مقدمة‏

أزمة المثقف العربي‏

من معالم الفكر الحديث‏

عصرنا من فلسفته‏

ترجمة الماضي إلى حاضر‏

حاضر الثقافة العربية‏

طريق العقل في التراث الإسلامي‏

ماضينا وحاضرهم‏

نحو شخصية عربية جديدة‏

العروبة ثقافة لا سياسة‏

لكل ثقافة وعاؤها‏

قواقع من ثمود‏

توبة الهارب‏

ألف ليلة وليلتان‏

الرأي وصاحبه‏

تعدد المبادئ في البناء الواحد‏

الفلسفة خارج الأسوار‏

من المشكلات إلى حلولها‏

كاهنة دلفي‏

في حياتنا العقلية‏

اللاعقل في حياتنا‏

ثقافة الغد‏

رؤية يغشاها الضباب‏

الولاء الأبكم‏

الفكرة الواحدة‏

موقف المتفرج‏

حقيقة الجمال ما هي؟‏

الصراع المشروع‏

المصري الجديد القديم‏

اللغة الواحدة‏

خطاب إلى ولدي‏

مقدمة‏

أزمة المثقف العربي‏

من معالم الفكر الحديث‏

عصرنا من فلسفته‏

ترجمة الماضي إلى حاضر‏

حاضر الثقافة العربية‏

طريق العقل في التراث الإسلامي‏

ماضينا وحاضرهم‏

نحو شخصية عربية جديدة‏

العروبة ثقافة لا سياسة‏

لكل ثقافة وعاؤها‏

قواقع من ثمود‏

توبة الهارب‏

ألف ليلة وليلتان‏

الرأي وصاحبه‏

تعدد المبادئ في البناء الواحد‏

الفلسفة خارج الأسوار‏

من المشكلات إلى حلولها‏

كاهنة دلفي‏

في حياتنا العقلية‏

اللاعقل في حياتنا‏

ثقافة الغد‏

رؤية يغشاها الضباب‏

الولاء الأبكم‏

الفكرة الواحدة‏

موقف المتفرج‏

حقيقة الجمال ما هي؟‏

الصراع المشروع‏

المصري الجديد القديم‏

اللغة الواحدة‏

خطاب إلى ولدي‏

هموم المثقفين

هموم المثقفين

تأليف

زكي نجيب محمود

مقدمة

هموم المثقفين

كلما رأيت القادة في ميدان الحياة الثقافية عندنا، يتجادلون حول قضية سياسية صرف، وكذلك كلما لمست في كتابتهم الرغبة في تسلية القارئ بحيث لا يبقى له شيء بعد الفراغ مما يقرأ، أحسست بإحدى حالتين؛ فإما أن تأخذني الريبة في قيمة ما أكتبه؛ لأنني لم أقصد مرة واحدة إلى شراء القارئ بالتسرية عن نفسه من عناء العمل، ولا حدث لي مرة واحدة أن طمعت في الكتابة السياسية، حتى ليتعذر علي في كثير من الأحيان أن أحدد لنفسي هذه «السياسة» ما هي؟ أهي طعام يؤكل أم شراب يشرب؟ ويكفيني أن أراها تقبل الفكرة ونقيضها في آن واحد، دون أن يكون في مادتها معيار يبين الخط الفاصل بين الخطأ والصواب ، وإما أن يأخذني التعجب من هؤلاء القادة.

لو كانت هموم المثقفين أقل من أن تملأ حياتهم كلها لو أرادوا، لالتمسنا لهم الأعذار في ملء الفراغ بالمشاركة في الكتابة السياسية، برغم علمنا بأنهم في هذه الكتابة السياسية لا يفضلون غيرهم ممن يتخذون منها حرفة؛ أي إنهم بالكتابة السياسية يتركون ما يحسنون إلى ما ليس يحسنون، وإلا فلماذا لا نذكر طه حسين والعقاد والمازني والدكتور هيكل بالمقالات السياسية التي كتبوها؟ إننا إذ نذكر أحدا من هؤلاء، فإنما نذكره بما امتاز به بحكم موهبته، وأعني ما تركه لنا في مجال الأدب والفكر والنقد الأدبي والفني، أو قل إننا نذكره بما تركه لنا في «نقد الحياة» نقدا أراد به أن يبدل لنا قيما بقيم ونظرة حضارية بنظرة أخرى، وحين نقول بحق إن أديبنا العظيم توفيق الحكيم جدير بجائزة نوبل، فإنما نقول ذلك وفي أذهاننا أعمال راسخة وخالدة، كأهل الكهف والملك أوديب والسلطان الحائر، وغيرها مما أبدعه وما نعتز به.

إنه لا رجاء لنا في إعادة تشكيل الحياة من جذورها وفي صميمها، إلا أن يكون ذلك على أيدي المثقفين، الذين لا يعنون بالأمور السابحة على الأسطح عنايتهم بالمحركات الكامنة في دخائل النفوس، وتعال معي ننظر إلى جماعات المثقفين في مختلف الثقافات وعلى تعاقب العصور، لنرى أكانت الشئون السياسية مشغلتهم، أم كانت لهم هموم أخرى غير السياسة وأبعد منها مدى وأعمق منها جذورا وأدوم منها بقاء لدوام التغير الذي قد يتغير به وجه الحياة على أيديهم.

كان الجاحظ - وهو في رأيي أعظم المثقفين العرب على إطلاق - كان نقطة تحول في وجهة النظر العربية كلها؛ إذ نقلها من وجدان الشاعر إلى علمية الناثر؛ فبعد أن كانت الثقافة كلها (تقريبا) ترتكز على قصيدة الشعر، باتت ترتكز على فكرة النثر؛ ومن ثم استطاع التراث العربي أن يشتمل على ما اشتمل عليه من كنوز الفقه وعلوم اللغة والفلسفة وغير ذلك، كان الجاحظ - كما أسلفت - نقطة التحول في وجهة النظر، فاستحق بذلك أن يوصف بما نصفه به، ولو شغل نفسه بأمور السياسة لما ترك لنا إلا أقوالا كنا لنقرأها اليوم بجزء يسير من اهتمامنا؛ لأن أمور السياسة تذهب بانقضاء أوانها.

وذهب القرن التاسع بجاحظه العظيم، وجاء القرن العاشر بجاحظ آخر في دنيا الثقافة العربية، وهو أبو حيان التوحيدي، كما جاء القرن العاشر كذلك بجماعة إخوان الصفا، فماذا صنع هؤلاء جميعا سوى أن حاولوا تشكيلا جديدا لوجهة النظر العربية، ليجعلوها أقرب إلى النظرة العلمية العقلية الموسوعية، التي يخرج منها القارئ وقد استوعب عصره بكل ما كانت الحضارة الإنسانية قد حققته.

ولا نذكر إخوان الصفا ودورهم الثقافي في الحياة العربية، إلا ويقفز إلى أذهاننا جماعة «الفلاسفة» في عصر التنوير في فرنسا إبان القرن الثامن عشر؛ فالدور الذي اضطلعوا به هو هو نفسه الدور الذي اضطلع به إخوان الصفا؛ وأعني أنهم حاولوا تغيير الاتجاه من رومانسية العاطفة إلى علمية العقل وواقعيته، ولست أريد بهذا أن أقول إن ذلك هو التحول الوحيد الذي ينبغي لجماعة المثقفين أن يحدثوه؛ لأنه لو كان العقل قد طغى، فربما كانت مهمة الثقافة عندئذ أن تحد من طغيانه بالدعوة إلى شيء من حياة الوجدان، كما فعل روسو.

وانظر إلى «الجمعية الفابية» في إنجلترا في مطلع هذا القرن أو قبل ذلك بقليل؛ فهي الأخرى نموذج لما يضطلع به المثقفون، ولقد اتخذوا لأنفسهم صفة «الفابية» من اسم «فابيوس» القائد الروماني الذي هزم هانيبال، لا بمواجهته، بل بتدويخه؛ وذلك أن أخذ فابيوس يتقهقر على خطة يرسمها، بحيث ينهك هانيبال في تعقبه حتى الهزيمة؛ أي هزيمة لهانيبال، وعلى هذا الغرار نفسه أخذت الجمعية الفابية تخطط لتغيير المجتمع تغييرا يحوله إلى النظرة الاشتراكية، لا بالعنف والصراع، بل بإرهاق من بأيديهم زمام التحول.

وماذا صنع محمد عبده ولطفي السيد ومن تبعهما من أئمة الثقافة في حياتنا إلا شيئا كهذا؟ نعم قد كانت لهم مواقفهم السياسية من حيث هم مواطنون، لكن تلك المواقف لم تكن هي التي خلدتهم، بل ولا كانوا فيها أفضل وأقدر من سواهم، وإذا اختلف بعضهم مع بعض فيما يختص بالحياة الثقافية، جاء اختلافهم حول نقاط رئيسية في طريق التحول؛ أنرتد في استلهام الماضي إلى الحضارة الفرعونية، أم نكتفي بالوقوف عند الحضارة العربية؟ أنجعل محور الارتكاز في نقلنا عن أوروبا ثقافة اللاتين (فرنسا) أم ثقافة السكسون (إنجلترا)؟ أنكتب بأحرف عربية أم نستبدل بها حروفا لاتينية؟ أيكون للتراث قداسة تصدنا عن نقده، أم نتناوله تناول الأحرار بالنقد المنزه عن الهوى؟ وهكذا وهكذا.

تلك هي أمثلة من هموم المثقفين، وهي كفيلة بأثقالها الجسام أن تلهيهم عن كل ما عداها، ثم هي - فوق ذلك - ما يدوم لهم، وما يستطيعون بمواهبهم الفطرية أن يمتازوا فيه، فما الذي يغريهم اليوم بتركها ليخوضوا مع غيرهم في بحر السياسة؟ ألأن السياسة والاشتغال بها أسرع إلى الشهرة، أم لأن هموم الثقافة قد انزاحت عن صدورهم؟

كان العرب الأقدمون قد وقفوا من الثقافة الأوروبية وقفة شديدة الشبه بما نقفه اليوم، فكانت أوروبا بالنسبة إليهم يومئذ هي اليونان وثقافتهم، فكان أهم ما اهتموا له هو أن يلتمسوا لأنفسهم طريقا «يوفق» بين مضمون الثقافة اليونانية وأحكام الشريعة الإسلامية، ولو صنعنا نحن اليوم مثل صنيعهم لكان على رأس همومنا عملية «التوفيق» مرة أخرى، لكنها هذه المرة تلتمس الطريق بين «علم» أوروبا الحديثة من جهة، وما يقضي به موروثنا من أحكام أساسية هامة، من جهة أخرى، ولست أريد أن أترك فكرة «التوفيق» تمر دون أن أقول إن التوفيق بين مصدرين لا يعني قط أن نحذف أحدهما ونبقي الآخر، وإنما يعني أن نجد الطريق الثالث الذي يهضم الفكرتين معا وفي آن واحد.

هذا مثل جيد للمسائل التي هي من أهم هموم المثقفين اليوم، وهل هناك أمامهم ما هو أهم من رسم الطريق الحضاري الذي نسير عليه في مرحلتنا الراهنة؟ فنحن في ذلك؛ أولا نقتفي أثر الآباء، وثانيا نعالج حالة الضياع التي نعانيها، وإذا شئت فانظر إلى شبابنا في حيرته، لا يدري أيتعصب إلى حد التزمت لما يقال له إنه طبيعة الإسلام، أم يتمرد ليحيا كما يقال له إن الشباب في الغرب يحيون؟ هؤلاء وأولئك بيننا قائمون، أحوج ما يحتاجون إليه هو تحليلات من المثقفين تهديهم إلى طريق يجمع الطرفين، لكن المثقفين عن ذلك في صمم، جريا وراء مجادلات سياسية يرون فيها طريقا أسهل إلى شغل الناس.

لقد شرفتني وزارة الإعلام والثقافة بدولة الإمارات العربية المتحدة (أبو ظبي) وكذلك شرفتني الجامعة هناك، بدعوة تتم فيها لقاءات فكرية، فكانت فرصة أوضحت لي أمرين؛ أولهما أن تدبير أمثال هذه اللقاءات الثقافية الجادة هو من أوجب الواجبات بالنسبة لوزارات الثقافة في أجزاء الوطن العربي كله؛ لأنها من أفعل الوسائل نحو إيجاد ما نصبو إليه من «ثقافة عربية» معاصرة، والأمر الثاني هو أن معظم الأسئلة التي تتحرك بها أذهان المثقفين، يدور حول ما ينبغي فعله إزاء الحضارة العصرية، مع المحافظة كل المحافظة على هويتنا القومية بمعالمها الرئيسية، ولعلي لم أصادف في حياتي لقاء فكريا فيه النشاط وفيه الصدق وفيه العمق، ما يعدل لقائي مع أساتذة الجامعة هناك، ولقائي مع طائفة من المثقفين.

ألا إن للمثقفين همومهم، أفيتركونها ليعالجوا مسائل في ميدان السياسة، فيهدرون فطرتهم الموهوبة في غير ما أراد لها واهبها أن تنمو وتثمر؟

زكي نجيب محمود

أزمة المثقف العربي

1

إنني إذ أصدر حديثي عن المثقف العربي المعاصر، والأزمة التي يجتازها، بتعريف يبين لنا من هو هذا المثقف المقصود، كما يبين الأزمة المشار إليها، متى تكون وكيف، أوثر أن أختار من التعريفات الكثيرة لهاتين اللفظتين، ما هو أنفع لحديثنا هذا، وما هو في الوقت نفسه أيسر قبولا.

فالمثقف الذي أردته، إنما هو إنسان بضاعته أفكار، سواء أكانت تلك الأفكار من إبداعه هو، أم كانت منقولة عن سواه، ولكنه آمن بها إيمانا أقنعه بأن يحياها، ثم لا يقتصر على أن يحياها هو بشخصه، بل يريد أن يقنع بها الآخرين ليحيوها معه، والأرجح أن تكون هذه الأفكار من الصنف الذي يغير الناس نحو ما يظن أنه الأفضل، على تفاوت في ذلك بين فكرة وفكرة؛ إذ إنه من الأفكار ما من شأنه أن يغير وجه الحياة على نطاق واسع، ومنها ما ينحصر في جانب ضيق من جوانب تلك الحياة.

المثقف الذي أريده بهذا الحديث، هو من طراز ديمقريطس الذي قال إنه يفضل لنفسه أن يظفر بفكرة تتقدم بها الحياة، على أن يظفر بملك فارس؛ المثقف الذي أريده هنا هو من طراز الجاحظ الذي كان بطريقة تفكيره وتعبيره، نقطة تحول للثقافة العربية كلها من وجدان الشاعر إلى عقل الناثر؛ المثقف الذي أريده هنا هو الذي تمثل في عصر التنوير في فرنسا إبان القرن الثامن عشر، كما تمثل في جماعة إخوان الصفا عندنا إبان القرن العاشر؛ وهو الذي تمثل في الجمعية الفابية التي عملت بفكرها في الحياة الإنجليزية منذ أوائل هذا القرن حتى غيرت مجرى تلك الحياة تغييرا عميق الأثر، أو هو الذي تمثل في الحركة الفكرية العارمة التي أشعلت جذوة النهضة عندنا خلال العشرينيات من هذا القرن، والتي ما نزال نعيش اليوم على ضيائها.

كل هؤلاء قد تجسد فيهم المعنى الذي أشرت إليه في تعريف المثقف، وهو أن يكون رجلا بضاعته أفكار يريد بها أن يغير وجه الحياة إلى ما هو أفضل.

وأما الأزمة التي نزعم بهذا الحديث أن المثقف العربي يعانيها، فهي - ككل أزمة في أي مجال آخر - أن يكون الهدف محددا واضحا، لكن الطريق إليه مسدود؛ وبذلك لا تختلف أزمة المثقف في صورتها عن أزمة المحب، الذي يعرف ما يريده، لكن وسائل الوصول إلى ما يريده ممتنعة عليه؛ فكذلك المثقف المأزوم: هو إنسان حمل في رأسه أفكارا، واعتقد بأنها أفكار لا بد من بثها لتطوير الحياة وأشكالها، لكنه حين هم بنشرها، صدمته العوائق التي تحول دون ذلك النشر؛ وقد تكون تلك العوائق من صنع الآخرين آنا، ولكنها كذلك قد تكون - آنا آخر - حيرة في نفسه هو، وذلك إذا ما تعددت أمامه سبل الوصول، فلا يدري ماذا يختار منها وماذا يدع.

وعلى ضوء ما قلناه، يصبح موضوعنا هو محاولة الإجابة عن سؤالين هما؛ أولا: ما هي الأفكار التي يريد المثقف العربي أن ينشرها في الناس لو أتيحت له السبل؟ وثانيا: ما هي المعوقات التي قد تحول دون ذلك النشر فتحدث عنده الأزمة؟

2

إنني لا أرى - بين المعضلات التي تتحدى المثقف العربي في زماننا - ما هو أشد تعقيدا وأعسر حلا، من محاولته أن يجمع طرفين، يكادان يكونان متضادين، في صيغة حياتية واحدة، ألا وهما المحافظة على هويته التاريخية من جهة، والحرص - في الوقت نفسه - على أن يعاصر دنياه التي تعج من حوله بمخابير المعامل وعجلات المصانع؛ إن المثقف العربي على وعي كامل بما يريده في هذا المجال، وهو الجمع بين هذين الطرفين جمعا لا يداخله القلق، لكنه حتى هذه الساعة لا يدري كيف؟ ونظرة عجلى إلى جماعة المتعلمين في الوطن العربي، كافية لبيان مدى اختلافنا البعيد في تصور الحياة التي نريد أن نحياها؛ فهؤلاء المتعلمون يقعون في مجموعات ثلاث: إحداها تريد تحقيق الهدف بأن تجعل ثقافتنا الموروثة هي معيار الصواب والخطأ، فما اتفق معها قبلناه، وما تعارض معها رفضناه؛ والثانية تريد تحقيق الهدف ذاته بأن تجعل الثقافة الغربية العصرية هي معيار الصواب والخطأ، فما اتفق معها من تراثنا أبقيناه، وما خالفها من ذلك التراث أهملناه، وأما المجموعة الثالثة فهي وحدها التي تتصدى بحق للمشكلة التي تتحدانا؛ لأنها أرادت أن تحقق الهدف نفسه، ولكن بالبحث عن صيغة جديدة تضم الطرفين معا.

إن المجموعتين الأوليين قد استسهلتا الصعب ففاتهم لب المشكلة؛ لأن المجموعة الأولى إذ تنادي بأن يكون التراث وحده هو المعيار لما نقبله وما نرفضه، لم تفعل في الحقيقة سوى أن غضت النظر عن عصرنا وحضارته، فعادت القهقرى على خط الزمن لتعيش في الماضي؛ وذلك أمر سهل التحقيق، بل ربما حقق لصاحبه السعادة وراحة البال، فماذا يكون أيسر وأبعث على السعادة والسكينة من أن توصد بابك دون الصعاب فلا تأبه لها ولا تحاول حلها؟ واختصارا فإن أفراد المجموعة الأولى إنما يزيدون بعددهم عدد الأسلاف، ولا يضيفون إلى المعاصرين نفسا واحدة.

وأما المجموعة الثانية التي تريد عبور المكان لتصبح محسوبة على الغرب، فهي إنما تحاول الخروج من جلودها إذا كان ذلك ممكن الحدوث، إنهم - بكلمة واحدة - يريدون أن ينقصوا من تعداد الأمة العربية بضعة ملايين، ليضيفوها إلى تعداد أوروبا وأمريكا، وكفى الله المؤمنين شر القتال.

لا، ليس ثمة من صعوبة في تحقيق ما تريده لنا هاتان المجموعتان لأنهما معا إنما تريدان أن تقطعا العقدة بحد السيف، بدل أن يحلوها؛ فالمجموعة الأولى تلوذ من حاضر الدنيا بركن من أركان التاريخ الذي انقضت عهوده، والمجموعة الثانية تفر من الحاضر العربي إلى جبل من جبال أوروبا أو أمريكا لتعتصم به.

وأما الصعوبة الحقيقية فهي ما تحاوله المجموعة الثالثة التي تحرص على عروبتها حرصها على عصرها؛ فلئن كانت المجموعة الأولى تجعل من نفسها عربا لا يعيشون في عصرهم، وكانت المجموعة الثانية تجعل من نفسها معاصرة غير عربية، فإن المجموعة الثالثة تبتغي العروبة والمعاصرة معا، ثم تسأل كيف السبيل إلى هذا الهدف.

إن هذه المشكلة الحضارية هي كبرى المشكلات التي تتحدى المثقف العربي؛ بل إنها لا تقتصر على المثقف العربي وحده، وإنما تجاوزه لتجمع معه جماعة المثقفين في سائر البلاد ذوات الحضارات القديمة كالهند وباكستان والصين وغيرها؛ إنها ليست مشكلة بالنسبة للأقطار التي لم تكن لها حضارة عريقة فيما مضى، وكذلك ليست هي بالمشكلة بالنسبة إلى أوروبا وأمريكا؛ فالبلاد غير ذوات الحضارة العريقة لا تجد نفسها أمام طرفين لتحاول التوفيق بينهما، وكذلك بلاد الغرب تجد نفسها أمام حضارة واحدة هي حضارتها العصرية هذه؛ وأما نحن وأمثالنا فلنا تاريخ حضاري طويل عريض غزير، فيه اللغة وفيه التشريع وفيه الأدب وفيه الفن وفيه علوم وفيه مواقف وبطولات؛ ومن هذه الحصيلة الغنية ما يتسق مع حضارة عصرنا، ومنها ما لا يتسق، فينشأ لدينا السؤال: ماذا نحن صانعون لدمج الرافدين في تيار حيوي واحد؟

ليست مهمتي هنا والآن أن أجيب عن هذا السؤال؛ فكل ما يعنيني هو أن أصور أزمة يكابدها اليوم المثقف العربي.

3

ومن هذه الأزمة الكبرى، تفرعت أزمات تدور حول محور الصدام بين قديم استقرت ركائزه، وجديد يوحي به العصر وظروفه؛ ومن أهم الأزمات التي تعترضنا في هذا السبيل، أزمة تجتاح جانب الأخلاق؛ على أني أستخدم كلمة «الأخلاق» هنا بمعناها الواسع، الذي يشير إلى طرائق السلوك في ميادين التعامل البشري بصفة عامة، كما يشير إلى طرائق العيش كما يريدها الناس، والسؤال العريض الذي يطرح نفسه علينا في هذه الميادين السلوكية والحياتية، هو هذا: ماذا يكون الأساس العميق الذي نقيم عليه الأخلاق بمعناها الواسع الذي ذكرناه؟

فلقد كانت الفكرة المستقرة في هذا الصدد، أن المبادئ التي ينبغي أن تقام عليها طرائق الحياة وأساليب التعامل، ثابتة ثبات الحقائق العلمية الموضوعية، فلا سبيل إلى تبديلها أو تحويرها؛ مهما تعاقبت العصور وتغيرت ظروف العيش؛ فما هو صواب يظل صوابا إلى الأبد، وما هو خطأ يظل خطأ إلى الأبد كذلك، وكان لتلك المبادئ الثابتة، بعد روحي، يقضي بأن يعلو الإنسان بنفسه عن شهوات جسده، فلا يلقي بزمامه إلى غرائزه، بل عليه إلجامها، ليحيا حياة العفة والتضحية والطهر والنقاء.

ثم جاء عصرنا ومعه متغيرات جديدة، أحدثت عند الناس ما أحدثته من حيرة وتردد؛ ومن تلك المتغيرات ما أجراه علماء الأنثروبولوجيا - أعني دراسة أنماط الحياة عند المجموعات البشرية المختلفة - ما أجراه هؤلاء العلماء من بحوث، كشفت عن التنوع الواضح فيما يأخذ به الناس هنا وهناك من مبادئ يسلكون على أساسها؛ فما هو واجب الأداء عند أولئك، محرم عند هؤلاء؛ ومعنى ذلك أن مبادئ السلوك ليست أمورا مطلقة محتومة، بل هي أحكام نسبية تمليها الظروف؛ ولو كانت مبادئ السلوك ثابتة يحتمها منطق العقل في كل مكان وزمان، لاتفقت عليها شعوب الأرض جميعا، لكن تلك الشعوب تتفرق في ذلك تفرقها في الأهداف والمنافع.

لقد انتقل محور السلوك في عصرنا من العقل إلى اللاعقل؛ أعني أنه انتقل من سلطان المنطق الصارم إلى ليونة المشاعر وروغانها، وحتى حين يخفي الإنسان عن نفسه حقيقة نفسه بطلاء ظاهري من وقار العقلانية الخلقية التي كانت، ترى التحليلات العلمية تلاحقه بإزاحة القناع الزائف عن سحنته لينكشف الخبئ؛ فأكثر القديسين ورعا وتقوى - كما يقول نيتشه - يخفي وراء زهده حافزا للسيطرة، وأرفع آيات الفن والأدب - كما يقول فرويد - يكمن الجنس خلف أستارها، وأعلى القيم الإنسانية - كما يقول ماركس - تخبئ في طيها مصالح أرباب المنافع.

هذا هو العصر وما قد بات يضطرب بين جنباته من أفكار تزعزع ما كنا قبلناه قبولنا للمسلمات الثابتة؛ فماذا يصنع المثقف العربي إزاء هاتين النظرتين؟ كيف يوفق بينهما ليستحدث الصيغة التي يريدها، والتي تجمع بين موروثنا ونتاج العصر الحاضر؟ أنقول له: تنكر للجديد لأنه ليس منا، وتشبث بالقديم الثابت لأنه تراثنا؟ إنه لو فعل ذلك بمثل هذه البساطة، لأغمض عينيه عن جموع شبابنا التي لم تنتظر ما يقرره لها المترددون، بل أخذت تتخبط بين مبادئ تلقن لهم تلقينا فيحفظون لفظها عن ظهر قلب، وسلوك فعلي يسلكه الشباب في حياته كما يحياها على نقيض تلك المبادئ؛ وهكذا وقع في ازدواجية مخيفة وضعته بين المطرقة وسندانها؛ ومن هنا كان جانب كبير من فساد النفاق القبيح الذي يملأ حياتنا بظواهر الخوف والجبن؛ فاللسان في حياتنا يحكي شيئا، والأبدان تسلك شيئا آخر.

فهل يغمض المثقف المسئول عينيه عن ذلك كله، مكتفيا بوعظ يلقيه فيجنبه الأذى؟ لا، ليست المسألة بهذا اليسر كله؛ فالسؤال العميق الذي تنطوي عليه النقلة التي قفز بها عصرنا في مجال السلوك من فلك إلى فلك، هو هذا: عن أي طريق تحقق الشخصية الإنسانية ذاتها في ظروف عصرنا؟ أتحققها عن طريق الزهد أم تحققها عن طريق المتعة؟ أتكون أخلاقية التحريم أجدى عليه، أم أخلاقية الإباحة؟

وعلى المثقف العربي أن يجيب بما يقنع الشباب العصري، لكنه لا يعرف كيف يجيب وهو مطمئن إلى الصواب؛ ومن ثم كان جانب من جوانب أزمته.

4

وننتقل من مجال السلوك ومبادئه، إلى مجال العلوم ومنهاجها؛ فالنظرة العلمية هي بلا جدال أبرز طابع يميز هذا العصر الذي يقلنا على أرضه ويظلنا بسمائه، ومكمن الأزمة التي تكتنف المثقف العربي في صدد العلم، هو أن العلم الطبيعي قوامه واقع مادي من جهة، وإدراك له بالحواس من جهة أخرى؛ فليس من العلم ما لا يرتد آخر الأمر إلى عالم التجربة عند التطبيق؛ ولما كانت جذورنا الثقافية العميقة نابتة من وراء الواقع المادي، والإدراك عندها لا يكون بالحواس وإنما يكون بالإلهام؛ فلقد نشأت في نفوسنا كراهية لما هو مادي يندرج في نطاق الحواس؛ وكان حتما علينا أن يجيء إيماننا بالعلم الطبيعي - الذي هو أبرز سمات العصر - إيمانا تساوره شكوك.

على أن هذا الإيمان المنقوص بالعلم الطبيعي، لم يمنعنا من العيش في نعيم نتائجه، فننعم في حياتنا اليومية بالطيارة والسيارة والثلاجة ومكيف الهواء، كما ننعم بكشوفه الجبارة في ميادين الطب واستنبات القفر واستخراج ما في باطن الأرض من كنوز.

ومن هنا انشطرت حياتنا بازدواجية أخرى؛ فمن الوجهة النظرية نتشكك في العلوم وقدراتها، ومن الوجهة العملية نقبل بكل نفس راضية، على ما تنتجه تلك العلوم من ثمرات، وبين الوجهة النظرية والوجهة العملية يقع المثقف العربي في أزمته، إنه إذا جعل الأولوية الأولى لأحكام العلم أغضب الجمهور، لكنه كذلك إذا ساير الجمهور في مشاعره، تنكر للعصر في أبرز سماته.

وربما أثار هذا الذي أقوله شيئا من العجب والتساؤل: كيف تقول إننا نتنكر للعلم الطبيعي بحكم ثقافتنا الضاربة بجذورها في أعماقنا، وأمامك عشرات من الجامعات العربية وما تحتوي عليه من كليات للعلوم؟ وما على المتعجب المتسائل إلا أن يتعقب دارسي العلوم هؤلاء في حياتهم الخاصة، إذن لأذهلته الازدواجية الرهيبة التي أشرت إليها منذ حين؛ فدارس العلوم في جامعاتنا قد يبلغ أقصى المدى في علميته وهو في المعمل، حتى إذا ما عاد إلى داره، وسامر خلانه في ساعات الفراغ، خرج المخبوء من بين جوانحه، وأخذ يتحدث أحاديث الخرافة كما يتحدثها سائر الناس.

ليست المسألة هنا مسألة طائفة من القوانين العلمية يحفظها طلاب العلوم، بل هي قبل ذلك وبعد ذلك منهاج للنظر، إذا ما اصطنعناه بحق، ألفيناه يجاوز حدود الكتب والمخابير، ليصبح طريقة للنظر في شئون الحياة العملية كلها، من سياسة إلى اقتصاد إلى عمران والتزام بقواعد الصحة وغيرها من جوانب العيش؛ فإلى أي حد نقيم هذه الأشياء كلها على نهج علمي قويم؟ يقيني أننا في هذا الطريق ما نزال نحبو خطواته الأولى؛ والمثقف العربي إزاء هذا كله ، متأزم لا يدري أيساير الموجة العامة في لا علميتها ليقال عنه إنه لم يغترب عن ثقافة أمته، أم يصد الموجة ليدخل شيئا من علمية النظر في رءوس الناس لترضى عنه روح عصره؟

ولهذه الازدواجية في حياتنا الثقافية بين العلم واللاعلم، نتيجة تثير الغيظ عند المثقف الذي يحس خطورة رسالته؛ وهي أن كثيرين من رجال الثقافة منا، يستخدمون للأفكار طريقة بروقرسطيس في الأسطورة اليونانية القديمة، التي يقال فيها إن بروقرسطيس قد أقام على طريق المسافرين نزلا يستريحون فيه، لكنه جعل الأسرة كلها ذات طول معين، فإذا كان النازل عنده أقصر من السرير وضعه في آلة أعدها لتمط الجسد حتى يطابق طول السرير؛ وإذا كان النازل عنده أطول من السرير، جذ ساقيه ليقصر إلى الحد المطلوب، فلا ينجو من شره إلا مسافر شاءت له المصادفة المواتية أن يكون في طوله مطابقا للطول المطلوب.

وهكذا يفعل مثقفونا حين ينقلون لنا أفكارا من ثقافة العصر؛ فهذه الأفكار وهي على حقيقتها عند أصحابها، قد تكون في أعين جمهورنا أقصر مما ينبغي لها أو أطول، فعندئذ ترى المثقفين منا - إخلاصا منهم لأهواء الجمهور - يمطون تلك الأفكار أو يجذونها، حتى تطابق الصورة المقبولة، حدث هذا في مجال الفكر الفلسفي وفي مجال الفكر السياسي على حد سواء؛ وليس هذا التشويه الفكري الذي نقترفه، هو من قبيل التوفيق الذي عرف به أسلافنا الأمجاد، حين نقلت إليهم فلسفة اليونان وعلومهم، وأخذوا يلتمسون نقاط التلاقي بين الثقافة الوافدة وبين تعاليم الإسلام؛ فعملية التوفيق بين الطرفين عند أسلافنا تطلبت منهم جهدا فكريا مخلصا دام لنا مع الزمن، أما التشويه الذي نصيب به ثقافة عصرنا عند نقلها، فبهلوانية يأباها الضمير وترفضها معايير الفكر الناضج السليم.

ومن أنواع التشويه، بل من أشدها شيوعا بيننا، أن يتصدى رجال الثقافة منا، لما يزعمون أنه رد على ثقافة الغرب، دون أن يكونوا قد ألموا إلماما صحيحا بما يردون عليه، فسرعان ما تنتشر بيننا أفكار مبتسرة، لا هي غربية ولا هي شرقية.

5

فإذا خلا موقف المثقف من أمثال هذه العيوب، التي هي عيوب خلقية في المقام الأول، كانت هنالك أفكار كثيرة من ثمار العصر، يتمنى المثقف لو أذاعها في الناس، لكنه يصطدم بعوامل تسد عليه الطريق؛ فالفكر عندنا تابع للسياسة، وكان العكس هو الأجدر، وقد يكون لنا عذرنا في هذا الترتيب، لكوننا نجتاز مرحلة انتقال تتطلب شيئا كثيرا من الحكمة العملية ووحدة النظر، لكن ذلك لا ينفي أن يثقل العبء على ضمير المثقف، الذي يضع سلامة الفكرة قبل نوازع السياسة.

وكان من نتائج ذلك، أن ترك صفوة المثقفين مشكلات الحياة الحقيقية التي كانت بحاجة إلى جهودهم، وانصرفوا إلى أشياء لا يتقدم بها المجتمع ولا يتأخر، ولك أن تقارن هذا الموقف الذي ينسلخ فيه المثقفون عن تيار الحياة الواقعة، لا أقول أن تقارنه بالصلة الوثيقة بين الفكر والحياة الفعلية في بلاد غير بلادنا، بل أن تقارنه بما كان يحدث عند أسلافنا العرب وهم في عز مجدهم، لترى كيف كان الفكر وجها آخر لتيار الحوادث، حتى لتستطيع أن تستدل تاريخهم من أفكارهم، وأن تستدل أفكارهم من تاريخهم؛ لأن الفكر وتيار الحياة عندهم كانا وجهين لشيء واحد؛ فحتى علماء اللغة وهم يبحثون في اللغة أصولا وفروعا، ونقاد الشعر وهم يجمعون الشواهد، أقول حتى هؤلاء لم يكونوا يفعلون ما يفعلونه وهم معلقون في الهواء، بل كانوا يفعلونه لصلة وثيقة بينه وبين ما اعترضهم من مشكلات توجب فهم القرآن على وجهه الصحيح، أو توجب المفاضلة الأدبية بين جماعة وجماعة؛ إنه لما اختلفت مدرسة البصرة مع مدرسة الكوفة في نحو اللغة، الأولى تريد أن تقعد القواعد العقلية، والثانية تريد الاحتكام إلى السوابق لا إلى قوانين العقل في التفرقة بين الصواب والخطأ، كان هذا الاختلاف بينهما انعكاسا لموقف في الحياة العقلية نفسها، ولم يكن اختلافا منبت الروابط بأرض الواقع.

فأين حياتنا نحن الفكرية التي اغتربت عن واقعنا في حالات كثيرة وخطيرة، أقول أين هذه الحياة المغتربة من حياة الذين صحت منهم العزائم، ووضحت الأهداف، وإزاء هذا كله يتأزم ضمير المثقف بمعناه الصحيح.

اغتربت صفوة المثقفين عن مشكلات حياتنا، فلم تجد الغوغائية ما يردها ويلجمها؛ وذلك أنه من أميز ما يميز المثقف الأصيل رغبته في تحليل الفوارق بين المعاني التي قد تتقارب إلى حد التشابه الشديد؛ على حين أن الفكر الغوغائي أميل إلى دمج المعاني المختلفة كلها في لفظة واحدة، يظنها واضحة وهي من الغموض في ظلام أسود من حندس الليل؛ إذا قال المثقف معاني من أمثال: حرية، ديمقراطية، عدالة، مساواة، إلى آخر هذه الأسرة الكبيرة من المعاني الشائعة في عصرنا، لم يفته الاختلافات الكثيرة التي قد تقع في استعمال الناس لهذه الألفاظ، ثم يعمد إلى تحديد ما يريده من كل لفظة منها إذا استعملها، لكن تحليلاته وتحديداته غالبا ما تقع عند الجمهور على آذان صماء.

ومثل هذا التحليل الضروري للفكر الصحيح، يتطلب حدا أدنى من علمية النظر، وهو ما لا يتوافر عادة لعامة الناس؛ بل إنك لو أردت لفت أنظار عامة الناس إلى ما تنطوي عليه تلك المعاني من تركيب شديد التعقيد، ومن أبعاد قد لا يعلم مداها إلا المتخصصون، حسبوك من رواسب بيزنطة القديمة، تعيش في تصورات شكلية، مقطوعة الصلة بمجرى الأحداث.

وتجيء وسائل الإعلام، فيرى المسئولون عنها، أنهم مضطرون إلى مخاطبة الجمهور على قدر طاقته، فتلجأ تلك الوسائل إلى التبسيط الذي يطمس الفوارق بين المختلفات، فلا يلبث المثقف إزاء هذا كله أن يجد نفسه في عزلة وحده، يتحدث بما لا يفهم إلا للقلة التي تتابع تحليلاته في دقتها، فهل من عجب أن تضيق نفس المثقف بمقدار ما تنسد أمامه الطريق إلى قلوب الناس وعقولهم؟

6

ولست أريد أن ألقي كل أسباب الأزمة الثقافية عندنا على عامة الجمهور وحدها؛ بل إن بعض هذه الأسباب موصول بالمثقفين أنفسهم؛ فقد يحدث ألا تسعفهم ظروف العيش في متابعة الفكر الجديد، الذي ما ينفك متفجرا في أرجاء العالم المتقدم؛ ففي كل يوم قضية تطرح، وفي كل يوم محاولات تبذل، حتى ليوشك فكر العام الماضي أن ينسخه فكر هذا العام لسرعة الجريان.

إنه ليذهلك أن تعلم كم تغيرت الأسس التي تقام عليها العلوم المختلفة، من منطق ورياضة، إلى فيزياء وبيولوجيا ونفس واجتماع واقتصاد، مما يحتم تغييرا عميقا في وجهات النظر، فهل تغيرنا نحن في وجهات أنظارنا بما يتناسب مع ذلك التغير العميق؟

لقد تحولت المادة في الفيزياء الجديدة إلى طاقة؛ فلم يعد للمادة معناها القديم، حتى لقد أوشكت على الزوال تلك الفواصل التي كانت تفصل ما بين المادة واللامادة في الكائنات، لكننا ما نزال على وقفتنا القديمة في التفرقة بين الصنوين؛ وتغيرت أسس الرياضة، بحيث أصبح في حكم المستطاع أن تقام عدة بناءات رياضية، دون أن ينقض أحدها صدق الآخر، فلم تعد هندسة إقليدس وحدها - مثلا - هي الهندسة التي تقرر رياضيات المكان، بل إننا كلما غيرنا من الفروض الأولى تغيرت النظريات تبعا لذلك، فنشأت بين أيدينا هندسات لا إقليدية كل منها صواب من الوجهة الرياضية البحت، وكان لهذا الانقلاب في مجال الرياضة أثر بعيد المدى في منهج التفكير؛ إذ اتسعت أمام العقل البشري فرص التصورات الجديدة، وإقامة المنظومات الفكرية العديدة، بعد أن كان حبيس نظام واحد، فهل أصابنا شيء من ذلك الأثر في اتساع مجالنا الفكري؟ بل تغير المنطق نفسه؛ فبعد أن جرى المفكرون، خلال القرون الطويلة، على منطق يعالج معاني كيفية مبهمة المعالم والحدود، أصبح المنطق اليوم رياضيا يفتت الفكرة الواحدة تفتيتا لا يدع لها مجالا للخلط والغموض، علوم كلها تغيرت من الأساس، فتغيرت بالتالي طريقة التفكير، تغيرا لم تصب منه إلا أقل من القليل؛ ويقف المثقف منا أمام هذه الحركة البطيئة، عاجزا أو كالعاجز.

فالأمية ما تزال ثابتة الجذور في أرضنا، تقف حائلا دون سرعة التطور مع تطور العالم السريع، وهي عندنا على درجات، بادئة من أمية القراءة والكتابة على مستوى الألف باء وصاعدة إلى أمية بين المتعلمين لا تتيح لهم أن يتابعوا الفكر الجديد، فماذا في وسع المثقف الجاد أن يصنع؟ هل يكتب لغير قارئ؟

وكأن عقبة الأمية هذه لم تكفنا، فأضفنا إليها ما يزيدها عسرا، بأن أقمنا في عملية النشر ما يعوقها، حتى ليتعذر أحيانا على الكتاب أو المجلة أو الصحيفة أن تنتقل بين أجزاء الوطن العربي انتقالا ميسرا؛ فبعد أن كانت الصلة بين رجال الفكر من أسلافنا - برغم صعوبة المواصلات - تجعل أحدهم إذا ما أذاع فكرة في موطنه، لا يلبث أن يسمع أصداءها عائدة إليه من سائر أقطار الأمة العربية، في مشرقها وفي مغربها، وبغير هذا التبادل الفكري، بالرد والنقد والتعليق، كيف يمكن أن تجتمع الروافد المتفرقة في تيار واحد؟ أقول إنه بعد أن كانت الصلة بين رجال الفكر قائمة وقوية، أصبحنا نحن اليوم - في عصر الصواريخ والأقمار الصناعية - على صورة من التفكك والتباعد بحيث يوشك أحدنا ألا يسمع شيئا عن أخيه في قطر عربي آخر.

لقد زارني في القاهرة طالب عربي يعد نفسه للدراسة العليا، زارني لعله واجد عندي ما يعينه على حسن اختيار الموضوع الذي يدير عليه البحث لنيل إجازة الماجستير، فقلت له في معرض الحديث: إن فلانا في بلدكم قد قام بجهود فكرية جبارة، كان من حسن حظي أن ألممت ببعضها، وتمنيت لها أن تجد الباحث الناقد المدقق، الذي يعرضها عرضا نزيها يقومها بالقسطاس العلمي المستقيم، فلماذا لا تجعل نتاج هذا الرجل موضوع بحثك، فتخدم الفكر العربي؛ لأن الرجل يكاد يكون مجهولا لنا برغم غزارة الفكر الذي قدمه؛ فما كان أشد ذهولي حين أجابني الطالب بقوله إنه لا يستطيع ذلك، وإلا عرض نفسه للأذى في وطنه إذا عاد! وليس من شأني الآن أن أسأل لماذا؟ ولا أن أتعرض لاحتمال ألا يكون الطالب قد صدق القول فيما قال، لا، ليس هذا من شأني؛ لأنه يكفي أن يكون المناخ الفكري الذي نعيش في أجوائه هو مما يتيح للقائل أن يقول كلاما كهذا. إن هذا الموقف الواحد مشحون بالدلالات على أن المثقف الأصيل في بلادنا محبط إلى الدرجة التي يمكن أن تقوض لنا كل أمل في النجاة.

فحتى لو قام بيننا المثقف الذي يؤمن بفكره إلى الحد الذي يحطم به عوائق النشر، ليخرج كتابه في الأسواق التي يعد زبائنها بالمئات لا بالألوف فضلا عن الملايين ، وجدنا ضروبا أخرى من المخاوف تعكر جو السماء بغمامها. فيختفي شعاع الضوء الذي رجونا له الظهور؛ وسرعان بعدئذ ما يعلم رأس الذئب الذي أطاح به الليث لما اجترأ الذئب على عرينه، أقول إن ذلك سرعان ما يعلم ثعالب كثيرة ألا تفقد صوابها فتدنو بجرأتها نحو دنيا الكتابة والكتب.

لقد كنا نقول إنه مما يثبط همة المثقفين في بلادنا، أن نتاجهم الجيد أحيانا، لا يجد سبيله إلى ترجمة تنقله إلى اللغات الأخرى، مما يترك هؤلاء المثقفين في عزلة يحدث بعضهم بعضا، وسائر العالم لا يسمع من حديثهم حرفا؛ كنا نقول ذلك، وكان الأوجب علينا أن نطمئن أولا إلى أن المؤلف العربي مقروء في موطنه، ودع عنك أن يكون مقروءا في بقية أجزاء الوطن العربي، حتى إذا ما تحقق له ذلك، فربما سهلت أمامه الطريق إلى دنيا اللغات الأخرى.

7

فهل نعلق الأمل في جامعاتنا لتخرج لنا شبابا مؤمنا بالثقافة الرفيعة، وله العزيمة الماضية أن يغير ما هو قائم؟ كان هذا الأمل ليكون أقرب إلى التحقيق لولا أن المرحلة التي تجتازها الأمة العربية، قد بلغ فيها الظمأ إلى المعرفة حدا جعل شبابنا يقصد إلى الجامعات بعشرات الألوف، ولم نكن قد أعددنا أنفسنا بالعدد الكافي من الأساتذة، ولا بالمكتبات والمعامل التي تسد الحاجة أمام هذه الحشود الضخمة من طلاب العلم؛ فكانت النتيجة أن أفلت من طلابنا سر التعليم الجامعي وصميمه، وما سره وصميمه إلا أن يختلف عن مراحل التعليم السابقة عليه، في الفاعلية المبدعة الخلاقة، التي تمهد الطريق أمام الدارس نحو أن يضيف إلى العلم علما جديدا؛ أما إذا تحولت الجامعات على أيدينا فأصبحت مدارس للحفظ، فمصيرنا هو المصير نفسه؛ أعني أن نخرج شبابا منحصرا في محيط ما قد حفظ، ثم لا جديد، ونظل قعودا فاغري الأفواه ننتظر الصدقة الفكرية من سوانا، وكأننا لسنا جزءا من العالم الذي نعيش فيه.

إنه طالما بقيت لنا البنية الفكرية التي ألفناها حتى عميت أبصارنا عن مواضع النقص فيها؛ فلا رجاء في تغير فعال؛ فهي بنية فكرية قوامها أصول محفوظة، بحيث لا يجوز لرجل الفكر أن يجاوزها مطلا برأسه إلى ما فوقها، بل ينبغي له أن يبقى تحت سقفها، وله بعد ذلك أن يتحرك في ظلها كيف شاء.

وهكذا كانت بنية الفكر في أوروبا قبل نهضتها، ولم تكن كلمة السر في النهضة الأوروبية سوى أن تنقلب تلك البنية رأسا على عقب، بمعنى أن تكون الحقائق المسلم بها هي آخر المطاف لا أوله، وأما أول المطاف فسماء مفتوحة نصعد فيها برءوسنا ما أسعفتنا قوانا، نجمع المشاهدات ونقيم عليها التجارب ثم نستخرج المعرفة الصحيحة آخر الأمر، فإذا جاءنا بعد ذلك من يطلعنا على حقائق جديدة، لم نغلق دونه آذاننا، بل - على العكس من ذلك - نراجع ما قد عرفناه لنصححه على ضوء الجديد المستحدث، كلمة السر في التغير العميق - إذا أردناه - هي أن نعكس الصيغة؛ فبعد أن كانت «إني أومن أولا ثم أفهم» تصبح «إني أفهم أولا ثم أومن.»

ولو اعتدل لنا الأمر على هذا النحو المستقيم، لزالت عن المثقف العربي أزمته - لأنه كلما أراد أن يفهم الناس فكرا جديدا، تقبله الناس بالآذان المصغية والعقول الواعية، والقلوب التي تؤمن بعد ذلك بما تؤمن به عن فهم صحيح.

من معالم الفكر الحديث

1

إنه على الرغم من اختلاف الفكر في تياراته وظواهره خلال العصر الواحد، إلا أن تلك التيارات وهذه الظواهر لا بد لها - بداهة - أن تكون مترابطة على نحو ما، وإلا بطل أن يكون العصر واحدا؛ فذلك شأنه شأن الكائن من الكائنات - أيا ما كان نوعه: بحرا، أو جبلا، أو كائنا حيا - فإنه برغم تعدد أجزائه وعناصره، لا بد أن يكون فيه من الرباط ما يبرر لنا أن نضم تلك الأجزاء والعناصر تحت اسم واحد نطلقه على الكائن الواحد. «والفكر الحديث» الذي نريد أن نتعقب معالمه الرئيسية، لا يشذ عن هذه القاعدة؛ فما دمنا قد افترضنا مسبقا أنه موحد وذو معالم تميزه من الفكر في عصور أخرى سلفت، فلا بد أن يكون كامنا في أذهاننا نوع من الرباط الذي يجمع أشتاته؛ فهو - بالضرورة - أشتات تدور حول عدة محاور، والأمر بعد ذلك متوقف - إذا ما أردنا الحديث عنه - على الزاوية التي ننظر منها؛ فقد ننظر إلى جانب الفكر العلمي من هذا العصر، وقد ننظر إلى جانب الفكر الفلسفي منه، أو إلى جانب الفكر السياسي، أو إلى جوانب الفن والأدب، وإني لأوثر في هذه الكلمة ألا أقتصر على جانب من الفكر في عصرنا دون جانب، بل أن أحاول تقديم صورة مركزة شاملة، تضم الجوانب الرئيسية المختلفة، مع بيان الرباط النظري الذي يربطها معا فيوحدها تحت اسم واحد، هو «الفكر الحديث».

2

ونظرة إلى هذا الفكر الحديث من جانبه العلمي، تدلنا للوهلة الأولى على أننا إنما نعيش في عصر تغير فيه المنهج العلمي ذاته من الأساس؛ فالمنهج الذي استخدمته العلوم، لم يكن خلال العصور الطويلة على صورة واحدة، بل كانت له صورة القياس الأرسطي - وأعني الصورة التي يبدأ فيها الباحث من مقدمات مفروض فيها الصدق، ثم يستولد نتائجه من تلك المقدمات - أقول كانت للمنهج العلمي هذه الصورة القياسية في المرحلتين القديمة والوسيطة من مراحل التاريخ، ولنتذكر هنا بأن المرحلة الوسيطة التي امتدت من القرن الخامس الميلادي إلى القرن الخامس عشر، كانت هي المرحلة التي شهدت أهم فترة من تاريخ الحضارة الإسلامية.

فلما انتقلت أوروبا من عصورها الوسطى إلى عصورها الحديثة في القرن السادس عشر، كان محور انتقالها ذلك هو أن بدلت منهجا علميا بمنهج؛ فأصبحت العلوم الطبيعية تبنى أساسا - لا على مقدمات مفروض فيها الصدق - بل على مقدمات يقينية الصدق، قوامها معطيات الحس المباشر، عن طريق المشاهدات المحققة والتجارب التي تقام عليها، على أنه ندر عندئذ أن يستخدم الباحث العلمي من أجهزة البحث إلا صورا ساذجة نستطيع أن نغض النظر عن ذكرها.

ولبث المنهج العلمي على هذه الصورة خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر وجزء من التاسع عشر؛ حتى إذا ما انتصف هذا القرن - أي التاسع عشر - حدثت ثورة جذرية في طريقة البحث العلمي؛ إذ أصبحت الأجهزة هي الأساس المعول عليه، ثم أخذت هذه الأجهزة تزداد في الدقة وفي التنوع ازديادا سريعا، إلى أن باتت هي السمة البارزة في العصر كله إلى يومنا هذا، وهو ما نطلق عليه اسم «التكنولوجيا»، ولنلحظ جيدا ما طرأ على هذه الكلمة من خلط في الاستعمال؛ فبينما هي تعني «طريقة» البحث العلمي بوساطة الأجهزة، رأيناها وقد تحولت ليستخدمها الناس اسما على ما تنتجه البحوث العلمية من آلات.

والانتقال في منهج العلوم من مشاهدات العين العارية إلى الأجهزة، قد أحدث في محيط العلم وفي دنيا الحياة العملية آثارا بعيدة الآماد إلى حد يكاد يسبق خيال الإنسان، ويكفي هنا أن نذكر نقطة واحدة، وهي أن عصرنا بأجهزته العلمية هذه، قد استطاع أن يلم بالكون من طرفيه: طرفه البالغ في الصغر (وأعني الذرة والخلية) وطرفه البالغ في الكبر (وأعني أفلاك السماء)؛ وأما قبل عصرنا فلا الذرة والخلية عرفتا بمثل ما نعرفه اليوم عنهما، ولا جرؤ خيال الإنسان أن يطمع في الوصول إلى القمر وغير القمر من كواكب المجموعة الشمسية.

3

وإذا تركنا المنهج لننظر في علوم العصر من حيث مضمونها، مكتفين في ذلك بالرءوس الكبرى، أمكن القول بصفة تقريبية عامة إن تلك الرءوس أربعة، هي: دارون بنظريته عن التطور، وكارل ماركس برؤيته لتطور التاريخ، وفرويد بنظريته عن اللاشعور، وأينشتاين بنظريته عن النسبية، ونحن إذ نحصر المعالم الكبرى في هؤلاء الأربعة، فلسنا نزعم بذلك أن كلا من هؤلاء قد جاء بالحق الذي لا يعرف الباطل؛ لأننا نعلم أن النظريات الأربع جميعا هي موضع للتغيير والتعديل والتصحيح، لكن ذلك نفسه لا ينفي أنها ما زالت هي المحاور الرئيسية التي يدور حولها كثير جدا من نشاط الفكر الحديث، وعلى الرغم من أن هذه النظريات الأربع مختلفة في ميادينها؛ فنظرية دارون مختصة أساسا بعلم البيولوجيا، ونظرية ماركس معنية بالاقتصاد والاجتماع، ونظرية فرويد مجالها عالم النفس الإنسانية، ونظرية أينشتاين موضوعها علم الطبيعة، إلا أن النظرة الممعنة الفاحصة، تستطيع أن تنفذ خلالها جميعا إلى أساس مشترك، يربطها بعضها ببعض في مركب ثقافي واحد، بحيث يجوز القول عنه بأنه هو المركب الثقافي الذي يمثل عصرنا الحاضر، وهذا الأساس المشترك هو تذويب الفواصل الحادة التي كانت تفصل الأنواع الطبيعية للكائنات بالنسبة لنظرية دارون وتفصل العقل عن اللاعقل، أو تفصل الإنسان عن الحيوان في دوافع السلوك، بالنسبة لنظرية فرويد، وتفصل بين طبقات المجتمع الواحد، بالنسبة لنظرية ماركس؛ ثم بعد أن كانت البشرية تنظر إلى الحقائق العلمية كأنما هي مطلقة اليقين بغير قيد، جاءت نسبية أينشتاين لتجعلها حقائق تتفاوت في درجات احتمالها، فباتت أقل صلابة وقطعية مما كانت عليه.

أما نظرية التطور فقد جاءت لتقيم فلسفة قائمة على الدينامية والصيرورة، بعد أن كان الإنسان يتصور الكون على صورة سكونية ثابتة على حالة واحدة منذ الأزل؛ فليس المهم هنا أن يكون دارون قد أصاب أو أخطأ في تفصيلات نظريته، بل المهم هو أن تغيرت نظرة الإنسان إلى حقيقة العالم، نعم إن دارون قد أراد بنظريته الميدان البيولوجي وحده، ليقول فيه إن الكائنات الطبيعية الحية كلها، حلقات من سلسلة واحدة، لكن الباحثين بعد ذلك لم يلبثوا أن وسعوا من نطاق الفكرة لتشمل شتى جوانب الثقافة الإنسانية كلها، فنظم الحياة جميعا خاضعة للقواعد نفسها التي تخضع لها الكائنات الحية، وأهمها هو أنها إما أن تتكيف للبيئة وإما أن تموت، وأن البقاء بين النظم المتنافسة هو للأصلح من حيث التكيف للظروف؛ وكان من أبرز ما تغيرت به ثقافة عصرنا، نتيجة لمبدأ التطور، هو الإيمان بضرورة التغير والتحول وعدم الثبات الجامد؛ فكلما تغيرت الظروف من حولنا وجب أن نغير من أنفسنا لنلائم الوضع الجديد، ولا غرابة أن وجدنا عددا كبيرا من فلاسفة القرن العشرين، قد أداروا فكرهم الفلسفي حول محور التطور هذا، بمعان مختلفة عندهم، وعلى أشكال مختلفة أيضا، وحسبنا أن نذكر منهم رجلين: برجسون وهوايتهد، فضلا عن الفلسفة البراجماتية - أو العملية - التي ركزت على أهمية الفعل بالنسبة إلى مجرد التأمل النظري؛ فالحقيقة إنما تكمن في فعل نغير به الدنيا وفق أهدافنا، وليست الحقيقة - كما كانوا يتصورون قبل ذلك - أمرا يستنبطه الإنسان داخل رأسه وهو قابع في مكانه لا يغير من أوجه العالم شيئا.

أصبحت الحقائق مرهونة بطرائق تطبيقها، فإذا زعم لنا اليوم زاعم بأن لديه فكرة أو أفكارا ليست مما يصلح للتطبيق العملي، فاعلم أن ما لديه لا ينتمي إلى دنيا الفكر كما أصبح العالم يتصوره، ونحن إذ نقول إن الفعل والتطبيق والتنفيذ وتغيير العالم من حولنا، له الأولوية على التأمل السكوني، فكأننا قلنا - بعبارة أخرى - إن الإرادة قد أصبح لها الأولوية على التفكير الذهني الذي لا يحرك شيئا من مكانه، بل إن عملية «التفكير» نفسها - كما قلنا - قد أخذت هذا المعنى الجديد، وهو أن التفكير ليس إلا مجموعة الإجراءات العملية التي نحقق بها شيئا في دنيا الواقع، فإذا لم تكن ثمة إجراءات من هذا القبيل، لم يكن ثمة تفكير بالمعنى الذي يريده عصرنا بثقافته التي شكلتها من بعض وجوهها نظرية التطور.

ذلك عن نظرية دارون وما ترتب عليها في ثقافة عصرنا، وأما نظرية ماركس الاقتصادية الاجتماعية التي نظرت إلى التاريخ وكأنه حركة جدلية يقع فيها الصراع بين ضدين حتى يتولد منهما وضع جديد، لا يلبث بدوره أن يصارع ضده حتى يتولد وضع جديد آخر، وهلم جرا؛ فهي نظرية - بغض النظر عن كل ما فيها من خطأ وصواب؛ لأن ذلك ليس موضوعنا الآن - هي نظرية مشتقة في أساسها الجدلي هذا من فلسفة هيجل، وكان لها الأثر في لفت الأنظار إلى حقيقة هامة، وهي أن التغير إذا أردناه، كان علينا أن نستثير دوافعه من الداخل، لا أن نفرضه من الخارج؛ والأمر في ذلك شبيه بما يحدث للكائن الحي كالشجرة مثلا، فهي تعتمل من داخلها لتنمو، وليست تنمو بأن يضاف إليها فروع وورق من خارجها، فإذا أردنا أن نغير المجتمع على صورة معينة، وجب أن نغير من بنيته؛ أي أن نغير الإطار الذي أقيم عليه، ولا جدوى في أن يظل الإطار كما هو، ثم نطمع في التغير بمجموعة من القوانين تصدرها الحكومات.

ومثل هذا التصور الجدلي للتغير قد بات - مع نظرية التطور - جزءا أساسيا في ثقافة عصرنا، وننتقل إلى نظرية اللاشعور التي أخذ بها فرويد؛ فقد كان لها هي الأخرى أثر بالغ في توجيه نشاطنا الفكري في هذا العصر، لدرجة أنها لم تعد مقصورة على المختصين من العلماء، بل تسربت مفاهيمها إلى رجل الشارع، فأصبح مألوفا أن نسمع الناس في أحاديثهم العابرة يقول بعضهم لبعض أشياء عن مركبات النقص وعن الكبت وما شابه ذلك. ولقد أدت هذه النظرية - بغض النظر مرة أخرى عن كل ما فيها من صواب أو خطأ - إلى تحطيم الحواجز الحادة التي كنا نميز بها العقل المنطقي عند الإنسان من سائر مكونات فطرته التي جبل عليها من غرائز وانفعال وغير ذلك؛ وأصبحنا نرى سلوك الإنسان لا يصدر بهداية عقله، بقدر ما يصدر انبثاقا من مكونات دفينة ربما ارتدت إلى بذور بذرت فيه أيام الطفولة الباكرة، وإذا كان الأمر كذلك، كان حتما علينا أن نعنى بتربية أطفالنا ليجيء الإنسان الذي نريده سويا خاليا من العقد التي قد تنحرف به عن الجادة المستقيمة، دون أن تكون له في ذلك حيلة، ومن هنا أخذت تتغير وجهات النظر إلى انحراف السلوك عن العرف المألوف، بحيث أصبح يعد مرضا يستلزم العلاج، بعد أن كان جناحا يقومه العقاب؛ إذ ما دام سلوك الإنسان تشكله تلك العوامل الخافية فهل نعاقب الشجرة على أنها تنبت الشوك إذا كانت بذورها الأولى تحتم عليها أن يكون الشوك مصيرها؟

مجالات ثقافية كثيرة تغيرت في أسسها نتيجة لنظرية اللاشعور؛ ففي الأدب والفن والفلسفة جاءت آثارها واضحة وعميقة؛ فقد شغل الأدباء بالغوص في أعماق النفس الإنسانية كلما أرادوا تصويرها، وشغل رجال الفن بإخراج ما بأنفسهم بعد أن كانوا قبل ذلك ينقلون عن الطبيعة الخارجية؛ ومن ثم نشأت للفن في عصرنا هذه الاتجاهات الكثيرة التي نعرفها من سريالية إلى تجريدية وانطباعية وغير ذلك، ولم يعد الفنان مسئولا عن موضوع خارج نفسه مفروض عليه، بل موضوعه الأساسي هو نفسه ذاتها يضع ما فيها ألوانا على اللوحة أو نحتا في الحجر؛ فإذا ما جاء الناقد ليعلق ويفسر، كان عماده نظرية اللاشعور.

وأما الخط الفكري الرابع، وهو نظرية النسبية، فلست بحاجة إلى تعقب أثره في علوم الطبيعة، وهو الأثر الذي انتهى بالإنسان إلى تحطيم الذرة واستخراج قوتها الماردة، كما انتهى بالإنسان إلى أن يشق طريقه إلى كواكب السماء، وإنما يهمني بصفة خاصة التركيز على الجوانب الإنسانية التي ترتبت عليها، ومن أهمها نسبية القيم ونسبية الثقافات؛ فلم يعد يسيرا على أحد أن يزعم بأن ثقافة معينة أعلى أو أدنى من ثقافة أخرى، إلا بمقدار ما تنفع واحدة في ناحية لا تنفع فيها الأخرى.

4

تعالوا نقف معا عند المنحنى الذي استدار عنده الزمن في انتقالته من القرن التاسع عشر، إلى القرن العشرين الحالي، لنرى ماذا كان المناخ الفكري السائد قبل ذلك المنحنى، وماذا ظهر بعده، وكيف أن الشطرين موصول أحدهما بالآخر.

الحق أن القرن الماضي كان هو الفترة التي أبدع فيها الفكر الإنساني عامة، وفي الغرب بصفة خاصة، نتاجا غزيرا متلاحقا، تطلب امتدادا زمنيا استطال إلى يومنا هذا لتمثله وهضمه، وذلك ما قد حدث دائما في مسار التاريخ الفكري منذ أقدم العصور: عصر يبدع الجديد، وعصر بعده يتمثله على مهل.

فلقد شهد النصف الثاني من القرن الماضي، دارون ونظريته في التطور البيولوجي، وماركس ونظريته في التطور التاريخي، وفرويد ونظريته في الصلة بين الوعي العاقل ومستويات اللاوعي الدفين، وأخيرا جاء أينشتاين ليعلن في تاريخ العلم عصرا جديدا متكاملا.

كانت أوروبا قد شهدت خلال النصف الثاني من القرن الماضي موجة مادية عارمة، أقامها وشجعها ازدهار الفكر العلمي موضوعا ومنهجا، حتى لقد حاولوا تفسير كل الظواهر الشعورية والعقلية تفسيرا طبيعيا ماديا؛ وهنا يجدر بنا أن نتذكر، بأن تلك الموجة المادية الطاغية عندئذ، هي التي دفعت سائلا من أفغانستان يوجه سؤالا إلى جمال الدين الأفغاني وهو في مصر، يسأله فيه رأيه عن جماعة الماديين - أو الدهريين - الذين علا صوتهم في أوروبا، فأجابه الأفغاني بكتاب كامل، هو كتاب «الرد على الدهريين»، وهو أشهر ما خلفه لنا ذلك الرائد المسلم العظيم.

والناظر من بعيد إلى تلك الموجة المادية الطبيعية، يلحظ فيها أفكارا رئيسية يبدو على ظاهرها التعارض بعضها مع بعض؛ فبينما سادت فكرة تعمل على اتصال الكون بعضه ببعض في متصل واحد، اضطروا إلى افتراضه ليعللوا مسار الضوء عبر الأبعاد الفلكية (ولهذه الفكرة الاتصالية انعكاسها في تسلسل الكائنات في نظرية دارون، من الخلية الأولى إلى الإنسان، واتصال التاريخ في شريط مادي واحد في نظرية ماركس، واتصال العقل الأعلى بالغرائز الدنيا في نظرية فرويد، وهكذا)؛ أقول إنه بينما سادت تلك الفكرة الاتصالية عندئذ، قامت إلى جانبها فكرة رئيسية تعارضها في الظاهر، وهي الخاصة بتحليل الكون إلى جزيئات صغيرة لكل منها كيانها الخاص؛ أما المادة فجزيئاتها الذرات وما فيها من مكونات كهربية - السالبة منها والموجبة - وأما الأحياء فجزيئاتها هي الخلايا بما فيها من مكونات كذلك.

هذه واحدة، والأخرى أنه بينما سادت في الفيزياء الفكرة القائلة بأن الطاقة لا تزيد ولا تنقص، شأنها في ذلك شأن المادة في الطبيعة، فهي الأخرى محافظة على كمها، لا تزيد ذرة ولا تنقص ذرة، رأينا فكرة تقوم إلى جانبها، وتعارضها في الظاهر، وهي فكرة التطور؛ إذ ماذا يكون التطور إلا أن يكون ضمن معناه ظهور كائنات حية جديدة، وكلما ظهر كائن حي ازدادت الطاقة بظهوره، هذا فضلا عن أن التطور يقتضي الزيادة في الكون بصفة عامة، وهي زيادة تناقض القول بأن المادة والطاقة تحتفظان بمقدار معين لا ينقص ولا يزيد.

وجاء القرن الحالي ليتناول تلك الحصيلة الفكرية، بكل الخلفية التي كانت وراءها، فيصوغها صياغة جديدة، هي التي نتحدث عنها الآن على أنها الفكر المعاصر؛ ولقد اقتضت هذه الصياغة الجديدة انقلابا أو ما يشبه الانقلاب في أسس العلوم كلها، فضلا عن أسس التفكير الفلسفي؛ لأن الفلسفة ما هي في صميمها إلى الضوء يلقى على ميدان العلوم، ولذلك كانت بين الجانبين صلة وثيقة، فكلما تغيرت أصول العلم في عصر من العصور، تغيرت معها أجواء الفلسفة.

ولنبدأ بعلم الفيزياء؛ فقد كانت الخلفية التي يقوم عليها حتى القرن التاسع عشر، هي وجهة نظر نيوتن، التي فسرت كل ظاهرة من ظواهر الطبيعة بالمادة والحركة، فما عليك إذا أردت لأية ظاهرة تعليلا كافيا، إلا أن تحسب وضع كيانها المادي من جهة، والعوامل التي حركتها من خارجها من جهة أخرى، فإذا عرفت الوضع الراهن لأي جسم - كجرم من أجرام السماء مثلا - وعرفت حساب المؤثرات الخارجية التي تحركه، عرفت بالتالي كل شيء عنه الآن، وفي أية لحظة زمنية مضت، وفي أية لحظة زمنية سوف تأتي؛ بعبارة أخرى، فإنك تستطيع التنبؤ الرياضي الدقيق بكل ما سوف يحدث في كل لحظة مستقبلة، كما تستطيع الحساب الرياضي الدقيق لكل ما قد حدث في الماضي؛ فلست بحاجة - من أجل العلم الكامل بظواهر الطبيعة - إلى شيء أكثر من وضع الجسم والعوامل التي تحركه من خارجه.

