نفسي حزينة جدا حتى الموت، امكثوا هنا واسهروا معي!»
ثم تقدم بضع خطوات وسجد ومس جبينه وشعره الأرض الندية ودعا قائلا: «يا أبتاه، إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس؛ ولكن ليس كما أريد، بل كما تريد أنت.»
ويداوم يسوع على الدعاء من أجل حياته، ويفوض أمره إلى أبيه، ويعاوده الغم فينهض مرة أخرى، ويخيل إليه أنه أحيط به، فيشعر شعور الفريسة عند اقتراب كلب الصيد منها، ويعود ضعيفا بائسا حزينا إلى رفقائه، باحثا عن المعين فيهم، أفلا يبسطون ذرعانهم لمعاضدته؟ أفلا يحلونه محل القلب في نفوسهم؟
وجدهم نائمين، ووجد يعقوب ويوحنا وبطرس نائمين.
فقال لبطرس: «أهكذا ما قدرتم أن تسهروا معي ساعة واحدة؟»
ألا يتجلى قنوط الحياة في تلك الكلمة؟ أليس أولئك هم أخلص أتباعه الذين وهب لهم قلبه منذ سنة وبعض سنة؟ هذه هي المرة الأولى التي يطلب فيها صاحبهم ومعلمهم العون منهم لا من الرب الذي يدبر الأمر في عالم السر، وهذه هي المرة الأولى التي ثلمت الخمرة والظلمة حدهم فيها فتراهم نياما!
وتساور النبي شكوك، أفلم يختر طريقا ضالة؟ أفلم ير بطرس هذا التعب روحا وجسما ينشد الراحة غير مرة لدى زوجته كالولد الصغير على صدر أمه، فتحتضنه احتضان الوالدة لولدها؟ ألم يكن انفراده خطأ؟ كان يمكنه أن يجد على الدوام ملجأ في قلب نسوي، وأيديا ناعمة تداري شعره، وشفاها تقبل قدميه، وعطفا عليه في أعماله اليومية، وكان يمكنه أن يشاهد ازدهار من يحبهم من الأولاد ونموهم، وكان يمكنه أن يقضي حياته بين أهل مدينة صغيرة هادئة من الجليل، وأن يمتاز منهم بمخاطبته الأب فوق الجبل، وأن يحفظ سره في نفسه!
ولم جاء الناس بالبشرى معرضا حياته المطمئنة للخطر؟ فأين، إذن، القلوب التي أيقظها وملأها سعادة بتعاليمه؟ فانظر إلى سمعان الذي عده صخرة يشاد عليها الإيمان فسماه بطرس؛ تجده نائما في تلك الساعة الخطرة، وانظر إلى يوحنا الذي كان يضمه إلى قلبه كالولد الصغير؛ تجده نائما أيضا، وانظر إلى يعقوب تجده نائما أيضا، فإذا كان هؤلاء لم يسمعوا رجاء معلمهم للمرة الأولى، وإذا كانوا يكلونه وحده إلى كربه وتردده، فيا خيبة الأمل! لقد نسي الغرباء - الذين سمعوه فشفاهم - رسالته منذ طويل زمن، فهم لا يزالون في مراكبهم وسفن صيدهم فاتري الأفئدة، مع ظنه أنه ألهبها، فهل البشرى التي أتى بها هي من هذه البشارات التي تستحق أن يضحي بحياته في سبيلها؟ «يا أبتاه! إن لم يمكن أن تعبر عني هذه الكأس إلا أن أشربها؛ فلتكن مشيئتك!»
هنالك ضوضاء وصليل سلاح؛ فقد كشف المخبأ، فدخل البستان جماعة تحمل مصابيح ومشاعل، وكان قائدها رئيس حرس الهيكل، فهذا القائد تعذر عليه أن يقلل في هذا العيد عدد خفراء الهيكل، فاستعان بخدمة رئيس الكهنة فسلحهم بسيوف وعصي، فذهب هؤلاء إلى بيت عنيا للبحث عن يسوع، فلم يجدوه، فقادهم يهوذا إلى حيث المدينة، فأخذ يدقق في الطريق إلى أن عثر له على أثر، وما كان ليثنيه شيء عما عزم عليه، وما كان ليبالي بغير إنقاذ إخوانه الذين يرى أنهم خدعوا مثله.
وإن أولئك لجالسون على الأرض في الظلمة فلا يستطيع القائد ومن معه أن يعرفوا يسوع، فيصعب إطلاق من يقبض عليه منهم؛ إذ عن ليهوذا رأي فقال للقائد: «الذي أقبله هو هو، أمسكوه!»
الصلب.
ويقبل يهوذا على يسوع ويقبله وهو يقول: «السلام يا سيدي!» فيرفع أولئك الخدم مصابيحهم ليتحققوا فريستهم، وينظر يسوع إلى تلميذه الخائن قائلا: «يا صاحب! لماذا جئت؟»
ويبهت الخدم الحاملون عصيا، ويترددون بعد أن سمعوا كلمة «صاحب»؛ وذلك خشية أن تكون قد نسجت خيانة هنا.
أفلا ترى يا يهوذا، تحطم حذقك كقدح كنسته نفثة النبي؟ هكذا يتكسر العقل والحساب؛ حينما تنظر عينان بشريتان بريئتان إلى ذلك الذي يخادع نفسه راغبا في مخادعة الآخرين.
ويقطع بطرس ما ساد من الصمت، ويستل سيفه من غير تفكير وروية كما هي عادته، فيقطع أذن أقرب رجل منه، فكان هذا سببا في انتقال الخدم من السكون إلى الحركة، فيقبضون على الذي حاول أن يمنع بطرس من فعلته، لا على بطرس الذي لاذ بالفرار.
يقبضون على المعلم، يقبضون على الرجل الطريد الحصور؛ حينما كانت المشاعل تنير الوجوه الغليظة، وكان ضياؤها ينعكس على الخوذ والسيوف، وحينما كان العدو مسلحا، وكانت الحكومة ضده، وينتحل الوضع الذي يلائمه تجاه القوة، ويجري في عروقه شعوره بأنه المختار، ويسترد ما خسره في اليومين الأخيرين من العزة، وفي الظلام ببستان جثسيماني هذا، وينتهي فيه عذاب الانتظار، فأما وقد حلت المحنة وأيقظته، نطق بهذا القول الجامع الملائم لرسالته: «رد سيفك إلى مكانه؛ لأن كل الذين يأخذون السيف بالسيف يهلكون.»
