وننتقل من دنيا العلوم إلى عالم الفنون والآداب، فترانا كذلك بغير صيغة موحدة من حيث قبول الفن الغربي أو رفضه، ومع ذلك فاختلافنا في هذا المجال تتفاوت درجاته في الفروع المختلفة؛ فالرفض هو الراجح بالنسبة إلى الموسيقى، وقليلون جدا هم الذين يناصرون الأخذ عن الموسيقى الغربية، ومع ذلك فالتيار جارف بسرعة متزايدة نحو تطعيم الموسيقى العربية بعناصر من الموسيقى الغربية، وأما في الفنون التشكيلية، التصوير والنحت، فالأمر على عكس ذلك تماما؛ لأن الأصل هنا هو مسايرة المدارس الفنية التي تنشأ في الغرب، فإذا سمعنا صيحة احتجاج من هنا أو من هناك، تطالب بأن نرتد إلى أصولنا الفنية، كان رجع الصدى عند رجال الفن هو أن يقحموا على أعمالهم بعض العناصر المحلية، ليضفوا على تلك الأعمال طابعا يحمل خصوصية الإقليم، والذي يبرر لرجال الفن أن يركنوا إلى مسايرة الغرب، هو أن تراثنا في الفن التشكيلي يرتد إلى الماضي السحيق - كالفن الفرعوني بالنسبة للفنان المصري - فلا يكون ملزما لبعد المسافة التاريخية، ومع ذلك فلا يخلو الأمر من مثل هذا الارتداد الذي يستلهم الفنان فيه ذلك الفن القديم، كما نرى - مثلا - في نابغة النحت المصري الحديث محمود مختار.
وفي ميدان الأدب مفارقة تستوقف النظر، وهي أنه على الرغم من أن موروثنا في الأدب أغزر من موروثنا في أي ميدان آخر، فذخيرتنا في الشعر بصفة خاصة، وفي الفن الأدبي بصفة عامة، تعد ركيزة أساسية في بنية الثقافة العربية، وموضع اعتزاز عند المثقف العربي، حتى لقد رفض القائمون على حركة الترجمة التي نشطت في القرن التاسع الميلادي في نقل الثقافة اليونانية القديمة، أن ينقلوا شيئا من أدب اليونان، واكتفوا بنقل الفلسفة والعلم، وكان السبب في موقفهم ذاك - ربما ضمن أسباب أخرى - أنهم لم يشعروا أمام إنتاجهم الأدبي الخاص، بحاجة تدعوهم إلى اللجوء إلى أدب الآخرين، أقول إنها مفارقة في موقفنا الآن من أدب الغرب، إنه برغم غزارة تراثنا الأدبي وارتفاع مستواه، كان تأثرنا بأدب الغرب أقوى ما يمكن أن يكون التأثر، حتى لقد تحول مركز الاهتمام من الشعر (والشعر هو من أبرز ملامحنا التقليدية) إلى القصة والمسرحية، وهما صورتان من الأدب منقولتان عن الغرب؛ إذ لم يكن للأدب العربي قبل ذلك عهد بأي منهما، فلا القصة بمعناها في الغرب الحديث، ولا المسرحية، كان لها وجود عندنا، وحتى الشعر، الذي قال عنه الجاحظ قديما إنه أميز ما يميز العبقرية العربية، قد تأثر في عصرنا هذا بالاتجاهات الجديدة في شعر الغرب، إلى الحد الذي تنكر فيه كثير من شعرائنا المحدثين لتراثنا الشعري في كثرته الغالبة.
وتبقى كلمة نقولها في مجال الفكر الفلسفي عندنا اليوم؛ فها هنا لا يصعب على الرائي أن يلحظ تيارين يسيران جنبا إلى جنب، لا يكاد الواحد منهما أن يؤثر أو أن يتأثر بالآخر، أحدهما يعيد إلى الضوء أعمال الفلاسفة المسلمين الأقدمين، إما عن طريق إعادة نشر تلك الأعمال نشرا علميا محققا، وإما عن طريق التأليف الجديد الذي يعرض ما تضمنته تلك الأعمال، وفي كلتا الحالتين يندر جدا أن يجيء العرض الجديد على صورة نقدية؛ إذ الأغلب أن تحاط المادة المعروضة بهالة من التمجيد، وأما التيار الآخر فهو أصداء للمدارس الفلسفية في أوروبا وأمريكا، وكان من حسن الحظ أن وجدت كل مدرسة من تلك المدارس أنصارا بيننا، لا يكتفون بمجرد النقل، بل هم يطبعون ما ينقلونه بلمسات من ذواتهم، توشك معها المادة المنقولة أن تصبح وكأنها إنتاج عربي معاصر.