وجاء القرن الحالي بما بين يديه من معرفة أنتجها له القرن الماضي، وغير تلك الصورة النيوتونية تغييرا تناولها من أساسها؛ فأولا: لم تعد «المادة» هي ذلك المعطى البسيط الذي تصوره نيوتن، بل أصبحت المادة مركبا ذريا من كهارب دائبة الحركة في أفلاكها؛ أي إن المادة لم تعد شيئا سلبيا سكونيا ينتظر الدوافع المحركة لتأتيه من خارج ذاته، بل أصبحت المادة طاقة حركية دينامية متحركة بطبيعتها؛ وثانيا: لم يعد في حدود الإمكان أن نحسب للجسم المعين وضعه وحركته في آن واحد؛ لأنك إذا حصرت انتباهك في وضع ذرة معينة، فاتتك حركتها، وإذا حصرت انتباهك في حركتها فاتك وضعها؛ ومعنى ذلك أنه لم يعد في حدود المستطاع ذلك الحساب التنبؤي الرياضي الدقيق الذي ظنه نيوتن، وبات أمر العلم الفيزيائي مرهونا بأرقام إحصائية تخرج المتوسطات، وبالتالي فحقائقه احتمالية لا تعرف اليقين الرياضي المزعوم لها؛ هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإنه لما كانت حركة كهارب الذرة الواحدة تلقائية، يتعذر التنبؤ بها قبل وقوعها، فإن ذلك يفسح المجال واسعا أمام فكرة الحرية في الطبيعة، لتحل محل الجبرية الحاسمة التي افترضها نيوتن من قبل، فلو كانت الطبيعة وظواهرها في ظل فيزياء نيوتن أشبه بالآلات التي تدور تروسها وعجلاتها سيرا على طريق مرسوم معلوم ومحسوب، فقد أصبحت الطبيعة وظواهرها على ضوء العلم الفيزيائي الجديد أشبه بالكائن الحي الذي يتحرك من داخله، حركة لا هي مرسومة له بدقة الرياضة، ولا هي معلومة علما كاملا قبل وقوعها، واختصارا، فبعد أن كانت الطبيعة سكونية أصبحت دينامية متطورة، وبعد أن كانت مطلقة أصبحت نسبية.

ونترك علم الفيزياء لنلم إلمامة سريعة بالتحول العميق الذي طرأ على العلوم الرياضية، وفي صحبتها علم المنطق؛ فلقد كان السائد قبل القرن الماضي، عن الرياضة أنها ذات علاقة بالحقيقة في مجال الطبيعة؛ أي إن تلك صورة كمية لهذه؛ فحدث خلال القرن الماضي - على أيدي أعلام بارزين في مجال العلوم الرياضية وفي مجال علم المنطق - أن استطاعوا بتغييرهم لبعض المسلمات التي أقام عليها إقليدس بناءه في علم الهندسة، بمسلمات أخرى، فتغيرت بالطبع النتائج المترتبة عليها؛ أعني النظريات الهندسية؛ فها هنا تنبه العقل الإنساني إلى حقيقة لعلها من أهم الحقائق العلمية في هذا العصر كله، وهي أن البناء الرياضي إنما يحكم عليه بالصواب، لا على أساس أنه يصور الطبيعة وكائناتها، بل على أساس داخلي في ذلك البناء نفسه، وهو أن تكون النتائج مستنبطة استنباطا سليما من مقدماتها، ولذلك فإنه من الممكن إقامة عدة بناءات رياضية، كل منها يكون صحيحا في ذاته، دون أن ندري أي تلك البناءات يمكن تطبيقه على الطبيعة وأيها لا يمكن.

ولما كان الفكر الإنساني كثيرا جدا ما يبني مذاهبه على هذا الأسلوب الرياضي نفسه، أي أن يفرض لنفسه فروضا يسلم بصوابها، ثم ينتزع منها نتائجها، حتى يتكامل له بمجموعة تلك النتائج وفروضها مذهب فكري موحد، أقول إنه لما كان الفكر الإنساني كثيرا ما يبني مذاهبه على هذا الأسلوب، تبين في جلاء - على ضوء ما حدث لعلوم الرياضة نفسها - أنه في حدود الإمكان أن تقام عدة مذاهب فكرية وعقائدية، كل منها صحيح بالنسبة لنفسه لكن صحته هذه لا تنفي صحة المذاهب الأخرى كذلك وللإنسان بعد ذلك أن يختار من تلك المذاهب ما يحقق له أهدافه.

وصحب التطور الذي حدث في مجال الرياضة البحتة، تطور مشابه في علم المنطق؛ فلقد كنا قبل ذلك نجري على سنن المنطق الأرسطي، الذي إن صلح للأفكار الكيفية الغامضة، مثل إنسان وحياة وخلود وفناء ... إلخ، فلا يصلح للأفكار الكمية الدقيقة؛ ولذلك فقد بات مطلوبا لنا منطق تحليلي رياضي، لنعالج به الأفكار التي من هذا القبيل، معالجة تفتت الواحدة منها تفتيتا لتعري أجزاءها وعلاقاتها بغيرها وهكذا، مما يؤدي بنا إلى فكر علمي فيه دقة التصورات الرياضية.

ولا يفوتني هنا أن أقول إن المشتغلين بالفلسفة في عصرنا، حين استخدموا هذه الأداة التحليلية في تفهم المفاهيم التقليدية التي كانت شائعة في مجال الفكر الفلسفي، تبين لهم عن بعضها أنها كالعلب الفارغة، تطن بلفظها لكنها خالية من أي مضمون.

ثم ننتقل بعد ذلك إلى العلوم الإنسانية، وعلى رأسها علم النفس وعلم الاجتماع، فتراها بدورها قد اتخذت صورة أخرى غير التي ألفناها قبل ذلك؛ فكلاهما قد اكتسب روحا علمية تجريبية من روح العصر، وتحول إلى بحوث تجريبية كأنه معني بمشكلة من مشكلات الطبيعة ذاتها.

5

ونختم حديثنا عن المعالم الرئيسية في فكر العصر، بذكر صورة موجزة عن التيارات الفلسفية التي تسوده، والفلسفة عادة هي التي تستخرج من الحياة الثقافية في عصرها، مبادئها الكامنة وأصولها، فأقول على وجه الإجمال الذي يهمل التفصيلات والفروع، إن في عصرنا تيارات فلسفية أربعة: فلسفة التحليل في إنجلترا، والفلسفة البراجماتية في أمريكا، والفلسفة الوجودية في غربي أوروبا، وفلسفة المادية الجدلية في شرقي أوروبا، وأما بقية أجزاء العالم فالأغلب أن تنقسم فيما بينها هذه التيارات الأربعة نفسها، مضافا إليها - أحيانا - جوانب مأخوذة من تراثها الاقليمي، وليس في ذلك ما يدعو إلى التعجب؛ لأنه إذا كانت فلسفة العصر نابعة من حضارته وثقافته، ثم إذا كانت بقية أجزاء العالم يغلب عليها - حتى اليوم - الأخذ بالحضارة والثقافة الغربيتين قدر المستطاع، كانت فلسفة الغرب - بالتالي - هي التي تسود.

ولقد نتوهم أن انقسام الفكر الفلسفي في الغرب دال على تمزق العصر من الناحية الفكرية، لكن نظرة فاحصة متعمقة، سرعان ما تبين أن تلك التيارات الأربعة إنما اختص كل منها بجانب غير الجانب الذي اختص به التيارات الأخرى ، وإذن فهي تتكامل معا، ولا تتعارض؛ إذ التعارض لا يكون إلا إذا كانت كلها جميعا تنصب على جانب واحد بعينه، ثم تختلف بعد ذلك في الرأي.

فالفلسفة التحليلية السائدة في إنجلترا، إنما خصت نفسها أساسا بتحليل العلوم وقضاياها، لتعرف الصورة الهيكلية التي ينصب فيها الفكر العلمي؛ والفلسفة البراجماتية في أمريكا قد خصت نفسها بالبحث عن الحق ما هو، كما يفهمه عصرنا، فتقول عن الحق إنما هو النتائج التي تعمل على حل مشكلات الحياة الواقعية؛ أي إنه إذا كان بين أيدينا فكرة، ثم أردنا أن نتبين من صوابها أو عدم صوابها، بحثنا عما يترتب عليها من فعل نجريه على أرض الواقع الحقيقي، من شأنه أن يحل مشكلة بعينها قصدنا إلى حلها؛ فإذا لم نجد الفكرة مؤدية إلى مثل هذا الفعل، ولا إلى المشكلات تحلها، علمنا أنها لا تستحق أن يطلق عليها اسم «فكرة» فضلا عن أن نصفها بأنها صحيحة.

وأما الفلسفة الوجودية، فلا تجعل محور اهتمامها تحليل البناء العلمي، ولا تحليل فكرة الحق حين نصف به هذه الفكرة أو تلك، ولكنها تعنى بالإنسان نفسه، فتقول إن الإنسان إنما يستمد إنسانيته من صنعه لنفسه عن طريق القرارات التي يتخذها هو لنفسه في المواقف المختلفة، على أن يكون مسئولا عما يقرره، وإنه ليهدر آدميته إذا هو تشكل على ما يقرره له سواه، وأخيرا تعنى المادية الجدلية بتحليل التاريخ وما يسيره من نظم وقيم وأفكار، فترى أن هذا المركب الثقافي بكل أجزائه إنما يتكون نتيجة لصراعات داخلية في بنيانه؛ إذ يكون في كل وضع معين ما يناقضه حتى يهدمه، ومن الوضع ونقيضه هذين يتألف موقف جديد، وهكذا ترى أن الفلسفة التي تسود غربي أوروبا وشرقيها على السواء، تشترك في أن الإنسان هو محورها، على حين أن الفلسفة كما هي قائمة في إنجلترا وأمريكا تجعل الفكر العلمي محورها؛ فلا تضاد بين هذه وتلك، وإنما هو تكامل لهما في وحدة شاملة تصور العصر وما فيه.

عصرنا من فلسفته

أهم المذاهب الفلسفية التي يتقاسمها عصرنا أربعة: الوجودية ، والمادية الجدلية والبراجماتية، والتحليل، وأن توزيع هذه المذاهب الأربعة ليوشك أن يكون توزيعا جغرافيا، بمعنى أن كل مذهب منها يتركز في إقليم جغرافي بذاته، ثم يشع منه إلى ما عداه؛ فالوجودية في غربي أوروبا، والمادية الجدلية في شرقيها، والبراجماتية في الولايات المتحدة الأمريكية، والتحليل في بريطانيا.

على أن العالم ليس كله أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية؛ فهناك قارات أخرى بأكملها، لكنها من الناحية الفكرية الفلسفية إحدى اثنتين: فإما جاءتها الغزوة من أوروبا وأمريكا وهي فيما يشبه الخلاء من ناحية الفكر الفلسفي، وإما جاءتها تلك الغزوة لتجد بين ظهرانيها تراثا خصبا عريقا؛ ففي الحالة الأولى انفرد الفكر الغازي فلم يحدث في نفوس الناس وعقولهم أزمة ولا ما يشبه الأزمة، وأما في الحالة الثانية فقد انقسم المثقفون قسمين، أحدهما جلس ليجتر ماضيه، وآخر جاهد ليجد لنفسه مخرجا، تارة بدمج الشعبتين في حياة واحدة ما استطاع إلى ذلك من سبيل، وتارة أخرى بإغلاق صفحات الماضي ليتفرغ للوافد الجديد.

وغني عن البيان أننا نحن الأمة العربية من الطراز الثاني؛ أعني الطراز الذي جاءته الفلسفة الغربية المعاصرة وهو على امتلاء ثقافي بما ورثه عن أسلافه، لكنه انشق على نفسه شطرين؛ فبينما تجد فريقا منه لا يكاد يعي من فكر عصره خردلة، مكتفيا بموروثه الغني، تجد فريقا آخر قد أتاحت له الفرصة أن يلم بفكر العصر قليلا أو كثيرا، فتأخذه الحيرة كيف يوفق في رأسه بين طارف وتليد.

وإذا نحن أخذنا الدراسة في جامعاتنا العربية نموذجا يوضح موقفنا من فلسفة العصر رفضا أو قبولا، وجدنا أقسام الدراسة الفلسفية في تلك الجامعات تضع الشرائح الزمنية التاريخية جنبا إلى جنب، تضعها متجاورة وهي في حياد كأن الأمر لا يعنيها؛ ففي هذه الفرقة الدراسية تدرس الفلسفة الإسلامية، وفي تلك الفرقة الدراسية تدرس الفلسفة الحديثة أو المعاصرة، مأخوذة من مصادرها الغربية، فيخرج دارس الفلسفة من الجامعة وهو ما يزال في الحيرة نفسها: هل يحاول التوفيق أو لا يحاوله؟ وإذا حاوله فكيف يكون ذلك؟ ولقد شهدت في حياتي أعواما اشتد فيها الصراع بين أساتذة الفلسفة الذين أنيط بهم تدريس الفلسفة الغربية؛ فكان كل منهم يتعصب لتيار غربي دون تيار، وكان هذا التيار أو ذاك هو من نتاجنا نحن، وانعكاسا لحياتنا نحن، ثم كأن هذه التيارات الغربية الأربعة يناقض بعضها بعضا تناقضا يجعل المتقبل لأحدها رافضا بالضرورة للثلاثة الأخرى، وكان أجدر بنا أن نتبين الأمر على حقيقته، وهي أن العصر الذي أنبت تلك التيارات الفلسفية المختلفة إنما هو عصر واحد، ذو حضارة واحدة، وأنها لتكون مفارقة عجيبة، لو أن هذا العصر الواحد يتمزق في مذاهب متعارضة في أسسها وجذورها.

ولقد كنت لسنوات طوال مخطئا بين مخطئين؛ لأنني كنت بدوري أتعصب لتيار فلسفي معين، على ظن مني بأن الأخذ به يقتضي رفض التيارات الأخرى، لكنني اليوم - مع إيماني السابق بأولوية فلسفة التحليل على ما عداها من فلسفات عصرنا - أومن كذلك بأن الأمر بين هذه الاتجاهات الفلسفية إنما هو أمر تكامل في نهاية الشوط، وليس هو أمر تعارض أو تناقض؛ فكل مذهب من المذاهب الأربعة الرئيسية التي تسود العصر، يسأل سؤالا غير الأسئلة التي تطرحها على نفسها بقية المذاهب، والتناقض لا يكون إلا إذا كان السؤال المطروح واحدا عند الجميع، لكن الإجابة عند هذا تجيء نافية للإجابة عند ذاك؛ فالمذاهب الفلسفية الأربعة التي أشرنا إليها، إن هي على وجه الجملة إلا إجابات أربع، لا على سؤال واحد بعينه، بل هي إجابات مختلفة عن أسئلة مختلفة، عني كل مذهب منها بسؤال، وأولاه اهتمامه، دون الأسئلة الثلاثة الأخرى، بحيث لا يكون معنى ذلك أنه بالضرورة رافض لمشروعية الأسئلة الأخرى، أو رافض للإجابة التي أجيب بها عن تلك الأسئلة.

وعلى سبيل التشبيه: افرض أن أربعة أشخاص اختلفت ميولهم واستعداداتهم، نظروا إلى سجادة يفحصونها، فاهتم أحدهم بالرسوم التي ظهرت على سطحها، من حيوان ونبات وزخارف وغير ذلك، بينما اهتم الثاني باللون متسائلا إن كان مصدر الصبغة كائنات عضوية أم كان مصدرها تركيبات كيماوية، وأما الثالث فقد وجه عنايته إلى نوع الصوف وطريقة نسجه، وطفق الرابع يبحث عن موطن الصناعة ماذا كان: أكان أصفهان أم كان شيراز؟ فهل يحق لنا أن نقول عن هؤلاء الأشخاص الأربعة إنهم «متعارضون» متناقضون متقاتلون إلى آخر هذه الحالات العراكية التي تصورناها نحن دارسي الفلسفة في الجامعات العربية بين مختلف الاهتمامات التي ظهرت في التيارات الفلسفية المختلفة في أوروبا وأمريكا؟

ولنبدأ بما شئنا من هذه التيارات الأربعة، التي هي: الوجودية، والمادية الجدلية، والبراجماتية، والتحليل، التي قلنا إنها هي الاتجاهات الفلسفية الأساسية في عصرنا الراهن، أقول: لنبدأ بأيها شئنا، لنرى ما هو لب رسالته؟ ثم ننتقل منه إلى مواقف أصحاب الاتجاهات الأخرى متسائلين: هل هم بحكم اتجاهاتهم تلك رافضون لتلك الرسالة في لبها وصميمها، أو أن الأصح هو أن يقال عن هؤلاء جميعا إنهم اختلفوا في اهتماماتهم وفي محاور ارتكازهم، مع استعداد كل منهم لقبول ما انتهت إليه أفكار الآخرين فيما جعلوا اهتمامهم له؟

وليكن المذهب الوجودي هو نقطة ابتدائنا: أليست رسالته في جوهرها هي حرية الإنسان؟

إن الإنسان - بناء على هذا المذهب - هو الذي يصنع نفسه ويشكلها عن طريق القرارات التي يتخذها لنفسه بنفسه؛ فليس هو بذي حقيقة مقطوع بها مقدما، ليسير على طريق مرسوم له ولا حيلة له فيه؛ إذ لو كان الأمر كذلك لما كان له اختيار فيما يفعل وما يكف عن فعله، لكن سبل الاختيار مفتوحة أمام الإنسان في كل لحظة من حياته، بل إن هذا الاختيار واجب مفروض على الإنسان إذا أراد لإنسانيته أن تتحقق، أما إذا ترك سواه ليختار له، ولا يكون له إلا أن يطيع، فإنه عندئذ يكون بمثابة من أهدرت آدميته؛ لأنه يكون قد حول نفسه من الحالة الإنسانية التي تريد وتختار، إلى حالة الأشياء الجوامد، أو إلى حالة النبات والحيوان.

تلك هي رسالة الوجودية، ليس فيها ما يرفضه مذهب من المذاهب الثلاثة الأخرى، كل ما في الأمر، هو أن تلك المذاهب الثلاثة لم تجعل حرية الإنسان - بذلك المعنى المحدد لها - موضوع سؤالها، ولقد تجد من الفلسفات ما يرفض الوجودية من حيث الأساس، كالمذاهب المثالية التي تجعل ماهية الإنسان سابقة على وجوده الفعلي، لكنها فلسفات نبتت في عصور أخرى غير عصرنا، وأقول ذلك عنها دون أن أريد لهذا القول أن يتضمن أنها أقل أهمية أو أكثر أهمية من الاتجاهات الفلسفية التي أنبتها هذا العصر الذي نعيش فيه.

وأمام رسالة المذهب الوجودي في حرية الاختيار وحرية القرار بالنسبة إلى الإنسان، قد يسأل سائل: أليس هنالك من القيود ما يقيد تلك الحرية عند الإنسان؟ ألا تتقيد - مثلا - بما يقتضيه منطق العقل حتى لا تصبح كحرية المجنون؟ لنفرض أن مسافرا قرر السفر من مصر إلى أوروبا ليقضي بعض شأنه، ألا تتقيد حرية إرادته تلك بوسائل الانتقال المتاحة وبالقدرة المالية والصحية وغير ذلك مما يملكه أو لا يملكه؟ أو افرض فرضا آخر وهو أن إنسانا أراد أن يقسم مائة دينار على أربعة أشخاص بالتساوي، تلك هي إرادته الحرة، لكن هل تكون له كذلك حرية في ناتج القسمة، وهو أن يكون نصيب كل فرد من هؤلاء الأربعة خمسة وعشرين دينارا؟ إن إرادته مهما بلغت من حريتها، لا بد لها من الانصياع إلى قوانين الرياضة وقوانين الطبيعة، وله بعد ذلك أن يتحرك بإرادته الحرة داخل إطار هذه القوانين.

لا، بل إنه وهو يتخذ لنفسه قراره الحر بإرادته الحرة، مضطر أن يصوغ ذلك القرار في لغة يفهمها الناس، ولما كانت اللغة ليست من صنعه الخاص، فهو مضطر إلى التزام المفردات اللغوية وطرائق التركيب اللغوي التي تواضع عليها الناس، ليفهموا عنه ما أراد وما قرر، وإلا لما أحدث في العالم الخارجي الأثر الذي أراد أن يحدثه بقراره ذاك الذي اختاره حرا.

فإذا سأل سائل عن مدى الضوابط التي يفرضها منطق العقل فرضا؛ أي تفرضها قوانين العلوم الرياضية والعلوم الطبيعية، بل وتفرضها كذلك لغة العلم ولغة التفاهم، كان ذلك السائل باحثا عن جواب لن يجده إلا عند من عني بفلسفة التحليل؛ لأنها فلسفة توجه اهتمامها الرئيسي نحو تلك الضوابط، فتحاول أن تستخلص الصور المنطقية الخالية من مضموناتها، لعلها ترى في وضوح أنواع العلاقات التي تربط أطراف الفكرة الواحدة ربطا يفيدنا في توليد النتائج، فإذا كان المشتغل بفلسفة التحليل لا يرفض حرية الإنسان كما وصفتها الفلسفة الوجودية، فإن المشتغل بالفلسفة الوجودية من جهته لا يرفض أن تضطلع فلسفة التحليل بتحديد الضوابط التي لا مناص من التزامها عند عرض أفكارنا؛ إذ الفلسفة الوجودية وإن لم توجه اهتمامها إلى ضوابط الأفكار في إطارها الصوري، فهي لا تتنكر لها ولا ترفضها، كما أن الفلسفة التحليلية وإن لم توجه اهتمامها إلى أركان الحرية الإنسانية عندما تريد وتفعل، فهي لا تتنكر لها ولا ترفضها.

على أن صور المنطق والرياضة وقوانين العلوم وقواعد اللغة المفهومة ذات الدلالة، ليست هي كل القيود التي تقيد حرية الإنسان المتمثلة في فاعليته، إذ هو يريد ويختار وينفذ بالفعل؛ فهنالك بالإضافة إلى ذلك قيود الأهداف؛ لأن الذي يسير على طريق حياته بلا أهداف يتصورها ويحددها ليعمل على تحقيقها، هو المجنون وحده، وإذا كان ذلك كذلك في حياة العقلاء، فماذا تقول البراجماتية غير هذا؟ إن البراجماتية قيدت دلالة الفكرة المعينة بمقدار تحقيقها لهدفها، فإذا قلت عن فكرة ما إنها بغير هدف محدد تقصد إليه وترسم معالمه، كنت كمن لا يريد أن يفرق بين عاقل ومجنون، وإذا كان فيلسوف الوجودية وهو منغمس في البحث عن حرية الإنسان، لم يوجه اهتمامه كذلك إلى تحليل الأفكار الصحيحة تحليلا يقيدها بالأهداف التي تتحقق بوساطتها على أرض الواقع الفعلي؛ فليس معنى ذلك أنه - أي فيلسوف الوجودية - يرفض هذا الذي تقوله البراجماتية، كما أن البراجماتي لم يكن ليرفض ما يقوله الوجودي عن صنع الإنسان لنفسه باختياراته الحرة التي يمارسها في المواقف التي تعرض له في مسيرة حياته.

هنالك - إذن - قيود تحد من إطلاق الحرية الوجودية، دون أن تنتقص من صميمها؛ فلقد ذكرنا قيود العقل بمنطقه، وقيود الوسيلة اللغوية التي نتفاهم بها حتى لا تذهب أقوالنا عبثا مع الريح، وهنالك قيود الأهداف التي لا بد منها لتهتدي بها الحرية الإنسانية إذ هي تريد وتختار، ونريد الآن أن نضيف الآن قيدا آخر، هو قيد الظروف المادية التي تحيط بنا عند الاختيار وإرادة الفعل، فماذا يجدينا من حرية لا تضع في اعتبارها ظروف الواقع وضروراته؟ إنها لو فعلت ذلك كانت هي حرية الحالمين! نعم، إننا أحرار في تقرير ما نريد فعله، لكن هذا القول يفقد معناه إذا كان هذا التقرير نفسه لا تواتيه العوامل المادية المحيطة بنا، وهي العوامل التي تتيح لنا أن نحول ما اخترناه وما أردناه، إلى واقع نحياه، وذلك هو جانب مما تقوله الفلسفة المادية الجدلية.

هكذا نرى أن المذاهب الفلسفية في عصرنا حين اختلفت، فهي إنما اختلفت في الجانب الذي تكون له أولوية النظر عند كل منها، دون أن تكون الجوانب المتعددة متعارضة فيما بينها، بل هي جوانب يكمل بعضها بعضا، ونستطيع أن نأخذ بها جميعا - وكدت أقول إنه لا بد أن نأخذ بها جميعا - في وقت واحد؛ إذ لا تعارض هناك بين أن نقر للإنسان بحريته (وتلك هي الفلسفة الوجودية) وأن نبين لتلك الحرية ضوابط المنطق لتلتزم حدودها (وتلك هي الفلسفة التحليلية) وأن نشترط لها كذلك التزام الأهداف المراد تحقيقها (وتلك هي البراجماتية) مدخلين في حسابنا دائما ضرورات الواقع المادي الذي ستجري على أرضه تحقيق أهدافنا (وتلك هي المادية الجدلية).

ولنضرب لهذا التكامل بين مذاهب الفلسفة الأربعة التي تسود عصرنا، مثلا يوضحه: افرض أننا أمام عبارة يقول بها صاحبها «إن العمل على تحقيق القومية العربية واجب محتوم» ثم أردنا الوقوف عند هذه العبارة ننظر إليها من الزوايا الفلسفية الأربع، فماذا نقول؟ إننا إذا بدأنا النظر من زاوية الفلسفة الوجودية، بحثنا عن العلاقة بين هذه العبارة وقائلها، لنرى إن كانت عنده بمثابة القرار الأصيل الذي أصدره بنفسه ولنفسه، حتى إذا ما وجدناه كذلك كان قائلها ملتزما فعلا بالعمل على تحقيقها، أما إذا وجدناها عبارة لم تصدر من ذات قائلها، بل أمليت عليه من خارجه، فإنها عندئذ تفقد قيمتها من حيث دلالتها على حرية القائل ومسئوليته الخلقية إزاءها.

فإذا انتقلنا إلى زاوية الفلسفة التحليلية ننظر منها إلى العبارة المذكورة، كان من أهم ما يلفت نظرنا في مفرداتها لفظتا «واجب محتوم» لأنهما من الألفاظ التي لا تسمي أشياء بذواتها، فماذا تعني يا ترى؟ من الذي أوجب ومن الذي حتم؟ إنهما لفظتان تحملان معنى الأمر، فمن ذا الذي أمر؟ هل ثمة من سلطان خارجي يفرض علينا هذا الواجب؟ فإن كان فما هو؟ وهكذا يركز فيلسوف التحليل جهوده في توضيح أمور كهذه تجري في كلام الناس دون أن يتنبهوا إلى مدى غموضها.

ثم ننظر نظرة ثالثة، هي نظرة الفيلسوف البراجماتي، فلا نجد ما يدعونا إلى معارضة شيء مما قاله الوجودي عن ضرورة أن تنبثق الإرادة من صميم الذات التي تريد لنفسها وتقرر لنفسها، ثم لا نجد ما يدعونا إلى معارضة شيء مما قاله فيلسوف التحليل في توضيح الغوامض التي تكتنف ألفاظنا؛ إذ القول الواضح في معناه أدعى إلى رسم الطريق في دنيا الفعل، لكننا ننظر من الزاوية البراجماتية إلى عناصر الموقف الراهن، وفي الطريقة التي يمكن أن يعاد بها ترتيب تلك العناصر، ليخرج لنا من ترتيبها الجديد موقف جديد، هو «القومية العربية، كما أردناها بادئ ذي بدء.

وتبقى لنا بعد هذا كله زاوية رابعة ننظر منها إلى العبارة السالفة الذكر، هي زاوية المادية الجدلية، فإذا كانت القومية العربية المنشودة غير متحققة الآن، فذلك لعوائق مادية اعترضت قيامها كالظروف الاجتماعية أو الاقتصادية أو غير ذلك من ظروف ظهرت في مراحل التاريخ، ولا سبيل إلى تحقيق القومية العربية إلا إذا أزلنا تلك العوائق من الطريق، لأننا إذا ما افتعلنا تلك القومية افتعالا، مع بقاء العوامل التي عارضت قيامها فسرعان ما تعود تلك العوامل نفسها لتفعل فعلها من جديد.

زوايا أربع كما ترى، يكمل بعضها بعضا أكثر جدا مما ينقض بعضها بعضا؛ فلكل منها سؤال يراد الجواب عنه يختلف عن الأسئلة الثلاثة الأخرى التي تطرح عند الزوايا الأخرى؛ فالسؤال عند الوجودية هو: من؟ والسؤال عند التحليل هو: ما المعنى؟ والسؤال عند البراجماتية هو: ما الهدف، والسؤال عند المادية الجدلية هو: كيف حدث وكيف يتغير؟ ... وكلها أسئلة ضرورية للموقف الواحد.

على أني أشعر بعد هذا كله بسؤال خامس، يلح على عقلي إلحاحا إلى أن يجد له جوابا مقنعا، وهو: إن هذه المواقف الأربعة التي تقسم فيما بينها عصرا واحدا - هو عصرنا الراهن - لا بد أن تلتقي جميعا عند جذر واحد وإلا لتمزقت وحدة العصر وفقد طابعه الذي يميزه ويجعله عصرا يجيء حلقة في سلسلة العصور، فماذا عسى أن يكون ذلك الجذر الواحد المشترك؟ جوابي (وهو جواب شخصي، يستطيع من شاء أن يصححه بما شاء) هو أن ذلك الجذر المشترك في فلسفات عصرنا، هو التصور الذي يجعل الإنسان محورا يدير نفسه ولا يدار من خارجه؛ فهو الذي يقرر بنفسه لنفسه (وجودية) وهو الذي يوضح بنفسه لنفسه (تحليل)، وهو الذي يضع لنفسه الأهداف ابتغاء تحقيقها (براجماتية)، وهو الذي يتلمس عوائق السير ليزيلها (مادية جدلية)، وإذن فالمحور الفلسفي الرئيسي لعصرنا هو النظرة الإنسانية التي تجعل من الإنسان مبدأ وغاية، وتجعل هذه الحياة هي الأولى والأخيرة.

لكن هذه النظرة لا تلتئم مع الوقفة الإسلامية العربية التئاما كاملا؛ لأن هذه الوقفة الإسلامية العربية من شأنها أن تجعل هذه الحياة مرحلة أولى لها ما بعدها من حياة آخرة، ها هنا تكمن المشكلة أمام الفيلسوف العربي المسلم - إذا وجد - فيكون سؤاله الخاص هو: كيف أضيف البعد الخامس إلى الأبعاد الأربعة التي ذكرناها مميزة لعصرنا؟ وبالإجابة عن سؤال كهذا، يمكن للإنسان المسلم العربي أن يحيا عصره وتراثه معا.

ترجمة الماضي إلى حاضر

ماذا نصنع لنعيش بماضينا في حاضرنا؟ هذا هو السؤال الذي طرحناه على أنفسنا ألف مرة، وحاولنا الجواب ألف مرة، ولا أحسبنا قد انتهينا إلى صيغة واحدة يرضى عنها الماضي والحاضر معا، ودليل ذلك قريب، وهو أننا إلى يوم الناس هذا نجد بيننا من لا يزال يتشكك في العلم وقيمته وفي العقل الإنساني وقدرته.

شاء لي الله أن يصلني منذ وقت قريب كتابان في يوم واحد، أحدهما لكاتب مرموق ولامع وذي جذب شديد لجماهير القراء والسامعين والمشاهدين - السامعين للراديو والمشاهدين للتلفزيون - والآخر لمؤلف لم أكن قد سمعت باسمه، لكنني استنتجت من قوة عبارته أنه لا بد أن يكون ذا وزن في محيطه الخاص، وأما الكاتب الأول فقد أراد بكتابه أن يقول إن العلم «يتبجح» (هذه هي اللفظة التي استخدمها) وإن الحياة المثلى هي في التصوف، وأما الكتاب الثاني فقد أراد صاحبه أن يقول إن الأرض لا تدور، وإن كل ما يقوله العلم غير ذلك فهو خطأ وضلال، ومن الأسانيد التي أعلن أنه ارتكز عليها في الوصول إلى تلك النتيجة، الآيات الكونية في القرآن الكريم.

فإذا كان المناخ الثقافي الذي نتنفسه، قد أمكن أن يفرز لنا مثل هذه الكتب، وأستطيع أن أجزم بأن أحد الكتابين السابقين - على الأقل - قد بيعت منه عشرات الألوف من النسخ؛ أي إنه كان غذاء تطلبه النفس العربية في يومنا، فلا بد - إذن - أن يكون المثقفون العرب بعيدين بعدا شاسعا عن أن تكون لهم صيغة ثقافية واحدة تجمع بينهم، ودع عنك أن تكون هذه الصيغة الواحدة مما يدمج الماضي في الحاضر دمجا عضويا متكاملا؛ لأن الحاضر أساسه علم وصناعة، وها قد أقبل ألوف القراء على من يقول لهم إن العلم يتبجح، ولست أدري كم منهم قد أقبل كذلك على قراءة ما جاء ليزعم لهم أن الأرض لا تدور.

ماذا نصنع؟

ولكني برغم ذلك كله ما أزال أسأل: ماذا نصنع لنعيش بماضينا في حاضرنا؟ وما زلت أعتقد في أنه سؤال لبث مطروحا علينا منذ قرن ونصف قرن: كان هو السؤال الذي طرحه رفاعة الطهطاوي والذي طرحه الشيخ محمد عبده، والذي طرحه المفكرون والأدباء خلال الفترة التي أعدها بحق عصرا للتنوير، وأعني بها عشرينيات هذا القرن وثلاثينياته، وما نزال نطرحه إلى يومنا، جادين مرة هازلين مرة، نطرحه بشيء من العمق مرة وبكثير من الضحالة مرات.

وها أنا ذا أتناوله اليوم من زاوية جديدة، لعل فيها ما يقربنا مما نريد؛ فلقد طاف بفكري أن يكون المطلوب شيئا من «الترجمة» الحضارية، فكما أن عملية الترجمة تحول النص المترجم إلى صورة جديدة مع احتفاظها بمعنى النص كاملا، فكذلك قد تكون عملية التحول التي نريدها؛ إذ إن لدينا ما يشبه النص الذي نتشبث بأن يظل لبه مصونا من العبث، لكننا في الوقت نفسه نريد له أن يتخذ صورة جديدة مقروءة لمن يعجز عن قراءته في صورته الأصلية.

وما إن طافت هذه الخاطرة بفكري، حتى رأيت أن تكون خطوتي الأولى في تناول الموضوع، نظرة فاحصة بعض الشيء لعملية الترجمة نفسها، لعلها تضيء الطريق. وكان أول ما ورد إلى ذاكرتي عندئذ عبارة كنت قرأتها لكاتب هندي، قال فيها إن للترجمة تقليدا طويلا راسخا في الفكر العربي، وكان ذلك منذ عصر المأمون حين أنشأ «بيت الحكمة» في بغداد ليقوم على ترجمة التراث اليوناني من فلسفة وعلم، ولم تكن الهند كذلك - كما قال هذا الكاتب الهندي - إذ لبثت الثقافة الهندية طوال عصورها محرومة من مثل هذه الروافد، ولم تأخذ في فتح أبوابها للترجمة إلا منذ القرن التاسع عشر.

فلا بأس إذن - بالنسبة إلينا نحن العرب - في أن يكون النموذج الماثل في عملية الترجمة معيارا يقاس إليه، غير أن الترجمة ليست كلها على غرار واحد، وإن اتفقت على أن تكون دائما أمينة بقدر المستطاع على المضمون المراد نقله من حالة إلى حالة؛ فهنالك - أولا - الترجمة التي تلتزم النص جملة جملة، وأكاد أقول كلمة كلمة لولا أني أعلم أن ذلك محال، وتلك هي الترجمة التي تكون في النصوص العلمية أو ما يشبهها، فها هنا لا مناص من تتبع الأصل كما هو، فلا يجوز للمترجم أن يضيف إليه من عنده، ولا أن يحذف منه ما لا يتفق مع هواه، إنه قد يجد في العبارة الأصلية تكرارا، وعندئذ ينبغي له أن يورد مثل هذا التكرار في ترجمته، أو قد يجد فيها ما يظنه سخفا أو خطأ، فلا يجوز له أن يحال السخف إلى جمال يتبرع به، ولا أن يصحح الخطأ بصواب من عنده، وهنا نذكر عبارة قالها الدكتور جونسون - الأديب الإنجليزي في القرن الثامن عشر - إذ قال: لا تحاول قط يا سيدي أن تتفوق على من تترجمه.

وليس هذا النوع من الترجمة الحرفية - كما يقولون - هو ما نعنيه؛ إذ نتساءل هل يمكن، وكيف يمكن أن «نترجم» تراثنا ترجمة حضارية، بمعنى أن نحافظ على عبيره في حياة معاصرة؟ أقول إن هذا النوع من الترجمة ليس هو ما نعنيه؛ لأنه لو كان الأمر كذلك، لأعدنا القديم نفسه بلا تغيير، سوى أن نحول المخطوط - مثلا - إلى مطبوع، أو أن نحول المطبوع إلى مطبوع ومشروح، أو أن نغير الورق الأصفر إلى أبيض ناصع مصقول.

صورة أخرى للترجمة

لكن للترجمة صورا أخرى، منها ترجمة الشعر من لغته الأصلية إلى لغة أخرى، صحيح أن الرأي مجمع على أن ترجمة الشعر مستحيلة، إلى الدرجة التي أراد بها الشاعر الأمريكي «روبرت فروست» أن يعرف (بتشديد الراء) الشعر، فلم يجد خيرا من قوله إنه هو ذلك الجزء من الكلام الذي يستعصي على الترجمة، وها هو ذا الجاحظ في أول الجزء الأول من كتابه «الحيوان» يقول عن الشعر وصعوبة ترجمته: «الشعر لا يستطاع أن يترجم، ولا يجوز عليه النقل، ومتى حول تقطع نظمه وبطل وزنه، وذهب حسنه وسقط موضع التعجب ... وقد نقلت كتب الهند، وترجمت حكم اليونانية، وحولت آداب الفرس، فبعضها ازداد حسنا، وبعضها ما انتقص شيئا، ولو حولت كلمة العرب (التي هي في أشعارهم) لبطل ذلك المعجز الذي هو الوزن، مع أنهم لو حولوها لم يجدوا في معانيها شيئا لم تذكره العجم في كتبهم.»

ومع ذلك فقد شهد تاريخ الآداب العالمية ترجمات للشعر، ترجم شكسبير إلى لغات كثيرة، وترجمت إلياذة هومر إلى الإنجليزية (وغيرها) على أيدي فحول الشعراء، وكان منهم «بوب» و«تشابمان»، وترجم الخيام ترجمات ذائعة الصيت، كترجمة فتزجرولد لها، فلنقف هنا وقفة متأنية، باحثين عن جوهر الترجمة عندما تكون نقلا للشعر من لغة إلى لغة؛ لأننا نلمح في مثل هذه الترجمة شيئا هاما مما نريد تحقيقه عند «ترجمتنا» الحضارية التي تضع تراثنا في إطار جديد، هو إطار العصر الحاضر بكل ما فيه من علوم وتقنيات (تكنولوجيا) وأجهزة إلكترونية وغيرها.

ماذا يصنع مترجم الشعر؟ إنه بالبداهة لا ينقل عن النص كلمة كلمة، بل هو لا ينقله جملة جملة، إنما هو ينقله - على أحسن الفروض - مقطوعة مقطوعة، ولقد كان لي في ذلك خبرتان: إحداهما عندما قرأت الترجمة الإنجليزية لرباعيات الخيام - ترجمة فتزجرولد - فقد وجدت عندئذ شيئا لم أكن أعرفه من قبل، ولا توقعت حدوثه، وهو أن المترجم كان يعيد ترجمة المقطوعة الواحدة أحيانا ليظفر لنفسه بصورة ترضيه، فكم عجبت يومئذ حين رأيت المقطوعة الواحدة في صورها المختلفة عند هذا المترجم الواحد، توشك ألا تكون هي هي المقطوعة ذاتها؛ فالشاعر الإنجليزي في ترجمته للشاعر الفارسي، كان أقرب إلى من يحول الخبز واللحم في طعامه إلى دماء تجري في عروقه؛ فهذه الدماء هي في الحقيقة «ترجمة» لما كان أكله من لحم وخبز، وهكذا كان أمره مع الرباعيات، لقد شربها شربا وخلطها بذاته خلطا ثم أخرجها كائنا جديدا، وكان هذا الكائن الجديد هو رباعيات الخيام، ولم يكن هو رباعيات الخيام في آن واحد، ها هنا تكون الترجمة خلقا جديدا، لكنها في الوقت نفسه هي هي الأصل الذي هي ترجمته، إنها أقرب إلى ما يصنعه النحل وهو يحول الزهر إلى عسل، منها إلى النمل الذي يدع طعامه مخزونا كما وجده.

محاولة لترجمة شعر العقاد

وأما الخبرة الثانية التي أشرت إليها، فكانت حين أردت (في الأربعينيات وأنا في إنجلترا) ترجمة شيء من شعر العقاد، وكان ذلك أول الأمر في مناسبة ثقافية اقتضت أن أعرض على الناس نموذجا من الوجدان العربي الجديد، فترجمت شعر العقاد شعرا إنجليزيا، فعرفت بالمعاناة كيف أن الأمر هنا يحتاج إلى شيء من الهضم وإعادة التشكيل.

إن مترجم الشعر لا غنى له عن تقمص الشاعر الذي يترجمه في لحظات إبداعه الشعري، لتجيء الترجمة حاملة الشروح نفسها التي بثها الشاعر في شعره، فلا علينا بعد ذلك أن يتغير اللفظ من أصل إلى صورة، وفي هذه المناسبة من الحديث أذكر أنني - منذ نحو خمسة عشر عاما - وقد كنت حينئذ عضوا في لجنة الشعر بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب بالقاهرة، وكان مقرر اللجنة هو العقاد ، وأردنا أن ننهض بمشروع ترجمة مختارات من الشعر العربي إلى لغات أوروبية مختلفة، ونيط بي أمر الترجمة إلى الإنجليزية فعن لي أن أتصل بالشاعر «أزرا باوند» وهو في منفاه في إيطاليا أيامها، واستطعت الحصول على عنوانه. والمعروف أن «أزرا باوند» ترجم إلى الشعر الإنجليزي شعرا شرقيا من اليابان والصين، فأرسلت إليه أعرض عليه أن نرسل إليه صورة نثرية دقيقة لما نريد ترجمته من الشعر العربي إلى شعر إنجليزي، ليضطلع هو بصياغتها في شعر إنجليزي، فأرسل الرجل إلي يوافق من حيث المبدأ، ولكنه يشترط أن نسجل له الشعر العربي المراد ترجمته على شرائط، ليسمعها وهي مقروءة بالعربية، حتى يمتلئ بالنغم العربي قبل أن يترجم، ضمانا لدقة النقل الأدبي من لغة إلى لغة.

إن أمانة الترجمة في الشعر لا يقصد بها دقة التوافق والتطابق بين نص لغوي ونص لغوي آخر، بل يقصد بها قبل ذلك وبعد ذلك دقة التلاؤم عند المترجم بين الترجمة ونفسه، فما ليس له في نفسه صدى، يستحيل أن تجيء ترجمته شعرا كما كان في أصله شعرا؛ فالترجمة في الشعر هي أشبه شيء بالتصوير الفوتوغرافي عندما يكون المصور فنانا، لأننا نستطيع القول إن هناك ثلاث درجات في التصوير: التصوير الفوتوغرافي الصحفي - إذا صح هذا التعبير - يتلوه التصوير الفوتوغرافي الفني، ثم يتلوه التصوير الفني الذي ليس له أصل يراعيه؛ ففي ترجمة الشعر يكون أمامنا أصل لا بد من مراعاته، لكننا في الوقت نفسه إذ نراعيه ونأخذه في الاعتبار الأول، لا نتقيد بتفصيلاته ما دمنا نحافظ له على روحه وجوهره، إن مترجم الشعر إنما يضع لنا طريقة استجابته للشعر الذي يترجمه، ولا يهمه أن يضع لنا صورة طبق الأصل منه، وهذه هي «الأمانة» المطلوبة في هذه الحالة فهي ليست الأمانة الشكلية المتحجرة المقيدة، ولكنها الأمانة بعد أن دبت فيها الحيوية حتى لا تكون القطعة المترجمة كالجثة الهامدة، ولقد قال في ذلك فتزجرولد - مترجم الخيام إلى الإنجليزية - قال في ذلك: «إن لم تكن ذاكرتي قد أخطأت نسبة القول إلى قائله: إنني أوثر عصفورا حيا على نسر محنط.»

ونعود بعد هذه السياحة الطويلة في ترجمة الشعر، إلى موضوعنا الأصلي:

رءوس ثلاثة

كيف نعيش بماضينا في حاضرنا؟ والآن أقدم الجواب: إننا نفعل ذلك بمثل ما يعيش مترجم الشعر قصيدة الشاعر الأصلي ولكنه يعيشها في لغته هو التي يترجم إليها، حاول أن ترسم لنفسك هيكلا تخطيطيا عاما للحياة عند أسلافنا، فكيف تراها؟ أما أنا فأراها حياة تتركز أساسا في رءوس ثلاثة: خليفة وفقيه وشاعر، وبعد ذلك تجيء مناشط الناس من تجارة وصناعة وملاحة بالبحر وانتقال في البر وحروب ... إلخ إلخ، لكن الأقطاب التي تدور حولها الرحى هي هؤلاء، فكيف نترجم هذا الهيكل ترجمة شعرية؟

لم تعد رئاسة الحكم إلى خلافة، ولكنها - إذا سايرت عصرنا - رئاسة تعتمد على جماعة من الفنيين في مناحي الحياة؛ فهم مهندسون واقتصاديون وزراعيون وما إلى ذلك، وليس هذا التغيير مقتصرا على الشكل، بل هو ضارب إلى الجذور؛ لأنه إذا كان الخليفة بغير حاشية من التكنوقراطيين، فهؤلاء التكنوقراطيون اليوم بغير أبهة الخلافة، فالأمر هنا أمر علم وتطبيقه، وليس العلم في حياة عصرنا «متبجحا» كما قال الكاتب العربي الذي أشرت إليه في أول المقال، بل هو من حياتنا اليوم في صميم الصميم، أو ينبغي أن يكون كذلك.

كان الخليفة وإلى جانبه الفقيه يعملان معا على ضبط السلوك ضبطا ترضى عنه قواعد الإسلام، وهذا شيء كان ولا بد أن يكون وأن يظل كائنا، لكن الذي يتغير في «الترجمة» الحضارية هو أن وظيفة «الحكومة» لم تعد محصورة في هذا الإطار، بل امتدت لتشمل كل نواحي النشاط البشري من اقتصاد إلى صحة وتعليم، إلى تنظيم وسائل التسلية في أوقات الفراغ، وأن امتداد نطاق الحكومة إلى هذا المدى الشامل، ليطرد اطرادا دقيقا في عصرنا مع غزارة العلم وما يصحب العلم من تقنيات.

الفنون بمعناها الحديث

وأما دور الشاعر في حياة أسلافنا فهو يلخص دور الفنون كلها بمعناها الحديث: الشعر والموسيقى والتصوير والنحت والعمارة وسائر ما يصاحبها من فروع، فلو ترجمنا الهيكل الحضاري القديم إلى هيكل حديث، قلنا إنه في مكان الخليفة والفقيه والشاعر، أضع العالم والمشرع والفنان، وبديهي أن العالم لن يكون عالما إلا بعلم عصره، وأن المشرع لن يكون مشرعا إلا إذا أخذ في اعتباره حياة عصره، وأن الفنان لن يكون فنانا إلا إذا امتص رحيقه من زهرات عصره، على أن هذا الثلاثي العصري الجديد، سيكون له من تراثه الأصيل إطار عمله كله، وهو إطار قوامه اللغة العربية أداة للتعبير، وقواعد الدين وأصوله أساسا للتشريع.

حاضر الثقافة العربية

1

للفكر العربي - المعاصر منه وغير المعاصر على السواء - موقف يتكرر بصورة متشابهة، كلما التقى بثقافة وفدت إليه من خارج حدوده، وهو موقف يتلخص في أنه، بعد أن يفتح نوافذه للثقافة الوافدة، حتى يتم لها انتشار ورسوخ في دوائر العلم والفلسفة والفن بدرجة ملحوظة ومؤثرة، ينهض من هذه الدوائر نفسها، من يخشى على الهوية الإسلامية العربية أن تضيع، فيعلن معارضته للثقافة الوافدة، معارضة لا بقيمها على مجرد الرفض الأبكم، بل بقيمها على مناقشة لمقوماتها، ملتمسا فيها مواضع ضعف وتناقض، أو مواضع تعارض مع الشريعة الإسلامية، أو مع المبادئ الأولية لوجهة النظر العربية إلى الكون وإلى الإنسان.

على أن هذه المعارضة نفسها، لا تلبث أن تستثير من يتصدى للدفاع عن الثقافة الوافدة، مؤسسا دفاعه في أغلب الحالات، على أنه لا تعارض بين الأفكار الجديدة والشريعة الإسلامية، أو بينها وبين الوقفة العربية، وإنما هي أفكار من شأنها أن توسع وأن تطور وأن تغذي، دون أن تعمل على الهدم أو الإبادة، وقد يحدث أحيانا أن يظهر بين الطرفين فريق ثالث يختار لنفسه موقفا وسطا، يبتغي به إقامة كيان ثقافي جديد، يجمع بين مقومات الطرفين في صيغة ثالثة.

ومن يمعن النظر في بنية الفكر العربي في عصره القديم، وبنيته في العصر الحديث، يلحظ بين الحالتين تشابها شديدا؛ ففي كلتا الحالتين فتحت النوافذ بغير تحفظ أمام ثقافة تجيء من خارج، والذي يهمنا في هذا المقام، هو ما جاء من «الغرب» في كلتا الحالتين: من التراث اليوناني في الحالة الأولى، ومن أوروبا وأمريكا بصفة عامة في الحالة الثانية، وفي كلتا الحالتين كان النقل على نطاق واسع، بل وبتدبير من الدولة؛ فالشبه قريب بين «دار الحكمة» التي أنشأها الخليفة المأمون في بغداد في أواخر الثلث الأول من القرن التاسع الميلادي، لتقوم بترجمة الفلسفة اليونانية والعلم اليوناني، وبين «مدرسة الألسن» التي أنشأها محمد علي في مصر في أواخر الثلث الأول من القرن التاسع عشر، لترجمة ما أمكن نقله من الفكر الأوروبي الحديث، وجعل الإشراف عليها لرفاعة الطهطاوي.

وفي كلتا الحالتين (العصر القديم والعصر الحديث) تغلغل الفكر المنقول في شرايين الحياة الثقافية، فبات أثره واضحا فيما يكتب وما يقال، حتى إذا ما بلغ ذلك مداه، وخيف أن يتجاوز المدى إلى الحد الذي يهدد الطابع الأصيل للفكر العربي عامة، وللشريعة الإسلامية بصفة خاصة، نهض من الأعلام البارزين من يقاومه، ببيان ما انطوى عليه من تناقض، ولقد بلغت المقاومة في العصر القديم فنها في «الغزالي» بكتابه «تهافت الفلاسفة» الذي أراد به أن يظهر مواضع التناقض في الفلسفة اليونانية (وفلسفة أرسطو بصفة خاصة) كما أراد به في الوقت نفسه أن يشير إلى الخطر الذي يتهدد العقيدة الإسلامية بتأثير تلك الفلسفة، ويقابل ذلك في العصر الحديث جمال الدين الأفغاني، بكتابه «الرد على الدهريين» (أي الرد على أصحاب الفلسفة المادية)؛ إذ اضطلع الأفغاني - وبعده الشيخ محمد عبده - بالمهمة نفسها، وهي أن يناقش المذاهب المادية التي شاعت في أوروبا إبان النصف الثاني من القرن الماضي، ومنها نظرية التطور التي أخذ بها دارون، مناقشة أراد بها إظهار مواضع الخطأ كما يراها، ثم أراد في الوقت نفسه أن يبين خطورة تلك المذاهب على العقيدة الإسلامية.

وفي كلتا الحالتين - العصر القديم والعصر الحديث - لم تكن تلك المقاومة لتفلت دون أن يتصدى لها مؤيدون للثقافة الجديدة الوافدة، ولقد كانت المواجهة التي قامت بين «تهافت الفلاسفة» للغزالي، و«تهافت التهافت»، لابن رشد، من أهم ما رصده تاريخ الفكر الإسلامي العربي في هذا الصدد؛ إذ لم يكن الأمر في تلك المواجهة مقصورا على كتاب أصدره صاحبه ليفند به كتابا أصدره مؤلف آخر، وإلا فتاريخ الفلسفة مليء بأمثال هذه المعارضات، التي يرد بها فيلسوف على ما نشره فيلسوف آخر، بل إن المعارضة التي قامت بين «تهافت الفلاسفة» للغزالي، و«تهافت التهافت» لابن رشد، كانت في حقيقتها تعارضا بين وقفتين حضاريتين، ونظرتين ثقافيتين، فكأنما الاختلاف بين الرجلين كان اختلافا حول الإجابة عن هذا السؤال: أنأخذ حضارة معينة بعض أصولها الثقافية من حضارة أخرى؟ لا سيما إذا كانت الحضارتان من لونين مختلفين، أم إن في هذا الأخذ خطرا على المتلقي أن تنمحي هويته في هوية من جاء منه العطاء؟ ومن أجل هذه النقطة ذاتها، كان المؤيد للنقل عن الآخرين، يستند دائما إلى الزعم بأن مثل هذا النقل لا يتعارض مع الملامح الرئيسية للثقافة الناقلة.

وكما تصدى ابن رشد قديما للغزالي في ثورته على فلسفة اليونان المنقولة إلى الثقافة العربية، كذلك تصدى كثيرون في عصرنا الحديث للذين أرادوا مقاومة الأخذ عن ثقافة الغرب؛ فإلى جانب الأفغاني في «الرد على الدهريين» كان هناك شبلي شميل الذي بذل جهده كله دفاعا عن تلك المذاهب المادية التي هاجمها الأفغاني، ولو استعرضنا الفكر العربي خلال ما انقضى من القرن العشرين، لوجدناه سلسلة من مواجهات جاءت على هذا النمط: فكر يأتي من الغرب، فيسري في حياتنا الثقافية، فينهض من يقاومه لخطره على الطابع الأصيل، فلا يلبث أن يظهر من أنصار الجديد من يدافع عن الفكر الوافد، بحجة أنه مصدر قوة لنا لا مصدر ضعف.

والذي نلحظه في هذا التعاقب بين النقل عن الآخرين، ثم معارضة المنقول، ثم معارضة المعارضة، هو أنه - في جميع الحالات تقريبا - كان الأقدر على البقاء على طول المدى، هو الطابع الأصيل التقليدي الموروث، ولكنه يبقى بعد أن يكون قد امتلأت خلاياه بغذاء صحي مما استمده من الثقافات الأخرى، ولا غرابة - إذن - أن نجد اللقاء الحاد بين الغزالي من جهة وابن رشد من جهة أخرى، قد انتهى إلى رسوخ الغزالي في الوجدان العربي والإسلامي، على حين أن ابن رشد كادت تقتصر أهميته على الغرب، عن طريق شروحه للفلسفة الأرسطية، وكذلك ما حدث في اللقاء الفكري بين أنصار التقليد وأنصار التجديد في حياتنا المعاصرة؛ فالبقاء الأقوى هو لأنصار التقليد، ولكنه بقاء أترعت شرايينه بدماء الفكر الجديد.

2

على أنه إذا كان هناك ذلك الشبه في خطوات التعاقب التي شهدها الفكر العربي قديما والفكر العربي حديثا، فهنالك بينهما من اختلاف ما له في موضوعنا هذا أهمية كبرى، وذلك أن الأمر في الحالتين قد تغيرت صورته تغيرا بعيد المدى، من حيث درجة التركيب، فبينما هو في الحالة الأولى لم يزد على لقاء بين موضوعين، أحدهما - وهو الشريعة الإسلامية - قائم وأصيل، والآخر - وهو الفلسفة اليونانية - وافد ودخيل، نراه في الحالة الثانية قد كثرت عناصره وتعقدت، ولم يعد لقاء بين موضوعين، بل أصبح لقاء بين أكثر من موضوع في الجانب الأصيل، وأكثر من موضوع في الجانب الوافد.

فها هنا شريعة إسلامية يراد لها أن تصان، كما كانت الحال في الموقف القديم، لكننا أضفنا إليها في موقفنا الحاضر لغة عربية وأدبا عربيا وعددا كبيرا من نظم الحياة كما كانت قائمة، ثم وفد إلينا كذلك جملة عناصر متشابكة دفعة واحدة، فجاءت العلوم الحديثة على اختلافها، وجاءت معها أجهزتها والآلات الناجمة عنها، وجاءت إلينا فنون الغرب بشتى ألوانها، من موسيقى إلى تصوير ونحت وعمارة، كما جاءت معها صور جديدة للأدب لم تألفها من قبل، إذ جاءت المسرحية والقصة (بمعناها في الأدب الغربي)، ثم جاءت إلينا مع العلوم والفنون وصور الأدب، نظم لم تكن هي النظم السائدة عندنا، نظم في الحكم وفي الاقتصاد، وفي القضاء، وفي التعليم، وفي سائر جوانب الحياة، فكان محالا - والحالة هي هذه - أن يقتصر الأمر على ما اقتصر عليه في الموقف القديم، بأن تنحصر المسألة في عملية التوفيق بين الشريعة الإسلامية والفلسفة اليونانية، بحيث أصبح الحل عندهم - أو أوشك أن يكون - قراءة للفلسفة بلغة الشريعة، أو قراءة للشريعة بلغة الفلسفة، فتزول بذلك أوجه التباين بين الجانبين، بل تعقد الأمر في موقفنا الحديث تعقدا تعذر علينا معه أن نجد له حلا حاسما إلى يومنا هذا.

لقد بدأ اللقاء الثقافي الجديد منذ أكثر من قرن ونصف قرن، وكانت نقطة البداية هي الشرارة التي انقدحت عند التقاء الثقافة العربية، بعد بيات شتوي دام نحو ثلاثمائة عام، بالثقافة الأوروبية الحديثة، وعندئذ اضطربت صفوفنا، وانقسمنا مجموعات أشتاتا، كل منها ترى الخطأ فيما تراه الأخرى صوابا، وهي مجموعات ما تزال إلى يومنا هذا - بعد ما يزيد على قرن ونصف قرن - مشتتة الفكرة، متفرقة الرأي، تتباين - وهي متجاورة - تباين الألوان في طيف الشمس.

فهنالك طرفان متطرفان: طرف منهما يجزع من الثقافة الغربية الحديثة أشد الجزع، ويعدها ثقافة دخيلة تستهدف التسلط والسيطرة، ويلوذ منها بمكمن من التراث العربي الإسلامي الصرف، حتى ليكتب الكاتب من هذه الجماعة، وكأن عشرة قرون لم تذهب من عمر الزمان، وأما الطرف المتطرف الآخر، فيفرح بالثقافة الغربية الجديدة فرحة الأطفال باللعب والهدايا، يقبلونها ولا يحللونها، ويلمسون أسطحها ولا يتعمقونها إلى ما وراءها؛ فهؤلاء يفزعهم أن تذكر لهم شيئا عن تراث عربي، ينبغي له أن يخرج إلى الضوء ليحيا بنا ولنحيا به، وبين هذين الطرفين، تجد صنوفا شتى من الأمزجة، التي تأخذ بطرف من هنا وطرف من هناك، بنسب متفاوتة.

فمنهم من يقبل الغرب كله وتراثنا العربي كله، ويحسب أن الجمع بينهما في تجاور أمر ممكن، كما صنع العقاد، ومنهم من يقبل الغرب كله، وبعض التراث العربي دون بعض كما صنع طه حسين، ومنهم من يقبل التراث كله وبعض الثقافة الغربية دون بعض، كما صنع محمد عبده في قبوله للعلوم الحديثة، ومنهم من يتحفظ في قبول التراث وفي قبول الغرب معا، بمعنى أن يجري التعديل في كليهما، كما صنع أحمد أمين وتوفيق الحكيم، ومنهم من يكاد يرفض الجانبين معا، فلا هو قد تعلم شيئا من التراث العربي ليعرفه، ولا هو يرضى بقبول الثقافة الغربية كما هي، خشية أن يقال عنه إنه متنكر لأصوله، وأمثال هؤلاء تراهم اليوم بكثرة، خصوصا في ميادين الأدب من شعر وقصة ومسرحية؛ ومن هنا جاءت سطحيتهم، ولكن من هنا أيضا جاء السر في إبداعهم الذي يحاولونه بدرجات متفاوتة من التوفيق، وذلك لأنهم حين أزاحوا عن عواتقهم القيود التقليدية أو المنقولة عن الغريب، انفسح أمامهم مجال الخلق الجديد.

ولكن هذا كله قد حدث حينما كان أمامنا قديم وجديد موضوعين جنبا إلى جنب، فكان علينا أن نختار بينهما، أو أن نمزجهما في مزيج واحد، وأما في الميادين التي لم يكن أمامنا فيها إلا بديل واحد: فإما هو قديم لم ينافسه جديد، وإما هو جديد لم ينافسه قديم، فلم يختلف فيه الرأي عندنا إلا قليلا؛ فليس بيننا - مثلا - من يتشكك في أن تكون لغتنا العربية هي الأداة الرئيسية في نقل الثقافة ونشرها، كما أنه ليس بيننا - من الجهة الأخرى - من يتشكك في تقبل العلوم الحديثة بأجهزتها وآلاتها.

خليط متباين الخطوط كما ترى، وهو خليط يدل على أننا لم نفق بعد من هول الصدمة التي اصطدم بها الفكر العربي بالفكر الغربي الحديث، ولا عجب - إذن - أن يمضي على بدء نهضتنا الحديثة أكثر من قرن ونصف قرن، دون أن يكون بين أيدينا الصيغة الثقافية الجديدة التي نطمئن إليها.

ونتج عن غياب هذه الصيغة، أن أصبحت ردود أفعالنا لفروع الفكر الوافد إلينا من الغرب، ردودا تختلف باختلاف الموضوع، ومع ذلك فنحن في كل موضوع على حدة لا نلتقي جميعا على رأي واحد، وحتى أكثر هذه الموضوعات قبولا، وهو العلم الحديث بميادينه المختلفة، فنحن إلى اليوم مختلفون تجاهه من عدة وجوه، مختلفون في أمر تعريبه، فمنا من يأخذ بالتعريب الكامل لكل الميادين، لكي نصب ثقافة العصر في لغة عربية، فيجوز عندئذ - وعندئذ فقط - للعربي أن يقول إنه يعيش عصره حقا، ومنا من يريد أن يقصر التعريب على ميادين دون أخرى، فلا بأس عند هؤلاء أن تظل موضوعات كالطب وبعض العلوم الأخرى في لغة أوروبية - اللغة الإنجليزية بصفة خاصة - بحجة أن تلك العلوم سريعة التغير، ويتعذر على التعريب أن يلاحقها.

على أن قبولنا العام للعلوم الحديثة، لا يشمل العلوم الإنسانية؛ إذ إننا في هذا المجال مختلفون اختلافات بعيدة، وعلة ذلك هي أننا حين نكون بصدد علوم تمس الإنسان وحياته، فنحن بالتالي نكون أمام صنوف من الرأي قد تمس القيم الموروثة التي نعدها جزءا من كياننا، وقد يبلغ اختلاف وجهات النظر بيننا في العلوم الإنسانية الحديثة، حدا يجعل بعضنا يطالب بعلم اجتماع إسلامي وعلم نفس إسلامي، وعلم اقتصاد إسلامي وهكذا، على أن ما يلفت النظر في هذا السياق هو أن الفكر السياسي - على خطورته البالغة في حياة الإنسان - قلما نسمع من يطالب جادا بفكر إسلامي في السياسة، وحتى إن وجد من يطالب بهذا، فإن مطالبته عندئذ تكاد تخلو من دقة المعنى، ولذلك فنحن في هذا المجال الهام - من الناحية العملية - إذا انقسمنا فيما بيننا، فإنما يجيء انقسامنا داخل إطار الفكر السياسي الآتي إلينا من الغرب، من حيث صورة الدولة والمفاهيم الرئيسية التي يقام عليها نظام الحكم.

وننتقل من دنيا العلوم إلى عالم الفنون والآداب، فترانا كذلك بغير صيغة موحدة من حيث قبول الفن الغربي أو رفضه، ومع ذلك فاختلافنا في هذا المجال تتفاوت درجاته في الفروع المختلفة؛ فالرفض هو الراجح بالنسبة إلى الموسيقى، وقليلون جدا هم الذين يناصرون الأخذ عن الموسيقى الغربية، ومع ذلك فالتيار جارف بسرعة متزايدة نحو تطعيم الموسيقى العربية بعناصر من الموسيقى الغربية، وأما في الفنون التشكيلية، التصوير والنحت، فالأمر على عكس ذلك تماما؛ لأن الأصل هنا هو مسايرة المدارس الفنية التي تنشأ في الغرب، فإذا سمعنا صيحة احتجاج من هنا أو من هناك، تطالب بأن نرتد إلى أصولنا الفنية، كان رجع الصدى عند رجال الفن هو أن يقحموا على أعمالهم بعض العناصر المحلية، ليضفوا على تلك الأعمال طابعا يحمل خصوصية الإقليم، والذي يبرر لرجال الفن أن يركنوا إلى مسايرة الغرب، هو أن تراثنا في الفن التشكيلي يرتد إلى الماضي السحيق - كالفن الفرعوني بالنسبة للفنان المصري - فلا يكون ملزما لبعد المسافة التاريخية، ومع ذلك فلا يخلو الأمر من مثل هذا الارتداد الذي يستلهم الفنان فيه ذلك الفن القديم، كما نرى - مثلا - في نابغة النحت المصري الحديث محمود مختار.

وفي ميدان الأدب مفارقة تستوقف النظر، وهي أنه على الرغم من أن موروثنا في الأدب أغزر من موروثنا في أي ميدان آخر، فذخيرتنا في الشعر بصفة خاصة، وفي الفن الأدبي بصفة عامة، تعد ركيزة أساسية في بنية الثقافة العربية، وموضع اعتزاز عند المثقف العربي، حتى لقد رفض القائمون على حركة الترجمة التي نشطت في القرن التاسع الميلادي في نقل الثقافة اليونانية القديمة، أن ينقلوا شيئا من أدب اليونان، واكتفوا بنقل الفلسفة والعلم، وكان السبب في موقفهم ذاك - ربما ضمن أسباب أخرى - أنهم لم يشعروا أمام إنتاجهم الأدبي الخاص، بحاجة تدعوهم إلى اللجوء إلى أدب الآخرين، أقول إنها مفارقة في موقفنا الآن من أدب الغرب، إنه برغم غزارة تراثنا الأدبي وارتفاع مستواه، كان تأثرنا بأدب الغرب أقوى ما يمكن أن يكون التأثر، حتى لقد تحول مركز الاهتمام من الشعر (والشعر هو من أبرز ملامحنا التقليدية) إلى القصة والمسرحية، وهما صورتان من الأدب منقولتان عن الغرب؛ إذ لم يكن للأدب العربي قبل ذلك عهد بأي منهما، فلا القصة بمعناها في الغرب الحديث، ولا المسرحية، كان لها وجود عندنا، وحتى الشعر، الذي قال عنه الجاحظ قديما إنه أميز ما يميز العبقرية العربية، قد تأثر في عصرنا هذا بالاتجاهات الجديدة في شعر الغرب، إلى الحد الذي تنكر فيه كثير من شعرائنا المحدثين لتراثنا الشعري في كثرته الغالبة.

وتبقى كلمة نقولها في مجال الفكر الفلسفي عندنا اليوم؛ فها هنا لا يصعب على الرائي أن يلحظ تيارين يسيران جنبا إلى جنب، لا يكاد الواحد منهما أن يؤثر أو أن يتأثر بالآخر، أحدهما يعيد إلى الضوء أعمال الفلاسفة المسلمين الأقدمين، إما عن طريق إعادة نشر تلك الأعمال نشرا علميا محققا، وإما عن طريق التأليف الجديد الذي يعرض ما تضمنته تلك الأعمال، وفي كلتا الحالتين يندر جدا أن يجيء العرض الجديد على صورة نقدية؛ إذ الأغلب أن تحاط المادة المعروضة بهالة من التمجيد، وأما التيار الآخر فهو أصداء للمدارس الفلسفية في أوروبا وأمريكا، وكان من حسن الحظ أن وجدت كل مدرسة من تلك المدارس أنصارا بيننا، لا يكتفون بمجرد النقل، بل هم يطبعون ما ينقلونه بلمسات من ذواتهم، توشك معها المادة المنقولة أن تصبح وكأنها إنتاج عربي معاصر.

