وكانت الفرصة مواتية بعد إجماع الجمهور على تأييد ثورة 1952 ودعوتها إلى عدالة اجتماعية، لكننا لم نلبث على اتفاقنا إلا قليلا، ثم أخذنا نتفرق غايات مختلفة، إذ فسرت العدالة الاجتماعية تفسيرات تناقض بعضها مع بعض تناقضا لم يبق من الغاية المشتركة إلا الصيغة اللفظية التي سميت بها، وكيف نتفق وبعضنا يريد أن يعيد الماضي ليكون هو الحاضر أيضا، وكأنه لم يكن هنالك امتداد زمني بيننا وبينه، وبعضنا الآخر يريد أن نترجم أرواحنا ترجمة كاملة إلى صور ثقافية غريبة ليست منا ولسنا منها. على أن ما هو أهم من هذا كله أن روح الوحدة الغائبة بين أفراد الأمة لم تترك لتمليها علينا ظروف التاريخ، فيجري المبدعون في إبداعهم طواعية وفق ما أرادت لهم المرحلة التاريخية أن يسيروا، بل نزلت بها أوامر وقرارات من أصحاب السلطان.
نعم إن الفرصة كانت مواتية لولادة ثقافة حركية تتلاءم مع طموح الأمة في أن تنفض عن نفسها غبار الركود وبلادة الوخم كي تنهض مع الناهضين فتشارك في بناء عصرها مع سائر البناة؛ وذلك أولا: أن تبلورت لها «الغاية» التي تستحق أن تتحرك نحوها إرادة البعث والتجديد، وثانيا: بأن أقيمت لنا أجهزة تعين على النشاط الثقافي؛ فأنشئت وزارة للثقافة، ووزارة للإعلام، ومجلس أعلى للثقافة، أطلق عليه عند نشأته اسم «المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب» وبعد قليل أضيفت العلوم الاجتماعية إلى الفنون والآداب، وفيما بعد أصبح الاسم «المجلس الأعلى للثقافة» ثم أقيمت أكاديمية للعلوم والبحث العلمي وأكاديمية للفنون وأقيمت مجالس قومية متخصصة، كان للتعليم والبحث العلمي والثقافة والإعلام والفنون نصيبها الضخم في جهودها، فكان يمكن لتلك الأجهزة كلها أن تفعل فعلها في توحيد «الغاية» التي تستقطب مبدعات المبدعين واستعدادات المتلقين استقطابا يجعل من الحركة كلها موكبا يعرف لماذا أقيم وإلى أين يتجه، ولكن الأمر الواقع هو أن زاوية التفرق في الغايات ووجهات النظر قد ازدادت انفراجا، وأسوأ من انفراجها أن ركنت بعض التيارات المتعارضة إلى أخذ خصومها بالتهديد والإرهاب.
ولما كانت السيئة تلد السيئة، فقد تولد لنا عن روح الفرقة الثقافية ما هو أسوأ منها، إلا وهو تميع معنى الثقافة بين الرواد أنفسهم، فما بالك بالأتباع، وأعني أن الجسم الثقافي نفسه قد اختلف على طبيعته؛ فما هو «ثقافة» عند هذا، هو غثاثة وتفاهة عند ذاك، نعم إن «الثقافة» اسم أطلق ويطلق على عناصر متباينة متباعدة على نحو يثير الحيرة أين يقع اللقاء بين هذه المتباينات المتباعدات بحيث تستحق أن يطلق عليها اسم واحد يضمها جميعا في أسرة واحدة، فاختلفت في طبيعتها الآراء اختلافا بعيدا، لكننا برغم هذا كله نستطيع من واقع ما حفظه لنا التاريخ على أنه من عناصر المركبات الثقافية في العصور المختلفة أن نخلص إلى خصائص نطمئن إليها، فناتج الفاعلية الثقافية لا يؤكل ولا يشرب ... لكنه هو الذي تنسج من خيوطه إنسانية الإنسان، وتميز الفرد أو الشعب من سائر الأفراد أو الشعوب، إنك لا تأكل المعزوفة الموسيقية ولا ترتدي ثوبا من قصيدة الشعر، ولا تشرب ماءك من لوحة الفنان، إنك تذهب إلى المسرح أو إلى السينما لتشهد رواية تدفع ثمنا لما شاهدته ولا يعطونك لقاء مالك المدفوع إلا كلاما ومشاهدة، فماذا - إذن - يأخذ المتلقي من النواتج الثقافية مما يراه جديرا بالمال يدفعه أو بالوقت يقضيه؟ إن ما هو ضرورات مادية لحياة الإنسان لا يحتاج إلى توصية من أحد برعايته؛ لأن ضرورته تلزم الإنسان إلزاما بأن يرعاه، وأما الذي قد يبدو ترفا لا تحتمه الضرورة - كالمبدعات في الفن والأدب - فهي التي تحتاج إلى لفت أنظار الغافلين. إن الإنسان إذ يحيا حياته العملية، عاملا أو زارعا أو تاجرا أو قاضيا أو طبيبا أو ما شئت من طرق العيش، فإنما يحيا بما تقتضيه الحرفة أو المهنة أو الطعام والثياب والمسكن ووسائل المواصلات، ومن ذلك كله تقام الحياة العملية من كل وجوهها، فتأتي جماعة موهوبة بقدرات مختلفة لا يكتفي أفرادها بأن يحيوا حياتهم الضرورية كسائر عباد الله، بل تدفعهم مواهبهم إلى ترجمة تلك الحياة ذاتها ترجمات تختلف باختلاف المواهب، فهذا يترجمها إلى أنغام وهذا يترجمها إلى كلمات نظمت شعرا، وثالث يجريها ألوانا وخطوطا، ورابع يبثها في رواية أو في مسرحية يصنعها خياله ... فإذا اجتمعت هذه المبدعات كلها، وما يجري مجراها في صلته بالحياة الإنسانية كما ينشط بها أصحابها، أقول: إذا اجتمعت هذه العناصر كلها ونفذت في أحشائها أشعة «الناقد» المبصر البصير، فوجد فيها روحا واحدة تسري في جنباتها سريان الدماء في الجسم الحي كانت هي «الثقافة» الناتجة ليتلقاها من يتلقاها.