ثم ينظر إلى من حوله ويخاطب جنودا أكثر من أن يخاطب أصحابا، معربا بصوت عال عن فكره السامي: «أتظنون أني لا أستطيع الآن أن أطلب إلى أبي فيقدم إلي أكثر من اثني عشر جيشا من الملائكة؟ فكيف تكمل الكتب أنه هكذا ينبغي أن يكون؟ كأنه على لص خرجتم بسيوف وعصي لتأخذوني. كل يوم كنت أجلس معكم أعلم في الهيكل ولم تمسكوني.»
لم يكن لكلامه هذا صدى، ولم يفهمه أحد، ويأمر القائد فيقبض عليه، ويستولي الذعر على تلاميذه فلا يدافع أحد منهم عنه فيخذلونه.
ويسمع في بستان الزيتون حفيف شجر وتواري ظلال في الظلام؛ فقد فر جميع الحواريين. •••
سيق يسوع إلى قصر رئيس الكهنة في ساعة متأخرة، فسير به من مسالك ومراق عريضة إلى غرفة واسعة خالية من الهواء ذات ستائر صفيقة، فرأى فيها على نور الشمع نحو عشرين رجلا جالسين على وسائد في نصف دائرة صامتين منتظرين، ثم وقع نظره في وسط هؤلاء على شيخ كنتي هزيل، متكرش الوجه، شاحب اللون، متلفف في أغطية، مستند إلى مخاد مشابه لرق الناموس الذي رآه في الهيكل. ومن وجه هذا الشيخ كان يخرج ألفاظ وشخير.
هذا هو حنان الذي كان رئيس الكهنة في عصر أغسطس الزاهر، ثم خلفه خمسة من أبنائه في وظيفته مع بقائه قابضا على زمام الأمر مرهوبا ممقوتا، وقيافا الذي هو رئيس الكهنة اليوم هو أصغر أولاده سنا، والرومان أصحاب السلطان هم الذين نصبوا قيافا هذا، فظل مع شيبته مطيعا لأبيه حنان البالغ من العمر مائة سنة.
ويتعذر جمع المجمع الكبير كله في تلك الليلة القريبة من العيد، فاجتمع ثلث الأعضاء، وهذا ما يكفي. ومن أحكام الشريعة أنه لا بد من انقضاء يومين للحكم بالإعدام وتنفيذه، فيمكن للضرورة الملحة عد تلك الليلة اليوم الأول، وعد الصباح التالي اليوم الثاني.
إعدامه أمر بت فيه؛ فالصدوقيون النافذون في المجمع الكبير لا يحبون الجدال كالفريسيين، بل يرون قرن الأقوال بالأفعال، وضل من يقول غير هذا، والسلطان والمال ينتقلان إلى الصدوقيين جيلا بعد جيل. ومن امتيازاتهم: بيع أنعام القرابين، وإيجار الأماكن في الهيكل للباعة، وتوزيع الوظائف، وتحديد الأثمان، والصدوقيون إذا ظلوا هادئين صابرين؛ على حين يثور الفريسيون ويهيجون، فليعملوا في الوقت المناسب، وليقضوا على عوامل الخطر في ساعة واحدة؛ فقد دقت هذه الساعة، فالشهود ينتظرون في خارج القاعة، والمتهم حاضر.
جيء بيسوع الجليلي أمام هؤلاء الذين نضجت أعمارهم، وحنكتهم التجارب، فأنعموا النظر فيه منذ دخوله أكثر من أن ينعمه فيهم، فرأوا في منظره وسلوكه مثل أوضاع ناقضي الناموس، ولم يكترث يسوع في محاكمته الجائرة لغير الشكل، ويعرف كلا الفريقين ما تسفر عنه هذه المحاكمة، ويغتم المتهمون، مع ذلك، أكثر من المتهم الذي يعلم هلاكه، أفلا يمكنه أن يصنع كما صنع زكريا في بدء حرب اليهود، فيمزق شبكة دسائسهم بصوت راعد يوجهه إلى الشعب؟ فما الذي يؤاخذه عليه الشيخ حنان؟ أيؤاخذه على الطراز الذي دخل به أورشليم؟ أم يؤاخذه على طرده الصيارفة من الهيكل؟ أم يؤاخذه على ما قذف به الفريسيين؟
لم يحدث شيء من هذا، ويقص الشهود ما عندهم، ويحاول الشيخ حنان أن يلبس المحاكمة مظهرا نزيها مع أنه خصم وحكم في آن واحد، ولم يسمع صوت المتهم بعد، فغاظه صمته تجاه ما وجه إليه من تهم وأسئلة، فطلب منه أن يوضح مذهبه.
النبي واقف هنالك بين أعدائه، فهل يكشف عن روحه الخفية أمام تلك الوجوه؟ لقد أجاب بفتور: «أنا كلمت العالم علانية، أنا علمت كل حين في المجمع وفي الهيكل؛ حيث يجتمع اليهود دائما، وفي الخفاء لم أتكلم بشيء، لماذا تسألني أنا؟ اسأل الذين قد سمعوا ما كلمتهم، هو ذا هؤلاء يعرفون ماذا قلت أنا.»
ما كان أحد ليجرؤ قبل الآن على النطق بمثل ذلك أمام السائل الهرم، فلطم أحد الخدم المتهم بيده قائلا: «أهكذا تجاوب رئيس الكهنة؟» وذلك قبل أن يكون لدى الشيخ حنان من الوقت ما يعنف به يسوع.
بيد أن يسوع أجاب بهدوء على طريقة الفريسيين: «إن كنت قد تكلمت رديا فاشهد على الردي، وإن حسنا فلماذا تضربني؟»
ولم يرتح الكهنة لهذه الغلظة، فودوا احترام المظاهر والنظام. ويدرك الشيخ حنان أن ما حدث حتى الآن لا يؤدي إلى نتيجة فاستدعى الشهود لإثبات أفظع التهم، فأجمعوا على أنهم سمعوا يسوع يقول حديثا: «إني أنقض هذا الهيكل المصنوع بالأيادي، وفي ثلاثة أيام أبني آخر غير مصنوع بأياد.»