ولا بد لنا في سياق هذا الحديث عن الفكر الفلسفي أن نذكر حركة قوية لها مغزاها، وأعني بها تلك الجهود التي تبذل من بعض المختصين في سبيل إقامة الأدلة على أن الفلسفة الإسلامية كما ورثناها عن أسلافنا، ليست مجرد انعكاس لفلسفة اليونان الأقدمين كما هو الظن عند كثير من مؤرخي الفلسفة الغربيين، بل إن فيها من الأصالة ما يجعل لها كيانا مستقلا قائما بذاته، وكان مصطفى عبد الرازق في أربعينيات هذا القرن هو الرائد في هذا الاتجاه، ثم تبعه آخرون من الباحثين القادرين.

خلاصة القول هي أننا في التقائنا بثقافة الغرب في عصرنا، لم نكن على موقف واحد في شتى مجالات الفكر والفن والأدب، بل تنوعت ردود الفعل بتنوع الميادين، وتفاوتت شدة وضعفا؛ فقد ننقل نقلا كاملا في مجال كمجال العلوم، وقد نتحفظ في النقل كثيرا أو قليلا في مجالات أخرى؛ فلم تكن حالنا في هذا العصر شبيهة كل الشبه من حيث درجة التعقيد والتركيب بحالة أسلافنا في القرن التاسع عشر عندما وقفوا من أوروبا وغيرها، مثل وقفتنا اليوم، وربما عزونا ذلك - من بعض الوجوه - إلى فارق هام بيننا وبينهم؛ فبينما هم كانوا ينقلون عن سواهم حين كانوا هم في موضع القوة والريادة، ترانا اليوم حين ننقل عن الغرب، فإنما نفعل ذلك في وقت يمسك الغرب خلاله بزمام القيادة والريادة.

3

على أنه إذا كانت ردود فعلنا على ثقافة الغرب الحديث قد تفاوتت فيما بينها، قبولا ورفضا وشدة وضعفا في المجالات المختلفة، فلا يصعب علينا برغم هذا التفاوت أن نرى وراء هذا التنوع شيئا من التجانس في الخطوط الرئيسية، هو الذي يحدد ملامح الفكر العربي الحديث، ويمكن النظر إلى هذا التجانس على درجتين:

الأولى:

هي أن ننظر إلى الفكر العربي المعاصر إبان سنوات القرن العشرين على مرحلتين، ولنأخذ عشرينيات القرن نموذجا للمرحلة الأولى، والسبعينيات نموذجا للمرحلة الثانية، فعندئذ تسهل علينا رؤية الوجوه المتجانسة في كل مرحلة على حدة (وسنرى بعد قليل أن كلتا المرحلتين تعودان فتلتقيان في أسس واحدة).

أما في العشرينيات، التي كانت قد بدأت بثورة سياسية تطالب بالحرية السياسية من المستعمر الأوروبي، فقد تفجرت عدة ثورات فرعية تلتمس الحرية في كل ميدان من ميادين الحياة الثقافية: الموسيقى، والشعر، والنقد الأدبي، والفنون التشكيلية، والدراسات الأكاديمية، ولم تقم تلك الثورات الفرعية على نزوات سرعان ما تختفي، بل قامت على نهج مستقيم ثابت، كان قوامه ذا شطرين: إحياء التراث بالطرق العلمية، وعرض الفكر الأوروبي عرضا محايدا، وكان الأمل أن يلتقي ذاك الشطران فيتولد عنهما وليد جديد يكون هو الفكر العربي المعاصر، المطبوع بطابع العربية من جهة وبطابع العصر من جهة أخرى، وكان الأغلب أن تجتمع تلك الأضلع الثلاثة في الرجل الواحد من الأعلام الرائدين؛ فطه حسين - مثلا - أحيا التراث وعرض ثقافة أوروبا وأنتج الفكر الأصيل المبتكر المستند إلى ذينك المصدرين، في وقت واحد، وكذلك فعل العقاد، وفعل توفيق الحكيم، وفعل الدكتور هيكل، وغيرهم من رجال العشرينيات.

كانت تلك النظرة غير المتحيزة هي وجه التجانس إبان العشرينيات، التي نعدها بحق ذروة عصر التنوير في تاريخنا الفكري المعاصر، وأما السبعينيات فقد سادها تجانس من نوع آخر مضاد، هو العودة إلى أحكام الشريعة الإسلامية في شتى الميادين، وهي عودة تشيع فيها روح الرفض لثقافة الغرب إلى حد كبير.

والثانية:

هي أنه برغم التناقض الظاهر بين المرحلتين، فليس من العسير أن نكشف لهما معا عن جذور مشتركة، هي التي نراها ممثلة للفكر العربي المعاصر في صميمه، وتتلخص تلك الجذور في مطلبين نسعى جميعا إلى تحقيقهما، وإن تفرقت بيننا سبل الوصول، وهما: تثبيت الهوية العربية من جهة، وسد الفجوة بيننا وبين علوم العصر العقلية من جهة أخرى، أما تثبيت الهوية العربية فهو مرتبط ارتباطا وثيقا بمطلب الحرية، فليس بخاف أن المستعمر للشرق العربي فترة من الزمن، كان أوروبيا ومسيحيا في آن واحد، فكيف السبيل إلى التخلص من ذلك المستعمر إلا أن ألوذ بحياة إسلامية خالصة، وأن أقف موقف الحذر من ثقافة أوروبا التي منها جاء ذلك المستعمر؟ ونتج عن هذه الوقفة نفسها أن أحاول نشر التراث العربي والإسلامي، مع الاجتهاد في شرحه شرحا يبين أنه في صميمه لا يتعارض مع متطلبات العلم الحديث منهجا ومضمونا.

فلو استثنينا عددا قليلا من رجال الفكر في الوطن العربي منذ ما يزيد على مائة عام، وهم أولئك الذين لا يجدون بأسا في أن ننقل الثقافة الغربية الحديثة بحذافيرها وبغير تحفظ أو حذر، أقول إننا لو استثنينا ذلك العدد القليل من المتطرفين نحو الغرب، وجدنا الكثرة الغالبة من رجال الفكر حريصة كل الحرص على تثبيت الهوية القومية بكل الوسائل الممكنة، من إحياء التراث القديم ونشره على أوسع نطاق ممكن، والعودة بكل إخلاص إلى الشريعة الإسلامية كما كانت في أصفى عصورها الأولى، إلى الرغبة الشديدة في بعث الفنون الشعبية والأدب الشعبي (فولكلور)، والزهو بارتداء الثياب الدالة على الانتماء إلى الوطن، واختصارا فإن الكثرة الغالبة من المفكرين منذ ما يزيد على قرن من الزمان، لا تألو جهدا في إبراز الخصائص الذاتية بكل وسيلة ممكنة.

لكنها وهي تسعى نحو هذه الغاية لرد اعتبارها بعد فترة طويلة من تحكم المستعمر الغربي، لم يفتها أن تتقبل التحدي الكبير الذي يلقيه العصر، ألا وهو العلم الحديث بكل فروعه الطبيعية والرياضية والاجتماعية، وما صحب تلك العلوم من تكنولوجيا، فكان جواب الفكر العربي المعاصر على هذا التحدي، هو الإصرار على أن الإسلام يقبل بل ويحض على انتهاج مناهج العلم كائنة ما كانت على اختلاف عصورها؛ لأن تلك المناهج قائمة على منطق العقل، ومنطق العقل هو ما يتميز به الإسلام في دعوته الصريحة المتكررة للتفكير المستند إلى إقامة الدليل، ونظرة سريعة إلى ما تخرجه المطابع العربية خلال ربع القرن الأخير، كافية لإدراك النسبة الكبيرة التي ظفرت بها المؤلفات التي أريد بها بيان الاتساق الكامل بين ما جاء به الوحي، وما انتهت إليه علوم العصر.

ولسنا نذكر هذه الحقيقة هنا لنؤيدها أو لندحضها ، بل لنقرر بها الأمر الواقع فيما يختص بالصفات الرئيسية المميزة للفكر العربي المعاصر؛ فمنذ الشيخ محمد عبده ومحاولاته الناجحة في معظم الحالات، بأن يفسر مبادئ العقيدة الإسلامية وأحكام شريعتها، تفسيرا يبين به أن تلك المبادئ ليس فيها ما يتعارض مع علوم عصرنا، أقول إنه منذ نهج محمد عبده هذا المنهج، بات هو المنهج الذي يرسم خطوات السير لرجال الفكر جميعا (باستثناء القلة التي ذكرناها) إلى يومنا هذا، مع اختلافات فرعية داخل هذا الإطار، خصوصا فيما يتصل بالعلوم الاجتماعية إذا ما مست شيئا من قيم الحياة الأساسية.

على أن هذا الموقف السلبي الذي يلوذ بحصنه التاريخي، ويكتفي من علوم عصره بأن يتلقاها راضيا، على أساس أن ثقافته التقليدية لا تتعارض معها، وإن يكن هو الموقف الذي يصطنعه جمهور المتعلمين بصفة عامة، إلا أنه ليس هو موقف الرواد في مجال الفكر؛ فهؤلاء الرواد لا يرضيهم أن تظل حياتنا الثقافية على هذه الصورة السكونية السلبية التي قصارى جهدها هو أن تبين أن لا تعارض بينها وبين ما يعج به الغرب من علوم وفنون، بل يريدون أن يقيموا من عناصر الثقافة التقليدية الموروثة نفسها نمطا جديدا، بمعنى أن يستلهموا الماضي في استخراج صيغة عربية جديدة تتلاءم مع روح العصر؛ فليس النموذج الأمثل المنشود عند هؤلاء هو - مثلا - ما دعا إليه المفكر الجزائري مالك بن نبي من أن البنيان الثقافي إما أن يقوم على أسس أخلاقية وإما أن يقوم على أسس جمالية، وأن ثمة برزخا بين النمطين، فإذا زعمنا أن الثقافة العربية الأصيلة من الطراز الأول، وأن ثقافة الغرب من الطراز الثاني، لم يكن ثمة أمل في أن تستقي إحداهما من الأخرى، وكذلك ليس النموذج الأمثل المنشود عند هؤلاء الرواد، هو ما يحاوله المفكر العراقي محمد باقر الصدر من محاولة إيجاد صورة إسلامية للعلوم الإنسانية كالفلسفة والاقتصاد والمنطق؛ لأن مثل هذه المحاولة في حقيقتها بمثابة إقامة السدود التي تحول دون أن تمتزج الثقافتان في تيار واحد، بل إن النموذج الأمثل المنشود هو قريب جدا مما حاول صنعه طه حسين، ومؤداه أن نجدل الثقافتين في جديلة واحدة، يكون طابعنا الأصيل الموروث أحد مقوماتها، ومناهج العصر وحصيلة علمه وفنه مقومها الآخر، وقد يتحقق ذلك بأحد اتجاهين: فإما أن نستعير من الغرب الإطار لنملأه بمضمون من عندنا، كما حدث في أدب القصة والمسرح وفي النقد الأدبي على يديه، وإما أن نستعير المضمون الفكري من الغرب لنضعه في إطار من عندنا، كما يحدث فيما ننقله إلى العربية من علوم، وفيما نطوره من مدارس الفن الغربي لنخرج فنا يلائم ذوقنا، وواضح أننا في كلتا الحالتين نحقق شيئا جديدا ذا طابع خاص، فلا هو بالضبط ما يصنعه الغرب، ولا هو بالضبط ما صنعه العرب الأقدمون.

طريق العقل في التراث الإسلامي

1

القرآن الكريم هو كتاب الإسلام، أوحي به إلى النبي محمد عليه السلام، وقد ورد في الكتاب أن محمدا هو «خاتم النبيين»، وبهذا كانت رسالة الإسلام هي آخر رسالة سماوية إلى الإنسان؛ وتعليل ذلك هو أن الإنسان - بناء على العقيدة الإسلامية نفسها - قد أحيل إلى أحكام «عقله» كلما جدت له في حياته مشكلات يريد لها حلا، بعد أن كانت تلك المشكلات، كلما تراكمت، هبطت الهداية من السماء، رسالة إلى نبي ليهدي بها قومه إلى سواء السبيل.

إنه لو كانت مسائل الحياة العملية كلها، محلولة بنصوص مباشرة وصريحة، في شريعة كتاب منزل على نبي - منذ نزول الرسالة وإلى الأبد - لما احتاج الإنسان في مواجهة حياته، لا إلى رسالة إلهية أخرى تهديه، ولا إلى عقله ليحتكم إليه كلما أشكل عليه أمر من أموره، إلا بمقدار ما يستطيع به أن يستخرج للموقف الطارئ حكمه المناسب من كتاب الله، لكن حقيقة الأمر، هي أن الإنسان - على طول المدى - قمين أن يواجه أحداثا طارئة غير مسبوقة بأشباه لها، ولا منصوص عليها في الكتاب الموحى به من السماء؛ فها هنا يريد الإسلام من المسلم أن يحتكم إلى منطق العقل، وكانت تلك هي المرة الأولى في الرسالات الإلهية، أن يحال الإنسان - بحكم الرسالة نفسها - إلى عقله، كلما جدت مشكلة لم يرد لحلها نص في كتابها.

وماذا يقصد بالعقل ومنطقه في هذا السياق؟ المقصود به أمور ثلاثة على وجه التخصيص، إن لم يكن كذلك على وجه الحصر والتحديد:

أولها:

استخدام منهج الاستدلال، الذي يتيح للباحث أن يستخرج من النص القائم محتواه، وذلك حين يكون ذلك المحتوى مضمرا في الألفاظ وتركيبها، بحيث يحتاج ظهوره إلى تحليل، والتحليل عملية عقلية.

وثانيها:

هو قراءة الشواهد الحسية، قراءة تؤدي إلى فهمها وتعليلها، على نحو يكون من شأنه حل المشكلة الطارئة.

وثالثها:

النظر إلى القيم - والقيم الأخلاقية بصفة خاصة - نظرة موضوعية مطلقة، بمعنى لا يجعلها أمورا ذاتية تتغير مع الأهواء، كما لا يجعلها مرهونة بظروف الزمان والمكان؛ وما دام أمرها كذلك، فإنه يصبح في وسع الفقيه الموهوب أن يحكم على ما يعرض له من مواقف طارئة جديدة، غير منصوص عليها نصا مباشرا صريحا، حكما يميز فيه بين ما هو حق وما هو باطل.

2

ركون المسلم إلى عقله، فيما يشكل عليه، مما لم ترد في شأنه نصوص، هو الدعامة الأولى في الوقفة العقلية عند الإسلام، تلك الوقفة التي أقام عليها حضارته وثقافته على امتداد تاريخه، خلال القرون التي شهدت قوته وقدرته على الإبداع.

وكان الناس قبل ظهور الإسلام، قد ألفوا ضربين من الحضارة ومن الثقافة، اختلفا فيما بينهما إلى حد التنافر، بل إلى حد المقاتلة في حروب مستعرة يعرفها المؤرخون؛ وهاتان الحضارتان والثقافتان، المتنافرتان إلى حد القتال، هما حضارة الفرس وثقافتهم من جهة، وحضارة الروم (اليونان) وثقافتهم من جهة أخرى، المحور في الحالة الأولى هو الإملاء يفرض على الإنسان طريقة فكره ونمط سلوكه، والمحور في الحالة الثانية هو عقل الإنسان، يقيم له الحجة على الباطل فيرفضه، ويسوق له البرهان على الحق فيرتضيه.

كان الظن هو ألا سبيل إلى لقاء بين «شرق» متمثلا في فارس، و«غرب» متمثلا في اليونان، فلما اكتسح الإسكندر الأكبر بجيوشه هذه الرقعة من الأرض التي امتدت بين اليونان والهند، بما في ذلك بلاد الفرس، قيل إن أهم أهدافه هو أن يحطم الحاجز الحضاري الثقافي الذي أشرنا إليه، حتى يصبح العالم المعمور عندئذ متجانسا كله، فلا يكون بعد ذلك «شرق» هنا و«غرب» هناك، ولكن كل ما تمنى الإسكندر الأكبر لنفسه وللعالم قد أدركه أو حققه؛ إذ لم يكد يطوي الزمان صفحته، حتى أوشك الأمر أن يعود إلى ما قد كان عليه قبل الإسكندر وحروبه.

ثم جاء الإسلام في أوائل القرن السابع الميلادي، ومع فتوحه، انهدمت الفواصل بين فرس وروم، وظهرت بوادر قوية تشير إلى ظهور وحدة الإنسان؛ فتلك الوحدة هي في الصميم من الإيمان الجديد، كأنما كانت تلك الخطوة هي الأولى على طريق المواطن العالمي، الذي لا هو من شرق، ولا هو من غرب، وإنما هو «إنسان»، وكان ذلك الدمج الباهر بين ثقافتين كانتا متنافرتين متناحرتين إلى درجة القتال، هو الذي أخرج إلى العالم تلك الصيغة الحضارية الثقافية الإسلامية الجديدة، وهي الصيغة التي ربما تمناها الإسكندر الأكبر من قبل، ولم يحقق منها إلا قليلا.

وكان السر الذي مكن المسلمين من الاضطلاع بهذا الدور الحضاري العظيم، هو إعداد المسلم بديانة، في مبادئها ما يهيئه الاستخدام المنطق العقلي في شئون فكره ومعاشه، كما في مبادئها كذلك ما يعده للاتصال بالحق صلة مباشرة، وحيا أو شهودا، مما لا يحتاج فيه إلى تدليلات المنطق العقلي ذات الخطوات المتتابعة فيما بين نقطة البدء ونتيجة الختام.

ومن دمج هاتين النظرتين في إنسان واحد - هو المسلم - نشأت الصيغة الثالثة، التي ألفت في مركب واحد، صوفية الفرس وعقلانية الروم؛ وباتت تلك الصيغة الجديدة هي ما يعرف باسم الثقافة الإسلامية من حيث هيكل بنائها، فإذا كانت الصفة الأساسية التي تميز ما كان يعد «شرقا»، هي إدراكه للحق عن طريق حدس صوفي مباشر، بحيث تنعدم الفواصل بين الإنسان العارف والحقيقة التي يعرفها، ثم إذا كانت الصفة الأساسية التي تميز ما كان يعد «غربا» هي أنه في إدراكه للحق يلجأ إلى طريق غير مباشر (هو طريق العقل في الإدراك) بمعنى أنه ينتقل من مقدمة إلى نتيجتها، ثم من النتيجة إلى نتيجتها، وهلم جرا ، حتى يبلغ خطوة النهاية التي يكون فيها البرهان المطلوب على الحقيقة المراد إقامة البرهان عليها؛ فإن الصيغة الثالثة الجديدة، قد جمعت بين إدراك الحدس الصوفي، وإدراك العقل الاستدلالي، بحيث احتملت الحياة الثقافية في الجماعة الإسلامية، أن يظهر فيها أعظم المتصوفة وأعظم مناطقة العقل في آن معا.

والذي يفيدنا في سياق حديثنا هذا، من تلك الصيغة الثقافية الإسلامية، هو جانب «العقل» منها؛ إذ بغير هذا الجانب العقلي من ثقافة المسلمين، ما كانوا ليستطيعوا أن ينقلوا - في عصر المأمون بصفة خاصة - ما نقلوه من فلسفة اليونان وعلومهم؛ وإلا فلماذا نقلت تلك الفلسفة والعلوم إلى العربية، ولم ينقلها أهل الهند أو أهل الصين إلى لغاتهم؟ إن العلة لم تكن في أن لغة تستطيع ولغة أخرى لا تستطيع، بل العلة هي أن ثقافة تتقبل منطق العقل، وثقافة أخرى لا تتقبله.

3

كان القرآن الكريم هو محور العلوم الإسلامية وأساسها؛ فلم يكد القرن السابع الميلادي (الأول الهجري) ينقضي، حتى أخذ العلماء يتجهون بكل جهودهم نحو دراسة الكتاب؛ فكان من المنطقي أن يبدءوا بدراسة اللغة العربية نفسها، لتجتمع لهم أدوات الفهم الصحيح، فلم يريدوا الوقوف من اللغة موقف المتذوق وكفى، بل أرادوا أن يجعلوها دراسة علمية بأدق ما يكون المنهج العلمي؛ إن قواعد اللغة لم تكن قد استخلصت وجمعت إلى ذلك الحين، فانصرفوا إلى استخلاصها وجمعها، وهنا انشعب الباحثون إلى شعبتين، كان لكل منهما منهج في البحث، على أن المنهجين كليهما مما يجيزه منطق التفكير العلمي.

أما الشعبة الأولى فكان مقرها مدينة البصرة، وأما الثانية فكان مقرها الكوفة، وإذا جاز لنا أن نستخدم لغة الفلسفة الحديثة في التمييز بين الشعبتين، قلنا إن فريق البصرة، وعلى رأسه العملاقان العظيمان: الخليل بن أحمد، وتلميذه سيبويه، قد اختار لنفسه أسلوب المنهج «القبلي»، على حين اختار فريق الكوفة أسلوب المنهج «البعدي»، بمعنى أن فريق البصرة قد وضع الأسس العقلية للبناء اللغوي «قبل» أن يتقيد بأوضاع اللغة كما حدثت بالفعل في استعمال الأولين، وأما فريق الكوفة - وعلى رأسه الكسائي - فقد أراد أن يكون السند في القبول والرفض، هو ما استعمله الأولون من اللغة وما لم يستعملوه، فلو عرض للباحث اللغوي لفظ معين أراد أن يحكم فيه بالصحة أو بالخطأ، كانت طريقة علماء البصرة أن يحتكموا فيه إلى القياس العقلي، فإذا وجدوه جاريا مع ذلك القياس، لم يأبهوا بعد ذلك إذا كان القدماء قد استعملوه على هذه الصورة أو لم يستعملوه، أما الطريقة عند علماء الكوفة فكانت أن يراجعوا ذلك اللفظ على ما استعمله الأولون، فإذا وجدوه كان صحيحا، وإلا فهو غير جائز الاستعمال.

كان منهج جماعة البصرة أقرب إلى منهج العلوم الرياضية، بمعنى أن يقام البناء الرياضي على الاستدلال المنطقي المحكم، ولا عبرة بعد ذلك لانطباقه على الواقع الطبيعي أو عدم انطباقه، على حين كان منهج جماعة الكوفة أقرب إلى منهج العلوم الطبيعية، الذي يستمد معطياته من الواقع الفعلي، فتجيء النتائج كلها مطابقة كذلك لما قد حدث بالفعل.

ليست مدارس البحث اللغوي في ذاتها هي موضوعنا هنا، لكننا نذكرها بيانا للوقفة العلمية العقلية التي ميزت علماء المسلمين، كائنا ما كان ميدان البحث؛ فقد كان فهمهم للقرآن فهما صحيحا هو الهدف؛ ومن أجل ذلك هموا بدراسة اللغة بوجه عام دراسة علمية، قبل أن يزعموا لأنفسهم مثل ذلك الفهم الصحيح.

ثم جاءت بعد دراسة اللغة، الخطوة الثانية في طريق الدراسة العلمية، وكان فهم القرآن الكريم هو الهدف، وأعني بتلك الخطوة جهود الفقهاء في استخراج أحكام الشرع، استدلالا صحيحا من النص القرآني، فرأيناهم جميعا، وعلى اختلاف مذاهبهم، وكأنهم أمام عمل تطبيقي لمنطق الاستنباط؛ فمن مقدمات مسلم بصوابها، أخذوا يستنبطون النتائج التي يلزم عنها، فتكون هي بين ما تحكم به الشريعة.

وكان للفقهاء منهجان للنظر كذلك، فانتهج بعضهم منهج ما أسموه بالقياس، وأرادوا به ما يسمى في كتب المنطق بالتمثيل؛ بمعنى أن ما لم يرد في أمره نص يحكم على أساسه، يلجأ فيه الفقيه إلى شيء يشبهه أو يوازيه، مما وردت في أمره نصوص؛ على حين انتهج بعضهم الآخر إلى ما أسموه ب «الرأي»، وقصدوا به رؤية الصواب (أو الانحراف عنه) بنظرة مباشرة ناقدة إلى الموقف المعروض للحكم، تأسيسا على كون القيم أشياء موضوعية، يراها العقل كما يرى سائر الأشياء، ومثل هذه الرؤية تغني عن وجود مثيل للموقف المعروض، بين ما وردت في شأنه نصوص.

ومرة أخرى نقول إنه ليس من شأننا في هذا الحديث، أن نتعرض لتفصيلات الفقه الإسلامي، لكننا نريد بيانا للوقفة العقلية عند المسلمين، في كل مجال من مجالات النظر.

4

كان من الطبيعي أن يختلف الرأي اختلافات بعيدة المدى بين المسلمين، عندما اصطدموا بأول مشكلة سياسية عسيرة، نشأت لهم نتيجة للقتال بين علي ومعاوية حول الخلافة، وذلك أن سؤالا طرح نفسه أمام العقل، وهو: لقد سفكت دماء للمسلمين في ذلك القتال، فعلى من تقع تبعته؟ وما الحكم فيمن يثبت أنه هو المخطئ من الفريقين المتحاربين؟ إن إحدى الجماعتين المتحاربتين - على الأقل - كانت على خطأ في إثارة الحرب وما استتبعته الحرب من سفك الدماء؛ ودون أن نعين أي الجانبين هو المخطئ، يسأل السائل عن حكم الإسلام فيه.

ألقي بهذا السؤال، فكان كأنه الفأس الفائرة، ضربت بها الأرض، فتفجرت ينابيعها؛ إذ انقدحت أذهان المفكرين، وجاءت الإجابات من هنا ومن هناك، وهي إجابات نستطيع أن نردها إلى شعب ثلاث، اختلفت كما تختلف المدارس الفكرية في كل العصور، فإذا استخدمنا طريقة عصرنا في التقسيم، قلنا إنه قد كانت هناك اتجاهات، فيها اليمين المتطرف، وفيها اليسار المتطرف، وفيها الوسط المعتدل.

أما اليمين المحافظ فقد آثر ألا ينسب الخطأ إلى أي من الجانبين، وكيف يفعل وفي كل من الجانبين المتقاتلين صفوة ممتازة من خيار المسلمين؟ وأما اليسار المتطرف في ثورته، فهم الخوارج، الذين أصروا على أن يكون الجانب المخطئ في هذه الحرب خارجا على الإسلام، وبين أولئك وهؤلاء فريق وسط، هو الذي يهمنا بالدرجة الأولى؛ لأنه هو الفريق الذي يمثل موقف العقل في القضايا العامة، ولبث كذلك لفترة طويلة، وأعني به فريق المعتزلة.

فقد طرح السؤال على الحلقة الدراسية التي كانت تلتف حول الحسن البصري فما هو إلا أن خرج واصل بن عطاء - بين الحاضرين - برأي استوقف الأسماع، وتحركت له الأذهان، وهو أن من تقع عليه التبعة في القتال، وفي غير القتال مما يعد من الذنوب الكبيرة، لا يخرجه فعله هذا من إسلامه، بل يظل مسلما، وإن يكن مسلما عاصيا؛ أي إنه يقع في منزلة وسطى بين منزلتي الإيمان والكفر، قال عنها إنها المنزلة بين المنزلتين، ولعل رأيه هذا لم يصادف قبولا عند شيخه الحسن البصري، فانتقل واصل ابن عطاء من مكانه في الحلقة، واتخذ لنفسه مكانا آخر، ولحق به نفر من المؤيدين لوجهة نظره، فقال الحسن البصري عندئذ: لقد اعتزل عنا واصل؛ ومن هنا سمي هذا الفريق على امتداد تاريخه بعد ذلك بالمعتزلة.

وكان أهم طابع يميز المعتزلة هو النظرة العقلية في البحث عن حلول المشكلات المعروضة للنظر، أو في طريقة فهمهم للأفكار التي يراد فهمها على نحو صحيح؛ ونكتفي من أعلام المعتزلة بذكر رجلين، كان كلاهما في البصرة؛ وهما «العلاف» الذي يوصف بأنه شيخ المعتزلة، وتلميذه «النظام» الذي قال عنه الجاحظ إن مثله لا يظهر إلا مرة واحدة في ألف عام.

ولقد ذكر الشهرستاني في «الملل والنحل» عشر مسائل دار حولها فكر العلاف، وثلاث عشرة مسألة للنظام، وكان من أهم الموضوعات التي تناولها العلاف بالبحث، موضوع الذات الإلهية وصفاتها، باحثا عن تصور تفهم به الصلة بين الذات والصفات، فهما يؤدي إلى توحيد حقيقي، ولا يؤدي إلى تعدد بأي معنى من معانيه؛ وكذلك تناول موضوع الإرادة الإلهية، البادية في قول الله تعالى إذا أراد شيئا:

كن

فيكون؛ ثم انتقل العلاف إلى الإرادة الإنسانية، ليرى فيها ضرورة أن تكون حرة الاختيار، ليكون صاحبها مسئولا عما يفعل، وبغير ذلك لا يتحقق العدل، وكان مما بحثه العلاف أيضا، وجوب أن تقام معرفة الإنسان لربه على براهين العقل.

وأما «النظام» فكان يشارك العلاف في مسائل عرفت بها المعتزلة جميعا، كالقول بحرية إرادة الإنسان في اختياره لأفعاله، ليكون للتبعة الخلقية معناها الصحيح، لكنه تميز بسعة الأفق وعمق الغور، حتى ليذهلنا في كثير من المواضع، باقترابه في الرأي من فلاسفة عصرنا هذا اقترابا شديدا، مثال ذلك موقفه من موضوع أثير حوله جدل كثير، وهو عن علاقة الله تعالى بفعل الشر: أهو غير قادر على فعل الشر؟ أم هو قادر على فعله ولكنه لا يفعله؟ فكان الرأي في ذلك عند النظام، هو نفسه الرأي الذي كنا لنسمعه من أصحاب المذهب الإجرائي في المعاني، من فلاسفة عصرنا؛ أي أن معنى عبارة معينة، إن هو إلا مجموعة الإجراءات العملية التي تترتب عليه؛ فإذا اختلفت عبارتان في ألفاظهما، لكنهما يولدان مجموعة من الإجراءات لا تختلف بين إحداهما والأخرى، كان معناهما واحدا برغم اختلافهما في الألفاظ. وهكذا كان موقف النظام من العبارتين السالفتين؛ إذ قال إنه لا فرق بينهما؛ إذ إن الله تعالى لا يفعل الشر على كلا القولين.

ومسألة أخرى يروعنا فيها النظام برأيه الذي سبق به عصرنا بعدة قرون؛ وهو أن الإنسان يعرف بنفسه لا بجسمه، شريطة أن تفهم النفس على أنها وظائف، لا على أنها كيان قائم بذاته في باطن الإنسان، فكأنما أراد النظام أن يقول عن النفس إنها أنماط سلوكية، يراها بعينيه من شاء أن يرى.

ومسألة أخرى تضع النظام في قلب الفلسفة في عصرنا، وهي رأيه عن شيء ما - أي شيء كان - بأنه مساو لمجموعة ظواهره التي تدركها منه الحواس؛ أي أن المعول على معرفة الشيء ليس هو «الجوهر» المزعوم كمونه وراء الظواهر، بحيث إذا ما تغيرت الظواهر، كان له هو الثبات والدوام، فتثبت بالتالي هوية الشيء وتدوم.

بهذا القول عن حقائق الأشياء، يمكن المشابهة بينه وبين «هيوم» في الفلسفة الإنجليزية التجريبية الحديثة، لكن النظام لا يلبث أن ينتقل إلى مسألة أخرى، فإذا هو يشبه في «عقلانيته» ليبنتز شبها شديدا، بل أدهشنا أن يلجأ في التوضيح إلى مثل، كان هو نفسه المثل الذي ساقه ليبنتز في توضيحه لوجهة نظره؛ وذلك أن النظام في رؤيته للعلاقات التي تربط الأشياء بعضها ببعض، قال إنها «تتولد» بعضها من بعض؛ أي أن الشيء يكمن مضمونه في جوفه، إلى أن يظهر ذلك المضمون علانية في وقته المناسب، مثال ذلك (وهنا يشترك معه ليبنتز في المثال) كان آدم يحمل في طبيعته كل من ظهر، ومن سوف يظهر من البشر؛ وهكذا قل في كل شيء، فأفعال فرد من الناس - مثلا - تظهر متتالية على تعاقب لحظات الزمن، لكنها جميعا كانت كامنة في طبيعة صاحبها منذ اللحظة الأولى، كأن الكائن من الكائنات يشبه شريط السينما، في أن تكون القصة كلها مطوية فيه، ثم تأخذ الحوادث في الظهور شيئا فشيئا إذا انبسط ما انطوى.

5

ونمضي مع المسلمين الأولين في تاريخهم الفكري، خلال القرنين التاسع والعاشر بعد الميلاد (الثالث والرابع من تاريخ الهجرة) فإذا نحن أمام حركة عقلية نشيطة دائبة، تنقل «العقل» اليوناني بكل ما قد أنتجه من فلسفة وعلم؛ فإذا كان اليونان عند الغرب هم معجزته الكبرى، لما أبدوه من قدرة على «التنظير» بعد أن لم يكن يعرف الشرق القديم إلا الممارسة العملية؛ فقد كان للمسلمين القدرة على تقبل ذلك الفكر النظري وهضمه، والإضافة إليه؛ وماذا نقول في قوم خلقوا علم الجبر في الرياضة من عدم، وهو ما يزال يحمل اسمه العربي في لغات الغرب، وأضافوا إلى الأعداد «العربية» - كما تسمى في الغرب، برغم افتراضهم بأن العرب نقلوها عن الهند - أضافوا إليها «الصفر» الذي أحدث ثورة حقيقية في علم الحساب، وكان أحد علمائهم في الرياضة - وهو الخوارزمي - هو الذي ابتدع اللوغارتم، وقد سمي كذلك على اسم صاحبه.

وتطول بنا القصة لو مضينا في رواية ما اضطلع به المسلمون في دنيا العلوم بشتى صنوفها، من منطق ورياضة وفلك وطب وكيمياء وغيرها، ذلك أن هدفنا هنا - كما أشرنا من قبل - هو بيان - الاتجاه الفكري العام على طريق المنطق العقلي، دون الوقوف طويلا عند تفصيلات تمتلئ بها الكتب.

وما نقوله عن العلم بشتى فروعه عند المسلمين، نقول أكثر منه عن ميادين الفكر الفلسفي، ويكفينا أن نذكر من لوامع الأسماء في هذا الصدد: الكندي، والفارابي، وابن سينا، وابن رشد، وهم قمم في الفكر الفلسفي بأي معيار نقيس به ذلك الفكر، ولقد كانت الطبقة الفلسفية تلون المناخ الثقافي كله عندهم خلال القرن العاشر الميلادي (الرابع الهجري) بصفة خاصة؛ ففيه ظهرت جماعة إخوان الصفا أصحاب الرسائل المشهورة والمعروفة بهذا الاسم، وهي في مجموعها بمثابة موسوعة شملت أهم ما كان يعرفه العالم حتى ذلك الحين، من فلسفة وعلم وعقيدة، ونستطيع أن نقارنها في مهمتها، وأن نقارن جماعة إخوان الصفا، بفلاسفة عصر التنوير في فرنسا إبان القرن الثامن عشر، وما أخرجوه للناس من موسوعات وما يجري مجراها.

ولو استطرد بنا حديث العقل وطريقه عند المسلمين، لروينا طائفة من ألمع المفكرين في مختلف الميادين، كابن طفيل في رائعته «حي بن يقظان» التي بين في بناء قصصي عميق، كيف أن العقل إذا ترك على سجيته، ينظر ويعلل، لانتهى إلى ما جاء به الوحي في الدين، وابن باجه في «تدبير المتوحد» التي يبين فيه ماذا يمكن للطبيعة الإنسانية أن تصل إليه، حتى لو انفرد الإنسان في عزلة عن الآخرين.

بل إننا لنسلك في طريق العقل شعراء بلغوا ذروة الحكمة الفلسفية في شعرهم، كأبي العلاء المعري، ومتصوفة لم يمنعهم طريق التصوف من أن يسلكوا طريق العقل إلى آخر مداه في عرض ما أرادوا عرضه، كأبي حامد الغزالي؛ ودع عنك نقاد الأدب، الذين بلغوا في تحليل النتاج الأدبي من شعر ونثر، تحليلا بلغ أقصى غاياته، ونكتفي منهم بمثل واحد، هو عبد القاهر الجرجاني؛ ثم ماذا تكون عملية التجميع والتصنيف التي شغل بها علماء المسلمين خلال قرون ثلاثة - الثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر من التاريخ الميلادي - في القاهرة ودمشق، من قواميس اللغة إلى مجموعات تمثل التراث الأدبي العربي؛ أقول ماذا يكون هذا العمل إذا لم يكن عقليا علميا أكاديميا من طراز رفيع؟

ووصلت مسيرة الفكر العلمي المنهجي إلى أعلى ذراها في آخر خطاها، ألا وهو فيلسوف التاريخ ابن خلدون؛ أكان هو تغريدة طائر التم، التي تنم عن موته الوشيك؟ لكن طائر التم هذه المرة لم يمت بعد تغريده، بل رقد في بيات دام معه نحو أربعة قرون مظلمة، ثم أسلمته إلى القرن التاسع عشر حيث استيقظ ليعود سيرته الأولى من ازدهار وعطاء وهو على طريق العقل.

ماضينا وحاضرهم

1

لست أدري إن كان الأمر فيما سوف أعرضه الآن، مدعاة إلى اليأس من العقل البشري وقدراته، أم كان داعيا إلى الأمل فيه؛ فلست أنكر أنني من أشد الناس إيمانا بالعقل وما يستطيعه، حتى ليتعذر علي في كثير من الأحيان - كلما وجدت في العقل الإنساني علائم عجز - أن ألتمس له المعونة في شيء سواه، كأن أحتكم إلى حدس المتصوف أو إلى وجدان الشاعر؛ أقول إنه يتعذر علي أن أيأس من قدرة العقل، فأجاوزه مستعينا بغيره؛ والأمثلة التي تؤيد عندي سلطان العقل، تعد بالألوف ومئات الألوف، فإذا ما رأيته عجز أو كبا، قلت لنفسي: لا عليك، فإنه ناهض من عجزه أو كبوته بعد حين.

لكن إيماني هذا، لا يخفي حيرتي كلما رأيت ما يفكر فيه الإنسان الليلة، شبيها بما كان فكر فيه البارحة، وكأنما أفلاك السماء قد جمدت في أماكنها، وتيار الزمن قد وقف عن جريانه!

فلقد أخذتني حيرة كهذه، عندما قرأت كتابا حديثا لمفكر فرنسي معاصر لنا، يقال إنه ألمع نجم في سماء الفكر الفرنسي اليوم، أما الكتاب فهو الترجمة الإنجليزية لكتاب «الكلمات والأشياء» (والعنوان في الترجمة الإنجليزية معناه «ترتيب الأشياء») وأما مؤلفه فهو ميشيل فوكوه، الذي وجدت من ينعته بقوله إنه «كانط» هذا العصر، كما وجدت من يصف هذا الكتاب الذي أشرت إليه، بأنه أهم إضافة إلى الفلسفة في فرنسا بعد سارتر.

كنت كلما مضيت في القراءة، ازددت حيرة؛ ولعلها حيرة يعود بعض أسبابها إلى أني لم آلف فكرا يجيء على هذه الصورة التي يختلط فيها منطق العقل بنبض المشاعر، اختلاطا لم يسعني إزاءه آنا بعد آن إلا أن أتساءل: أهو فيلسوف هذا المؤلف، أم هو شاعر؟ لا، لم آلف فكرا يجيء على هذه الصورة العجيبة، فكأنما هو تيار دافق بأسرع ما يستطيع الماء أن يتدفق، حاملا معه كل ما يتصوره الخيال من أعلاق: قطع من الحجر، وغصون من الشجر، وأجساد طير وحيوان، وحطام سفائن تحطمت وتناثرت أشلاؤها!

على أني وقفت من مادة الفصل الثاني وقفة متأملة طويلة، بادئا من عنوانه؛ لأن عنوانه هو: «نثر العالم». إذن ففكرة الشعر والنثر كانت تستولي على الكاتب وهو يكتب، مع أن الفرض هو أن لا علاقة لموضوع الكتاب بالفن الأدبي؛ لأنه - كما جاء في العنوان الفرعي للكتاب - «أركيولوجيا العلوم الإنسانية»، والأركيولوجيا هي علم الحفريات الذي يستخرج من طبقات الأرض دفينها من مخلفات الحضارات الماضية، وهدف المؤلف من كتابه هذا أن يحفر في القرون الثلاثة أو الأربعة الأخيرة، ليستخرج من ثناياها تلك العوامل - الظاهرة أو الخافية - التي أخذت تتضافر حتى جعلت من «الإنسان» آخر الأمر موضوعا للعلم، بعد أن لم يكن قط كذلك على مدى عصور التاريخ؛ فكما يبدو من هدف المؤلف، لا مجال لشعر وشاعر؛ إذ الميدان هو من شأن العلم والعالم، أو هكذا ظننت أنا قبل أن أقرأ هذا الكتاب.

أقول إني أطلت الوقوف المتأمل عند فصل عنوانه «نثر العالم»؛ فلقد عرض فيه الكاتب للروابط المختلفة التي تصل الكائنات بعضها ببعض، وصلا يجعل منها كونا واحدا موحدا، وكأننا بإزاء أسرة واحدة تعدد أفرادها، لكن ربطتهم روابط الدم التي لا تنفصم؛ وهو يختار من هذه الروابط الكونية أربعة أنواع، كلها ضروب مختلفة من التشابه الساري بين مختلف الكائنات برغم ما قد نتوهمه فيها من تباين وخلاف؛ ويقول لنا المؤلف عن هذا التشابه الذي سيأخذ في تفصيله، إنه كان المحور الرئيسي للفكر الأوروبي كله منذ قديم وحتى القرن السادس عشر، أو قل حتى أوائل السابع عشر، فهل تستطيع أن تقرأ هذا دون أن يرتفع حاجباك تعجبا: كيف كان ذلك؟ لكن المؤلف لا يدعك في دهشتك طويلا؛ إذ يسوق لك بعض الأمثلة الموضحة، منها تأويل الكتاب المقدس وشروحه، وقد كان لهذا بالطبع أهمية قصوى في العصور الوسطى؛ فتأويل النص أو شرحه كثيرا ما يقوم على ذكر الأشباه والنظائر، فما التأويل إلا أن تستخرج من الجملة معنى باطنا غير المعنى الظاهر، لكن بينهما تشابها (هذا التوضيح من عندي؛ لأن المؤلف لم يوضح ما يريده)، وكذلك كان التشابه محورا رئيسيا قبل القرن السادس عشر، في كل ما لجأ إليه الإنسان من رموز استخدمها ليرمز بها إلى ما أراد الرمز له، فلماذا يختار رمزا معينا لشيء معين، إلا أن يكون بين الطرفين تشابه يراه؟

ثم كيف كان فن التصوير حينئذ إلا أن يجيء محاكاة للكائنات التي يصورها، والمحاكاة لا تكون إلا بين الشبيه وشبيهه؛ وماذا كانت تطمح إليه اللغة أكثر من أن «تصور» ما أرادت التحدث عنه، والتصوير إن هو إلا إبراز الشبه بين الصورة وما تصوره؟ بل إن الأرض كلها في عين الإنسان - كما يقول المؤلف - إنما هي ترجيع للصدى بعد أن جاءها الصوت من السماء، ووجوه الناس ترى أنفسها منعكسة على مرآة النجوم؛ فلكل نجم نفر من البشر يسيطر عليه، وانظر ما يستمده الإنسان من نبات الأرض، فله في جذوع النبات وثماره طعام ودواء، وهل كان ذلك ليكون ما لم يكن هنالك تشابه ما بين نبات وإنسان؟

وبعد أن يطمئنك المؤلف على ما قد زعمه، من أن التشابه بين الكائنات كان هو الأساس الأول لمعرفة الإنسان، حتى القرن السادس عشر، يبدأ في تفصيل القول عن أنواع أربعة منه: أولها التجاور بين تلك الكائنات تجاورا يجعل أطرافها يلتحم بعضها ببعض، أو يتداخل بعضها في بعض؛ فنهاية الواحد منها هي نفسها بداية الآخر، وبسبب هذا التجاور اللصيق، تتنقل الحركة من الجار إلى جاره، وينتقل الأثر والتأثير.

وليس هذا التجاور مقصورا على الأجسام المادية من الظاهر، بل إنه قد يضرب إلى ما وراء ذلك، وخذ مثلا لهذا تجاور الروح والبدن، وما يترتب عليه من تأثر كل منهما بالآخر؛ فالروح يتشكل بشكل الجسد ليلائمه، ويتلقى منه الحركة، والجسد يتأثر بما تنفثه الروح في جوارحه من انفعال وعاطفة؛ ومثل هذه العلاقة الوثيقة بين الروح والبدن، تراه في جميع الروابط التي تشد الكائنات بعضها إلى بعض، مؤثرة ومتأثرة؛ وانظر - مثلا - إلى العلاقة بين النبات والحيوان كيف يحيا كل منهما في الآخر ، أو انظر إلى اليابس والماء، أو إلى الإنسان وكل ما يحيط به من أرض وسماء؛ ألا إن الكائنات ليتداخل بعضها في بعض تداخلا يجعل الطحالب تنمو على قواقع البحر، كما يجعل النبت ينمو على قرون الوعول، وبمثل هذا التواصل الحميم، تترابط الأشياء والأحياء في هذا الكون الفسيح، فينتج من ترابطها ما يشبه حلقات السلسلة، كل حلقة منها فيها شبه بما قبلها وشبه آخر بما بعدها، حتى إذا ما بعدت الشقة بين الطرف الأول والطرف الأخير، كان هنالك بينهما من التباين الظاهر بمثل ما يكون التباين بين الله سبحانه خالق الخلق، ومادة الأرض بما عليها من أجساد.

إن عالم النبات مرتبط بمادة الأرض، ثم هو من الطرف الآخر مرتبط بعالم الحيوان بما بينهما من جانب مشترك هو الاغتذاء والنمو، وأما عالم الحيوان فيعود بدوره من طرفه الآخر فيرتبط بعالم الإنسان، بما بين العالمين من جانب مشترك هو الحس والحركة؛ وبعدئذ يعود الإنسان فيرتبط من طرفه الآخر بأفلاك السماء - أو قل بعالم الملائكة - لما بينهما من خاصة العقل؛ والكون كله على هذا التصوير هو كالحبل الممدود، أو كالشعاع الضوئي الواحد يسري من أعلى عليين إلى أسفل سافلين.

ذلك الترابط بين الكائنات، هو النوع الأول من أنواع التشابه الأربعة التي عرضها ميشيل فوكوه؛ فكيف أقرأ ذلك ولا يحضرني ما كتبه إخوان الصفا في القرن العاشر الميلادي، وهاك نص ما كتبوا في هذا المعنى: «الموجودات مرتبة بعضها تحت بعض، متصل أواخرها بأوائلها، كترتيب العدد ... بيان ذلك أن المعادن متصلة أوائلها بالتراب وأواخرها بالنبات، والنبات متصل آخره بالحيوان، والحيوان متصل آخره بالإنسان، والإنسان متصل آخره بالملائكة ... وأما أواخر المعادن مما يلي النبات (أي مما يسبق النبات مباشرة) فهو الكمأة والفطر وما شاكل ذلك؛ وذلك أن هذا الجنس من الكائنات يتكون في التراب كالمعدن، ثم ينبت ... كما ينبت النبات، ولكن من أجل أنه ليس له ثمرة ولا ورقة، ويتكون التراب كما تتكون الجواهر المعدنية وعلى أشكالها، صار يشبه المعادن من جهة، ومن جهة أخرى يشبه النبات ... وأما النبات، فأقول: إن هذا الجنس من الكائنات متصل أوله بالمعدن، وآخره بالحيوان ... والنخل آخر مرتبة النباتية مما يلي الحيوانية، وذلك أن النخل نبات حيواني؛ لأن بعض أفعاله وأحواله مباين لأحوال النبات، وإن كان جسمه نباتيا؛ بيان ذلك أن القوة الفاعلة فيه منفصلة من القوة المنفعلة، والدليل على ذلك أن أشخاص الفحولة منه مباينة لأشخاص الإناث ... وأيضا فإن النخل إذا قطعت رءوسها جفت وبطل نموها وماتت ... وأول مرتبة من الحيوانية متصلة بآخر النبات ... فأدون (أي أقل) الحيوان وأنقصه هو الذي ليس له إلا حاسة واحدة فقط، وهو الحلزون ... وليس لها (أي الدودة التي تسمى بالحلزون) سمع ولا بصر ولا شم ولا ذوق، إلا اللمس فحسب ... لأن الحكمة الإلهية لا تعطي الحيوان عضوا لا يحتاج إليه في جر المنفعة أو دفع المضرة ... فهذا النوع (أي دودة الحلزون) حيوان نباتي؛ لأنه ينبت جسمه كما ينبت بعض النبات، ويقوم على ساقه قائما، وهو من أجل أنه يحركه حركة اختيارية حيواني، ومن أجل أنه ليست له إلا حاسة واحدة فهو أنقص الحيوانات رتبة ... وأدون رتبة الإنسانية مما يلي الحيوانية هي رتبة الذين لا يعلمون من الأمور إلا المحسوسات، ولا يعرفون من الخيرات إلا الجسمانيات ...» (راجع الجزء الثالث من رسائل إخوان الصفا - من الرسالة الرابعة والثلاثين، وهي رسالة في أن العالم إنسان كبير).

2

كان هذا التجاور الذي تتلاقى به الكائنات ويلاصق بعضها بعضا، أحد الروابط الأربعة التي اختارها ميشيل فوكوه ليفسر بها وحدة الكون العظيم في كيان واحد، وأما الرابطة الثانية فهي ما أسماه بالتناظر، قاصدا به تكرار الشيء الواحد في أكثر من صورة، كأنما هو ينعكس على أسطح المرايا الموضوعة لها هنا وهناك في جنبات الكون، وذلك دون أن تتماس الصور؛ فهو تشابه على مبعدة بين الأشباه، وهذا التناظر قائم بين الإنسان من جهة والكون بأكمله من جهة أخرى؛ فبينما الكون إنسان أكبر، يمكن القول عن الإنسان بأنه كون أصغر؛ إذ إن كليهما متناظران، في الإنسان ما في الكون من عناصر وعلاقات، وفي الكون ما في الإنسان من عاطفة وعقل؛ ولا عجب أن يقال إن الله قد خلق الإنسان على صورته.

ويسوق المؤلف أمثلة عجيبة لهذا التناظر بين الإنسان والكون، يبتكرها من عنده ابتكارا، أو يستعيرها من سواه: فالعينان في وجه الإنسان هما المقابلان للشمس والقمر؛ والفم في وجه الإنسان يقابله في السماء كوكب الزهرة، ووجه التقابل هنا هو الحب الذي تعبر عنه الكلمات والقبلات! ... وهكذا يمضي الكاتب في أمثلته الغريبة، ليقول آخر الأمر إن العالم يكرر نفسه على المرايا التي يعكس بعضها بعضا، لكي تزول الفواصل الحاجزة بين الكائنات، وإن هذا التناظر بين الأشياء ليشتد أحيانا حتى ليتعذر علينا أن نعرف أين الأصل وأين صورته، كأنما الأشياء المتناظرة توائم يصعب التفرقة فيها بين توءم وتوءم.

لكن هذا التشابه مهما اشتدت صورته، فهو لا ينفي أن يكون هنالك بين الأشباه والنظائر ما هو أقوى وما هو أضعف، فيكون التأثير للأقوى والتأثر للأضعف، فإذا كانت الأرض والسماء متناظرتين، فالسماء أقوى؛ ومن ثم وجدنا مصائر الناس ومصائر الأشياء على وجه الأرض، متأثرة بما تقرره لها الكواكب والنجوم!

ومرة أخرى تحملني الذاكرة إلى ما ورد في رسائل إخوان الصفا في القرن العاشر الميلادي عن هذا التناظر الذي يذكره ميشيل فوكوه، لكنه عند إخوان الصفا أدق وأعمق، وإنني لأبيح لنفسي على تواضع جم، أن أرفض ما قاله فوكوه وما قاله إخوان الصفا على حد سواء؛ فماذا قال «خلان الوفا» - كما وصفوا أنفسهم في عنوان رسائلهم؟ قالوا إن الله جل وعلا جعل من الأعداد نماذج تتواتر على غرارها الكائنات تواتر النظائر؛ فلكل عدد ما يماثله من الأشياء، فعلى غرار الثلاثة - مثلا - جاءت النظائر الآتية: الطول والعرض والعمق بالنسبة للأبعاد، والخط والسطح والجسم بالنسبة للمقادير، والماضي والحاضر والمستقبل بالنسبة للزمن، والواجب والممتنع والممكن بالنسبة لدرجات الصواب، والرياضية والطبيعية والإلهية بالنسبة للعلوم، وعلى غرار الأربعة جاءت النظائر الآتية: الطبائع الأربع، وهي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، والأركان الأربعة، وهي النار والهواء والماء والتراب، والأخلاط الأربعة، وهي الصفراء والدم والبلغم والسوداء، والفصول الأربعة ، وهي الربيع والصيف والخريف والشتاء، والجهات الأربع، وهي المشرق والمغرب والشمال والجنوب، ومراتب الأعداد، وهي الآحاد والعشرات والمئات والألوف؛ وعلى غرار الخمسة جاءت النظائر الآتية: أجناس الحيوان الخمسة، وهي الإنسان والطير والسابح والمشاء (ذو الرجلين، وذو الأربع)، والذي ينساب على بطنه؛ وأجزاء النبات الخمسة، وهي الأصل، والعروق، والورق، والزهر، والثمر؛ والأيام الخمسة الملقب أسماؤها بالعدد، وهي: الأحد، الإثنين، الثلاثاء، الأربعاء، الخميس؛ والصلوات الخمس، والأركان الخمسة التي بني عليها الإسلام، والحروف المستعملة في أوائل سور القرآن؛ إذ هي تختلف من حرف واحد إلى خمسة أحرف، وهكذا يجمع إخوان الصفا الأشياء والأفكار في مجموعات جاءت على نماذج الأعداد.

3

وننتقل إلى النوع الثالث من أنواع التشابه التي أوردها ميشيل فوكوه ليربط على أساسها أجزاء الكون في كيان واحد، وهذا النوع الثالث عنده هو ما أسماه بالمطابقة أو التماثل؛ وها هنا لا يكون التشابه على أساس ما هو محسوس بالحواس كما كانت الحال في النوعين الأولين، بل إنه يجاوز المحسوس إلى المعقولات؛ إذ يجعل المطابقة بين الأشياء منصبة على العلاقات التي تشير إلى طريقة البناء والتكوين: فعلاقة النجوم بالسماء متماثلة أو متطابقة مع علاقة الأحياء بالأرض، والمعادن بالصخر، وأعضاء الحس بالوجه، وبين النبات والحيوان مطابقة، لولا أن رءوس النبات إلى أسفل ورءوس الحيوان إلى أعلى؛ وأما الإنسان فهو مركز هذه الطبقات كلها؛ لأنه يقف بين كائنات السماء وكائنات الأرض، فيربط هذه بتلك؛ إذ فيه ما يطابق كائنات الأرض، كما أن فيه ما يطابق ملائكة السماء.

ولا تعود بي الذاكرة هذه المرة إلى إخوان الصفا ورسائلهم، بل تعود إلى الفيلسوف العربي الخالص أبي يعقوب بن إسحاق الكندي (القرن التاسع الميلادي) الذي شق طريقا سلكه من بعده فلاسفة آخرون، وذلك حين أخذ يتصور العلاقة بين الخالق ومخلوقاته في تسلسل من العقول: فعقل منها يظل فاعلا أبدا، وهو أول العقول وعنه نشأت سائرها، وذلك هو الله سبحانه؛ وثانيها في الترتيب عقل بثه الله في الإنسان، وجعله كامنا في فطرته، إلى أن تتهيأ له الظروف التي يخرج بها من حالة الكمون إلى حالة الفعل، فيكون عندئذ بمثابة العقل الثالث في التسلسل؛ وأخيرا يجيء السلوك الذي ينشط به الإنسان في حياته العملية، مجسدا فيه لقوته العاقلة، وبهذا يصبح هذا السلوك العملي بمثابة العقل في آخر مراتبه ... أقول إن الذاكرة أعادتني إلى هذا التصور عند فيلسوفنا الكندي، فقلت لنفسي: أليس في هذا التسلسل العقلي من رتبة إلى رتبة تليها، بحيث تجيء كل رتبة منها وكأنها تمثل سالفتها، دون أن تساويها، أقول أليس في هذا التصور رباط على أساس التماثل الذي افترضه ميشيل فوكوه، لكنه رباط أقوى وأعمق؟

4

وأما الصورة الرابعة والأخيرة من صور التشابه الذي يربط كائنات الدنيا بعضها ببعض فيما يرى ميشيل فوكوه، فهي صورة التعاطف، الذي يستطيع عبور الكون من أقصاه إلى أقصاه في لمحة؛ فهو ليس كالتجاور مقيدا بمكانه، ولا هو كالتناظر تشابها سكونيا في بنية التكوين، ولا كالتماثل يترك المتماثلات قائمة كما هي قائمة، بل هو (أي التعاطف) حركة سارية تجذب الكائنات بعضها إلى بعض؛ وإلا فما الذي ينحو بالحجر الساقط نحو الأرض إن لم يكن بين هذين الشبيهين تجاذب؟ وما الذي يرسل لهب النار صاعدا إلى الأثير؟ ما الذي يجذب جذور النبات نحو الماء؟ ما الذي يدور بعباد الشمس مع قرص الشمس حيث يدور؟ إنه هو رباط التجاذب أو التعاطف بين الكائنات، أو قل إن شئت إنه المحبة بين الأشياء؛ لكن هذه المحبة إذا ما سارت بالأشياء إلى آخر مداها، كان من شأنها أن تدمج الكائنات المتحابة كلها في كائن واحد، شأن الحب دائما إذ يصهر الأفراد فيزيل عنهم فردياتهم ليذوبوا معا في وجود واحد.

لكن الكون لا يراد له أن ينتهي أمره إلى مثل هذا التجانس الذي تضيع معه خصائص الأفراد، ولذلك نشأت قوة أخرى، هي قوة التنافر أو الكراهية، لتعود فتباعد بين الكائنات حفاظا لما بينها من تباين وخلاف؛ فلئن كان التجاذب يحيل الكثرة إلى وحدة، فالتنافر يعيد الوحدة إلى كثرة؛ ويسوق فوكوه مثلا للتنافر حياة التمساح والفأر والعنكبوت؛ فالتمساح الجبار يخرج من بيته المائي إلى الشاطئ اليابس ليسترخي، فاغرا فكيه، فيأتي الفأر ويتسلل بين الفكين منزلقا من الحلق الواسع إلى حيث أمعاء التمساح فيقرضها بأسنانه، فيلقى الزاحف الجبار مصرعه، ويخرج الفأر طاعما ظافرا، لا لينعم بحياة بعد ذلك، بل ليتلقاه عنكبوت مفترس فينقض عليه ليغتذي!

فإلى أي شيء تعود بي الذاكرة هذه المرة إن لم تعد بي إلى فلاسفة اليونان الأقدمين؟ إلى أنبادوقليس، الذي كان أول من رد الأشياء - لا إلى أصل واحد - بل إلى أصول أربعة: هي الماء والهواء والنار والتراب؛ فهي عنده عناصر أولية لا يسبق أحدها الآخر، ولا يشتق بعضها من بعض؛ لكنها تتصل ببعضها أو تنفصل عن بعضها، اتصالا وانفصالا لا ينقضيان، وبهذين العاملين تتكون الأشياء أو تعود إلى الانحلال، والذي يجمع العناصر أو يفرقها هو المحبة والكراهية (ويقال عنهما في الكتب العربية أحيانا: المحبة والغلبة، والمحبة والعدوان)، أما المحبة فتضم الذرات المتشابهة إذا ما تفرقت، وأما الكراهية فتفصل بينها؛ ولكل من هاتين القوتين مرحلة تتغلب فيها على خصيمتها، فإذا ما كانت الغلبة للمحبة سادت الوحدة وسادت السكينة، وأما إذا كانت للكراهية، فإن السيادة عندئذ تكون للفرقة والتمزق والاضطراب؛ ومراحل المحبة هي فترات الإصلاح، ومراحل الكراهية هي عصور الفساد والفوضى.

إنني إذا ما استخدمت اللغة التي يستخدمها ميشيل فوكوه في كتابه المذكور، قلت: ترى أينكفئ العالم على نفسه لتجيء صورة الفكر الإنساني في القرن العشرين انعكاسا مرآويا لصورته عند العرب في القرنين التاسع والعاشر، ثم انعكاسا مرآويا مرة أخرى لصورته عند بعض اليونان الأولين؟!

نحو شخصية عربية جديدة

أم المشكلات في حياتنا الفكرية هي محاولة التوفيق بين تراث الماضي وثقافة الحاضر؛ فمن تراث الماضي تتكون الشخصية الفريدة التي تتميز بها أمة من سائر الأمم، ومن ثقافة الحاضر تستمد عناصر البقاء والدوام في معترك الدول؛ فالأمة العربية عربية بما قد ورثته عن الأسلاف من عوامل أهمها العقيدة واللغة ومواضعات العرف والتقاليد، وكذلك نقول إن الأمة العربية قد استطاعت الصمود في دوامات هذا العصر العنيفة الخارقة، بمقدار ما استطاعت أن تساير حضارة هذا العصر في أفكاره ووسائله، فإذا هي اقتصرت - من جهة - على فكر الماضي وطرائق عيشه ووجهة نظره، جرفها الحاضر في تياره؛ لأن له من الوسائل المادية ما لا قبل لها بدفعه، وإذا هي اقتصرت - من جهة أخرى - من الحاضر على علمه وفنه وصناعته وسائر معالمه، ضاعت ملامح شخصيتها، وانطمست فرديتها، ولم يعد لها وجود إلا كما يكون لقطرة الماء في البحر المتجانس وجود متميز خاص، فهل من سبيل إلى التقاء الطرفين في مركب واحد، يزيل ما بينهما من تباين وتضاد، ويؤلف بينهما في نسيج ثقافي متسق منسجم، يكون هو عندئذ ما نطلق عليه اسم الثقافة العربية المعاصرة؟ ذلك هو السؤال الذي ألقي في حياتنا الفكرية منذ قرن أو يزيد، والذي كانت محاولة الإجابة عنه إجابة مقنعة هي ميدان الصراع الفكري.

إن محاولة التوفيق بين تراث الماضي وثقافة الحاضر - أو قل بين تراث الماضي وثقافة الغرب في حاضرها وماضيها على السواء - أقول إن محاولة التوفيق بين هذين الطرفين مشكلة بالنسبة إلى كل مجتمع متطور؛ فقد شهدناها عند العرب الأقدمين في محاولتهم التوفيق بين العقل والنقل - والعقل عندئذ هو رمز لفلسفة اليونان، والنقل رمز لأحكام الشرع - وشهدناها عند مفكري الغرب إبان العصور الوسطى في قيامهم بالمحاولة نفسها التي حاولها فلاسفة المسلمين، وشهدناها في النهضة الأوروبية حين حاول أعلامها الجمع بين النهضة العلمية في عصرهم والتراث الكلاسي الذي ابتعثوه عن أسلافهم الرومان واليونان، كما شهدناها في روسيا القرن التاسع عشر، بين الثقافة السلافية الخالصة وثقافة غربي أوروبا. لكن محاولة التوفيق هذه إنما تكون أشد إشكالا وتعقيدا بالنسبة إلى الشعوب الآسيوية والإفريقية التي ظفرت بحريتها حديثا من براثن المستعمر - بما في ذلك الأمة العربية - وذلك لأن المشكلة قد أضيف إليها من العناصر ما زادها عسرا، ومن هذه العناصر المضافة إلى ثقافة العصر، التي يراد التوفيق بينها وبين تراث الماضي، هي نفسها ثقافة المستعمر. وإنه لعسير على النفس أن تقبل على ثقافة ارتبطت عندها بمن استغلها واستذلها، واستهان بثقافتها وعقائدها، فإذا كان المستعمر كريها ممقوتا، فكذلك كانت - عند معظم الناس - ثقافته المرتبطة به؛ إذ ليس من اليسير على الكثرة الغالبة من الناس أن تقوم بعملية التجريد العقلية التي تفصل بين المستعمر وثقافته، بحيث ترفض الأول وتقبل الثانية، ولهذا سرعان ما ارتبطت الحركة القومية في جانبها السياسي الذي حاول الفكاك من قيود المستعمر، ليظفر بالحرية والاستقلال، سرعان ما ارتبط هذا الجانب السياسي من الحركة القومية بالجانب الثقافي الذي حاول أصحابه تثبيت الجذور المحلية في تربة الأرض، لتعود إلى الأمة شخصيتها التي أوشكت على الضياع، فرأينا حركة إحياء شامل لما كان قد اندثر - أو أوشك - من مقومات الحياة الماضية إبان قوتها، وفي مقدمة هذه المقومات العقيدة الدينية، لا لأن هذه العقيدة هي في حقيقتها من أهم أركان البناء الثقافي - إن لم تكن أهمها جميعا - فحسب، بل لأنه قد تصادف كذلك أن عقيدة المستعمر في معظم البلاد الآسيوية والإفريقية مخالفة لعقيدة الشعب في هذه الأمة أو تلك، فكان من الطبيعي - إذن - أن تقترن الحركات الوطنية بالدعوة إلى إحياء العقيدة الدينية وتنقيتها، مما قد علق بها من شوائب الخرافة في فترات الضعف السياسي والتدهور الفكري.

لكن هذه المقاومة التي تجعل إحياء الدين - وغيره من مقومات التراث - محورها الوحيد، هي - في رأينا - مقاومة سلبية، قد تصلح كل الصلاحية في المرحلة الأولى من مراحل النهوض. وأما في المراحل التالية، فلا بد أن يضاف إليها مقاومة إيجابية كذلك: قوامها الأخذ عن القوي مصادر قوته. ومصادر القوة عند القوي في عصرنا هي العلم والصناعة قبل سواهما.

هذه واحدة، والأخرى أن المقاومة التي تجعل إحياء الدين - وغيره من مقومات التراث - محورها الوحيد، حتى في مرحلة صلاحيتها من مراحل النهوض، قد تجيء مقاومة صحيحة، أو مقاومة زائفة، بحسب القدرة التي يمتاز بها صاحب المقاومة، والأساس الفكري الذي يصدر عنه، والهدف الذي يرمي إليه، والوسائل التي يصطنعها لبلوغ ذلك الهدف؛ فقد شهدنا في حياتنا الفكرية الحديثة من أصحاب هذه المقاومة من يعلو بها إلى أوج ومن يهبط بها إلى حضيض.

على أنها بأوجها وحضيضها لم تعد الآن هي الروح السائدة في البلاد المتحررة من قبضة المستعمر؛ إذ الروح السائدة الآن في هذه البلاد، يمكن تلخيصها في هذا السؤال: كيف نرد لأنفسنا كرامتها، بإحياء ثقافتنا التقليدية والرفع من شأنها، مع إقامة البرهان العملي - في الوقت نفسه - على كفاءتنا في ميدان التنافس مع من كانت لهم السيادة علينا ظلما وعدوانا؟ وهي سيادة كانت ترتكز - أولا وقبل كل شيء على ركيزة العلم والصناعة، وإذن فلا بد لنا من هذه الركيزة بكل ملحقاتها لنستطيع الصمود في ميدان التنافس، وها هنا يعود سؤالنا الأول من جديد: هل في ثقافتنا التقليدية التي نريد إحياءها وتقويتها ما يتعارض مع هذه الركيزة التي نحن في أشد الحاجة إليها؛ ركيزة العلم والصناعة؟ وإذا لم يكن هناك تعارض بين الجانبين، فما سبيلنا إلى دمجهما في وحدة عضوية واحدة؟

هنا كثر بيننا الخلاف وتشعب الرأي، على مدى القرن الممتد من منتصف القرن الماضي إلى منتصف هذا القرن، لاسيما في العشرات الأخيرة من أعوامه، فكان منا فريق يعلي من شأن الطابع القومي الأصيل حتى لينسى ما نحن في حاجة إليه من سلاح العلم الحديث والصناعة الحديثة، وفريق آخر كان همه الأول هو أن نلحق بركب الحضارة العصرية، بكل ما فيها من علم وصناعة وغيرهما من ضروب الفكر وألوان الحياة؛ لأنه لو كان المستعمر قد وجد فينا ثغرة ينفذ منها، فتلك الثغرة هي ما كان يعوزنا من العلم والصناعة، وهيهات أن نفلح في صده أمدا طويلا بغير هذين العاملين، مهما تجمع في أيدينا من مقومات التراث، ولا شك أن الصواب كل الصواب لا هو مع الفريق الأول، ولا مع الفريق الثاني، بل هو مع فريق ثالث ينشد الجمع بين الطرفين في مركب واحد، بقدر ما يستطيع إلى ذلك من سبيل، وفي تكوين هذا الفريق الثالث يجب أن تنصرف الجهود.

