مقدمة‏

تغريدة البجع‏

نار ونور‏

منهج جديد‏

فرار إلى مدينة الأحلام‏

سنوات التحول «1»‏

سنوات التحول «2»‏

سنوات التحول «3»‏

الصورة من بعيد‏

رؤية واضحة «1»‏

رؤية واضحة «2»‏

رؤية واضحة «3»‏

مطالع النور «1»‏

مطالع النور «2»‏

مطالع النور «3»‏

المطبوعة الزرقاء «1»‏

المطبوعة الزرقاء «2»‏

المطبوعة الزرقاء «3»‏

إرادة التغيير «1»‏

إرادة التغيير «2»‏

إرادة التغيير «3»‏

في سبيل الوضوح «1»‏

في سبيل الوضوح «2»‏

خيوط تلاقت «1»‏

خيوط تلاقت «2»‏

رؤية موحدة «1»‏

رؤية موحدة «2»‏

رؤية موحدة «3»‏

نهاية الطريق «1»‏

نهاية الطريق «2»‏

نهاية الطريق «3»‏

مقدمة‏

تغريدة البجع‏

نار ونور‏

منهج جديد‏

فرار إلى مدينة الأحلام‏

سنوات التحول «1»‏

سنوات التحول «2»‏

سنوات التحول «3»‏

الصورة من بعيد‏

رؤية واضحة «1»‏

رؤية واضحة «2»‏

رؤية واضحة «3»‏

مطالع النور «1»‏

مطالع النور «2»‏

مطالع النور «3»‏

المطبوعة الزرقاء «1»‏

المطبوعة الزرقاء «2»‏

المطبوعة الزرقاء «3»‏

إرادة التغيير «1»‏

إرادة التغيير «2»‏

إرادة التغيير «3»‏

في سبيل الوضوح «1»‏

في سبيل الوضوح «2»‏

خيوط تلاقت «1»‏

خيوط تلاقت «2»‏

رؤية موحدة «1»‏

رؤية موحدة «2»‏

رؤية موحدة «3»‏

نهاية الطريق «1»‏

نهاية الطريق «2»‏

نهاية الطريق «3»‏

حصاد السنين

حصاد السنين

تأليف

زكي نجيب محمود

مقدمة

أحس الكاتب أنه، وقد بلغ الخامسة والثمانين من عمره، وانتابته عوامل الضعف والمرض، أنه قد اقتربت سيرته الثقافية من ختامها مما أوحى له بأن يكتب هذا الكتاب؛ ليقدم به إلى قارئه صورة للحياة الثقافية كما عاشها أخذا وعطاء، وهي حياة طال أمدها حتى بلغ - عند كتابة هذه السطور - ما يزيد قليلا عن ستين عاما، بدأت قبيل سنة 1930م، وطالت حتى أوشك الزمن على الدخول في سنة 1991م، ولقد حرص الكاتب أشد الحرص على أن يصور حياته العلمية والأدبية خلال هذه الفترة الطويلة، في نزاهة يتجرد بها عن الهوى ما كان ذلك في مستطاع البشر، وسوف يرى القارئ أنه إنما يشهد الحياة الثقافية المصرية العربية في عمومها، منظورا إليها بمنظار مواطن مصري عربي، شاءت له فطرته أن يجعل تحصيل العلم وكسب الثقافة، ثم نشر ذلك العلم فيمن تولى تعليمهم في قاعات الدرس، وكذلك نشر ما قد تشربه من ثقافة فيما كتبه لينشر في جمهور القارئين، حتى بلغت صفحات الكتب التي أخرجها ما يقرب من عشرين ألف صفحة، فيها ما هو علم أكاديمي اقتضته الحياة الجامعية، وما هو أدب خالص اقتضته طبيعته التي تميل به آنا بعد آن إلى تقديم ما يريد تقديمه إلى القارئ، في تشكيل فني يلتزم ما يلزم في عملية الإبداع الأدبي، ثم ما هو أقرب إلى أن يقع بين بين، وذلك حين يعرض أفكارا تمس حياة الناس في الصميم، عرضا لا هو في صرامة البحوث الأكاديمية من جهة، ولا هو في شكل الخيال الأدبي من جهة أخرى، وسيجد القارئ فصول هذا الكتاب في معظمها من هذا الطراز الثالث.

فأول ما يصادفه من الكتاب، عنوان الفصل الأول، وهو «تغريدة البجع» وهو عنوان ينطوي على دلالة غنية بمضموناتها، فأولا هو عنوان يوحي بأن الكاتب حين هم بكتابة هذا الكتاب، كان يضمر في نفسه أنه إنما يكتب آخر ناتج له، ثم يودع القلم، بل وما هو أوسع من هذا القلم وأشمل؛ وذلك لأنه قد عرف عن البجعة أنها وهي تلفظ أواخر أنفاسها، تخرج نغمة أجمل ما تكون النغمات وقعا في آذان البشر، إنها على أرجح الظن تئن أنين الحي وهو على حافة النهاية التي ينتقل بها من الحياة إلى الموت، ولكن أبناء آدم لا يأبهون بآلام البجعة المحتضرة في أنينها، إذا وقع ذلك الأنين في آذانهم وقع الأغرودة تطربه بحلاوة أنغامها، ومن هذا المعنى الذي تحمله تغريدة البجعة في أواخر أنفاسها، أخذ الكاتب عنوان الفصل الأول من هذا الكتاب.

ولقد كان الكاتب، وهو يكتب أول فصول الكتاب الذي اعتزم أن يكون كتابه الأخير، سبقه على آماد السنين نحو خمسين كتابا، يحس فعلا بشيء من حشرجة الأنين يتردد بين جوانحه إذ شاء له ربه أن يقع له في حياته من غدر «الأصدقاء» ما اهتز له كيانه البشري اهتزازا كاد يقتلع شجرة الحياة من جذورها اقتلاعا، ولكن من يدري؟ فرب ضارة نافعة كما يقولون؛ لأن تلك الصدمة الهادمة إن تكن قد تركت وراءها أنين المتألم فهو الأنين الذي ربما كان له عند القارئ نغمة يطرب لها ويفرح.

ولم يلبث الكاتب عند هذه الذكريات المحزنة طويلا، ليفرغ إلى رواية حياته الثقافية، فقد كانت أولى خطاها تلك الأعوام الأخيرة من عشرينيات القرن ثم استمرارها إبان عقد الثلاثينيات، وهي فترة كان الكاتب فيها مستمعا لما يقوله الآخرون أكثر منه ناطقا بما عنده يسمع الآخرون، وها هنا نراه يصف للقارئ كيف ازدحمت حياة الناس الثقافية في بلادنا، بالأفكار القوية، ينقلها كاتبوها عن الغرب الحديث أو القديم حينا وعن أسلافنا حينا آخر، وكان لا بد للقارئ الطموح يومئذ من المقارنة بين تلك الأفكار المعروضة؛ ليأخذ منها ما يراه صالحا لطبيعته، ويترك ما لا يصلح، وهنا يروي لنا الكاتب عن نفسه أنه قد مال بكل عقله وقلبه نحو فكرة «التقدم» من مجموعة الأفكار التي امتلأت بها الصحف والكتب، وفكرة «التقدم» هذه هي من الأفكار المركبة التي تحتوي على أبعاد كثيرة، فمنها أن الآخذ بها لا بد له أن يجعل نفسه على اعتقاد راسخ بأن الحاضر قد هضم الماضي ثم أضاف جديدا تلو جديد مما أنتجته السنون، ومعنى ذلك ألا يكون «العصر الذهبي» وراء ظهورنا، بل يكون موضعه الصحيح هو في المستقبل الذي يعمل الناس على بلوغه، ومن هنا تكون فكرة «التقدم» محتوية على وجوب «التغير» مع متغيرات الحضارات المتعاقبة، و«التطور» الذي ينقل صور الحياة نحو ما هو أعلى، ومعنى ذلك وجوب الاهتمام ب «المصير» ولا ينفي ذلك الاهتمام أن تجيء قوائمه مستندة إلى تراثنا الذي تركه لنا السلف على ألا يكون في حياتنا الحاضرة بمثابة النهاية التي نقف عندها، بل يكون بين أيدينا نقطة ابتداء نجاوزها إلى مستلزمات حاضر حي ومستقبل مأمول.

كانت فكرة «التقدم» التي أخذ بها الكاتب اختيارا من كثرة الأفكار المعروضة على أقلام أعلامنا وأعلام الفكر من الغرب، ثروة عقلية تركت أثرها في نفسه، إذ يصاحبها بالضرورة كتابات طويلة عريضة عميقة عن القيم الكبرى التي بغيرها لا تتقدم حياة الإنسان خطوة واحدة، كالحرية والعدالة والمسئولية الخلقية للفرد، بما يجعله كائنا مستقلا لا تفرض عليه التبعية لأحد سوى ضميره، إلا أن تكون تلك التبعية باختياره الحر، وغير ذلك من «القيم» التي تستوجبها فكرة «التقدم»، لكن الكاتب إذ يعترف بفضل أعلامنا فيما كتبوه ونشروه خلال العشرينيات والثلاثينيات مما يجري في هذا السياق، لا يفوته أن يستدرك فيذكر لهؤلاء الأعلام أنفسهم نقيضة تركت بدورها أثرا عميقا في نفسه، وتلك هي أن هؤلاء الأعلام - وقد نشروا ما نشروه في سبيل تلك القيم الإنسانية العليا - لم يستطيعوا هم أنفسهم أن يقيموا حياتهم الاجتماعية على أسسها فكأنما أرادوا الحرية لأنفسهم دون سائر من يتعاملون معهم من عباد الله، وقل ذلك في جميع القيم التي بشروا بها، وواضح أن صاحب الدعوة إلى التقدم إذا لم يخضع حياته الشخصية لما يدعو إليه جاءت دعوته ضعيفة الأثر في حياة الآخرين.

وجاءت سنوات الأربعينيات مثقلات بما حملت من أحداث وتحولات وكان ذلك على مستويات ثلاثة: حياة الكاتب الصحفية وحياة الوطن المصري والقضية العربية، ثم العالم كله بجميع أطرافه، فأما حياة هذا الكاتب فقد حدث في مسارها تغير بدا كما لو كان تغيرا مفاجئا، لكنه في حقيقة الأمر كان أمرا متوقع الحدوث، وإن يكن قد تأخر وقوعه عما كان منتظرا، وهو أن سافر الكاتب في بعثة دراسية للحصول على الدكتوراه في الفلسفة، ولقد تحقق له ذلك والحرب العالمية الثانية ملتهبة السعير، فرأى هناك المسافة البعيدة بين كرامة الإنسان كيف تصان هناك مهما يكن شأنه من فقر أو غنى، ومن علم أو جهل، ومن ارتفاع في المنزلة أو انخفاض، وبين كرامة الإنسان في بلادنا كيف يمكن أن تهان، وأما على مستوى الوطن المصري والأمة العربية، فقد حدث في الأربعينيات الوسطى أن أنشئت الجامعة العربية، وحدث في أواخرها أن صدر قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين بين العرب واليهود، ولم يمض بعد صدور القرار إلا بضعة أشهر حتى أعلن قيام دولة إسرائيل. في الفترة الفاصلة بين القرار وقيام الدولة الجديدة نشبت حرب بين العرب واليهود كان النصر فيها لليهود، ثم كان بعد ذلك ما كان، وما لا يزال كائنا من أحداث جسام يعرفها ويعانيها كل عربي، ومعظمها أحداث تصرخ من ثناياها العدالة، وماذا أنت صانع في دول قوية غنية جبارة كأنما أقسمت أمام الله أن تعلي الكلمة الظالمة؟! ونقول ذلك لتذكرة إذا ما شهدنا لتلك الدول نفسها بجبروت العلم وقوة الابتكار، وأما على المستوى الأعم والأشمل، وأعني مستوى العالم كله، وما قد شهده من تغير وقع بالفعل أو تغير في طريقه إلى الحدوث بعد حين، فقد رآه هذا الكاتب تغيرا من الجذور؛ لأنه يتضمن انتقالا من حضارة وهنت وذهب ريحها إلى حضارة جديدة تتأهب للظهور.