ويظل المتهم صامتا أيضا في هذه المرة، فمما لا ريب فيه أن يكون قد نطق بمثل ذلك، فلا تحتاج إقامة بيوت ملكوت الله التي هي مقر التقوى الخالصة إلى سنوات، وإلا لاقتضت الأبدية. ويتقدم الشيخ حنان قليلا نحوه زاحفا بوسادته، ويرمي أحد أغطيته ويقول : «أما تجيب بشيء؟»
لا صوت يرن في الغرفة ذات الستائر الصفيقة، وينظر بعض الحضور إلى بعض حائرين، فلم لا يبدأ الشيخ حنان بجمع الأصوات منذ الآن؟ لقد جدف المتهم على الله ولم ينكر كلامه، ولكن القاضي المحنك يرغب في برهان أمتن مما حدث؛ فهو يعرف روح الجدل في الفريسيين، وأنهم سيعترضون في آخر الأمر، وهو يعرف تشدد الوالي الروماني الذي يطلب دليلا ساطعا؛ فمن أجل ذلك يسعى في حمل النبي الزائف على الاعتراف، فيطرح أخطر المسائل ليغري يسوع على الخروج من موقفه السلبي، فيزحف قليلا أيضا نحو المتهم، فيكاد يمس رداءه العادي بذراعيه المدثرتين بنسيج من حرير، فيقول: «إن كنت أنت المسيح فقل لنا!»
ويتجاذب يسوع إيمانه برسالته واحتقاره لأولئك الذين يسألونه، وتتصادم فيه عزته واشمئزازه، ويتعارك فيه اعتزاز واعتزاز، فيكتفي بالجواب الجاف الآتي: «إن قلت لكم لا تصدقون، وإن سألت لا تجيبونني ولا تطلقونني.»
ويتذمر القضاة من عناد يسوع ومن سعة صدر رئيسهم، ولا يرى هذا الرئيس أن خطته أحبطت مع ذلك؛ فهو لا يزال يصر على اقتطاع اعتراف من يسوع، فيقوم بآخر حملة، فيحاول النهوض مستندا بيديه المرتعشتين إلى وسادته، فيسرع إليه أولاده ليساعدوه على ذلك؛ لما يعرفون من نهوضه ليدعو الرب، فيبرز هذا الفاني من بين الأغطية والوسائد، فيرفع ذراعه العظمية فيسأل ناعقا كالغراب: «أستحلفك بالله الحي أن تقول لنا هل أنت المسيح ابن الله؟»
الآن يشعر يسوع بحلول الوقت الذي يعلن فيه بين الأعداء ما يأمر به الرب الذي نفذ اسمه جو هذا المكان الخانق، ولا يرى يسوع، مع ذلك، أن يعتز؛ فهو يجيب بصوت خاشع كصوته في بدء رسالته فيقول برفق: «أنت قلت.»
ولم ينشب يسوع أن رفع يده، فنظر إلى ما حوله، فقال بصوت ملك: «أقول لكم من الآن تبصرون ابن الإنسان جالسا عن يمين القوة، وآتيا على سحاب السماء.»
ويثب الجميع على أرجلهم، مذعورين بعد توتر ما توقعوا جوابا غير هذا؛ فقد تم لهم ما أرادوه منذ ساعة بجواب يسوع الجريء، فأصابهم به في الصميم، فها هو ذا يسيء استعمال قول دانيال بأن المسيح سيجلس عن يمين الرب، فليجر الشيخ حنان حلته بيديه المرتجفتين وليمزقها، وليقل بصوته الجاف: «قد جدف. ما حاجتنا بعد إلى شهود؟! ها قد سمعتم تجديفه. ماذا ترون؟»
فيقولون: «إنه مستوجب الموت.»
شفيت الصدور فإذا كانت القضية قد أقيمت على يسوع، وكان القبض عليه قد تم عن غرض وفي الظلام، فإن جميع أولئك يشعرون بأن النبي دان نفسه بنفسه وفقا لأحكام الشرع؛ فهو قد اقترف جرم الخيانة العظمى تجاه شعب الرب، فليكفر عن حبوط عمله إذن! حقا لقد حكم على كثير من العظماء الخائنين وعلى كثير من الأنبياء بالإعدام، فقتلوا قبل يسوع الناصري وبعده كما تأمر الشريعة، فأقيمت التماثيل، ووضعت الأناشيد بعد زمن تعظيما لهم، وتخليدا لذكراهم.
ذهب ما يجب أن يكون للمحكمة من كريم المقام والشرف أدراج الرياح؛ فقد نسي أن الشريعة تأمر بالصوم والندب قبل التنفيذ، وأما يسوع فقد تهافت الناس حوله مستهزئين ضاربين كمن يود أن يمتحن ضعفه، ثم دفع بعنف واحتقار إلى خارج القاعة؛ لكي ينتظر هنالك أخذه في الصباح إلى محكمة بيلاطس.
ومن بين التلاميذ ندم بطرس على عار الفرار؛ ففي وقت الفجر يرى اتباع معلمه فينساب من بين الأرصفة، فيجد الخدم جالسين حول النار في ساحة دار رئيس الكهنة ذاكرين حوادث الليلة، فيدنو منهم ليتسقط بعض الأخبار، فترد بغتة خادمة كانت تمازح الخدم. وهذه الخادمة كانت قد نظرت النبي في الهيكل فتعرف الآن تلميذه، فتقول له: «وأنت كنت مع يسوع الجليلي!»
فيقول بطرس: «لست أعرفه، ولست أدري ما تقولين!»
وينتبه الخدم لذلك، فيجر أحدهم الغريب قريبا من النار ليتبين وجهه فيقول: «ألم أرك في هذه الليلة معه في البستان؟»
فيقول بطرس: «يا إنسان، لست أنا.»
ويعرف شخص ثالث لغة أهل الجليل فيقول اتفاقا: «حقا أنت منهم؛ لأنك جليلي، ولغتك تشبه لغتهم.»
ويصر بطرس على الإنكار، ويلعن ويحلف ويكرر قوله: «إني لا أعرف هذا الرجل.»
ويتفلت بطرس منهم خائفا يترقب ، فيسير إلى الباب فيسمع من خم صياح ديك، فيتذكر قول المعلم فينصرف باكيا.