ونسوق ها هنا أمثلة ثلاثة من فكرنا الإسلامي الحديث، نشهد خلالها كيف يجيء فكرا قويا حينا، وفكرا ضعيفا حينا آخر، وفكرا اختلطت فيه القوة والضعف حينا ثالثا. ونبدأ بهذا النوع الثالث الذي يمثله جمال الدين الأفغاني.

فقد نشبت معركة فكرية حول نظرية التطور في علم البيولوجيا والمذهب المادي في الفلسفة (وقد لا يلزم أن تكون بينهما صلة ضرورية؛ إذ قد تأخذ بنظرية التطور في البيولوجيا دون أن تلتزم بالمذهب المادي الذي يرد كل شيء إلى مادة، والعكس صحيح أيضا؛ فقد تذهب إلى أن الكون كله مادة، دون أن تأخذ بنظرية التطور البيولوجي) أقول إن معركة فكرية قد دارت رحاها بين نظرية التطور والمذهب المادي في الفلسفة من جهة، وبين المناصرين لإحياء العقيدة الدينية من جهة أخرى، على ظن من هؤلاء أن ثمة تناقضا بين هذه العقيدة وبين ما جاءت به نظرية التطور وما جاء به المذهب المادي.

وليس يهمنا الآن أن نورد تفصيلات هذا المذهب المادي في الفلسفة، أو تلك النظرية التطورية في علم البيولوجيا - فهما مما يمكن الرجوع إليه في مصادره - لكن الذي يهمنا هو كيف قوبلت هذه الأفكار الغربية الحديثة عند مفكرينا، لنرى مواضع الصدام بين ثقافة العصر من جهة، وثقافة التراث من جهة أخرى، وأن هذا الموقف بطرفيه، ليتمثل في كتاب «الرد على الدهريين» لجمال الدين الأفغاني.

والدهريون الذين يرد عليهم الأفغاني برسالته هذه هم أصحاب الفلسفة المادية التي أخذت تتناثر أنباؤها حينئذ، وقد كتب الأفغاني رده باللغة الفارسية، ثم نقلها إلى العربية الإمام محمد عبده، مستعينا في ذلك بأديب أفغاني، وإنما كتبها ليجيب بها عن سؤال جاءه من رجل فارسي يستفسره حقيقة المذهب المادي الذي أخذ يشيع في الناس: «يقرع آذاننا في هذه الأيام صوت «نيشر نيشر» (= طبيعة). ولا تخلو بلدة من جماعة يلقبون بلقب «نيشري». ولقد سألت أكثر من لاقيت من هذه الطائفة ما حقيقة النيشرية؟ وفي أي وقت كان ظهور النيشريين؟ وهل طريقهم تنافي الدين المطلق؟ ولكن لم يفدني أحد منهم عما سألت بجواب شاف كاف؛ ولهذا ألتمس من جنابكم العالي أن تشرحوا حقيقة النيشرية والنيشريين بتفصيل ينفع الغلة ويشفي العلة والسلام.»

ذلك هو موجز الخطاب الذي ورد إلى الأفغاني، فكانت رسالة «الرد على الدهريين» هي الجواب، وقد قسمها قسمين: أولهما «في حقيقة مذهب النيشرية والنيشريين وبيان حالهم»، والثاني «في أن الدين الإسلامي أعظم الأديان»، وهذا التقسيم كاف وحده للدلالة على أن الخطر المخوف من ثقافة الغرب الوافدة، هو ما عساها أن تؤثر به في ديانة المسلمين؛ لأن الحرص على نقاء هذه الديانة، هو - فوق كونه من واجبات المؤمن - ضروري لتثبيت أركان القومية السياسية التي كان الأفغاني من طلائع دعاتها، وإلا لما اقتضاه الرد على مذهب فلسفي معين، أو الرد على نظرية بيولوجية بعينها، دفاعا عن الإسلام وبرهانا على عظمته بالنسبة إلى سائر الأديان.

وليس من الإنصاف في شيء أن ننقد رسالة الأفغاني بنظرة الدارس العالم، سواء كان ذلك في جانبها الذي يمس العلوم الصرف، أو كان في جانبها الذي يمس مذاهب الفلسفة الأوروبية؛ لأننا لا نظن أن الأفغاني كان مزودا بعلم العلماء ولا بفلسفة الفلاسفة في دقائقها وتفصيلاتها، إنما أخذ الموضوع أخذ «المثقف» العام لا أخذ الدارس المتخصص، وحسبنا في هذا أن نقرأ له ختام خطابه الذي أرسله ردا على خطاب السائل الفارسي؛ إذ يقول: «... أرجو أن تكون (أي رسالة الرد على الدهريين) مقبولة عند العقل الغريزي لذلك الصديق الفاضل، وأن تنال من ذوي العقول الصافية نظرة الاعتبار.» فمن هذه العبارة يتبين أن الأفغاني قد وجه الحديث في رسالته إلى فئتين من الناس، إحداهما أصحاب «العقل الغريزي» - ومنهم صاحب الخطاب - والأخرى أصحاب العقول الصافية»، ونحن وإن كنا لا ندري على وجه الدقة ماذا يراد ب «العقل الغريزي» عند الأفغاني (لأن لغة العلم الحديث تجعل العقل والغريزة ضدين) إلا أننا نأخذ العبارة على أنها تعني ما نسميه اليوم ب «الإدراك المشترك»

Common Sense

الذي لا يحتاج صاحبه إلى تعلم متخصص بل يكفيه أن يشارك الناس في جوهم الثقافي العام، وكذلك لا ندري على وجه الدقة مراده ب «العقول الصافية» سوى أن نرجح أنه يعني بها عقولا صفت من «الغريزة» لتصبح «منطقا» صرفا، لكن العقول المنطقية الخالصة في حد ذاتها لا تكفي للدلالة على نوع الموضوع الذي تخصصت في دراسته، ولهذا لم يكن بين من خاطبهم الأفغاني برسالته أحد هو بالضرورة ممن أجادوا دراسة الفلسفة المادية ولا دراسة النظرية الداروينية اللتين تعرض للرد عليهما، والظاهر أنه قد اكتفى في ذلك كله بما عنده هو من «ذلك الإدراك المشترك نفسه».

وأعود فأقول إنه ليس من الإنصاف أن نجد الأفغاني يتناول موضوعه تناول «الأديب» لا تناول «العالم»، ثم نصر مع ذلك على نقده بنظرة العلماء المتخصصين، ولو فعلنا ذلك لما ثبتت رسالة الرد على الدهريين لحظة أمام النقد، حتى وإن قصرنا أنفسنا على علوم عصره، ودع عنك أن نضيف إليها ما قد وصل إليه العلم بعد ذلك، وإلا فماذا يقول الأفغاني وهو يأخذ على أصحاب الفلسفة المادية اعتمادهم على «أحكام الصدفة» إذا قلنا له إن «أحكام الصدفة» هذه - وهي نفسها قوانين الاحتمال - قد أصبحت الآن قاعدة أساسية تنبني عليها العلوم الطبيعية - فضلا عن العلوم الإنسانية - جميعا، وشرح ذلك يطول، وماذا يقول الأفغاني الذي أخذ على أصحاب المذهب المادي بأن مذهبهم يؤدي إلى تسلسل الأطوار إلى غير ابتداء، وهو تسلسل غير متناه، «وغفل أصحاب هذا الزعم عما يلزم من وجود مقادير غير متناهية في مقدار متناه، من المجالات الأولية» - هكذا يقول الأفغاني، فماذا لو أنبأناه بحقيقة يأخذ بها الرياضيون اليوم، وهي إمكان «وجود مقادير غير متناهية في مقدار متناه»، وشرح ذلك أيضا يطول، وهل ترى رجلا أبعد عن دراسة النظرية الداروينية من الأفغاني حين يقول: «وعلى زعم داروين يمكن أن يصير البرغوث فيلا بمرور القرون وكر الدهور، وأن ينقلب الفيل برغوثا كذلك.» أو حين يزعم أن داروين قد حكى عن جماعة أنهم «كانوا يقطعون أذناب كلابهم، فلما واظبوا على عملهم هذا قرونا صارت الكلاب تولد بلا أذناب، كأنه يقول حيث لم تعد للذنب حاجة كفت الطبيعة عن هبته.»

لا، لا ينبغي - بل لا يجوز - أن يؤخذ رد الأفغاني كما تؤخذ ردود العلماء بعضهم على بعض؛ لأنه رد صادر عن موقف وجداني رافض، ليخاطب به جمهورا هو بدوره يقف موقفا وجدانيا رافضا بالنسبة إلى الثقافة الوافدة من الغرب الحديث. فلو نظرنا إلى الموقف كله على أنه موقف وطني قومي ينشد التميز من الغرب المهاجم بعلمه وبقوته، فقد كسب الأفغاني ما أراد، لكننا لو نظرنا إليه على أنه رد علمي على نظرية، لما ترددنا في القول بأنه قد خسر المعركة، وترك النصر لخصومه.

وأما المعركة الفكرية الثانية فقد انقلب فيها الوضع، بحيث كان النصر خالصا للفكر العربي على زميله الأوروبي؛ وذلك لأن ميدانها كان دينيا على الأغلب؛ إذ أخذ المهاجم يوازن بين الديانتين المسيحية والإسلامية، فاضطر المدافع أن يرد على الموازنة بموازنة مثلها، فكانت الحجة القوية في جانب الدفاع، والمهاجم هنا هو هانوتو، والمدافع هو الإمام محمد عبده، الذي أدار دفاعه على البيان بأن ما اتهم به «الإسلام» باطل من وجهين: الأول أن شواهد التاريخ لا تؤيده، والثاني أنه كلما صحت التهمة كانت واقعة على «المسلمين» بما أحاط بهم من ظروف أفقدتهم لب عقيدتهم، لا على «الإسلام» من حيث هو عقيدة استطاع المؤمنون بها أن يعلوا إلى ذروة العلم والعمل معا، هذا فضلا عن أن ما اتهم به المسلمون، يمكن مشاهدته في المسيحيين كذلك، مما يدل على أن المسألة لا تتعلق بالعقيدة الدينية، إنما هي نتيجة لظروف اجتماعية وسياسية واقتصادية.

كان هانوتو في مقاله قد أدخل في موازنته بين الديانتين موازنة أخرى ظنها وثيقة الصلة بالموضوع، وهي الموازنة بين الآريين والساميين، ليخرج من المفاضلة بتفضيل الأولين على الآخرين، فيتناول الأستاذ الإمام هذه النقطة بالتفنيد القوي الحجة، مستندا إلى أن شعوبا آرية معينة تهدر الكرامة الإنسانية في بعض طوائفها، وإلى أن أوروبا قد وصلتها عوامل المدنية من أمم سامية لا من أصول آرية، على أن النظرة المنصفة تدرك على الفور أن الحضارة الإنسانية قد أخذ آريها من ساميها، وساميها من آريها، ولا فرق بين هؤلاء وأولئك: «فلا زالت الأمم يأخذ بعضها عن بعض في المدنية لا فرق عندهم بين آري وسامي، متى مست الحاجة إلى تناول عمل أو مادة أو ضرب من ضروب العرفان ... وقد أخذ الغرب الآري عن الشرق السامي أكثر مما يأخذه الآن الشرق المضمحل عن الغرب المستقل.»

ثم ينتقل الأستاذ الإمام من نقطة الآرية والسامية إلى لب المشكلة عنده، وهو الدين؛ فقد زعم هانوتو أن ديانة التشبيه والتجسيم أفضل من ديانة التوحيد والتنزيه، قائلا إن الأولى ترفع الإنسان إلى منزلة الآلهة، بينما تهبط الثانية بالإنسان إلى حضيض الضعف والحيوانية، ثم أقحم مسألة القدر في هذه القسمة، فجعل أتباع الديانة الأولى يؤمنون بالإرادة الإنسانية الحرة، على حين أن أتباع الديانة الثانية يؤمنون بسلطان القدر عليهم، فيرد الأستاذ الإمام على هذا الزعم بأن لا دخل لنوع العقيدة - مشبهة كانت أو منزهة - بالكلام في القدر، بل إن الأمر في هذا ليتفرع عن الاعتقاد بإحاطة الله بكل شيء وشمول قدرته لكل ممكن، سواء كان صاحب هذا الاعتقاد من أصحاب التشبيه أم من أصحاب التنزيه.

لم يقتصر لقاء التعارض بين هانوتو ومحمد عبده على فعل ورده، بحيث ينتهي الأمر إلى صفر، كأن لم يحدث تعارض ولا لقاء، بل كان من أثره أن تنبهت أذهاننا - ابتداء من الأستاذ الإمام نفسه - إلى وجوب إعادة النظر في تراثنا الفكري، وفي السائد بيننا من عرف وتقليد، لنسلط عليه أشعة من فكر العصر الحديث - الذي صميمه هو العلم - لنرى على أي وجه نوائم بين أنفسنا وبين روح عصرنا، بحيث تتكون من هذه المواءمة شخصية جديدة لا تفرط في ملامحها الأساسية الأصيلة، ولا تغمض العين عن ضرورات العصر الراهن، وفي هذا تكمن أقوى قوة للأستاذ الإمام في تاريخنا الثقافي الحديث.

لو سار بناة الشخصية العربية الجديدة على هذا المستوى القوي الرفيع الذي سلكه الشيخ محمد عبده، والذي قوامه رد الاعتداء عن المقومات الأساسية في تراثنا، ثم الإفادة من مصادر القوة العلمية في عصرنا، حتى لا نستنيم لسحر الماضي وحده، لاجتنبوا كثيرا من مواضع الزلل، لكن ظهر من بيننا رجال اشرأبت أعناقهم نحو أن يسيروا على الدرب وراء الإمام، دون أن تسعفهم من طبائعهم قوة تعينهم على ذلك السير، فتعثرت خطاهم في مجاهل وأوهام، من هؤلاء مؤلف كتاب «الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي»، فهو في طموحه لأن يصبح بدوره «إماما»، أو ما يشبه الإمام، راح يذود عن العقيدة الدينية في عشوائية عجيبة، ضد من؟ ضد نفر من مواطنيه؛ فالمتهم هنا ليس هو داروين كما كان عند الأفغاني، ولا هو هانوتو كما كان عند محمد عبده، بل المتهمون هم مؤلفو كتب «الإسلام وأصول الحكم» و«مستقبل الثقافة في مصر» و«خرافة الميتافيزيقا»، ذكرهم بأسماء كتبهم، ولم يذكر أسماءهم، كأنما يشرفه أن يستخف بأمثال الدكتور طه حسين وعلي عبد الرازق وأن يجعلهم أدوات في أيدي المستعمرين.

ولما كنت صاحب هذا الكتاب الأخير، وهو كتاب خصص للرد عليه مؤلف «الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي» فصلا كاملا تحت عنوان «الدين خرافة» فقد عنيت بقراءته، لأجد كلاما هو أبعد ما يكون عن الرد العلمي لما أراد أن يرد عليه، ولعله في ذلك معذور؛ لأن مثل هذا الرد كان يتطلب درجة من دقة التحليل لا أظنه قد درب على مثلها، نعم، قرأت ذلك الفصل لأجد فيه ما هو أقرب إلى الخطبة الحماسية التي أراد بها - وسأفرض فيه النية الحسنة لأنه ليس ثمة ما يدعوه إلى غير ذلك - أراد بها أن يثير نفوس قرائه ضد صاحب الكتاب - لا أن يقنع عقولهم - لأن العقول تحتاج إلى منطق صرف، والخطب الحماسية لا تلتزم مثل هذا المنطق ... نعم، أراد بها أن يثير نفوس قرائه، بادئا حملة الإثارة منذ عنوان كتابه؛ إذ يجعل جزءا من هذا العنوان عبارة تقول عن مواطنيه الذين تصدى لمهاجمتهم في دعاواهم الفكرية إنهم ذوو صلة بالاستعمار الغربي، ثم يتابع حملة الإثارة الانفعالية بالنسبة إلى كاتب هذه السطور، فيجعل عنوان الفصل الذي خصصه لمهاجمة كتابه «خرافة الميتافيزيقا»: «الدين خرافة»، وكأنه يستنتج من عنده أن الخائن الذي عاون الاستعمار بكتابه، قد خرج كذلك على دينه، ألم يقل إن الميتافيزيقا خرافة؟ إذن يكون الدين خرافة!

وحتى إذا سلمنا مع صاحب هذا الهجوم أن هذه نتيجة تلزم عن العنوان الأصلي للكتاب الذي يهاجمه، فلماذا لم يذكر هذا العنوان الأصلي مكان بديله الذي اختاره له؟ ألأن كلمة «ميتافيزيقا» لا تثير النفوس بمثل ما تثيرها كلمة «الدين»؟

ولقد كانت هذه البداية المغرضة كافية لصدنا عن متابعة ما أورده من حديث؛ لأنها بداية من لا يعتزم الدخول في جدال فلسفي نزيه، لكننا تابعناه لنرى كيف خدم القضية التي تصدى لخدمتها فوجدناه ينثر الأسماء الإفرنجية يمينا ويسارا، بالأحرف العربية تارة، وبالأحرف الإفرنجية تارة أخرى، وهي أسماء لفلاسفة ومذاهب، ذكرها، لا لأنها تصلح أن تكون ردا على ما أراد الرد عليه، بل لأنها تتعاون مع ما أثبته عن شخصه على غلاف الكتاب، من أنه «دكتور من جامعتي برلين وهامبورج بألمانيا، وأنه دكتور من هناك في الفلسفة وعلم النفس والدراسات الإسلامية»، ولست أدري في الحق كيف اجتمعت هذه الفروع كلها في رسالة للدكتوراه، ولم يكن ذلك ليكون من شأني، لولا أنه دلني على أن الرجل لم يخصص نفسه للدراسة الفلسفية التي تعينه على تتبع تحليلات الفلاسفة، حين تجاوز هذه التحليلات حدود المفاهيم الخطابية، التي تستخدم في إثارة الوجدان، ولا يهمها أن تتجه بالمنطق البارد نحو العقول، وحسبنا من ضعف إلمامه بالحركات الفكرية في ميدان الفلسفة أن يخلط بين «الوضعية المنطقية» وبين «المذهب الوضعي» الذي ينسب إلى «أوجست كونت»، حتى لقد طفق يشرح للناس هذا المذهب (مذهب أوجست كونت) ويكيل له الضربات، وهو يظن أنه يهاجم ما ندعو إليه!

إن في هذا الخلط وحده لفصل الخطاب، إن صاحب هذا الخلط الفكري بين وضعية كونت ووضعية شليك، وفتجنشتين، وكارناب، ونيوراث، الذين لم يخطر بباله أن يقرأ سطرا واحدا لواحد منهم، أقول إن صاحب هذا الخلط الفكري العجيب، هو الذي يأخذ على مؤلف «خرافة الميتافيزيقا» أنه يردد فكر الغربيين باسم التجديد، وأنه يردده «مشوها أو محرفا».

ثم انظر إلى طريقة مؤلف «الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي» في استدلال النتائج من المقدمات؛ فقد ذكر عبارة وردت في خرافة الميتافيزيقا، تقول: «نشأت الميتافيزيقا من غلطة أساسية ... وهي الظن بأنه ما دامت هناك كلمة في اللغة، فلا بد أن يكون لها مدلول ومعنى، وكثرة تداول اللغة ووجودها في القواميس يزيد الناس إيمانا بأنها يستحيل أن تكون مجرد ترقيم أو مجرد صوت بغير دلالة، لكن التحليل يبين لك أن مئات الألفاظ المتداولة والمسجلة في القواميس هي ألفاظ زائفة ... وما أشبه الأمر هنا بظرف يتداوله الناس في الأسواق مدة طويلة، على أنه يحتوي على ورقة من ذوات الجنيه، حتى يكتسب الظرف قيمة الجنيه في المعاملات، وبعدئذ يجيء متشكك ويفض الظرف ليستوثق من مكنونه ومحتواه، وإذا هو فارغ، وكان ينبغي أن يبطل البيع به والشراء، لو تنبه الناس إلى زيفه من أول الأمر.»

يذكر المؤلف هذا النص من كتاب «خرافة الميتافيزيقا» ليستدل منه - وا عجباه - أن الكلمة المشار إليها والتي يتداولها الناس في كثرة، ماذا تكون إلا اسم الجلالة؟ أي والله وا عجبي من نتيجة كهذه تجيء من نص كذاك! فهل كان الحديث في النص عن كلمة واحدة معينة؟ ألم يرد في النص ما يشير إلى مئات الألفاظ؟ أم إنك تضرب بالنص الذي ذكرته أنت بنفسك، عرض الحائط لتستدل منه ما يتفق مع هواك، ومع ما عساه أن يثير وجدان الكراهية عند قارئك؟! وأعجب العجب أنك تصرح لهذا القارئ أنك إنما تفهم هذه النتيجة من خلال النص المذكور، وإن لم يصرح بها مؤلف خرافة الميتافيزيقا، كأنما تريد أن تقول لقارئك: دع عنك ما ورد في النص المختار من عبارة «مئات الألفاظ المتداولة» وتعال معي نقصر الأمر على لفظة واحدة؛ لأننا نحن - أولاد البلد - يفهم بعضنا بعضا، ونفهمها من وراء السطور وهي طائرة، ومحال أن يضحك على أذقاننا كاتب مادي كمؤلف «خرافة الميتافيزيقا»، إنه يقول شيئا لكننا سنفهمه على وجه آخر؛ لأننا لسنا من الغفلة بحيث يفوتنا ما يعنيه وإن لم يصرح به.

وبالله لا تضحك أيها القارئ، إذا ما أنبأتك أن مؤلف كتاب «الفكر الإسلامي الحديث» الذي يستنتج من نص كهذا نتيجة كهذه، هو نفسه الذي يقول عن صاحب «خرافة الميتافيزيقا» إن كلامه «لا يدل فحسب على قلة إدراك اللغة العلمية، بل يدل أيضا على أن البتر في النقل عن الغير يكاد يكون صفة من صفات التجديد في الفكر الإسلامي الحديث عند هؤلاء المرددين.» ورحمكم الله يا أصحاب العقول السليمة؛ فقد تولى الحديث عنكم أستاذ أجاد «اللغة العلمية» إجادة تامة، وتنزه عن «البتر» الذي يقترفه «المرددون» لما ليس يفقهون.

لا، إن الشخصية العربية الجديدة لا تبنى بمثل هذا الهجوم الحاقد، ينهش به بعضنا بعضا، بل تبنى على دعامتين: صيانة التراث صيانة بصيرة عاقلة، ثم اكتساب القوة من مصادرها في العصر الذي نحياه، ومحاولة استخراج الوحدة العضوية التي تضم الدعامتين معا في بناء واحد، وهو طريق بدأه منذ أول هذا القرن الأستاذ الإمام محمد عبده، وما يزال يهتدي به - من حيث المبدأ - ولكن على صور شتى، رجال الفكر المخلصون.

العروبة ثقافة لا سياسة

ليست عروبة العربي قرارا سياسيا تصدره مؤتمرات القمم أو مؤتمرات السفوح والوديان، بل هي مركب ثقافي يعيشه في حياته اليومية، لا يستطيع العربي نفسه أن ينسلخ عنه إذا أراد، وأن يعيده إليه إذا أراد، لا ... ليست عروبة العربي قميصا يلبسه إذا شاء ويخلعه إذا شاء، بل هي خصائص توشك أن تبلغ منه ما يبلغه لون الجلد والعينين، فهي مجموعة من القيم والعادات وطرائق النظر يتداخل بعضها في بعض تداخل الخيوط في قطعة النسيج.

ولا تناقض بين عروبة العربي من جهة ومميزاته الإقليمية من جهة أخرى؛ فالمصري مصري وعربي معا كما يكون السوداني سودانيا وعربيا، والعراقي عراقيا وعربيا في آن؛ فليس على هذه الأرض كلها إنسان واحد وحداني الانتماء، وإنما الأمر في هذا يشبه الدوائر التي تتدرج اتساعا؛ فصغراها يتلوها ويشتمل عليها دائرة أوسع ثم هذه يتلوها ويشتمل عليها دائرة أوسع ... وهلم جرا.

ليس الأمر هنا أمر بدائل لا يصدق منها إلا بديل واحد، بل هو مركب عطفي قد تصدق فيه جميع الصفات المعطوف بعضها على بعض دفعة واحدة؛ أعني أن الأمر هنا ليس كقولنا إن الثوب إما أبيض وإما أسود ، فإذا كانت الأولى امتنعت الثانية، كلا، بل الأمر هنا هو كقولنا عن الثوب إنه أبيض ومصنوع من القطن فصدق إحدى الصفتين لا ينفي صدق الصفة الثانية.

إنني مصري عربي في آن واحد ... ولمصريتي مميزات أنفرد بها دون سائر العرب، ولعروبتي خصائص أشترك فيها مع سائر العرب، على أن مصريتي وعروبتي كلتيهما ترتد آخر الأمر إلى نسيج ثقافي بعينه، وقولي إنني مصري عربي، معناه هو أنني أعيش ثقافة دائرتها الداخلية هي المميزات المصرية الخاصة، ودائرتها الأوسع هي الخصائص المشتركة بين العرب أجمعين.

فما هي أبرز الخصائص الثقافية التي تجعل العربي عربيا، سواء كان قبل ذلك مصريا أم سودانيا أم عراقيا؟ أولى خصائص العروبة لغتها، على أنه لا يكفيني في هذا الجانب أن تكون لغة الكلام والكتابة عربية؛ فالأوروبي الدارس للغة العربية قد يتكلمها ويكتبها ومع ذلك لا ندرجه في العروبة ابنا من أبنائها، وإنما المهم هنا هو اللفتات العقلية أو الإدراكية العميقة، التي تكمن في كيان العربي، فتميل به إلى اكتساب الصفات المتمثلة في اللغة العربية؛ فالأجنبي الذي درس اللغة العربية إنما يتكلمها أو يكتبها من السطح - إذا جاز هذا القول - وأما العربي فهو يتكلمها أو يكتبها من الجذور.

وأعني بالجذور تلك الصور الدفينة التي توشك أن تكون جزءا من فطرة الإنسان والتي منها تنبثق اللغة المعنية؛ فمن خصائص اللغة العربية - مثلا - أنك إذا عرفت الأصل الثلاثي عرفت كيف تفجر منه شجرة المشتقات على كثرة فروعها، فإذا عرفت كلمة - كتب - فجرتها بعد ذلك فأخرجت منها: «كاتب، كتاب، كتابة، مكتوب ... إلخ إلخ»؛ فكأنها القبيلة أو العشيرة يتعدد أفرادها لكن هؤلاء الأفراد جميعا ينتمون إلى رأس واحد.

فإذا قلنا إن اللغة العربية هي أولى خصائص العروبة فإنما نقصد بذلك إلى ما هو أعمق من مجرد عملية التفاهم بلغة معينة، وهو أن خصائص اللغة تكون هي نفسها خصائص أصحابها، ومعنى ذلك أن أبناء العروبة على امتداد الوطن العربي الكبير قد جاءوا في طرائق النظر على غرار ما تتميز به لغتهم من صفات. وثانية الخصائص الإدراكية التي تتألف منها عروبة العربي هي ميله إلى القفز السريع من الأفراد الجزئية إلى تجريدها وتعميمها في «أنواع» و«أجناس»؛ فهو لا يهمه «هذا الطائر» المفرد المعين الواقف هناك على ذلك الفرع من تلك الشجرة، بل يكفيه أن يعرف الطائر في عمومه من حيث هو نوع بأسره من الأحياء. لقد بلغ بي العجب أشده ذات يوم بعيد، حين سار بي أمريكي في بستان بيته، وكان مليئا بالورود على أشجارها، فوجدت الرجل يحدثني عن كل وردة على حدة وكأنها طفل قائم برأسه متميز عن سائر الأطفال. ولعلك تعلم أن وولت دزني مبتدع - ميكي ماوس - ورسومه وحكاياته، قد بدأ عمله هذا بأن أخذ يراقب فأرا معينا بذاته عدة أيام، ولم يكن يطوف بباله عندئذ أنه سيقيم على ملاحظاته ما أقامه بعد ذلك، بل هو الاهتمام - بالفرد - في ذاته هو الذي استوقف نظره، وهو اهتمام لا يكاد يعرفه العربي في طريقة إدراكه للأشياء والأحياء معا.

انظر إلى رسوم الطير والحيوان والنبات في الفن العربي - كما تراها مثلا في سجادة أو فوق آنية فخارية - تجد الفنان العربي يتعمد إهمال التفصيلات «كما هي الحال اليوم في الفن التجريدي المعاصر»، فكأنما هو يرسم تخطيطا لطائر، ولا يرسم طائرا، أو يخطط لغزالة ولا يرسم غزالة، وهكذا - لماذا؟ لأنه في صميم تكوينه العقلي لا يعبأ كثيرا بالأفراد أو المفردات، وإنما يريد «الخلاصة» العامة المجردة ليسهل حملها معه وهو مسافر في الفلاة على ظهور الإبل، شأنه في ذلك كشأنه تجاه اللغة؛ فهو يحرص على «الأصل الثلاثي» ليحمله معه أينما سار، وأما ما يتفجر من ذلك الينبوع اللغوي، فيتركه إلى حين الحاجة إليه.

ولعل بعض السر في اكتفاء العربي بالأصول العامة دون الفروع التفصيلية هو إيمانه العميق بسرعة زوال الأفراد، أما ما يبقى فهو الأصول في تجريدها وتعميمها. ولا بد لنا أن نلحظ في هذا الموضع من الحديث أن العربي في غضه النظر عن الأفراد مكتفيا بالرءوس كثيرا ما انتقل معه هذا النظر إلى ميدان الحياة الاجتماعية فأسقط أفراد الناس من حسابه مكتفيا ب «الذوات» التي لها بروز وارتفاع.

ومما يتفرع عن هذه الخاصة في النظرة العربية، ميله إلى تكثيف المعنى في أقل حيز ممكن من اللفظ؛ ومن هنا كان حبه للمثل السائر أو للحكمة المضغوطة في جملة قصيرة؛ فهو يريد صميم اللباب ليطير معه في انتقاله السريع، ولا يريد التفصيلات التي يثقل حفظها وحملها، ولقد مرت بي ملاحظة نافذة في هذا الصدد (ولست أذكر إن كنت طالعتها عند ابن جني في «الخصائص» أو عند الجاحظ في «الحيوان») وهي أن القرآن الكريم إذا ما وجه الخطاب إلى بني إسرائيل أطنب في القول، وإذا وجهه إلى العرب أوجز، وذلك لاختلاف الفئتين في طريقة الفهم والتعبير، وإني لأود من القارئ ألا يفوته بأنه إذا كان كتابنا اليوم قد تعلموا تحليل التفصيلات في أدب القصة أو أدب المسرح، فذلك جانب طرأ علينا حديثا نقبله ولا نرفضه، لكن لنعلم أنه بعد جديد أضيف إلى الصفة العربية الأصيلة.

لقد بلغ ميل العربي إلى التجريد دون الاهتمام بالأفراد من حيث هم أفراد، أن الشاعر العربي إذا تغزل في امرأة فلم يكن في معظم الحالات يقصد إلى امرأة بعينها، بل إن غزله منصب على «نوع» المرأة بأسره، وكذلك قل فيه إذا وصف جوادا أو بعيرا أو ما شئت مما كان يتعرض لوصفه.

وثالثة الخصائص التي تجعل من العربي عربيا في نظرته إيمانه، بأن الحضارة الصحيحة إنما تدار على محور الأخلاق؛ فليس المهم فيمن هذبته الحضارة أن يكون قويا بسلاحه، ولا قادرا بماله، بل المهم هو أن يقوم التعامل بين الإنسان وربه، والإنسان والإنسان، على أنماط رسمتها السماء لأهل الأرض، وحيا عن طريق أنبيائها وما كل حضارة جرت هذا المجرى لأن ثمة من الحضارات - ومنها حضارة هذا العصر - تجعل أخلاقها نابتة من الأرض، لا هابطة من السماء؛ فالقيم الأخلاقية في غير العروبة، قد يجعلونها أدوات لسعادة الإنسان، أو وسائل لمنفعته أو يجعلونها متمشية مع منطق العقل، أو غير ذلك من التحليل والتعليل، وأما جوهر العروبة فاعتقاد بأن الخالق يشاء ويأمر، والمخلوق يطيع بغير سؤال: هل تتحقق له السعادة في حياته على هذه الأرض أو لا تتحقق، هل تأتيه المنافع بناء على سلوكه الذي أطاع به خالقه أو لا تأتيه، هل يرضى منطق العقل من ذلك السلوك أو لا يرضى؟

ويتفرع عن هذه النظرة جانب هام في الشخصية العربية - كائنا ما كان إقليمها من الوطن العربي - وهو أن العربي - وهو ما تجعله خاصية رابعة من خصائص الثقافة العربية - إذ يقابل بين الأفعال أو الأحياء أو الأشياء التي يصادفها في حياته الواقعة من جهة، وبين مثلها العليا من جهة أخرى ليستطيع تقويمها؛ فهو إنما يقابل بين طرفين، كلاهما واقع من كائنات هذه الأرض؛ فهو يقيس هذا الفرد المعين من أفراد الناس، إلى فرد آخر يراه مثالا للكمال، ويقيس هذا الجواد أو هذه الناقة إلى جواد آخر أو ناقة أخرى؛ وذلك لأنه لا يريد أن يقيس كائنات الدنيا الواقعة إلى تصورات عقلية لا وجود لها إلا في الأذهان، على خلاف أبناء الثقافة الأوروبية؛ فهم هناك (كما ترى في فلسفتهم) يجعلون المقابلة بين عالم الأفكار وعالم الأشياء، لا بين الأشياء والأشياء، ولقد أطلقوا على المذهب الذي يعطي الأولوية للأفكار اسم: «إيديالزم» مأخوذة من كلمة تعني «فكرة»، ويطلقون على المذهب الذي يجعل الأولوية للأشياء اسم: «ريالزم»، وهذه أيضا مأخوذة من كلمة تعني «شيء». ولقد أخطأ الناقل العربي حين ترجم هاتين الكلمتين على التوالي بكلمتي «مثالية» و«واقعية»؛ لأن كلمة «مثال» العربية لا تعني كائنا عقليا بقدر ما تعني كائنا هنا نراه ونلمسه ونتمثل به ونجعله ماثلا أمام أبصارنا لنقيس عليه، وكذلك كلمة «واقع» لا تعني مجرد أشياء بغير إضافة قيمة معينة إليها، وإنما «الوقوع» هو هبوط وسقوط، ولو كان الناقل العربي أضبط فكرا، لجعل للإيديالزم كلمة «الذهنية»، وللريالزم كلمة «الشيئية» فيكون الاسمان العربيان مطابقين للاسمين الإفرنجيين.

أريد بهذا أن أميز طريقة الإدراك العربي، بالقياس إلى طريقة الإدراك عند شعوب أخرى، وأكرر القول بأن العربي يقصر نظرته على دنيا الكائنات الفعلية، يوازن بين بعضها وبعضها الآخر، وهي بأجمعها «واقع» - سواء في ذلك ما هو أدنى وما هو أعلى - لأنها كلها كائنات أرضية زائلة فانية، ولا يجوز خلطها بكائنات سماوية من قبيل «المثل» التي تصورها أفلاطون وسار على دربه في ذلك كثيرون.

نعم إنني أعلم أن بعض فلاسفة المسلمين الأقدمين استخدموا عبارتي «عالم الأذهان» و«عالم الأعيان» في مقارنتهم بين الأفكار العقلية من جهة وتجسيداتها في عالم الأشياء من جهة أخرى، لكن هؤلاء كانوا تحت تأثير الفلسفة اليونانية، على حين أني هنا أحاول استخراج «العقل العربي» من لغته العربية، فما دامت الكلمتان العربيتان «مثال» و«واقع» كلتاهما تشير إلى أشياء في هذه الدنيا (ولاحظ معنى «السقوط» أو «الهبوط» في كلمة «دنيا») فلنا الحق - إذن - في الحكم على طريقة الرؤية العربية من خلال ألفاظها ومضموناتها.

ومؤدى هذا كله هو أن العربي في نظرته إلى الكون يطمح دائما إلى مجاوزة ما هو واقع - مهما كانت منزلته - ليبلغ ما هو وراء الواقع؛ أي أن يجاوز دنيا الفناء إلى عالم الخلود.

والفن العربي شاهد على صدق هذا الذي نقوله؛ فجانب كبير من الفن العربي يتخذ شكل وحدات متكررة، كما ترى في الوحدات الزخرفية على جدران المساجد، أو في الأنماط التي تصمم عليها المشربيات - مثلا - وهذه الوحدات المتكررة أينما وجدتها ترى عينيك قد انتقلتا من طرف إلى طرف دون أن يكون هناك ما يستدعي الوقوف إلا أن يكون الحائط المزخرف قد انتهى، وعندئذ ينتهي دور البصر ويأتي دور الخيال؛ لأنه هو الذي سيكمل تسلسل الوحدات إلى ما لا نهاية.

وطيران الإنسان بخياله إلى اللامتناهي، قافزا من الواقع إلى ما وراءه، هو في صميم الصميم من المركب الثقافي الذي يطلق عليه اسم «العروبة»، إنها طريقة للنظر خاصة بنا، وتميزنا عن سوانا، سواء أجاء مسقط رءوسنا في وادي النيل أم في وادي دجلة، في الجزيرة العربية أم في بلاد المغرب، في أرض الشام أم في أرض اليمن.

وحسبي هذه النقاط الأربع من المكونات الثقافية لأبناء العروبة، وأريد أن أختم الحديث بملاحظتين : الأولى هي أننا قد نجد ثقافات أخرى تشارك العروبة في هذه أو تلك من النقاط الأربع المذكورة، لكنك لن تجدها مجتمعة كلها إلا في العربي وطريقته في النظر إلى الكون والإنسان. والثانية هي أن تحديد تلك الخصائص لا ينفي أن تحاول تغيير ما نريد تغييره منها، إذا وجدناه معوقا لنا في حضارة جديدة، لكننا حين نفعل ذلك نكون بمثابة من يغير في أصوله الموروثة.

إننا لم نحلل فكرة العروبة إلى خصائصها التي ذكرناها لنمدح أو لنذم، بل حللناها لنصف ما هو قائم بالفعل ولكي نقول: إن عروبة العربي هي وجوده الثقافي المتميز؛ فهي لا تمنح بقرار كما قد يتوهم الواهمون.

لكل ثقافة وعاؤها

كان مما يلفت نظري دائما، أن أبناء ثقافة معينة، إذا ما ترجموا شيئا من ثقافة أخرى، لم يسعهم في كثير جدا من الحالات، إلا أن يصبوا الفكرة المنقولة في قوالبهم الفكرية، فإذا هي عندهم شيء يختلف اختلافا بعيدا عن الأصل المنقول، ويحضرني الآن مثل صغير، لكنه قوي الدلالة، وذلك أني كنت ذات يوم أقرأ الترجمة الإنجليزية لإحدى حكايات ألف ليلة وليلة، فلما أراد المترجم أن ينقل عبارة عربية فيها دعاء شخصي لآخر بأن يكثر له الله في «الخير» لم يجد في ثقافته الإنجليزية ما ينقل إليه كلمة «خير» إلا كلمة «دخل»، فأصبح الدعاء القائل في العربية: «زاد الله من خيرك» دعاء في الإنجليزية يقول: «زاد الله من دخلك.»

وليس «الدخل» الذي يسهل قياسه بالجنيهات أو ما يعادلها من وحدات المال، مرادفا ل «الخير» في السياق العربي الذي أسلفناه؛ لأن الخير في هذا المعنى أمر يصعب قياسه بأي معيار؛ فهو الدخل مضافا إليه «بركة» من الله تجعل قليله كثيرا؛ فالبركة في التصور العربي لا يكفي لحسابها وحدات عددية أيا كان نوعها، أو بعبارة أخرى، هي حقيقة «كيفية» يستحيل تحويلها تحويلا كاملا إلى صيغة «كمية».

هكذا تختلف الثقافات اختلافا يتعذر عبوره، مما يثير في النفس ريبة عندما يقال إن هذا الكتاب العربي - مثلا - ترجمة لذلك الكتاب الإنجليزي أو الفرنسي أو غيرهما من اللغات، وتستطيع أن تقرأ في هذا المعنى، ما كتبه أديب العربية العملاق «الجاحظ» (في الجزء الأول من كتابه «الحيوان») بمناسبة ما رآه في بغداد من حركة للترجمة عن اليونانية على أوسع نطاق، فتساءل في دقة وعمق بما معناه، ترى كم هنالك من التطابق بين الأصل اليوناني والصورة العربية؟

ولقد وقعت في هذا الباب على دراسة في الأدب المقارن، قام بها باحث ياباني، لتقارن مقارنة تفصيلية دقيقة بين حكايات «إيسوب» في أصلها اليوناني، وترجماتها الإنجليزية والفرنسية واليابانية، ليستخرج من هذه المقارنة اختلاف «القيم» أو العادات أو التصورات عند الشعوب المختلفة، وذلك على الأساس الذي أسلفناه، وهو أن المترجم في كل لغة لا يستطيع إلا أن يصب الأفكار الأصلية في قوالب لغته، فتحدث المقارنة بين الأصل والصورة في كثير جدا من الحالات.

ولعله من المفيد - قبل أن أمضي في الحديث - أن أذكر القارئ بأن «إيسوب» كان أول من كتب على لسان الحيوان والطير مجموعة حكايات مما جرى العرف على تسميته بالحكايات الخرافية (ولست أوافق على استخدام معنى «الخرافة» في هذا الضرب من الخيال الأدبي)؛ فقد كتب إيسوب حكاياته تلك في القرن السادس قبل الميلاد، ثم ما هي إلا أن ترجمت إلى اللاتينية، ثم إلى كثير من اللغات الأوروبية الحديثة، لعل أشهرها بيننا هي ترجمة «لافونتين» الفرنسية، إبان القرن السابع عشر، وكان للغة العربية حظها في ذلك، فترجمها محمد عثمان جلال (توفي عام 1898م) وهو مترجم من تلاميذ رفاعة الطهطاوي، وله ترجمات كثيرة عن الأدب الفرنسي بصفة خاصة، وقد ترجم حكايات لافونتين المنظومة شعرا، إلى نظم عربي كذلك.

وأحسب أن ليس فينا من لم تصادفه بعض النماذج من تلك الحكايات، في كتب المطالعة العربية في المدارس الابتدائية، وأقول ذلك لأن حكاية «الفأر والأسد» كانت من الأمثلة التي صب عليها الباحث الياباني تحليله العجيب، وخلاصة الحكاية كما يذكر القارئ، أن أسدا أخذته غفوة النعاس، فمشى على جسده فأر، حتى إذا ما بلغ وجهه، استيقظ الأسد من نومه وأمسك بالفأر فاستعطفه الفأر أن يطلق سراحه ولعله ينفعه ذات مرة. فلم يعبأ الأسد بهذا الإغراء لكنه أطلق الفأر، ثم لم تمض إلا أيام قلائل، وإذا الأسد يزأر مرتاعا من هول أصابه، وسمع الفأر زئيره وعرف صوته، فاتجه إليه، ووجده في أحبولة صياد لا يستطيع منها فكاكا، فأخذ الفأر يقرض الحبال بأسنانه، حتى مكن الأسد من الإفلات، وكما هي العادة في حكايات إيسوب (ولافونتين من بعده) تختتم الحكاية بالحكمة المستفادة منها، والحكمة هنا هي ألا نستصغر أحدا؛ إذ لا يدري الإنسان من أين يأتيه الخلاص.

إنها حكاية نذكرها جميعا من كتب المطالعة كما قلت، لكن انظر إلى النتائج المذهلة التي استخلصها الباحث الياباني من مقارنته للترجمات المختلفة في اللغات المختلفة، ولقد وقفت طويلا عند نتيجتين: الأولى هي أن طريقة الخطاب من الفأر إلى الأسد قد اختلفت عند المترجمين بسبب اختلاف ثقافاتهم؛ ففي الترجمة الإنجليزية لم يستخدم الفأر أية لفظة للتعظيم، إنه لم يقل للأسد - مثلا - يا صاحب الجلالة، ولا يا صاحب العظمة، ولا أي شيء من هذا القبيل، بل خاطبه بضمير المخاطب المفرد، قائلا له ما معناه «أنت» بصورة بسيطة مباشرة، وأما في الترجمة اليابانية للحكاية، فقد أضاف المترجم عبارة «يا صاحب الفخامة»، وأرجح أن تكون الترجمة العربية قد أضافت عبارة «يا مولاي» على الأقل إن لم تكن قد زادت على ذلك ألقابا أخرى للتعظيم.

وأما النتيجة الثانية التي استوقفتني فهي عن التعليل الذي تفسر به الحكاية إطلاق الأسد للفأر، فلماذا خلى سبيله وكان المتوقع أن يفتك به، ها هنا أيضا اختلفت الثقافات عند الترجمة؛ فالمترجم الإنجليزي جعل الأسد يحس بشعور الفكاهة في أن يعده الفأر - برغم قدرته المحدودة - رد الجميل، وأما في الترجمة اليابانية، وفي الترجمة الفرنسية كذلك، حيث كان لطبقة الأشراف في كلا البلدين شأن عظيم، وحيث كانت «الكرامة» في نظر النبلاء، بالمعنى الذي كانوا يفهمونه منها، هي القيمة العليا، ومن مقتضيات تلك الكرامة عندهم ألا يقاتل النبيل من هو أدنى منه مرتبة في البناء الاجتماعي؛ ذلك أن الترجمة اليابانية للحكايات وقعت في القرن السادس عشر، عندما كانت طبقة «الساموراي» (أي طبقة النبلاء المقاتلين بسيوفهم)، لها المكانة العليا ووقعت الترجمة الفرنسية في القرن السابع عشر، في عهد لويس الرابع عشر يحيط به طبقة الأشراف بكل مظاهر الأرستقراطية، أقول إنه في ظل الثقافتين اليابانية والفرنسية في عهد الأرستقراطية في كل منهما، أجرى المترجم في سياق ترجمته تفسيرا على لسان الأسد لإطلاق سراح الفأر، وهو أنه مما يجرح كرامة الأسد في موضعه السامي من مملكة الحيوان أن يثأر من فأر غير ذي وزن ولا مكانة.

وكذلك جاء التفسير في الترجمة الأمريكية لافتا للنظر، وهو أن الأسد في تصور المترجم الأمريكي، لم يأكل الفأر؛ لأنه لم يكن في تلك اللحظة جائعا يريد الطعام؛ فالأمر هنا أمر «منفعة» مباشرة، لا أمر «قيمة» عليا.

هكذا صبت كل ثقافة روحها فيما تترجمه من الثقافات الأخرى، ألم يترجم العرب لفظتي «تراجيديا» و«كوميديا» (عندما ترجموا أرسطو) بلفظتي شعر «المديح» وشعر «الهجاء»؟ لم يكن لديهم مسرح، فلم يكن في أذهانهم تصور صحيح للغة الأدب المسرحي؛ ولذلك وضعوا معانيها في القوالب التي يألفونها؛ فكل إناء ثقافي ينضح بما فيه، ولا حيلة لنا في ذلك، لكننا قلما نتنبه إلى هذه الحقيقة، فننسى أن جانبا من المعاني التي ننقلها من الثقافات الأخرى، هو من تصوراتنا نحن لما نقلناه، ثم يزعم الزاعمون أنها «ثقافة مستوردة» على نحو ما يقول بعضنا الآن.

بل الأمر أبعد من ذلك مدى؛ فهو لا يقتصر على النقل من لغة إلى لغة، وإنما يجاوز ذلك إلى النقل من عصر إلى عصر، في تاريخ اللغة الواحدة؛ فنحن العرب المحدثين، إذ ننقل ألفاظنا وعبارات استخدمها العرب السابقون، نتوهم أننا إنما نستخدم ما نقلناه بالمعاني نفسها التي أرادها السابقون مع أن تغير خبراتنا عن خبراتهم، يجعله ضربا من المحال أن تظل أوعية اللغة حاملة للمعاني نفسها برغم ذلك الاختلاف البعيد في الخبرات؛ فلقد كنت أقرأ منذ أيام قليلة مقالة يبين فيها كاتبها المعاني الأصلية لهذه الأسماء: حصان، فرس، جواد، خيل، فكان مما نبه إليه أن «الفرس» فيها معنى الافتراس؛ ولذلك فهي أصلح لحالة الهجوم في القتال، على خلاف اسم «الحصان» لأنه يحمل في طيه معنى الحصن والتحصن والحصانة؛ ولذلك فهو الأصلح لحالة الدفاع ... إلى آخر ما أورد كاتب المقال في تحليله، فإذا كان مصيبا في تحليله ذاك، أفلا ينشأ لدينا سؤال، هو: هل منا من يلتفت إلى المحتوى الأصيل لهذه الأسماء وهو يستخدمها؟ لقد ذهب ذلك المحتوى مع ذهاب الخبرات التي كانت أنشأته وأصبح لنا خبرات أخرى مع هذا الصنف من الحيوان، فلم نعد نستخدمه في القتال، وبالتالي لم تعد هناك ضرورة لإيجاد الفوارق بين فرس يهجم وحصان يدافع وما إلى ذلك من فواصل، إننا نعلم أن «المترادفات» الكثيرة في اللغة العربية للمعنى الواحدة لم تكن في الأصل مترادفات متطابقة المعنى، بل كانت أسماء مختلفة لحالات مختلفة، ثم ذهبت منا خبرة الحياة الماضية التي كانت تتطلب إيجاد تلك الفوارق، فسقطت بالتالي من حسابنا، وأصبحت عندنا «مترادفات»؛ أي متطابقات في معناها، بعد أن لم تكن كذلك.

إنه ليكفينا هذا التحول في خبرة الإنسان عصرا بعد عصر، وجيلا بعد جيل، ليدرك كم هو كلام بغير معنى يقال لنا: أعيدوا الثقافة العربية القديمة لتحيا بنا ونحيا بها مرة أخرى، اللهم إلا إذا وضعنا لمثل هذا القول قيودا وحدودا تجعله ممكن التطبيق.

قواقع من ثمود

كانت السور القصار هي أول ما التقى بسمعي من القرآن الكريم، وأقول «سمعي» ولا أقول «عقلي»؛ إذ كيف كان لصبي في الخامسة أن يدرك ما احتوى عليه اللفظ القرآني المعجز من معان، اقتضته بعد ذلك عمرا طويلا ملأه بالدرس والتأمل، ليفهمها الفهم الصحيح، أو ما ظنه الفهم الصحيح؟ لكن صبي الخامسة - مع ذلك - قد أرهف أذنيه للنغم، فما زلت أذكر - بعد هذه الأعوام الطوال - كيف كان ذلك الصبي المفتون بما سمع وما حفظ، يترنم لنفسه بآيات خاصة أكثر من سواها، ولست أدري الآن ماذا كان سر اختياره لما يترنم به، وكان منه قوله تعالى في سورة الشمس:

فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها * فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها .

إن الصبي لم يسأل يومئذ، ولا قيل له بغير سؤال، ما ناقة الله؟ وما سقياها؟ ومن هم ثمود الذين قيل لهم هذا القول؟ ومن رسول الله الذي قاله؟ ولماذا كذبوه؟ وما الذي فعلته ناقة الله بالقوم حتى ضاقت بها صدورهم فعقروها؟ لا، لم يسأل الصبي عن شيء من هذا، ولا طاف بباله أن يسأل، وربما لو سأل لما جاءه الجواب.

ومضت السنون وأصبح الصبي شابا طلعة، يكثر الأسئلة عما يصادفه من صنوف المعرفة التي أخذت تتكاثر عليه، وقد كان ذلك الشاب محبا لقراءة القرآن ولبث أعواما يقسم الكتاب الكريم بين أيام الشهر ليقرأ في كل يوم جزءا من أجزائه الثلاثين، ووقف عند سورة الشمس مرة أخرى، فلم يزل مفتونا بنغمها كما كان سلفه الصبي مفتونا. لكنه في تلك المرحلة الجديدة كان قد فهم من معانيها ما لم يحاول الصبي أن يفهمه، لولا أنه هذه المرة قد وقف وقفة متسائلة، ولم يعثر على شيء يرضي فيه تساؤله ذاك طوال الشباب، بل وما بعد الشباب بكثير، وكان مصدر حيرته هو الرابطة التي عساها أن تربط قول رسول الله لقبائل ثمود، ما قاله عن ناقة الله وسقياها، بالآيات الأولى من السورة؛ فالآيات الأولى ضروب من القسم، بمشاهد من الطبيعة أولا، وبجوانب من طبيعة الإنسان ثانيا:

والشمس وضحاها * والقمر إذا تلاها * والنهار إذا جلاها * والليل إذا يغشاها * والسماء وما بناها * والأرض وما طحاها - تلك هي مشاهد الطبيعة التي أقسم بها سبحانه وتعالى، ثم تأتي جوانب من فطرة الإنسان:

ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها

وعند هذه اللحظة تحدث النقلة فجأة:

كذبت ثمود ...

إلخ، فكان السؤال الذي طرحه الشاب، وطرحه الرجل الناضج من بعده، سؤالا يريد أن يفهم الرابطة بين آيات القسم في مرحلتيها السابقتين، وتكذيب ثمود الذي استدعى من رسول الله أن يوجه إليهم نذيره، ثم دارت دورة السنين مرحلة أخرى، فإذا الرابطة المقنعة تتجلى أمام الشيخ المتأمل ، وقد كان يمكن لها أن تتجلى قبل ذلك لو أنه أمعن النظر في تفصيلات الموقف، ووقع فيه على الحقيقة المفتاح.

وتلك الحقيقة المفتاح هي أن قبائل ثمود عرفت ببراعتها في فن النحت، تنحت الصخر بيوتا وتماثيل وما شاءت لها موهبتها الفنية أن «تبدعه»، كان الوادي الذي يسكنونه (فيما هو الآن حدود الأردن مع الجزيرة العربية) صخري القاع والجدران، فأغرى أهله بأن يتخذوا من فن النحت متعة ومورد كسب في آن معا؛ إذ كانوا يبيعون التماثيل (أو الأصنام إذا شئت) للمسافرين من الجزيرة العربية إلى الشام أو من الشام إلى الجزيرة العربية.

فلما أرسل إليهم «صالح» عليه السلام، كانت معجزته من جنس ما برعوا فيه - وهو الشأن في معجزات الأنبياء جميعا؟ فإذا كانت براعتهم أن يقدوا من الصخر تماثيل تحاكي الأحياء، فليخرج لهم رسول الله من الصخر ذاته كائنا حيا، هو الناقة التي انشق عنها الصخر فخرجت لهم كاملة التكوين نابضة الحياة، لم يلدها أبوان، ولم تتدرج في النماء، فبهت القوم لما يرون ماثلا أمام أبصارهم، إنها ناقة الله.

وتريد ناقة الله أن تشرب كما يشرب سائر الأحياء، ويطالب لها رسول الله صالح عليه السلام بالسقيا، فلم يكن من جماعة ثمود إلا أن تشعر بالهزيمة، وكان أقسى جوانب هزيمتهم هو شعورهم بالنكبة في موضوع اعتزازهم وفخرهم، ألا وهو إخراج الكائنات المنحوتة من صم الجلاميد، فأين يكون كل ما أخرجوه من تماثيل إذا قيس إلى هذه الآية المعجزة تنبثق من جوف الصخور؟ لكن العزة قد أخذتهم بالإثم، فكذبوا الرسول فيما تشهده الأبصار، وعقروا الناقة غيظا،

فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها .

وضحت لي الرابطة التي كنت أبحث عنها في سورة الشمس؛ فالعقل عند تلاوتها ينتقل انتقالا مسلسلا جميلا، من مشاهد الكون الفسيح إلى دخيلة النفس الإنسانية المنطوية على فطرة محايدة، تتشكل فجورا عند الفاجر وتقوى عند التقي، ثم ينتقل العقل من هذه النفس في جملتها إلى مجال إبداعها الفني، هكذا يكون التسلسل: الكون، فالإنسان مجتزأ من ذلك الكون، فالفن مجتزأ من ذلك الإنسان .

وعند انتقال الذهن - في مجال الفن - من المنحوتات الصخرية التي كانت تبدعها ثمود إلى الناقة المعجزة التي انشق عنها الصخر فكأنما تضيء له ومضة من الإلهام بأن الفن كله إما أن يكون من أجل الحياة وإما ألا يكون، وكيف يكون الفن من أجل الحياة؟ إن الإنسان يريد أن يحيا حياته طولا وعرضا وعمقا ما استطاع سبيلا، فإما أن يحياها طولا فذلك قد يكون مرهونا - من جانب الإنسان - بنتاج العلوم الخاصة بالتغذية والصحة والطب وما إليها، وإما أن يحياها بالعرض فمتوقف على اتساع الدائرة التي يجول فيها فيزداد خبرة بالأرض والسماء وما بينهما، وإما أن يحيا حياته عمقا فها هنا تأتي الفلسفة ويأتي الفن؛ لأن نتاج العلم في الحالة الأولى واتساع الخبرة في الحالة الثانية، إنما يأتيان إلينا متفرقات مجزأة لا رابطة بينها، إننا عندئذ نكون كمن يصادف أفرادا من الناس هنا وهناك دون أن يعلم أنهم أبناء أسرة واحدة حتى إذا ما عرف عنهم هذه الرابطة كان كمن يراهم رؤية أوضح، وهكذا تفعل الفلسفة بمتفرقات المعرفة تحاول أن تكشف عن الرباط الذي يجمعها عند نقطة التقاء واحدة. وأما الفن فأمره عجب لأنه هو الذي يكشف لك عما وراء الأقنعة التي تستر عنك حقائق الناس وطبائع الأشياء؛ فمن ذا الذي كشف عن العلاقة الدفينة بين الولد والوالدين إلا سوفوكليز في أوديب؟ من ذا الذي كشف عن حقيقة الازدواج الوجداني بين البنات وأبيهن إلا شكسبير في الملك لير؟ من ذا الذي كشف الستار عن دخيلة البخلاء إلا الجاحظ؟ من ذا الذي جسد تطلع الإنسان إلى الخلود أروع مما جسده الفنان المصري القديم؟

ناقة الله وسقياها

هذا ما طالب به رسول الله جماعة ثمود، وأما ناقة الله فقد أصبحت توحي إلي بمعنى التفوق عما هو سائد بين الناس، كان السائد في قبائل ثمود أن ينحت الصخر أصناما لا تنفع ولا تشفع، فخرجت ناقة الله من جلمود الصخر لتقيم المثال بأن يكون الفن للحياة، وما دام المثل الأعلى قد ارتسم أمام الأبصار والأذهان وجب على الناس رعايته و«سقياه» ليعيش. لكن ثمود أخذتها الغيرة العمياء حفاظا على ما هم فيه، فعقروا الناقة المعجزة لئلا تظل أمامهم تتحدى.

ولم تنفرد ثمود دون سائر البشر بنيران الغيظ المسموم التي تأكل القلوب أكلا وتنهش الأكباد نهشا، بل إن في كل قوم جماعة من ثمود! فإذا كانت ثمود قد عقرت الناقة المعجزة ليطمسوا الشاهد الذي يظهر ضآلة فنهم، فما زلنا حتى يومنا نتلفت حولنا فإذا بقايا ثمود لم تزل فينا حية تسعى، ولن أتحدث هنا عن أقوام بعيدة لا أعرف عنها إلا قشورا من أخبارها بل إني لأوجه بصري إلى الدائرة الضيقة التي أعرف أفرادها باطنا لظاهر، فيقع البصر أول ما يقع على قواقع ثمودية رابضة في حنايا الصخور، أخذت على نفسها ألا يرفع رأسه رافع إلا وتتوالى منها الضربات على أم ذلك الرأس حتى يتهشم أو يختفي، فإذا أراد صاحبه أن يعيش كان الشرط الأول لبقائه هو أن يتجانس معهم في هزال الفكر وضيق الأفق.

ناقة الله وسقياها

هذا هو اللواء الذي يجب أن يرتفع فوق الرءوس لنهتدي بضيائه بمعنى الدعوة إلى التفوق والامتياز، ثم رعاية ذلك التفوق وهذا الامتياز بالغذاء الصالح حتى لا ينتكس.

تفوق سقراط على سائر مواطنيه فكان جزاؤه المحاكمة، وجريا على سنة القانون اليوناني عندئذ طلبت منه المحكمة أن يقترح على نفسه حكما ليوازن بينه وبين حكم القضاة لعلهم يلتمسون نقطة وسطا، فأجابهم ساخرا بقوله إنه لا يرى إلا أن تجري عليه الدولة راتبا لما يؤديه نحو أثينا وصالحها.

هكذا بدأ الصبي الذي كنته عند الخامسة مفتونا بالنغم الحلو في قوله تعالى:

فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها ، وهكذا انتهى الشيخ مرورا بتطلع الشباب ونضج الرجولة إلى ما وراء النغم الجميل من مبدأ للارتقاء بالناس نحو الأعلى، فإذا كذبت فينا ثمود حقت عليها اللعنة إلى يوم الدين.

توبة الهارب

لا تسلني ماذا كانت أوجه الشبه بيني - عندما كنت حبيس عيني المعطوبة - وبين يونس (عليه السلام) وقد احتبسه الحوت في جوفه، لا تسلني سؤالا كهذا لأنني لا أعرف الجواب، وكل ما أعرفه أن قصة يونس وهو في جوف الحوت، كانت تعاودني في محنتي، وربما كان ذلك لشبه بعيد بين الحالتين؛ فكلانا أراد الهرب من مواجهة الناس، فجاءت الأحداث لتستخلص من محاولة الهرب درسا وعبرة؛ أما يونس فقد تعلم الدرس ووعاه، وأما أنا فلست أدري كم نالت مني عبرة الحوادث.

لقد لبثت أعواما تغلبني الرغبة في أن أعيش بين الناس وكأنني ظل يتحرك بلا صوت، قد تراه الأعين ولكنه وجود بلا كثافة؟ أو قل إني أردت العيش بين الناس وكأنني القبرة التي كتب عنها «شلي» قصيدته التي قرأها كل من كانت له صلة بالأدب الإنجليزي؛ إذ قال الشاعر عن القبرة إنها صوت تسمعه الآذان ولكنها خافية لا تعرف الأبصار أين مكانها، وكان هذا الخفاء في حياتي أمرا أردته باختياري، فلما أن عطبت العين وحبستني بين الجدران، لم أزدد بذلك خفاء، ولكنه كان هذه المرة خفاء رغم أنني، أردته أو لم أرده؛ ومن هنا كانت الرابطة بيني وبين يونس في محنته:

كان الفساد قد استشرى في المدينة القديمة «نينوى» فلم يعد يربط الناس بعضهم ببعض روابط العدل والرحمة، فقسا على الضعيف من استطاع أن يقسو، وخدع الخادع، ونهب الناهب، واستبد المستبد! فأوحى الله إلى يونس أن قم في أهل «نينوى» مناديا بتقويم ما اعوج من أمرهم، وبإصلاح ما فسد، فما ينبغي لمدينة عظيمة كنينوى، يعمر أهلوها اثنتي عشرة ربوة، ويفيض فيها من نعيم الله ما ملأ بقاعها بالماشية والغنم، ما ينبغي لمدينة عامرة غنية كهذه، أن يسلك أهلها سبل الضلال، وأن يختلط في أعينهم الحق بالباطل، لكن يونس قد هاله هذا العبء الجسيم يلقى على كاهله، فلم يجد بدا من الفرار من أمر الله فترك «نينوى»؛ إذ لو بقي فيها لأرق جنبيه لذع ضميره كلما شهد في المدينة فسادا، وهو الذي أمره الله أن ينهض بتطهيرها من فسادها.

غادر يونس المدينة الفاسدة، وقصد إلى شاطئ البحر عند مدينة يافا، وهناك وجد في المرفأ سفينة أوشكت أن تقلع ذاهبة إلى أقصى الطرف الغربي من البحر الأبيض المتوسط، فيما وراء جبل طارق من الشاطئ الإسباني، وكان ذلك هو آخر الدنيا كما يعرفها الناس يومئذ؛ لأن وراء ذلك لم يكن إلا المحيط الأطلسي المجهول، وإن في ذلك لرمزا واضح المعنى، وهو أن يونس قد أراد أن يباعد بينه وبين نينوى بأطول مسافة تمكنه منها الأرض والبحر، كأنما هو قد أراد بذلك أن يبعد قدر المستطاع عن نداء ضميره له بأن يضطلع بواجبه المقدس في إصلاح الفساد.

ولكن أين المفر من الضمير إذا ألح بالنداء؟ كان يونس وهو يسأل المسافرين والبحارة عن السفينة وطريقها ومقصدها، وهل يجد فيها لنفسه مكانا، كان وهو يفعل ذلك مضطربا يأخذ منه الفزع، حتى لقد أيقن الجميع بأنه ذو خطيئة أراد الفرار من وجه القانون، فأحاطوه بنظرات الريبة، وأخذوا يتساءلون فيما بينهم: أيكون هو قاتل أبيه الذي أعلنت عنه السلطة؟ أم يكون هو الذي سرق مال الأرملة وهرب؟ وكان يونس كلما اصطنع الجرأة والثقة بالنفس ليزيل عن الناس ريبتهم ازداد ربكة، فازداد الناس من حوله ارتيابا.

أقلعت السفينة، ولم تكد تضرب في عرض البحر حتى هبت ريح عاتية، ماج لها البحر واضطرب، وأخذ الموج يعلو بالسفينة ويهبط، ويدفعها إلى هناك ثم يجذبها إلى هنا، وهي مع هذا الدفع تميل بحافتها حتى تمس حافتها سطح الماء، فامتلأت قلوب ركابها فزعا، وأخذوا يتصايحون في هلع ويتخاطبون في رعب وانفعال، وأخذ البحارة يقذفون في البحر بما قد حملته السفينة من أثقال البضائع والأمتعة، لعل حملها إذا ما خف عنها، سلس في أيديهم قيادها، وجثا جميع ركابها ضارعين إلى ربهم أن يزيل عنهم الكرب ويكتب لهم الأمن ...

إلا يونس! فقد كان في نومه العميق، لم توقظه كل هذه الأحداث، فلما جاء ذكره على الألسنة، نزل إليه القبطان وأيقظه في غضب شديد؛ إذ كيف يطيب له نوم والدنيا من حوله هائجة صاخبة؟ وكان ركاب السفينة على يقين بأن النكبة إنما قصد بها واحد منهم أغضب الله بعصيانه، فمن ذا يكون؟ فاتفقوا على رمي القرعة، ومن وقعت عليه كان هو المسئول عما حل بهم من كوارث، وألقوا بالقرعة فوقعت على يونس.

أحاطوا جميعا به، كل يسأله سؤالا: من أنت؟ ما صناعتك؟ من أي بلد أتيت؟ إلى أي شعب تنتمي؟ ماذا فعلت لتغضب الله؟ فلم يطلب يونس منهم الرحمة، بل حثهم على أن يلقوا به في البحر تخفيفا عن السفينة، لقد فطن إلى أن الخطيئة التي حملتها السفينة فيما حملت، والتي أثارت غضب الله، إنما تتجسد في شخصه، وقال لمن وقفوا حوله: لقد أمرني الله بأمر فلم أطعه، وفررت من وجهه أبتغي النجاة مما كلفني به، وجئت إلى مركبكم هذا ليذهب بي إلى حيث الأمان والسكينة، فلا يعرفني أحد ولا أعرف أحدا، اطرحوني في البحر يسكن لكم البحر ويهدأ؛ فهذه الرياح العاتية وهذا الموج الثائر إنما يصيحان في طلبي.

