84

Ibn Hanbal: His Life and Era – His Opinions and Jurisprudence

ابن حنبل حياته وعصره – آراؤه وفقهه

امتاز بذلك الفهم من بين محدثي عصره، فقد كانوا يكتفون بالرواية دون الفقه والدراية، وكأنهم تركوا الاستنباط للفقهاء الذين كانوا مختصين بصناعة الاستنباط، وانطبق عليهم تشبيه أبي حنيفة الذي شبه فيه المحدثين بالصيادلة، والفقهاء بالأطباء، أما أحمد فكان يعني بفهم فقه الآثار، كما كان الحافظ الراوي الذي بلغ الشأو البعيد في الرواية.

يقول في ذلك إسحاق بن راهويه: «كنت أجالس بالعراق أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وأصحابنا، فكنا نتذاكر الحديث من طريق، وطريقين، وثلاثة... فأقول ما مراده؟ ما تفسيره؟ ما فقهه؟ فيقفون كلهم إلا أحمد بن حنبل، وقد كان علمه بالحديث والسنة، وفتاوى التابعين، واستنباطه الأحكام منها سببًا في أن كان إمامًا في الحديث وإمامًا في الفقه، حتى لقد قال في ذلك تلميذه إبراهيم الحربي .

((أدركت ثلاثة لم ير مثلهم، ويعجز النساء أن يلدن مثلهم: رأيت أبا عبيد القاسم بن سلام، ما أمثله إلا بجبل نفخ فيه روح، ورأيت بشر بن الحارث فما شبهته إلا برجل عجن من قرنه إلى قدمه عقلًا، ورأيت أحمد بن حنبل فرأيت كأن الله جمع له علم الأولين والآخرين من كل صنف، يقول ما شاء، ويمسك ما شاء))(١).

وجمعه لعلم الأولين والآخرين هو بحفظه للأحاديث، وآثار السلف، وفهم فقهها.

٨٣ - والصفة الثانية، وهي أبرز صفات أحمد، وهي التي أذاعت ذكره، ونشرت خبره، وهي صفة الصبر، والجلد، وقوة الاحتمال، وهي مجموعة من السجايا الكريمة، أساسها قوة الإرادة، وصدق العزيمة، وبعد الهمة، مهما يتعب الجسم في سبيل ذلك، ولقد كانت هذه الصفة المزاج الذي اختص به أحمد، جمع بها بين الفقر والجود والعفة وعزة النفس، والإباء وبين العفو، واحتمال الأذى، وهي التي جعلته يحتمل ما يحتمل في طلب العلم، غير وان ولا راض بالقليل منه، يجوب الأقطار، ويقطع الفيافي والقفار، راكبًا إن أسعفته الحال، وماشيًا إن ضاقت النفقة، فهو يرحل إلى البصرة والكوفة، وإلى اليمن، والحجاز، ويكرر رحلاته طلبًا للحديث، وليتلقى من رجاله، ويؤجر نفسه لحمل الأمتعة لينال ما يسد به رمقه في الطريق، كما يكتب بأجرة وينسخ عند ما يحط الرحال وتضيق به الحال، بل يصنع بعض ما يعرف من الصناعات، ليأكل من عمل

(١) هذا النقل وباقيه من المناقب لابن الجوزي وحلية الأولياء، والحافظ الذهبي، وطبقات ابن السبكي

83