ولا بد لنا في سياق هذا الحديث عن الفكر الفلسفي أن نذكر حركة قوية لها مغزاها، وأعني بها تلك الجهود التي تبذل من بعض المختصين في سبيل إقامة الأدلة على أن الفلسفة الإسلامية كما ورثناها عن أسلافنا، ليست مجرد انعكاس لفلسفة اليونان الأقدمين كما هو الظن عند كثير من مؤرخي الفلسفة الغربيين، بل إن فيها من الأصالة ما يجعل لها كيانا مستقلا قائما بذاته، وكان مصطفى عبد الرازق في أربعينيات هذا القرن هو الرائد في هذا الاتجاه، ثم تبعه آخرون من الباحثين القادرين.
خلاصة القول هي أننا في التقائنا بثقافة الغرب في عصرنا، لم نكن على موقف واحد في شتى مجالات الفكر والفن والأدب، بل تنوعت ردود الفعل بتنوع الميادين، وتفاوتت شدة وضعفا؛ فقد ننقل نقلا كاملا في مجال كمجال العلوم، وقد نتحفظ في النقل كثيرا أو قليلا في مجالات أخرى؛ فلم تكن حالنا في هذا العصر شبيهة كل الشبه من حيث درجة التعقيد والتركيب بحالة أسلافنا في القرن التاسع عشر عندما وقفوا من أوروبا وغيرها، مثل وقفتنا اليوم، وربما عزونا ذلك - من بعض الوجوه - إلى فارق هام بيننا وبينهم؛ فبينما هم كانوا ينقلون عن سواهم حين كانوا هم في موضع القوة والريادة، ترانا اليوم حين ننقل عن الغرب، فإنما نفعل ذلك في وقت يمسك الغرب خلاله بزمام القيادة والريادة.
3
على أنه إذا كانت ردود فعلنا على ثقافة الغرب الحديث قد تفاوتت فيما بينها، قبولا ورفضا وشدة وضعفا في المجالات المختلفة، فلا يصعب علينا برغم هذا التفاوت أن نرى وراء هذا التنوع شيئا من التجانس في الخطوط الرئيسية، هو الذي يحدد ملامح الفكر العربي الحديث، ويمكن النظر إلى هذا التجانس على درجتين:
الأولى:
هي أن ننظر إلى الفكر العربي المعاصر إبان سنوات القرن العشرين على مرحلتين، ولنأخذ عشرينيات القرن نموذجا للمرحلة الأولى، والسبعينيات نموذجا للمرحلة الثانية، فعندئذ تسهل علينا رؤية الوجوه المتجانسة في كل مرحلة على حدة (وسنرى بعد قليل أن كلتا المرحلتين تعودان فتلتقيان في أسس واحدة).
أما في العشرينيات، التي كانت قد بدأت بثورة سياسية تطالب بالحرية السياسية من المستعمر الأوروبي، فقد تفجرت عدة ثورات فرعية تلتمس الحرية في كل ميدان من ميادين الحياة الثقافية: الموسيقى، والشعر، والنقد الأدبي، والفنون التشكيلية، والدراسات الأكاديمية، ولم تقم تلك الثورات الفرعية على نزوات سرعان ما تختفي، بل قامت على نهج مستقيم ثابت، كان قوامه ذا شطرين: إحياء التراث بالطرق العلمية، وعرض الفكر الأوروبي عرضا محايدا، وكان الأمل أن يلتقي ذاك الشطران فيتولد عنهما وليد جديد يكون هو الفكر العربي المعاصر، المطبوع بطابع العربية من جهة وبطابع العصر من جهة أخرى، وكان الأغلب أن تجتمع تلك الأضلع الثلاثة في الرجل الواحد من الأعلام الرائدين؛ فطه حسين - مثلا - أحيا التراث وعرض ثقافة أوروبا وأنتج الفكر الأصيل المبتكر المستند إلى ذينك المصدرين، في وقت واحد، وكذلك فعل العقاد، وفعل توفيق الحكيم، وفعل الدكتور هيكل، وغيرهم من رجال العشرينيات.
Unknown page