أولئك من المؤمنين وإن كانوا يأتون غير أمر لا تقول به الشريعة، فهم يقيمون، بعد أن يصبحوا، صلاة روحية مقدار ساعة، ثم يقدسون لمصدر النور الشمس عند طلوعها، وهم لا يذكرون منبع الحكمة الرب في الظلام ما تجلى في النهار، وهم يغتسلون وقت الظهر ويلبسون ثيابا بيضا، ثم يأكلون معا، فلا يؤذن لاثنين منهم في الكلام في وقت واحد، وهم لا يتناولون لحما ولا خمرا، مغتذين بالخبز والبقول واللبن والعسل والفواكه، وهم يبالون بالطهارة والوضوء أكثر من مبالاتهم بالمظاهر، وهم لا يقربون القرابين ولا يحلفون أيمانا، وهم يصومون كثيرا ويراعون يوم السبت فلا يمسون فيه آنية منزلية، ولا يسدون فيه خلة، وهم يدرسون أمور النبات والحجارة بحسب ما ورد في قديم النصوص، فيستعينون بها على السحر وقراءة العزائم، وتفسير الأحلام، وكشف المستقبل، ويتمتع أولئك بثقة الشعب، والشعب يستشيرهم في كثير من المسائل لتجنبهم جر المغانم، وتجردهم من المطامع.
وليس النكاح حراما عليهم، والكثيرون منهم عزب مع ذلك، فيقومون بتهذيب أبناء الآخرين، وتقسم زمرتهم إلى أربع طبقات، ولا يبوحون إلى إخوانهم وأخواتهم بأسرار الطريقة إلا بالتدريج، محلفين إياهم بيمينهم الوحيدة المباحة على كتم أسرار مذهبهم، وكتم أسماء إخوانهم، فمن يحنث منهم أو ينقض عهدا؛ يطرد من الزمرة ويشرد، فيهلك معذب الضمير، وهو لا يسمح له بالعودة إلى إخوانه إلا في آخر عمره رحمة به، ويسمو أتباع تلك الطريقة فوق المادة بابتعادهم عن الحرب والغضب والعنف والتملك، وتحليهم بحب أعدائهم، وبتواضعهم، ورأفتهم، وقلة طقوسهم، والروح عندهم لا تموت، والروح عندهم تحلق في النور بعد حياة مثالية، والروح عندهم تستقر تحت الأرض بعالم من العذاب والظلام بعد حياة شر وأذى.
ظهرت تلك الطريقة في شواطئ البحر الميت، وانتشرت في بلاد الجليل بهدوء ومن غير مبشرين، فاستوقف أمرها نظر يسوع لمشابهتها أفكاره في مجموعها. أجل، إن يسوع لم ينتسب إليها، ومن الجميل حقا أن يصلي أتباعها للشمس وإن خالفوا أحكام الشريعة، وكان عملهم ذلك من الشرك، ومن الجميل حقا أن زهدوا في المال والسلاح، ومن الجميل حقا أن قالوا بعدم تقديم القرابين، ولكن لماذا يصومون أكثر مما تأمر به الشريعة؟ ولماذا يمتنعون من تناول الخمر ويحرمون الولائم والغناء؟ ولماذا يعتزلون ويبتعدون أسرارا جديدة؟ ولماذا يجتنبون الناس إذا كانوا يحبونهم؟ من أجل ذلك لن يكون يسوع آزيا وإن كانت آراؤه الخاصة قريبة من آراء أولئك.
ولم يعتم الناس أن شاع بينهم خبر وجود رجل في جوار الصحراء وعلى ضفاف نهر الأردن يأمر بالتوبة، ويستبدل بالختان العماد بالماء تطهيرا للروح والبدن كما يصنع الآزيون، وذلك الرجل ذو شعر أشعث، ولحية طويلة، وثوب وبري، ونطاق جلدي، وقد نهكته الصلاة، وألهبه الإيمان، فينذر القوم بصوت مرهوب، وقد قيل: إنه إيليا الذي سكن كهفا في جبل الكرمل، فكان يخرج منه بين حين وحين لينصب ملوكا ويخلع آخرين، والذي لم يمت فلا بد من ظهوره ذات يوم لينقذ إسرائيل، كما أنبأ به الأنبياء، فكان هذا الذي هو آية الهول والانتقام.
اسم ذلك الرجل يوحنا، ويوحنا رباه أبواه تربية زهد ونسك منذ نعومة أظفاره إيفاء بنذر أوجباه على نفسيهما، ويوحنا تعود عيش البرية التي ولد في جوارها، وتبصر سلسلة الجبال الجرد في تلك البقعة متاخمة للأرياف المروية الخضر، وتبصر النهر في تلك البقعة قريبا من البرية ساعة واحدة في الغالب، وخطوة واحدة في بعض الأحيان، والبرية هنالك هي غرفة نائية من بيت كبير كما وصفها بعضهم. وفي أورشليم حمل يوحنا على تعلم الشريعة ليكون كاهنا كأبيه، ثم فر من المدرسة لما رآه من كثرة ما يجب عليه أن يتعلمه أو قلته، فهجر تلك المدينة وكهانها وسكانها عائذا بالبرية معتزلا فيها.