ويساق يسوع المحكوم عليه في الصباح إلى مجمع اليهود الكبير «السنهدريم»، ويستمع هذا المجمع إلى خلاصة أقوال الشهود وأقواله، فيوافق على حكم المجمع الصغير في الليل، فترفع الجلسة ويستعد للذهاب إلى الوالي الروماني الذي لا بد من إجازته لأحكام الإعدام كي ينفذها، ويتوجه موكب السبعين إلى برج أنطونيا ويتوسطه يسوع موثقا. •••
لا يقيم بيلاطس ببرج أنطونيا الذي أصبح مقرا للشرطة إلا في الأعياد، ويحرس أبوابه وجسوره كتائب من الرومان، وينظر بعض ألوف الغرباء إلى هذا البرج القيصري المسيطر على المدينة بعين الخوف، وبعضهم بعين الاحترام، ويتجمهر جمع كبير خلف الكهنة المتوجهين إليه لابسين حلل العيد. وليس دخوله مباحا لهم، فمما يدنسهم أن يدخلوا قلعة المشركين في يوم عيد، فرئي للخروج من هذا المأزق أن يصنع أمام حائط القلعة محكمة من خشب؛ ليجلس فيها الوالي الروماني أيام إقامته هنالك.
وبيلاطس يرى اقتراب الموكب فيمر من الباب محاطا بضباطه وحملة فئوسه، فيستقبل واقفا رئيس الكهنة ورئيس المجمع الكبير قيافا، وينظر إلى المقيد بين الكهنة فيسأل بغلظة: «أية شكاية تقدمون على هذا الإنسان؟» والوالي الروماني إذا ما خلا إلى رئيس الكهنة؛ ليفاوضه في غرفته، حاول الاثنان أن يتفاهما بأدب ما رغبت رومة في إرضاء رعاياها، وما رغب قيافا في وال أنيس. واليوم يتكلم الوالي أمام الشعب بصوت جاف قاس ما بدا ممثلا لرومة العظمى!
ومن أقصى أهداف الوالي ألا يبدو محابيا لحزب من أحزاب اليهود، فأمر حملة الفئوس بفصل يسوع عن قضاته، وجلبه إلى قاعة الحكم بداخل القلعة. ومن المحتمل أن يكون قد فعل هذا اتباعا لأحد التقاليد، ومن المحتمل أن يكون قد فعله لما ألقاه في روعه منظر مدين عرف أوضاعه وأحواله منذ زمن طويل، ثم يعود إلى الكهنة فيسمعهم يقولون بلسان واحد: «إننا وجدنا هذا يفسد الأمة ويمنع أن تعطى جزية لقيصر.» ويكررون ذلك إلى أن يشير عليهم قيافا بالسكوت فيقول لبيلاطس: «يقول إنه المسيح، ملك اليهود!»
والذي رسم لرئيس الكهنة قيافا خطته هذه هو الداهية حنان؛ فقد نصحه بأن يجعل من القضية الدينية قضية سياسية ضد شخص خائن لرومة؛ لما للقضية الدينية وحدها من قليل أثر في وال مشرك كبيلاطس، ويحار بيلاطس، ويدخل من الباب ليسأل يسوع المتهم.
ويظل يسوع، في تلك الأثناء، هادئا ناظرا وهو واقف إلى ما يحيط به، فيرى داخل القاعة مصنوعا من الحجارة الثمينة المزينة، ويرى خلف تلك القاعة حديقة جميلة يوصل إليها بمسالك رائعة، ويرى الحمائم تطير حول حوض الماء، فيقول في نفسه صامتا غير حاقد: بمثل هذه المنازل يقيم الأقوياء في هذا العالم! وهو الذي لم يدخل قصرا أو برجا قبل ذلك قط.
دخل بيلاطس فدنا منه فأخذ يسأله باليونانية موجزا، فلا يكاد يفهم سؤاله، قال بيلاطس: «أأنت ملك اليهود؟»
يشعر النبي بموجة عطف في عروقه كالتي كان يشعر بها في الغالب عند مصاقبته للمشركين، فلا يجد فيهم ما يجده في اليهود من الغرور. وليس بمستبعد أن اعتقد وجود حنو في هذا الجندي مع عطل أولئك الكهنة منه، كما يدل عليه جوابه عن أسئلة بيلاطس بأسئلة أخرى؛ كقوله: «أمن ذاتك تقول هذا أم آخرون قالوا لك عني؟»
تبسم بيلاطس فقال على الطريقة اليهودية: «ألعلي أنا يهودي؟» ثم سأله بأسلوب القضاء: «أمتك ورؤساء الكهنة أسلموك إلي، ماذا فعلت؟»
رأى يسوع أن يوضح لهذا المشرك ما عجز عن فهمه أعداؤه من بني قومه، فلعله يجد في هذا الجندي رجلا يستطيع أن يدرك حقيقة أمره، فقال له بصوته الناصري الرخيم: «مملكتي ليست من هذا العالم، لو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خدامي يجاهدون لكيلا أسلم إلى اليهود.»
ويستمع بيلاطس له متعجبا فيجد فيه متهوسا متحمسا يمكن الانتفاع به ضد أولئك اليهود المغرورين، فيسأله باهتمام: «أفأنت إذن ملك؟»
فيومئ يسوع بالإيجاب مضيفا إلى هذا قوله: «أنت تقول إني ملك؛ لهذا قد ولدت أنا، ولهذا قد أتيت إلى العالم لأشهد للحق، كل من هو من الحق يسمع صوتي.»
لم يحدث أن فسر يسوع رسالته تفسيرا زمنيا بمثل هذا، ويقول بيلاطس في نفسه: «يبدو فيلسوفا بعد كل شيء لا أجد فيه علة.» ثم يقول بيلاطس بأنفة: «ما هو الحق؟»
وهكذا في سواء
1
القاعة بالقلعة بين الخوذ والسيوف يواجه أحدهما الآخر، فيبدو بيلاطس مسلحا لابسا حلته الرومانية القصيرة، ويبدو يسوع يهوديا أعزل مقرنا في الأصفاد لابسا رداء أسمر، ويتبادل الاثنان هنالك بعض الأفكار، لا كمتهم وقاضيه، ولا كصعلوك أمام أمير كبير، ولا كرجل يدافع عن حياته، على حين يزن الآخر هذه الحياة في يديه المسلحتين، بل كما لو كان الصعلوك ملكا والآخر سفير قيصر يسير أسير وظيفته. ويظل يسوع وبيلاطس متقابلين متأملين متسائلين، منصتا أحدهما للآخر إلى أن نطق بكلمة «الحق»، ففصل بها رجل الدنيا عن النبي.