وفي ظن هذا الكاتب أن التغير الكبير الذي يسير بكوكب الأرض نحو حضارة جديدة قد تتكامل صورتها في القرن الحادي والعشرين، إنما هو تغير سبقته إرهاصات على طول القرن الماضي، ولك أن تمعن النظر في حقائق الحياة الواقعة إبان القرن التاسع عشر، لترى فارقا عجيبا بين حياة الفكر عند عمالقة المفكرين عندئذ، وبين صور الحياة الفعلية كما يعيشها الناس، فأما حياة الفكر النظري فقد شحنت بما يدل على انقلاب في وجهات النظر، إذ انتقل المفكرون - فلاسفة وعلماء وأدباء على حد سواء - انتقل هؤلاء جميعا بتصورهم للكون في حقيقة أمره، من أن يكون كتلة فيها قصور ذاتي لا يتيح لأي تغير أن يطرأ على أي شيء إلا إذا أحدثه له عامل خارجي عنه، إلى أن يتصوروه كونا كالكائن الحي، يأتيه التغير من ذاته هو، فهكذا خلقه خالقه ليكون التغير المتصل سنته.

كان ذلك التصور الدينامي للكون يقطع أشواطا بعيدة في حياة الفكر النظري إبان القرن الماضي، بينما كانت تجاوره حياة الناس العملية التي أخذت على نفسها أن تتحجر فيها التقاليد، بحيث لا يسمح لشيء فيها بأن يختلف يومه عن أمسه، أو يختلف غده عن يومه، ومثل هذا البون الشاسع من اختلاف الصورة بين رؤية الفكر النظري من جهة، وحقيقة الحياة في واقعها المرئي والمسموع، كان لا بد أن يثير القلق في النفوس، بحيث يصبح من الأرجح أن ينفجر هذا التوتر بين شطري الحياة: الفكر النظري والحياة كما هي واقعة، وماذا يكون ذلك التفجر إلا حروبا وثورات ؟ وذلك هو ما حدث، وكان نصيب هذا القرن العشرين هو أن يشهد ذلك الحدوث؛ إذ شهد بالفعل حربين عالميتين: أولى وثانية، كما شهد بين الحربين عددا كبيرا من ثورات الشعوب.

وعلى ضوء هذه الرؤية فلننظر إلى الحرب العالمية الثانية (انتهت سنة 1945) لنراها - كما رآها هذا الكاتب - مؤذنة بتغيرات عميقة في حياة الناس، وهي تغيرات من شأنها حتما محتوما أن تنتهي إلى صورة حضارية جديدة هي الآن في طريق التكوين، وما هذه الفترة الزمنية التي يحياها العالم الآن إلا فترة مخاض، ومن ثم فكل صور الحياة مرتجة متقلبة كأنما هي تبحث عن الوضع الجديد الذي يراد لها أن تستقر فيه.

ولقد شهدنا بالفعل منذ نهاية تلك الحرب حتى يومنا هذا حريات للشعوب والأفراد والجماعات على نطاق واسع، فكل الشعوب التي كانت مستعمرة استقلت عن مستعمريها، ونهض العمال في صحوة يطالبون فيها بحقوقهم الضائعة، وكذلك فعلت المرأة، وهكذا فعل الشباب، ولقد شهدت أعوام الأربعينيات إعلان الميثاق الذي يحدد حقوق الإنسان (في العاشر من ديسمبر سنة 1948) وشهدت قبل ذلك قيام منظمة الأمم المتحدة، وفي مثل هذا المناخ المليء بالتغيرات والتوقعات، كان هذا الكاتب، حيث كان، يدرس ويقرأ ويراجع ويتأمل، لإنجاز ما قد سافر من أجله أولا، ولكنه كذلك لم تأخذه غفوة تلهيه عن اقتناص سويعات يكتب فيها سلسلة من مقالات أدبية (وأعني بكونها أدبية أنها شكلت على نحو ما تبني مبدعات الأدب والفن في جميع أنواعهما) وكان يبني كل مقالة على مضمون يراد به أن يوقظ القارئ العربي على الكثير الذي فاته في عصر التحولات، وجاءت سنوات الخمسينيات وكان الكاتب قد عاد إلى أرض الوطن وفي ذهنه تصور واضح لما ينبغي أن ندعو إليه في دنيا الثقافة بصفة عامة، وفي مجال الفكر الفلسفي بصفة خاصة والعلاقة قريبة ووثيقة بين الجانبين؛ لأن الفكر الفلسفي لا يحقق ذاته إلا إذا كان مداره آخر الأمر تحليلا نقديا للحياة الثقافية القائمة، وهو تحليل من شأنه أن يرد الفروع المختلفة التي منها تتألف الحياة الثقافية في بلد معين وفي عصر معين، إلى محاورها العامة المشتركة؛ لأن هذه المحاور إذا تبينت حدودها، تبين معها الطابع المميز لذلك العصر في ذلك البلد، وبالتالي فإن ذلك يلقي الضوء على العصر في العالم أجمع - بدرجات متفاوتة بين أقطار العالم المختلفة - لأن العصر الواحد قمين أن يمد الروابط والصلات بين سكان الأرض جميعا، بدرجات متفاوتة كذلك.

ومن معالم الرؤية الواضحة التي عاد بها هذا الكاتب معتزما أن يجعلها برنامج عمل يهتدي به في نشاطه الفكري، أن ما قد تقدم به الغرب يمكن أن نتقدم به نحن، على مستوى الوطن المصري، وعلى مستوى الأمة العربية في آن واحد، دون أن تضيع منا الهوية هويتنا التي لازمتنا فميزتنا على امتداد عصور التاريخ، وما الذي تقدم به الغرب ثم فاتنا نحن فتخلفنا؟ إنه على وجه التحديد العلوم الطبيعية ومناهجها؛ لأن العلوم الطبيعية ومناهجها هما اللذان استحدثا مع النهضة الأوروبية، ولأسباب تاريخية وقف العربي حيث كان ولم يقدم على تلك الخطوة الجديدة، إذ على الرغم من التطور الذي تحقق في العلوم الرياضية خلال العصر الحديث، فقد كان في وسع العربي أن يساير ذلك التطور دون أن يشعر بشيء من الغرابة أو العسر؛ لأنه هو وجميع القوميات الأخرى في العالم كله، قد انتهجوا بصفة أساسية منهج التفكير الرياضي، الذي هو أن يبدأ العقل من مسلمات تؤخذ مأخذ الصواب، ثم يستخرج منها نتائجها، ولا بد لنا في هذا السياق من الحديث، أن نذكر التفوق الملحوظ في قدرة العقل العربي على هذا الضرب من الاستدلال الرياضي، سواء أكان موضوع البحث رياضة بالمعنى المألوف لنا جميعا في الرياضيات، من حساب وهندسة إلى جبر كان للعرب فضل إيجاده بعد أن لم يكن موجودا، أم كان موضوع البحث شيئا آخر، لكنه ينتهج منهج توليد النتائج من مقدمات مسلم بصحتها مقدما.

أما العلوم الطبيعية فشيء نستطيع أن نقول عنه في غير حرج، إنه جديد جدة شبه كاملة إذ إنه قد ولد مع النهضة الأوروبية، ولا ينفي هذا التعميم الجارف أن يكون عالم في العلوم الطبيعية قد ظهر هنا أو هناك من أقطار الأرض التي أسهمت في إقامة البنيات الحضاري؛ لأن العصور لا يتميز طابعها الخاص بفرد لم تنشأ قبله ولا نشأت بعده حركة يتكون منها تيار دائم، شأنها في ذلك شأن الربيع، لا نقول عنه إنه قد حل إذا رأينا عصفورا واحدا كالتائه الذي ضل السبيل.

وإن الأمر ليزداد وضوحا إذا تذكرنا أن العلوم الطبيعية في عصرنا هذا قد أخذت صورة لم يكن يحلم بها السابقون، حتى أولئك الذين ظهروا في النهضة الأوروبية، وما بعدها خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، فهؤلاء لم يكادوا يستخدمون الأجهزة في حياتهم العلمية إلا بصورة بالغة البساطة والندرة بالقياس إلى ما تتميز به تلك العلوم في عصرنا هذا، إذ الأجهزة في عملية البحث العلمي، ثم الأجهزة التي تنتجها البحوث العلمية لتدخل في حياة الناس العملية، أصبحت أمرا جوهريا لا يكون العلم علما بغيرها.

وليست المسألة هنا هي مجرد المظهر والشكل، بل إن تغيرا جوهريا في طبيعة العلم ذاته قد حدث فميز العلم الطبيعي المعاصر عن سلفه منذ بدأ تاريخ البشر حتى هذا القرن العشرين؛ وذلك لأن أجهزة البحث العلمي تزداد مع الأيام دقة، ومعنى ذلك أن الأرقام القياسية التي تبنيها عن الظواهر الطبيعية الموضوعة تحت البحث، تتغير كلما ازداد الجهاز المعين دقة، فإذا كنا نقيس السرعة، أو الوزن، أو الطول أو غير ذلك، جاءتنا أرقام مختلفة باختلاف درجة الدقة التي يعلنها الجهاز المعين في صورته الجديدة، ويترتب على ذلك أن تكون الحقائق العلمية نسبية مرهونة بظروف زمانها وما قد وصل إليه من أجهزة متطورة.

وبهذه العلوم الطبيعية تفوق الغرب فازداد قوة، وثراء وحرية، نعم إنه ازداد حرية بمقدار ما استطاع أن يكشف عن أسرار الكون بتلك العلوم ومنهاجها التقني (التكنولوجيا)؛ لأنه كلما باحت له الطبيعة عن سر من قوانينها، استطاع الإنسان أن يستخدمها كما شاء بعد أن كانت هي التي تتحكم فيه بسلطانها المجهول.

لم يقتحم العربي هذا الميدان، فلم ينعم بثمراته، وترك لأهل الغرب الجمل بما حمل ، على أن يمد كفيه بعد ذلك راجيا من الغرب أن يبيعه كذا وكذا من آلات للسلم وللحرب على السواء، وأما الغرب فيعطيه أو لا يعطيه وفقا للموقف وما يقتضيه، فما الذي يمنع العربي أن يدخل عصره مقتحما ميادينه العلمية وغير العلمية، مما قد ثبت نفعه في عملية التقدم الحضاري؟ إن عقيدته الدينية تحضه حضا أن يتفحص ظواهر الكون المحيطة به تفحص من يريد الكشف عن سرها وليس تفحص من يجلس بين جدران بيته يحملق بناظرته في الخلاء.

على أن اقتحامنا لميادين العلم الطبيعي لن يتم لنا على الصورة الدافعة للمشاركة الإيجابية في البنيات الحضاري إذا اكتفى علماؤنا - كما هم يكتفون الآن - بالأخذ عن الغرب علومه بعد أن تتحقق في كتاب أو في جهاز؟ لأننا في هذه الحالة ملزمون أن ننتظر حتى يفرغ الغرب من إبداع ما يبدعه، ثم نرسل في طلبه، ومعنى ذلك أن نكون دائما وراءه بخطوة - على أحسن الفروض - وإذن فالمطلوب منا هو أن يواجه علماؤنا ظواهر الكون المراد بحثها واستخراج قوانينها فيشاركون في إبداع العلم مع مبدعيه، والخطوة الأولى التي يجب أن نخطوها في هذا السبيل هي أن نبث في شباب جامعاتنا ومعاهدنا روح «المنهج العلمي» وألا نقنع بالمادة العلمية التي أنتجها منتجوها هناك عن طريق استخدامهم لهذا المنهج؟ وما يقال عن العلوم الطبيعية يقال عن غيرها من مقومات الحضارة التي نحيا في ظلها، أي إن الجانب الذي ينقصنا في المقام الأول، هو اكتساب المنهج العلمي خلال سنوات الدراسة فنتوسل بما يتوسل به العلماء المبدعون.

لكن هذا المطلب الصعب لن يتوفر لنا من تلقاء نفسه لمجرد أننا نريده ونتمناه، بل لا بد من عمليات فكرية من القادرين عليها تتناول حياتنا الثقافية بالتحليل الدقيق الواضح لنرى في جلاء أين نحن وأين نود أن نكون، والتحليل التفصيلي الذي يكشف لنا عن حقيقة حياتنا الثقافية على هذه الصورة الهادية، هو نفسه ما يؤديه الفكر الفلسفي بمنهج هذا الفكر الذي يمكن تلخيصه بأنه هو الذي يرد فروع الحياة الثقافية ، على اختلافها وتنوعها، إلى الأصل الواحد الذي منه بنيت تلك الفروع، إذ قد يكون لكل شعب ينبوع خاص به يؤدي إلى ثقافة ذات طابع خاص، فإذا ما رفعنا الستار عن ينبوعنا فوجدنا في طبيعته ما يعوق دون الوصول إلى الروح العلمية المطلوبة اتجه مسعانا عندئذ إلى تغيير ذلك الينبوع عن طريق التعليم، ولا خوف في هذا التغيير على هوية الشعب الأصيلة أن يصيبها ما يفقدها جوهرها المتميز؛ لأن العناصر الأساسية التي يتألف منها هذا الجوهر، لا تتأثر إذا ما أضاف الإنسان نظرة علمية إلى ظواهر الكون بدل أن يكون عالة على أصحاب هذه النظرة من أقوام أخرى.