ومن المحتمل أن كان يوحنا ذا صلة بالآزيين، وإن لم ينتسب إلى طريقتهم؛ فقد قضى سنوات لا ريب في الصيام والفقر، ولكنه لم يشاطرهم عملا، ولم يتبع لهم نظاما، وقد انقضت سنوات قبل أن يعرف يوحنا نفسه ويعلم رسالته، وما في المسائل التي تساور يوحنا من عنف، أو ما فيه من شوق إلى الحياة الروحية كان يحفزه إلى الزهد، وما فيه من حرارة التوبة، وحب دعوة الناس والتأثير فيهم كان يدفعه إلى الخروج من العزلة. وهنالك؛ حيث خسف قسم من البرية في البحر الميت على حدود جزيرة العرب، وحيث تبحث الضواري عن الفرائس عبثا، وحيث اضطر الشجاع الثائر يوحنا إلى طلب الملجأ بين الصخور وفي المغاور، كان طعام يوحنا هذا من الجراد المحمس في النار على الطريقة الشرقية، ومن قليل عسل يجتنيه النحل البري من نادر الأزهار وآخرها، وهنالك عاش يوحنا عاطلا من سلاح الصيد، راغبا عن الصيد، مجردا من وسائل الدفاع، مفتقرا إلى الطعام، مفكرا في غضب الرب وعذابه، أفلم تزدهر سدوم في تلك البقعة فخربها الرب، فصرت لا ترى فيها غير قليل نبات؟ أفلا يصيب أريحا، البعيدة بضع ساعات من هنا، مثل ما أصاب سدوم؟
لقد برح الصوم والتقشف بيوحنا فدعا ربه أن ينير له السبيل الذي يسلكه، فلم يسمع نداء مثل نداء الرب: «قم أيها النبي ودع الشعب يرى وجهك!» ولكنه سمع صوتا في أعماق نفسه يدعوه إلى تبليغ الآخرين دنو أمر جلل، محذرا إياهم من الحياة الدنيا التي هي متاع الغرور، آلآخرون؟ ومن هم هؤلاء الآخرون؟ أجميع شعبه؟ ومن يعلم؟ ومن يدري أن إيليا قد بعث في شخصه؟ تقهقر يوحنا مذعورا مما استحوذ عليه، ثم تجلد حينما تذكر قول إشعياء: «صوت صارخ في البرية! أعدوا طريق الرب! قوموا في القفر سبيلا لإلهنا!»
قضى يوحنا زمنا مضطرب النفس مذبذبا بين الشك واليقين، وبرز معلنا سبب هجره لأورشليم واعتزاله الناس، وعاد إلى الأردن حيث تهيمن الجبال الجرد على البحر الميت، وحيث النهر المنهوك يجمع قواه الأخيرة، فيجيش ويدور ويتلوى، وحيث اختفى داود من شاول والتجأ الملك صدقيا فرارا من البابليين، وحيث السهول الرملية التي تنبت ما يقيت قليلا من القطاع، ويتوجه يوحنا إلى أول ما يصادفه في طريقه من البيوت، وهل يولي الرعاة فرارا من هذا المخلوق الوحشي أو يطرحونه ليقيدوه بالسلاسل؟ كلا، فأمور مثل هذه لا تقع في بلاد اليهودية التي يظهر فيها كل سنة قديسون غريبو الأطوار، والتي لم تفتأ ترى أناسا ينتحلون صفات الأنبياء بأزيائهم وأوضاعهم، والتي من طبيعتها التمرد على كل نظام وقيد، والتي يبدو كل عجيب أمرا محتملا فيها.
وبضعة رعاة هم أول من وجه يوحنا دعوته إليهم، ثم أخذوه إلى أقرب واحة لينظر إليه جميع من في القرية ويستمعوا له، ولسرعان ما التف حول هذا الغريب الشبه العاري أكثر من مائة رجل ليسمعوا قوله: «توبوا؛ لأنه قد اقترب ملكوت السماوات!» فيمتثلوا أمره فيتعمدوا بماء الأردن.
لا تبعد أورشليم من هنالك أكثر من عشرة أميال، وأورشليم يقظة ساخطة منتظرة حدوث أمر عظيم على الدوام، أفيكون ذلك الرجل الذي ذاع خبره فيها دجالا، وهنالك ما يحمل على الظن بأنه إيليا؟ يقال: إنه يشابه إيليا بقده المتوعد، وصوته المحرض، وبحفائه وثوبه المصنوع من وبر الجمل، وأخبر الكهنة والفريسيون منذ عدة سنوات بقرب الزمن الذي يظهر فيه المنقذ المنتظر، أفيكون ذلك الرجل ككل آزي يرى محو الذنوب بماء المعمودية والحالة ما ترى؟ ألا إن قلب أورشليم أخذ يخفق أملا عندما ذاع فيها نبأ وصول يوحنا إلى الأردن ...
Unknown page