ويخرج بيلاطس من القاعة فيقول للكهنة: «أنا لست أجد فيه علة واحدة.»
فيعترض الكهنة على ذلك بصوت عال قائلين: «إنه يهيج الشعب، وهو يعلم في كل اليهودية مبتدئا من الجليل إلى هنا.»
آلجليل؟ وجد بيلاطس الروماني في هذه الكلمة ما يتمسك به في وسط ذلك اللغط، فطوى صحيفة التفكير والمداراة، فرأى تسكين ما يضطرب له شعب الله الغريب الأطوار، فما كاد يسمع أن يسوع جليلي حتى وجد في هذا ما يخرجه من المأزق؛ وبيان الأمر: أن بلاد الجليل تابعة لهيرودس لا لرومة، وأن هيرودس هو الآن في أورشليم، فزار بيلاطس أمس. فيعود بيلاطس إلى القاعة من غير أن يخبر أحدا أو يقول جوابا، فيسلم يسوع إلى قائد مائة وإلى بضعة جنود، فيخرجه من باب خلفي ويرسله إلى هيرودس مع سؤاله: هل يرغب في النظر إلى قضيته ما دامت بلاد الجليل منطقة حكمه؟
اضطرب هيرودس في هذه الأيام؛ لما علمه من وجود يوحنا في أورشليم مبعوثا، واطلع لا ريب على ما أسفرت عنه الخصومات، وانتهى إليه في هذا الصباح خبر القضية والحكم، فعندما أنبئ بوصول النبي نظر إلى الباب برغبة ورهبة، فوجده ليس شبيها بيوحنا، ولكنه طمع أن ينطق بحكمة فيسكن بكلمة ما كان لقتله المعمدان من الذكريات الفظيعة التي تساوره ، فأخذ يسأل يسوع عن عدة أمور لم ترو إلينا.
لم يجبه يسوع عن أسئلته؛ لما أوحى إليه منظره من السوانح الآتية: «هذا الذي غيرت أحكامه مجرى حياتي، هذا الذي لولاه ما أضحت حياتي عامة على ما يحتمل، هذا الذي لولاه ما وقفت هذا الموقف فصارت أوقات حياتي معدودة.»
فهل عليه أن يجيب عن أسئلته فيفسر له أمر النجوم والنبوءات والمستقبل؟ يسكت؛ لأنه لا ينتظر الخلاص على أيدي الناس، يسكت؛ لأن هذا اليهودي وذلك المشرك ليسا في نظره الذي يستطيع أن يخرق به حجب السماوات سوى مظهرين.
من أجل ذلك عده هيرودس مجنونا غاصبا لصيت يوحنا من غير أن يكون وارثا لحكمته اللاذعة، فلا يصلح إلا ليكون مهزأة، فيلبسه هيرودس لباس المجانين اللامع ويعيده إلى بيلاطس.
وفي ذلك الحين تلاحظ زوجة الوالي من النافذة ذلك الرجل الذي علمت عنه أمورا محيرة للعقول في تلك الأيام، وهي قد تأملت في السنوات التي قضتها بين اليهود أشياء كثيرة فسرها لها فلاسفة رومة والإسكندرية وأساتذة أورشليم، ويشوب معارفها خرافات غير قليلة يضاف إليها ما تشعر به، لا ريب، من العطف على ذلك الناصري الذي يملأ منظره أفئدة النساء، وترسل رسولا إلى زوجها؛ ليبلغ إليه قولها: «إياك وذلك البار؛ لأني تألمت اليوم كثيرا في حلم من أجله.»
جاء إنذارها ذلك مؤيدا لرأي بيلاطس في هوس يسوع وحماسته، ويغضب بيلاطس من عناد الكهنة ذوي الأثرة الذين يودون أن يضحوا من أجل مذاهبهم بمنافس قادر على اختطاف ما لهم من الحظوة لدى الشعب، ويخرج إليهم للمرة الثالثة ويقول لهم: «لم أجد في هذا الإنسان علة مما تشتكون به عليه، ولا هيرودس أيضا، فأنا أؤدبه وأطلقه.»
وإن الأمر لكذلك؛ إذ يقبل جم غفير من المدينة ليتجمع في يوم عيد الفصح هذا تبعا لعادة قديمة؛ فمن عادة الرومان أن يعفوا في عيد الفصح من كل سنة عن محكوم عليه؛ وذلك ابتهاجا بالخروج من مصر، وتخفيفا لوطأة سلطانهم، وجعلها أقل إيلاما في نفوس المغلوبين، ويصل الجمع إلى باب القلعة، ويبدأ بالصراخ كالأولاد مطالبا باتباع العادة القديمة، وطامعا في إنقاذ حياة رجل، فيقول: «جاء الفصح، فأطلق سجينا!»
قال بيلاطس في نفسه: أليست هذه آية؟ وخاطب بيلاطس الجمع بقوله: «أتريدون أن أطلق لكم ملك اليهود؟»
ويخفى ما في قول بيلاطس هذا من التهكم الخفي على الجمهور وعلى الكهنة، الذين كان يدور في رءوسهم من القلق ما يشغلهم، والكهنة يعرفون تقلب الشعب؛ فيكفي تكرير كلمة أو هتاف لإطلاق ذلك النبي الخطر، الذي يلوح أن رومة تود حمايته، فهنالك يذكر أحدهم سجينا آخر من أبطال الحرية الذين يمقتهم الكهنة مع حب الشعب لهم، فهذا السجين الحمس هو الذي وصل مع عصابة من الجليليين إلى هنا في الخريف الماضي، فسب الحرس الروماني فوقف، هو من أتباع يهوذا، هو باراباس! «باراباس!» هذا ما صرخ به أعضاء المجمع الكبير عالمين ما فيه من معنى، «باراباس!» هذا الذي هتف باسمه في الصفوف الأمامية.
دوى المكان كله باسم باراباس، وقال الجميع، حتى الذين لا يعرفون باراباس، بصوت عال: «أطلق لنا باراباس!»