لم يكن قد بقي من أعوام الستينيات إلا عامان حين تلقى الكاتب دعوة من جامعة الكويت أن يكون أستاذا للفلسفة بها، وكان عندئذ أستاذا غير متفرغ بكلية الآداب في جامعة القاهرة، وذلك بعد أن بلغ سن التقاعد (كما يسمونها) وهي حالة قد تصدق على مختلف ضروب العمل، ولكنها لا تصدق على رجال العلم، ومن ثم كان من رأي الجامعات أن تستبقي رجالها في الاضطلاع بعملهم العلمي مع تغيير العنوان، فبدل كونه «أستاذا» يصبح «أستاذا غير متفرغ» «أستاذا متفرغا» التي معناها أن يمضي الأستاذ في واجباته العلمية كما كان لكنه لا يشارك في المناصب الإدارية، فلما جاءته دعوة جامعة الكويت استأذن جامعة القاهرة فأذنت وسافر وقد جعل خطته أن يستغل فراغه هناك في مراجعة متأنية متأملة لعيون التراث العربي مما يمكن أن يندرج تحت العنوان «ثقافة»، وهناك أخذ يجمع النصوص التي يراها دالة على روح الثقافة العربية إبان ازدهار العقل العربي وأصالة مبدعاته بعد نزول الإسلام، وبهذا النشاط الذي لم يفتر، حقق الكاتب ما أراد تحقيقه لنفسه، وهو أن ترتسم له لوحة متماسكة لسيرة الثقافة العربية بعد أن كانت حصيلته الغزيرة من تلك الثقافة، مفرقة في أشتات لا يرتبط بعضها ببعض ارتباط مكان وزمان وعلاقات تضم جانبا إلى جانب، وإنه ليتعذر على حامل الأشتات المفرقة - مهما كثرت تفصيلاتها - أن يكون لنفسه «وجهة نظر» يتوحد فيها المشهد ، ويصبح في مقدور المشاهد أن يكون له رأي فيما يرى.

وعلى ضوء هذا الرأي الذي تكون لهذا الكاتب خلال خمس سنوات قضاها مجتهدا في تهيئة الأسباب التي تمكنه من الحق في أن يكون ذا رأي في التراث العربي بعرضه على الناس، أقول: إن على ضوء هذا الرأي الذي بلغ نضجه في الأعوام الأولى من السبعينيات، أخذ يكتب فيما تصوره من وجوب إيجاد صيغة جديدة للمواطن العربي بصفة عامة، والمواطن المثقف بصفة خاصة، وهي صيغة لا بد لها أن تدمج جانبين في كيان واحد موحد، فمن التراث ما لا بد أن يبقى ليضمن للعربي استمرارية تاريخية في حياته الثقافية، وهي استمرارية ضرورية لتظل للعربي هويته في جوهرها، لكن هذه الصلة الحيوية بين حاضر العربي وماضيه لا تكفي وحدها لتمكين العربي من اقتحام عصره الذي كتب له وكتب عليه أن يعيش فيه، ومن أهم ما يميزه من عصور التاريخ السابقة كلها توجيه الاهتمام الأكبر نحو العلوم الطبيعية التي هي وسيلة الإنسان الوحيدة للكشف عن قوانين الطبيعة من مختلف ظواهرها، وإن الإنسان لتكون له السيادة على تلك الظواهر حقا، بمقدار ما قد عرفه من قوانينها، وإذا كانت العلوم الطبيعية سمة بارزة من سمات العصر، فكذلك الحال بالنسبة إلى «منهج» البحث العلمي المتبع في الكشف عن تلك القوانين؛ لأنه منهج يبتكر له «الأجهزة» التي تعين على الدقة المطلوبة، بدرجة لم يعهد التاريخ أن يرى عشر معشارها في ساحة العلم حتى أصبحت هذه التقنيات (التكنولوجيا) جزءا لا يتجزأ من صورة عصرنا، فلئن كانت العصور الماضية قد قصرت نفسها على «الكلمة» أداة لكل جوانب الفكر العلمي وغيره من أوجه الحياة الثقافية، فإن «الآلة» هي التي حلت محل «الكلمة» في مجال العلوم، سواء أكانت الآلة جهازا من أجهزة البحث العلمي، أم كانت هي الناتج الصناعي الذي نتج ليستخدمه الناس في حياتهم العلمية، وبهذا المميز أصبح مجال «العلم» مختلفا كل الاختلاف عن المجال الآخر في نسيج الحياة الثقافية الذي هو المجال المعني بحياة الإنسان الداخلية الخاصة ، من عقيدة وعاطفة، وغريزة وسائر مكونات التيار الشعوري الباطني، وهو مجال تتساوى أهميته، بل ربما كان أهم للإنسان من جانب العلوم العضلية وما يترتب عليها، لكنه بحكم طبيعته لا يزال وسوف يظل معتمدا على «الكلمة» وسيلته الوحيدة، ومن هنا أصبح الفارق بين قناتي الإدراك وهما «العقل» و«الوجدان» واضحا وضوحا لم يعد لأحد ما يبرر الخلط بينهما، وهما مع هذا الفارق إنما يلتقيان بل يلتحمان التحاما في كل فرد من أفراد الناس.

ومنذ عام السبعين، أخذ الكاتب يصدر كتابا في إثر كتاب، ومقالا بعد مقال، ليشرح ما يراه من الصيغة الثقافية المطلوبة، التي نضفر فيها خيطين معا؛ أولهما: الجانب الذي استبقيناه من ثقافة أصيلة زرعت في أرضنا العربية وأثمرت، وثانيهما: جانب متصل بالعلوم في صورتها الجديدة، والمنهج التقني المميز لهذا العصر، وغير ذلك مما هو حيوي لإقامة الحضارة على الصورة التي منها يتألف عصرنا في المقام الأول، فهذا كله يجب استزراعه في أرضنا من شتلات نستوردها من مراكز الحضارة الجديدة في الغرب ومن الجانبين: ما هو أصيل أنتجناه نحن على امتداد تاريخنا، وما هو مجلوب من بناة الحضارة الجديدة، تتألف الصيغة الثقافية الجديدة للوطن العربي.

لم يكد هذا الكاتب يعود إلى مصر ليستأنف نشاطه فهو في الجامعة أستاذ متفرغ وهو اللقب الجديد الذي أضيف في الحياة الجامعية، ثم هو مشارك في الحياة الثقافية العامة كدأبه منذ صدر شبابه، حتى حدث أن جاءته دعوة كريمة من جريدة الأهرام ليكون عضوا في أسرتها الأدبية، فرحب بالدعوة أيما ترحيب؛ لأنها تحقق له منبرا هو أعلى المنابر المعروفة في الشرق العربي كله، ومن هذا المنبر أخذ الكاتب خلال أعوام السبعينيات والثمانينيات، يكتب ويكتب ثم يكتب، ليلقي الأضواء على جوانب الصيغة الثقافية المرجوة للمواطن العربي، والتي هي - بكل بساطة ووضوح - أن يكون عربيا وأن يكون في الوقت نفسه قادرا على مواجهة عصر علمي تقني بلغ به الطموح حدا يحاول به اختراق الفضاء الكوني، حتى لقد جاوز في هذا السبيل حدود المجموعة الشمسية بكل كواكبها وأفلاكها ... إلى أين علم ذلك هو عند علام الغيوب.

وبالله التوفيق، والحمد لله رب العالمين.

زكي نجيب محمود

يناير 1991م

تغريدة البجع

يقال عن البجعة: إنها إذا ما دنت من ختام حياتها سمعت لها أنات منغومة تطرب آذان البشر، ولا يمنع طربها أن تكون تلك الأنات صادرة - على الأرجح - من ألم يكويها، ومن هذه التغريدة الجميلة قبيل موتها جاء التشبيه عند أدباء الغرب الذي يصفون به عملا جيدا أنجزه صاحبه ليختم به حياته، إذ يقولون عنه: إنه تغريدة البجعة، وقد أراد هذا الكاتب أن يقولها عن نفسه؛ لأنه لا يتوقع أن يقولها عنه سواه.

ففي هذه المجموعة من الأحاديث، اجترار منسق ومدبر، لحياة أعطت فكرا وأدبا، وظلت تعطي ستين عاما، ولا يذكر صاحبها يوما أخذها فيه يأس أو ملل، ولم يكن ليلومها لو قعد بها القنوط، فهي حياة بشرية يعتورها ضعف الغرور، الذي يوهم الإنسان آنا بعد آن، أنه يستطيع لو جد وأجاد أن ينتزع المجد انتزاعا ولو كره المخالفون، أو قل: ولو كره الذين أغمضوا أعينهم، وصموا آذانهم، وألهتهم شواغل الدنيا حتى لم يعد لديهم فراغ من وقت يقدحون فيه أو يمدحون، اللهم إلا إذا رأوا في قدح هذا ومدح ذاك أسبابا للصعود، لا، إن صاحب هذه الحياة لا يذكر لها يوما ألم بها فيه ملل أو يأس؛ لأنها أعطت عطاءها صدوعا لفكرة غالبة، إنه ليعجز إذا أراد أن يتعقب تلك الفكرة الغالبة إلى مصادرها، فمن أين جاءته، وكيف جاءته؟ لكنها هناك تملأ صدره وتهز قلبه وتحرك عقله، ما تحركت قدماه أو وقفت، وما اضطرب فؤاده أو سكن.

والفكرة الغالبة الدافعة التي أعنيها، فكرة بسيطة غاية البساطة، كبيرة غاية الكبر، فهي فكرة تسأل حاملها وتلح في السؤال: كيف جاز أن يلتئم ذلك التاريخ الطويل المجيد، مع هذا الحاضر الذليل العقيم؟ بل هو ذليل لأنه عقيم، فالسادة هناك في أعالي البحار ينتجون علما وفنا وثراء وسلطانا، والأتباع هنا قد جعلوا غاية المنى أن ينقلوا عن السادة نفحات متقطعة من علم وأدب وفن، تاركين لهم الثراء والسلطان، نعم كيف جاز لتاريخنا ذاك، في عزه ومجده، أن يلد لنا هذا الحاضر في عقمه وذله؟ وإنه لسؤال لا يأتيه الجواب في سطر من كتاب، بل لا بد له من نظر يمعن، ومن شجاعة تواجه الصعب، أما أن تثمر ثمارها هذه الشجاعة الجسور، أو ذلك النظر الممعن، فذلك مرهون بتوفيق من الله، على الإنسان أن يسعى، وليس عليه إدراك النجاح، وفي وسع الفارس الذي تخونه قواه، أن يعتذر بما اعتذر به شاعر النيل حافظ إبراهيم حين قال:

لا تلم كفي إذا السيف نبا

صح مني العزم والدهر أبى

كان صاحبنا منذ أوائل شبابه طلعة (بضم الطاء وفتح اللام) يرى، ويسمع، ويقرأ، فضلا عن دراسته النظامية، وقد لحظ في نفسه، منذ تلك السنين الباكرة، إقبالا شديدا على الأفكار التي من شأنها أن تغير من حياة الناس، لتنقلها من قديم إلى جديد، ونفورا من الأفكار التي تعمل على ركود الحياة وجمودها، وقد تنبه منذ ذلك العهد البعيد، إلى أن الفكر - بل والثقافة كلها بجميع أطرافها - ليس ترفا يلهو به صاحبه ليزجي به ساعات الفراغ، وليلهي معه الناس بأن يقدم لهم وسائل لتسرية النفوس عن همومها، بل الفكر السوي القوي السليم هو أداة للعمل، إذ هو - حتى وهو في أعلى درجات تجريده - يرسم ما يشبه الخرائط الجغرافية، فيهتدي العاملون بها في طرق الحياة العملية، الفرق الحقيقي بين مجتمع جمدت دماؤه في شرايينه فتخلف عن موكب الحضارة، ومجتمع آخر توقدت فيه الصحوة وتوثبت الهمم، هو فرق بين مجموعة الأفكار التي حصلها واختزنها أفراد الناس في كل من الحالتين.