أشفق أصحاب السفينة من فعل ما أذن لهم يونس أن يفعلوه به، وآثروا أن يعودوا بالسفينة إلى البر، لكن موج البحر قد استعصى على مجاديفهم، فالتمسوا من الله عفوا ورحمة، ثم حملوا يونس وألقوه في البحر، فسكن البحر من فوره، وكان الله قد أعد ليونس حوتا ضخما، فابتلعه الحوت، ليستقر يونس في جوفه ثلاثة أيام. فريدة في نوعها هذه الوحدة العجيبة التي فرضت على يونس؛ إذ هو في جوف الحوت، لقد أرادها وحدة يغيب فيها عن حمل التبعات، فهيأ له الله وحدة تبلغ به الحد الأقصى ليشبع وحدة إذا أراد! إنه ليسير على خيالنا أن يتصور الوحدة في مختلف صنوفها، إلا هذه الوحدة العجيبة، يسير على الخيال أن يتصور الراهب وقد اعتزل الدنيا في صومعة يحفرها في صخر الجبل النائي، أو يقيمها بين كثبان القفر البعيد، يسير على الخيال أن يتصور رجل العلم وقد ألهاه علمه عن شئون دنياه، ويسير على الخيال أن يتصور الشاعر أو الفنان وقد ارتضى لنفسه مقاما على ربوة معزولة أو في جوف واد عسيق، مستغنيا بأنس الطبيعة عن كل أنيس من بشر. أما هذه الصومعة الفريدة التي أوى إليها يونس فأمرها عجب، إن ظلامها دامس طامس، ومع ذلك فليست غرابتها في ظلامها؛ فلم تكن معدة الحوت بالفراش الوثير، بل كانت بالطبع ملأى بما يقض الجنوب، وبما يحدث الغثيان بإفرازاته الزلقة وجدرانه الرخوة.

إنها محنة أن تقع القطيعة بين الإنسان والعالم، ترى كيف أحس أولئك الذين ضلت بهم سبيل البر أو سبيل البحر، في يباب قفر، أو أغرقوا في يم لا يسمع أناتهم سامع؟ ومع ذلك فأولئك جميعا كان يؤنسهم ضوء الشمس، أما هذا المصير في هذا الجوف الأعتم فأمره عجب!

كان الله قد هيأ ليونس - وهو في طريق فراره من «نينوى» قاصدا إلى شاطئ البحر - ما كان قميئا أن يعلمه الدرس لكنه لم يتعلم، ذلك أنه كان أنبت عليه شجرة من يقطين (نبات القرع) لتقيه لفحة الشمس، فاستظل يونس باليقطينة نهارا كاملا، وحسب أن سيدوم له ظلها، لكن فجر اليوم التالي لم يبزغ حتى أعد الله لشجرة اليقطين دودا أتى عليها، وتعرض يونس لوقدة الشمس من جديد، وهبت عليه ريح شرقية حارة، حتى أخذ منه اليأس مأخذا آثر معه الموت على الحياة، فهتف به هاتف: أرأيت كم بلغت حسرتك على يقطينة لم تكن أنت منبتها؟ إنك لم تنعم بها أكثر من يوم واحد، أفلا يكون أولى بالحسرة أن ترى مدينة عظيمة مثل «نينوى» يدب فيها الفساد فتتهاوى بعد أن تعاونت القرون المتعاقبة على بنائها؟

لكن يونس لم يستمع بوعيه الكامل إلى صوت الهاتف، ومضى في طريق الهرب من أداء واجبه المقدس نحو مدينته، فكان ما كان من أمر السفينة وهياج البحر والحوت، وها هنا فقط استيقظ وعيه لصوت ضميره، فدعا ربه من ذلك الجوف العجيب قائلا: اللهم إني أدعوك من ضيقي فاستجب دعائي، وأصرخ من جوف الهاوية فاستمع إلى صراخي، اللهم افتح أمامي هذا الجب المغلق، أطعك فيما أمرتني به. واستجاب الله، فأمر الحوت أن يقذف حمله على الشاطئ، ولفظ الحوت يونس على البر عليلا سقيما، فما إن ارتدت إليه قواه، حتى عاد الله فأمره بأداء الرسالة نفسها، وهي أن يذهب إلى «نينوى» فيصلح من أمرها ما فسد، ففعل هذه المرة كما أمر وصلحت «نينوى» ما شاء لها الله أن تصلح.

هكذا تاب الهارب من وجه الواجب نحو مدينته فعاد، فهل لنا من توبة مثلها لنعود إلى مصرنا عودة يونس إلى نينوى؟

ألف ليلة وليلتان

هي مغامرة في دنيا الخيال، غامر بها بعض أدباء الغرب، وليس في علمي أن أديبا عربيا غامر بمثل ما غامروا؛ ذلك أن شهرزاد - كما نعلم جميعا منذ الطفولة - قد عرفت للكلام سره وسحره، فأخذت تصب حكاياتها في مسمع شهريار الملك، على فترة طالت حتى بلغت ألف ليلة وليلة، فاستطاعت بحلاوة الخيال أن تصرف شهريار عن قتل بنات جنسها؛ إذ لولاها لقتل واحدة منهن كل ليلة.

وخطر سؤال على بعض أدباء الغرب، هو: ماذا حدث لشهرزاد في الليلة الثانية بعد الألف؟ وكان بين هؤلاء الأدباء «إدجار ألن بو» في قصة له جعل عنوانها «الحكاية الثانية بعد الألف لشهرزاد» بدأها بقوله إنه عثر على مخطوطة قديمة، ربما كانت مجهولة عند المشتغلين بتحقيق النصوص، وإذا هي مخطوطة تحمل قصة شهرزاد، وقد أخذتها شهوة القصص بعد أن كانت أكملت مهمتها، فأرادت في الليلة الثانية بعد الألف أن تستأنف حكاياتها بحكاية أخرى، زعمت لشهريار أنها تتمة لما كانت قصته عليه من مغامرات سندباد، لكن شهريار ضاق صدرا تلك الليلة بشهرزاد، ولم يرد أن يسمع منها شيئا، وأمر بها الجلاد فساقها إلى القتل، لتلحق بأخوات لها سبقنها إلى المصير نفسه، وهكذا لاحقتها ثرثرة النساء حتى لحقتها بلعنتها.

وكذلك حاول أديب آخر، هو الذي اشتهر في الأدب باسم مستعار، وهو «مارك توين» (واسمه الحقيقي صموئيل كلمنس)؛ إذ حاول بدوره أن يضيف ليلة إلى الألف ليلة وليلة، ولم يتسع خياله بأكثر مما اتسع خيال «إدجار ألن بو»، فجعل شهريار يضيق بثرثرة شهرزاد، فأمر بها هو الآخر أن تساق إلى المصير المشئوم، لولا أن بديهة القصاصة قد أسعفتها هذه المرة، بأن زعمت للملك أن ثمة حادثة خطيرة نسيت أن ترويها له ، فليمهلها حتى تفرغ منها، فما إن أذن لها بذلك حتى طفقت تحكي وتحكي، ليلة بعد ليلة إلى أن بلغ شهريار نهاية حياته.

قلت لجليسي: انظر إلى صورة الملوك العرب في تصور أدباء الغرب، فهي صورة ليس فيها إلا السيف والدماء، مع أن هؤلاء الأدباء لو أدركوا الروح العربية بعمق، لرأوها روحا تعشق الفن الأدبي إلى حد الفتنة به؛ فكان مما يتفق مع تلك الروح أن تبلغ شهرزاد بسحر أدبها ما كانت قد بلغته بالفعل في الألف ليلة وليلة، ألا وهو أن تشيع السكينة في نفس الملك، فتهدأ عنده نوازع الشر، فلا يعود به ميل إلى سفك الدم، وربما كان أدباء الغرب هؤلاء ليقتربوا من الصواب في إدراكهم للروح العربية في تأثرها الشديد بالفن الأدبي، لو جعلوا شهريار يغدق لشهرزاد العطاء في نهاية الشوط جزاء فنها.

قال جليسي: بماذا تصور الليلة الثانية بعد الألف، لو كنت لتصورها؟

قلت له: أمهلني لحظة، وعلى أية حال فلن يكون مدار الخيال عندي كما كان عند «بو» و«توين»؛ فكلاهما أبقى لشهريار بعد استماعه للحكايات، ما كان له قبل استماعه لها، من رغبة في الانتقام من المرأة، وكأن الكلام لم يكن له في نفسه أثر.

أخذني الصمت حينا قصيرا، وصديقي ينتظر، وسرحت بخواطري إلى حيث لا أدري، ثم انطلقت أروي: «... في الليلة الثانية بعد الألف، همت شهرزاد بمغادرة قصر الملك، لتنخرط في سلك حياتها مع الناس، لكن شهريار لمحها من نافذة غرفته وهي تنزل الدرج إلى الحديقة في طريقها إلى الخروج، فناداها أن عودي، فعادت، ولما مثلت بين يديه أبلغته في أدب الرعية نحو ملوكها، بأنها لا تنوي بعد الليلة أن تحكي كما كانت تحكي؛ لأنها لم تصدر في حكاياتها عن ثرثرة نسوية كما قد ظن أصحاب الظنون، بل أرادت أن تدخل الطمأنينة إلى نفس الملك؛ ليهدأ من قلقه وليبرأ من شهوته في قتل البريئات.

فقال لها شهريار، لك يا شهرزاد أن تصمتي ما شئت، وإنما دعوتك لأكون أنا الحاكي هذه الليلة، ولتكوني أنت المستمعة ، على أن حكايتي لن تكون من جنس حكاياتك الفاتنة بسحرها؛ فقد كنت تستخدمين معي ضروبا من الخيال الجريء الضارب بأجنحته في أجواز المحال، كنت تأخذينني على بساط الريح تارة، وفي الأنفاق المحفورة في جوف الأرض تارة، كانت ضغطة خفيفة منك على خاتم مسحور كفيلة بزحزحة الجبال، وكانت لفظة واحدة تنفثها ساحرة، كافية لإخراج الجن من قماقمه، كان المصباح السحري يصنع المعجزات لعلاء الدين، وكان الرمز الخالي من المعنى يفتح مغاليق الكنوز.

أما حكايتي يا شهرزاد فلا خيال فيها ولا سحر، بل هي حقيقة مأخوذة من وثائق التاريخ؛ فقد جاءني خازن كتبي بكتاب يروي عن مدينة وأهلها أمرا عجبا؛ فهي مدينة من ورق، كلها ورق في ورق، بيوتها من ورق، ومصانعها من ورق، وشوارعها وأنهارها وجسورها من ورق، وأعجب من ذلك أن طعام الناس فيها وشرابهم كانا كذلك من ورق، وأما الناس أنفسهم فهم كسائر الناس، كسيت عظامهم لحما، وتجري في شرايينهم الدماء، ولهم أجهزة الأعصاب التي تفرح وتحزن وتسخط وترضى، كما أن لهم المعدات التي تهضم الطعام لو وجدت طعاما.

قلت لخازن كتبي، وقد كان يفتح كتابا في يده عند الموضوع الذي ذكرت فيه تلك المدينة العجيبة وتاريخها، قلت له اقرأ فإني مستمع! فقرأ لي عن هؤلاء الناس كيف كان وصف الشيء بالكلام يغنيهم عن الشيء نفسه؛ فهي طريقة مجربة عندهم، مارسوها فنجحت فمضوا في ممارستها أعواما بعد أعوام، فلا مات أحد من قلة الطعام والشراب، ولا انهدم بيت على ساكنيه، ولا خلت الطرق من زحامها بعباد الله، ولم تهدأ للناس في تلك المدينة حركة لا بالليل ولا بالنهار.

اشتد بي العجب، فقلت للخازن: امض يا ولدي في قراءة ما أنت قارئه، قل لي كيف كانت تلك المدينة تزرع زرعها، وكيف كانت تصنع صنائعها، وكيف كانت تربي أبناءها، وكيف كانت تعالج شئونها جميعا؟ فقرأ الخازن، وإذا اللغز يزداد غموضا! كيف أمكن لهؤلاء القوم أن يقولوا للأرض الزراعية: زيدي فتزيد؟!

قال القارئ لشهريار: إنهم كانوا يستخدمون طرق التنجيم، وهي طرق ورثوها فيما ورثوا من حضارة السالفين؛ فقد كان لأسلافهم علم اسمه علم الطلاسم.

سأله شهريار: أسرع وقل لي كيف كان ذلك ليتم لهم؟

قال القارئ: مذكور في هذا الكتاب، أنه لكي ندرك كيف يفعل الطلسم فعله فيما يراد له أن يفعله، فينبغي أن نقلب هذه الكلمة، فعندئذ نراها تفسر نفسها بنفسها؛ فمقلوب الكلمة هو «مسلط» (بتشديد اللام)؛ أي إن شيئا يسلط على شيء؛ «فالسلطة» هي مكمن السر في كل شيء.

فإذا ابتغينا استحداث شيء ما، سلطنا عليه ما يماثله، وإذا أردنا أن نتقي شيئا ما سلطنا عليه ما يقابله؛ أي ما يضاده؛ فالمثيل يستخدم لاستجلاب مثيله، والمقابل يستخدم لإبعاد مقابله؟ على أن المماثلة والمقابلة مرتبطان بالكواكب والبروج؛ وعلماء التنجيم قادرون على أن يضبطوا التوقيت الذي يتم فيه استجلاب شيء تحت كوكب معين أو في برج معين، والذي يتم فيه إبعاد شيء يراد التخلص منه.

فلنفرض الآن أننا نريد زيادة مساحة الأرض المزروعة دون أن نلجأ في ذلك إلى حساب أو قلاب، فما علينا إلا أن نماثل بين الزراعة من جهة، وكواكب السماء وبروجها من جهة أخرى. أليست الزراعة تتميز بصفتين من الصفات الأربع التي كانت فيما مضى أساسا للعلم كله، فتتميز الزراعة من تلك الصفات بصفتي البرودة والرطوبة؟ إذن فلنبحث في بروج السماء عما يتصف بهاتين الصفتين المطلوبتين. ويقول علماء التنجيم في ذلك إن هنالك ثلاثة بروج فيها هاتان الصفتان، وهما بروج السرطان والعقرب والحوت؛ وبهذا يصبح الطريق واضحا، وهو أن نكرر كلمة «زرع» آلاف المرات عندما يكون أحد هذه البروج قائما، فيحدث تسلط المثيل على مثيله، فتنزع الأرض كما أردنا لها.

وهكذا يا مولاي في كل الأمور، نريد مثلا شفاء الناس من أمراضهم، فها هنا تكون الخطة هي أن نصنف خصائص الأمراض تحت الصفات، ومضى خازن الكتب يقرأ علي - هكذا قال شهريار في حكايته لشهرزاد - كل ما جاء في ذلك الكتاب العجيب عن تلك المدينة العجيبة، وكان من أغرب ما قرأ، أن المسألة كلها تبدأ بالحروف؛ فهنالك حروف نكتبها فإذا الشيء الفلاني يحدث، لما بين ذلك الشيء والحروف المكتوبة من صفة مشتركة، فإذا أراد القوم - مثلا أن يزيدوا من كمية اللحم والدجاج في الأسواق، بحثوا أولا عن طبيعة اللحم والدجاج من حيث صفاتها، فإذا وجدوا أنها تتصف بالحرارة والرطوبة، كتبوا على رقعة من الورق مجموعة الحروف الدالة على الحرارة، وهي: ا ه ط ف ش د، وعلى رقعة أخرى من الورق مجموعة الحروف الدالة على الرطوبة وهي: و ح ل ع ر خ غ، وتوضع الرقعتان بطريقة خاصة وفي وقت خاص، فإذا الأسواق ملأى باللحم والدجاج.

فماذا ترين يا شهرزاد في مدينة الورق وما يخط على الورق من حروف فتتحقق لأهلها كل الأهداف؟

قالت شهرزاد: إنها يا مولاي لمدينة فاقت في غرابتها غرابة ما رويته لك من حكايات ملئت بالعجائب، وفوق كل عجيبة عجيبة أعجب، لكن لماذا أثارت فيك مدينة الورق وما عليه من كلمات سحرية، كل هذا الاهتمام يا مولاي؟

فأجابها شهريار الملك قائلا: كان أعجب ما ورد في الكتاب عن تلك المدينة، مما استوقف انتباهي وأثار اهتمامي، أن علماء التنجيم فيها قد تنبئوا بأن مدينة أخرى مثلها سيشهدها العالم بعد ميلاد المسيح بنحو عشرين قرنا، فتمنيت لمدينتي أن يكون لها مثل هذا الحظ السعيد.»

الرأي وصاحبه

الحمد لله الذي إذا شقيت في الصحو أسعدني في الحلم، فإن ضقت صدرا لأمر أشكل علي في ساعات النهار، جاءت أحلام الليل بما يشرح لي صدري من صور تزيل عن نفسي كروبها، وإني لأذكر في هذا السياق قصة قرأتها عن الحكيم الترمذي منذ زمن طويل، فمست من نفسي عند قراءتها وترا، وما زلت منذ تلك اللحظة أذكرها كلما نشأت ظروف مشابهة لظروفها، والقصة تقول:

كان الشيخ الترمذي قد عقد النية في أول أمره على الرحلة لطلب العلم في رفقة اثنين من إخوانه، وفي أثناء ذلك مرضت أمه، فقالت له: يا بني إني امرأة ضعيفة، لا عائل لي، ولا معين يعينني، إنك أنت المتولي لأمري، فإلى من تكلني وتذهب؟ فنالت هذه الكلمات منه ، وعدل عن الرحلة ومضى زميلاه في سبيلهما.

ثم مضى في ذلك بعض الوقت، فبينما كان في إحدى المقابر يبكي بكاء شديدا ويقول: ها أنا ذا قد بقيت جاهلا مهملا، وسيرجع أصحابي وقد حصلوا على العلم! إذا به يرى أمامه - فجأة - شيخا مشرق الوجه، فسأله الشيخ عن سر بكائه فأفضى عليه الفتى بحاله، فقال له الشيخ: ألا أعلمك في كل يوم شيئا من العلم، فلا يمر عليك كثير وقت، حتى تسبق إخوانك؟ فأجابه الفتى إلى ذلك. واستمر الشيخ على تعليمه كل يوم، ومضت على ذلك أعوام، ثم عرف الترمذي بعد ذلك أنه إنما حصل على هذا ببركة دعاء أمه.

فإذا أخذنا قصة كهذه بمفهومها الرمزي، رأيناها تصويرا مؤثرا لما يحدث لنا عندما تتأزم حياتنا بشيء من العسر، فيعقبه يسر في الحلم أو الخيال، وهكذا حدث لي منذ قريب عندما سرحت بخواطري، خاطر يذهب وخاطر يجيء، حتى وقعت خلال ذلك على فكرة أمسكت بها فلا تختفي، والفكرة هي أنني تصورت في حياة الشعوب على امتداد تاريخها، لحظات بعينها يتاح فيها للناس رجل أو موقف يكون من شأنه أن يغير وجهة السير، فإذا الناس في مرحلة جديدة من تاريخهم الفكري أو الحضاري، وقد تكون اللحظة من تلك اللحظات ذروة لموجات من الحوادث سبقتها ومهدت لها طريق الظهور، لكن ذلك لا يغير من صورة الأمر شيئا.

فقلت لنفسي: أبحث عن مثل يوضح ما تريد، فلا أدري لماذا قفز إلى ذهني «بطرس أبيلار» من فلاسفة العصور الوسطى في أوروبا، وكنت أعلم عنه أنه وقف من تيار الفكر في عصره وقفة جديدة، مما يصح أن يقال عنها إنها البذرة الأولى - أو إحدى البذور الأولى - التي أخذت تنمو وتتفرع وتورق وتثمر، إلى أن غير الفكر الأوروبي مجراه، وخلاصة تلك الوقفة التي وقفها أبيلار، هي أنه بعد أن رأى القوم من حوله يؤمنون أولا ثم يفكرون بعد ذلك فيما آمنوا به ليفهموه، أراد هو أن يفكر أولا ليفهم من المسائل المعروضة حقائقها بمقاييس العقل، حتى إذا ما صح منها شيء آمن به.

كنت أعلم ذلك عن بطرس أبيلار عندما قفز اسمه إلى ذهني ليكون مثلا للفكرة التي أردت لها ما يوضحها، ثم ما أنا إلا أن وجدت نفسي قائلا لنفسي: أأنت على وعي بأن أبيلار هذا حين وقف وقفته تلك في فرنسا، كان إمامنا الغزالي يقف وقفة شبيهة بها في بغداد، في وقت واحد تقريبا ولم أكد ألحظ هذه العلاقة المثيرة حتى اشتدت بي الرغبة في أن أرجع - في مكتبتي المتواضعة - إلى ما يمكن الرجوع إليه عن أبيلار، وعن الغزالي فيما يختص بهذه النقطة المحددة، وهي: كيف يكون الترتيب الصحيح؟ أهو إيمان فتفكير، أم هو تفكير فإيمان؟ وربما اتخذ هذا السؤال صورة أكثر دلالة على أهميته، إذا نحن تذكرنا أن الإيمان - سابقا للفكر أو لاحقا له - قد يكون إيمانا برجل معين، فيصبح سؤالنا في هذه الحالة هو هذا: أنؤمن بصدق هذا الرجل قبل أن نخضع أقواله للتمحيص؟ أم نبدأ بتمحيص أقواله تمحيصا عقليا موضوعيا، حتى إذا ما تبين لنا صوابه آمنا به؟

قمت مسرعا أبحث في المكتبة عن أبيلار لأتثبت مما قاله، وها هنا أخذ مني الضيق مأخذه؛ فلقد كنت نسيت أنني ما زلت غير قادر على قراءة ما هو مكتوب على كعوب الكتب وهي فوق رفوفها، ولم أجد في كومة المناظير التي تكدست عندي أخيرا، منظارا يصلح لمثل هذه الحالة؛ فعندي منظار للطريق، ومنظار للقراءة القريبة ومنظار للكتابة ومنظار مكبر ومنظار مقرب، لكن ليس في هذه كلها واحد يصلح لرؤية المكتوب على ظهر الكتاب وهو قائم على سنه مضغوط بين جيرانه، وبالطبع لم أفكر في أن أنزل الكتب كلها من فوق رفوفها لأتمكن من رؤية أغلفتها، فيئست من أن أتم ما هممت به، وآويت إلى فراشي محزون النفس فأسرع إلي النعاس.

ألم أقل لك في أول الحديث، إني أحمد الله الذي إذا شقيت بأمر في صحوي، أسعدني في الحلم بما يعوض علي ذلك الشقاء؟ وهذا ما كان، فأحسبني من أسعد الناس حظا في أحلامه؛ إذ قلما تجيئني تلك الأحلام أضغاثا، بل هي في أكثر الحالات صور محكمة التركيب، لا ينقصها إلا فنان يرسمها أو شاعر يصوغها لفظا، فإذا هي لوحة أو قصيدة، ومن المصورين ومن الشعراء من جاء فنهم مستمدا من أحلامهم.

وكانت الصورة العجيبة التي رأيتها تلك الليلة، أهرامات الجيزة الثلاثة وقد جلس في مقدمة أكبرها الشيخ أبو حامد الغزالي، وفي مقدمة أوسطها بطرس أبيلار، وعند أصغرها فرنسيس بيكون، وكان الليل مقمرا، فاكتسى المنظر كله بضوئه مما خلع عليه جوا حالما، لم أسأل في حلمي عن المفارقات التي انطوى عليها الموقف كما رأيته؛ فلم أسأل: لماذا اختار هؤلاء الرجال أهرامات الجيزة مكانا يلتقون فيه، وكيف اجتمع الرجال الثلاثة على ما يباعد بينهم مكانا أو زمانا؟ لم أسأل عن شيء من هذا كأنه من طبائع الأمور التي لا تستوجب سؤالا.

ودنوت من أبي حامد الغزالي متردد الخطى خاشعا لهيبة طلعته ووقار جلسته، وحييت بصوت خافت، وبدل أن أبدأ بالسؤال: ما الذي جاء بك إلى هنا؟ بادرني هو بالسؤال، فقلت إنه أرق الليل دفعني إلى هذه الأهرامات أنعم عندها بالسكون والسكينة، ثم أخذ يستفسر عن مصدر الأرق، وهل كانت في رأسي عند النوم فكرة ملحة منعت عني النعاس؟ فقلت: نعم، كانت، وخلاصتها هي حيرتي بأيهما أبدأ: أنبدأ بالرأي لنعرف نصيبه من الحق، ثم ننتقل منه إلى وضع صاحبه في المكانة التي يستحقها؟ أم نبدأ بالإيمان بصاحبه وأمانته وقدرته، ثم ننتقل من ذلك إلى قبول رأيه؟

قال الشيخ: لو قرأت مؤلفاتي التي تركتها لكم ميراثا، لوجدتني قد ألححت في مواضع كثيرة جدا منها، على أن البدء إنما يكون بالرأي المعروض نحلله ونرده إلى مقدماته التي تولد عنها، حتى نطمئن إلى صوابه، وبعدئذ نحكم لصاحب الرأي أو نحكم عليه، وحسبك قولي في «المنقذ من الضلال» عن أولئك الذين يقبلون الرأي أو يرفضونه، لقبولهم لصاحب الرأي أو لرفضهم إياه؛ إذ قلت: «فمهما نسبت الكلام، وأسندته إلى قائل حسن فيه اعتقادهم، قبلوه وإن كان باطلا، وإذا أسندته إلى من ساء فيه اعتقادهم ردوه وإن كان حقا، فأبدا يعرفون الحق بالرجال، ولا يعرفون الرجال بالحق، وهو غاية الضلال ...»

وكأنما أحسست بأن الشيخ لم تعد به رغبة في مواصلة حديثه معي، فذهبت إلى الهرم الأوسط؛ حيث جلس أبيلار، عرفته من صورة له عندي، وبعد أن عرف مني فيم كنت أتحدث مع أبي حامد - وقد وجدت للشيخ عند أبيلار تقديرا وإعجابا - استطرد، كمن أراد أن يبدأ من حيث انتهى حديثنا الأول، وطفق يفيض القول في موضوع الرأي وصاحب الرأي، ولقد تذكرت حتى وأنا في الحلم أنني كنت أبحث عن أقواله في مكتبتي فلم تسعفني العين ولا أسعفتني المناظير الكثيرة التي تكدست عندي، وحمدت الله أن ساق إلي ما كنت أبحث عنه، وعلى لسان قائله، وكان ما قاله لي أبيلار، لا يخرج في جوهره عن الخلاصة التي أسلفتها عنه، وهي أن بداية الطريق يجب أن تكون للعقل وتفكيره، ثم يأتي بعد ذلك إيمان بالرأي وبصاحب الرأي، نتيجة مترتبة على ما كشفه العقل في الخطوة الأولى.

ولم يبق من الرجال الثلاثة إلا فرنسيس بيكون، الذي رضي لنفسه بأصغر الأهرامات موضعا؛ لأنه يصغر الغزالي وأبيلار بثلاثة قرون ونيف من الزمان، والحق أني لم أتوقع عنده جديدا؛ لأن قوله معروف مدروس حتى لتلاميذ المدارس الثانوية عندنا، لكنني وجدت أدب المعاملة يقتضي أن أحييه، وأن أسعده بقولي إن تلاميذنا الصغار يدرسون كلامه عن «أوثان» الحياة الفكرية، وكيف أن وثنا منها متمثل في قبول الناس للفكرة بسبب ضخامة قائلها وقوته وهيله وهيلمانه، غير أن بيكون لم يتركني قبل أن يسخر مني بقوله: إذا كان ذلك ما يدرسه عندكم صغار التلاميذ، فكيف فات كبار الرجال، وحرت جوابا فانصرفت بمعنى أني استيقظت.

وجاءت اليقظة - كما هي العادة معي - باستعادة تفصيلات الحلم قبل أن تطير؛ لأن الذاكرة سريعة النسيان للأحلام، إلا أن تثبتها في لحظة اليقظة، والحق أني وقفت مع نفسي طويلا، لا عند مادة الأحاديث التي سمعتها، بل عند المكان الذي اختاروه لجلوسهم، فلماذا أهرامات مصر مع أن أحدا منهم لم تكن له علاقة بمصر، أيكون ذلك رمزا للهيراركية المخيفة المتمثلة على أبشع صورها في حياة الأقدمين؛ حيث الناس تتوالى أقدارهم في تنازل يجعل لكل درجة من درجات السلم مقدارها، فإذا كان نصيب الرجل مكانا أعلى، تحول علو المكان إلى علو المكانة في كل شيء، فإذا تكلم سمع من هو أدنى، وإذا رأى رأيا رآه معه كل من هم دونه، وإذا ضحك ضحكوا، وإذا بكى بكوا، وهكذا دواليك نزولا من الرأس إلى القدمين.

استطردت خواطري، ودرت مع تلك الخواطر دورة كدورة الفلك، حتى عدت إلى ما بدأت به، وهو أن في تواريخ الشعوب لحظات فريدة يحدث عندها التحول الفكري، وبغير هذا التحول لا يكون تطور ولا يكون تقدم، بل يظل السير سيرا على مستوى أفقي واحد مطرد لا فرق بين آخره وأوله، ورأيت عندئذ أن اللحظة التي نرقبها نحن لنتحول، إنما هي لحظة يلهمنا الله فيها أن نفرق بين الرأي وصاحبه، فلا نعلو بالرأي إذا علا صاحبه ونهبط به إذا هبط، فليكن لصاحبه مكانة الدنيا والآخرة جميعا، أما رأيه فلا يستند - أو يجب ألا يستند - إلا لمنطق العقل وحده، الذي يحمل مقاييس التفرقة بين الصواب والخطأ.

إن «الرأي» بحكم تعريف هذه الكلمة، هو فكرة تحتمل الخطأ كما تحتمل الصواب، ولو كان الرأي المعين مضمون الصواب لما كان «رأيا»، وإنما يكون عندئذ فكرة علمية مقطوعا بصدقها، إنك لا تقول: إن رأيي هو أن اثنين مضافة إلى ثلاثة تساوي خمسة، أو إن رأيي هو أن الخشب يطفو على الماء؛ لأن هذه وأمثالها أحكام يستطيع العلم إثباتها، علم الرياضة في الحالة الأولى، وعلم الطبيعة في الحالة الثانية، لكنك تقول - مثلا - إن رأيي هو أن يبدأ حق التصويت للشاب إذا بلغ الثامنة عشرة، أو إن رأيي هو أن يقتصر التعليم الجامعي على من حصلوا على خمسة وسبعين في المائة من مجموع درجات الثانوية العامة.

فهذه وأمثالها «آراء»؛ لأن رفضها أو تعديلها ممكن بحسب ما تقتضيه الظروف؛ فما هو صواب منها هنا والآن، قد لا يكون صوابا هناك وبعد حين.

إلا أن الخطوة الأولى على طريق الديمقراطية، هي أن نميز بين الرأي وصاحبه.

تعدد المبادئ في البناء الواحد

كنت قد سألت طفلا لا يتجاوز العاشرة، قائلا: كم تستغرق من الزمن بين البيت والمدرسة؟ فأجاب الطفل: ذلك يعتمد على الطريقة التي أذهب بها؛ فإذا مشيت استغرقت نصف الساعة، وإذا جريت استغرقت ثلث الساعة، وإذا ركبت دراجتي لم يزد معي الزمن على عشر دقائق.

عندئذ أذهلتني لمعة الذكاء في تلك الإجابة التحليلية الحذرة بقدر ما أذهلتني غفلتي عند إلقاء السؤال؛ فلقد سألت الطفل عن الزمن الذي تقتضيه المسافة بين البيت والمدرسة، غافلا عن وسيلة الوصول مع أن الجانبين مرتبط أحدهما بالآخر ارتباطا لا فكاك منه.

ومثل هذا التحليل الحذر، الذي لا تحمله الرغبة في التبسيط على تجاهل التفصيلات الهامة، وهو التحليل الذي اهتدى إليه الطفل الذكي بفطرته، ضروري عندما يدير أبناء الشعب حوارهم حول «الديمقراطية» بغية تعميقها؛ إذ لا بد لهذا التعميق أن يسبقه وضوح تام لما تعنيه لنا هذه الكلمة المرنة المطاطة، حتى لقد استطاعت كل شعوب الأرض في دنيانا الحاضرة، أن تصف نفسها بالديمقراطية، كائنا ما كان نوع الحكم القائم فيها، وإننا لنلحظ في استعمال الناس لهذه الكلمة في أحاديثهم خلطا عجيبا، يدل على غموض معناها في أذهانهم؛ فهم يطلقونها على المتواضع من الناس، ويطلقونها بمعنى «المساواة» بين أفراد الشعب، ويطلقونها بمعان أخرى كثيرة.

إن هذا التوسع في فهم «الديمقراطية» توسعا لا تضبطه حدود، هو الذي قد ينتهي بنا إلى موقف يفوتنا فيه أن نرى مبادئ أخرى لا بد لها من الوقوف إلى جانب الديمقراطية في إقامة حياتنا، ولتوضيح ذلك أقول:

إننا لنسأل أنفسنا بادئ ذي بدء: ما هي الخصائص الأساسية التي منها تتكون هوية هذا الشعب العظيم الأصيل؟ أعني ما هي العناصر الأساسية التي دامت مع هذا الشعب العريق على طول تاريخه الطويل؟ وذلك لأننا لو وفقنا في الإجابة عن هذا السؤال، لوجب علينا أن نقيم حياتنا على دعائمها، ولعلي لا أخطئ إذا قلت إن بين الخصائص الأساسية، ثلاثا تجيء في مقدمتها، وهي التي ميزتنا منذ قديم، ولم تزل تميزنا، وأعني بها: الدين، والأسرة، والوطن، وكلمة «الوطن» هنا مذكورة لشمل المعنيين: معنى الأسرة الكبيرة التي هي الأمة، ومعنى رقعة الأرض التي هي مصر، والتي يحبها المصري لذاتها.

والسؤال الذي نطرحه الآن هو هذا: هل يكفي مبدأ «الديمقراطية» وحده ليكون أساسا للتنظيم في هذه المجالات الثلاثة على السواء؟ أونحن في حاجة إلى مبادئ رئيسية أخرى تضاف إلى مبدأ الديمقراطية كي نجد لكل مجال ما يلائمه؟

ولعل هذا هو الموضع الذي نحدد فيه معنى «الديمقراطية» تحديدا واضحا وبسيطا، وإني لأفضل في تحديده أن يكون ذلك عن طريق وظيفتها، لا عن طريق مضمونها النظري؛ لأن الدخول في مضمونها النظري، ينتهي بنا إلى متاهات هي نفسها المتاهات التي أتاحت لكل حكومات الدنيا أن تصف نفسها بالديمقراطية، على اختلاف ما بين تلك الحكومات في التكوين وطريقة الأداء، أما إذا حددنا معناها بالإجراءات التي تتبع عند اتخاذ القرار، قلنا في بساطة واضحة إنها هي التي تأخذ بطريقة عد الأصوات؛ فالقرار النافذ هو ذلك الذي تصوت له أكثرية أفراد الشعب من الراشدين، ولما كان من المتعذر على هؤلاء الأفراد أن تحصى أصواتهم عند كل قرار يتخذ، لجأنا إلى من أنابوهم عنهم باختيارهم.

فحيثما وجدنا الوصول إلى قرار بهذه الطريقة العددية، قلنا إنها الطريقة الديمقراطية، وهي طريقة نجدها في مجلس الشعب وهو يصنع قرارا ما، كما نجدها في هيئات أخرى كثيرة، كمجالس الإدارة في المؤسسات، ومجالس الكليات ومجالس الجامعات، ومختلف اللجان التي تعقد للبحث في موضوع معين بغية الوصول إلى قرار، ونستطيع أن نلخص هذه الحالات برغم تنوعها، فنقول إن ديمقراطية عد الأصوات، هي الأداة الصالحة كلما كان الأمر متصلا برسم «سياسة» محددة لخطوات السير عند التنفيذ.

لكن هذه الطريقة إن صلحت في رسم السياسات الخاصة بشئون «الوطن» ومؤسساته فهي لا تصلح في المجالين الآخرين: مجال الدين، ومجال الأسرة؛ أما الدين فليس القرار فيه من صنع البشر، وإنما يهبط عليهم وحيا، وليس للناس إلا أن يطيعوه إيمانا، وهذا واضح في شعائر الدين، فلم تكن أكثرية الأصوات هي التي حددت كم يكون عدد الركعات في كل صلاة، لكن الذي قد لا يكون بنفس هذه الدرجة من الوضوح، ما استبطن في شعائر الدين وشرائعه من «قيم» يراد لها أن تكون للناس معايير لسلوكهم في سائر أوجه الحياة؛ فكلما استخلص لنا العلماء معيارا منها، كان ذلك المعيار بمثابة المبدأ الذي نقيم عليه نظامنا في مجاله، ويهمني في موضوع حديثي هذا من تلك المبادئ المستنبطة من شعائر الدين وشرائعه، مبدأ التفاوت في قدرات الناس حتى لا تكلف نفس إلا وسعها.

ومعنى ذلك عند التطبيق هو أنه كلما كان المجال مجال «قدرة» بأي معنى من معانيها، وجب أن يستند القرار عند اتخاذه إلى «القدرة» وحدها حتى لو جاءت أغلبية الأصوات مخالفة لذلك، بعبارة أخرى ليست «الديمقراطية» (وقد حددناها بقولنا إنها طريقة عد الأصوات) في هذه الحالة هي وسيلتنا إلى صنع القرار، ما دام الأمر مرهونا بمهارة معينة، أو قدرة خاصة، بغيرها يتعذر أداء ما يراد أداؤه، وأمثلة ذلك كثيرة في حياتنا: فدخول الجامعات قائم على أساس الأكفأ، لا على أساس الاختيار بأكثرية الأصوات، واختيار أصحاب المناصب العليا كالوزراء والمحافظين وأساتذة الجامعات ورؤساء المؤسسات، بل إن اختيارك للصانع الذي ينجز لك عملا إنما يكون على أساس مهارته في حرفته، وهكذا. ولقد أجرى شعبنا هذا المعنى في أمثاله الجارية، حين أوصى أن توكل صناعة الخبز إلى خبازه حتى إذا لم يكن أمينا، فاحتجز لنفسه من الخبز شيئا.

نعم إن الوسيلة الديمقراطية هنا قد تتبع ابتداء، كأن يقرر مجلس الشعب - مثلا - أن التحاق الطلاب بالجامعات يجب أن يقام على أساس الكفاءة وحدها فعندئذ يكون مثل هذا القرار ديمقراطيا لأنه أخذ بأكثرية الأصوات. لكن ذلك لا يتعارض مع قولنا إن أساس التنظيم في قبول الطلاب هو «القدرة» لا الرغبة المؤيدة بعد الأصوات، فإذا كان رسم السياسات قائما على الديمقراطية (عد الأصوات) فمجال العمل بكل فنونه مداره الجدارة والقدرة على الأداء الأكمل، وعلى هذا الأساس ترانا لا نسوي بين قادة الجيش الذين يضعون خطة القتال، وضباطه وجنوده الذين ينفذون، وكذلك لا نسوي بين المدرس وتلاميذه في تحديد الحقائق العلمية، وغير ذلك من الحالات التي لا ينبغي لمبدأ الديمقراطية أن يكون فيها طريقا لاتخاذ القرار.

وتأتي الركيزة الثالثة فيما ذكرناه بين ركائز الشخصية المصرية في استمرارها مدى تاريخ طويل، وأعني بها، الانتماء الأسري، فها هنا - أي في حياة الأسرة - لا عد الأصوات هو طريقة صنع القرار، كلا ولا هو التمييز بين القادر وغير القادر من الأبناء، بل هو الحب الذي يوجب على رب الأسرة أن يرعى أفرادها - من جهة - كما يوجب على هؤلاء الأفراد أن يطيعوا ما يقرره لهم وعليهم - من جهة أخرى - نعم قد يحدث لرب الأسرة أن يطرح أمرا ما على أفراد أسرته ابتغاء الشورى لكنه آخر الأمر هو وحده صاحب القرار ركونا إلى موقعه من البناء الأسري واكتفاء بما هو مفروض فيه من حب ورعاية لا يؤجر عليهما.

وليس مبدأ الحب والرعاية هذا مقصورا على الأسرة الصغيرة، بل إنه ليتسع مجاله فتراه ساريا في حياة الأسرة الكبرى - التي هي الأمة كلها، ولكنه يسري هناك في جوانب خاصة لا تراعى فيها قواعد العمل من حيث العطاء للقادر وحده دون العاجز، ومن أمثلة ذلك أن نكفل لكل إنسان في شيخوخته ما يأمن به على عيشه وصحته؛ فنحن هنا لا نقول: لماذا نعطي العاجز عن العمل راتبا أو رعاية صحية، لا نقول ذلك لأن المبدأ هنا ليس القدرة أو المهارة، بل هو الحب والرعاية.

مبادئ ثلاثة - إذن - نراها في جوانب الحياة المختلفة، فما يصلح في مجال «السياسة» قد لا يصلح في مجال المهارات، وما يصلح في هذين قد لا يصلح في الكيان الأسري، سواء أكانت الأسرة مأخوذة بمعناها الأصغر أم بمعناها الأكبر، وقد تسألني: وماذا تخسر لو أطلقنا على هذه المبادئ كلها اسما واحدا، فنقول إنها هي «الديمقراطية»؟

وأجيبك على سؤالك فأقول: إن رؤية الفوارق بين المختلفات من شأنها أن تؤدي إلى دقة التطبيق؛ فإذا كنت قد سمعت بالانحلال الأسري في كثير من أقطار الأرض، فاعلم أن من أهم ما أدى إليه من عوامل، هو خلط المبدأ الديمقراطي بالمبدأ الأسري، بحيث ظن أبناء الأسرة أن علاقتهم بوالديهم ينظمها أخذ الأصوات، على حين أن الذي ينظمها مبدأ آخر، هو رعاية الكبير للصغير، لقاء طاعة الصغير للكبير، وإذا كنت قد سمعت بتدهور التعليم هنا أو هناك، فاعلم أن من أهم العوامل المؤدية إلى ذلك، هو الخلط بين مبدأ الديمقراطية ومبدأ الكفاءة.

وليست هي بالحالات القليلة، تلك التي نخلط فيها بين مبدأ الكفاءة الذي ينبغي له أن يسود في مجال العمل ومبدأ الرعاية الأسرية الذي تكون له الأولوية حيثما وجبت الرعاية بغير افتئات على كفاءة العمل؛ فلقد حدث في ذات عام أن كنت معارا - على سبيل التبادل بين الجامعات - أستاذا بإحدى جامعات الولايات المتحدة، فدهشت عندما اقترب العام الدراسي من ختامه؛ إذ رأيتهم يوزعون استمارات على الطلاب، مؤداها أن يقول الطلاب آراءهم في أساتذتهم من كل الجوانب، فسألت زميلا هناك قائلا: وماذا لو قررت أكثرية الطلاب عدم الصلاحية بالنسبة إلى أستاذ؟ فأجابني الزميل أنه يفصل. فقلت له: مثل هذا التصرف محال علينا في مصر أن نلجأ إليه. فسألني: لماذا؟ قلت: لأننا أولا لا نأخذ رأي التلميذ في أستاذه، وثانيا: لأننا نأخذ في اعتبارنا أن هذا الأستاذ رب أسرة مسئول عن أفرادها، فماذا تكون حاله إذا نحن فصلناه؟ أجاب زميلي، والدهشة هذه المرة كانت دهشته: أهي جامعة أم هي جمعية خيرية لرعاية العاجزين؟ وهل من العدل أن تراعى حياة أستاذ فيضحى في سبيل ذلك بعدد من الطلاب الله أعلم بعددهم؟

هكذا ظهر الفارق بين ثقافة ذلك الزميل الأمريكي وثقافتي، فبينما هو يفرق بين المبادئ المختلفة ليجعل لكل مبدأ مجاله، كنت أنا أخلط بينها، فأضع المبدأ الأسري مكان مبدأي الديمقراطية والكفاءة معا؛ فعلى أساس الأكثرية الديمقراطية في أصوات الطلاب بني القرار، ثم على أساس انعدام الكفاءة فصل الأستاذ، وأما من جهتي أنا فقد شعرت وجوب أن تكون الأولوية لمبدأ الرعاية والحب . ذلك ما كان، وإني إذ أستعيده الآن لأعيد فيه النظر أجد أنهم أخطئوا حين جعلوا الرأي للطلاب وأصابوا حين فصلوا العاجز عن عمل لا يحسن صناعته، ولو أنهم لجئوا إلى مقياس علمي آخر ليحكموا به على قدرة الأستاذ لكان الصواب في جانبهم، وأما عن وجهة نظري أنا التي أبديتها عندئذ فأرى الآن موضع الخطأ فيها؛ لأنها احتكمت إلى العاطفة الأسرية في مجال لا يجوز أن يحتكم فيه لغير الكفاءة.

الخلط بين المبادئ في المجالات المختلفة قد يؤدي إلى ضرر جسيم، انظر إلى ما حدث عندنا منذ قريب حين حكم على كتاب الفتوحات المكية لابن عربي على المبدأ الديمقراطي، وهو الأخذ بأكثرية الأصوات، وتذكر ما حدث عندنا أيضا منذ بضع سنوات حين جعلنا أساس الاختيار للمناصب العليا، الولاء وليس الكفاءة، والأمثلة كثيرة على وضع المبدأ المعين في غير مجاله فينتج الضرر، فلو احتكمنا إلى المبدأ الديمقراطي، وهو عد الأصوات، في الحكم على العلماء - مثلا - لجاز أن نقع في مثل الخطأ الذي وقعت فيه أكثرية الأصوات عندما حكمت على طه حسين بعدم الصلاحية للعمل بالجامعة، وعندما حكمت على الشيخ علي عبد الرازق بأن يمحى اسمه من قائمة العلماء، وعندما حكمت على كتاب الفتوحات المكية بأنه غير صالح للنشر، وكذلك لو احتكمنا إلى مبدأ الكفاءة وحده لفعلنا ما فعله أهل إسبرطة قديما، عندما كانوا يعرضون ضعاف الأطفال والشيوخ للصقيع فوق الجبل ليموتوا، ولو احتكمنا إلى العطف الأسري وحده، لاستمعنا إلى الوساطات في إدارة شئون الوطن صغيرها وكبيرها على السواء.

فلماذا نتمسك بوحدانية المبدأ، إذا كانت حياتنا تتطلب عدة مبادئ في وقت واحد، شريطة أن نحصر كل مبدأ منها في مجاله؟ إن تعدد المبادئ في هذه الحالة لا يلزم عنه التناقض، بل ينتج لنا ضرب من التكامل يدنو بنا نحو الكمال.

الفلسفة خارج الأسوار

تسعة قراء من كل عشرة، لم يسمعوا من الفلسفة إلا اسمها، دون أن يعرفوا من مضمونها كثيرا أو قليلا، وبالتالي فهم لا يعرفون شيئا عما يؤديه الفكر الفلسفي في حياة الناس الثقافية، وأن أمر هذا الفكر الفلسفي فيما يؤديه، لا يقتصر على أمة دون أخرى، ولا على عصر دون عصر؛ فتاريخ الحياة المتحضرة لم يشهد يوما واحدا كان للإنسان فيه علم أو فن أو عقيدة، ولم يكن له إلى جانب أي منها فلسفته التي تكشف عن مبادئه الأولى والتي كثيرا ما تخفى في لفائف الحياة الثقافية كما يحياها الناس. ثم يتغير العلم مع مر الزمن، ويتغير الفن وتتغير العقيدة، نتيجة لتغير تلك المبادئ الأولى، فيتغير المناخ الفلسفي بطبيعة الحال؛ لأن التلازم وثيق بين اتجاهات الثقافة السائدة من جهة وفلسفتها من جهة أخرى، ولكن تسعة قراء من كل عشرة لا يدهشهم أن تتغير مبادئ العلم أو الفن أو العقيدة، أما إذا غيرت الفلسفة مناخها ومذاهبها تبعا لذلك، استنكروا منها هذا التغير؛ لأنهم يجهلون طبيعتها وطبيعة الدور الثقافي الذي تؤديه، ولولا هذه العروة الوثقى التي تربط جوانب الثقافة المتباينة، ربطا يجعلها ذات كيان واحد، لما جاز لنا أن نسمي الفترة الزمنية المعينة من فترات التاريخ «عصرا»؛ لأنه في هذه الحالة تصبح الجوانب الثقافية أشتاتا متناثرة ومتعارضة، ويصبح من العسير بل من المستحيل، على مؤرخ أن يقص علينا قصة التاريخ في أية ناحية من نواحي الحياة الإنسانية، لكن الأمر الواقع غير ذلك؛ فهنالك «عصور» تتوالى إذا ما نظرت من بعيد إلى كل عصر منها، رأيت ملامحه الرئيسية واضحة، تخلع عليه وحدانية الكيان، ألست تتصور صورة ثقافية موحدة برغم كثرة تفصيلاتها، إذا قلت لك: «مصر في عصر الفراعنة»، «العصر اليوناني القديم»، «العصر الإسلامي حتى القرن الرابع الهجري»؟

فما الذي وحد كلا من تلك العصور في صورة متلاحمة الأجزاء؟ وحدها أن الحياة الثقافية في كل منها كانت مرتكزة على مبادئ معينة، والذي يكشف لنا عن طبيعة تلك المبادئ الدفينة هو فيلسوف العصر أو فلاسفته؟ ومن هنا تصبح الرابطة قوية بين النشاط الفلسفي في عصر ما، وسائر أوجه النشاط في ذلك العصر، وإذا لم تنكشف المبادئ الخبيئة في ثنايا الحياة اليومية، بقي الناس ناشطين في تلك الحياة، ولكن بغير وجهة نظر لهم يكونون على وعي بها.

ومهما اختلف الفلاسفة في مناهجهم التي يلتزمونها عند تحليلهم لثقافات عصورهم واستخراج مبادئها من الخفاء إلى العلن الصريح، فهم يتفقون جميعا على نوع من النشاط الذهني يضطلعون به، وقد يقتصر عليه بعضهم، وقد يضيف إليه آخرون، وأعني به الوقوف عند المعاني المحورية الهامة التي تستقطب جزءا من حياة الناس؛ فهم يقفون عند تلك المعاني الرئيسية في حياة أبناء العصر المعين، ليحللوها تحليلا يوضح محتواها، ويبين ما يستكن في ذلك المحتوى من التناقض إذا وجد، وذلك حتى يكون الناس على هدى إذا هم يسيرون على ضوء تلك المعاني.

كان هذا التحليل للمعاني الشائعة هو ما فعله سقراط صراحة، حين أخذ يطوف في المحافل والأسواق، يسأل صاحب الفن المعين ماذا يعرف عن معناه، ويسأل صاحب العقيدة المعينة ماذا يعرف من مقوماتها، وهكذا طفق يسأل كل إنسان عن معنى ما يزعم للناس أنه خبير فيه، حتى انكشفت لسقراط حقيقة مرة وهي أن الناس يزعمون لأنفسهم العلم بما هم في الحقيقة جاهلون بحقيقته.

ولن تجد فيلسوفا لا يضمن عمله وقفات هنا وهناك ليوضح المعاني التي يراها ذات أهمية خاصة في ثقافة عصره؛ فهذا أفلاطون يحلل في استفاضة معاني العدل والحكمة والشجاعة والعفة والجمال وغير ذلك، وهذا أرسطو يحلل في استفاضة كذلك معاني الصدق العلمي وفكرة السببية والحركة والمكان والشعر وغير ذلك، وانظر إلى فلاسفة المسلمين كم أنفقوا من جهد في تحديدهم لمعاني التوحيد والإرادة والعدل والإيمان والكفر وغيرها، ولا ينفي وقوف الفيلسوف عند معاني عصره الهامة ليحللها توضيحا لها، أن يكون لذلك الفيلسوف بناؤه الفلسفي المتماسك الذي ترد فيه تلك المعاني عناصر في قوامه.

فمن الحقائق العجيبة في حياة الإنسان الفكرية بصفة عامة، أنه يهتدي بمجموعة من التصورات التي لا هي معلومة له كل العلم ولا هي مجهولة له كل الجهل؛ فهو حيالها يقف موقفا وسطا بين علم وجهل (وهو لا يدري عن نفسه هذه الحقيقة) دون أن يعرف على وجه التحديد كم علم من الأمر وكم جهل. ولما كانت تلك المجموعة الرئيسية من التصورات ذات أهمية بالغة في حياته تراه يغضب أشد الغضب إذا بينت له - ولو من بعيد - كم هي غامضة المعاني في ذهنه تلك التصورات، لكن الفلسفة من شأنها أن تهجم على ما قد غمض معناه لتلقي عليه الضوء بعد تحليل قد يبلغ من الدقة ما يجعل القراء ينصرفون عنه مستنكرين متهكمين.

إن الناس بإزاء تلك المعاني الغامضة (التي يحسبونها واضحة وما هي بواضحة) إنما يرونها من بعيد فلا يدركون شيئا من تفصيلاتها المعقدة، فهم في ذلك يشبهون الناظرين من بعيد إلى جبل فيرون هيكله الخارجي ويظنونه أملس الجوانب، حتى إذا ما دنوا منه، رأوا فيه ما لم يتصوروا رؤيته من صخور ونبات وحيوان وطير وشراب، وهكذا تفعل الفلسفة بالناس في حياتهم الفكرية، حين تدنيهم من مجموعة المعاني التي يديرون حولها حياتهم تلك في كل جانب من جوانبها.

كم ألف ألف مرة تتردد على ألسنتنا وأقلامنا - في عصرنا الراهن - كلمات العدل والديمقراطية والحرية والإرادة والاشتراكية والشعر والفن والعلم والعقل والإيمان ... إلخ إلخ؟ إنها معان دارجة مألوفة، يظن المثقف العادي - ولا أقول الفرد من عامة الناس - أنها واضحة ولا حاجة بنا إلى الغوص في محتواها!

لقد حدث لي أن قرأت ذات يوم لكاتب من كتابنا، زار بعض البلاد الأوروبية واجتمع بجماعات الطلاب في جامعاتها وأخذ يحاورهم ليسبر مداركهم، فسألهم أول ما سأل عن «الحرية»، فأجابوه سائلين: وما تحديد معنى هذه الكلمة في مفهومك؟ فدهش أن يكون ذلك موضعا لسؤال؛ لأن فكرة الحرية عنده واضحة بذاتها، تدركها البداهة ولا تحتاج إلى تحليل وتحديد! فيئس ذلك الكاتب من مجموعة الطلاب، وكان الأحق أن ييأس من نفسه.

إنه لا مندوحة للحياة الفكرية السليمة من وقفات أمام المعاني الرئيسية لتحديدها، ما دامت هي الركائز التي يعتمد عليها البناء كله، ولقد شاء الله أن يضطلع بمثل هذا التحديد نفر ذوو حساسية خاصة تهديهم أين يكون الغموض، وأين يكون الوضوح، وهؤلاء في كل عصرهم أصحاب الميول الفلسفية ، فإن كانوا ذوي قامات عالية وأحجام ضخمة صاروا هم فلاسفة ذلك العصر، وهؤلاء الفلاسفة على توالي العصور هم الذين يصبحون بعد ذلك موضوع الدراسة في أقسام الفلسفة من الجامعات.

وأظنه واضحا من هذا أن الفيلسوف في عصره يعمل شيئا. وأما «دارس الفلسفة»؛ أي دارس ذلك الفيلسوف فيعمل شيئا آخر، الأول يدخل مع مواطنيه في مشكلاتهم، والثاني يدرس كيف كانت مشاركة الفيلسوف في تلك المشكلات وحلولها.

ونشأت لنا في مصر جامعات، ونشأت في الجامعات أقسام لدراسة الفلسفة، وقيض الله لهذه الأقسام على مدى نصف قرن مجموعة قادرة من الأساتذة، استطاعوا بحق أن ينشئوا مكتبة فلسفية عربية، من مؤلفاتهم ومترجماتهم وما حققوه من نصوص التراث بعد أن كاد ألا يكون من ذلك كله شيء قبل ذلك، وذلك - بالطبع - إلى جانب من أخرجوهم من الدارسين طوال هذه الفترة التي امتدت حتى الآن ما يزيد قليلا على خمسين عاما.

وها هنا يبرز الجانب الذي أردت الكتابة فيه بهذا المقال، وهو: إذا كان أساتذة الفلسفة ودارسوها في الجامعات قد أجادوا ما نيط بهم أن يؤدوه «داخل» أسوار الجامعات، فهل أدوا كذلك شيئا مما كان لا بد لهم أن يؤدوه للناس «خارج» تلك الأسوار؟ وإجابتي السريعة عن هذا السؤال هي أنهم - في الأعم الأغلب - لم يفعلوا من ذلك شيئا، بل أسوأ من ذلك أنهم حين أعدوا طلابهم بالدراسة الفلسفية، وقفوا بهم عند أغلفة الكتب وصفحات الكشاكيل، وأما أن يخلقوا فيهم تلك القدرة الناقدة التي من شأن الدراسة الفلسفية - عادة - أن تخلقها في الدارس، فلست أظن أنهم صنعوا من ذلك شيئا يلفت النظر، ومعنى ذلك هو أن المتخرج في أقسام الدراسة الفلسفية إما أن يعيد ما تعلمه تدريسا في الجامعة أو المدارس الثانوية، وإما أن يجد نفسه وكأنه أعزل من أي سلاح ثقافي يجاهد به في معترك الحياة.

إننا مهما أخلصنا النية في أن نصون للدراسة الجامعية حقها من الاستقلال الأكاديمي الذي لا تعكر صفاءه شوائب الضرورات الاجتماعية الحيوية، فعسير علينا أن نتصور دارسا في الجامعة يدرس ما ليس ينفعه وينفع الناس بأي وجه من الوجوه، وأذكر أن هذه النقطة بذاتها هي ما احتج به طلاب الفلسفة في فرنسا أيام الحركة التي اضطرب بها شباب أوروبا في سبيل مستقبلهم، منذ عشر سنوات أو نحوها.

ولا علينا ما فعله طلاب أوروبا وغير أوروبا، ولنحصر فكرنا في حياتنا نحن، فماذا نرى؟ نرى من ناحية أمة طامحة للنهوض السريع، فلما أدار لها طموحها مكنات الطحن، خرج لها طحين مملوء بالتصورات التي يكتنفها كثير جدا من الغموض، وبرغم غموضها الشديد، تراها دائرة في كل صحيفة وعلى كل لسان، وإذا قلنا غموضا في التصورات، فقد قلنا بالتالي تعثرا في السير وتخبطا في العمل؛ لأن السير والعمل لا يكونان إلا على هدى من تصورات سابقة عند من يعمل أو يسير. ثم نرى من ناحية أخرى أقساما في الجامعات كان ينبغي لها أن تكون أقرب الأقسام الجامعية جميعا إلى تخريج من يحسن تحليل المعاني، مستمدين القدرة على ذلك مما درسوه من فلاسفة، وقد رأوا كيف شارك هؤلاء الفلاسفة في المسائل الفكرية التي نشأت في عصورهم.

نعم إن المهمة الأولى لطالب الفلسفة في الجامعة، هي دراسة ما أنتجه الفلاسفة خلال العصور من أفكار أجابوا بها عما كان موضع التساؤل في صدور معاصريهم، ولكني أريد لتلك المهمة الأولى أن تتولد عنها مهمة ثانية، وهي أن يفيد الدارس مما درسه «قدرة» على التحليل النظري، يخرج بها إلى دنيانا العملية، وعندئذ سيجد أمامه مجالا فسيحا لنشاطه الفكري؛ لأنه سيرى في حياتنا الثقافية بكل فروعها غموضا ينتظر من يزيحه لينجلي الحق أمام الأبصار، وإلا فسوف يجد الدارسون للفلسفة في جامعاتنا أنفسهم غرباء مهملين على جوانب الطريق، لا تلتفت إليهم الأنظار؛ لأن وفاضهم خال مما يقدمونه للناس.

من المشكلات إلى حلولها

هي في أولى درجات السلم الأكاديمي؛ فلقد اختارت لتوها موضوع بحثها للحصول على إجازة الماجستير، لكنها - فيما يبدو - من تلك الفئة القليلة النادرة في هذه الفترة من تاريخنا، التي تجاوز بنشاطها العقلي حدود الدراسة الضيقة، لتتعلق بهموم الحياة العامة ، فألقت علي سؤالا، وهي في غمرة حديثها معي عن موضوع بحثها، وكان السؤال مشبعا بالتردد والقلق، حين قالت: قل لي يا دكتور، أأنت ممن يتبعون أيديولوجية اليسار أم ممن يتبعون أيديولوجية اليمين؟ وإني لأسألك هذا السؤال؛ لأنني لم أستطع استخلاص الجواب من مقالاتك.

قلت لها إنني يا ابنتي مصري ثم عربي ثم عضو في الإنسانية كلها، أتمنى لأهلي ثم لسائر الناس أن يقهروا ما يحيط بهم من صعاب، ولا أعبأ من أين يأتي الدواء إذا أدى بالمريض إلى الشفاء. إنني أكره هذه اللافتات التي تعمي البصر بكلماتها الضخمة المشتعلة بلهب العواطف المنفعلة؛ لأن أصحابها يريدون لنا أن نبدأ بالمذهب المعبود لنهبط منه إلى مشكلاتنا وحلولها، والرأي عندي هو أن نبدأ بمشكلاتنا الجاثمة فوق صدورنا، والممسكة بخناقنا، حتى أوشكت الأنفاس أن تنكتم. نعم إن الرأي عندي هو أن نبدأ بمشكلاتنا تلك، لنعالجها بما يستطيع العلم أن يعالجه، دون أن نلفت رءوسنا لا إلى يسار ولا إلى يمين، حتى إذا ما تجمعت بين أيدينا جملة حلول ثبت نجاحها، كان من حق أصحاب الفكر النظري بعد ذلك أن يبوبوها ويصنفوها كما شاء لهم علمهم النظري، ثم كان لهم بعد ذلك أن يطلقوا عليها العنوان الذي يريدون، لكننا نكون قد رسونا قبل ذلك على شاطئ الأمان.

المشكلة الواحدة من مشكلات حياتنا العملية هي كالمريض دعونا له الطبيب ليفحص علته ابتغاء الشفاء، فهل يجوز للطبيب أن يحدد لنفسه أولا أيكون في هذه الحالة من أهل اليسار أم يكون من أهل اليمين؟ ألا ترين معي يا ابنتي أن الاتجاه الصحيح إنما يبدأ من المشكلة إلى حلها، ثم قد يصعد الصاعد بعد ذلك من الحل إلى مبدأ عام، فيكون المبدأ في هذه الحالة هو تلخيص لحقائق الحياة العملية، لا العكس؛ لأن المبدأ أو المذهب أو العقيدة هي دائما أوسع من كل واقعة من وقائع الحياة اليومية، فإذا جعلنا لتلك التعميمات المجردة أولوية، فقد يتعذر علينا - ونحن أمام حالة جزئية معينة - أن نلتمس طريقنا إلى التطبيق، والأمر في ذلك هو كالأمر في قوانين العلوم؛ فالقانون العلمي المعين لا يهبط على الناس من حيث لا يعلمون، ولكن الناس هم الذين يستخلصونه من تجاربهم في معامل البحث أو غيرها.

لقد قرأت أخيرا مع الإعجاب الشديد، مقالة نشرها الأستاذ الفاضل الدكتور عبد المنعم النمر (الأهرام عدد 4 / 1 / 1978م) يدعو فيها إلى الاقتداء في تقنين الشريعة بما صنعه السلف الصالح، لكن الاقتداء بهم إنما يكون في طريقة النظر لا في النقل عنهم أحكاما بذاتها حكموا بها على مواقف معينة، وذلك لأن مدار الحكم يجب أن يكون ما فيه تيسير ومصلحة ودفع ضرر، ولما كانت ظروف الحياة تتغير مع عصور التاريخ، جاز أن يكون ما فيه المصلحة في عهد مضى، حاملا للضرر في عصرنا، وهذه عبارة مما قاله الأستاذ الجليل: «فرب رأي قاله القدماء تيسيرا على الناس في زمنهم أصبح جالبا للعسر والمشقة والضرر في زمننا، وأصبح من الضروري تغيير الفتوى والرأي تحقيقا للمصلحة واليسر، ولنا فيما فعله الصحابة والتابعون والأئمة قدوة حسنة.»

ومعنى ذلك أن المعول عليه في الحكم هو ما نحن بصدده من حالات فعلية حقيقية يعيشها الناس، ونريد لتلك الحالات أن تتأدى إلى ما يحقق لهم حياة أكثر يسرا ونفعا، وأبعد عن عوامل الضيق والمشقة والضرر، فماذا يجدي أن أضع في عنقي أغلالا وعلى قدمي قيودا باسم «الأيديولوجيا» «قبل» أن تنشأ المسألة التي تتطلب المعالجة والحل؟ نعم إنه لا بد من «إطار» عام أتحرك فيه حين أبحث لمشكلة معينة عن حل، تماما كما يتحرك الباحث العلمي في إطار الفكر العلمي القائم، حتى يهتدي بحدوده ولا يخرج على قواعده المبدئية، لكن ذلك كله مفروض على الباحث العلمي من أجل الاهتداء إلى الحل المطلوب، وليس هو مفروض عليه اعتسافا.

صدقيني يا ابنتي، إنني إذا أردت زرع ما يمكن زرعه من صحرائنا، فلا أدري كيف يكون هذا الزرع باليسار مختلفا عنه باليمين، وإذا أردت تنظيم الأسرة درءا لهذا الطوفان البشري، فلا أدري كيف يكون هذا التنظيم باليسار مختلفا عنه باليمين، وإذا أردت الارتفاع بمستوى التعليم، فلا أدري كيف أحقق هذا الارتفاع باليسار أكثر مما أحققه منه باليمين، وإذا أردت ضبط الإدارة ضبطا يحول دون الاختلاس والرشوة، فلا أعرف كيف يتم هذا الضبط الإداري باليسار على صورة يختلف فيها عن صورته لو تم باليمين؟ وإذا أردت أن أنفخ في الناس روح الكرامة الإنسانية التي تمنعهم من النفاق الرخيص، فكيف يا ترى يكون هذا النفخ ببوق اليسار وكيف يكون ببوق اليمين؟ ... مشكلات كثيرة من هذا القبيل يا ابنتي هي التي تريد معالجة تزيل منها مواضع الشكوى، ولست أرى سبيلا إلى ذلك إلا بأن تؤخذ كل مشكلة أخذا علميا منهجيا يؤدي إلى حلها، دون الحاجة إلى التمحك في يسار أو في يمين.

لا، لا، يا جاهل - هذا ما قد يقوله المتحمسون - إنك تتحدث عن أمور ليست هي التي نعنيها حين نقسم الناس إلى يسار ويمين؛ فنحن نعني مجال «السياسة» بصفة خاصة، السياسة؟ وماذا تكون السياسة إلا مجموعة حلول لمجموعة مشكلات؟ اللهم إن كانت السياسة شيئا غير هذا، فإنها طعام ليس لدي المعدة التي تهضمه.

إن من سخرية التاريخ بالناس، أن تبدأ «الأيديولوجيا» - أعني هذا المصطلح بذاته - بعد الثورة الفرنسية بقليل، حين أقيم مجمع علمي جديد، قسم إلى لجان لتختص كل لجنة منها بعلم معين، فاقترح بعضهم أن يكون ل «الأفكار» علم خاص بها، ليبحث فيها كيف تنشأ وكيف تتطور، وبالفعل أنشئت لجنة «الأيديولوجيا» (أيدي = فكرة، لوجيا = علم، وإذن تكون «أيديولوجيا = علم الأفكار») ثم مرت السنون طاوية مراحل القرن التاسع عشر، إلى أن جاءت الظروف السياسية في بعض الأقطار، التي جعلت القائمين بالحكم فيها ينسقون للناس من عندهم نسيجا من أفكار معينة أرادوها، وفرضوها عليهم لتكون هي المرجع في سلوكهم وضروب مناشطهم، وقالوا إنها «الأيديولوجيا» التي يجب أن تتبع، وأما الأقطار الأخرى التي لا تريد أن تقيد الناس بمرجع واحد معين، فليس لهذه الكلمة وجود في حياتها، وقد أردت أن أقول بذلك إن ما كان مقصودا به أول الأمر أن يكون «علما للأفكار» قد تحول مع الأيام ليصبح «قيدا للأفكار ».