س سؤال:
ولماذا يتلقاها خيالا، بعد أن عاشها هو بنفسه لحما ودما؟
ج جواب:
لأنه يريد أن يرى نفسه مصورة بطريقة أخرى، فيراها شارحة مشروحة ليخرج وقد تحركت فيه «الإرادة» لأن يقوم من نفسه عوجها أو ليبقي على ما يستحق البقاء، واختصارا فإن المتلقي لمبدعات الثقافة إنما يتلقى ما يصنع له «الضمير»، فهل أنجزت لنا أوجه النشاط الثقافي، بكل مواهبها وأجهزتها من وزارات ومجالس عليا ولجان، ما ينشئ فينا الضمير القومي الحي ويهديه؟
إرادة التغيير «3»
كان صاحبنا خلال أعوام الخمسينيات وما بعدها، واحدا من آلاف المواطنين الذين اشتدت بهم الرغبة في أن تتغير عندنا الرؤية الحضارية، بحيث تنغرس في الهوية المصرية العربية تلك العناصر التي استحدثت في الغرب إبان القرنين الأخيرين، فجعلت لعصرنا هذا ملامحه الخاصة التي تميز بها دون سائر ما سبقه من عصور، ولم تكن هذه الرغبة مستنكرة من أحد على المستوى العملي في حياة الناس الجارية، بمعنى أن الثمرات التي أنتجتها حضارة العلم الجديد - والعلم الجديد هو ما انتهج في أبحاثه منهج الأجهزة العملية ما وجد إليها سبيلا؛ لما تكفله تلك الأجهزة من دقة عند حساب الجوانب الكمية من الظواهر الطبيعية، ومن توسيع لآفاق المشاهدة وإجراء التجارب، ليرى الباحث العلمي من خفايا الظواهر الطبيعية الموضوعة تحت البحث، ما لم يكن يراه بغير تلك الأجهزة - أقول: إن الثمرات التي أنتجتها حضارة العلم الجديد، لم يكن بين عامة الناس ودع عنك خاصتهم من يستنكرها، وإلا فأين هو ذلك الفرد الواحد من أفراد الجمهور العريض، الذي يرفض أن يطبب بأجهزة الطب الجديد إذا مرض؟ أو الذي يرفض أن ينزل ساحة القتال في حروبه مع العدو، غير مسلح بأحدث ما أنتجه العلم الجديد؟ أين هو الفرد الواحد الذي يستنكر أن تقام على أرضنا صناعة من الطراز الحديث، الذي لا يتحقق إلا بمكينات ومعدات وأساليب ابتدعها العلم الجديد؟ وحتى إذا نحن جاوزنا ميدان التقنية بصوره المتعددة، وألقينا نظرة على «النظم» الاجتماعية في كثير جدا من أوضاعها، وجدنا للفكر الجديد موقعا منها لا يوجد بين الناس من يستنكره، فمن ذا يستنكر قيام صحافة على النحو الذي نألفه؟ وإذاعة مرئية ومسموعة على الوجه الذي نمارسه؟ وإذا كان ذلك كله مرغوبا فيه، فكيف يقام بغير العلم الجديد والفكر الجديد؟ سل نفسك: كيف تريد لنا أن يكون أمرنا شورى بيننا؟ يأتيك الجواب مسرعا، بأن الصورة المرجوة هي أن ينيب أبناء الشعب ممن بلغوا الرشد من يمثلهم في مجلس أو مجالس، يناط بها النظر في تهيئة الحياة للمواطنين بقوانين أو قرارات يوصل إليها بأغلبية الأصوات على النحو الذي عرفناه ونقلنا عن أصحابه فكرته وإطاره، إنه لم يكن يكفي أن يؤذن لنا بحكم عقيدتنا وموروثنا بأن يكون الأمر بيننا شورى، إذ لا بد لتنفيذ الشورى من معرفة بطريقة التنفيذ التي تتلاءم مع المكان والزمان؛ لأن لذلك التنفيذ صورا كثيرة شهدها التاريخ وعرف أنها اختلفت من عصر إلى عصر ومن شعب إلى شعب، ولم يكن عيبا فينا أن اخترنا عن الأمم الرائدة في عصرنا ما يعيننا على رسم الصورة التي تلائمنا، وأترك للقارئ أن يدير النظر في جوانب حياتنا الاجتماعية، كنظام التعليم، ونظام ري الأرض وزرعها، وطرق العمل بتقسيمه إلى تخصصات متنوعة ليمهر كل عامل فيما يحسنه، وطرق التمتع المفيد في أوقات الفراغ، وغير ذلك مما قد لا يقع تحت حصر يحدده، أترك للقارئ أن يتدبر هذه الجوانب ليرى كم انتفعنا فيه ما نقلناه عن رواد الحضارة الجديدة في عصرنا، دون أن يرتفع صوت واحد ليستنكره، وذلك معناه أن جمهورنا قد قبل العصر عن رضا وطواعية، حتى إذا ما انتقلنا به من قطف الثمار الجاهزة، إلى دعوة ليشارك مشاركة المبتكر المبدع في زرع الشجرة التي تنتج تلك الثمار، رأيناه يتململ في ضيق وكراهية، وفي هذا الرفض - رفض العصر - على المستوى الفكري والعلمي، تكمن المشكلة العجيبة المحيرة.