وصاحبنا منذ أوائل شبابه - كما أسلفت عنه - كان على يقظة كافية تحثه على أن يرى ويسمع ويقرأ، فكان له بهذا كله أن تجمعت لديه أفكار من هنا وهنا وهناك، تتفق أحيانا، وتتعارض أحيانا، وقد كان يمكن أن يقف عند هذا الحد من التحصيل الذي يجمع ولا يعرف كيف ينتقي ويختار، وما أكثر ما تصادف بين الدارسين والقارئين من وقف عند عملية الجمع والتحصيل والحفظ ، لكن صاحبنا بتوفيق الله قد وجد في تكوينه دوافع داخلية تدفعه إلى مجاوزة تلك المرحلة إلى ما بعدها، وأعني مراجعة المحصل مراجعة نقدية تقبل هذا وترفض ذاك وتعدل من ذلك، حتى يحس بنفسه وقد اطمأنت لوجهة من النظر تستريح لها، فتشعر وكأنما جات تلك الرؤية ثمرة طبيعية من إبداعها، وليست شيئا غريبا أقحم عليها.

وكان لا بد لتلك النفس مع تعاقب الأعوام وامتدادها، أن يعاودها القلق آنا بعد آن، حول فكرة كانت قد اطمأنت إليها في مرحلة سابقة من مراحل العمر، فلم يكن صاحبنا يتردد في تصحيح فكره، فليس هو من ذلك الصنف الذي يتوهم بأن كرامته تقتضي أن يتمسك بفكرة ثبت له بطلانها، ولم يعد لها - فيما أصبح يراه ولم يكن يراه - قوة عملية تطبيقية في ظروف جديدة استحدثتها الأيام، ومن هنا قد نجد له فكرة أخلص لها في عهد من عهوده، ثم تنكر لها في عهد آخر، وليس في ذلك ضير، بل الضير هو في عكسه، والذي يحسن بالإنسان السوي أن يثبت عليه ثباتا نسبيا، هو الغاية البعيدة، (وهي ما نصفه اليوم عادة بكلمة «الاستراتيجية») وأما الوسائل التي نراها مؤدية بنا إلى تحقيق تلك الغاية، فيجوز لنا، بل يجب علينا، أن نغيرها كلما وجدنا وسيلة أفضل منها على تحقيق الغاية المقصودة، فليست حقيقة الإنسان شبيهة بالحقائق الرياضية، كالمثلث والمربع والدائرة، فإذا كان لكل هذه الحقائق الرياضية «تعريف» لا يتغير ولا يتبدل باختلاف المكان أو الزمان أو ما يحيط بهما من ظروف، فإن حقيقة الإنسان حياتية (بيولوجية) عضوية، خلقت لتواجه ما حولها مواجهة تساعد على بقائها وازدهارها، وانظر إلى أبسط الكائنات الحية في عالم النبات ودع عنك عالم الحيوان وما هو أرقى في عالم الإنسان - وأعني تلك الأنواع النباتية الهلامية التي تنمو في مياه البحار، ويكاد ألا يكون قد اكتمل لها شكل محدد المعالم - أقول: انظر إلى هذه الكائنات النباتية البسيطة، تجدها تغير من نفسها كل لحظة، بما يساعدها على التقاط الغذاء، أو التعرض للضوء، وغير ذلك مما يقيم لها الحياة.

عاش صاحبنا طوال حياته الواعية في عالم «الأفكار» أكثر مما عاشها مع الناس، لكن هذه السمة تريد شيئا من التحديد حتى لا يساء فهمها، ويأتي تحديدها الشارح لها من عدة جوانب، وأحد هذه الجوانب هو أن دنيا «الأفكار» التي يحياها من يحياها من أفراد الناس، الذين وجدوا في أنفسهم ما يميل بهم نحو الاهتمام ب «الفكرة» والاحتفال بها، لا يقتضي العزلة الكاملة عن الحياة اليومية الجارية، وما تقتضيه هذه الحياة من عمل، وأداء للواجبات الاجتماعية، وانتماء إلى الوطن الكبير، وإلى القرية الأم، وإلى الأسرة، وإلى من اصطفاهم من أصدقاء، بل إن صاحبنا قد عرف بحرصه على إقامة هذه الروابط بينه وبين الآخرين، فهو مشغوف بوطنه ومواطنيه، ودود مع أصدقائه ينعم بلقائهم نعيما لا تحده حدود، وإن تكن بساطة طباعه التي كثيرا ما بلغت به حد السذاجة، قد أوقعته في «صداقة» مزورة ندم عليها فيما بعد أشد الندم، بعد أن لم يعد ينفع الندم، نعم، إن دنيا «الأفكار» لمن يحياها أكثر مما يحيا مع الناس، لا تعني تلك العزلة عن المواطنين والأقربين والأصدقاء، لكنها تعني أولوية «الفكرة» على قضاء المصالح المادية في تيار الحياة العملية، وهناك كلمة في اللغات الأوروبية، يقال إنها روسية الأصل ثم انتقلت إلى سائر اللغات في أوروبا أولا، وفي أمريكا بعد ذلك، وهي كلمة «أنتلجنتسيا» يطلقونها ليشيروا بها إلى تلك الفئة من أفراد الناس، الذين يعلون من شأن «الأفكار» حتى يجعلوها تسبق في اهتمامهم عالم الأشياء في تيار الحياة الجارية، وإنه ليتعذر أن نجد مرادفا دقيقا في اللغة العربية لكلمة «أنتلجنتسيا» هذه، فلا كلمة «مثقف» ولا كلمة «مستنير» ولا - حتى - كلمة «مفكر» تعطيك المعنى المطلوب في دقته، ولا مفر لنا من اللجوء إلى جملة شارحة إذا أردنا الوصول إلى ذلك المعنى، وهو - كما أسلفت - أن يكون لعالم «الأفكار» أولوية وأعلوية على عالم الأشياء، وليس ذلك استغناء عن عالم الأشياء، كلا، بل هو من أجل أن نفهم عالم الأشياء فهما أدق وأصدق، فليس الأجدر بزعامة المجتمع ، هو رجل غمس نفسه من الرأس إلى القدمين في بحر التفصيلات كما تقع في الحياة الفعلية كما تراها الأعين وتسمعها الآذان، بل الأجدر بتلك الزعامة هو من قبض على «الفكرة» قبضا واعيا، لينتقل منها إلى تفصيلات التطبيق، وأظنه هو «هرقليطس» - أحد فلاسفة اليونان فيما قبل سقراط - الذي قال ليصف نفسه، إنه لو خير بين «فكرة» جديدة يقع عليها، وبين عرش فارس، لاختار الفكرة، وإنه لقول يحدد المعنى الذي نريده أدق تحديد؛ ذلك - إذن - هو أحد الجوانب الشارحة لمعنى إيثار العيش في دنيا «الأفكار» على العيش في دنيا الناس، وجانب ثان يتلخص في أن صاحبنا لا يملك منع نفسه من محاولة «التعليل» لأي شيء يلفت نظره في ظواهر الحياة كما يراها متمثلة في مسالك الأفراد أو الجماعات، إنه يبحث لكل ظاهرة سلوكية عما يفسرها، وهو بحث يتم أكثره في صمت، ويخرج أقله إلى العلانية قولا منطوقا في أحاديثه مع من يجالسهم، أو كتابة منشورة ليقرأها من أراد، المهم عند صاحبنا هو أن يقع على تفسير ما يراه وما يسمعه، تفسيرا يرد به الواقعة الجزئية إلى قانونها العام، وربما أوغل صاحبنا في تحليلاته الصامتة حتى يرد ذلك القانون العام الذي فسر به الواقعة الجزئية إلى «المبدأ» الأعم والأشمل، الذي يطوي تحت جناحيه ذلك القانون وغيره مما يقع معا في أسرة عقلية واحدة.

وجانب ثالث من تلك العزلة التي مالت بصاحبنا نحو أن يعيش حياته مع «الأفكار» أكثر مما يعيشها مع الناس، وهو جانب لا يجوز إغفاله إذا أردنا للصورة أن تكتمل، ونعني به تلك الرغبة الشديدة في أن يعتصم بجدران بيته، وأن يوغل فينكفئ على دخيلة نفسه يجتر من مكنونها ما عساه يطفو على سطح الوعي من ذلك المكنون.

وهي عادة رسخت عنده، حتى لنراه يحاول عبثا أن يقلع عنها فلا يستطيع، ولماذا يحاول هذه المحاولة ولا يترك نفسه تجري على سجيتها؟ ألم يمده ذلك المكنون الطافي بكثير جدا مما أوحى له بفكر عرض بعضه على الناس، والجواب هو أن شيئا ما في طبيعته، يجذبه جذبا نحو أن يلتقط من مخزون الذاكرة، كلما بسط في دخيلة نفسه شريط حياته بأحداثها التي رسخت عنده آثارها كما ترسخ النقوش المنقورة على جذوع الأشجار، لا بل إن تلك النقوش لتكبر وتتسع كلما عمرت تلك الجذوع أعواما بعد أعوام، أقول إن شيئا ما في طبيعة صاحبنا ذلك، يجذبه جذبا كلما بسط ذلك الشريط ليجتر مما فيه مضغة يلوكها في مسرحية، نحو أن يلتقط اللحظات المرة الأليمة، وهي في مخزون ذاكرته تعد بالألوف إذا شئت العدد، ولها من القوة الجارفة ما تطغى به على ما عداها من ساعات الضحك والمرح، فكم ألف مرة سمع من الناس ما يؤلمه ويؤذيه، ولو كانوا من غمار الناس لقلنا إن العدوان هو من طباع الغمار، ولكنهم كانوا - أو كان بعضهم - من الصفوة التي امتازت بثقافتها، ممن كان لا بد لصاحبنا أن يلتقي بهم خلال حياته التي غلبت عليها صلات اجتماعية في مجال الثقافة، من لجان تجتمع، ومجلات تنشر، وأحاديث تذاع، وكتب تطبع، وما يدور في هذا الفلك من أوجه النشاط، بالإضافة إلى زملاء العمل في الجامعة، ولما كان صاحبنا ممن إذا أصابهم سوء جمدت أعضاؤهم بما يقرب من الشلل، فلا تتحرك منه ذراع أو قدم، ولا ينطق لسانه بنبرة، بل إنه كثيرا ما يحس بجفاف لسانه وشفتيه، وتفصد جسده بالعرق، أقول: إنه لما كان صاحبنا من هذا الطراز عند المفاجأة بما يسيء من قول أو فعل، فسرعان ما يمسك الآخرون بهذا الخيط فيستغلون ويستذلون، إذا لم يسرع هو إلا ملاذه ليحتمي وراء الجدران، وأمثال هذه اللحظات هي التي تقدم نفسها إليه كلما سرح في فراغه مستعيدا أحداث ماضيه.

ورب ضارة نافعة - كما يقولون - فقد كانت محصلة تلك النفس وطبيعتها المنطوية، أن اتسعت ساعات الفراغ أمام صاحبها، اتساعا أخذ يزداد معه كلما تقدم به العمر، فازدادت تبعا لذلك فرصة القراءة الجيدة المتمهلة، ألا ما أسرع ما ينسى الناس أن الكتاب المقروء هو إنسان يتحدث إلى قارئه بأحسن ما عنده من مادة للحديث ! إن الوحدة العددية لمن يعتكف، وأعني حين يكون الإنسان في هدوء عزلته، ليست بالضرورة غربة يغترب فيها عن الناس وما يحيون به ويفكرون فيه، بل إنها كثيرا ما تكون هي الفرصة الذهبية للاتصال بخيرة الناس يستمع إليهم فيما يقولونه شرحا لأفكارهم وتعبيرا عن وجدانهم، وإنها لأفكار، وإنه لوجدان، لم ينزع من خلاء، بل استصفاه واستقاه هؤلاء المؤلفون من صميم الحياة التي يحيونها في دنيا الفعل والتفاعل، إذن فنحن إذا قلنا: إن صاحب تلك النفس المنطوية على ضلوعها بكل ما يكمن وراء تلك الضلوع من ذكريات تسعده أو تشقيه، قد اتسعت له ساعات اللقاء مع خيرة البشر، وأعني العلماء والأدباء الذين رصدوا في مؤلفاتهم ما قد دار في رءوسهم من فكر، وفي قلوبهم وصدورهم من مشاعر، فقرأ على مهل، وتدبر ما قرأ، فقبل ما قبله، ورفض ما رفضه، وعدل ما عدله، مستعينا في قبوله ورفضه وتعديله بالغاية التي خلص إليها منذ زمن بعيد، لتكون هي المعيار الاستراتيجي الذي على أساسه تقام الموازين.