وإنه لما يؤسف له في تكوين الطبيعة البشرية، أنها تميل بالناس إلى الأخذ بالقوالب العامة لسهولتها، دون الدخول في تفصيلات المادة التي تملأ تلك القوالب، وطلابي يشهدون كم عانيت وأعاني في تدريبهم على دقة التحليل حتى لا تضللهم القوالب العامة عن مضموناتها الحقيقية، لقد طلبت منهم ذات يوم منذ أعوام أن يحللوا هذه الجملة: «مؤلف قصة الظلال مات بالأمس» ليبينوا كيف يكون طريقهم إلى نقدها، فندر بينهم من عرف أنها مركبة من عدة أجزاء، كل جزء منها يحتاج وحده إلى تحقيق خاص به، قبل أن نقبل الجملة أو نرفضها؛ فقد يكون هنالك قصة اسمها الظلال وقد لا يكون، وقد يكون مؤلفها معاصرا لنا وقد لا يكون، حتى إذا ما استيقن الباحث من وجود القصة ومن معاصرة مؤلفها، بقي أن نرى إن كان قد مات أو لم يمت، فإذا تأكدنا من موته، كان علينا أن نتحقق من تاريخ موته، أكان بالأمس أم كان قبل ذلك ... كان هذا تدريبا على النظر إلى التفصيلات، تمهيدا للعقول أن تعالج مشكلات الحياة في واقعها؛ فذلك أجدى من الطيران بأجنحة النسور إلى حيث لا وجود إلا لأشباح وأوهام.

فإذا كانت كلمة «أيديولوجيا» يا ابنتي حلوة الرنين في الأسماع، وأردت لي أن أحدد لنفسي «الأيديولوجيا» التي أنتمي إليها، فكوني على يقين من أنها لا هي إلى اليسار ولا هي إلى اليمين، وإنما هي الأيديولوجيا المؤلفة من منهج العلوم وقوانين العلوم، لأهتدي بها في معالجة الصعاب التي تحيط بنا، وحتى حين يوجه إلي سؤال يسأل: هل نستمد حياتنا من ينابيع تراثنا أو نستمدها من ينابيع العصر الحاضر؟ قلت في الجواب: بل أستمدها من حيث أجد الحلول للمشكلات الحقيقية التي أعانيها، إنه لا قداسة لماض على حاضر، ولا أسبقية لحاضر على ماض، أمام مريض يفتك به المرض ونريد له النجاة، إن الدار إذا اشتعلت فيها النار، فلا أتلكأ في عملية الإطفاء حتى أبحث في الكتب عن المرجع الذي أستمد منه صورة الفعل، أيكون قديما موروثا أم جديدا معاصرا، ولن أمل من تكرار القول بأن النظر إنما يبدأ بالجزء لا بالكل، وبأن الحل ينبغي أن يكون ب «القطاعي» لا ب «الجملة»، ولنا بعد ذلك أن نبني الكل ونحن على علم بأجزائه الصغرى، وأن نرسم الحل الإجمالي ونحن على يقين من أن لكل جانب خاص حله الخاص.

ومع ذلك - يا ابنتي - فليس عجبي من دعاة الأيديولوجيا بأي لون كانت، بأشد من عجبي من فئة أخرى تملأ الدنيا من حولنا كلاما عن خرافات يسرقون بها انتباه الناس، وكأن حياتنا قد استكملت جوانبها، ولم يعد أمامنا إلا هذا الترف من الترصد لأشباح القبور كيف تظهر وأين تختفي، ومن التعقب لعفاريت الجن كيف تشيع الفزع في المنازل وتحطم زجاج النوافذ وقطع الأثاث، إلى الحد الذي يستعان فيه بالشرطة، ويؤخذ الأمر فيه مأخذ الجد في الصحف!

كلا يا ابنتي، لا تسأليني عن أيديولوجيا اليسار واليمين، بل اسأليني عن طريق النظر العلمي كيف يكون، لعل شعاعا منه أن يبدد شيئا من هذا الظلام الكثيف، الذي ساعد على قيامه - وا أسفاه! - نفر من قادة الكلمة، مقروءة ومسموعة.

كاهنة دلفي

الفرق بين فكر قديم وفكر جديد، قد يتجلى أمام عيني في أمثلة صغيرة عابرة، ولقد كان المثل الصغير العابر هذه المرة، الذي رأيت فيه كم هو هائل وجسيم ذلك الفرق بين قديم وجديد، أني رأيت أصحاب الدراسات المستقبلية يستخدمون في حساب المستقبل أساليب يطلقون عليها اسم «طريقة دلفي» في البحث، فانطلقت عندئذ خواطري انطلاقا لم أملك له زماما.

فلكل كاتب طريقته في تجميع أفكاره، لكن هذه الطرق مهما اختلفت، فلا بد لحركة السير من نقطة انطلاق، وإني لأرى نفسي كالطائر الذي رأيته ذات يوم واقفا عند حافة الماء يحسو منه حسوة ثم يرفع رأسه لينظر في الخلاء، كأنه ينتظر حتى تسري في كيانه تلك الحسوة التي احتساها، قبل أن يحني رأسه نحو الماء ليلقط حسوة أخرى، وهكذا أفعل فيما أقرأ وأسمع؛ إذ إني ألقط نقطة انطلاقي أثناء التنقيب والتقليب، حتى إذا ما وجدتها تركتها تستجمع حولها من خبرة الماضي ما تستجمعه.

فلما أن قرأت هذه المرة شيئا عما يسمونه اليوم بطريقة «دلفي» في استباق الرؤية المستقبلية، تركت نبع الماء الذي أمامي، وجعلت أجوب بالذاكرة فيما قد كان في سالف الأيام، مقرونا إلى ما هو كائن اليوم، وهل كان يمكن أن يرد ذكر «دلفي» - فيما يخص دراسة المستقبل - دون أن أذكر سقراط، وكيف تأثرت حياته بما أوحت به «كاهنة دلفي».

و«دلفي» - قديما - هو المكان الذي أقيم فيه معبد أبولو، على مرتفع الأرض الذي أحاط بأثينا من جهتي الشمال والغرب، وما دام المكان مقرا لمعبد له قداسته عند الناس، فلا بد أن تنسج له الأساطير التي تشبع الخيال، فقيل إن زيوس - عند بدء الخليقة - أراد أن يعين نقطة من الأرض لتكون أقرب النقاط إلى مقام الأرباب، ثم أراد أن تكون تلك النقطة المقدسة في وسط الأرض تماما، فأرسل نسرين من السماء ليطيرا في اتجاهين متقابلين، فأحدهما يطير من الطرف الأيمن، والآخر يطير من الطرف الأيسر، وحيث يلتقيان تكون النقطة الوسطى المقربة إلى الآلهة، فكان أن التقى النسران عند «دلفي»، ولذلك أقيم المعبد، وأقيمت فيه الكاهنة التي تنطق بما يمليه عليها أبولو، وما هي إلا أن سعى الناس إلى الكاهنة في دلفي من أرجاء البلاد جميعا، كل يسألها عن مستقبل يرتقبه: هذا يسأل عن نسل يتوقع أن ينجبه، أيكون ذكرا أم يكون أنثى؟ وذلك يسأل عن تجارة ماذا يكون من أمرها ربحا أو خسارة؟ وثالث يسأل عن رحلة سفر مقبلة أتكون سالمة من الخطر أم هي مخوفة العواقب؟ ... بل إن حكومات المدن اليونانية نفسها كانت ترسل إلى كاهنة دلفي الرسل؛ لتسأل عن حرب معتزمة، أو عن تحالف يراد له أن يقام مع دولة أخرى.

ولقد كان بين تلاميذ سقراط يومئذ، شاب معجب بأستاذه الفيلسوف، مؤمن أشد الإيمان وأعمقه بأن سقراط بين الأثنيين هو الحكيم، فلما طالبه بعض زملائه أن يثبت دعواه، لم يجد الشاب طريقا أمامه إلا أن يذهب إلى كاهنة دلفي، يستوضحها رأي أبولو في سقراط، فجاءه الجواب عن راعية المعبد، بما يؤيد فكرته عن أستاذه، وعاد الشاب ومعه الجواب الذي يقطع الشك باليقين؛ لأن أبولو صادق دائما، وما تنطق به كاهنة دلفي نقلا عن أبولو، لا بد كذلك أن يكون صادقا، ثم ما كان بعد ذلك من توجيه إلهي لسقراط بأن يتعقب أهل أثينا بما كانوا يزعمونه لأنفسهم من علم؛ ليستوثق من صدق زعمهم، إلى آخر ما هو معروف عن حياة ذلك الفيلسوف.

تلك كانت الوسيلة التي لجأ إليها الناس على مر العصور القديمة، كلما أرادوا أن يستطلعوا الخبر عن أمر مقبل لا يزال مضمرا في ظلام الغيب؛ فلم يكن الأمر عندهم حسابا يحسب بالأرقام، بل كان نبوءات تأتيهم من السماء على ألسنة المقربين إليها، وأخذت تلك الوسيلة تتفرع فروعا كثيرة، اتخذت أشكالا منوعة؛ فقد لا يكون الناطق بالنبوءة إنسانا بعينه يستخدم ألفاظ اللغة في التعبير، بل قد تأتي النبوءة من قراءة كف، أو من ضرب الرمل، أو النظر إلى رواسب البن في فنجان القهوة، أو من صدفات البحر، أو أوراق اللعب، أو غير ذلك من وسائل.

فإذا ما دار الزمان دوراته الكثيرة، حتى ولدت أيامه ولياليه للناس هذا الوليد الذي نسميه ب «العصر الحاضر» بكل ما تعنيه هاتان اللقطتان من أبعاد وتفصيلات، الله أعلم باتساعها ومداها، تبدل لنا معبد دلفي ليصبح معامل العلماء، وتبدلت راعية دلفي - أو كاهنته - لتصبح هي الحاسب الإلكتروني؛ فلم تعد صورة المستقبل المجهول لتنكشف بوسائل العراف أو العرافة، بل إنها لتخضع لأدق حساب يتم في أدق الأجهزة العلمية. «الكمبيوتر» هو كاهن اليوم، وغرفة البحث العلمي هي معبده؛ فإذا تذكرنا جيدا وفي وضوح لا يشوبه ظل من غموض، بأن القرار الذي نتخذه اليوم في شأن من شئون حياتنا، إنما هو الطريق الذي سنمشي عليه بأقدامنا غدا؛ أعني أننا إذا ما أدركنا إدراكا قويا، أن ما نقرره اليوم إنما هو نفسه سياسة الحياة العملية غدا، عرفنا بالتالي خطورته على حياتنا؛ فبمقدار ما نتقن الحساب قبل القرار، يكون نجاح العملية غدا.

بعبارة أخرى، إن مستقبل الحياة موجودة بذوره في حياة اليوم الراهن، ومن شأن العلماء والخبراء أن يتعقبوا هذه البذور ليحصوها، ثم ليستخرجوا منها نتائجها، غير ناسين العوامل الخارجية التي قد تجيء لتؤثر في مجرى الأحداث؛ وعلى الحاسب الإلكتروني - بعد أن يتلقى منا تفصيلات ما جمعناه - أن يخرج لنا صورة الغد.

لم تعد كهانة الكهان، بجميع صورها وأشكالها هي وسيلة الناس إلى رؤية المستقبل قبل وقوعه، بل إن التنكر لهذه الكهانة في الأمور الخطيرة، هو جزء من تراثنا العظيم، المليء بالمواقف العقلية التي تصلح أن تكون نماذج نهتدي بها نحن الخلف؛ فمن أمثلة ذلك في تراثنا ما قاله أبو تمام حين قال قصيدته المشهورة البادئة بقوله: «السيف أصدق أنباء من الكتب ...» فلقد هم الخليفة المعتصم برد جيوش الروم المعتدية، وأراد الروم أن يثبطوا من عزيمته، فأرسلوا إليه من ينبئه بأن كتب رهبانهم جاء فيها أن مدينة عمورية مستعصية على الغزو إلا في موسم التين والعنب، ولما كان هذا الموسم لا يزال بعيدا في شهور العام، فأي أمل يرجوه المعتصم من محاولة فتحها في غير أوانها الصحيح، لكن الخليفة المعتصم أصم أذنيه عن مثل هذا الهراء، وأيده في ذلك شاعره أبو تمام، فقال له بمطلع قصيدته إن السيف أصدق خبرا من كتب الكهان.

وأما نحن الأحفاد، الوارثون لأمثال تلك المبادئ القوية، والتي تأبى على رجل مسئول أمام عقله، أن ينصت إلى الكهانة بالمستقبل بكل صورها وفروعها، فعلينا أن نحافظ في حياتنا على هذه الوقفة العقلانية في ذاتها، ثم نحور مضمونها، فلا نجعل الأمر مقصورا على السيف في رفض الكهانة، بل نضيف إليه أجهزة العمران كذلك، فنقول ما معناه: إن الحاسب الإلكتروني أصدق أنباء من كتب تعتمد في رؤية المستقبل على غير العلم ووسائله.

إن الذي ينقصنا في مصر، ليس هو العلماء القادرين (و«القادرين» هنا أصح من «القادرون» فأرجو ألا يظن بها الخطأ) كلا ولا هو البحوث العلمية - في حالات كثيرة على الأقل - ولكن الذي ينقصنا هو الأخذ بما يقوله هؤلاء العلماء في بحوثهم عن شئون حياتنا . غير أن الذي نلحظه في هذا الصدد هو: علماء وبحوث علمية في ناحية، وعمل وتنفيذ في ناحية أخرى، كأننا نريد عامدين أن نهمل أحكام العلم متروكة على الرفوف أو في بطون المخازن، لسبب لا يعلمه إلا علام الغيوب.

بل إن الأمر عندنا أسوأ من ذلك حالا؛ إذ هو لا يقتصر على الفصام بين العلم والعمل، بحيث يكون العلم في طريق، والعمل في طريق آخر، بل يضاف إلى هذا أن المشكلة الواحدة قد تتناولها بالبحث أكثر من هيئة واحدة، فتخرج كل هيئة منها بتقرير علمي، ربما اتفق وربما اختلف مع التقارير التي أخرجتها الجهات الأخرى المتنافسة، وكأننا لا نعيش في دولة واحدة، ويكفي مثالا على ما أقوله، أنك إذا أردت أن تعرف: كم ستكون نسبة الأمية في مصر سنة كذا، أو أن تعرف كم سيكون سكان مصر سنة كذا، لتقيم على هذه النسبة بحثك العلمي الذي تجريه، وجدت أرقاما متفاوتة باختلاف الهيئات التي أصدرتها.

إن حياة الشعب في حقيقتها وحدة متكاملة تتشابك عناصرها؛ فإذا ما رأيتنا قد قسمنا إدارتها والنظر في شئونها بين جهات متعددة، فما ذلك إلا لتيسير الفكر والعمل، على أن هذه القسمة لا ينبغي أن تحجب عنا رؤية الوحدة المتشابكة الأطراف في صورة الحياة كما نحياها بالفعل. وإذن فلا مناص - عند تدبير المستقبل ومشروعاته - من التعاون الوثيق بين هيئات البحث العلمي بعضها مع بعض من جهة، ثم تنسيق الصلة بين هذه الهيئات كلها وبين القائمين على تخطيط السياسة المستقبلية وتنفيذها، من جهة أخرى؛ فلم يعد يجوز لمن أراد الفكرة الصحيحة، أو أراد الفعل الصحيح، أن يلتمسه عند كاهنة في معبد دلفي، بل لا بد من التماسه عند مجموعة العلماء حيث تكون، أو قل إن «دلفي» القديمة قد بدلت - في عصرنا - شخصا بشخص ومكانا بمكان.

في حياتنا العقلية

كانت لجنة التأليف والترجمة والنشر - التي كنت وما أزال عضوا فيها - قد أسندت إلي في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات، الإشراف على مجلة «الثقافة» التي كانت تصدرها، وقبل أن أقول ما أريد أن أقوله، لا بد لي من بضعة أسطر أحيط بها شبابنا علما بتلك اللجنة التي لبثت عشرات من السنين دعامة قوية لنشر الثقافة الجادة في بلادنا؛ فلقد نشأت سنة 1914م، وضمت بين أعضائها معظم الأعلام الذين لا يعرف شبابنا اليوم كثيرا عنهم، اللهم إلا أسماءهم التي تلمع في سمائنا كالنجوم الساطعة، فلا يقوى على إخفائها كل ما «يتمتع» به أبناء هذا الجيل - أو أغلبهم - من سطحية وضحالة: لطفي السيد، طه حسين، أحمد أمين، السنهوري، محمد عوض ... إلخ إلخ، ولا تزال هذه اللجنة قائمة تجاهد، ولكم كانت تحسن وزارة الثقافة صنيعا لو وقفت إلى جانبها بأية صورة من الصور، التي تتمكن فيها من المضي في رسالتها المجيدة.

أقول كانت «اللجنة» - كما يسميها أعضاؤها - قد أسندت إلي لبضعة أعوام، الإشراف على مجلتها «الثقافة»، وحدث عندئذ أن جاءتني قصيدة من شاعر مجهول، كتبها من زنزانته في السجن (ولا أعلم ماذا كانت جريمته) فرأيت في القصيدة من قوة الشعور وصدقه ما دعاني إلى نشرها مع التنبيه إلى ما انطوت عليه من نبض حيوي عجيب، فما كادت تلك القصيدة تجد طريقها إلى النور، حتى ألحق بها ذلك الشاعر نفسه قصيدة ثانية، من المكان ذاته وبغزارة الشعور ذاتها، ثم مضت شهور قليلة بعد ذلك، وإذا بصاحب الشعر يبعث إلي بخطاب تئن كلماته أنين المتوجع العاني؛ فهو الآن طليق بعد خروجه من السجن، ولكنه لا يجد لقمة الخبز ولا خرقة الثياب، فهلا أرسلنا له قليلا من المال مقابل شعره الذي نشرناه! وهلا جمعنا له شيئا من الصدقة ومن ثيابنا القديمة لعلها أن تعين!

لم يكن مألوفا في تلك الأيام أن نكافئ شاعرا بالمال على شعره، وكانت «المقالات» وحدها هي التي يؤجر أصحابها، ومع ذلك فقد كانت القيمة القصوى للمقالة هي جنيهان، وقد تهبط القيمة إلى نصف جنيه، بحسب الكاتب ومكانته، فأرسلت إلى شاعر الزنزانة مكافأة «استثنائية» - أظنها كانت جنيهين على القصيدتين - لكني طلبت منه الإسهام ب «مقالات»؛ فذلك أجدى عليه من صدقة مؤقتة تنال من كرامته، وكنت وأنا أطلب منه ذلك، على يقين بأنه قادر على المشاركة الفكرية، ما دامت له تلك القدرة على التعبير الشعري عن وجدانه الصادق.

ولم يلبث أن استجاب بمقالة أرسلها طامعا في مكافأة سريعة، وهنا كانت المفاجأة المذهلة؛ فالمقالة التي بعث بها إلينا لم تزد على تخليط صبياني ساذج، من النوع الذي نعهده في «إنشاء» التلاميذ الصغار، فقابلنا الموقف بالصمت، وإذا به يرسل إلينا مقالة أخرى لعلها تصادف عندنا قبولا، ولكنها كانت أشد سذاجة وأمعن من سابقتها في القصور.

وكان موضع عجبي يومئذ هو هذا: كيف أمكن لإنسان واحد أن ينبض بمثل ما نبض به ذلك الشاعر من وجدان حي، وأن تكون له القدرة على نظمه في لغة تناسبه، حتى إذا ما كشف ذلك الإنسان نفسه عن عمقه الفكري، كان لا شيء، بل كان أسوأ من «لا شيء»؛ لأنه كشف عن نقص وتشويه في كيانه العقلي؟! إنه سؤال لا يزال - منذ ذلك اليوم - مصدر حيرتي، ولا أظن أني وقعت على جواب مقنع.

ومضت بعد ذلك بضع سنين، وأقامت وزارة الثقافة نظام التفرغ لرجال الأدب والفن (أظن ذلك قد كان سنة 1957م)، وكان لي شرف اختياري عضوا في تلك اللجنة، التي لبثت مشاركا فيها إلى أن «شرفني» أحد وزراء الثقافة - وكان من الجامعيين - بأن جعل أول مهامه في الوزارة إعادة قوائم اللجان الفنية، فكان أن محا اسمي محوا، وليس ذلك هو ما أردت قوله، لكنني أردت أن أقول إنني خلال مشاركتي في لجنة التفرغ، لاحظت أمرا ذكرني بشاعر الزنزانة الذي أجاد الشعر دون أن يكون لديه وراء ذلك الشعر ذرة من ثقافة الأفكار، وذلك أن عددا كبيرا ممن كانوا يطلبون التفرغ في أدب القصة القصيرة، لم يكن في رءوسهم وراء قدرتهم الأدبية تلك شيء ملحوظ من ثقافة، لا ثقافة العصر ولا ثقافة العصور السوالف، ولست أذكر الآن ماذا كانت شواهدي على هذا القصور فيهم، لكنها نتيجة وصلت إليها حينئذ، وأبقيتها في الذاكرة.

ذلك كله أرويه لأخلص منه إلى رأي أؤكده اليوم أكثر جدا مما تأكدت من صدقه فيما مضى، وهو أن حياتنا الثقافية لها ظاهر يخفي وراءه ضحالة فكرية، وكدت أقول إنه يخفي وراءه جهالة فاضحة، برغم التناقض البادي حين نقول إنها حياة «ثقافية» ثم نشفع هذا القول بوصف لتلك الحياة «الثقافية» نزعم فيه أنها حياة تضمر جهالة وراء سطحها.

جهالة بماذا؟ قد تسألني، فأجيبك بأنها جهالة بمعظم مقومات المثقف الصحيح؛ فهي حياة توشك أن تخلو من الإلمام بأهم القضايا الفكرية التي يطرحها عصرنا على أبنائه، كما توشك أن تخلو خلوا تاما من معرفة الأركان الأساسية التي يتكون منها تراثنا، ابتداء من اللغة ومفرداتها وطرائق تركيبها، وصعودا إلى الاتجاهات الفكرية الرئيسية التي شغل بها أسلافنا، فإذا كان «المثقف» اليوم، لا هو يشارك عصره، ولا هو يلم بتاريخه الفكري، فماذا يكون عنده بعد ذلك؟ نعم، إنه قادر على كتابة القصة حينا، وعلى نظم الشعر حينا، لكن حياتنا الثقافية - لسوء الحظ - قد خلت من النقد القوي الناقد، الذي يفضح تلك الجهالة المستورة وراء ظاهر من الإبداع الأدبي أو الفني.

ولست أريد بذلك أن أقول بأن كاتب القصة أو ناظم الشعر، مطالب بأن يسوق في أدبه «أفكارا» بصورة مباشرة، كلا؛ فأنا على أتم إدراك بأن الأديب ينبغي له أن يكتم في صدره أفكاره المباشرة، لا سيما إذا كانت أفكارا مجردة، لكنه يكتفي بإشعاعاتها فيما يكتبه؟ فإنه ليقال عن الشاعر الإنجليزي «وردزروث» إنه كان من أغزر أبناء عصره ثقافة، وإن مكتبته الخاصة كانت من أغنى المكتبات التي من نوعها، ومع ذلك فقد حرص أشد الحرص في شعره أن يجيء على صورة ريفية بسيطة الخواطر بسيطة الألفاظ، لكن كانت لثقافته الغزيرة المكتومة انعكاساتها في شعره.

ربما كان هذا الفقر الشنيع في جانب النقاد من هذا الجيل، نتيجة طبيعية للفقر الفكري العام، ولا أدري كيف يكون طريق الخلاص من هذه الحلقة المفرغة: فقر فكري فاضح أدى إلى فقر نقدي يناسبه، ثم يؤدي هذا الفقر النقدي بدوره إلى أن يظل الفقر الفكري العام مستورا وراء غطاء يسمونه «الإبداع »، لا، لست أدري كيف يكون الطريق إلى الخلاص من هذه الحلقة المفرغة، لكن نتيجة ملحوظة من نتائجها هي أنك تكاد توقن بأنه إذا شاءت لنا الأقدار أن يظهر فينا كتاب على شيء من العمق، فلن يجد ناقدا يعنى بقراءته ونقده، وكيف يستطيع حتى إذا أراد، وليست لديه الأجهزة الفكرية التي يزن بها الثقافة العميقة؟

وموقف كهذا يذكرني بما يقال إنه حدث في الحركة الثقافية في إنجلترا خلال العشرينيات؛ فلقد كان النقاد عندهم آنئذ على قليل من الأناة والصبر، فلم يكونوا يطيقون معالجة المستويات العليا من إنتاجهم، ولذلك كانوا كلما وجدوا أديبا يتعذر عليهم فهمه، حذفوه من صحيفة الأعلام، وذلك ما صنعوه بالنسبة لشعر «ملتون»، فقد أهملوه بحجة أنه لم يكن يستحق الاهتمام، مع أن حقيقة الأمر كانت أنهم لم يقووا على الارتفاع إلى ذروته، لكن الحركة الثقافية هناك أقوى من أن يطول معها مثل هذا الإهمال المنطوي على جهل وضعف، فما مضت بعد ذلك عشر سنوات حتى نهض نقاد قادرون ليحيوا «ملتون» مرة أخرى وليردوه إلى مكانته الرفيعة من تاريخهم الأدبي.

المأساة في حياتنا العقلية كلها اليوم، في أنها قد انجرفت في تيار «الفهلوة»؛ فلم يعد المهم هو أن تدقق النظر إذا فكرت، وأن تجيد الصياغة إذا كتبت، بل لم يعد المهم هو أن تفكر وأن تكتب على الإطلاق، إذا أردت أن تحسب في عداد المفكرين والكتاب، بل يكفيك أن تتقن فن الفهلوة التي تضعك في مساقط الضوء دون أن تكون قد مهدت لذلك بعمل فعلي تؤديه، ومن فنون الفهلوة في هذا السبيل أن تجد طريقك إلى عضوية اللجان الثقافية العليا، وأن يوضع اسمك مشرفا على هذا، ومراجعا لذاك، وأن تدلي برأيك فيما لم تقرأه، وأن تصطنع أمام الناس وجاهة أصحاب النفوذ والسلطان؛ لأن القادر على النفع والضرر لا بد أن يكون في أعين الناس أي شيء أراده لنفسه، بما في ذلك أن يكون «أديبا» أو «مفكرا» أو ما شاء من صفات.

لقد شاءت لي المصادفة صباح اليوم، أن أعيد قراءة مقدمة كنت قدمت بها كتابي «نحو فلسفة علمية» الذي صدر سنة 1958م، وإذا بي أجد الأسطر الآتية في خاتمة المقدمة، وها أنا ذا أعيدها، لأني ما زلت أرى صدقها: «لو حكمت على مصير هذا الكتاب، في ضوء ما قد أصاب إخوة له سبقته إلى النشر، لقلت قولة يائس إنه لن يظفر من فرسان الفلسفة، الذين يجيدون في ميدان الفروسية ركوب الجياد، ورماية الرمح، والمبارزة بالسيف، لن يظفر من هؤلاء بنظرة، لكنه رغم ذلك سيكون منهم موضع حكم يصدرونه عليه؛ لأنهم فاضلون، بلغ بهم حبهم للفضيلة أن يكون لهم الرأي فيما ليس يعلمون، والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه.»

هي أسطر كتبتها منذ عشرين عاما، وقصدت بها إلى تصوير الموقف العقلي بالنسبة لمجال معين وجماعة معينة، لكنني أعيد نشرها اليوم؛ لأنها تصور حياتنا العقلية في كل مجال وبالنسبة للكثرة الغالبة ممن أوصلتهم الفهلوة إلى مواضع الريادة.

اللاعقل في حياتنا

أرسلت منذ بضعة أسابيع مقالة بعنوان «في حياتنا العقلية» ففوجئت حين رأيتها منشورة تحت عنوان «في حياتنا العائلية»، كأنما عامل المطبعة الذي صف حروف العنوان لم يصدق أن تكون لنا «حياة عقلية»، أو لعله لم يسمع قط قبل ذلك أن توصف حياة الإنسان أحيانا بأنها عقلية في منحاها ومسارها، وظنها فلتة قلم من الكاتب، فتبرع بذلك التصحيح ليكون للعنوان عنده معنى مفهوم، ولم يأبه أن تنعدم الصلة بين مادة المقالة وعنوانها.

ولقد سمعت من أستاذ لعلم النفس في إحدى جامعاتنا، بأنه أراد القيام ببحث علمي على مجموعة من طلابه وطالباته، يقيس به ميولهم، فكان من بين ما طلبه من هؤلاء الطلبة والطالبات أن يختار كل منهم كتابة موضوع إما في الحياة «الانفعالية» وإما في الحياة «العقلية»، فلم يقدم منهم طالب واحد ولا طالبة واحدة على الكتابة عن الحياة العقلية، واختاروا جميعا حياة الانفعالات.

تأيدت عندي الفكرة - من هذه الأمثلة وغيرها - بأن «العقل» وحياته مسكين في ديارنا، لا نكاد نطيق أن يكون له ركن عندنا ليقيم فيه، لكنني حين شرفني الدكتور إبراهيم حلمي عبد الرحمن ، بأن ضمني عضوا في لجنة يرأسها، عملها هو أن تخطط لمصر تخطيطا بعيد المدى نسبيا، وجدت نفسي بين صحبة كريمة، أستمع إلى أفرادها، أو أقرأ لهم ما أعدوا من تقارير، فلا أجد إلا تفكيرا عقليا من الطراز الرفيع، إنها مجموعة من الطراز الرفيع، إنها مجموعة من العلماء، تخيلت أنها لو أمسكت زمام الريادة في أي بلد من بلاد العالم المتقدم، لكانت هناك خير من يرسم الطريق، وهنا سألت نفسي فيما يشبه الثورة الغاضبة قائلا: إذا كان هؤلاء هم رجالنا في التخطيط العلمي لشعبنا؛ تخطيطا يجسد العقل على صفحاته وبين سطوره وأرقامه، فما الذي يصيبنا بعد ذلك في طريق حياتنا العملية؟ ما الذي ينقصنا ليطرد بنا السير إلى أمام، ما دام هذا هو طرازنا في الجانب النظري؟

ولم تكد تهدأ ثورتي حتى جاءني الجواب عن سؤالي يسعى، وذلك أني أخذت أتصفح أوراقا أمامي بطريقة عفوية عابرة، فإذا عيني تقع في سطورها على حقائق تشد الانتباه، وكان مما قرأته أن هيئة رسمية في سنة 1960م أقرت بادئ ذي بدء أن التصنيع هو الطريق الأساسي الوحيد الذي يخرج البلاد من الضيق إلى السعة، ومن التخلف إلى التقدم، ثم وضعت للدولة تخطيطا تسير على منهاجه ليحقق لها ذلك الهدف، ومضت خمسة عشر عاما بعد ذلك، وجاءت سنة 1975م، وقيس التقدم الصناعي الذي تقدمته البلاد خلال تلك الفترة فإذا بالناتج المضاف عن طريق الصناعة تقل نسبته سنة 1975م عنها سنة 1960م! ومعنى ذلك أن اتجاه السير في حياتنا العملية قد جاء مضادا لما أراده لنا «العقل» وهو يرسم الطريق! فتصور مسافرا أراد السفر من القاهرة إلى الإسكندرية فركب قطار الصعيد!

ومما وقعت عليه عيني أيضا في تلك القراءة العابرة للأوراق التي وجدتها أمامي، أن مشروعات صناعية أقيمت لها المباني وجهزت الآلات، وإذا بها لا تجد المادة التي تصنع (بتشديد النون)، فعملت بجزء منها وبقيت سائر الأجزاء معطلة، وهكذا، وهكذا أخذت أطالع أمثلة عجيبة تدل أوضح الدلالة وأقواها، على أننا إذا كنا قد استطعنا بفضل رجالنا الممتازين أن نستهدي العقل العلمي في رسم خطة السير، فلقد نكبنا برجال آخرين في دنيا التنفيذ، جعلوا يخلطون الأمور بعضها ببعض: يقدمون غير المهم على المهم، وينافس بعضهم بعضا في مجالات كانت تستدعي التعاون والتكامل، إلى آخر هذه القصة الطويلة الحزينة.

عندئذ ظهر لي تفسير المفارقة المؤسفة التي أثارت في النفس ثورتها وغضبها، وهي تتلخص في هذا السؤال: كيف حدث أن كان بيننا رجال بأعلى الكفاءة العلمية والعقلية حين يخططون، ثم لم نجد في الناتج الفعلي على أرض الواقع إلا نقيض ما أردناه وخططنا له؟ والحل الذي ظهر لي واضحا هو أنه بينما ساد «العقل» عند مرحلة التفكير والتدبير، جاء «اللاعقل» بعد ذلك فسد علينا منافذ الطريق.

إن هنالك فجوة تؤدي إلى انفصام، بين الصفوة التي تحتكم إلى «العقل» في استباق الرؤية، وبين الكثرة الغالبة - وهي التي سيناط بها عملية التنفيذ والتطبيق - لأنها كثرة لا تؤمن في أعماقها لا بالعقل ومنطقه ولا بما يترتب على العقل من علوم وصناعات، ومما يقوي نفور الناس من العقل والعلم والإيمان بهما، فريق من أصحاب الكلمة المكتوبة أو الكلمة المنطوقة، وسوست لهم الشياطين بأن العقل الإنساني عاجز، وبأن العلم تضليل، وراحت تبث هذه الدعوى فتلقفها منهم الناس في لهفة؛ لأنها دعوة تضمن لهم الاسترخاء والراحة، في الوقت الذي يقتضي منهم نشاط العقل كثيرا من اليقظة القلقة الواعية التي ترهق أعصابهم بغير داع.

لقد جاءتني فتاة تعمل في الصحافة عند أولى درجاتها، جاءت تطلب مني تعليقا على حديث أملاه عليها علم من أعلام الفكر في حياتنا اليوم، وربما كان الأقرب إلى الصواب أن أقول عنه إنه من أعلام «اللافكر» في حياتنا (أعني أنه يجعل الأولوية لوجدانه)؛ لأن الفكر بحكم تعريفه هو «منطق العقل»، على حين أن الرجل ما ينفك يعلن بأعلى صوته أنه عدو للعقل ومنطقه، أو هو على الأقل ضعيف الإيمان بقدرة ذلك العقل البشري في الكشف عن الحقائق، لماذا؟ لأن صاحبنا قد وجد راحة نفسه في حياة الوجدان الصوفي، والرأي مجمع على أن هذا الوجدان الصوفي إنما يقف من المنطق العقلي موقف النقيض من النقيض.

جاءت الصحفية الشابة تطلب مني تعليقا على حديث أملاه عليها صاحبنا، فوجدت الحديث - كما توقعت له أن يكون - ضبابا يحجب الرؤية، وأوهاما يطير بها المهومون في متاهات المجهول، كأننا قد فرغنا من دنيانا هذه دراسة وانتفاعا، فتركنا صخرها وترابها وماءها وهواءها إلى «من يعنيهم الأمر»، ونفذنا نحن بأرواحنا إلى أطباق السماء! فماذا كان بوسعي أن أقوله في التعليق على حديث كهذا؟ أأقول إنه يجمل بنا أولا أن نملأ الصوامع الخاوية بالقمح ليأكل الناس؟ أأقول إن مثل هذا التهويم ينبغي له أن يرجأ إلى أن نفرغ من فلاحة الأرض وتشغيل المصانع؟ إنني لو قلته - وهنا تكمن أعجب العجائب - كان أول من يشيح بوجهه عني هم أولئك أنفسهم الذين يعوزهم القمح ليأكلوا، والثياب ليكتسوا!

سر المأساة - إذن - هو في الثغرة المحفورة في حياتنا بين من يمسك العقل بزمامهم في ناحية، وبين من يهيمون في عماء اللاعقل في ناحية أخرى؛ فترى الأولين يرسمون ويخططون «كما لو كان» الذين سيتولون التنفيذ مثلهم إيمانا بعقولهم، ولقد وضعت «كما لو كان» بين أقواس؛ لألفت إليها الأنظار؛ لأنها كانت - لأهميتها - عنوانا على فلسفة بأسرها، أشاعها في الثلث الأول من هذا القرن، فيلسوف ألماني (هو هانس فاينجر)، وخلاصتها أن الإنسان يصوغ لنفسه أفكارا ويزعم لنفسه أنها أفكار تصور له الواقع كما هو واقع، فإذا هي في حقيقتها إنما تصور له ما يحب هو أن يتصوره عن ذلك الواقع لينعم بالراحة، وحتى لو جاءته الخبرة الشخصية صارخة ببطلان أفكاره تلك، فالأغلب أنه لا يعدل عنها إلى سواها، ولماذا يعدل عنها إذا كانت مريحة وسواها يؤلمه ويشقيه؟ واختصارا فإن الإنسان بمثابة من يحبك لنفسه قصة لذيذة عن العالم، يحياها «كما لو كان» العالم يجري على منوالها ... وسواء أصابت تلك الفلسفة في تحليل الإنسان أم أخطأت، فهي بغير شك تصف شيئا مما يقع في حياتنا نحن، حين نبني من الأوهام صورة نتشبث بها «كما لو كانت» هي صورة الواقع.

وإن علماء الإنسان ليتساءلون أحيانا: كيف أمكن للإنسان أن يكون له هذا العقل بذكائه الذي اخترق به حجب السماء، وأن يكون له في الوقت نفسه تلك الأوهام العجيبة التي كثيرا ما يلوذ بنعيمها فرارا من عذاب العقل وشقائه؟ كيف حدث هذا التناقض في تركيب الإنسان دون سائر الحيوان؟ إن القط والكلب والسبع والنمر والغزالة والزرافة، كلها تحيا حياة ذات بعد واحد مطرد منسجم لا تناقض فيه، وأما الإنسان فهو وحده المنكوب بالتمزق بين ذكاء العقل وعماء العاطفة، فكان فيه العلم، وكانت فيه الخرافة في آن معا.

هي مسألة تستوقف النظر وتستحق التعليل، وكان من أحدث (وأغرب) ما قرأته في تفسيرها، نظرية يطلق عليها اسم صاحبيها «بابيز» و«ماكلين» وهما من علماء البيولوجيا، وتقول النظرية ما خلاصته أن المخ البشري مؤلف من ثلاثة أجزاء، تمثل ثلاثة أدوار من التطور، فأحدها لا يزال يختزن حياة الزواحف، والثاني لا يزال يختزن حياة الثدييات الدنيا، والثالث هو ذلك الذي يؤدي لنا وظائف العقل كما نعرفها وليس بين الطبقة الدنيا التي ترسب فيها الماضي القديم، والطبقة العليا التي تؤدي الوظائف العقلية، لا تعاون ولا اتساق، وكذلك فهما كثيرا ما يتعارضان، من الأولى تنبثق كل النزوات الانفعالية اللاعقلية، ومن الثانية يأتي الفكر المنطقي، ثم اتسعت الهوة بين الجانبين، حين ظلت الأولى على حالها، وقفزت الثانية في قدراتها تلك القفزات المعجزة التي عرفناها للعلوم في تاريخ الإنسانية الحديث.

ذلك ما يقال، وقد يكون من الهدى وقد يكون من الضلال، لكن الذي لا شك عندي فيه، هو أن في حياتنا الفكرية شيئا منه؛ فقسم منا يفكر ويرسم ويخطط ويهدي، وقسم آخر يعبث بنزواته فيما رسم الأول وخطط، فكان ما كان مما نرى من خطوات تتعثر على الطريق.

ثقافة الغد

ثقافة المرء هي وجهة نظره. ومن ليس له وجهة نظر يقيس إليها مواقف الحياة فليس هو بذي ثقافة حتى ولو كان أعلم علماء عصره في فرع من فروع العلم.

ليختلف المتحدثون عن «الثقافة» ما شاء لهم الاختلاف، فلا أظنك واجدا بين المعاني الهامة التي تشغلنا هذه الأيام، معنى بلغ من السعة ومن السخاء، ما بلغه معنى «الثقافة»؛ فهو يعطي كل من شاء ما شاء، دون أن يكون هناك المعيار الواحد الوحيد، الذي يمكن أن يحتكم إليه المتحدثون، فيقضي في الأمر قضاء يميز بين الهدى والضلال.

وإذا كان ذلك كذلك، فلماذا لا أملأ إنائي من هذا البحر الواسع كما يملأ الآخرون آنيتهم، فيكون لي رأي في حياتنا الثقافية بمثل ما يكون لسواي؟ على أنني أوثر أن أمد نظرتي إلى الغد، حتى إذا ما استرجعت شيئا من الماضي القريب أو البعيد، وإذا ما وجهت البصر إلى ثقافتنا في حاضرها الراهن، كان ذلك كله من أجل تصور أتصوره لحياتنا الثقافية في غدها، بحيث تجيء غنية بالجديد، لكنه الجديد الذي يصلح أن يكون خطوة على طريقنا نحن، لا على طريق أحد سوانا؛ لأنه بغير هذه الاستمرارية في السير، محال أن يكون لحياتنا الثقافية «تاريخ» تتصل حلقاته اتصالا يجعل كل حلقة منها مرحلة وسطى بين سابقة ولاحقة.

ثقافة المرء - عندي - هي وجهة نظره، ومن ليس له وجهة نظر يقيس إليها مواقف الحياة وأحداثها، فليس هو بذي ثقافة، حتى ولو كان أعلم علماء عصره في فرع من فروع العلم، وها هنا تأتي التفرقة الفاصلة بين العلم والثقافة؛ فالعلم عام والثقافة خاصة؛ فلا فرق بين عالم مصري وعالم من قومية أخرى في الرياضة أو في الكيمياء أو غيرهما من ميادين العلم، وأما ثقافة المصري - أي وجهة نظره - فيتحتم تحتيما أن تختلف عن الثقافة عند سائر الأقوام، فإذا اتفق قومان في وجهة نظر واحدة إلى الكون وإلى الحياة، قيل إنهما بمثابة الأخوة في الأسرة الواحدة، أو بمثابة أبناء العم والخال، وكذلك إذا وجدت داخل قومية معينة أفرادا يتجهون بنظرهم الوجهة نفسها (بكل حذافيرها) التي تتميز بها قومية أخرى، كان هؤلاء الأفراد محسوبين خطأ على قومهم، وكان الأولى لهم أن يحسبوا على من يتجانسون معهم في وجهة النظر.

لا، ليس العلم هو الثقافة ؛ فالعلم مقيد بالواقع، وأما الثقافة فهي أقرب إلى المعيار الذي نهتدي به إلى ما ينبغي أن يكون؛ ومن هنا لا تتدخل في ساحة العلم قيم الخير والشر أو الجمال والقبح، وأما الثقافة فمعنية بتلك القيم من رأسها إلى القدمين، العلم عقل والثقافة ذوق، العلم منهج يقام على مبادئ المنطق، والثقافة دفعات وجدان، ومع هذا التباين كله بين العلم والثقافة، فهنالك ما يربطهما معا في كيان واحد، هو كيان الإنسان إذا شاء له الرحمن أن يكون ذا كيان.

وشرح ذلك هو أن الإنسان - على ضوء ثقافته؛ أي على ضوء وجهة نظره - يختار لنفسه الأهداف، ثم يلجأ إلى ما لديه من علم ليحقق تلك الأهداف؛ فالعلم هو الذي يرسم الخطوات الموصلة إلى الهدف، وأما اختيار الهدف في ذاته، فلا شأن للعلم به؛ فقد تجد قوما يختارون لأنفسهم أن تقام الصناعة على ملكية الأفراد، كما قد تجد قوما آخرين اختاروا لصناعتهم أن تقام على ملكية الجماعة، وإلى هنا لا شأن للعلم بما اختاره أولئك أو هؤلاء، ثم يأتي العلم بعد ذلك ليحقق لكل قوم هدفهم المختار؛ فالعلم شأنه أن يحلل ما بين يديه، لكنه لا يفاضل ولا يختار، على حين أن الثقافة - بوجهة نظرها - لا تكاد تعرف التحليل؛ لأنها وجدان وذوق، يعرف كيف يفاضل ويختار.

وحركات التغيير والتطوير، إنما تنبثق من الثقافة ولا تنبثق من العلم؛ لأن تلك الحركات (بما في ذلك الثورات) ما هي إلا رغبة في تغيير حالة قائمة لتصبح على صورة أخرى غير صورتها الراهنة، والرغبة تنبع من الجانب الوجداني في الإنسان، وأما العلم فهو وسيلتها إلى التحقيق.

ونعود إلى ما بدأنا به، وهو أن ثقافة المرء هي وجهة نظره، وأرجوك أن تقف متمهلا عند كلمة «وجهة»؛ فوجهة النظر هي «الاتجاه» الذي نرسل البصر في طريقه، ولو راجعت الحياة الثقافية في مصر، خلال القرن الثامن عشر؛ أي قبيل أن يصل إليها نابليون بحملته العسكرية العلمية معا، لوجدتها متجهة ببصرها نحو خزائن الكتب الموروثة، تحفظ ما فيها وتشرحه وتضع له الهوامش ؛ فكان «العلماء» هم الحافظون لما هو مذكور في صفحات تلك الكتب، مع تفاوتهم بعد ذلك في درجة فهمها واستيعابها، ومعنى هذا هو أن «ثقافة» القوم عندئذ؛ أي وجهة «نظرهم» هي العودة إلى الماضي.

ثم أخذت تلك الوجهة تتغير في الثلث الأول من القرن التاسع عشر، بأن مدت البصر عبر البحر إلى أوروبا، لا لتضع شيئا جديدا مكان شيء قديم، بل لتضيف جديدا إلى قديم، ولو أخذنا رفاعة الطهطاوي علامة على تلك المرحلة، وجدنا الاتجاه الثقافي هو المجاورة بين قديم موروث يحقق ويعاد نشره، وجديد وافد من أوروبا، في صورة كتب تترجم إلى اللغة العربية.

ومضت بنا الأيام إلى الربع الأخير من القرن الماضي، وهو عصر الشيخ محمد عبده، فإذا بصراع ينشأ بين ثقافتين؛ أي بين وجهتين للنظر، أما أولاهما فهي التي اختارها محمد عبده، ومؤداها أن يلم بما يدور في أوروبا من فكر، لا ليأخذه، بل ليرد عليه إذا وجده ماسا بعقيدته ووجهة نظره، وأما الثانية فهي التي أوجزها الخديوي اسماعيل بقوله إنه يريد لمصر أن تكون قطعة من أوروبا، وعلى هذا النموذج جاءت الثقافة عند نفر من أبناء تلك الفترة.

ومرة أخرى يمضي بنا الزمن إلى العشرات الأربع الأولى من هذا القرن العشرين، فإذا نحن في حركة عارمة، تبلور للثقافة في مصر (وإذا قلنا ذلك فكأننا نتحدث عن الثقافة العربية كلها، لا نستثني إلا شذرات تناثرت هنا وهناك) أقول إنها كانت حركة عارمة، بلورت للوطن العربي وجهة نظره الجديدة، التي قوامها محاولة التأليف في صيغة واحدة، بين ما هو وافد من أوروبا وما هو موروث أسلافنا. وكان أبطال تلك الحركة هم الزمرة المباركة: قاسم أمين، لطفي السيد، طه حسين، العقاد، المازني، هيكل، توفيق الحكيم ... وكان ذلك الدمج بين المصدرين في وجهة نظر واحدة، هو نفسه الخلفية الثقافية التي ولدت إبداعا في الفكر والأدب والفن؛ أعني أنها هي التي أنتجت الوليد الجديد الذي لا هو من الموروث وحده، ولا هو من أوروبا وحدها، وها هنا ظهرت القصة العربية، والمسرحية العربية ، والفكر العربي في شتى الميادين، وحتى أولئك الذين اختاروا موضوعاتهم من الموروث، لم يكتفوا بمجرد النقل والمحاكاة، بل وضعوا ذلك الموروث في إطار أوروبي جديد، كالذي نراه في النقد الأدبي عند أعلامه، أو الذي نراه في «الإسلاميات» التي صيغت في شكل عصري جديد.

ويخيل إلي أن لجنة التأليف والترجمة والنشر، عندما أنشئت سنة 1914م، إنما كانت تلخص بهذا الاسم دستورنا الثقافي الجديد، وهو أن تنقل أوروبا إلينا بالترجمة، وأن نعيد تراث الأقدمين ب «النشر» (كان المقصود بكلمة «النشر» في هذا العنوان، هو نشر التراث)، وأن نستلهم هذا وذاك في «تأليف» مبدع، يحمل طابعنا الأصيل في صورة عصرية ثم تسير بنا الأيام إلى المرحلة الأخيرة التي نجتازها في يومنا هذا؛ فللأسف ما تعددت بنا الثقافات، ولم تستطع جمع الروافد في تيار واحد، نقول عنه إنه ثقافتنا الراهنة.

ففينا من يحمل لواء الموروث، والموروث وحده، مستنزلا لعنات السماء على من يحمل لواء غير هذا اللواء، وفينا من يدعو إلى ما هو أوروبي أمريكي (ولنلحظ هنا أن أمريكا لم تدخل ساحتنا الثقافية إلا في الأربعينيات وما بعدها) ثم فينا - وتلك هي الأكثرية العظمى - من جهل التراث وجهل الأوروبي الأمريكي جميعا، فاحتمى بما يسمونه «إبداعا» من قصة ومسرحية وشعر وفنون، فجاء في أغلب إبداعهم خاويا ضحلا؛ إذ من أين يأتيه العمق إذا انسدت دونه أبواب الموروث والعصري معا؟

وعلى ضوء هذا الذي عرضناه مسرعين، نسأل عن ثقافة الغد، كيف نريدها أن تكون؟ وأحسب أن الجواب قد بات واضحا، وهو أن نمضي بكل قوانا في مطالعة موروثنا مطالعة الغائصين إلى أغواره، وفي مطالعة المعاصرين من بناة الحضارة الجديدة، مطالعة الباحثين عن روحها وصميمها، وإلى هنا نكون قد هيأنا المناخ الذي هو قمين أن ينتج لنا المبدعين، على أننا قد نستطيع رسم خطة تنفق الدولة على تنفيذها، فترسمها في إحياء تراثنا، وفي ترجمة المعاصرين، لكننا لا نستطيع بأي معنى من المعاني أن نخطط للإبداع، فلنتركه حرا للمواهب الحرة. لقد كانت لنا وجهة نظر تجسدت في رفاعة الطهطاوي، ووجهة نظر بعدها تمثلت في محمد عبده، ووجهة نظر ثالثة حملها وأشاعها رجال العشرينيات من هذا القرن بصفة خاصة، وهي وجهات اختلف بعضها عن بعض لاختلاف العصر وظروفه، أما اليوم فقد غابت عنا وجهة النظر التي يمكن أن نعرف بها وتعرف بنا، والمطلوب من ثقافة الغد أن تعيد لنا ما غاب عنا، لنتجانس في «الذوق» فنتجانس في الرفض والقبول.

رؤية يغشاها الضباب

إني أتهم حياتنا الفكرية الراهنة بكثير جدا من الزيف، وربما جاز لنا أن نستثني من هذا الحكم حالات هي أقل من القليل، ليس كاتب هذه السطور حالة منها، وإني لأقولها قبل أن يرتد سهمي إلى نحري بيد غير يدي، والزيف الذي أعنيه هنا هو أننا نستحل لأنفسنا أن نتحدث - وفي حماس شديد الاشتعال أحيانا - عما لا نعرفه معرفة مباشرة، بل عرفناه إشاعة عن إشاعة عن إشاعة.

ولا يقتصر هذا الزيف الفكري فينا على أمور تواقة لا تقدم حياتنا ولا تؤخرها، بل إنه ليتناول أضخم المسائل الحضارية، التي يترتب على رأينا فيها توجيه الحياة كلها في هذا الاتجاه أو في ذاك؛ فقد يتصدى عالم جليل من علمائنا إلى مذهب فكري سمع عنه بين المذاهب السائدة في ثقافة الغرب، فيسلخه سلخا بسهام النقد، حتى إذا ما بحثت أمر هذا العالم، وجدته لم يقرأ كتابا واحدا لمؤلف واحد ممن ينتمون إلى ذلك المذهب الذي جعله هدفا لسهامه، بل قد يتصدى كاتب عظيم من كتابنا للحضارة الغربية العصرية كلها بالطعن والتجريح، حتى إذا ما أتيح لك أن تعلم عن مقومات ذلك الكاتب علما كافيا، وجدته بريئا من كل معرفة صحيحة بأي ركن من أركان الحضارة التي يغرقها باتهامه؛ فلا هو يعرف من علمها شيئا إلا إشاعة، ولا هو ذو صلة بفن من فنونها إلا إشاعة، ولا هو ملم بكثير أو قليل مما تموج به حياتها من تيارات ثقافية زاخرة بما تحمله أمواجها.

وكذلك قل شيئا كهذا في كثيرين ممن تمتلئ أشداقهم إشادة بالحضارة العربية وبالثقافة العربية، وإن شئت فاسأل من تصادفه في طريقك من هؤلاء، عن كاتب واحد يعجبه، فإذا ذكر لك اسمه - وهو يستطيع ذلك لأننا نجيد حفظ الأسماء - فاسأله ماذا قرأ له حتى أعجبه، والأرجح جدا أنك لن تظفر منه بشيء لأنه لم يقرأ شيئا.

إنه ليصعب جدا على من ليس له خبرة مباشرة بما يتحدث عنه، أن يصدر عليه الأحكام الصحيحة، وأسوق مثلا لذلك شيئا طريفا قرأته منذ قريب، نقلا عن كاتب من الأرجنتين أصبحت له شهرته، هو جورجي بورجيس؛ فلقد كتب «بورجيس» عن الفيلسوف العربي العظيم «ابن رشد» مقطوعة جعل عنوانها «بحث ابن رشد» ورد فيها أن بين الصعوبات التي اعترضت ابن رشد في شرحه لفلسفة أرسطو، أنه وهو يقرأ الترجمة العربية لتلك الفلسفة، فإنما كان في الحقيقة يقرأ ترجمة لترجمة؛ فالأصل يوناني، ترجم إلى السريانية أولا، ثم ترجمت السريانية إلى العربية، وعلى أية حال، فهو عندما تناول ما كتبه أرسطو عن «فن الشعر» صادفته لقطتان، هما لقطة «تراجيديا» ولقطة «كوميديا»، ولم يكن له بالطبع سابق علم بالمسرح ولا بأي شيء مما يتصل بالمسرح، فكان من الطبيعي ألا يفهم ما تعنيه هاتان اللقطتان، إلا ما يمكن أن توحي إليه به ثقافته العربية؛ ولذلك فقد فهم «التراجيديا» على أنها شعر المديح، وفهم «الكوميديا» على أنها شعر الهجاء.

ولم يكد «بورجيس» يذكر هذه اللمحة عن ابن رشد حتى استدرك قائلا لنفسه: إنه لا يجوز لي توجيه اللوم إلى الفيلسوف العربي؛ لأن حاله لم تكن أسوأ من حالي وأنا أكتب عنه؛ فكيف يعقل أن أعرف شيئا صحيحا عن ابن رشد، مع أن كل ما بين يدي عنه هو قصاصات مبتورة جمعتها مما كتبه «رينان» و«ألين» و«أسين بلاسيوس»؟

فسرعان ما قلت لنفسي - أنا كاتب هذه السطور - ولا أنت يا نفسي بأحسن حالا منهما معا؛ فإذا كان ابن رشد قد فهم مفهومات يونانية من خلال ثقافته العربية، فظن التراجيديا شعر المديح، والكوميديا شعر الهجاء؛ أعني أن حواجز أقيمت بينه وبين الأصل فلم يفهمه على وجهه الصحيح، ثم إذا كان «جورجي بورجيس» يجهل العربية فقرأ عن ابن رشد فيما كتبه عنه مؤلف فرنسي هو «رينان» ومؤلف إنجليزي هو «ألين»، ومؤلف إسباني هو «بلاسيوس»، فأقيمت الحواجز كذلك بينه وبين فهمه على الوجه الصحيح، فانظر إلى حالك الآن - هكذا خاطبت نفسي - تجدك تقرأ عن بورجيس في مجلة إنجليزية تعلق على كتاب إنجليزي كتبه مؤلفه عن ذلك الكاتب الأرجنتيني، فكم حاجز يحول بينك وبين الأصل الذي تقرأ عنه؟ إنها ظلال مشتقة من ظلال، هي بدورها منعكسة عن ظلال.

إنه عندما انتقل الجاحظ من البصرة إلى بغداد، وكان الخليفة المأمون قد أنشأ ما يسمى «بيت الحكمة» لنقل الفكر اليوناني إلى العربية - مرورا بالسريانية - وقف - أعني الجاحظ - من هذه الحركة الثقافية موقف المتشكك (أو هكذا يخيل إلي)؛ لأنه كتب في المجلد الأول من كتابه «الحيوان» ما يوحي بذلك التشكك؛ إذ كان بين ما قاله: «... إن الترجمان لا يؤدي أبدا ما قال الحكيم، على خصائص معانيه، وحقائق مذاهبه، ودقائق اختصاراته، وخفيات حدوده، ولا يقدر أن يوفيها حقوقها، ويؤدي الأمانة فيها ... وكيف يقدر على أدائها وتسليم معانيها، واستعمال تصاريف ألفاظها، وتأويلات مخارجها، مثل مؤلف الكتاب وواضعه.»

ولقد كان الجاحظ ممن سرت روح الثقافة اليونانية المنقولة في كتاباته، لكن ذلك لم يمنعه من التعبير عن قلقه بسبب الحواجز الحائلة بينه وبين الأصل المنقول.

وليس الزيف الذي أعنيه في حياتنا الثقافية اليوم هو بالضبط من هذا القبيل؛ أي إنه ليس من قبيل القلق الذي تملك الجاحظ إزاء عملية الترجمة، وما لا بد أن تؤدي إليه من تحريف للأصل عن معانيه الحقيقية؛ لأن مثل هذا الموقف لا زيف فيه؛ فهو الصدق كله والأمانة كلها، وإنما الزيف الذي أعنيه هو ألا نفهم وندعي الفهم، وألا نقرأ الأصول ولا ترجماتها بل نكتفي بخطف الإشاعات التي تقال عن تلك الأصول أو ترجماتها، ثم ندعي العلم وكأننا ألممنا بالموضوع من ينابيعه، وأن نلخص شيئا قرأناه وندعي تأليفه وابتكاره، حتى لقد ضاعت المعالم الفارقة بين من يعلمون ومن لا يعلمون.

ولأن الواحد منا يعرف بينه وبين نفسه أنه زائف، عرف القليل وتظاهر أمام الناس بالكثير، ورأى الظل وزعم للناس أنه قد رأى صاحب الظل وأمسكه بكلتا يديه، أقول إنه لما كان الزائف يعرف بينه وبين نفسه أنه زائف تراه لا يجاهد في سبيل فكرة يعرضها، وفيم الجهاد وهي ليست فكرته؟ فأقل نفخة هواء تلفحه بالخطر، تكفيه ليلقي بالفكرة في الوحل ليفر منها ومن تبعاتها، فهو كمن يبعثر مالا مسروقا لم ينضح جسده عرقا في سبيل كسبه، أو كمن يسكن دارا لا يملكها فلا يؤرقه أن يحدث لها ما يحدث من عوامل الدمار.

ليس الفكر الذي نحياه فكرنا، بل هو مستعار من سوانا، فإما هو فكر منقول عبر المكان من مصادره الغربية، وإما هو فكر منقول عبر الزمان من أسلافنا، ولا عيب في ذلك كله؛ لأن الحضارة اليوم ليست من صنعنا، فلا علينا أن نأخذ عنها ما نأخذه، ولأننا في الوقت نفسه أصحاب إرث ورثناه، فلا علينا أيضا إذا اغترفنا من ميراثنا، لكن العيب كل العيب، هو في عملية الخطف السريع، الذي تخطف به من هنا وهناك، في غير دراسة أمينة متأنية صابرة ثم تأخذنا خيلاء من يعرفون!

وبودي لو ذكرت للقارئ أمثلة حية مما صادفته في هذا الصدد، ليرى كم بلغت الخيانة الثقافية ببعضنا، برغم أنهم في حسابنا من القادة الكبار، لكني أتعمد ألا أذكر الأسماء ولا الصفات التي تنم عن أصحابها الكبار؛ لأن المهم عندي الآن هو تصوير المناخ الفكري العام الذي نتنفسه، والذي سرعان ما يؤدي بنا إلى مواقف الجبناء.

مرة ثانية أقولها: ليس الذي أعيبه هو النقل الثقافي في حد ذاته؛ لأنه لا مناص لنا من هذا النقل في ظروفنا الحضارية الراهنة؛ فالمذاهب السياسية منقولة، وأنظمة الحكم منقولة، والهيكل التعليمي منقول، وأشكال الأدب والفن منقولة، فضلا عن شتى فروع العلوم، فهي بالطبع منقولة، لا، ليس الذي أعيبه هو النقل في ذاته، بل الذي أعيبه هو النقل المخطوف، وهو الفهم السطحي المنقول، وهو انتحال الأصالة فيما ننقله، وهو رؤية الأصل المنقول من خلال الحجب المغلفة بالضباب.

لقد ظلت الولايات المتحدة الأمريكية نفسها تنقل عن أوروبا حتى منتصف القرن الماضي، وقبل ذلك المنتصف كادت أمريكا ألا تفرز من عندها فكرة واحدة، لكنهم كانوا ينقلون ويعلنون عن نقلهم، ثم هم كانوا ينقلون بعد دراسة تتعمق ما ينقلونه، إلى أن صاح فيهم «إمرسون» صيحته المشهورة بخطاب قصير ألقاه في إحدى جامعاتهم، وجعل عنوانه «الباحث الأمريكي»، مريدا بذلك أنه قد آن الأوان للأمريكي أن يقف على قدميه، وأن يكون له أبحاثه المبتكرة الخاصة به.

أما نحن فنخطف ذلك الخطف السريع وندعي لأنفسنا العلم المبتكر، فحتى لو صاح فينا رجل مثل إمرسون، قائلا لنا إنه قد آن الأوان للمصري أن يقف على قدميه، لما استجاب أحد لصيحته؛ لأنه لو استجاب كان بمثابة من يفضح نفسه ويكشف حقيقة موقفه، وليس في حاجة هنا إلى القول بأن الخطف من أسلافنا هو في الخطيئة كالخطف من الغرباء، بل ربما كان التشويه في الحالة الأولى أمعن في الضلال.

وأول ما ينبغي فعله هو أن يفصح الزائف - لنفسه على الأقل - عن مدى زيفه قبل أن يستحكم منه الغرور، وستأتي الخطوة التالية بعد ذلك تلقاء نفسها، وهي أن يظهر للمصري المعاصر ثقافة، يكون من حقه أن ينشرها في الناس موسومة بالمصرية الأصلية.

الولاء الأبكم

لقد حدث لي أن كتبت مقالة نقدية فور ظهور «الملك أوديب» لأستاذنا توفيق الحكيم، جاءت تعليقا على مقدمة قدم بها أديبنا مسرحيته تلك، وهي تقع في أكثر من خمسين صفحة، أثار فيها سؤالا هو: لماذا لم ينقل العرب عن اليونان أدبهم المسرحي؟ (على غرار ما نقلوه من فلسفتهم وعلومهم) ثم حاول الجواب، عارضا في سياق محاولته أكثر من رأي ومتناولا كل رأي بالتحليل الذي ينتهي به إلى رفض أو إلى قبول. وللقارئ أن يرجع إلى تلك المقدمة الممتازة إذا أراد الفائدة كاملة.

غير أنني أبديت في مقالتي التي أشرت إليها رأيا آخر، فقلت: «إن الأدب المسرحي - والقصصي - أيضا يستحيل قيامه بغير التفات إلى تميز الشخصيات الفردية بعضها من بعض، فلو نشأ الكاتب في جو ثقافي لا يعترف للأفراد بوجودهم، ويطمسهم جميعا في كتلة واحدة من الضباب الأدكن، لم يكن أمامه سبيل إلى تصوير هؤلاء الأفراد والشرق كله - في ثقافاته القديمة - قد طمس الفرد طمسا لم يترك له مجالا يتنفس فيه؛ فالأفراد في الثقافة الهندية كلهم «مايا» - أي إنهم وهم لا وجود له في دنيا الحقائق؛ إذ الموجود الحق هو الكون مأخوذا بمجموعه الكلي، دون أن يكون فيه تعدد للأفراد أو تكثر للمفردات، وقل مثل ذلك في الصين، وفي كل بلاد الشرق بصفة عامة.»

هذا ما كنت قلته تعليقا على مقدمة «الملك أوديب»، وإني وإن كنت أراه اليوم مشوبا بالمبالغة، فما زلت أعتقد في جوهره وأساسه، وحتى إن رأينا الديانة الإسلامية قد أبرزت الأفراد وجعلت الفرد مسئولا عما قدمته يداه لا يشفع له أن يكون قد تلقى التوجيه من والد أو من صاحب؛ فإن ذلك يدل على قيام الصفة التي نزعم قيامها ولا ينفيها؛ لأنه لو كانت حقيقة الفرد معترفا بها بطبيعة الحال، لما احتاج الأمر إلى كل هذا التوكيد من جانب الدين، إنها سمة الشعوب ذوات الحضارات العريقة كلها، أن تخرج من خبراتها طوال القرون، بأهمية التكتل القومي؛ لأنه كالدرع أمام الأعداء. وليس في ذلك ما يعاب شريطة ألا يبالغ فيه مبالغة تكتم الأصوات الفردية التي تنقد بغية الإصلاح، ولقد لحظت أثناء السنتين الأخيرتين، أن بعض الكتاب في أوروبا يطرحون سؤالا عن الصين بعد وفاة زعيمها ماو تسي تونج، وبعد الذي حدث هناك من ظهور فئة ثورية متطرفة، سرعان ما أسكتها الرأي العام حتى قبل أن تتصدى لها الحكومة، وأما السؤال الذي طرحه هؤلاء الكتاب فهو: هل يمكن لشعب قديم التاريخ كالشعب الصيني أن يبقى طويلا على روحه الثورية؟ أي إن عراقة التاريخ من شأنها أن تنشئ عند الناس رغبة في الحياة المستقرة؛ ولذلك فقلما تثور، وهي إذا ثارت فسرعان ما تتمنى العودة إلى استقرارها؛ ومن هذه الزاوية يتوقع هؤلاء الكتاب لثورة الصين أن تكتفي بما حققته للشعب لكي تنعم بالحياة المستقرة من جديد.

وفي استعراضهم للإنتاج الفكري في الصين خلال ما انقضى من سنوات القرن العشرين يلخصون الحركة الفكرية هناك في محاولة الجمع بين هدفين متعارضين - تعارضا ظاهريا على الأقل - وهما: أن يتماسك المجموع في تجانس يبلغ عندهم مبلغ التقديس، وأن يتحرر الأفراد من أغلال ذلك التجانس في وقت واحد، وفي هذا السبيل ظهرت في الصين مؤلفات هامة يذكرونها كما تذكر الأعلام البارزة في فلاة متشابهة الرمال، ولعل أهم ما تشترك فيه تلك المؤلفات، هو أن شقاء الإنسان في حياته الدنيا إنما ينشأ عن إيجاد الفواصل حيث لا فواصل؛ فلماذا نفصل بين نفس ونفس وكلنا من نفس واحدة؟

ولماذا نقسم الناس أجناسا وطبقات؟ لماذا نقسم الأعمال بين ذكور وإناث كأنما يحتم اختلاف الفريقين اختلافا في نوع العمل وفي التمتع بالحقوق؟ ولماذا تفصل الإنسانية شعوبا، والشعب فئات، والفئة إلى فريق يملك وفريق لا يملك؟ فسعادة البشر مرهونة بالتجانس الذي يطمس الفوارق ويلغي الفواصل؛ لكن هؤلاء المؤلفين أنفسهم، وفي الكتب نفسها يلتمسون في هذا «التجانس» العظيم - كما أطلق عليه أحدهم - طريقا لتعبير الفرد عن ذاته المستقلة.

وربما كانت حياتنا الثقافية في القرن العشرين، منطوية على تعارض كالذي رأينا ثقافة الصين المعاصرة منطوية عليه، بمعنى أن نكون قد استهدفنا غرضين متعارضين: تمايز فردي كالذي أراده لنا لطفي السيد وطه حسين والعقاد، وتجانس يغمس ذلك التميز، كالذي أرادته لنا ثقافة مغروزة في عروقنا، ولم نبذل جهدا نحو إزالة التعارض بين الهدفين.

والتعارض يزول لو أفسحنا صدورنا للأصوات الناقدة، وجعلنا صلاحية المواطن الصالح في إفصاحه عما في نفسه، لا في خرس اللسان.

حدث في النصف الأول من الخمسينيات - أي بعد قيام الثورة بقليل إذا صدقتني الذاكرة في التواريخ - أن اجتمعت لجنة كنت أحد أعضائها، وكل إليها أن تضع مقررا دراسيا يستهدف خلق «المواطن الصالح»؛ فوجدنا أمامنا منذ بداية الجلسة الأولى مذكرة - لم أكن أعرف من الذي أعدها - لتكون أساسا لسيرنا في العمل، وأذكر أن أول سطر فيها كان تعريفا ل «المواطن الصالح» من وجهة النظر التي أعدت بها المذكرة، وكان مدار ذلك التعريف هو أن يكون المواطن الصالح مستجيبا مطاوعا متجانسا في فكره وسلوكه مع مجموعة المواطنين؛ أي أن يكون أداة تنفيذ لما يراد له أن يفعله.