ويعمل بيلاطس مرة أخرى على إنقاذ يسوع المتهوس من الكهنة، ويعمل أيضا على إلقاء المسئولية عن عاتقه في حكم صعب كذلك، وأن يغسل يديه منه أمام الشعب، فيجد في بهجة العيد ما يجيز له أن يصدر عفوا آخر، فيجعل الكلمة الأخيرة للشعب فيسأله: «ماذا تريدون أن أفعل بالذي تدعونه ملك اليهود؟»
فيصرخ الشعب قائلا: «اصلبه!» هذا ما نعق به الكهنة بصوت واحد: «اصلبه!» هذا ما ردده المكان والطرق «اصلبه!» هذا نعيق ألوف الناس بما لا يعرفون، ومثل هذا نعيق الجمهور في كل زمن، وفي ألفي السنة القادمين!
ويجرب بيلاطس الجمهور للمرة الثالثة فيسأل: «وأي شر عمل؟»
فيجيبه أحد الأذكياء من الحضور بقوله: «إن أطلقت هذا فلست محبا لقيصر، كل من يجعل نفسه ملكا يقاوم قيصر.»
ويتبسم بيلاطس في باطنه، فيود أن يؤكد حب هذا الشعب العجيب لقيصر، فيبلغ خبره إلى رومة، فيسأل الجمهور: «أأصلب ملككم؟»
فيجيبه الجمهور بقوله: «ليس لنا ملك إلا قيصر.»
ويعدل بيلاطس عن الكفاح في سبيل متهوس لا يهمه أمره بالحقيقة، فيأمر بإخراجه فينقل.
وبيلاطس فيما هو يفاوض في الخارج كان الجنود يتلهون بالسجين في البرج، فهم بعد أن سمعوا قول قائدهم: إنه سيؤدب على كل حال نزعوا منه ثوب هيرودس اللامع وضربوه بالعصي، وهو لإصراره على التسربل عن لهم أن ينكروه ملكا؛ لما قيل عن تمثيله هذا الدور، ويخلع أحد الجنود على كتفيه دثارا حربيا مشدودا بشوكة، ويناوله جندي آخر قصبة كصولجان، ويقطع جندي ثالث شوكا من سياج الحديقة فيصنع منه تاجا ويضعه فوق شعره الطويل.
ويمر يسوع من الباب صامتا فيغرق الجمهور في الضحك، ويشعر رجل الدنيا بيلاطس باحترام رجل الروح يسوع للمرة الأخيرة، حينما يقع نظره عليه خارجا، فيدل عليه بإصبعه لضباطه المحيطين به، قائلا باللاتينية التي لا يفهمها غيرهم: «هو ذا الإنسان!» •••
يا لثقل هذا الصليب! يا لبعد الطريق! سيكون الموت سهلا، لن يكون موت، فسيمد أبوه ذراعيه له، وسيفتح له باب المجد والجلال!
الجو حار، وخشب السدر ثقيل، وفي وسط هذا الخشب فرضة عميقة لتندمج به إحدى القطعتين في الأخرى، وهو من القوة ما يكفي لحمل رجل.
الصليب غير ضروري لنقله إلى ملكوت السماوات من خلال السحاب، فيكفي لذلك عون أبيه، فمتى يأتي؟ أيغطي الغيم وجهه أم يبقى ظاهرا؟ أيلف الصليب بالضباب ويرفع يسوع حيا؟ ألا يرسل حمامته كما صنع عبر الأردن ما دام لا يبدو بذاته كما أخبر الأنبياء؟ ألا يدوي صوته كصاعقة؟ ومن الزعم أن يقال: إنه لم يسمع ذلك الصوت بعدئذ واضحا رخيما كما في الماضي! ومن الزعم أن يقال: إن كلمة «ابني الحبيب» لم تكرر له! لقد سمع بطرس ذلك فوق الجبل بالقرب من قيصرية فيلبس، واليوم سيسمع من جديد!
ولم يدفعه هؤلاء الجنود إلى الأمام بقسوة؟ أهؤلاء الجنود من الأشرار إذن؟ هم ينفذون ما أمروا به، وآمرهم قائد المائة لا يعمل بغير ما يريده الكهنة، وإذا كان الكهنة لا يعرفون الله؛ فما هو ذنبهم؟ هم يجهلون بالحقيقة من يقتلون، ويجهلون ماذا يصنعون، مع أن الله قد يكون قريبا منهم بأكثر مما يشعرون. أجل، تدل ملامحهم على ما فيهم من غلظة؛ ولكن الجمهور هو الذي يحثهم، وبيلاطس نفسه هو أيضا عبد الجمهور في نهاية الأمر. ألا إن «حديث ساعة مع الروماني تكفي لحمله على اتباعي، فإلى أين؟ لنرجع إلى شاطئ بحر الجليل، فالفاكهة لا تنضج هنا، وأورشليم ليست إلا محل حجارة.»
الصليب ثقيل عليه؛ فلم تجف عصارة خشبه، وذلك الذي يمشي من هنالك شاب قوي، فليحمله بدلا من المدين، فالمسافة التي بقيت قصيرة ... يدل وجهه على الخير، وهو يحمل صليب غيره، وينال البشارة من حيث لا يدري، وبه ينضم إلى يسوع تلميذ، فأين الآخرون إذن؟
ويتقدم الصليب الموكب على كتفي ذلك الفتى المفتول الساعدين مترجحا، ويمتقع يسوع ويبدو طاعنا في السن بغتة، ويدفعه الجنود بشدة.
ويسير قائد المائة راكبا حصانا صامتا عابسا على طرف الطريق، ويبدو هو وجنوده متأففين؛ فهؤلاء يرون أن القيام بأعمال الجلادين لا يلائم كرامة الجندي، وقد اضطروا في المرة الأخيرة إلى البقاء يومين تحت الصليب ريثما مات المصلوب.