فما هي الفكرة الاستراتيجية الكبرى، التي اختارها لتكون عنده غاية الغايات، أي أن تكون هي الغاية التي ليست وراءها غاية ترجى في هذه الحياة الدنيا؟ لقد كان هذا القرن العشرون في عشرينات أعوامه، عندما كان صاحبنا كذلك في عشرينات عمره، وكانت تلك الفترة مزدحمة بالأفكار والمشاعر، المتفقة حينا والمتضاربة حينا آخر، إنها فترة توسطت الطريق بين حربين عالميتين ذبحت فيهما عشرات الملايين من رقاب البشر، وكانت فترة غصت بالثورات الوطنية، وبالثورات المذهبية وبالحروب الأهلية، كانت فترة أراد العالم فيها أن ينتقل من حضارة إلى حضارة، ومن نظام إلى نظام، ففيما سبق تلك الفترة، كانت حياة الناس قد استقرت على قوائمها التي قرت في النفوس فاكتسبت بذلك هالة من التقديس، والويل لمن أراد أن يغير منها شيئا، فالجنس الأبيض جنس أبيض، وسائر ألوان الجلود البشرية هي ما هي في سوادها وسمرتها وصفرتها، فللأبيض يكون الحكم وعلى سائر الألوان أن تتبع، وكانت حقوق الناس وثقافاتهم تقاس بذلك المقياس نفسه، فالحقوق تكون كاملة بجميعها لمن يحكم، وتتناقص كلما نزلت خطوة على السفوح المحكومة، والثقافة تكون في أعلى ذراها عند الأبيض وعند من يحكم تحت مظلته، ثم توزن أقدار الثقافات الأخرى بعد ذلك بدرجة قربها أو بعدها عن تلك الذرى، لكن كان أيضا فيما قبل تلك الفترة استقرار اقتصادي كاستقرار الجبل على أرضه، فالغني غني والفقير فقير، كل أسرة تستطيع أن تتنبأ بمراحل مسيرتها المقبلة على درجة كبيرة من الدقة وتبني تخطيطها على ذلك التصور المسبق وهي آمنة من المفاجآت، تدخر من دخلها ما يمكنها ادخاره، دون أن يحدث ارتفاع في سعر العملة أو انخفاض؛ لأن العالم كله يومئذ - فيما أظن - كان يعتمد في تقويم عملاته على رصيد من الذهب، وقيمة الذهب ثابتة ثباتا نسبيا ... إذ لم يكن يغيرها إلا زيادة المستخرج من مناجمه، نعم، كانت حياة الناس فيما قبل الفترة التي أشرنا إليها ثابتة ثبات الصخرة الصماء، ومن ثم انعدمت الآذان التي تسمع صرخات المظلوم، وعميت الأبصار عما كانت ترزح تحته ملايين الكادحين، مسخرين أو كالمسخرين، وبالطبع كانت هنالك تقاليد وأعراف مرعية، لا يجرؤ على اختراقها إلا مقامر لا يبالي ما سوف يلحق به من صنوف الأذى، وهي تقاليد وأعراف استمدت قوتها الحديدية من كونها تخدم الأغنياء وأصحاب السلطان.

وجاءت فترة ما بين الحربين، التي شهدها صاحبنا، في أوائل شبابه الواعي، فازدحمت ساحاتها الثقافية بالأفكار والمشاعر على أقلام الكاتبين، وصاحبنا يتابع ذلك ما وسعته المتابعة، كان اللسان عربيا أم كان إنجليزيا، فهو على شيء من القدرة في اللغتين، وكان يستعرض ما تكتبه الأقلام هنا وهناك، وكأنه ينظر إلى طاولة البلياردو تتدحرج فوقها الكرات منسابة آنا متصادمة آنا: الحرية بكل أنواعها، السياسي منها الذي تطالب به الشعوب المستعمرة (بفتح الميم الثانية) وغير السياسي، كحرية التعبير وحرية الاقتصاد، وحرية التعليم، وغير ذلك من صور، وحقوق الإنسان لمن سلبت منه تلك الحقوق، كالمرأة والعامل والطفل، وفردية الفرد المسئول، بكل ما تعنيه هذه العبارة من بناء الشخصية الإنسانية المستقلة الحرة المسئولة غير التابعة لسادتها تبعية العبيد ، ثم كانت هنالك أفكار كبرى غزيرة المضمون متعددة الجوانب والأبعاد كفكرة «التطور» بشتى صورها التي لم يعرف منها معظم المثقفين إلا صورة البيولوجية التي تنسب إلى «دارون» في كتابه «أصل الأنواع» وانعكاساتها التطبيقية على كثير من جوانب الحياة الاجتماعية، كما أوضحها بصفة خاصة «هربرت سبنسر»، وكان أبرز من عرض الفكرة في صورتها الداروينية: إسماعيل مظهر، بترجمته الكاملة لكتاب «أصل الأنواع»، كما كان أبرز من أشاع جوانبها التطبيقية في المجال الاجتماعي، نقلا عن هربرت سبنسر «شبلي شميل»، وازدادت الفكرة شيوعا بعرضها عرضا موجزا متكاملا على يدي سلامة موسى، لكن فكرة التطور لم تقتصر في تلك الحقبة الزمنية على صورتها البيولوجية وانعكاساتها الاجتماعية، وهي الصورة التي شاعت وعرفها الناس، بل كانت لها صور أخرى أهم وأعمق وأشمل أفقا، وهي صور تناولت التطور الكوني بصفة عامة، أو تطور «الحياة» من حيث هي حياة تبدع أشكالها وترتقي على امتداد الدهور درجة كيفية بعد درجة، كل ذلك عرضه فلاسفة تلك الحقبة «برجسون»، و«لويد مورجان» و«صموئيل إسكندر» و«وايتهدا» ممن اقتصر العلم لهم على الدراسين لفلسفاتهم المختلفة، التي قدمت صورا فكرية رائعة لهذا الكون العظيم: كيف تطور مما يشبه العدم حتى أصبح على ما هو عليه، وليس الذي يهمنا في هذا السياق، ما الذي قالوه، وإنما يهمنا أن نعلم كيف كانت روح العصر النزاعة نحو أن يتحطم ذلك الجمود الثابت، الذي تحجرت به حياة الناس في قوالب من حديد لا يجرؤ على تغييرها إلا المغامرون، أقول: إن الذي يهمنا هنا هو أن نرى في تلك الأفكار الكبرى كيف كانت روح العصر تنادي بضرورة تحطيم الجمود، ولن يكون ذلك إلا بالتمهيد له بإقناع الناس بأن كل شيء، من الكون العظيم، إلى أصغر كائن من كائناته يتطور ويتغير في صور تتلاحق مع الزمن.

وإننا اليوم لنستطيع - خلال هذه الخلفية الفكرية التي سادت النصف الأول من هذا القرن العشرين بصفة عامة - أن ندرك قيمة الأدوار التي اضطلع بها أعلام الفكر والأدب في حياتنا إبان تلك الفترة، وبصفة خاصة ما شهدناه منها خلال العشرينات من أعوام القرن، ومن عمر صاحبنا في آن واحد، فقد كان هؤلاء الأعلام يجسدون بأشخاصهم وبأعمالهم روح هذا العصر الجديد، كل منهم في جانب من جوانب تلك الروح: أحمد لطفي السيد بما نادى به من وجوب الحرية الفردية المسئولة، رجلا كان ذلك الفرد أو امرأة، وطه حسين بما عمل على إشاعته في النفوس من إزاحة التقديس عن حقائق التاريخ، فالتاريخ الأدبي إذا روي عن شعراء عاشوا في فترة ماضية، كان من حق الناقد العصري أن يتثبت من روايته، بدءا من حقيقة وجود الشاعر، فإذا ألف المعاصرون منا أن يروا في الأسلاف بشرا من البشر، جاء ذلك كسبا لحرية الفكر والاعتداد بالنفس، وعباس محمود العقاد بمجموعة دواوينه الشعرية، إنما قدم للناس تطبيقا مجسدا للفردية المستقلة الحرة التي اضطلع لطفي السيد بالدعوة إليها في مجال السياسة، ويمكن القول كذلك - ما دمنا نتحدث عن الشعر - بأن أمير الشعراء أحمد شوقي قدم إلى الأمة العربية شعرا يرسخ في قلوبهم روح الانتماء القومي، وكان ذلك منه ظاهرا في الشكل وفي المضمون معا، ولئن كان شعر العقاد تعبيرا عن الفردية في وجودها السياسي، فإن جماعة «أبولو» التي تكونت في أوائل الثلاثينات، حرصت على أن تمثل بشعر شعرائها روح الفردية من جانبها الوجداني الخاص، وهكذا نستطيع أن نجد في روادنا من أعلام الجيل الماضي مرايا تعكس صورة العصر من شتى جوانبه.

لم تكن تلك الروح النزاعة نحو أن يتغير الإنسان تغيرا يهدم به صورة حضارية تحجرت صورها وأشكالها في أوضاع سياسية أقرت أن يكون بين الناس - جماعات وأفرادا - سيد ومسود، أقول: لم تكن الروح التي طالبت بأن تهدم الصورة الحضارية التي تعفنت بحلول هذا القرن، تقتصر علينا، بل العكس ربما كان أقرب إلى الصواب، أنها كانت قبل ذلك مشتعلة عند أعلام أوروبا من رجال الفكر والأدب، وجاءتنا نحن ومضات من ضيائهم، بما كان قد تود من صلات بين رواد حياتنا الثقافية ورواد حياتهم هناك في الغرب، إلا أن انعكاس الضوء على مرآتنا قد جاوز حدود الأصل ليثور على ذلك الأصل الوافد نفسه، كلما تعارض مع ركائز ثقافتنا، ومن هنا رأينا بين روادنا من شغل نفسه بالرد الرافض لما يكتب عبر البحر أو يقال على غرار ما فعل الأفغاني في «الرد على الدهريين» والشيخ محمد عبده في الرد على «هانوتو» و«رينان» والعقاد في الرد على كثير مما قاله مستشرقون كتبوا عن الإسلام والمسلمين، وإلى جانب هؤلاء الذين تأثروا بما كتب أو قيل في الغرب وتولوا الرد عليه، كانت هنالك جماعة تتخذ أسلوبا آخر في إيجاد التوازن الثقافي الذي يصون الهوية العربية الإسلامية حتى لا تنجرف مع تيار الفكر المنقول، وتتمثل تلك الجماعة في أفراد عرفوا كيف يكتبون بأقلام عربية قوية رصينة، مادة عربية وإسلامية أصيلة، كالذي نراه عند مصطفى صادق الرافعي، وأحمد حسن الزيات، والشيخ عبد العزيز البشري وغيرهم.

في هذه الدوامة الفكرية ووسط إعصار من رياح التجديد والتغيير، وقف صاحبنا في شبابه الطموح، وقفة من أراد أن يلتهم الأضداد جميعا، لعله يحيط بعصره من يمينه وشماله، لكنه آخر الأمر قد أمسك بطرف الخيط الذي يهديه إلى الطريق.

نار ونور

كان صاحبنا في الخامسة والعشرين، عندما انتقل من عشرينيات القرن إلى ثلاثينياته، لكن النقلة هنا لم تكن من عقد إلى عقد من عقود السنين وكفى، بل كانت ذات أبعاد أخرى وأغوار، فقد انتقل من دنيا التدريس ومن التحرك في أوساط الشباب من أنداده إلى التحرك في أوساط الرجال الراشدين، وأي رجال هم؟ إنهم صفوة من صفوة المثقفين، وذلك أن أخانا كان قد بدأ يكتب وينشر لسنوات خلون، ولا بد أن تكون كتابته قد اشتملت على شيء يستوقف أنظار الأئمة الرواد، فضلا عن جماعات المثقفين؛ لأنه تلقى دعوة شفوية لينضم عضوا في لجنة التأليف والترجمة والنشر، وكان ذلك في الأعوام الأولى من الثلاثينيات، وهي لجنة ثقافية تألفت سنة 1914م، وتولى رياستها الأستاذ أحمد أمين منذ يومها الأول وإلى أن توفي سنة 1954م، وأما أعضاؤها عندئذ فهم جماعة من ألمع ما سطعت به الحياة الثقافية من نجوم، واسمها دال على أهدافها وهي أهداف ثلاثة تذكرنا بالأهداف الثلاثة التي استهدفها رفاعة رافع الطهطاوي في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، وهذا معناه أن الأعوام المائة التي تقع بين الوقفتين لم تغير مما أرادته النهضة الثقافية لنفسها، فهي تريد قناتين تنتهيان إلى ثالثة تغذيانها بما تحملانه من حريق، والقناتان هما: إحياء الماضي الذي يستحق الإحياء ونقل من ثقافة الغرب لما يستحق أن ينقل، فيكون الأمل المرجو بعد ذلك هو أن يتلاقى الغذاء آتيا من نفائس آبائنا من قناة الإحياء، وآتيا من نتاج الغرب قديمه وحديثه على السواء، من قناة الترجمة، فإذا صادف ذلك المركب الغذائي موهبة أبدعت جديدا، بوحي مما استقبله من هنا ومن هناك، فكهذا أراد الطهطاوي عندما أنشئت له مدرسة الألسن، لتكون دارا للترجمة عن أوروبا، أضاف هو إلى الترجمة نشاطا آخر لنشر مختارات من عيون التراث، ثم جاءت مؤلفاته هو نموذجا بما يمكن أن يكون ضلع الإبداع من أضلاع المثلث الثقافي، وهكذا أيضا أراد مؤسسو لجنة التأليف والترجمة والنشر، وهو أن تنقل بالترجمة عن الغرب ما تختاره من نتاجه وأن تقوم على نشر ما ترى نشره من التراث وذلك بعد تحقيقه، ثم تترك للمواهب المبدعة أن تؤلف من لدنها ما تثمره تلك المواهب، وكان أحمد أمين هو المهندس الأول الذي يضع المطبوعة الزرقاء لما ينبغي أن تسير عليه خطوات البناء، فهو بحق طهطاوي القرن العشرين في مصر.