كان ينبغي للحركة الثقافية في بلادنا أن تجعل سؤالها الأول الأهم، هو: كيف ننقل موقفنا من حضارة عصرنا - وهي من صنع الغرب - من الاكتفاء بقطف ثمارها، وهي ثمار أخرجتها أشجار لم نكن نحن زارعيها، إلى موقف المشاركة في زرع الأشجار منذ مرحلة البذر وحتى مرحلة الازدهار ونضج الثمار، إننا نخدع أنفسنا بإيهامها بأنها قد اضطلعت بقسطها العادل في إقامة البناء الحضاري في عصرنا الراهن، ما دمنا نعلم أبناءنا وبناتنا كل العلوم في أحدث صورها، متجاهلين أن تلك العلوم في صورتها هذه لم تكن من قرائح علمائنا، بل اشتريناها سلعة كما تشترى سائر السلع من أسواق الغرب، إذ اشترينا مؤلفاتها وأجهزتها وطرائق استخدامها ، ومن هذه السلعة المجلوبة تعلم أبناؤنا وتخرج منهم العلماء وخدعنا أنفسنا حين رأينا المصانع قد أقيمت على أرضنا، وقام على إدارتها ورعايتها مواطنونا، متناسين أن كل ما قد أقمناه من آلات المصانع، إنما كان بدوره سلعة أخرى اشتريناها كما تشترى من الأسواق سائر السلع، ومما تعلمه علماؤنا وخبراؤنا من أصحابها علما وخبرة دارت العجلات وأنتجت المصانع ما أنتجته، وهكذا قل في كثير جدا مما تتألف منه حياتنا الجديدة، وإننا في الحق لنحمد الله سبحانه أن هدانا إلى اجتلاب ما اجتلبناه من أسباب الحضارة العصرية؛ لأنه أتاح لنا أن نتقمص بقمصان زماننا، فكان لنا بذلك أن نبدو في مظهر المتحضر بحضارة عصره، ولو إلى حد مقيد بحدود، لكن ذلك الكسب على أهميته، لم يكن يجوز له أن يكون خاتمة مطافنا وكأننا قد أكملنا به الرحلة الحضارية كلها، على نحو ما فعلناه إزاء الحضارات السابقة، فبعد أن حملنا وحدنا «تقريبا» العبء الأكبر من إرساء البنيان الحضاري للبشرية جمعاء على أسس قوية من فن، وعلم، وصناعة، ونظم اجتماعية، حتى لقد أكملنا «للدولة» شكلها، أخذت الحضارات تتوالى ظهورا: عند اليونان، والرومان، ثم جاءت رسالة الإسلام ونشأت في مناخها حضارة عربية، فكانت مصر وهي تتلقى عن اليونان ثقافتهم، وعن الرومان إدارتهم، تعرف كيف تتلقى من الآخرين ما عندهم لتشارك أصحاب الحضارة في صنع الحضارة وإثرائها، حتى إذا ما جاءها الإسلام مصحوبا باللغة العربية، وأسلمت مصر وتعربت لغتها، سرعان ما أخذت مكانها في موقع الريادة، فكيف حدث - إذن - أن أصابنا كل هذا القصور تجاه حضارة عصرنا، وكانت لأول مرة تبنى على العلوم الطبيعية أساسا، بعد أن كانت الحضارات السابقة تبنى على أسس أخرى، أقول: كيف حدث أن قصرنا هذا القصور كله إزاء حضارة عصرنا، بحيث اكتفينا بلبس قميصها دون أن نضطلع بدور في ابتكار الوسائل التي عملت على غزل خيوطه ونسجها؟
Unknown page