وتسبق أولئك كتيبة أخرى إلى التل فتدق وتسمر، فهنالك يوجد أيضا يهوديان آخران من القتلة واللصوص يجب صلبهما، وبعض الجنود يوسعون الحفر في الأرض، وبعضهم يسمرون ذينك الرجلين على الصليبين الممدودين على الأرض، ويقاوم أحدهما فيزجر بأيد قوية، ويتجاهلون صراخه، وتسمر كل واحدة من يديه بمسمارين عظيمين، وتوضع إحدى رجليه فوق الأخرى، فتسمران بمسمار كبير واحد، ويكون التسمير متينا توفيرا للحبل، ويسند الجسم إلى مقعد مائل، وتسند الرجلان إلى لوح؛ لكيلا تزلقا فتجرا الجسم، ويجر الجنود ذينك الصليبين فيدنونهما من الحفرتين، فينادون رفقاءهم ليساعدوهم على نصبهما وتركيزهما، وإملاء تينك الحفرتين بسرعة، وينصب الصليبان مع الرجلين الصارخين ألما في جو حار خانق ...
ويرى يسوع ذلك كما لو كان في منام، فيجد أن ذينك الرجلين من القتلة واللصوص قد ضلا فحوكما، فنفذ حكم الإعدام فيهما، كما يدل على ذلك اللوحان الصغيران المسمران في أعلى الصليبين، والمكتوب عليهما في لغات ثلاث: الحكم ونوع الجرم، ولا بد من أن يوضع على صليبه مثل ذينك اللوحين، فينظر فيجد الجندي الغليظ الذي كان يرفسه منذ هنيهة يسمر في أعلى صليبه الخاص الممدود على الأرض لوحة مكتوبا عليها: «ملك اليهود»، فهل حدث أن انتحل هذا؟ أليس ما يقع هنا غير وهم، أو أثر جنون أناس أصابهم الله بالعمى؟ سيكشف الأب الغطاء عن الحق ويتجلى مجده حالا!
وإنه ليفكر ويأمل إذ يشعر بأيد هائلة ذات أظفار تمسك ذراعيه بغلظة، وتطرحه على الصليب، فيبدو له مسمار عظيم، فيستولي عليه ذعر، فيغمى عليه من شدة الألم.
ويصحو، ويشعر بالتهاب جروحه، ويعلم أين هو من الصليبين القائمين عن يمينه وعن شماله؛ فهو لم يصح في السماوات! ويرى في أسفله جنودا يقصفون
2
ويلعبون النرد، ويتبين رداءه على الأرض فيرى اللاعبين يقترعون عليه، ويألم ويتنهد. وينظر أحد أولئك إليه، ويشير رجل آخر فترفع إلى شفتيه إسفنجة مبللة كي يشرب منها؛ لما في هذا من تخفيف آلامه.
ويتم صحوه فيرفض ذلك بهز رأسه المحموم، فيهز رافع الإسفنجة إليه كتفيه مستردا لها، فيسوع راغب عن الغشيان، فهل يدع تلك الساعة التي انتظرها كثيرا تفوته مكتفيا بتسكين ألم يديه؟ ليت تلاميذه هنا فيروا تجلي نعمة الله عما قليل!
الدفن.
بيد أن التلاميذ بعيدون والنظار قليلون؛ لأن الناس يحتفلون بعيد الفصح في تلك المدينة القاسية الواقعة بين تلالها الصخرية، فيا أورشليم! وهنالك قباب لامعة تبدو من بعيد عن الشمال، فذلك هو الهيكل؛ حيث أراد النصر، فماذا صنع فيه؟ أفلم يصب الكهنوت بضربات قاتلة؟ لقد أحس الكهنة أنه يبشر بنظام جديد يقوض دعائم الهيكل القديم، فيا له من كفاح! فمتى ينتهي؟
ويمر من هنالك رجلان فينظران إليه من الطريق، فيسمع قول أحدهما مستخفا: «يا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام؛ خلص نفسك!» ويسمع قول الآخر: «لينزل الآن المسيح ملك إسرائيل عن الصليب لنرى ونؤمن.»
فيرتعش؛ أفليسا على حق؟ فمتى تقع المعجزة؟ ويقول له القاتل المصلوب عن يمينه متهكما مرددا لذلك: «إن كنت أنت المسيح فخلص نفسك وإيانا!»
فيجيبه اليائس المصلوب عن شماله : «أولا أنت تخاف الله؛ إذ أنت تحت هذا الحكم بعينه؟ أما نحن فبعدل؛ لأننا ننال استحقاق ما فعلنا، وأما هذا فلم يفعل شيئا ليس في محله. اذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك!»
يجد يسوع في هذه الكلمات إلهاما. أجل، يضحك الرومان الذين هم في أسفل الصلبان حين يسمعون محاورة اليهود الثلاثة المصلوبين، غير أن يسوع لا يسمع سوى صوت الإيمان؛ فهو يشعر بأن لصا قاتلا شعر بقدرة ابن الإنسان فيوقظ أمله، فيجد أن الله أجرى على لسان رجل من أحط إخوانه ما يحثه على الثبات على الإيمان، وتأتي كلمة الملكوت من فوق، من السماء، فتدوي في أذنيه، ولا يهم في ذلك أن تصدر عن رأس صليب! ويفتح شفتيه الداميتين المرتجفتين فيقول بما لا يكاد المصلوب الآخر يسمعه: «إنك اليوم تكون معي في الفردوس.»
هذا اليوم! إذن هو يرجو أن ينقذه أبوه من فوره! لا يمكن أن يكون أبوه قد أراد إصابة جسمه وأعضائه بهذه الآلام الشديدة! هو جاهد في سبيل الإيمان منذ أشارت عليه الحمامة، وأشار عليه صوت الرب بأن يهجر مهنته ليبشر بملكوت أبيه، فإذا كانت عقيدته غرورا، وإذا كانت رؤيته وهما، فلماذا يرهقه الناس ويسمرون يديه اللتين لم يرفعهما للطم إنسان أو صفعه؟ وإذا كانت هذه الآلام عرضا، فما هي علة تبريحها وامتدادها؟
وهكذا تتجاذبه الآلام والذكريات وتختلط فيه، فتربكه وتنيره في آن واحد، وتنقلب أفكاره إلى سهام جارحة، وشهب زافرة كالأشعة التي تلقيها شمس الظهيرة على أعضائه المنهوكة، وكالنبال الصارمة التي يرمي الفلك الظالم جبينه بها.
ويدير ناظريه بحثا عن تلاميذه وعن أصدقائه، فأين هم؟
لقد فروا!