كانت هذه الخطة الثلاثية التي سارت عليها نهضتنا الثقافية، هي نفسها القاعدة التي لو جعلها من أراد تثقيف نفسه خطة يهتدي بها في تكوين بنيانه، لانتهى بنفسه إلى هوية متكاملة البناء سواء جاء ذلك البناء قليل الطوابق أو كثيرها، ثم هي هي الصورة التي يمكن اتخاذها ميزانا توزن به أقدار المثقفين خفة ورجحانا، فلو تعقبت أعلامنا الرواد جميعا لوجدت السمة المشتركة بينهم، هي أن يكون كل رائد منهم على علم واسع ودقيق بجانب من ميراث أسلافنا، كل في مجاله، وأن يكون في الوقت نفسه على معرفة بلغة أوروبية واحدة على الأقل تمكنه من متابعة ما ينتجه أصحاب تلك اللغة هناك من جديد يستحق العناية، فإذا تذكرنا أن اللغات الأوروبية ينقل بعضها عن بعض أهم ما ينتجه المبدعون في كل ميدان أدركنا أن معرفة لغة أجنبية واحدة تكفي صاحبها ليلم بجوانب الثقافة الأوروبية - والأمريكية بعد ذلك - أيا ما كان مصدرها، وإلى جانب العلم بما يهم ويكفي من تراث الآباء، والعلم بما يجدر العلم به من نتاج الغرب صاحب العصر وحضارته، ترى لكل رائد من أعلامنا ناتجا أبدعته قريحته، مستلهما فيه محصوله الذي جمعه من القناتين، وبالميزان الثلاثي نفسه، يمكن معرفة وجه التقصير والقصور فيمن أفلتت من أيديهم الصورة الثقافية وهي في حالة اكتمالها، وهؤلاء صنفان، فإما أن ترى الواحد منهم قد اكتفى بدارسة شيء من التراث ولم يلتفت إلى شيء من ثقافة الغرب، أو اكتفى بدراسة ما جاءه عن ثقافة الغرب، ولم يلتفت إلى إرث ماضيه، وفي كلتا الحالتين عرج يتعذر معه أن يجيء خطو السائر كما ينبغي له أن يجيء.

كانت تلك هي لجنة التأليف والترجمة والنشر، برئيسها وبأعضائها وبخطتها وبإنتاجها، وباجتماعاتها الأسبوعية كل خميس، التي كانت تجتذب كبار القوم من مصريين وغير مصريين من سائر أجزاء الوطن العربي، وفي تلك اللجنة أضحى صاحبنا عضوا من أعضائها، يملأ صدره وهم مخيف، بأنه قامة قصيرة وضعت بين قامات طوال، لكن ذلك الوهم لم يمنع أن يكون الشاب قد خرج من عقد العشرينات، حيث تكاثرت أمام ناظريه أفكار كبرى تأتيه من كل حدب وصوب، فخرج منها بواحدة جعلها محورا لنشاطه الفكري، ولا أظن أن ذلك المحور الأساسي قد تبدل مع أعوام بلغت به الستين منذ انتهت العشرينيات إلى أن بدأت من القرن تسعينياته، وذلك المحور الأساسي هو فكرة «التقدم»، فقد رآها تجمع له كثيرا جدا من العناصر التي لا غناء له عنها إذا هو أراد حقا أن يخدم أمته بفكره، فها هو ذا عصرنا تدوي جنباته بضجة النداء إلى تغيير حضاري شامل كامل، يهدم القديم العتيق من أساسه ليقيم الجديد مكانه ، وانظر حولك الآن - أعني الثلاثينيات - فثورة سياسية (1919) في أعقاب الحرب العالمية الأولى، أعقبتها ثورات فرعية خلال العشرينيات، في الاقتصاد، وفي الموسيقى، وفي الفن التشكيلي، وفي الشعر، وفي النقد الأدبي، وفي التعليم، وفي الأوضاع الاجتماعية، وإنما جاءت تلك الثورة المصرية وتفريعاتها في عالم امتلأ بالثورات: فالحركة الفاشية في إيطاليا، والحركة النازية في ألمانيا، والحركة الشيوعية في الروسيا، وغاندي في الهند وعصيانه المدني، والحرب الأهلية في إسبانيا، كلها جاءت لتغيير أسس الحياة من الجذور، ولا يعنينا هنا أن يكون بعضها قد طفا وبقي وأجحف الميزان، إذ نركز أبصارنا في نقطة واحدة، هي وجوب الهدم ليتاح لنا البناء على طراز جديد، وكان إلى جوار هذه الحركات السياسية حركات ثقافية تساعد على قوة المد في الاتجاه نفسه، وكما ذكرنا في حديثنا الماضي كان الفكر الفلسفي يتجه معظمه نحو رؤية «التطور» وقد أخذ بأطراف الكون كله، ثم ضاقت دوائره لتشمل كل كائن من كائنات الكون، وذهبت فكرة كان لها فيما مضى سيادة كلما أراد الإنسان أن يفهم الكون وكائناته، وحلت محلها فكرة أخرى تريد لنفسها الشيوع، وأما تلك التي ذهبت وذهب زمانها فهي افتراض الثبات في حقيقة الشيء المعين - كل شيء وأي شيء - لكن كيف يكون ثبات للنهر، والشجرة، وكوكب الأرض وأي شيء تختاره، إذا كنا ننظر فنرى رؤية العين أن كل شيء يتغير لحظة بعد لحظة: الماء في النهر قد جرى ليحل محله ماء آخر، الشجرة تتغير أوراقها وأزهارها وثمارها، الكوكب الأرضي يتناوبه الليل والنهار، كما تتبادله فصول السنة الأربعة: صيف، فخريف، فشتاء، فربيع؟ أين يكون ذلك الثبات المزعوم إذن؟ آه - كان الجواب فيما مضى - أن لكل شيء «جوهرا» لا تراه عيناك ولكن عقلك يدركه - وذلك الجوهر يحمل الصفات الأساسية التي تجعل أي شيء هو ما هو، فيكون القط قطا والعصفور عصفورا، والإنسان إنسانا، وهكذا، ومثل هذا «الجوهر» في الشيء المعين ثابت، ومن ثباته يستمد الكائن ثباته، هكذا كان يجيء الجواب لمن يرى الأشياء تتغير أمام عينيه، فيسأل: أين هو الثبات المزعوم؟

فجاءتنا فلسفة عصرنا هذا برؤية أخرى تتلاءم مع فكرة «التطور» التي تسود، وهي أن أي شيء في هذا الوجود، بل الوجود كله، في مجموعه، إنما هو «سيرة» أي إنه «تاريخ» بمعنى أنه يتألف من حالات - تختلف أو تتشابه - يعقب بعضها بعضا في تلاحق سريع، والذل يوهمك بأنه «واحد» و«ثابت» أن له عندك «اسما» واحدا، وأن حالاته المتغيرة المتلاحقة قد يضمها «إطار» يوهم بوحدانيتها، كأفراد النحل في الخلية، ومن هذين العاملين يجيئك وهم الواجدية في شيء ما، فإذا قلنا - مثلا - «جامعة القاهرة» سبق إلى الظن بأن هذا الاسم يشير إلى كائن واحد ثابت، لكن دقق النظر تجد «جامعة القاهرة» إنما هو اسم يشير إلى عالم يعج بتفصيلاته وأفراده وتغيراته لحظة بعد أخرى، فالأمر في كل شيء شبيه بمعزوفة موسيقية، أو بمسرحية تشاهدها على المسرح، فالمعزوفة «امتداد» زمني تتوالى فيه الأنغام، لكل نغمة وجودها الخاص، والمسرحية أحداث تتلاحق لكل حدث منها وجوده الخاص، وعلى هذا التصور راجع رؤيتك للكائنات وفهمها على الوجه الصحيح.

على أنه لا ينبغي لنا أن ننسى بأن هذا التصور الجديد لحقائق الأشياء، هو مجرد «حالات» تتغير وتتلاحق متتابعة، وليس في ذلك ما يدل على «التقدم»، وإذن فلا بد لنا من إضافة نضيفها إلى مجرد التغير لنجعل منها «تقدما» فماذا نضيف؟ الجواب في كلمة واحدة - كما تصوره صاحبنا وهو في مرحلة انتقاله من عشرينيات القرن إلى ثلاثينياته - هو «الهدف» الواحد يشيع بين مبدعي الثقافة، فيتجه إبداعهم نحو ذلك الهدف، كل بلغة مجاله الذي يبدع فيه الأنغام عند الموسيقي، والكلمات عند الشاعر، والأديب، والألوان والخطوط عند الفنان التشكيلي، والحجر والخشب والحديد مع منوعات من معادن أخرى، عند النحات والمعماري، وقد كان المناخ العام - كما رآه أخونا عندئذ - ينبئ بأن التوحد النسبي للهدف الذي شهدته سنوات العشرينات وما قبلها بقليل، قد أخذ يتفكك، ويتكثر، فهنالك نشأت جماعة الإخوان المسلمين تنادي بالعودة إلى الماضي لنأخذ منه الهدف، وهنالك متوازية مع تلك الدعوة وليس تأثرا بها، ولا نتيجة لها ، شغل أعلامنا في كثرتهم الغالبة بالتوجه نحو ينابيع إسلامية يستمدونها موضوعات للكتابة، بل - وأحيانا - مناهج للتفكير، وكانوا في ذلك كأنهم في سباق، ونحن في هذا السياق من الحديث لا نريد الموافقة أو المعارضة، بقدر ما نريد إثبات الرؤية التي رأى بها صاحبنا أحداث عصره واستجاب لها تأييدا أو تفنيدا، ولقد كانت رؤيته يومئذ لذلك التحول الذي بدأت تتحول به أعلام الثلاثينيات عن أعوام العشرينيات هي المعارضة، فذلك التحول من شأنه أن يؤدي إلى نتيجتين؛ إحداهما: أن تتعدد الأهداف بين المبدعين، فهذا يشد الأبصار إلى ما فات وذلك يشدها إلى ما هو آت، وأما النتيجة الثانية: فهي أن الرجوع إلى الماضي لالتقاط أهدافنا من تصورات الأمس، هو بمثابة رفض صريح لفكرة «التقدم» التي هي من أبرز ما يميز الوجه الثقافي لعصرنا هذا.