طلبت الكلمة، وأخذت أبين للحاضرين؛ أولا أن مثل ذلك التعريف دائري ولا يعني شيئا؛ لأنه بمثابة أن يقول إن المواطن الصالح هو الذي يفكر ويفعل كما يفكر ويفعل المواطنون الصالحون؛ وثانيا - وهي النقطة الهامة فيما رأيت عندئذ - أن مثل ذلك التعريف يصادر على خروج الأفراد بأفكار جديدة أو أفعال مبتكرة؛ ذلك لأن التجانس إذا كان تاما بين المواطنين، امتنع علينا صوت الناقد، وهو صوت أراه عاملا - أقوى عامل - على تصحيح المسار أولا فأولا، بشرط أن تظل طاعة الناقد للنظم القائمة كما هي، إلى أن يتاح له بنقده أن يغير تلك النظم بالطرق المشروعة في مجتمعه، لكن الحاضرين رفضوا اقتراحي بالتعديل، بحجة أن ولاء المواطن لوطنه يقتضي التجانس التام، حتى ولو ترتب على تجانسه ذاك مع غيره شيء من التضحية.

بعبارة أخرى، كان المراد هو أن يكون ولاء الفرد لوطنه ولاء مفتوح الأذنين أبكم اللسان، وعندي أنه حين يصاب الولاء بالبكم؛ أعني حين لا يجرؤ على السؤال، فسرعان ما يصبح قناعا زائفا، يخفي وراءه جحافل السوس وهي تنخر في اللباب، وأحسبني قد استشهدت على المعنى الحقيقي لولاء المواطن نحو وطنه وقوانينه ونظمه، أقول إنني قد استشهدت على ذلك أكثر من مرة في مناسبات سابقة بموقف سقراط، ومع ذلك فلن أمل من تكرار هذا المثل؛ لأنه موقف يمثل الولاء الوطني في أسمى صوره، وذلك أن سقراط، وقد أخذ يحرك عقول الناس في أثينا، بمحاورتهم أينما وجدهم، ومن أي فئة صادفهم، لعله يوقظهم من سباتهم، فيحرروا أنفسهم من استبداد عاداتهم المألوفة بعقولهم استبدادا أصابها بما يشبه الشلل؛ حوكم بتهمة الإثارة وبث الفتنة في صدور كانت آمنة، ثم حكم عليه بالموت بعد فترة يقضيها في السجن انتظارا لموسم ديني محرم أن ينقضي؛ فمهد له نفر من تلاميذه المخلصين طريق الفرار من سجنه إلى خارج الحدود لينجو بنفسه من عقوبة ظالمة؛ فما إن عرضوا عليه خطتهم، حتى أخذ في محاورتهم عن واجب المواطن الصالح تجاه أمته وقوانينها، محاورة هي من أروع ما جرى به لسان في تاريخ البشر، قائلا ما خلاصته أن من حق المواطن أن ينقد قوانين الدولة ونظمها، ولكن عليه أن يظل مطيعا لها إلى أن تتغير بالإقناع والاقتناع، أما والقانون الأثيني لم يتغير منه شيء بعد محاولاته، وهو هو القانون الذي على نصوصه حكم عليه بالسجن فالموت، فليس من حقه أن يفر من السجن أو أن يهرب من الموت.

هذا الفاصل الذي يفرق بين الحالتين: حالة النقد مع طاعة النظام المنقود إلى أن يتغير بالطريق المشروع، وحالة النقد المصحوب بالعصيان دون إقناع، أقول إن هذا الفاصل كثيرا ما تفوتنا رؤيته، فنحاسب الناقد على نقده، باعتباره خروجا على الإجماع، مع أننا لو تأملنا قليلا، لرأينا التناقض الكامن في قولنا «خروج على الإجماع»؛ لأن الإجماع لا يظل إجماعا ما دام هناك من خرج عليه.

إنه - فيما يبدو - موقف عميق الجذور في نفوسنا، نشأ عن ثقافة عشناها أمدا طويلا فشكلت لنا طريقة للنظر، ثم توهمنا أنها طريقة تمليها البداهة ولا تحتمل الجدل، كأنما دربت أبصارنا على أن ترى الغابة ولا ترى أشجارها المفردات؛ أعني أن ترى المجتمع في تكتله ولا ترى أعضاءه الأفراد، لكنها ثقافة أخذت - بغير شك - تفك قبضتها عن رقابنا قليلا قليلا خلال هذا القرن، فساعد ذلك على أن ينال الأفراد حقوقهم السياسية التي جعلت لكل فرد صوته في الانتخاب، ثم أعقبتها حقوق اجتماعية ترعى الأفراد من حيث هم أفراد.

ويرجع كثير من الفضل في إبراز الأفراد بفرديتهم التي تصون لهم ملامحهم الشخصية، حتى لا تنطمس مع غيرها في كتلة واحدة بلا ملامح، إلى رجال الفكر منا خلال الثلث الأول من هذا القرن؛ فكان هنالك القادة في المجال السياسي الذين عملوا على أن يكون للأفراد حقوقهم، وأخطر من ذلك أن كان هنالك أيضا قادة في مجال الأدب، أخذوا يؤكدون حق الفرد في أن يكون فردا متميزا بسماته الخاصة، وكان من أهم وسائلهم في هذا السبيل ظهور الشعر الذي يصور به الشاعر فرديته الفريدة المتميزة، قبل أن يجعل من نفسه بوقا للمجتمع الذي هو أحد أفراده، وكذلك ظهور الأدب القصصي والمسرحي؛ لأنه بحكم طبيعته يدور حول أفراد يتفاعلون.

الفكرة الواحدة

صورة لا أنساها قط منذ رأيتها، كأنما هي محفورة في الذاكرة بمسار من لهب، أو كأنها الرموز الهيروغليفية احتفرها الفنان القديم بإزميله على مسلة من حجر الجرانيت؛ وتلك هي صورة عبد الله بن خباب، ذلك الورع التقي الذي صاحب الرسول عليه السلام، وقد سمع - إذ هو في داره المتواضعة على الطريق - ضجة أثارها نفر من الخوارج، فخرج من داره يستطلع الخبر، وكتاب الله معلق حول عنقه، وامرأته الحبلى إلى جواره مخافة أن يصيبه السوء، فما إن ظهر على الطريق حتى فاجأته جماعة الخوارج، فدار بينهما هذا الحوار القصير:

الخوارج :

إن هذا الذي في عنقك ليأمرنا بقتلك.

ابن خباب :

ما أحياه الله فأحيوه، وما أماته فأميتوه.

الخوارج :

ما تقول في علي بعد التحكيم؟

ابن خباب :

إن عليا أعلم بالله، وأشد توقيا على دينه، وأنفذ بصيرة.

الخوارج :

إنك لست تتبع الهدى، إنما تتبع الرجال على أسمائهم ...

ثم قربوه إلى شاطئ النهر، فأضجعوه، فذبحوه، ثم دعوا بامرأته الحبلى، فبقروا عما في بطنها.

تلك هي الصورة التي حفرت عندي في الذاكرة حفرا؛ لماذا؟ ربما كانت علة ذلك هي أن القاتل والقتيل كليهما كان ذا ورع وتقوى! أي والله ذا ورع وتقوى! فلقد يخيل إليك أن هؤلاء الخوارج لشدة ما أظهروا من عنت وعسف، كانوا ممن فرغت قلوبهم من حرارة الإيمان، وحقيقتهم غير ذلك؛ فهم ممن قاموا على العبادة قياما قرح جباههم من كثرة السجود على الرمل والحصى؛ ولكنهم كانوا في الوقت نفسه من أسرى «الفكرة الواحدة»، فإما كنت معهم في فكرتهم تلك، وإما كان القتل جزاءك على أيديهم بغير تردد ولا تخاذل.

وهنا يبرز الفرق بين احتكام الإنسان إلى عاطفته واحتكامه إلى عقله، إذا ما نشأ اختلاف مع غيره في وجهات النظر؛ فحيثما كان للعاطفة سلطان ، لجأ الناس حتما إلى التعصب والتطرف، وإن هي إلا خطوة واحدة قصيرة بعد ذلك، ثم يسود الإرهاب الفكري؛ لأن من أشعلته العاطفة بنارها ودخانها لا «يناقش»؛ فالمناقشة تحتاج إلى هدوء بارد، وهو - كما وصفناه - مشتعل! إنه لا يناقش خوفا من النتائج، فمن يدري؟ ألا يجوز أن تنتهي المناقشة بتعرية أوجه الضعف في موقفه؟

وأما بحث المسائل العارضة بمنطق العقل فهو ضرب من الحساب. لقد سمعنا عن حروب نشبت بين أصحاب عاطفة وأصحاب عاطفة أخرى، لكن هل سمعت عن حرب قامت بين فريق وفريق على معادلة رياضية اختلفا في تحليلها، أو على قانون علمي اختلفا على صياغته؟ وسمعنا عن تكفير أتباع المذاهب والعقائد بعضهم لبعض، لكن هل سمعت عن تكفير عالم لعالم آخر اختلف معه على قوانين الضوء والصوت والكهرباء؟ فهل تعجب بعد ذلك إذا عرفت أن الإنسان الذي استطاع في جانبه العلمي أن يشق طريقه في الفضاء إلى القمر، هو نفسه الإنسان الذي لا يستطيع أن يخطو من بلد إلى بلد مجاور إذا قامت بينهما الخصومة، وإذا كان «التكفير» تهمة قديمة، فقد حلت محلها اليوم تهمة «الخيانة»، وكلتاهما ابنتان لأم واحدة، هي العاطفة المجللة بسواد الغموض.

إنه لمما يدعو إلى العجب في هذا الكائن العجيب - الذي هو الإنسان - أنه في المجال العلمي الذي يقترب فيه من الكمال، تراه لا يتأذى ولا يثور إذا أظهرت له وجه الخطأ فيما يقول ليصححه، على حين أنه في المجال الآخر بكل ما فيه من كثافة الضباب، لا يحتمل أن يقال له إنك أخطأت؛ فكأنما القاعدة العامة هنا هي هذه: كلما كان الموضوع موضوعا يمكن الوصول فيه إلى اليقين (أعني أن يكون من موضوعات العلوم) قلت ثقة الإنسان بنفسه، وتشكك في نتائجه بلا حساسية ولا حرج، وكلما كان الموضوع مما يستحيل معه اليقين، زادت ثقة الإنسان بنفسه، وأوصد كل أبواب الشك، بل واستعد للقتال وسفك الدماء في سبيله.

ضحايا «الفكرة الواحدة» كثيرون، وهم على كثرتهم - كالفصيلة الحيوانية المتجانسة - يشتركون في خصائص يمكن وصفها وضبطها وتقنينها ؛ فلقد تتنوع طبيعة «الفكرة» المسيطرة ذاتها، كأن تكون أحيانا فكرة سياسية، أو أن تكون فكرة اجتماعية، أو مذهبية أو غير ذلك، لكن عباد الفكرة الواحدة، برغم هذا الاختلاف متجانسون في ردود أفعالهم؛ فهم جميعا يشعرون بالغيرة على فكرتهم الحبيبة، ثم يشعرون - بالتالي - بكثير من القلق والخوف خشية أن يصيبها تجريح أو تفنيد من خصومها، فيدفعهم هذا القلق إلى التجمع المذهبي لكي ينضم الشبيه إلى شبيهه فيزداد الجميع قوة وقدرة على رد الاعتداء، لكن الواحد منهم إذا انضم إلى سواه تحت لواء واحد، فإنه في اللحظة نفسها يفقد استقلاله الشخصي، وتضيع منه حرية التفكير الفردي، فيسهل عندئذ أن يساق كما تساق قطعان الغنم، ولا يخفف من عمى بصيرته أن يطلق على ذلك الانسياق اسم «الولاء» للعقيدة أو للفكرة أو للمذاهب أو لأي شيء تختار.

ومن أوضح ما يميز تلك الفصائل البشرية، أنها - لكي تبرر إهدارها لآدميتها - توهم نفسها بأنها إنما قامت لتدافع عن قضية كبرى لها في نفوسهم قداسة أو ما يشبه القداسة؛ فليس الذي يؤرقهم - مثلا - هو مشكلات جزئية صغيرة كالتي تصادفك وتصادفني في حياتنا اليومية، كلا؛ لأنها لو كانت كذلك لأمكن التفكير في حلها بالوسائل التي تحل بها المشكلات، كزراعة الأرض، واستخراج المعادن من الأرض، وإقامة المباني ورصف الطرق، ونقل البضائع إلى الأسواق، وغير ذلك؛ أما أصحاب «القضايا» الكبرى التي يفقدون من أجلها وجودهم الإنساني كله، فهي من ذلك الطراز الذي يصاغ في ألفاظ مجردة لا تعرف لمضموناتها أولا من آخر؛ ولا مفر لهم من هذه المجردات الفارغة؛ لأنهم في العادة حريصون على أن تكون «فكرتهم» الواحدة المقدسة قادرة على تفسير الكون الرحب الفسيح كله دفعة واحدة؛ فهي ذات جوف واسع يتسع لكل ما دب أو هب أو طار من كائنات الأرض والسماء، إن جوفها كجوف «الفرا» الذي قال عنه الشاعر العربي القديم إن كل الصيد فيه، بكل أنواعه وصنوفه.

فكأنما فكرتهم الواحدة هي قاموس المحيط، الذي ما عليك إذا استعصت عليك لفظة أردت معناها، سوى أن تفتح القاموس لتجدها فيه، أو هي كالصيدلية الكبرى التي وضعت فيها صنوف الدواء جميعا لصنوف المرض جميعا، إنهم يرون في فكرتهم الواحدة جوابا عن كل سؤال، وحلا لكل إشكال، وتفسيرا لكل ما غمض واستعجم، وإذا كان ذلك هو أمرها، فلماذا لا يقتلون من أجلها؟ ولماذا لا يضحون بالحرية من أجلها؟ ولماذا لا يسلكون مسالك العنف من أجلها؟ ولماذا لا يفرضون الطغيان من أجلها؟

إن أكبر عيب في عبادة الفكرة الواحدة، هو ما يصابون به من ضيق الخيال؛ فهم يتعلقون بالفكرة في صورتها المجردة، ولو جسدوها في أناس أحياء لأمكنهم رؤية أوجه النقص فيها؛ فلقد أراد أحد القساوسة الذين حكموا على جان دارك بالموت حرقا، أن يشاهد الزنديقة وهي تحترق، فما إن وقعت عينه على ألسنة النار تنهش جسدها، حتى ارتعش رعبا، وأدار وجهه حتى لا يرى ما يراه، فقيل له: لكنك أنت الذي حكمت عليها بهذا المصير، فتمتم قائلا: لم أتصور عندئذ أن تلك هي صورة التنفيذ (أو هكذا روى برنارد شو في مسرحيته «جان دارك»).

وكيف ندهش بعد ذلك إذا عرفنا أنه حيثما ضاقت العقول على فكرة واحدة، ساد الحكم الفردي المستبد؟ إن عبادة الفكرة الواحدة سرعان ما تتحول إلى عبادة الفرد الواحد المسيطر، ثم لا تلبث أن تتبخر في الهواء سيادة القانون؛ لأن السيادة الحقيقية إنما تكون لمن يستطيع، والذي يستطيع في ظل تسلط الفكرة الواحدة على عقول الناس، هو - عادة - الفرد الحاكم.

وما دمت قد بدأت حديثي بذكر الخوارج وعسفهم في قتل من خالفوهم الرأي من المسلمين، فلأختم الحديث بهم كذلك؛ لنرى كيف سهل عليهم الجمع بين النقائض بسبب انحرافهم إلى التطرف؛ فهؤلاء الرجال أنفسهم الذين قتلوا العابد الورع التقي عبد الله بن خباب لمخالفته إياهم في وجهة النظر عن الإمام علي، ما كادوا يفرغون من قتله وقتل زوجته الحبلى معه، وإلقاء جسديهما في الماء، حتى تلفتوا فإذا هناك نخلة يملكها نصراني، وأرادوا شراء ثمارها، فقال لهم الرجل (وكان قد شهد ما فعلوه بابن خباب) إن ثمار نخلتي لكم بغير ثمن؛ فاستنكروا منه أن يظن بهم السوء، فهم لا يأخذون شيئا من صاحبه إلا شراء، فقال لهم الرجل: «وا عجباه! أتقتلون مثل عبد الله بن خباب، ولا تقبلون جني نخلة إلا بثمن؟!»

إن عبيد «الفكرة الواحدة» يغلب أن يعيشوا في عالم تخلقه لهم أوهامهم، وهو عالم يعمرونه ب «القضايا الكبرى» التي تتعلق بالمصير كله للإنسانية كلها، فتمر مشكلات الحياة الجزئية اليومية تحت أنوفهم لا يرونها. إن شاغلهم ليس هنا مع الناس على هذه الأرض، بل هو هناك في طبقات الجو العليا؛ حيث يقاتلون الظلال والأشباح.

آه لو عادت بي الحياة العملية إلى أول يوم بدأتها به؛ إذن لدخلت قاعة الدرس قائلا: موضوع حديثنا اليوم - أيها الطلاب - هو عن وجوب النظر إلى الرأي المعارض، وأولى خطوات السير هي أن نحرر أعناقنا من الفكرة الواحدة حتى لا تطغى، وأن نفك القضايا الذهبية الكبرى إلى قضايا جزئية عملية صغرى، كما تفك الورقة ذات العشرين جنيها إلى جنيهات فرادى وقروش لكي يتاح لنا أن ننزل بها إلى السوق فنشتري خبزا لطعام الغداء.

موقف المتفرج

كثيرا ما تراودني أفكار عن حياتنا التي نحياها في الواقع الفعلي، ثم أتمنى لتلك الأفكار أن تكون خاطئة، برغم أني لا أجد فيها وجها للخطأ؛ ومن تلك الأفكار التي تعاود الظهور في رأسي كلما سنحت لها فرصة للعودة والظهور، فكرة تميل بي إلى الظن بأن مجموعة المثقفين ذوي القدرة الفكرية الإيجابية الخلاقة، يقفون من حياتنا ومشكلاتها الكبرى موقف المتفرج، كأنهم نظارة في مسرح يتابعون التمثيل، فإذا أعجبهم موقف صفقوا له، وإذا لم يعجبهم موقف آخر أمسكوا عن التصفيق، كأنما الأمر لا يعنيهم هم بالدرجة الأولى، لا، بل إن أمرهم أسوأ من ذلك؛ لأنهم قد يصفقون لكل موقف، سواء صادف عندهم القبول أم لم يصادفه، ولذلك يتعذر على الرائي من بعيد أن يفرق بين ما يستحسنونه حقا وما لا يستحسنونه؛ لأن استجابتهم في كلتا الحالتين سواء.

ومن هنا كان الفارق بعيدا بين ما تسمعه في أحاديثهم الخاصة تعليقا على المسائل العامة، وبين ما يعلنونه بالكتابة في الصحف أو بالإذاعة في الراديو والتليفزيون! ولكم سألت نفسي: ماذا في وسع مؤرخ المستقبل إلا أن يرجع إلى المكتوب فيما ننشره من صحف وكتب؟ وعندئذ سيتوهم ذلك المؤرخ أنه إنما وقع على الوثائق المعتمدة الأصلية، إذا أراد أن يستخلص لنفسه صورة عن حياتنا الفكرية، نعم قد يكون هذا التباين بين ما ينشر في الصحف وبين ما تدور به الألسنة في المجالس الخاصة؛ ظاهرة عامة لا يشذ فيها عصر عن عصر، ولا جماعة عن جماعة؛ فللإمام الشيخ محمد عبده مقالة عنوانها «منتدياتنا العامة وأحاديثها» ورد فيها قوله عن الصفوة الممتازة من مثقفي عصره، قوله: «... يوجد بيننا بعض الأذكياء الذين يتحدثون عن المعارف والسياسة، ولكن - فضلا عن كونهم نزرا يسيرا - فإن أعمالهم غير منطبقة على ما يقولون ...» ومن أجل هذا التباين نفسه بين عقائد الناس الحقيقية وبين ما ينشرونه عنها، ترى كثيرين من أعلام النقد يحذروننا من أن نعتمد على فكرة ساقها ناقد أثناء حياة من ينقده؛ لأنك لا تدري ماذا كان بينهما من صداقة أو من عداوة، مما يؤثر حتما في طريقة التفكير كما هو مفروض على الناس (وأذكر أن ت. س. إليوت له مقالة في هذا المعنى) أقول: إن التباين بين اعتقادات الناس الحقيقية عن الأحداث الجارية، وبين ما ينشرونه علانية، قد يكون ظاهرة عامة غير مقصورة علينا نحن في مرحلتنا الفكرية الحاضرة، لكنني أرى الزاوية بين الجانبين عندنا أشد انفراجا منها في فترات زمنية أخرى، وبين أقوام آخرين.

لماذا كان هذا؟ ذلك هو السؤال الذي يحيرني، ما دام الوطن لنا جميعا، وما دام الإخلاص الصادق رائدنا جميعا، فإذا ثبت عن أحدنا أنه إنما يدبر لنا سوءا عن عمد فلنمحقه محقا ليختفي، وأما الكثرة التي تنبض قلوبها حبا لمصر ورجاء لمستقبلها، فلماذا لا يكتبون بمثل ما يتحدثون؟ إنها هي الازدواجية الرهيبة التي نحياها، والتي تشعبت في حياتنا فروعا.

كنا ذات يوم جماعة قليلة العدد نتحدث عن التليفزيون عندنا، ولماذا هو موضع سخط من الناس ؟ وكان بيننا رجل مسئول بحكم منصبه الرفيع، وهو من أشد الرجال إخلاصا وصدقا ونزاهة، بل كان هذا الرجل هو نفسه الذي ألقى علينا السؤال، وأذكر أني أجبته بقولي: إن المبدأ العام الذي تعمل وسائل الإعلام على أساسه، هو ألا يذاع إلا ما نكون فيه بمأمن من وجهة النظر الرسمية؛ ولذلك ترانا نتجنب كل ما من شأنه أن يخالف بصورة مثيرة! وأنت إذا حذفت من كل موضوع مواضع الإثارة فيه، لم يبق لك إلا هامش ضيق مسلم به ومتفق عليه، وبالتالي فهو بارد ماسخ لا يشد الانتباه، ولعل ذلك هو ما أكسب «ندوات الأربعاء» التي انتظم عليها التليفزيون فترة من الزمن، أهميتها ومتعتها؛ فلقد كان تعدد وجهات النظر سمة بارزة فيها؛ ومن ثم أقبل الجمهور على الاستماع.

كان عند رجال الفكر من أسلافنا شيء اسمه «التقية»، ويقصدون بها أن «يتقي» المفكر مزالق الأذى أمام من بيده القوة، فلا بأس - حتى من الوجهة الخلقية - أن يفصح عن شيء ويبطن شيئا آخر ابتغاء النجاة، لكن إذا كانت هذه «التقية» مقبولة في عصور الطغيان المذهبي، فما الذي يبررها بيننا اليوم والرأي الحر مسموح به؟

وهنا ترد إلى ذهني دراسة الفلسفة في جامعاتنا، وما كان يمكن لها أن تؤديه في هذا المجال، ولعل هذه أن تكون مناسبة جيدة أرد فيها على خطابات كثيرة كانت جاءتني على فترات، ولم أجد في نفسي ميلا للرد عليها، خشية أن يجيء الرد غير ملائم في مقالة تنشر في صحيفة يومية، والسؤال الذي وجهه إلي أصحاب تلك الخطابات هو: ما هي الفلسفة، وماذا يتعلم فيها دارسوها؟ وكان السائلون جميعا من أرباب الثقافة العلمية، وها أنا ذا أجيبهم الآن إجابة موجزة، أتوخى فيها الجانب المفيد، فأقول إن الفكر الفلسفي في كل عصوره، وعند الأمم كافة ممن أسهموا في مثل ذلك الفكر، هو تحليل للركائز الأساسية في ثقافة العصر المعين الذي يعيش الفيلسوف بين ظهرانيه، فإذا كانت الثقافة السائدة دينية الطابع، جاءت تحليلات الفلاسفة وعليها مسحة دينية؛ لأن الموضوعات التي يتناولونها بالتحليل مأخوذة من المجال الديني، وكذلك إذا كانت الثقافة السائدة يغلب عليها طابع العلم، دارت التحليلات الفلسفية بدورها حول الأفكار الرئيسية في مجال العلوم، أو كانت الثقافة السائدة تغلب عليها المذاهب السياسية جاءت الفلسفة لتدور باهتمامها في ميدان الفكر السياسي، وهكذا.

وتاريخ الفلسفة هو تلك التحليلات التي تنوعت موضوعاتها بتنوع الثقافات السائدة في العصور المتتالية، وهذا هو ما يدرسه دارس الفلسفة أساسا؛ فهو يدرس ماذا قال فلان عن المشكلة الفلانية في العصر القديم، وماذا قال علان عن مشكلة أخرى في العصر الوسيط أو الحديث؛ لأن مجموع هذه الأقوال - بعد تنسيقها ووضعها في تسلسل مترابط الحلقات - هو في الحقيقة تاريخ الفكر البشري وهو في أعلى ذراه، ولنلحظ جيدا أن هؤلاء المفكرين الفحول لم يخلقوا المشكلات التي يفسرونها ويحللونها ويقيمون عليها بناءات فكرية متسقة مترابطة، أقول إنهم لم يخلقوا مشكلاتهم من الوهم أو من العدم، بل إنهم ينتزعونها انتزاعا من المناخ الفكري كما يحيا فيه الناس ويتنفسونه هواء في نشاطهم اليومي.

وبعد هذا الشرح الموجز السريع، أقول إن الدراسة الفلسفية في جامعاتنا، كان يمكن أن تكون أغنى مصدر يخرج لنا الفئة التي تستخلص من حياتنا الثقافية دفائنها لتعريها بالتحليل النقدي إلى أن تصبح هياكلها واضحة أمام الناس، لكن أقسام الفلسفة في جامعاتنا أبعد ما تكون عن هذا التدريب لطلابها، فيخرج الطالب وهو على شيء من المعرفة المفككة الغامضة عما قيل في عصور مختلفة عن مشكلات مختلفة، قد تشبه مشكلاتنا وقد لا تشبهها، نعم إن دراسة ذلك التاريخ الفكري هو أوجب الواجبات على دارس الفلسفة، لكن الفائدة تتم لو أننا جعلناه في الوقت نفسه ميدانا للتدريب على طريقة التحليل الثقافي تحليلا كاشفا ومضيئا.

وإذن فهذا مثل آخر نسوقه للطريقة التي يقف بها المثقفون منا موقف المتفرج، وكأن مشكلاتنا الفكرية الحية أمر لا يعنيهم؟ فإذا سألت أستاذ الفلسفة - مثلا - ماذا تكون علاقة العقل العلمي المنطقي بالإيمان الديني أو بالتذوق الفني؟ أجابك في قدرة عما قاله في ذلك أرسطو قديما وابن سينا وسيطا وكانط حديثا وبرتراند رسل معاصرا، لكنه لا يعتقد أن من شأنه أن يجيب عن السؤال فيما يختص بالموقف الراهن في حياتنا، مع أن لكل موقف خصائصه التي ينفرد بها، وإلا لما اختلف قديم عن حديث.

إن الحياة الأكاديمية الصرف، التي تتشرنق داخل أسوار الجامعة، حياة قد تخرج لنا «الباحث العلمي»، لكنها لا تخرج لنا «المفكر» الذي يبث النشاط الحيوي في معالجة ما يعترضنا من مسائل تحتاج إلى التنوير والتفسير والهداية، وقد يكون ما يصرف «الباحثين» عن الخوض في مشكلات الحياة الفكرية الجارية، هو مبدأ «التقية» الذي ورثناه عن أسلافنا؛ فمن لا «يفكر» لا يخطئ، وبالتالي فهو في مأمن من سخط الساخطين، ولك أن تستعرض تاريخنا الثقافي الحديث، لترى كيف يتعرض من يحاول التفكير للقذف بأشنع التهم، ويحضرني الآن اسم كتاب كان له صدى عند صدوره، وكان لمؤلفه شيء من الذيوع، وكان محور المؤلف في كتابه أن يصف رجالا من أمثال علي عبد الرازق وطه حسين بأنهم عملاء للاستعمار؛ الأول بكتابه: الإسلام وأصول الحكم، والثاني بكتابه: مستقبل الثقافة في مصر. وكان لي الشرف بأن سلكني المؤلف في تلك الزمرة الكريمة، بكتابي: خرافة الميتافزيقا. إنه لم يذكر أسماء الرجال، واكتفى بذكر أسماء الكتب، والذي عرض هؤلاء لتهمة العمال للمستعمر هو أنهم جاوزوا الجدران الأكاديمية ليخوضوا في الحياة الفكرية العامة؛ ومن هنا جاءت الرغبة عند مثقفينا القادرين بأن يكتفوا بموقف المتفرج؛ لأنه أضمن للسلامة والعافية.

الرأي الحر أمر عسير بمقدار ما هو أمر خطير؛ لأنه رأي يستتبع مسئولية قائله أمام ربه وأمام ضميره وأمام الناس؛ ولأنه رأي لا يجيء بالضرورة مسايرا للرأي المألوف، ولذلك فإن كان الناس قد ولدتهم أمهاتهم أحرارا - كما قيل - فكذلك قد ولدتهم أمهاتهم يخافون الحرية وتبعاتها (واقرأ في خوف الإنسان من الحرية كتابا من تأليف أريك فروم، وترجمه إلى العربية مجاهد عبد المنعم مجاهد)؛ ومن هذا الخوف من الحرية وعبئها الثقيل كثيرا ما يميل الناس إلى إلقاء مهمة الرأي إلى رجل أو إلى هيئة يختارونه أو يختارونها لتحمل عنهم أعباء القرار.

ويحدث هذا التواكل الذهني أكثر ما يحدث عندما تدل الخبرة على أن للفكر الحر عواقبه وعقابه، وعندئذ يؤثر المثقفون لأنفسهم موقف المتفرج، فإذا دفعوا دفعا إلى المشاركة وقعوا في الازدواجية التي أشرت إليها، وهي أن يكتبوا في العلانية شيئا وأن يتحدثوا في مجالسهم الخاصة بشيء آخر، وخذ هذا المثل القريب: أن السيد الرئيس محمد أنور السادات لم يترك فرصة إلا انتهزها ليؤكد للناس أمانهم من عواقب الحرية في الفكر والتعبير عنه، ومع ذلك لم نسمع من كان يجب أن يكون لهم الرأي في حياتنا - وأعني رجال الجامعات - لم نسمع منهم شيئا يقترحون به تغييرا أو تحويرا في الأفكار السائدة، حتى إذا ما أعلن السيد الرئيس عن رأيه في أن تكون اشتراكيتنا اشتراكية ديمقراطية، عندئذ نهض رجال الجامعات بالكتابة في شرح الفكرة وتأييدها، فإذا كان هذا هو موقفهم فلماذا كتموه في صدورهم ووقفوا متفرجين؟

لقد وهبنا الله رجالا أفذاذا بقدراتهم الفطرية ودراستهم، فعلونا بهم عن آخرين كثيرين، لكن هبة الله لنا لا تؤتي كل ثمارها إلا إذا أقلع هؤلاء الأفذاذ عن الوقوف من قضايانا الحيوية موقف المتفرج.

حقيقة الجمال ما هي؟

1

ما أيسر على الإنسان أن يقف أمام الشيء فيقول: الله، ما أجمله! يقول ذلك عن السماء لمعت أنجمها في الليلة الظلماء، ويقوله عن البحر اصطخب فيه الماء أو سكن، وعن الشمس مشرقة وغاربة، وعن الجبل والزهر. ثم يقوله عن فاتنات النساء، وعن روائع الأدب وبدائع الفن، وعن ألوف الألوف من مخلوقات الله، وعن مصنوعات الإنسان، نعم ما أيسر على الإنسان أن يقول عن هذه الأشياء كلها إنها «جميلة»، تروعه بفتنتها!

حتى إذا ما عن له - كما يعن للفلاسفة عادة - أن يسأل نفسه ماذا يكون في الشيء عندما يكون الشيء جميلا؟ فعندئذ تراه في حيرة لا يدري من حقيقة الأمر شيئا، إلا أن يطيل الوقوف ويطيل التحليل. فما هو باليسير عليه ولا على الفلاسفة أنفسهم، أن يقع أو يقعوا على الصفة التي لا بد من توافرها في هذه الألوف من مختلف الأشياء التي يقال إنها «جميلة»، إذا ما دمنا نطلق هذه الكلمة الواحدة لتصف هذه الأشياء كلها بالجمال، فلا بد أن يقابل تلك الكلمة الواحدة جانب واحد مشترك يدخل في طبيعة كل ما هو جميل: السماء، والبحر، والشمس، والجبل، والزهر، والغادة الفاتنة، ولوحة المصور، وقصيدة الشاعر! فماذا عسى أن يكون هذا الجانب الواحد المشترك بين أمثال هذه المختلفات؟

لعل أفلاطون أن يكون في مقدمة الفلاسفة الذين طرحوا هذا السؤال على أنفسهم ليحاولوا عنه الجواب المحكم الدقيق. طرحه أفلاطون في مواضع كثيرة من محاوراته، لكنه اختص به محاورة بأكملها، هي محاورة «هبياس الكبير»: بدأ سائلا بقوله إن الأشياء الجميلة إنما توصف بالجمال لشيء فيها، فما هو؟ ثم مضى الحوار على الطريقة الأفلاطونية المعروفة، فيجيب مجيب عن السؤال المطروح، لكن إجابته سرعان ما يتبين فيها شيء من عدم الدقة، ويظل المتحاورون يدخلون على العبارة تعديلا في أثر تعديل حتى يستقيم الأمر ويتضح.

وكان أول ما لفت أنظار المتحاورين في هذه الحالة، هو ضرورة أن تكون هنالك حقيقة «واحدة» هي التي نراها متمثلة في هذه الأمثلة الكثيرة من الأشياء «الجميلة». فمهما تعددت هذه الأشياء، فهي جميعا تشارك في فكرة واحدة، أو في صفة واحدة. كأفراد الأسرة ينتمون جميعا - على اختلاف أفرادهم - إلى أم واحدة؛ فالفرس الجميلة، والقيثارة الجميلة، والإنسان الجميل (وهذه هي الأمثلة نفسها التي ساقها أفلاطون في محاورته المذكورة) كلها - على بعد ما بينها من اختلاف - تنتمي إلى أسرة واحدة هي أسرة «الجمال»، فهل يكون ذلك إلا أن تكون هذه الأشياء كلها مجسدة لفكرة واحدة وإن اختلفت المادة المجسدة في كل حالة؟

ولكن هل يكون معنى ذلك أن هذه الأشياء الجميلة كلها على درجة سواء من الجمال ما دامت كلها تجسد فكرة بعينها؟ كلا؛ فنظرة سريعة تكفي للدلالة على أن الجمال فيها درجات تتفاوت بتفاوتها في قسطها من الحقيقة التي تجسدها. فما من شك في أن الفتاة الجميلة والفرس الجميلة لا تقاس إليهما القيثارة والإناء في جمالها. وها هنا يستشهد سقراط (في المحاورة) برأي ينسب إلى هرقليطس، وهو أن أجمل القردة قبيح إذا قورن بالإنسان. فيستطرد هبياس قائلا: وكذلك أجمل الأواني قبيح إذا قورن بفتاة جميلة. ثم هكذا يقال في أجمل الفتيات إذا قورنت بالإلهات.

ترى ما هو ذلك الشيء الذي تسهم فيه الأشياء الجميلة بأنصبة متفاوتة؟

أيكون مرد الأمر إلى نفاسة المادة التي هي قوام الشيء الجميل، وعندئذ يكون ما صنع من ذهب «أجمل» مما صنع من نحاس أو من خشب أو من حجر؟ كلا؛ فنظرة سريعة أخرى تبين أن حجر التمثال قد يكون أجمل من أي شيء آخر صنع من الذهب، وها هو ذا فدياس يصنع تمثالا رائعا لأثيني، فيقد العينين من الحجر، وكان في مستطاعه أن يصوغهما عاجا، فهل يقال: إنه لو صاغهما من العاج لكانتا أجمل منهما وهما من الحجر؟

لا، إن نفاسة المادة لا شأن لها بجمال الشيء المصنوع منها، وإذن ننتقل إلى فرض آخر، أفيكون مرجع الجمال إلى ملاءمة المادة لما أريد منها أن تؤديه، وبهذا تكون كل مادة جميلة إذا ما وضعت في موضعها الصحيح؛ فالذهب جميل في موضعه الملائم، كما أن الحجر جميل في موضعه الملائم، وهكذا؟ إنه لو كان الأمر كذلك وكفى، لكان جمال الشيء ليس نابعا من طبيعته، بل كان جماله مرهونا بما ليس منه، كما نكسو الرجل الدميم بثياب جميلة، ثم نقول ها هو ذا قد أصبح رجلا جميلا، ما دام محوطا بمحيط جميل! إن إجابتنا عن حقيقة الجمال لا تكمل إلا إذا كان الجميل جميلا مخبرا ومظهرا في آن معا.

لكننا نعود إلى فكرة ملاءمة الشيء للعمل الذي أريد له أن يؤديه، فنقف وقفة قصيرة حيالها، لنسأل: أيكون جمال الشيء كائنا في نفعه، وعندئذ يكون الجميل هو النافع والنافع هو الجميل؟ ألا إنها لفكرة تستحق النظر؛ لأن الأمثلة على صوابها كثيرة؛ فالعين الجميلة لا تكون عمياء؛ أي إنه إذا ما عجزت العين عن أداء ما جاءت لتؤديه استحال عليها في الوقت نفسه أن توصف بالجمال. وكذلك قل إن الجسم الجميل هو الجسم الخفيف الحركة القوي القادر. وكذلك قل أيضا في عالم الحيوان: إذ ماذا يكون الحصان الجميل إلا أن يكون هو الحصان الذي توافرت فيه الصفات المطلوبة من سرعة وقوة. وقل هذا نفسه في الأشياء بعد أن قلناه عن الإنسان والحيوان؛ فالعربات والسفن وآلات العزف وغيرها لا توصف بالجمال إلا لحسن أدائها لوظائفها، بل قل هذا نفسه عن النظم وطرائق العيش، كالنظم السياسية ونظم التعليم وأوضاع الحياة العملية من تجارة وصناعة وزراعة وغيرها، تجد كل شيء «جميلا» إذا هو أدى إلى الغاية منه خير أداء، ولو صح هذا كله لصح أن نقول إن جمال الشيء هو نفعه وملاءمته لوظيفته؛ فالقدرة جمال والعجز قبح، والمعرفة جمال والجهل قبح، والقوة جمال والضعف قبح، والصحة جمال والمرض قبح.

لكن المتحاورين في محاورات أفلاطون سرعان ما يتنبهون إلى أن الأداء مجرد الأداء لا يكفي؛ إذ قد يؤدي الشيء سوءا وشرا، أفنقول عندئذ إنه جميل؟ كلا، فلا بد أن يضاف شرط هام، وهو أن يكون الشيء قادرا على أداء ما هو خير لكي يستحق أن يوصف بالجمال. غير أننا ها هنا بإزاء طرفين، هما: الشيء الذي هو أداة، ثم الفعل الذي يؤدي؛ أي إننا بإزاء علة ومعلول، فهل نطلق كلمة الجمال على الطرفين معا وفي وقت واحد؟ إننا لو فعلنا أوقعنا في خلط فكري يدمج جانبين مختلفين في شيء واحد، وإذن فلا بد أن نبقي من الطرفين على أحدهما دون الآخر، ولا مندوحة لنا أن نبقي على الغاية لا على وسيلتها، والغاية هي - كما قلنا - الخير المرتجى لبلوغه عن طريق تلك الوسيلة، وإذن فالخير في ذاته هو نفسه الجمال.

على أن هذه النتيجة قد بدت للمتحاورين كأنما هي تتجاهل عنصرا هاما في الأشياء «الجميلة»، وهو المتعة الحسية التي يستمتع بها من يرى الجميل أو يسمعه أو يلمسه أو يتصل به بأية حاسة أخرى غير البصر والسمع واللمس؛ فما من شك في أن التذاذ حاسة معينة في كل حالة من حالات الجمال هو جانب من الموقف لا يجوز تجاهله وإهماله عندما نبحث عن طبيعة الجمال، وإلا فهل يجوز أن أتجاهل استمتاع الأذن ب «الصوت» في الموسيقى، والعين ب «اللون» في التصوير؟ هل يجوز أن أغض النظر عن متعة «الحواس» بالتمثال الجميل وبالشعر المنظوم وبالقصص يروى فيفتن؟ أقول إن المتحاورين في حقيقة الجمال كان لا بد لهم أن يتنبهوا إلى هذه المتعة الحسية فيفسروها على ضوء النتيجة التي انتهوا إليها، وهي أن الجمال هو نفسه الخير.

فكان لا بد لهم بادئ ذي بدء أن يفرقوا بين لذاذات الحواس المختلفة؛ لأن لذة الطعام والشراب والجنس لا تجعل من هذه الأشياء أشياء «جميلة»؛ ولأن الحاستين الوحيدتين اللتين لا تتعارض اللذة فيهما مع الجمال، هما حاستا البصر والسمع؛ فبالبصر نشهد المناظر الجميلة في الطبيعة وفي الفن على السواء، وبالسمع نسمع الأصوات الجميلة في الطبيعة وفي الفن على السواء كذلك.

ولكن هل يكون المرئي جميلا لأنه مرئي بالعين، والمسموع جميلا لأنه مسموع بالأذن؟ إننا لو أجبنا بالإيجاب لكنا بمثابة من غض النظر عن أهم مشكلة في الموضوع كله ألا وهي: ما هو الجانب «المشترك» بين المرئي والمسموع، الذي جعلهما معا يندرجان في مجموعة واحدة يطلق عليها اسم واحد، هو اسم «الجمال»؟ إنه لا مفر من الاعتراف بأن مصدر الجمال «المشترك» بين البصر والسمع، لا بد أن يكون شيئا غير البصر والسمع؛ شيئا وراءهما يتخذ من البصر وسيلة كما يتخذ من السمع وسيلة، وذلك الشيء لا يكون إلا «الخير»، أو إن شئت كلمة أدنى إلى أفهامنا اليوم فقل هو «النفع» أو «الصلاحية» أو الزيادة من لياقة الإنسان للقيام بوظائفه الحيوية بحيث يصبح إنسانا أكمل.

وبهذا يتحدد معنى الجمال بالمزاوجة بين المتعة والفائدة، فلا الذي يمتع بغير فائدة ذو جمال، ولا الذي يفيد بغير متعة بذي جمال، بل لا بد من اجتماع الجانبين معا، على أن يفهم من «الفائدة» معنى «الخير» بكل ما تدل عليه هذه الكلمة من سمو وكمال.

هذا هو رأي شيخ الفلاسفة - أفلاطون - في حقيقة الجمال، كما ورد في محاورته «هبياس الكبير »، وإني لأوثر ألا أقف بك عند حد الفكرة وسردها، فذلك إن أفاد من الناحية العقلية الصرف، فجدواه قليلة من ناحية الذوق الفني وغرسه وتدريبه، فكيف تستخدم هذه الفكرة الأفلاطونية في تقويمك لمظاهر الجمال على اختلافها؟

إنك - فيما أرى - لتحسن صنعا، وأنت بإزاء شيء جميل - في الطبيعة أو في الفنون - إذا أنت ارتفعت في موقفك عندئذ درجة في إثر درجة، فتبدأ أول الأمر بإمتاع الحاسة المعنية بالجانب الحسي الظاهر من ذلك الشيء الجميل، فإن كان منظرا - في الطبيعة أو في الفن - فاملأ بصرك بادئ ذي بدء بأطياف اللون كما تقع على حاسة البصر، ولا تتعجل هذه الخطوة لأنها أساسية وهامة، حاول أن تمعن النظر في شتى درجات اللون، وستجدها تعد في المنظر الواحد بالمئات، ولا أقول بالعشرات أو بالآحاد، ثم حاول أن تدرك ما بين تلك الدرجات اللونية من تشابك وامتزاج، حتى إذا ما أمتعت حاسة البصر بما أنت حياله من بناء لوني، أخذت بعد ذلك تنظر - بعين العقل هذه المرة لا بعين الجسد - تنظر إلى ما قد يؤدي إليه هذا المنظر الذي أمامك من فكرة وراءه؛ فأنت عندئذ لم تعد تنظر إلى الجزئية الواحدة التي أمامك على أنها غاية في ذاتها، تقف عندها ولا تنفذ خلالها، بل تنظر إليها على أنها أحد الأمثلة الكثيرة التي جاءت لتجسد فكرة بعينها؛ فليست هي بذات قيمة جمالية إلا إذا أوصلتني بواسطة التأمل العقلي إلى مستوى أعلى من مستواها؛ أي إلى المستوى المعقول الذي هو أعلى درجة من مستواها المحسوس، ولو استطعت هذا الصعود في مدارج الإدراك عن طريقها، ازددت لها تقديرا بقدر ما تمكنني من أن أجاوزها ولا أقف عندها مكتفيا بها.

وإلى هنا تكون قد نظرت إلى المنظر على بعدين: البعد الحسي، والبعد العقلي.

ثم ماذا؟

ثم تحاول بعد ذلك أن تنظر إلى الفكرة العقلية التي وصلت إليها، لا على أنها نهاية الطريق، بل على أنها بدورها مرحلة وسطى، أتخطاها إلى ما هو أعم منها في مدارج الأفكار، ثم إلى ما هو أعم، وهكذا دواليك حتى تبلغ القمة العليا في الصعود، وما تلك القمة العليا - عند أفلاطون - إلا الخير؛ لأنه إذا كان العالم كله مستهدفا في سيره هدفا، فإنه إنما يستهدف ما فيه كماله بعد نقص، وهذا الكمال المنشود هو الخير في لغة أفلاطون. وتستطيع أن تقول عنه إنه هو الله إذا أردت لغة أخرى أقرب إلى الفهم. فتأمل الجمال الذي يبدأ - كما رأيت - من مشهد مرئي بالعين، ينتهي بالمتأمل إلى حالة من الشهود الصوفي، الذي شأنه أن يرفع الإنسان إلى أعلى درجات الكمال.

وأضرب لك مثلا تطبيقيا آخر بشيء «مسموع» بعد أن ضربت لك مثلا بشيء «مرئي». فافرض أن الشيء الجميل الذي أنت بإزائه هو قصيدة من الشعر - ولتكن قصيدة أبي العلاء:

غير مجد في ملتي واعتقادي

نوح باك ولا ترنم شاد ... إلخ - كيف أتذوقها مستعينا بالرأي الأفلاطوني الذي بسطته لك عن حقيقة الجمال؟

تبدأ بالمركب الصوتي الذي تتلقاه الأذن من تلاوة القصيدة بصوت مسموع، ومرة أخرى أوصيك ألا تتعجل هذه المرحلة من مراحل الطريق؛ لأنها أساسية وهامة. فانصت إلى كل نبرة صوتية تأتيك من كل حرف منطوق، حتى تملأ سمعك بالبناء الصوتي كله كيف تتشابك نبراته على تأليف مركب موسيقي واحد. حتى إذا ما فرغت من هذه المرحلة الحسية، كنت بمثابة من جاوز عتبة الدار، لا ليقف عندها، بل ليوغل صاعدا في طبقاتها العليا. فها هنا تصعد من مستوى «المحسوس» إلى مستوى «المعقول»؛ أعني أن تحاول إدراك الفكرة التي جاءت هذه القصيدة لتجسدها، فكأنما هذه القصيدة أداة من أدوات كثيرة غيرها، مهمتها أن توصلنا إلى إدراك فكرة بعينها.

وأحسب أن الفكرة التي نصل إليها وراء السطح الصوتي في هذه القصيدة، هي حيادية الحقيقة الكونية الكبرى حيال عواطف الإنسان على اختلافها؛ فبكاء الباكي وترنيم الشادي كلاهما عند الحقيقة الكونية - وإن شئت فقل عند العلم الطبيعي - موجات من الصوت تقاس أطوالها وترسم مساراتها وتحسب سرعاتها وهكذا، وأما أن يكون بعضها مبطنا بحزن وبعضها الآخر مبطنا بسرور؛ فذلك شيء يرد في حياة الإنسان الخاصة، ولا يرد في الحقيقة الكونية الموضوعية الخارجية التي في خضمها تنطمس معالم الأفراد، وأن القصيدة لتؤكد هذه الفكرة في صور متلاحقة؛ فصوت النعي وصوت البشير كلاهما «صوت» لا أكثر ولا أقل، وهديل الحمامة على غصنها «صوت» كذلك، ربما سمعته أنت فخلعت عليه من عندك بطانة عاطفية فتقول إنه بكاء أو إنه غناء، وأما عند الحقيقة الكونية فلا هو هذا ولا ذاك، ولكنه «صوت» وكفى، والصوت من ظواهر الطبيعة التي يضبط العلم قوانينها.

وصلنا إذن إلى مستوى «فكري» بعد المستوى «الحسي» في قراءتنا لقصيدة أبي العلاء.

ثم ماذا؟

ثم نمضي في الطريق نفسها، فلا نترك الفكرة التي بلغناها متوحدة معزولة كأنما هي صخرة في فلاة، بل ننظر في صلاتها بغيرها من الأفكار، صاعدين من تخصيص إلى تعميم، حتى نبلغ آخر الشوط، وهو دائما - عند أفلاطون - حالة الكمال التي يسعى إليها الكون بكل ما فيه من متناقضات ظاهرة ومن جزئيات ماضية عابرة.

إننا بهذا الصعود من المستوى الحسي أولا، إلى المستوى العقلي ثانيا، ثم إلى المستوى الخلقي ثالثا، نكون قد اعتصرنا كل ما نستطيع أن نعتصره من جمال في الشيء الجليل الذي ننظر إليه نظرة متذوقة عميقة، نهتدي فيها بالفكرة الأفلاطونية عن حقيقة الجمال.

وإني لأعلم أنني بمحاولة التطبيق ربما أكون قد بعدت قليلا أو كثيرا عن الفلسفة الأفلاطونية بمعناها الذي يعرفه الدارسون في قاعات الجامعات، لكن شفيعي في ذلك هو أن أزيد من القدرة على «تذوق» الجمال عند القارئ، إلى جانب الزيادة من حصيلته «العلمية» المجردة.

2

لئن كان أفلاطون قد رد الجمال إلى الخير، بمعنى أن الجميل هو النافع، والنفع ينبغي أن يكون نفعا في سبيل الخير، أقول إن كان أفلاطون قد ربط بين جمال الشيء ونفعه بهذا المعنى، فها هو ذا شامخ آخر من شوامخ الفلسفة - عمانوئيل كنط (1724-1804م) - يقف من أمر الجمال موقفا مضادا، بحيث يجعله منزها عن كل رغبة في نفع كائنا ما كان هذا النفع. وخلاصة الرأي عنده هي أن الجميل جميل في ذاته وبذاته، لا يستند في جماله إلا إلى طريقة تكوينه. لكن خلاصة الرأي شيء، والسبيل إليها شيء آخر، لا سيما عند فيلسوف عرف بعمق التحليل وصعوبته إلا على المختصين الذين ألفوا أن يقرءوه ويفهموه.

والكتاب الذي يبسط فيه «كنط» فلسفته الجمالية، هو كتاب «نقد الحكم» وفيه يقول: إن الحكم الذوقي حاسي لا منطقي؛ أي إنه ليس جزءا من المعرفة العقلية التي تساق عليها الحجج والبراهين، بحيث تتسلسل النتائج من مقدماتها؛ ذلك أن المعرفة العقلية قوامها تصورات تتصل بما هو واقع بالفعل في الحقيقة الخارجية من كائنات وأشياء، وأما إذا كانت أفكارنا لا صلة لها إلا بمشاعرنا نحن من لذة أو ألم، فعندئذ لا يكون ثم تقابل بين مضمون الفكرة من جهة، وحقيقة الشيء الخارجي من جهة أخرى.

وإذا ما كان ثمة رابط يربط ما بين الفكرة التي في رءوسنا وبين الشيء المقابل لها في العالم الواقعي، فعندئذ يكون للإنسان في تلك الفكرة صالح يقضيه إذا أراد، كالذي بيده المفتاح يفتح به الخزانة إذا شاء. أما حين نتأمل بالفكر شيئا جميلا، حين نتأمل بالفكر قطعة موسيقية أو صورة فنية، أو قصيدة من الشعر، أو منظرا من مناظر الطبيعة الحية أو الجامدة، فإننا عندئذ - لكي يجيء حكمنا حكما ذوقيا خالصا - نغض النظر غضا تاما عما إذا كانت الفكرة التي نتأملها فكرة يستفاد بها على أي وجه من الوجوه، بل إننا لنغض النظر عما إذا كانت الفكرة التي نتأملها ذات مقابل خارجي على الإطلاق؛ إذ إننا بعد أن نستخلص من الشيء الجميل فكرة عن تكوينه نضعها موضع التأمل، لا نعود بعد ذلك نهتم لوجود ذلك الشيء أو لعدم وجوده، ويصبح الأمر أمر كيان وتكوين، ننظر فيه لذاته، كي نرى كيف تشابكت فيه العناصر الكثيرة تشابكا جعل منه كائنا واحدا.

وليس جمال الشيء كائنا في إشاعته السرور في أنفسنا، ولا هو كائن في تحقيقه لما ينفعنا في حياتنا العملية؛ لأن السرور والنفع مشوبان بالرغبة والميل، على حين أن الجميل جميل لطريقة بنائه وتكوينه، سواء أفدنا منه أم لم نفد، بل ليس جمال الشيء كائنا في خيريته؛ لأننا حين نحكم على شيء ما بأنه «خير» فإن ذلك يقتضي أن يكون لدي معيار للمثل الأعلى كيف ينبغي أن يكون، ثم أقيس الشيء الماثل أمامي إلى ذلك المعيار المثالي لأرى مدى التطابق بينهما، على حين أن حكمنا على الشيء المعين بأنه جميل، لا يقتضينا أن نعلم شيئا خارجا عن ذاته، بل لا يقتضينا أن نعلم من أي مادة صنع، ولا أن نعلم ماذا تكون ماهيته وطبيعته؛ إذ يكفينا أن ندرك فيه إطار تكوينه الذي على ركائزه أقيم، والذي ربط الروابط بين أطرافه ربطا خلق من كثرته وحدة واحدة، وإن شئت فانظر إلى زهرة «جميلة»، أو إلى زخرف عربي «جميل» في سجادة، أو على سقف أو جدار، فهل تراك تستند في الحكم عليه بالجمال إلى فكرة عقلية أو إلى مبدأ نظري؟ هل ترى الزهرة أو الزخرف «يعني» شيئا سوى نفسه؟ وهكذا يكون الموقف الذوقي دائما.

لكن وجه المفارقة هنا هو أننا على الرغم من إقامتنا أحكام الذوق على النظرة الذاتية الخاصة التي لا يقام على صدقها برهان منطقي عقلي علمي، إلا أننا إذا ما حكمنا على شيء بأنه جميل، توقعنا من كل إنسان في الدنيا أن يحكم عليه كذلك بالجمال، وتوقعنا أن يكون كل إنسان - مثلنا - منزها في حكمه ذاك عن مصلحته الخاصة، كأنما جمال الشيء صفة موضوعية كائنة في الجانب الذاتي في الأحكام الذوقية، وفي الوقت نفسه نجعل تلك الأحكام الذوقية، ممكنة النقل من إنسان إلى إنسان، وموضع اتفاق بين الناس أجمعين.

ألا وهو أن نفرض بأن إدراكنا للجمال مرهون بإدراكنا للعلاقة المتبادلة بين قدراتنا الفكرية وبين الأفكار التي نكونها بوساطة تلك القدرات، ولكن دون أن يكون هناك أفكار بعينها. أعني أن إدراكنا للجمال هو إدراك لنوع الفاعلية الفكرية التي تنشط بها أثناء اكتسابنا للمعرفة، دون أن نربط تلك الفاعلية بمعرفة معينة؛ لأننا لو ربطناها بمعرفة شيء معين، كان ذلك أدخل في باب العلم والمنطق والعقل، منه في باب الذوق والفن والجمال. فكأننا نحن في إدراكنا للجمال ندرك فاعلية خالصة بغير فعل، ندرك علاقات بغير متعلقات، ندرك إطارا بغير مضمون، ندرك قالبا بغير ملء أو فحوى، أو قل إننا ندرك نشاطا عرفانيا بغير شيء معروف معين.

فما علينا - إذا أردنا أن نحدد نوع هذه الفاعلية التي ندركها عندما نتأمل الجمال في الشيء الجميل - ما علينا إلا أن نسأل أنفسنا: كيف يعرف الإنسان ما يعرفه من أشياء العالم المحيط به؟ كيف أعرف أن أمامي «كتابا» وأن في يدي «قلما»؟ الجواب عند كنط هو - في إيجاز شديد - أن الحواس تتلقى خلية متزاحمة مضطربة مهوشة من معطيات تبعث بها الأشياء الخارجية إلى الحواس، كل حاسة في دائرة اختصاصها؛ فأضواء تطرق العين وأصوات تخبط الأذن، ولمسات تمس سطح الجلد، وطعوم على اللسان، وروائح في الأنف، يأتي هذا الزحام المتدفق إلى أعضاء الحس. ولكن ما كل طارق للأبواب يسمح له بالدخول؛ فها هنا يقف الحراس من داخل، لينتقوا ما يراد ويرفضوا ما لا يراد.

ثم ماذا؟

ثم هنالك نشاط ذهني يتولى الإحساسات التي سمح لها بالقبول، يتولاها ليصبها في قالب واحد فيوحدها شيئا واحدا، وإلا فسيظل خليط الإحساسات خلية مهوشة في الداخل كما جاءت مضطربة مهوشة من الخارج.

فهذا القلم الذي في يدي، إنما يجيء إلي منه لمعات من الضوء - هي ما فيه من ألوان - كما يجيء إلي منه لمسات من الصلابة بين أصابعي. ولمعات الضوء قد جاءتني عن طريق غير الطريق التي قد سلكتها لمسات الصلابة؛ فهل يا ترى تظل هذه اللمسات وتلك اللمعات مستقلة إحداها عن الأخرى داخل رأسي كما قد وردت إلي مستقلة إحداها عن الأخرى؟ كلا؛ لأنها لو فعلت ذلك لما نشأ عندي تصور للقلم على أنه كائن واحد موحد العناصر، فلا بد للفاعلية الذهنية من القيام بهذا التوحيد.

حاول بعد ذلك أن تسقط «القلم» من حسابك في هذا الوصف الذي أسلفنا، وحاول أن ترى الفاعلية الموحدة الرابطة بغير الشيء المعين الذي ينصب عليه الربط والتوحيد، يكن لك صورة مجردة، هي نفسها الصورة المجردة التي ألتمسها عند إدراكي للشيء الجميل، فإن وجدتها، جاز لي أن أحكم على الشيء بالجمال، وإن لم أجدها كان الشيء خلوا من الجمال.

ولما كانت هذه الفاعلية الإدراكية مشتركة بين الناس جميعا، كان من حقي أن أتوقع لكل الناس أن يروا ما أراه من جمال في الشيء الجميل، إذا هم تأملوه بمثل ما أتأمله. إنني إذ أتأمل قوام الشيء فإنما أتأمل فاعلية «الخيال» وهو يصب العناصر الكثيرة في كيان واحد، كما أتأمل كذلك فاعلية «الفهم» وهو يدرج ذلك الكيان الواحد تحت مقولات الذهن. والخيال والفهم هما الفاعليتان اللتان بهما «نعرف» ما نعرفه، وهما مشتركان بين الناس جميعا. فإذا ما جردناهما ونظرنا إليهما وكأنهما في خلاء بعيدين عن ميدان النشاط المعرفي، كان لنا بذلك الجانب الذي نصب عليه أحكامنا الذوقية، التي هي ذاتية وعامة في آن معا.

إنني أنظر - مثلا - إلى لوحة معلقة على جدار غرفتي، فأحس سرورا لرؤيتها. ولكن إلى هنا لا جمال؛ لأنه لم يصدر بعد حكم ذوقي عليها. ثم أتعقب النشاط الذهني الذي يتلو هذا النظر، وأتأمل فاعليتي، فأدرك فيها توحيدا وخلقا وصياغة، فتأخذني النشوة الجمالية بمعناها الصحيح، ويحق لي عندئذ أن أصدر حكما ذوقيا على اللوحة فأقول إنها لوحة جميلة، متوقعا من سائر الناس أن يلتقوا معي في حكم واحد عليها.

ومؤدى هذه الفلسفة الجمالية هو أن نبحث في الجميل عن بنية التكوين إذا كان متحيزا في مكان، كالصورة أو التمثال أو العمارة، وعن إطار التفاعلات إذا كان مما يمتد على فترة من زمان، كالتمثيل والرقص والموسيقى والشعر، والمهم في كلتا الحالين أن نجد خطة موحدة الأجزاء متآلفة العناصر، فيكون ذلك التوحد وهذا التآلف هو في نهاية المطاف موضوع الحكم الذوقي.

فمحور الأحكام الذوقية في دنيا الجمال، هو الشكل لا الموضوع، والبناء لا المعنى، وانسجام المقامات الكثيرة في وحدة متماسكة بغض النظر عن أي معيار خلقي يقرر ما ينبغي أن يكون؛ لأن الجميل لا يستهدف شيئا سوى أن يكون ذا تكوين خاص فيه الوحدة والبناء اللذان أشرنا إليهما.

على أن هناك نوعين من الجمال يجدر بنا أن نفرق بينهما، وهما الجمال الحر والجمال المقيد بغرض خاص.

أما الجمال الحر فهو الذي ننظر فيه إلى التكوين الخالص دون أن يرد إلى أذهاننا ما قد أريد لهذا التكوين أن يؤديه من وظائف. كما تنظر مثلا إلى زخرف هندسي في الفن العربي، فأنت عندئذ لا يعنيك ألا تناسب أجزاء الزخرف، ولا تسأل ماذا يعني هذا الزخرف.

وأما الجمال المقيد بغرض كجمال الجسم البشري وجمال الحصان وجمال البناء، فها هنا قد نقيس جمال الجسم إلى ما قد جاء ليؤديه، وعندئذ قد يعوقنا التفكير في صلاحية الشيء لأداء وظيفته دون الإدراك الجمالي الخالص، الذي لا يتأتى إلا إذا نظرت إلى الجسم البشري من حيث هو تكوين خالص، وإلى جسم الحصان من حيث هو تكوين خالص كذلك، وهكذا.

على أن هذه التفرقة على كل حال تفيدنا في حسم الخلاف بين جماعتين من النقاد: جماعة تجعل معيارها الشكل المحض، وجماعة أخرى تجعل معيارها النجاح في الوصول إلى الهدف المقصود.

وكعادتي أحب أن أزداد فهما - لنفسي وللقراء - بأن أطبق هذا الذي أقوله على أمثلة بعينها من موضوعات الجمال، اختارها من الطبيعة أو من الفنون، لأرى كيف أتذوق جمالها لو أني أخذت بوجهة النظر التي بسطتها.

لنضرب مثلنا من الأدب، وليكن حكاية من حكايات ألف ليلة وليلة؛ فهذه الحكايات معترف لها من نقاد العالم أجمع بما فيها من فن أدبي؛ فألاحظ أنني بمجرد دخولي في دنيا الحكاية أجدني بإزاء عالم ذي قوانين خاصة به، لا شأن لها بقوانين هذا العالم الحقيقي الذي نعيش فيه؛ فتراني لا أتعجب لوقوع أحداث في ذلك العالم الغريب ما دامت تلك الأحداث متمشية مع جو ذلك العالم وقوانينه، ولا أقف لحظة لأسأل إن كانت تلك الأحداث مما يجوز وقوعه في عالمنا أو لم تكن. فلا بأس - مثلا - في أن أجد الناس هناك ينتقلون انتقالات سحرية من مكان إلى مكان، على بساط الريح أو على براق أو غير ذلك، ولا بأس في أن يحك حامل الخاتم خاتمه فإذا الدنيا كلها ملك يمينه يسيرها كيف شاء له هواه. المهم عندي وأنا أعيش الحياة التي ترسمها الحكاية المقروءة هو أن أجد اتساقا وانسجاما وترابطا بحيث لا تصبح العناصر متناثرة مفككة لا شأن لأحدها ببقيتها. فإن أحسست بمثل هذه الوحدة تشمل الأطراف جميعا، أحسست بالفاعلية نفسها التي ينشط بها ذهني وهو يدرك عناصر أي شيء مدرك في الحياة الواقعة، وهي الفاعلية التي حدثتك عنها حين حدثتك عن هذا القلم بين أصابعي كيف يستوي في عالم الذهن قلما واحدا مع أنه ذو عناصر حسية متفرقة. وما دمت قد أحسست في الحكاية المقروءة بمثل هذه الفاعلية الضامة، كان العالم المحكي عنه عالما سوي التكوين متسق البنية، وبمقدار ما ألمس في ذلك العالم من أوجه النقص في طريقة بنائه، يجيء حكمي عليه بالبعد عن الجمال الفني.

إن لذة الحياة داخل الحكاية إنما تتوقف على ضرب من النشاط الذهني أنشطه أثناء انتقالي من هنا إلى هناك في أرجاء ذلك العالم، وأثناء لقائي بمن ألتقي بهم من أشخاص الناس في الحكاية أحاسبهم بما أحاسب به أشخاص الناس في الحياة المألوفة الجارية، بل أحاسبهم بقوانين عالمهم الخاص؛ ولذلك فليس من مصادر جمال الحكاية نوع المادة التي بني منها البناء، أمن طين هو، أم من حجر مصقول، بل مصادر جمالها كله هي شبكة العلاقات التي تتفاعل بها الأجزاء بعضها مع بعض؛ فقد تقرأ المقامة من مقامات الهمذاني أو الحريري فتجد صقلا وعناية بمواد البناء، لكنك - في ظني - لا تشرب من رحيق الفن مقدار ما تشربه وأنت في عالم ألف ليلة وليلة.

وخذ مثلا آخر قصيدة من الشعر، ولتكن إحدى قصائد ذي الرمة التي يرسم بها لوحات حية من حياة الصحراء ووحشها. فها هنا أيضا تراك وقد دخلت عالما فنيا لا تسأل فيه إن كان ما فيه يجري في العالم الواقع أو لا يجري، بل تراك تتابع مجرى الحياة كما ينساب في القصيدة. ولو حللت سر النشوة الجمالية عندئذ، لوجدته هو الفاعلية الذهنية الضامة الموحدة الرابطة التي تجعل من الحياة في القصيدة كائنا واحدا وإن تعددت أطرافه. فافتح ديوان ذي الرمة، واقرأ أول قصيدة فيه، تجد مشهدا بديعا هو مشهد حمار الوحش وقد عضته وحوش من غير أسرته؛ فهو يجري في الصحراء ظالعا وأمامه أتن رمادية اللون، وهو يصيح عليها في يوم حار، وما يزال يجري في أثرها حتى تدنو الشمس من غروبها، وعندئذ يقترب من الماء الذي يطلبه منذ أول النهار. لكن هذا وهم من حواسه؛ فالماء ما يزال بعيدا، وما يزال هو يركض ركضا سريعا ينشد عين الماء، حتى ظهرت أنوار الصباح، وعندئذ يبلغ عينا تصطخب فيها الضفادع، فيبحث لنفسه وللأتن عن مكان مطمئن ليهدأ فيرتوي، لكنه لا يكاد يفعل حتى يسمع صوتا خفيفا يقشعر لسمعه؛ لأنه هو الصوت الذي يخشاه؛ صوت الصائد يتعقبه ويتربص له ... إلخ إلخ. ألم تشعر وأنت تقرأ هذه الخلاصة المقتضبة لجزء واحد من القصيدة، أنك كنت كالذي يحيا في حلم ثم أيقظناه؟ لقد كنت في عالم قائم بذاته له روابطه التي تربط أرجاءه معا في كون واحد فتجعل منه كيانا واحدا.