لا أحد هنالك يلقي آخر سلوان في قلب المعلم، لا أحد هنالك يخفف ألم المعلم بمذهبه، لا أحد هنالك يدون أقوال المعلم الأخيرة فتحفظ للذراري.
اليوم هم نيام كما في الأمس، واليوم حميتهم راقدة أيضا على ما يظهر. قطع تأثير المعلم فيهم، وانهار إيمانهم، وضاعت الرسالة ضياع مياه الساقية في الرمال، ونضب معين الحب الأخوي، فكأن ما حدث عبث يتوارى خلفه بضع نسوة مبرقعات باكيات على ما روي، فهل يخفن أن يحيينه؟ تبعد عنه أمه وإخوته وأخواته! فاللائي ينتظرن هنالك ناحبات غريبات، وتلك التي تحترق ألما من أجله هي مذنبة، هي التي مسحت بشعرها رجل يسوع ذات يوم في مدينة صغيرة على شاطئ بحر الجليل، وآخر من ينظر ثلاث نساء صيادين عرفن رسالة المحبة التي بشر بها، فأين الألوف؟ أفيبقى أثر لما علمه في الصيف الأخير؟ وهل يدوم إنجيله إذا ما تفرق تلاميذه أيدي سبأ؟ وإذا ما ذرت الرياح رسالته فماذا يبقى منه؟ لا يعد إذ ذاك أسمى من إخوته الذين رأوه ممسوسا!
وتزيد آلام بدنه المنهوك بين دقيقة ودقيقة كما لو كانت نيران تشتعل فيه أو ضوار تمزقه.
وينقضي بضع ساعات فقط فيشعر بانكسار قلبه الرقيق فيه، ويغشى عقله وخياله غيوم، ويستغلق إيمانه وألمه، ويبدو نسيج آلام فيفتح شفتيه بعد طويل صمت، فزاد فيه ما ساوره من قنوط في بستان جثسيماني، وتتحول الرغبة في الفرار من التضحية إلى اتهام، وتذوي أحلام الحياة المثالية، ويتفرق جميع من شفاهم ومن علمهم كغبار في ريح، ويحول أبوه الذي فوض أمره إليه وجهه عن أحب أبنائه إليه، فلا يعطف عليه مبرحا به الألم، وتبدو روحه بعيدة من هنا، ويطوي كشحا عن الأرض، ويظل الابن وحيدا، ويعود الأب غير أب، ويسوع إذ يرى أنه هجر وترك وحده، ويرى ذبول جسمه وانكسار فؤاده يصرخ قائلا: «إلهي! إلهي! لماذا تركتني؟»
ويسمعه الجند فيكفون عن لعب النرد، ويرفع قائد المائة عينيه فيأمر أحدهم أن يصب على الإسفنجة قليلا من الخل الموضوع في إناء، فتقدم إلى فمه، فينظر إليها بعينيه المنطفئتين، فيرخي شفتيه فيرتشفها ما انقطع كل أمل فيه، ثم تعود آلام أعضائه إلى أشد مما كانت عليه؛ فيصرخ بصوت عظيم.
وتختم بهذا الصوت حياة ما فتئت تعبر عن نفسها في ثلاثين سنة بصوت المحبة العذب الذي يلقي السلوان إلى الآخرين، وبموسيقى القلب الصامتة. ••• «هل مات؟» هذا ما سأله بيلاطس عندما جاءه مشير من المجمع الكبير ليطلب تسليم الجثمان إليه ما أعلن إيمانه به. ومن عادات الرومان أن جثة الجاني الذي ينفذ فيه حكم الإعدام تسلم إلى أقربائه أو أصدقائه، وما كان هذا ليتم إلا بعد أن استدعى بيلاطس قائد المائة، فبين أن يسوع مات على الصليب بعد انقضاء بضع ساعات، فوافق الوالي بيلاطس على وضعه عن الصليب من غير أن تكسر ساقاه، كما كسرت سيقان المصلوبين الآخرين تعجيلا لهلاكهما، ما كان الغد يوم سبت، وما وجب تمام كل شيء قبل حلوله.
وينزل هذا الغريب والنسوة يسوع عن الصليب بسرعة؛ خوفا من تدخل أي رجل آخر، ويلف جثمانه بكفن أبيض، وينقل إلى قبر جديد نحت في صخر بستان يملكه المشير قريبا من أبواب المدينة ليوضع فيه مؤقتا؛ درءا لاحتمال تدخل الكهنة في الأمر، وذلك من غير أن يمسح بحنوط وأطياب، فإذا ما انقضى السبت دفنوه على حسب الطقوس، ويكتفى بدحرجة حجر كبير على باب القبر ما سطع نجم المساء ووجب إنجاز الأمر بعد السبت.
وتجيء النساء في مساء اليوم التالي حاملات حنوطا وأطيابا، وترغب مريم المجدلية في دهنه ميتا كما دهنته حيا، ومن يزحزح الحجر الكبير لهن؟ لسن قويات ولم ينظرن هنالك أحدا، ويصلن إلى حيث دفن بالأمس فيجدن الحجر في غير محله، والقبر خاليا من الجثمان!
تعلم أورشليم الخبر، وتذيع فيها مئات الشائعات المتناقضة، فقال بعض الناس: إن بيلاطس ندم على إذنه في صلب يسوع فأخرج الجثمان من هنالك ودفنه في مكان آخر، وقال بعض آخر: إن الكهنة سرقوا الجثة لكيلا يعبدها الجمهور، وقال آخرون: إن البستاني هو الذي صنع ذلك منعا لما ينجم عن زيادة الآتين والذاهبين من إتلاف بستانه، وقال أناس: إن ذلك من عمل أوغاد يعتدون على القبور في الغالب لانتهابها، وقال فريق خامس: إن إنسانا لا يموت على الصليب في ثلاث ساعات؛ فقد أخرجه تلاميذه من موته الظاهر وأخفوه في مكان أمين. ويذهب الكهنة إلى بيلاطس ويلومونه على تساهله، ويعربون له عن الارتباك الكبير الذي يسفر عن سماحه لتلاميذه بأن يختطفوا جثته ؛ لأنهم سيزعمون أنه بعث بعد موته.
غير أن النسوة المحبات له اعتقدن عن شدة وجد أنهن رأينه بأعينهن قد بعث حقا.
Unknown page