وإن هذا الكاتب لعلى يقين بأن القارئ ستأخذه الدهشة من هذا القول العجيب، ففكرة «التقدم»، في ظن الكثرة الكاثرة من الناس، فكرة تمليها البديهة الفطرية، يدركها كل إنسان في كل عصر، كما يدرك ضوء الشمس بمجرد اللفتة بالبصر، فكيف تزعم أنها وليدة هذا العصر؟ وسوف أتقدم بالجواب بعد قليل، إذ لا مندوحة لنا قبل التعرض لفكرة التقدم؟ وما يراد بها عن توضيح نقطة تستحق الوضوح، فقد قدمنا لك بأن أبرز ملامح الفكر المعاصر كله: رؤيته للكون والكائنات بمنظار «التطور»، فبعد أن كان الظن في كل شيء هو أن الأصل فيه سكون وثبات، حتى يطرأ عليه من خارجه عامل يحركه من سكونه ويبث فيه التغير بعد ثباته وسباته أصبح الظن هو أن الأصل في كل شيء حركة وتغير، إلا إذا جاءه عامل من خارجه فأوقف حركته ورده إلى سكون، وأزال عنه التغير ليصبه في قالب الثبات، ولقد أنبأتك عن صاحبنا بأنه كان قبل انتقاله إلى أعوام الثلاثينيات، قد عبأ رأسه بقدر كاف من نظريات التطور في صورته العامة وبقدر كبير من المذهب الذي جعل كل شيء - والكائنات الحية بما فيها الإنسان بصفة خاصة - هو في حقيقته «سيرة» تتعاقب فيها الأحداث والحالات، وليس «جوهرا» يتصف بالدوام والصمود، وهنا من حق السائل أن يسأل: إذا كانت حقيقة «الإنسان» - كغيره من الكائنات حية وجامدة على السواء - هي أنه سيل يتدفق بأحداث متفرقة وحالات متغيرة، فما الذي «يتقدم» فيه أو يتأخر؟ إن «التقدم» أو «التأخر» لا يدلان على معنى مفهوم، إلا إذا جاءت الصفة منهما لتصف هوية معينة محددة، مما لا يتيسر قيامه في وجود ليس فيه إلا تيار دافق من متفرقات، وهذا صحيح، إلا أن الذي يحدث بالفعل، إذا ما أريد للإنسان - أو أي كائن آخر - أن يبقى له جانب من جوانبه على ثبات يصمد ويدوم، عمل ولي الأمر على تربية تمسك بما شاء من صفات، فيحول بينها وبين أن تتغير، فتصبح تلك الصفات هي «هويته» التي يعرف بها، وذلك هو ما يحدث حيث ثبت في الناس كل يوم، بل كل لحظة من كل يوم، أن يفعل كذا وألا يفعل كيت وأن يقول كذا وألا يقول كيت، على أن هذا الجانب الذي يعمل ولي الأمر على تثبيته فيمن يربيه لا يستعصي فيما بعد على علماء النفس أن يمحوه ويغيروه، وكلنا يعلم ما يسمى ب «غسل المخ» فهو إجراء عم وشاع في عصرنا، بحيث أصبح في مستطاع ولي الأمر، أن يشكل هوية إنسان على أي نحو أراد، بل إن تلك هي إحدى الكوارث التي قد يكرث بها دكتاتور أفراد شعبه، مستعينا بوسائل الإعلام، فيصوغ هؤلاء الأفراد ليتشابهوا جميعا وكأنهم سيارات من طراز معين، أخرجها مصنع واحد على طراز واحد.

والآن وقد أجبنا على سؤال السائل عن جانب الثبات من كيان الإنسان، الذي يجوز لنا أن نتحدث عنه بلغة «التقدم» بقي علينا أن نواجه دهشة المتعجب من أن يكون «التقدم» منسوبا إلى عصرنا، فهل كانت هذه البدهية مجهولة للسابقين، حتى كشف عنها هذا العصر؟ والجواب هو بالإيجاب، نعم، لم يكن السابقون يديرون حياتهم ... حول محور «التقدم» بالمعنى المراد بهذه الكلمة اليوم، وأول جانب من جوانب هذا المعنى، هو أن ينظر إلى كل مرحلة لاحقة، من حياة الإنسانية على أنها لا بد لها أن تكون أعلى درجة من أية مرحلة سبقتها في ذلك التاريخ، فالمرحلة اللاحقة - عند الأخذ بفكرة «التقدم» - أعلم وأفضل وأقدر وأقرب إلى الكمال كما يتصوره خيال الإنسان، من المراحل السابقة، وبالطبع قد تحدث نكسات في الطريق، إلا أن المنحنى العام هو في جملته متجه إلى صعود، كما يفترض النمو في الطفل ولا يبطل هذا النمو أن يعترضه مرض يوقفه إلى حين، حتى يصح فيستأنف نموه من جديد، ولم تكن هذه هي نظرة السابقين في مقارنة حاضرهم بماضيهم، فالإطار الفكري العام عند الإنسان إذا ترك لفطرته، هو أن يجعل «العصر الذهبي» فيما قد انقضى، فأبطال الماضي في كل الميادين لا يتساوى معه أبطال الحاضر، فلا القديس هو القديس، ولا القائد هو القائد، ولا الشاعر هو الشاعر ولا الحكيم هو الحكيم، وهو موقف ينتج بالضرورة لمن يسقط فكرة «التطور» من حسابه، إذ هو في هذه الحالة ينظر إلى الكون بكل ما فيه، فنظرته إلى أثاث البيت، كان أول عهده جديدا سليما نظيفا، ثم أخذ مع الأيام يفقد جدته ورونقه، فلا ألوانه تبقى على لمعانها، ولا المقاعد والمناضد تسلم لها قوائمها، وكل شيء فيه باهت وعتيق.

ولعل قارئنا يلتفت إلى أهمية الفكرة التي أسلفناها عن حقيقة «الهوية» من ناحية الخصائص التي تخلع عليها الثبات النسبي، سواء أكانت هوية فرد معين، أم هوية شعب بأسره دامت له خصائصه الأساسية على امتداد الزمن، وأعني التفاته إلى حقيقة كون الخصائص الثابتة تستمد ثباتها ذاك بفعل التربية والنشأة في ظروف أسرية واجتماعية وبيئية معينة، فمعنى ذلك هو أن هوية الشخص الواحد، أو الشعب الواحد، أمر مكتسب وليس هو مغروسا بغراء في جبلة الإنسان، وإذا كنا قد أصبنا في هذا الزعم، كان لهذه الحقيقة المزعومة أهمية كبرى في موقفنا الاجتماعي الراهن - سواء أخذنا المصري في مصريته، أم أخذناه مواطنا عربيا - وذلك لأننا نود أن تكون الأولوية الحاسمة في تربيتنا لأبنائنا وبناتنا لغرس الخصائص التي تهيئ العربي لمواجهة عصره قويا، واثقا في نفسه، يأخذ من معاصريه ويعطيهم ، ويا ليته يعطي أكثر مما أخذ، فإذا كانت تلك الخصائص الملائمة لعصر العلم الطبيعي والصناعة بتقنياتها الجديدة موجودة بالفعل في الهوية العربية المتوارثة فذلك خير، وأما إذا لم تكن كان علينا أن نبثها في الناشئين لتندمج في كيانهم عنصرا جديدا في مكونات الهوية المصرية العربية، فذلك أمر تربوي وارد وواجب، ولا تناقض فيه.

انتقل صاحبنا من عشرينيات القرن إلى ثلاثينياته، كما انتقل في الوقت نفسه من مرحلة الطلب في دور التعليم إلى مرحلة النضج الذي يضطلع بنصيبه في الإنتاج الثقافي وقد تصادف - كما قلنا - أن تزامن هذا الانتقال (تقريبا) مع انضمامه عضوا في أعلى لجنة ثقافية في تلك الفترة الزمنية، فوجد نفسه مع صفوة العقول وأئمة المبدعين وكان ممتلئ الرأس بقطوف من دراساته ومطالعاته عن أهم تيارات الفكر في الغرب، و«الغرب» عندئذ كان يعني عندنا أوروبا وحدها؛ لأن الولايات المتحدة الأمريكية لم تدخل مسرحنا الفكري بدرجة ملحوظة إلا في أربعينيات القرن، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وأهم ما انتقل به صاحبنا من أفكار تشغله ويتحمس لها فكرة «التطور»، ومن ثم ففكرة «التغيير» وبالتالي فكرة «التقدم» بالمعنى الذي أسلفناه، والذي هو أن يكون بين مسلماتنا الثقافية اعتقاد بأن الحاضر - دائما - أفضل وأكمل من الماضي، اللهم إلا في عصور النكسات التي تتجمد فيها حركة التاريخ، أو تشتد النكسة فيرتد التاريخ منكفئا على ماضيه.

ولم يلبث صديقنا الشاب، وقد أدخلوه في أهل الذروة الثقافية ليكون من الوجهة الشكلية واحدا منهم، أقول إنه لم يلبث أن رأى - من الوجهة العملية - أمرا عجبا، وهو أن تلك الصفوة الثقافية الممتازة لم تستطع أن تجعل معيار الرفع والخفض ثقافيا خالصا ما داموا جمعية ثقافية في أساسها، بل لازمتهم عقدة «السلطة» التي هي داؤنا التاريخي العتيد الذي لم يجد له حتى هذه الساعة دواء، فمن كان ذا منصب أعلى بمقياس الدواوين الحكومية، كان عندهم أعلى مرتبة في جماعة المثقفين كذلك، حتى ولو لم يحمل قلمه مرة واحدة ليخط به كلمة واحدة مما تعرف الناس على أنه «ثقافة » بأي معنى من معانيها، وعلى الصغير بمقياسهم ذاك أن يظل صغيرا حتى ولو ملأ لهم الدنيا فكرا وأدبا، وقد بدا لصاحبنا الشاب حقائق الموقف بوضوح، وهي أنه في جماعة تحتذي حذو خلايا النحل، نحلة فيها بحكم الطبيعة سلطة الحاكم، ونحلة أخرى فيها بحكم الطبيعة أيضا ذلة المحكوم، لكن صاحبنا بعد أن لحظ ما لحظه، طواه بين ضلوعه لأنه كان على بينة من هدفه، وهدفه هو أن يضع نفسه في «النور»، نور الفكر الرفيع، فإذا لم يكن في مستطاعه أن يضيف من عنده نورا إلى نور، فلا أقل من أن ينعم بنور الآخرين من الهداة الكاشفين.

والله أعلم هل أصاب أخونا في اختياره أو أخطأ، فالناس طبائع واهتمامات وأهداف، وقد حدث بعد ذلك ببضعة أعوام أن التحق باللجنة صديق أديب شاعر كان على طبع مختلف، فلم يكد يرى ما كان صاحبنا قد رآه، حتى ضجر وأخذه القلق وتحدث إلى صاحبنا ذات يوم يكاشفه بما يشعر، قائلا: إنه يرفض أن يقف أمام المذود كالثور الغبي، ينتظر حتى يقذف له سيده بما شاء من الدريس، فسأله صاحبنا: وماذا تريد؟ قال مجيبا: أريد أن نترك هذه اللجنة لأصحابها، وننشئ أخرى نكون نحن أصحابها. فلم يتردد صاحبنا في الرد القاطع: كلا، يا صديقي فأنا باق مع هؤلاء معترفا أمام نفسي بأن في الناس كبيرا وصغيرا.

ولماذا أقول هذا نقلا عن خبرة لصاحبنا امتزجت له فيها النار والنور؟ إنني أقوله لأعلن به عن علة قاتلة تكمن جراثيمها في قلوب قلوبنا، فماذا تنفع ثقافة في تغيير الناس نحو الأعلى والأقوى والأفضل، إذا كان حامل تلك الثقافة وناشرها لا يؤمن بها، ولو آمن لغير من نفسه قبل أن يطالب الناس بالتغيير:

يأيها الرجل المعلم غيره

هلا لنفسك كان ذا التعليم؟

هكذا تساءل شاعر عربي، وهكذا نتساءل معه، إنه هو «التقدم» الذي كان يريده صاحبنا قبل أن يلتحق بتلك الجماعة وبعد أن التحق، والتقدم تغيير نحو الأكمل، ولو سئل هذا الكاتب: ما الذي تراه علة العلل في وجودنا الاجتماعي الضعيف؟ أجاب بغير تردد: إنه هو حب التسلط على الآخرين ... «السلطة» متمثلة في مناصب الحكم، هي عندنا القيمة الأولى بين القيم، قل لي كم لك من نفوذ تخترق به القوانين بلا رادع ولا عقاب، أقل لك أين يكون موقعك من درجات المجتمع، وكان الأمل أن تعمل أقلام الكاتبين عمل الفئوس، تحطم هذا البناء الذي يقام على افتراض مسبق بأن يكون للطغيان مكانة أولى في سلم القيم، فماذا تقول؟ إن حملة الأقلام على نقيض ما يبشرون به من وجوب قيام العدل أساسا لبناء المجتمع يريدون لأنفسهم مكانة الطاغية والويل ثم الويل لمن نشأ في مجتمعنا على ميل نحو التواضع؟ لأنه بين غمضة عين وانتباهتها واقع لا محالة مواقع الفرائس ينهش لحمها حلالا بلالا بغير مقابل أو بالنزر اليسير.

ربما كان في هذا التصوير تهويل تورط فيه القلم، لكنه يعين على إيضاح المناخ الثقافي كما شهده صاحبنا، حين اقترب من الصفوة شابا امتلأ رأسه وقلبه معا بما درس وطالع من فكر ووجدان يصلحان لتحقيق «التقدم» والنهوض، ولقد وفق بالفعل إلى مشكاة فيها مصباح، إلا أن المصباح لم يكن في زجاجة، فاختلط فيه الأمر بين نار ونور.