وتلك هي بعينها الفاعلية التي تحسها إذا ما قرأت أعظم الآثار الأدبية في شتى اللغات: في مهابهاراتا ورامايانا في الأدب الهندي، في الإلياذة والأوذيسة في الأدب اليوناني، في الكوميديا الإلهية لدانتي والفردوس المفقود لملتون، في رحلات جلفر لأولفر سويفت، في روبنصن كروسو لدانيال دي فو، وهي هي بعينها كذلك الفاعلية التي تحسها وأنت تتأمل لوحات التصوير الفني والعمائر بكل أشكالها الفنية من مساجد وكاتدرائيات وقصور وبيوت يتمثل فيها جمال الفن المعماري.

أساس الجمال في كل شيء جميل هو نفسه الأساس الذي ينبني عليه كل كائن حي، ألا وهو أن يسري بين الأجزاء رباط يضمها في وحدة، وهو عند فيلسوفنا كنط الأساس الذي تقوم عليه التصورات العقلية عن الأشياء التي تصادفنا وندركها، ثم هو عنده الأساس الذي تقوم عليه الأحكام الذوقية في عالم الجمال.

3

قد تلتقي أنظار الناس جميعا على الشيء الجميل فتتفق على جماله، ثم يبدأ اختلاف الرأي فيما بينهم حين يبدءون في التفسير والتعليل؛ فماذا في هذا الشيء أو ذاك قد جعله في أعين الناس جميلا؟ أهو - في نهاية التحليل - ما به مما ينفع الناس في حياتهم الكاملة؟ أم هو صورة بنائه وتكوينه بغض النظر عما ينفع وما لا ينفع؟ أم هو شيء غير هذا وذاك؟

إن لكل فيلسوف عن هذا السؤال جوابه الذي يتفق وفلسفته العامة، وسنختار لك هذه المرة أفلوطين، وهو فيلسوف ولد بصعيد مصر سنة 205 ميلادية.

إننا نستطيع أن نلخص رأيه عن الجمال في كلمة واحدة، هي «الروح»؛ فالشيء جميل بمقدار ما يعبر بمادته عن روح الإله الخالق الواحد. كان أفلوطين يكتب أو يملي على عجل، ثم يدع لتلميذه فورفوريوس مراجعة الأوراق، فلما توفي أفلوطين، جمع فورفوريوس رسائله وقدم لها بترجمته لحياة أستاذه، وقد قسم تلك الرسائل ستة أقسام، جعل في كل قسم منها تسع رسائل (مجموع الرسائل أربع وخمسون رسالة)؛ ولذلك سميت بالتاسوعات، وفي إحدى هذه الرسائل ترى رأيه في الجمال مبسوطا في سلاسة ووضوح نادرين. فماذا يقول؟

الحاستان اللتان تتأثران بالجمال هما حاستا البصر والسمع، على أن الأشياء الجميلة قد تكون جميلة في ذاتها كما هي الحال في الأفعال الفاضلة، وقد تكون جميلة بمشاركتها في مبدأ أسمى، هو المبدأ الذي يخلع عليها جمالها بمقدار مشاركتها فيه. وأن الرواقيين ليزعمون أن هذا المبدأ الذي يكسب الجميل جماله هو تناسب الأجزاء وتناسق الألوان، ولو صح ما يزعمون لما وصفنا بالجمال إلا الأشياء المركبة من جملة عناصر؛ لأن التناسب والتناسق لا يكونان - بالبداهة - إلا بين أكثر من شيء واحد. وأما إذا نظرنا إلى عنصر واحد بسيط، أو إلى لون واحد بسيط، لما رأينا فيه جمالا، فعندئذ لا نستطيع أن نقول - مثلا - إن لون الذهب جميل، أو إن النغمة الواحدة جميلة. ودع عنك الجمال الذي نراه في مجالات الفكر والأخلاق والروح؛ لأن هذه كلها مجالات قد لا تكون كائناتها مركبة حتى يجوز لنا أن نقول إن في عناصرها تناسبا وتناسقا؛ وذلك لأن التناسب والتناسق صفتان كميتان يتناولان المقادير العددية في مقاييس الأشياء، وإذن فهما لا ينطبقان على الحقائق الروحية ما دامت هذه الحقائق لا عدد فيها ولا قياس.

كلا، فما الجمال في الأشياء الجميلة إلا صفة ندركها فندرك أن بينها وبين الجانب الروحي فينا شبها من حيث الجوهر. وعلى عكس ذلك الشيء الذي نصفه بالقبح، إنما هو شيء يحمل صفة تتنافر مع حقيقة أرواحنا؛ فالأشياء الجميلة تذكر الروح فينا بطبيعتها الروحانية؛ وذلك لأن هذه الأشياء كلها تشترك في «الصورة» المستمدة من عالم الروح. وإذا ما خلا شيء من تلك «الصورة» كان قبيحا، وإذا شئت لغة أقرب إلى الأفهام، فقل عن هذه «الصورة» إنها هي قوة دلالة الشيء على المصدر الإلهي، أليست «الصورة» تعمل على تنسيق الأجزاء وتوحيدها في كيان واحد؟ ثم أليس معنى ذلك هو أن «الوحدة» التي تجمع الكثرة برباط يوحدها هي سر جمال الشيء؟ وماذا تكون الوحدة في أعلى مراتبها إلا «الواحد» الذي انبثقت منه شتى الكائنات؟ وإذن فإدراك الوحدة في الشيء هو ضرب من الصعود إلى الحقيقة الإلهية الأولى.

وأترك مستوى المرئي والمسموع إلى المستوى الذي لا يتوقف فيه جمال الشيء على بصر أو على سمع، وهناك تدرك الروح منا جمال الشيء بغير استخدامها للحواس؛ إذ يكفيها أن تجد شبيها بينها وبين ما ترى، ولكن متى يكون هذا الشبه قائما؟ إنه يكون قائما حين يخلو الشيء من كل إضافة لا تجانس ماهيته وطبيعته، وعندئذ تواجه الروح الخالصة ماهية «خالصة»، على أن روح الإنسان الرائي قد لا تكون خالصة، وعندئذ لا تكون روحا جميلة، وبالتالي لا يتاح لها أن ترى جمالا، وذلك حين تشوبها العواطف الجموح، فتكون كأنها الجسم قد تلطخ بالطين، فلا مندوحة لصاحبها - إذا أراد تخليصها وتنقيتها - عن أن يزيل عنها أوشابها، ووسيلة هذا التطهر الروحي هي - كما قال أفلاطون في محاورة فيدون - انتهاج السلوك الفاضل؛ فالسلوك الفاضل هو بمثابة تطهير الروح من أدرانها، وحينئذ تصبح صورة خالصة، أو تصبح معنى خالصا، قوامه روحاني خالص ولا أثر للجسد المادي فيه، وحينئذ أيضا تصبح الروح الصافية الخالصة شبيهة بالله، وفي هذه المشابهة جمالها الحق، وبالروح الجميلة في صفائها ندرك الجمال في الأشياء الجميلة.

ليس الجمال صفة حسابية تقاس أبعادها لتكشف لنا ما في الشيء من تناسب بين أجزائه، إنما هو في مقدار دلالة الأشياء على روح خالقها أو قل هو في قوة التعبير الذي عبر به العقل الكبير عن نفسه تعبيرا محسوسا تراه العين أو تسمعه الأذن؛ فصور الجمال المختلفة ضروب مختلفة اختارها الروح الكلي حين أراد أن يطبع ماهيته على المادة فيصنع منها هذا الشيء الجميل أو ذاك؛ فصاحب الروح الصافية والنفس الحساسة إذا ما شهد شيئا وتأمله فوجد في طيه «معنى» يربط له الصلة بينه وبين الله، أو قل بينه وبين سائر الكون، فهو عندئذ إنما يشهد جمالا؛ لأنه يشهد شبها بين الشيء المحسوس من جهة والأفكار العقلية من جهة أخرى.

إن الأشياء الجميلة في هذه الدنيا، ما كانت لتكون كذلك عند المشاهد المتأمل لولا أن كل شيء منها يندرج تحت نموذج في عالم الروح؛ فكائنات الأرض «نسخات» من كائنات السماء، وإدراك الجمال فيها معناه إدراك ما قد اندس في ثناياها من هذه الكائنات السماوية؛ فبرغم أن العين هي التي ترى الشيء الجميل، إلا أنها تراه لكي تترك العقل بعدئذ يجاوز السطح المرئي إلى ما وراءه من معنى كامن، وبهذا يكون الجمال مرده إلى الروح لا إلى المادة، إلى العقل لا إلى الحواس، إلى التأمل لا إلى المشاهدة بالبصر؛ ولهذا لم يكن الجمال أمرا مرهونا بمزاج الفرد الواحد المشاهد، بحيث يجوز أن يختلف الأفراد في تمييز الجميل من القبيح، بل هو أمر عام يدركه كل ذي بصيرة على حد سواء. نعم إن الفرد الواحد يقدر الشيء حين يراه «قريبا» إلى نفسه - أي شبيها بها - ولكنه لم يكن هو الذي خلع عليه الجمال بميوله الشخصية ونزواته، بل الذي خلع عليه جماله هو الذي خلقه وصاغه ليكون أداة تعبر عن حقيقته، وما على الإنسان الفرد إلا أن «يدرك » ما هناك، لا أن يوجده من عدم، فكأنما الإنسان الفرد المشاهد للشيء الجميل يجد من ذلك الشيء حلقة تربطه بينه وبين الله، وذلك حين يرى صورة الله مطبوعة على الشيء، ثم يرى الشبه بينها وبين صورة نفسه؛ لأن أنفس الناس إنما انبثقت من النفس الكلية، وعلى غرارها جاءت.

وننتقل من هذه المبادئ الفلسفية العامة المجردة، إلى الفنان الذي ينتج لنا اللوحة الجميلة أو القصيدة من الشعر أو غيرهما من ألوان الفنون، فبأي مقياس نقيس قيمة فنه؟ إننا نقيس ذلك بمقدار ما قد وفق في تجسيد «الحق» في عمله الفني، إن الفنان العظيم لا يحاكي الطبيعة أبدا، بل يخلق بخياله خلقا جديدا يبث فيه «الحق»، فلئن كانت المحاكاة تنقل ما قد صادفه الفنان في حياته، فالخيال يخلق للفنان ما لم يره في حياته قط. إن الفنان العظيم لينظر بعين بصيرته إلى النماذج العقلية التي كان الله قد طبع صورتها على الأشياء المحسوسة، ينظر إليها ليستلهمها مخلوقا جديدا يخلقه هو في فنه بأن يطبع صور تلك النماذج العقلية على مادته، حتى لا يكون فرق جوهري بين خلق الله وخلق الفنان من حيث طبع المادة بصورة معينة، فتتمخض عن كائن جميل. إن الفن خلق بأدق معنى لهذه الكلمة، بل بأسمى معنى لها وأدومها بقاء على الزمن؛ فهنالك من القيم الروحية ما ليس ينكشف سره وجوهره إلا عن طريق الفن؛ وذلك لأن الفنان يتمتع في خلقه بحرية لا تتوافر لسواه من أفراد الناس حين ينشطون في مناشط حياتهم اليومية أو حياتهم المهنية، لما يضبط هذه الحياة أو تلك من قيود وحدود لا يتقيد بها الفنان وهو يقيم بناءه الفني.

خلاصة الرأي عند أفلوطين - نسوقها لتتضح في ذهن القارئ قبل أن ننتقل إلى مرحلة التطبيق - هي أن الشيء الجميل جميل! يكون فيه من روح ومعنى يجعلانه وسيطا يصل الإنسان المتأمل بالله؛ لأن الجانب الروحاني المعنوي في الشيء الجميل شبيه بالروح الإلهي من جهة وبالروح الإنساني من جهة أخرى؛ ولذلك كانت النشوة عند الاستغراق في الشيء الجميل قريبة من نشوة الحب التي تدمج نفس المحب في نفس حبيبته، فهل رأيت محبا صادقا يلتمس في حبيبته جانبا ظاهرا كالشكل واللون والقوام، أما تراه دائما يلتمس فيها روحا خافيا عن الأعين، روحا لا لون له ولا شكل ولا قوام؟ وحتى إن أعجب العاشق بما في معشوقته من خصائص بدنية كتناسق أجزاء جسدها، فهو في الحقيقة يعجب بهذه الخصائص لما هو مستتر وراءها من «صورة» تدرك بالعقل ولا تدرك بالحواس.

ما الفرق بين قطعة الحجر قبل أن يمسها إزميل الفنان وبعد أن يمسها؟ بديهي أن الحجر لا يستمد جماله بعد نحته من كونه حجرا، وإلا لتساوى التمثال المنحوت في قيمته الجمالية مع أي حجر آخر في مثل حجمه ووزنه، بل يستمدها من الصفة التي أضافها الفنان إليه، وهي صفة لم تكن في قطعة الحجر بادئ ذي بدء، بل كانت في نفس الفنان - لا من حيث هو كائن ذو عينين ويدين - بل من حيث هو كائن ذو خيال؛ ففي خيال الفنان كانت تكمن الصورة الفنية التي سينقلها بإزميله إلى قطعة الحجر، وإذن فقطعة الحجر بعد نحتها تمثالا إنما استحدث جمالها من الروح - أي من الخيال - لا من أية ظاهرة مادية في الحجر أو في غيره من أشياء.

إن الجمال - في الفن وفي الطبيعة على السواء - ليستقي قيمته كلها من كونه وسيلة تبرز الروح الإلهي في جوهرها وصميمها، فترى هذا الروح مشعا خلال القطعة الفنية أو خلال المنظر الطبيعي، مشعا من التمثال أو من الصورة أو من مقطوعة الشعر أو الموسيقى، ولو كان الأمر أمر تناسب في الأجزاء الظاهرة من الجسد أو من المادة المستخدمة في البناء الفني، لكان الوجه الجميل جميلا وهو حي كما هو جميل وهو ميت على السواء، لكن لا، إن العبرة كلها هي بما وراء السطح الظاهر من روح ومعنى.

وننتقل الآن إلى أمثلة تطبيقية لهذه الفلسفة الجمالية التي عرضناها، وأول مثل أسوقه هو تمثال أجمع رجال الفن على تقديره، ألا وهو تمثال نفرتيتي المعروف، فأين سر جماله؟ أهو في كونه كتلة من الحجر الجيري؟ أم هو في المعاني الكامنة وراء ملامحه؟ ألا ترى سر جماله هو في طائفة كبيرة من المعاني والقيم تتزاحم عليك وأنت تتأمله، منها هذه الأنفة التي تترفع عن ظواهر الخلاعة والاستهتار الرخيص، ولكنها أنفة تجيء في هدوء، صادرة عن نفس مرسلة على سجيتها، فلا تكلف فيها ولا تصنع، إن في الوجه قوة روح ومضاء عزيمة وإرادة، لعلهما نابعان من وضوح ملامحه ومن بروز عظام الخدين والذقن، ولكنه وضوح تنبسط فيه الأسارير ولا تتجهم؛ فالجبهة مشرقة، والفم رقيق باسم في هدوء وفي وداعة، والعنق طويل يوحي إليك بالرشاقة المصاحبة لجلال العظمة الآمرة المسيطرة، فهل في وسعك أن تنظر إلى رأس نفرتيتي نظرة فيها ابتذال أو سخرية؟ هل في وسعك أن تنظر إلى هذا الرأس ولا يرتسم في خيالك الوجود الذكي اليقظ الواعي المرهف الحساس؟ هل في وسعك أن تنظر إليه ثم تشعر بالعبث والتفاهة والفوضى؟ لا أظن ذلك، وكل ما سيطوف بذهنك وأنت تنظر إليه متأملا هو صفات مما ننسبه للكائن الإلهي في سموه وسمائه، وما يتشوق الإنسان إلى محاكاته فيها، وذلك هو الجمال الحق بالمعنى الذي أراده أفلوطين كما فهمناه وشرحناه.

ونسوق مثلا آخر من روائع الأدب العالمي: الكوميديا الإلهية لدانتي، فأي شيء ندرك حين ندرك فيها جمالا؟ أهو مجرد الارتحال في أرجاء الجحيم وفي الأعراف ثم الفردوس؟ أم هو النفاد خلال تفصيلات الرحلة إلى ما يكمن وراءها من روح ومعنى؟ إن رحلة دانتي في قصيدته الكبرى هذه تبدأ بأن يجد نفسه ضالا في غابة مظلمة لا يهتدي فيها إلى مسلك يخرجه منها إلى حيث الفضاء والنور، إلا إشعاعا ضئيلا يتسلل إليه خلال ثغرة فيها، فيسرع على هداه لعله ينجو قبل أن يغرب، لكنه لا يلبث أن يجد وحوشا ثلاثة تسد عليه الطريق: ذئبة وأسدا وفهدا، فيرتد إلى الظلام يتخبط فيه من جديد، إلى أن يصادف فرجيل فيطلب منه الأخذ بيده إلى طريق النجاة، لكن فرجيل يبين له أن طريق الخلاص طويل تكتنفه الصعاب، فلا بد له أولا من اجتياز درجات الجحيم كلها قبل أن يصعد إلى الأعراف حيث يتطهر، وعندئذ فقط يستطيع الصعود إلى الله. لكن هداية فرجيل تنتهي عند الأعراف، وسيتولى هدايته بعدئذ إلى الشهود الإلهي روح حبيبته بياترتش.

ذلك هو المخطط العام للرحلة، لكن المتأمل في تفصيلات القصيدة وفي طريقة بنائها، سرعان ما يجد نفسه قد سما إلى منزلة روحانية لعلها هي المنزلة التي أرادها الشاعر لنفسه وللناس، وفي هذا السمو إلى مرتبة الروح سر جمال الكوميديا الإلهية، فما الغابة المظلمة التي وجد نفسه فيها إلا حياة الخطيئة والرذيلة والشر التي عاشها الشاعر وهو بعد بين الأحياء على وجه الأرض، وما الضوء الذي تسلل إليه وأغراه بمحاولة الخلاص إلا قبس من الله، لكن أين المفر والوحوش الثلاثة تسد عليه الطريق؟ وهي رموز مأخوذة من سفر أرميا لترمز إلى الرذايل الأساسية الثلاث كما أوردها أرسطو، وهي رذيلة الجشع حين تنحرف الغريزة، وهذه هي الذئبة، ورذيلة الضراوة والافتراس حين تنحرف شجاعة القلب عن حدها المعقول، وهذا هو الأسد، ثم رذيلة الغش والخداع حين ينحرف الذكاء عن طريق الخير إلى حيث المكيدة والغدر، وهذا هو الفهد. فلما أن التقى فرجيل به ليهديه، كان رمزا لما ينبغي للخلف أن يتمسك به من تراث السلف؛ فعلى هداية أسلافنا نستطيع أن نشق طريقنا إلى مستقبل مرجو مزدهر. كما يرمز كذلك فرجيل إلى حكمة العقل؛ ولذلك فلن يهديه هذا الحكيم العاقل إلا إلى حد محدود، وهو الخروج من الجحيم إلى حيث الأعراف. وأما الطريق من الأعراف إلى الله فتلزم لها هداية من نوع آخر غير حكمة العقل؛ يلزم لها الحب، ويلزم لها القلب، ويلزم لها الإيمان؛ ولذلك فالهداية عندئذ متروكة لمن ترمز عند دانتي إلى الحب والقلب والإيمان؛ إذ هي متروكة لبياترتش بعد أن فرغ «العقل» (أي فرجيل) من مهمته إلى آخر حدودها المستطاعة.

وماذا أقول لك في مرامي هذه القصيدة الكبرى، إلا أن تقرأها مشروحة لترى بنفسك كيف يكمن سر جمالها في الصعود بك وراء تفصيلاتها الظاهرة إلى حيث الوجود الإلهي الخالص وذلك هو مكمن الجمال في كل شيء جميل، على مذهب أفلوطين.

الصراع المشروع

كان من حسن حظي أن احتفلت بريطانيا بنابغتها في فن النحت «هنري مور» لبلوغه الثمانين من عمره، أثناء وجودي هناك في صيف هذا العام (1978م)، وكنت قبل ذلك قد قرأت قدرا لا بأس به عن هذا الفنان المعاصر، الذي يقال عنه إنه أعظم المعاصرين جميعا في مجال النحت، وكنت كذلك قد رأيت صورا لبعض قطعه النحتية، لكن الصور قلما تنبئك عن حقائق الأشياء المصورة، فما بالك بفن النحت الذي قد يجعل لمس الأصابع لاستدارة الحجر أو البرونز جزءا هاما من مصدر النشوة الفنية بالقطعة المنحوتة!

ولعلك لاحظت أني استخدمت في الفقرة السالفة عبارة «القطعة النحتية» بدل كلمة «التمثال»؛ وذلك لأن كلمة تمثال قد توحي بأن القطعة المنحوتة «تمثل» كائنا ما، كأن تنحت على هيئة فارس يركب جوادا، أو امرأة تحمل جرة أو غير ذلك، لكنك في فن النحت عند هنري مور تحاول عبثا لو حاولت أن تجد مثل هذا «التمثيل» اللهم إلا استثناءات قليلة ك «قطعة الملك والملكة»، ومع ذلك فهو حتى في هذه الاستثناءات القليلة لا يعبأ بالتفصيلات، بقدر ما يهتم بالطابع العام الذي يوحي.

وكانت طريقتهم في الاحتفال بالفنان العظيم، هي أن يقيموا آثاره الفنية في كبرى الحدائق؛ إذ تتميز تلك الآثار بضخامة حجمها ضخامة تستلزم أن تقام في مساحات فسيحة لتبرز خصائصها، ولقد كنت هذا الصيف أقضي عدة ساعات كل يوم، مشيا في حدائق لندن (كجزء من العلاج الطبي) وبصفة خاصة حدائق كنز نجتون؛ حيث كانت منتجات هنري مور البرونزية مقامة، على أبعاد بعيدة بين القطعة والقطعة، حتى لا تتزاحم فتفقد شيئا من تأثيرها على الرائي، فكنت كلما صادفت واحدة منها، وقفت عندها طويلا، أنظر وألمس وأتأمل لعلي أكشف لنفسي عن بعض سرها.

إنني لا أثق بنفسي كل الثقة في نقد الفنون - والفنون المعاصرة بوجه خاص - حتى لكثيرا ما أتمنى أن يكون إلى جواري ناقد خبير، ليبين لي مواضع الإبداع فيما أرى، ومع ذلك فمنذ أعوام طويلة لم أفوت فرصة واحدة تسنح لي، إلا وقفت أمام اللوحة أو أمام القطعة المنحوتة أحاول جهدي أن أفهم ما استطعت إلى الفهم سبيلا؛ لأني كنت دائما أحس بأن شيئا ما يجذبني إلى مبدعات الفن المعاصر، لعله - على الأقل - ما كنت أراه في تلك البدائع من استقلال الفنان عن الأشياء الخارجية؛ فهو لم يجئ ليقدم لنا نسخة مما هو كائن بالفعل، وإذا هو فعل ذلك فماذا تكون قيمته؟ إنما هو يقدم شيئا جديدا كل الجدة، لا هو «صورة» الشيء ولا هو «تمثال» لأحد ... وأعود إلى هنري مور وعجائبه التي وقفت عندها في حدائق لندن هذا الصيف ما سر إعجازها الفني؟ إن القطعة منها - لو تأملتها - وجدتها مؤلفة من كتل وليست هي كتلا من نوع واحد؛ فهذا عمود، وذلك منقار، وهناك كرة في قناة، وهكذا، كلها في حجم كبير، تلاصقت على نحو ما، وتمعن في التأمل، فتشعر شعورا قويا بأن تلك الكتل المتلاصقة ليست بالنسبة لبعضها البعض موضوعة في تجاور سكوني ميت، بل هي تبدو وكأنما يضغط كل منها على الآخر، وينضغط به ... نعم، إنها تبدو وكأنها تدفع إحداها الأخرى دفعا لتزحزحها من مكانها، لكنها بدورها تندفع وتتلقى الضغط مما يجاورها، مما يشيع فيها إيحاء بالتوتر الموثب والفاعلية، ولكن برغم هذا التفاعل المتوتر الذي يسري بينها كأنما هي قد دخلت في عراك صامت بعضها مع بعض، فإنك إذا ما أمعنت النظر فيها مرة أخرى، أيقنت أن هذه المجموعة المتزاحمة من الكتل المتباينة شكلا وحجما، مشدود بعضها إلى بعض برباط خفي قوي، يجعلها بمثابة أفراد الأسرة الواحدة يتقاربون بصلة الرحم حتى لو باعدت بينهم الطبائع والميول؛ فهنالك نقطة التقاء تدركها البصيرة النفاذة وقد لا يستطيع الحس أن يحدد مكانها.

وها هنا لمعت في رأسي لمحة مضيئة كأنها الومضة الخاطفة، نطقت معها قائلا: ألا إن هذا هو الصراع المشروع بين أبناء الأمة الواحدة وقد تجسد أمامي في هذا الفن النحتي العجيب؛ فنحن إذا ما طالبنا هؤلاء الأبناء أن يسالم بعضهم بعضا، فلسنا نريد لهم أن يتحولوا إلى أجساد مشلولة، تتحرك في ضعف وصمت وموات، كأنها أطياف على سطح مرآة! بل نريد لهم مثل هذا التوتر الحي المتوثب؛ فكل فرد يؤثر ويتأثر، يفعل وينفعل، يضغط وينضغط، يرى الرأي ويعلنه فيجيئه التأييد من هنا والتقيد من هناك، ومع ذلك يكون بين الأفراد المتصارعة ما بين الأجزاء المختلفة المكومة لقطعة النحت في فن هنري مور، وأعني أن يكون بين هؤلاء الأفراد رباط خفي قوي، يستحيل معه أن نتصور الأجزاء وقد تناثرت أشتاتا وكأنها ذرات الهباء في العاصفة!

إن أفراد الناس، وإن بدوا على صورة متجانسة، فلكل منهم عينان وأنف وشفتان، وهم يختلفون في بواطنهم اختلافا قد لا نقدر مداه، وحسبك أن ترى من هذا التباين بينهم ما يعلو ببعضهم حتى يوشكوا أن يكونوا مع الملائكة، ويسفل ببعضهم الآخر حتى يصبحوا شياطين مع الشياطين، فكيف نتوقع للناس بكل ما بينهم من أبعاد الخلاف أن يسالم بعضهم بعضا بالمعنى الذي يصبهم جميعا في قالب واحد؟

ما الذي يجعل كواكب المجموعة الشمسية كوكبة فلكية واحدة موحدة؟ يجعلها كذلك ما بينها من عراك صامت؛ فكل كوكب فيها يجذب إليه الكواكب الأخرى وتنجذب إليه الكواكب الأخرى وينجذب بها، حتى تحدث من الجذب والتجاذب حالة من التوازن المستقر، ومثل هذا التوازن الناتج عن الصراع هو ما أتصوره سلاما بين أبناء الوطن الواحد؛ فلكل فرد أن يبسط طبيعته بسطا يصل بها إلى آخر حد مستطاع، لكنها ستصطدم بالأفراد الآخرين في بسطهم لطبائعهم حتى يحدث بين المجموعة توازن الأحرار.

ما الذي يوحد المسرحية الواحدة في الفن الأدبي؟ إنها بحكم كيانها الفني ذاته لا بد أن تشتمل على أشخاص تنوعت طبائعهم تنوعا يجعلها في تضاد وتعارض، لكنهما التضاد والتعارض اللذان يشهدان بنبض الحياة، إن حقيقة الإنسان لا تتجلى إلا عند الصدام مع الآخرين ولقد أخطأ من خاطب الإنسان قائلا: أيها الإنسان اعرف نفسك بنفسك، وكذلك لأن الإنسان لا يعرف نفسه إلا بغيره؛ فالذي يوحد المسرحية ليس هو تجانس أشخاصها ولكنه هو ما بينها من لقاء يحمل معه بذور التنافس والصراع، والذي يوحد المسرحية في عمل فني واحد هو نفسه الذي يوحد الشجرة والقط والطائر والإنسان.

وردت عبارة في مذكرات هنري مور يقول فيها ما معناه أنه حين يبدأ عمله الفني فالأغلب أن يضع نصب عينيه إنسانا معينا أو حيوانا معينا، ذا شخصية متميزة بخصائص واضحة، ثم يأخذ في تشكيل الكتل وفي ضمها بعض إلى بعض، مهتديا بالخصائص المميزة التي جسدها لنفسه في إنسان معين أو حيوان، فإذا لبثت الخصائص بادية في التركيب النحتي الذي يؤلفه، عرف أن القطعة النحتية قد أخذت شكلها الصحيح، وإلا فهو يعيد التركيب مرة بعد مرة، حتى يتحقق له ما يريد.

وشيء كهذا نقوله لجماعة تريد سلاما بين أفرادها، وأعني أن تكون لها أهداف واضحة المعالم ثم ينطلق الأفراد في طرائق حياتهم وكأنهم أجزاء تتقارب وتتباعد في تركيب فني واحد، فما دامت الأهداف المقصودة ماثلة في أنشطتهم على تباينها، وفي أفكارهم على اختلافها وتعارضها، كان ذلك دليلا على أن الجماعة سائرة على جادة الطريق، ولا ضير بعد ذلك عليها أن يحتدم صراع بين أفرادها؛ لأنه عندئذ صراع مشروع.

وعودة إلى فن النحت عند هنري مور، فإنه لمن الخصائص التي لا يخطئها نظر تلك الثقوب الواسعة التي يفتحها النحات في القطعة التي ينحتها بحيث تبدو وكأنها كوى في أكواخ البدائيين، أو أنها فتحات تؤدي إلى كهوف حفرت في صخر الجبل، وكان من تعليق هنري مور على تلك الثقوب التي يتميز بها نحته والتي قد تتفتح على الفضاء، قوله (وكان ذلك في حديث تليفزيوني شهدته فيه وسمعته وهو يجيب على أسئلة المذيع) قوله إن تلك الثقوب هي بمثابة نحت في الهواء؛ لأن الهواء - كما قال - يمكن نحته كما يمكن نحت الصخر سواء بسواء! وعلى أية حال، فإنني إذ وقفت أتأمل منحوتاته المنثورة في حدائق كنز نجتون بلندن لم يسعني إلا أن أستحضر في ذهني حياة الإنسان الأول؛ لأن أشياء كثيرة في القطع النحتية المعروضة، توحي بصورة الحياة الأولى عندما كانت تلك الحياة - وما زالت - تصارع الظروف المادية لتخرج من أرحام الأرض.

ألا إنه لصراع طويل طويل وشاق؛ ذلك الصراع الذي نشب بين الإنسان والطبيعة المحيطة به، بما فيها من عوامل عنيدة لا تستسلم له إلا بعد العناء على الزمن الطويل، ومن ذلك الصراع المتصل ولدت لنا الحضارة التي ننعم بخيراتها؛ فمن الذي يرشد إنسان اليوم إلى صوابه، ليتحول صراعه مع سائر الناس إلى صراع مع الطبيعة ليرغمها على التسليم؟ إن صحراءنا تريد من يصارعها فيصرعها لتخضر بالزرع، وبحارنا الملحة تريد من يصارعها فيصرعها لتخرج لنا من الماء الأجاج ماء عذبا ترتوي منه الأرض، وجراثيم الأمراض تنتظر من يصارعها فيصرعها فيصح المرضى، والأمية تصرخ منادية لمن يمحوها ولو بعد حين ... صفوف لا آخر لها من المعوقات، تتطلب منا صراعا، هو ذروة الصراع المشروع.

المصري الجديد القديم

لعل القارئ أن يكون على غير علم بأن الفلسفة الحديثة والمعاصرة في أوروبا، قد أثارت لنفسها مشكلة، دامت معها الآن أكثر من ثلاثة قرون دون أن يجمع الرأي فيها على حل واحد، وهي مشكلة جاءت وليدا مباشرا للعلم الحديث، فالعلم المعاصر من بعده؛ وأعني بها مشكلة «الهوية» للشخص الواحد، أو للشيء الواحد، أو للكيان الاجتماعي الواحد.

فما «الهوية» هذه التي يتحدثون عنها؟ هي - اختصارا - أن يكون للكائن المعين ذاتية واحدة ومستمرة، ولنضرب مثلين أو ثلاثة لنضمن لأنفسنا وضوح الفهم، قبل أن ننتقل إلى الحديث عن موضوعنا الذي نريد الحديث عنه؛ فها أنا ذا رجل قد بلغ كذا من السنين، اجتاز خلالها مراحل الطفولة والشباب والرجولة والكهولة، وكنت أحمل خلال تلك المراحل اسما واحدا يعرفني به الناس، على أن تلك المراحل المتعاقبة لم تكن بهذه البساطة البسيطة، بل امتلأت كل مرحلة منها بما لا يحصيه العد من تقلبات بين مرض وعافية، وحزن وفرح، وخمول ونشاط، وجهل وعلم، وكراهية وحب، إلى آخر تلك الألوف من الحالات المتباينة التي يحيا بها الإنسان؛ ذلك إذا كان لتلك الحالات آخر.

وبرغم التباين الحاد الذي تختلف به تلك الحالات بعضها عن بعض، تراني أصر، ويصر معي الناس على أني شخص «واحد»؛ فمن أين جاءنا هذا الزعم بالوحدانية مع أننا أمام كثرة لا حصر لمفرداتها؟ الجواب عند من يأخذ بمبدأ «الهوية»، هو أن وراء تلك الحالات الكثيرة «ذاتا» واحدة منذ ولد صاحبها، وإلى أن يجيئه الأجل، بل إنها لتظل بعد الموت، حتى يوم البعث والحساب، تلك هي بداهة الرأي عند عامة الناس ومعهم فريق كبير من الفلاسفة أنفسهم الذين عنوا بهذه المسألة وحلها، لكن هنالك فلاسفة آخرين، كانوا أكثر تأثرا بروح العلم الحديث والمعاصر، لم يجدوا في أي كائن - إنسانا أو غير إنسان - إلا لحظات متعاقبة لا يربطها رباط إلا هذا التعاقب، فإذا سئل هؤلاء: وبماذا تفسرون وحدانية الشخص الواحد على امتداد سنيه وكثرة حالاته؟ أجابوا: إن تلك الوحدانية المزعومة وهم من أوهام عامة الناس.

ونسوق مثلا آخر. ربما كان أوضح بيانا للفكرة المراد توضيحها، خذ مدينة القاهرة - مثلا - إننا نطلق عليها اسما واحدا منذ أنشأها المعز لدين الله الفاطمي في القرن العاشر الميلادي، ووحدانية الاسم سرعان ما توحي بوحدانية المسمى، فنظن أن قد كان هنالك كيان واحد معين محدد اسمه القاهرة، لبث على وجه الزمان عشرة قرون! لكن هذا الكيان الواحد المزعوم يمتلئ بالبشر ملايين ملايين، وتذهب موجة بشرية لتتلوها موجة بشرية أخرى، أفرادها هم غير أفراد الموجة التي سبقتها. وتبنى البيوت ثم تنهدم ليبنى سواها، وحركة النقل والتجارة، وحالات المصالحة والمخاصمة، والتقاء الناس ثم افتراقهم ما ينفك ذلك كله قائما متتابعا، مما يجعل المدينة أشبه بخلية النحل، لا تهدأ عن الحركة فيها نحلة واحدة، ومع ذلك يحسبها «واحدة» بذاتها مستمرة الوجود بكيانها، والسؤال يتكرر أمامنا من جديد. ما الذي يوحي إلينا بوحدانية القاهرة واستمرار وجودها، مع أنها في حقيقتها ملايين الملايين من الحالات والأوضاع التي تتجاور أو تتعاقب؟ بعبارة أخرى، ما الذي يحملنا على افتراض «هوية» واحدة لتلك الكثرة الكثيرة؟ ترى هل تكون الوحدانية وحدانية «اسم» لا مسمى، ونحن لا ندري؟

وتعالوا بعد ذلك ننتقل إلى المثل الثالث الذي نسوقه عن الفكرة نفسها؛ فكرة «الهوية»، على أن هذا المثل الأخير هو هو الموضوع نفسه الذي جعلته مادة هذا المقال، وهو «مصر»؛ فما قلناه عن مدينة القاهرة نقول أضعافه عن «مصر»، بلد خاض أربع حضارات وهو الآن يخوض الحضارة الخامسة؛ فلبث نحو سبعة آلاف عام يرتدي حضارة ثم ينضوها ليرتدي أخرى، وهو هو قائم صامد، فهل يا ترى هو مجرد «الاسم» - اسم «مصر» - الذي بقي عليه الزمان، وأما حقيقة المسمى فمتغيرة متبدلة، حتى ليتعذر أن نعدها حقيقة واحدة لها هويتها الواحدة واستمرارية وجودها؟

جوابي هو «لا»، أقولها بأعلى صوتي، وأكتبها بأضخم الحرف؛ فالمصري القديم ما يزال هو نفسه المصري الجديد؛ لأن مصر اليوم لم تزل هي مصر التي كانت منذ آلاف السنين، ولكن كيف؟

إنك إذا وجدت مجموعة معينة محددة من الروابط والعلاقات، ذات تركيب واحد، تتكرر مرة ومرة ومائة مرة وألف مرة وألف ألف، فلك الحق كله في أن تقول إنها حقيقة واحدة من حيث جوهرها، حتى لو تعددت تلك الحقيقة في ألف حالة، ألست تقول - مثلا - إن الشاعر المتنبي هو هو بذاته في كل قصيدة من قصائد ديوانه؟ إنك تعلم أنها قصائد مختلفة المحتوى، هذه تمدح وتلك تهجر، لكن الطريقة واحدة؛ أي إن شبكة العلاقات التي تربط اللفظ بعضه ببعض هي من طراز واحد، ولهذا تراك لا تتردد في أن تنسبها لشاعر واحد.

وهكذا المصري في تاريخه الطويل وقد أخذ خلال ذلك التاريخ يخلع ثوبا حضاريا ليلبس ثوبا حضاريا آخر، لكن «طريقته» واحدة، نظرته إلى الكون وإلى الإنسان وإلى أحداث الحياة واحدة؛ ولذلك فالمصري متعدد في ألوف الملايين من الأفراد، إلا أنهم أفراد لقصائد الديوان الواحد، نظمه شاعر واحد. - لا، لا (هكذا يعترضني صديقي كلما حدثته حديثا كهذا) بالله لا تغمرنك موجة اللغة وبيانها، فتصبغ علينا واقع الأمر على حقيقته. - ليست هي اللغة وبيانها يا صديقي، إنما هي الحقيقة التي ننشدها، وسأضع بين يديك جانبا واحدا من تركيبة العلاقات، التي قلت لك إنها إذا تشابهت في عدة أفراد، كان هؤلاء الأفراد صورا من حقيقة واحدة مهما تباينوا بعد ذلك فردا فردا، وأعني الوقفة الدينية التي وقفها المصري منذ بداية شوطه الحضاري بكل مراحله، ولست أقصد بالوقفة الدينية في هذا السياق من الحديث عقيدة بعينها، أو مجموعة بذاتها من شعائر العبادة، وإلا فقد اختلفت العقائد والشعائر باختلاف الحضارات التي تعاقبت علينا، بل المقصود هنا من الوقفة الدينية، هو تلك النظرة الكونية التي تأبى أن تقيد نفسها بحدود الواقع المحسوس، وترى من الضروري المحتوم أن توسع من أفقها حتى يكون لهذا الكون «قبل» و«بعد».

ولهذه النظرة التي تجعل للكون «ما وراء»، يؤمن به القلب ولو لم تشهده أبصار وتدركه أسماع، أقول إن لهذه النظرة الماورائية إلى الكون أهميتها البالغة في صياغة الشخصية المصرية؛ لأن من شأنها أن تجعل الإنسان هدفا بعيدا وراء الأهداف القريبة، وهو الهدف الذي على أساسه تقام معايير الصواب والخطأ في أفعال الناس؛ فليس مدار الصواب والخطأ عند المصري هو مقدار النفع المباشر، بل مداره هو مدى الاستجابة لأوامر السماء، فحتى لو كان تنفيذ الأمر في هذه الحالة يعود على صاحبه بضرر عاجل، فهو مع ذلك يؤديه لأنه هو الفعل الذي يوزن يوم الحساب، فإذا رسخت في نفوس الناس عقيدة كهذه، وجدنا كل ناشط بأي ضرب من ضروب العمل، يجيد ما يؤديه، إجادة يبذل فيها كل جهد مستطاع، إنه يجيد للجودة في ذاتها، سواء أجاءت بالجزاء الوفاق هنا على هذه الأرض أم لم تجئ؛ ففكرة النجاح في الحياة العملية، التي أقامتها ثقافات شعوب غير شعبنا، على مقدار الكسب الناتج، أو الزيادة في قوة المنصب أو الجاه أو النفوذ، لم تكن هي فكرة النجاح كما تصورها المصري الأصيل؛ إذ كان ذلك المصري يقيس مدى نجاحه بمدى تحقيقه للجودة في صنعته، كائنة ما كانت تلك الصنعة، من رجل العلم إلى صاحب الفن، ثم إلى الصانع بحفر الحجر أو المعدن، أو يقيم الهياكل والمعابد، ويزخرف الجدر، ولولا هذه «الصوفية» في العمل، لما زخرت مصر بما زخرت به من آثار أسلافنا، التي ملأت متاحفنا ومتاحف الدنيا معنا، وملأت الساحات وخزائن الكتب.

وإن هذا الدأب الممتزج بشيء من العبادة، ما نزال نرى منه بقية في الفلاح المصري تجاه أرضه؛ فهو يفلحها ويحنو عليها في آن معا، وهو لا يعرف لساعات العمل حدودا يقف عندها، بل الذي يحدد له متى يعمل، وكيف يعمل، هو أرضه، التي يحبها. ويريد لها أغزر الحصاد وأجوده، ليزهي بين الناس بحبيبته أكثر منه ليزيد من دخله.

وكذلك ما نزال نرى لهذا الدأب العابد الزاهد، بقية في المرأة المصرية من حيث هي راعية لبيتها. كنت والله أعجب لأمي - عليها رحمة الله - كيف تفني ذاتها إفناء، لا تريد لنفسها، ولو مرة واحدة، جزاء! وإن شئت فانظر إلى المرأة الريفية تصحو قبل أن يؤذن لصلاة الفجر، لكي لا يستريح جنبها على مضجع طول النهار وبعض ساعات الليل، وبقية قليلة أخرى من ذلك الإخلاص للعمل في ذاته ما نزال نراها في قلة من الحرفيين.

لكن طارئا جديدا طرأ على تلك «الصوفية» في أداء العمل، في المرحلة الأخيرة من حياتنا، وبصفة خاصة على أصحاب «الوظائف»، كبيرها وصغيرها، وعلى أصحاب المهن والحرف، فكأنما قد أصبح المبدأ عند هؤلاء جميعا هو «الكلفتة» و«الهلضمة» و«الفهلوة» ليحصل الواحد منهم على أكبر عائد ممكن، بأقل جهد مبذول.

ولن أقف هنا لأحلل الأسباب، وحسبي أنها حقيقة واقعة، وهذه الحقيقة الواقعة هي التي جعلتنا ندرك انحرافا من المصري عن طبيعته التي وضعناها؛ ومن هنا جاءت الصيحة بأن يعاد بناء المصري ليعود سيرته الأولى.

أدركنا انحراف طائفة من المصريين عن جوهر المصري الأصيل، ولو لم يكن له هذا الجوهر الأصيل لما أدركنا انحرافا، وما جوهره ذلك إلا نمط من العلاقات بينه وبين الأشياء، يهتدي فيه بمثل أعلى ذكرناه لك فيما أسلفناه، ولقد اكتفينا بذكر جانب واحد من طبيعته، هو صوفيته في أداء عمله صوفية زاهدة، ولا تقل لي إن الإخلاص في العمل معروف في شعوب أخرى كثيرة؛ لأن ذلك عندهم إخلاص مأجور، يدور مع الأجر وجودا وعدما، وكثرة وقلة، وأما إخلاص المصري الذي ميزه فهو الإخلاص الذي كان يبتغي الإجادة أولا والأجر ثانيا.

ألم أقل لك إن المصري والمصري ثم المصري، في قديمه وفي جديده، إن هم إلا أبيات من قصيدة واحدة صيغت على وزن واحد وروي واحد وإن اختلفت معانيها، أو هم كالقصائد الكثيرة في ديوان صاغه شاعر واحد.

اللغة الواحدة

كنت كلما جاء شهر رمضان، أو كلما وردت صورته إلى ذهني في غير موعده، أدركت له معنى لا أذكر أني قرأته لأحد من الألوف الذين يكتبون عن ذلك الشهر المعظم، وعن فضائله لجماعة المسلمين، وأما هذا المعنى الذي أشرت إليه فهو أن الناس خلال هذا الشهر يتكلمون لغة اجتماعية واحدة، وبالتالي فهم يعيشون جميعا ثقافة واحدة، فيبلغون من الاتحاد ذروته.

إنها لغة اجتماعية واحدة تلك التي يلتقي عندها الصائمون، بل والأكثرية العظمى من غير الصائمين؛ فللطعام عندهم موعد واحد، بل وصنوف ذلك الطعام تقع كلها في باب واحد، وإن تفاوت الناس بعد ذلك في عدد الصنوف وفي جودة خاماتها وجودة صنعها، وتستطيع أن تدرك شيئا مما أعنيه إذا قارنت بين أسرتين: إحداهما درجت على أن يلتقي أفرادها جميعا على مائدة واحدة وفي موعد واحد، وعلى صنوف مشتركة، كلما كان إفطار أو غداء أو عشاء؛ وأما الأسرة الأخرى فلكل من أفرادها موعده ومزاجه، ولقد رأيت نماذج من الأولى ونماذج من الثانية، فكنت أرى جماعة سليمة البناء في الحالة الأولى، وجماعة مفككة الأوصال في الحالة الثانية؛ الأولى تتكلم لغة واحدة، والثانية خليط من الأصوات وكأنها الجماعات المتفرقة في برج بابل.

إننا لا نقول شيئا جديدا، إذا قلنا إن وحدة اللغة بين أبناء الوطن الواحد هي من أقوى الروابط التي تعمل على شعور الفرد بأنه واحد من هؤلاء الأبناء، وليست هي بالقليلة تلك الحالات التي عاد إلينا فيها بعض أبنائنا من بلد أجنبي أقاموا فيه للدراسة أو للعمل، ثم عادوا وفي ألسنتهم عوج ، فلم يكن من أفراد الشعب هنا إلا أن ينظروا إليهم بأعين عاتبة ، وكأنما يقولون لهم لستم منا حتى تعود ألسنتكم إلى استقامتها.

لا، لسنا نقول بذلك جديدا، لكن الذي أشعر بأنه جديد على أسماعنا، هو أن اللغة بمعناها المألوف، تقوم إلى جانبها عدة لغات «اجتماعية» ليست أقل منها أثرا - بل أعتقد في أنها تزيد عليها أثرا - من حيث العمل على ربط المواطنين جميعا برباط واحد، أو قل: ربط المواطنين جميعا بوجدان مشترك.

وإنما قصدت بتلك اللغات، لغة الطعام، ولغة الثياب، ولغة العادات، ولغة المساكن، ولغة الأثاث، وغيرها، ولست أسوق القول هنا على سبيل المجاز، بل إني أسوقه على وجه يدنو من الحقيقة؛ فكل ما تجده من خصائص اللغة في ربطها للأفراد على وجدان مشترك وثقافة مشتركة وفكر مشترك تجده كذلك في مجموعة اللغات «الاجتماعية» التي أسلفت لك أمثلة منها.

أليست اللغة بمعناها المألوف، مكونة من مفردات، ثم من طرق نربط بها تلك المفردات في جمل؟ إن أبناء اللغة المعينة، إذ هم يحصلون من محيطهم الاجتماعي، مفردات تلك اللغة وطرائق تركيبها، ونبرات النطق بها، ينتهي بهم الأمر إلى أن تصبح تلك الأمور وكأنها جزء من فطرتهم التي ولدوا بها، وإنك لترى الواحد منهم بعد ذلك قادرا على أن يميز الغريب من هفوة صغيرة في طريقة استعماله للألفاظ، أو في طرق تركيبها، أو في نبرة الصوت عند النطق بها.

وهذا هو نفسه ما تجده في سائر اللغات الاجتماعية التي حدثتك عنها، خذ - مثلا - جانب الطعام، فله مفردات من خبز وفول وأرز ولحم ... إلخ، ثم لهذه المفردات «أجرومية» خاصة، ينشأ عليها أفراد الشعب، بمعنى أنه لا يصعب على أي فرد فيه، معرفة «الأصناف» التي قد تجتمع معا في وجبة واحدة، والأصناف التي يجوز لها أن تجتمع، وليست الشعوب في ذلك سواء؛ فلا المفردات هي نفسها المفردات دائما، ولا «أجرومية» التركيب هي هي بذاتها عندنا وعند الآخرين، وكم من مصري ذهب إلى أمريكا، فأزعجه أن توضع «المربى» في الأرز، أو في السلطة، وأن يؤكل البطيخ بالملح، وعبثا يحاول بعضهم أن يصحح بعضهم الآخر، بأن يلفت انتباهه إلى أنه إذا كان الأمريكي يضع المربى في الأرز، فنحن نضع الزبيب الحلو في الأرز، ولا فرق بين الحالتين، وأنه إذا كان الأمريكي يأكل البطيخ بالملح، فنحن نأكله بالجبن، ولا فرق أيضا بين الحالتين، لكن «المنزعج» يصر على انزعاجه؛ لأن مفردات اللغة قد تغيرت، وتغيرت كذلك أجرومية التركيب.

ولننتقل إلى لغة اجتماعية أخرى، هي لغة الثياب؛ فهنا كذلك نجد ما وجدناه في أصناف الطعام من اشتمالها على الأركان الأساسية التي تقام عليها اللغة، وأعني: مفردات، ثم أجرومية خاصة في التركيب، وستلحظ هنا أن أبناء مصر في مرحلتهم التاريخية الأخيرة قد تعددت فيهم «اللهجات» في الملابس، وبمقدار ذلك التعدد وهنت بينهم الرابطة الوجدانية المشتركة، وإني لأستخدم كلمة «اللهجات» في هذا السياق متعمدا؛ لأؤكد الشبه القائم بين لغة الألفاظ ولغة الثياب؛ فمتى تكون «اللهجة» في اللغة لهجة فقط، وليست لغة أخرى؟ الجواب هو أن أصحاب اللهجات المختلفة إذا فهم بعضهم عن بعض، كانت لهجاتهم مجرد صور اختلفت للغة واحدة، وأما إذا تعذر التفاهم بين أصحاب لهجتين، فهما إذن لغتان مختلفتان.

وهكذا الأمر في «اللهجات» الثيابية بين أبناء الشعب المصري؛ فهنالك تشكيلات لا تكاد تقع تحت الحصر، ومع ذلك فهي جميعا في أعين المصريين كالجمل المختلفة التي تتبع أجرومية واحدة، وإذا ما شذ شاذ عن تلك الأجرومية العامة، بدا غريبا، ووجب عليه أمام العرف العام أن يرتد إلى الصواب؛ فالطاقية - مثلا - تكون مع الجلباب، لكنها لا تكون مع الجبة والقفطان، على أن المجتمع قد يتفق على انكسار الأجرومية العامة، في بعض المواقف الخاصة؛ ففي تركيب مفردات الطعام في شهر رمضان، خروج على المألوف، لكنه خروج متفق عليه، كأن يوضع الفول مع أصناف الدرجة الأولى، وهكذا الحال في الثياب، فيجوز على شاطئ البحر ما لا يجوز في أوجه الحياة المعتادة.

وننتقل إلى مثل ثالث بعد الطعام والثياب، وهو مثل نشير به إلى قطع الأثاث والطريقة التي نركب بها من تلك القطع «جملا » ذات أجرومية خاصة، وأفضل موقف تدرس من خلاله لغتنا الأثاثية، هو موقف العروس المصرية وأهلها عندما يؤثثون للزواج الجديد مسكنا؛ فها هنا ترى الأمر وكأنه قصيدة من الشعر محفوظة عن ظهر قلب، بحيث لا يخطئ الحافظ عند تسميع محفوظاته، لا في الكبيرة ولا في الصغيرة؛ فالبيت مؤلف من كذا غرفة وصالة ومطبخ، ولكل شبر من هذه الأقسام قطع خاصة، إما أن تجيء كما ألف الناس، وتوضع بالطريقة التي ألف الناس، وإما أن تكون الدنيا قد انقلبت رأسها على العقبين، ولقد أضيفت إلى هذه اللغة الأثاثية إضافات بدأت معنا كالهوامش على صفحات الكتاب، ثم لم تلبث أن انقلبت إلى «المتن» لتكون جزءا منه؛ ومن قبيل هذه الإضافات: أي القطع تلتزم به العروس، وأيها يلتزم به العريس؟ وتراهم إذا اختلفوا عند نقطة، رجعوا إلى أهل الخبرة يسألون: على من يقع النجف؟ ومن المسئول عن الفرن والثلاجة؟ يسألون عن ذلك وكأنهم يسألون فقهاء القانون عن تفسير مادة في القانون المدني.

أخشى أن تكون نغمة الحديث في الفقرة السابقة موحية بأنني ساخر من هذه اللغة الواحدة التي تجمع بين الناس؛ لأنني قد أسخر من هذا الجمود الشكلي عند أبنائنا وبناتنا عند إقامة حياة زوجية جديدة، لكنني لا أسخر قط من وحدانية اللغة الاجتماعية في ذاتها؛ أي إنني أتمنى أن تسود بيننا في تأثيث البيوت أجرومية معينة تنم عن الذوق المشترك، غير أني أتمنى كذلك أن تتبدل الأجرومية الراهنة بأجرومية أخرى تتفق مع ظروف الحياة الحديثة.

لا، لست أسخر بأدنى معاني السخرية من أن يتوحد شعبنا في هذه اللغات الاجتماعية على تنوعها؛ لأن مثل هذا التوحد هو عندي في صميم الوجدان الشعبي عندما يكون واحدا بين الجميع، وخاصة في المواقف التي قيل عنها إنها أهم لحظات الحياة عند الإنسان بصفة عامة، وهي المواقف التي لخصوها في ثلاثة: الميلاد، والزواج (أي بناء الأسرة)، والموت، فإذا أردت أن تعلم إلى أي حد يتحد الوجدان عند شعب معين، فانظر إلى مدى التشابه في ردود أفعال الأفراد عند هذه الأحداث.

أردت أن أقول بهذا الذي أسلفته، إن الذي جعل مصر هي ما هي، وأكسبها استمرارية في وجودها، وتميزا في شخصيتها، هو التفاهم بين أبنائها بلغة واحدة في كثير جدا من جوانب الحياة، لكننا بنفس المعيار نزعم أن مصر قد فقدت شيئا من صلابة الروابط الوجدانية الموحدة التي تجانس بين أبنائها في الشعور وفي وجهة النظر، ولماذا فقدت مصر ما فقدته في هذا السبيل؟ جوابي هو أنها منذ اصطدمت بالحضارة العصرية، تمزقت جبهتها وتناثرت جماعات جماعات داخل الشعب الواحد، وإنك لتدرك ذلك بصفة خاصة في المجال الثقافي، الذي يدخل فيه «الذوق» الفني بكل أبعاده: أي الموسيقى تفضل؟ أي ضرب من الفنون التشكيلية (التصوير والنحت) ينبغي أن يستهوي وجداننا؟ هل نظل على صورة الشعر العربي القديم أو يكون لنا في الشعر رأي آخر، ثم ما هو أخطر من ذلك: كيف نفرح في مواقف الفرح، وكيف نحزن في مواقف الحزن؟ كيف نستقبل الضيف وكيف نكرمه؟ ماذا يجوز لبسه وماذا لا يجوز؟ ثم ما هو أخطر من الأخطر إلى أي حد يسمح للولد أن يستقل عن أبيه؟ وإلى أي مدى نريد للمرأة أن تتساوى حقوقها مع حقوق الرجل؟ وعلى أي صورة يكون موقف المحكوم من حاكمه؟ وهكذا وهكذا.

لم يعد جوابنا واحدا عن هذه الأسئلة وأمثالها؛ أي إنه لم تعد لنا فلسفة حياتية واحدة، وما يتشبث به هذا، يكون هو نفسه موضع السخرية عند ذلك.

ويسألوننا: كيف تعاد للمصري شخصيته المتماسكة التي عرفها فيه التاريخ؟ والجواب هو أن نعيد بين المصريين وحدانية اللغة - بمعناها اللفظي وبمعناها الاجتماعي - فيعود إليه بذلك وجدانه المشترك، وليكن مفهوما أن المسألة في عملية الإحياء ليست إعادة «مضمون» قديم كما كان بحذافيره، بل هي إعادة «الاتفاق» - عن طريق أساس تربوي مشترك - على وجهة نظر واحدة.

خطاب إلى ولدي

ذكرتك يا ولدي ليلة أمس، حين جلست وحدي وأوقدت شمعة لترمز أمامي لخمسين عاما قضيتها كاتبا؛ فلقد نشرت لي مقالتي الأولى في مجلة السياسة الأسبوعية في مثل هذا الوقت من سنة 1928م، وها هي ذي مقالتي الأخيرة أنشرها بجريدة الأهرام بعد نصف قرن كامل ، كانت الأولى عن بعض الأغنيات التي شاعت عندئذ فشاعت بها موجة من التحلل، ولقد أردت لهذه الأخيرة أن تكون خطابا إليك، والله وحده أعلم يا ولدي بما أنفقت من جهد بين تلك الأولى وهذه الأخيرة.

كنت عند المقالة الأولى ذا عينين وأذنين فلم يبق لي عند المقالة الأخيرة إلا جزء من عين وجزء من أذن، وبات ما يربطني بالعالم من حولي خيوط متقطعة من الضوء وأسلاك متهتكة من الصوت، ولولا حصيلة غزيرة اختزنتها مع الزمن لعشت اليوم في داخل من خواء وخارج من هواء، ولقد ذكرتك يا ولدي والشمعة موقدة أمامي، أنا المحتفل (بكسر الفاء) وأنا المحتفل به، فيما يسمونه باليوبيل الذهبي.

وإني لأعلم يا ولدي أنك - مثل أوزيريس - موجود في كل ركن من أركان الوادي، فإذا خاطبتك فكأنما أخاطب جيلا بأسره.

أتدري ماذا كان أول خاطر خطر لي عندما اتجهت ببصري نحو الشمعة الموقدة؟ كان خاطرا مشحونا بالسخرية من غفلتي، ما دمت قد أنفقت في عالم الكتابة خمسين عاما ولم أتعلم ألف باء هذا العالم السحري العجيب؛ وذلك أني لبثت تلك الأعوام الطوال على ظن مني أن أسماء المجاهدين «تلمع» من تلقاء نفسها، بما في طبيعتها من جوهر مضيء، وإذا بي أسمع متحدثا منذ أيام قلائل، يحدثني عن «تلميع» الأسماء في دنيا الفكر والعلم والفن والأدب! واستعدت المتحدث ما يقول لأستيقن مما أسمعه، فأعاد على سمعي لفظة «التلميع» مرة أخرى، ولقد أعادها هذه المرة بنطق بطيء ليصبها في أذني حرفا حرفا. وإذن فلم تعد الأسماء تلمع بذواتها لضوء في طبيعتها، كما عهدناها، أو كما توهمت أننا عهدناها، وإنما هي اليوم من مادة الصفيح الذي يعلوه الصدأ، لا بد له من «تلميع» يأتيه من خارج طبيعته، ما دام باطنها لا يبعث من الضياء شيئا. - وكيف يكون هذا التلميع يا أخي؟

هكذا سألت محدثي.

فأجابني بأن للتلميع طرقا عديدة تستطيع أن تتعقبها - إذا شئت - في حياتنا المنشورة على الورق، وهو في كل أشكاله ضرب من تبادل المنفعة، تماما كما يحدث في الأسواق والمصارف. المسألة عندهم حسابها بسيط؛ فليست هي بالعمق الذي ظنه ديكارت حين زعم لنفسه أنه موجود ما دام يفكر؟ كلا؛ لأن الوجود في يومنا مرهون بمقدار ما يتردد في أسماع الناس اسم الموجود؛ أي إن المبدأ اليوم هو هذا: اسمي يتردد ذكره فأنا موجود، وإذا بدأت سيرك من هذا المبدأ البسيط انبسط أمامك الطريق؛ لأن عملية التبادل تصبح واضحة المعالم؛ فما عليك سوى أن تعطي القائمين على النشر شيئا مما عندك ليبادلوك به شيئا مما عندهم، وإذا تيسر هذا فلماذا تشقي نفسك بمقالة تكتبها، أو تسهر لياليك على كتاب؟ إن القائمين على النشر قادرون على ذكر اسمك بحساب وبغير حساب، فيتحقق لك الوجود الذي تريد.

هذا هو شيء من فن «التلميع» - يا ولدي - فهل تصدق أن أباك قد أقام في دنيا القلم خمسين عاما، دون أن يسمع بهذا الفن العجيب إلا منذ أيام؟ ولكني أعلم فيك الكد والكدح يا ولدي، فلا تنخدع بهذا السراب؛ لأن الأيام من شأنها أن تغربل وتغربل ما تركه الذاهبون، وغرابيلها متدرجة الثقوب؛ فهي تبدأ بغربال ضيق الثقوب بحيث يبقى للواحد منا عقب غيابه شيء كثير في ذاكرات الناس، ولا يضيع إلا القليل، خصوصا إذا كان الغائب قد ملأ الأبصار والأسماع إبان حياته، لكن الزمن بعد ذلك يمضي مسرع الخطى، وتتبدل في يده الغرابيل، بحيث ينتهي إلى غربال ثقوبه واسعة، يسقط منها الزور كله والخداع كله، ولا يبقى في الغربال إلا القليل النافع، وعندئذ يا ولدي ستنظر في غرابيل الذين عنوا في حياتهم بالتلميع لا باللمعان الطبيعي، فلا تجد مما ضجوا به في حياتهم شيئا.

لم تكن حياتنا على هذه الصورة الزائفة؛ إذ كانت الحضارة العربية في عزها؛ فلم تكن أسماء العظماء بحاجة إلى تلميع لأنها لمعت بذواتها، لم يطلب ابن سينا أو أبو العلاء أو ابن خلدون من أحد أن يتولى «تلميع» اسمه؛ لأن قلمه قد جرى بما كان يكفل له أن يلمع بطبيعته؛ ولماذا نذهب بعيدا في تاريخنا وأمامنا رعيل من الأئمة في الثلث الأول من هذا القرن، لم يدفعوا أثمانا في سبيل تلميع أسمائهم بهتانا وزورا، لكنهم لمعوا في سمائنا لمعان النجوم.

ولست أرى يا ولدي هذه الرغبة الجامحة في أيامنا الراهنة نحو «التلميع» المصطنع، إلا جزءا واحدا من موقف شامل تجاه الحياة كلها؛ فشعار الناس الآن هو هذا: «أقل جهد ممكن للحصول على أضخم كسب ممكن.» وعلى أساس هذه القاعدة نفسها، التي يريد بها الرجل أن يكون عالما بغير علم وأديبا بغير أدب ومفكرا بغير فكر؛ إذ يكفيه في سوق التبادل التي أشرنا إليها، أن ترسم الخطة المحكمة في توزيع اسمه هنا وهنا وهناك؛ فمرة تحت جملة قالها، ومرة تحت صورة، وثالثة وهو مسافر أو قادم من سفر، يكفيه هذا ليكون في بنائنا الثقافي اليوم أي شيء أراده لنفسه من علم وأدب وفكر وفن، أقول إنه على أساس هذه القاعدة نفسها طغت موجات الرشوة والاختلاس ونهب أموال الدولة بمثل ما طغت؛ لأن الدافع إليها جميعا هو الشعار نفسه، الذي يريد به صاحبه أن يبلغ القمة دون أن يمر بخطوات الصعود.

كان هذا كله في ذهني حين طالبت أكثر من مرة بأن يعاد تقويم الأسماء؛ فكما يطالب الشعب حينا بعد حين بتطبيق قانون «من أين لك هذا؟» في مجال الثراء بالمال، ينبغي أن يطالب المثقفون بتطبيق قانون مثله في مجال الثقافة، فيسأل كيف جاءت الريادة الثقافية لمن يرودها؟ أجاءته عن طريق التلميع، أم جاءته عن طريق اللمع الفطري؟

ولسنا أول من أصيب بمثل هذا الضلال، ولكنه ضلال يعاود الظهور في أي شعب إذا ما ظهرت فيه بوادر الضعف في نواحي حياته الأخرى، وأقرب مثل أسوقه لذلك هو ما حدث لعلم من أعلام الحياة الثقافية في إنجلترا اليوم، وأعني به الدكتور ليفس (وقد توفي في أبريل الماضي، 1978م)؛ فهو معروف بكتاب له مشهور عنوانه «إعادة التقويم»، تناول فيه مراجعة الإنتاج الأدبي في بلاده، ليقيم الموازين من جديد، فإذا أسماء تصعد وأسماء تهوي، وربما أخطأ «ليفس» في موازينه وربما أصاب، لكن مراجعة الموازين في حد ذاتها أمر لا مفر منه، لكثرة ما تضل الأحكام بسبب المجاملات أو غير المجاملات.

على أننا نذكر الدكتور ليفس هنا؛ لأنه عانى من الاضطهاد - وكان أستاذا للأدب الإنجليزي في جامعة كيمبردج - ما عانى، ويكفي أن نقول إن رئيس القسم الذي كان يعمل فيه، قد وقف له بالمرصاد، وأيده في وقفته الظالمة كل من أراد عنده نفعا، بما في ذلك الناشرون وأصحاب المكتبات، ويكفي في ذلك أن نذكر بأن الدكتور ليفس كان يصدر مجلة في النقد الأدبي لمدة عشرين عاما، يمكن ترجمة عنوانها بعبارة «الفاحص الأدبي»، فكان رئيسه - واسمه «تليارد» - يطلب من المكتبات ألا تعرضها، ومن الطلاب ألا يقرءوها، مع أنها كانت، بغير شك، من أعمق ما صدر على الإطلاق في النقد الأدبي، ولكن ليفس أخذ يصعد الجبل بجهده الجبار، صعودا بطيئا بطيئا، حتى لقد كان يستغرق السنوات في كل نقلة ينتقلها في طريق الصعود، ثم أصبح ما أصبح فيه من شهرة نالها بالجهد الذي لم ينقطع.

أقول لك ذلك - يا ولدي - حتى لا تظن بأن الخبث قد اختص إقليما دون إقليم، والمسألة بعد ذلك درجات، وثق أن الباقيات دائما هن الصالحات، إنني لمؤمن أشد الإيمان بقدراتنا لو أخلصنا النفوس للعمل، وإذا كانت حياتنا الثقافية قد انهارت كل هذا الانهيار الذي نراه، فليس ذلك لأن القدرة قد أصابها شلل، بل لأن الشعار الفاسد الذي أشرت لك إليه منذ حين، قد ساد وطغى، وأعني به الشعار الذي يدعو إلى «بذل الجهد الأقل للحصول على العائد الأكبر»، فمن ذا يغيرنا نحو الأفضل إلا جيل جديد يستأنف إخلاص الأقدمين؟ لقد ملأتني حسرة عندما قرأت لأحد المؤلفين الأجانب (وقد كان يمكن أن يكون من ألد أعدائنا) تحليلا مستفيضا عن الفكر العربي، فما وسعه إلا أن يشيد بمجهود أسلافنا في عالم الثقافية، وأخذ يذكر لهم المعجزات، ثم عقب على ذلك بحديث عنا، نحن العرب المعاصرين؛ فبعد أن استعرض جهودنا العلمية والأدبية والفنية ، انتهى به الرأي إلى أننا ما زلنا على قدرة أسلافنا، لكنها قدرة - في رأيه - قد أفسدتها علينا ضروب من الخيانة العقلية؛ فمن مظهرية جوفاء كاذبة تفوت علينا المضمون الثقافي الصحيح، إلى حب للتسلط قبل حبنا للحياة الفكرية في ذاتها، مما دعا بعضنا - نحن المثقفين - أن يتشبه في سلوكه بأصحاب المناصب الحاكمة، فأراد أن تكون له حاشية من الأتباع ينفخون له في أبواق الصحف وغير الصحف، نفخا يعطيه الصولجان وهو متكئ على الأرائك.

ذكرتك يا ولدي ليلة أمس، وشمعة اليوبيل الذهبي موقدة أمامي، فذكرت كم باتت ثقالا على كتفيك الهموم؛ لأن الخيانة الفكرية قد ولدت فينا خيانة، وهذه الثانية ولدت ثالثة، حتى أصبحنا لا ندري في تلك الحياة الفكرية كلها أين الرعاة وأين الغنم، فأردت أن أوجه إليك هذا الخطاب لئلا يخدعك زيف الخيانة عن الحد الذي يدوم، فهو عند الله وعند الناس خير وأبقى.

Unknown page