منهج جديد

كان الزمن لا يزال في أعوامه الأولى من ثلاثينيات القرن العشرين يزحف في بطء مثقلا بأحداثه، عندما فرغ صاحبنا من ترجمة المحاورات الأفلاطونية الأربع، التي يطلق عليها أحيانا اسم المحاورات السقراطية؛ لأن شخصية سقراط فيها لم تقتصر - كما أراد لها أفلاطون في سائر محاوراته الأخرى - على أن تكون وسيطا ينطق بفكر أفلاطون، بل هي محاورات أربع موضوعها هو شخص سقراط، مدافعا عن نفسه في المحكمة التي ساءلته عن أفكاره التي كان يبثها فيمن يحاورهم من الشباب الأثيني، وشارحا لموقفه من قوانين المدينة، كيف كان موقف من يحترمها وينصاع لها عن طواعية، مع الدعوة إلى وجوب تغييرها لما كان يراه فيها من قصور، ومعلنا عن شوقه إلى عبور البرزخ الذي يفصل بين الحياة الدنيا وخلود الحياة الآخرة، ولقد كان مشهدا مثيرا لأنصاره من الشباب الذين أحاطوا به، وقد جرع السم الذي أعطاه إياه حارس السجن، ولم يعد إلا أن يسري ذلك السم في جسمه ليكون الختام، لكنه قبل تلك النهاية بلحظة قصيرة رفع الغطاء عن وجهه، وطلب ممن كانوا حوله أن يقدموا ديكا إلى أسكلبيوس نيابة عنه، وكان أهل أثينا قد اعتادوا أن ينسبوا شفاء الحمى، إلى سحر أسكلبيوس، فيقدم له من كان مريضا ديكا ضحية ترمز إلى عرفانه بجميل الشفاء، وقد قصد سقراط بإشارته تلك إلى مريديه بأن يقدموا تلك الضحية نيابة عنه، أن يعلن شعوره بالخلاص من حمى الحياة الدنيا.

كان صاحبنا قد فرغ في أوائل ثلاثينيات القرن، من ترجمة المحاورات السقراطية الأربع، وقد تركت فيه أعمق الأثر من عدة وجوه: فأولا وقبل أي شيء آخر، كانت تلك الوقفة مع شخص سقراط كما تجلى في محاوراته تلك، هي بمثابة الخطوة الأولى على طريق تربيته تربية منهجية، تمهد له السبيل إلى نشاط فكري مستقيم، وذلك أن الفيلسوف قد حاول مع محاوريه - لأول مرة في تاريخ الفكر الإنساني - أن يحددوا معاني الكلمات التي يستخدمونها في مجالات الحياة الجارية، وإلا فهل يعقل أن يتحدث ناقد عن أثر من آثار الفن وهو لا يدري بأي الخصائص يتميز «الفن»؟ وهل يعقل أن يتشدق سياسي بالديمقراطية، حتى إذا ما سئل عن الديمقراطية عجز عن الجواب؟ وهل يعقل أن يجد الشاب «أوطيفرون» في المحكمة مطالبا بإنزال العقاب الملائم على أبيه؛ لأن أباه قد طرح بأحد عبيده في خندق فقتله، حتى إذا ما سأله سقراط ليحدد له معنى «التقوى» التي اتهم أباه بالخروج عليها، لم يجد الشاب عنده للسؤال جوابا، سوى أن قال لسقراط: إن التقوى هي عمل كهذا الذي أقوم به الآن، وهنا قدم الفيلسوف للشاب في إيجاز، ما يعلمه بأن «العلم» الصحيح بحقيقة من الحقائق لا يكون بذكر جزئية تندرج مع غيرها من جزئيات السلوك، لتكون هي الأمثلة العابرة على الحقيقة العلمية لفكرة من الأفكار، فقد كان واجبا عقليا على أوطيفرون، قبل أن يتهم أباه في المحكمة بأنه قد خرج على حدود «التقوى»، فاستحق العقاب، أن يعلم أولا تعريف «التقوى» تعريفا محكما، يكون بعد ذلك هو المرجع الذي تقاس إليه جزئيات السلوك البشري، لنميز فيها بين التقي والفاجر.

فكان هذا هو أول الدروس التي تعلمها صاحبنا خلال ترجمته لتلك المحاورات الأربع، ومع ذلك فما لبث طويلا بعد هذا الدرس، حتى وجد في التحليلات المعاصرة ما يضيف إليه إضافات تزيده اقترابا من الدقة العلمية كما ينبغي لها أن تكون، وشرح ذلك في إيجاز، هو أن سقراط - وجميع فلاسفة اليونان مع معظم الفلاسفة قبل عصرنا هذا، الذي نراه متمثلا في القرن العشرين كله، وما قبله من أواخر عقود القرن الذي سبقه - أقول إن هؤلاء جميعا كانوا على ظن بأن المعنى الكلي الواحد، يعد حقيقة عقلية مستقلة بذاتها، ويمكن تعريفها وتحديدها، كالمعنى الكلي الذي شغل به سقراط مع الشاب الذي قابله في ساحة المحكمة يتهم أباه، وهو معنى «التقوى» ويجري مجراه كل المعاني العامة: الحرية، العدالة، المساواة، الصدق، الوفاء ... إلخ إلخ، ولم يكن أحد من هؤلاء قد أدرك حقيقة الأمر، كما كشف عنها التحليل المنطقي الرياضي في العصر القائم ألا وهي: إن أي معنى، من هذه المعاني العامة، إن هو في واقع أمره إلا تكثيف لجملة كاملة ضغطت في مفرد لغوي واحد، فإذا أردنا أن نرفع عن الفكرة تكثيفها لتظهر عناصرها المضمرة اضطررنا عندئذ أن نبحث عن «مبتدأ» للخبر الموجود في المعنى المتمثل في الوحدة اللغوية التي بين أيدينا، فبدل أن أجاز الشاب أوطفرون لنفسه أن يستخدم كلمة «تقوى» وكأنها حقيقة كاملة قائمة برأسها مكتفية بذاتها، كان لزاما عليه أن يستحضر في ذهنه الخصائص الجوهرية في سلوك الإنسان، الذي يقال عنه إنه «تقوى»، وبهذا تكتمل الفكرة مبتدأ وخبرا، إذ تصبح على هذه الصورة: كذا وكذا وكيت من العناصر السلوكية هو التقوى، وبعبارة أخرى: إنه لا يجوز لصاحب الفكر العلمي أن يستخدم اسما ما، إلا إذا سبق ذلك علمه بما يسميه ذلك الاسم، وإنه لكثيرا جدا ما يحدث لصاحب الفكر الغامض المهوش، أن يملأ شدقيه بكلمات وعبارات على حساب أنها فكر من الفكر بمعناه الصحيح، فإذا طالبته أن يصور لك تفصيلات الموقف الحي، الذي يتصور وجوده من خلال كلماته، عجز عن التصوير نتيجة لعجزه عن التصور، ومن هنا ندرك دقة الفقهاء المسلمين حين أدركوا أن «الحكم على شيء فرع عن تصوره» - كما قالوا - أي إنك لا يحق لك حكم، ما لم تكن قد كملت لك الصورة الذهنية لحقيقة من الحقائق، بتفصيلاتها الأساسية التي تتيح لك أن تتصور كيف يكون موقع الأشياء في عالم الأشياء إذا صدق ذلك التصور الذهني المزعوم.

لقد كان ذلك هو نفسه ما يتضمنه منهج الفكر الرياضي، والفكر العلمي المتصل بالعلوم الطبيعية كذلك، على ما بين الحالتين من أوجه اختلاف، ففي الفكر الرياضي لا يحل لصاحبه أن يستخدم أسماء كالنقطة والخط والسطح والمثلث إلخ، إلا إذا بين لنا ما «يفترض» وجوده من خصائص في كل اسم من هذه الأسماء، كأن يقول: إن النقطة هي ما ليس له أبعاد، والخط هو طول بغير عرض، والمثلث هو سطح مستو يحيط به ثلاثة خطوط مستقيمة وهكذا، ولعلك قد لحظت أني وضعت كلمة «افترض» بين حواصر لتلتفت إلى أن الأمر كله عند الفكر الرياضي افتراض لمعان يطلب التسليم بما تعنيه بغير بحث؛ لأنه هو الأساس الذي سوف تقام عليه النتائج الرياضية فيما بعد، وأما في العلوم الطبيعية، فالأسماء تحدد أيضا بتفصيلات مسمياتها، لا على سبيل «الافتراض» الذي يسلم بدون بحث، بل على سبيل الواقع الفعلي كما يقع، فإذا استخدم اسم «الماء» أو «الهواء» أو «الخشب» أو «القمح» أو ما شئت، كان على رجل العلم أن يحدد العناصر الداخلة في تكوين ما أراد معرفته معرفة علمية، والمقدار الذي يجيء به كل عنصر، وبغير هذه المعرفة التحليلية، يبقى الأمر بين الناس مجرد «خبرة» بالأشياء في استعمالاتها العملية، والفرق بعيد بين الحالتين.

كان سقراط، ومعظم الفلاسفة السابقين، إذ هم يبحثون عن دقة المعنى لأي معنى من المعاني العامة، مثل قولنا «حرية» و «عدالة»، بل وفيما يختص بالأسماء التي نشير بها إلى أنواع الكائنات مثل قولنا «شجرة» و«نهر» يفكرون على منهاج الفكر الرياضي، ففي العلوم الرياضية تنتقل الحركة العقلية من فكرة إلى فكرة دون أن يعنى الرياضي بالوقائع الفعلية التي تقع في دنيا الأشياء، إذ العملية الفكرية الرياضية تكون صحيحة على أساس سلامة الاستدلال وليس على أساس التطابق الفعلي مع واقعة معينة، كما هي الحال في العلوم الطبيعية، ومعها في ذلك العلوم الإنسانية، وهكذا كان الفلاسفة فيما مضى، يغلب عليهم الأسلوب الرياضي في التفكير، سواء أكان موضوع البحث هو فرع من فروع الرياضة حقا، أم كان موضوعا يختص بظاهرة من ظواهر الطبيعة؛ وذلك لأن الرأي عندئذ كاد يجمع على أن منهج التفكير السليم واحد مهما تغير موضوع البحث، وما هكذا الموقف المنهجي اليوم؛ لأن فروقا جوهرية بين طريقة العالم الرياضي وطريقة العالم في مجال العلوم الطبيعية تبينت تحت مجهر التحليل، مما اقتضى أن يكون لكل من مجموعتي العلوم منهاجها الخاص.

وبناء على هذه التفرقة في المنهج، تفرقة تدور مع اختلاف الموضوع المبحوث، يصبح تحديد المعاني في موضوع مثل «حرية» و«ديمقراطية» وفي موضوع مثل «شجرة» و«نهر» لا يتساوى مع الطريقة التي نحدد بها المعاني في موضوعات رياضية كالمثلث والمربع في الهندسة، والصفر والواحد في الحساب؛ ففي الحالة الأولى يجب البحث في دنيا الواقع عن العناصر الحقيقية التي إذا اجتمعت في سلوك الإنسان قيل: هذه «حرية» أو هذه ديمقراطية مما يقرب جدا من قولنا: هذا «نهر» وهذه «شجرة»، على أساس ما كنا قد جمعناه من تفصيلات أساسية منها تنسج الحرية والديمقراطية، أو النهر والشجرة، وأما في العلوم الرياضية فالأمر جد مختلف؛ لأن المعاني التي تؤديها «الرموز» لا تستمد من الواقع كما يحدث، بل هي فروض يفرضها العقل يبني عليها ما يبنيه من نتائج، وقد تنطبق بعد ذلك على الواقع أو لا تنطبق، أي إن العقل الرياضي هو الذي يفرز مادته، التي ينصب عليها الفكر، ليخرج معادلة من معادلة إخراجا صحيحا بمقدار ما روعيت فيه مبادئ الاستدلال، لكنه لا يضمن له آخر الأمر أنه هو الذي يصور حقائق الواقع، وهذا الذي نقوله يتمثل على مستوى الإبداع العلمي في أرفع درجاته، كما يتمثل شيء منه في العمليات الرياضية التي نمارسها في حياتنا الجارية، فافرض مثلا أن استوقفك في الطريق عابر سبيل، وطلب منك أن تراجع له فاتورة حساب أخذها من تاجر عن بضاعة اشتراها منه، لترى إذا كانت عمليات الحساب كالجمع أو الطرح صحيحة، فتراجع له هذه العمليات الحسابية كما هي واردة في الفاتورة، وتجدها صحيحة كلها، فها هنا تكون صحتها «رياضية»، لكنها لا تضمن للرجل أي شيء خاص بالبضاعة نفسها، هل سلمت إليه بالمقادير المذكورة في الفاتورة أم حدث اختلاف بين المكتوب وواقع الأحداث.

إنك إذا أمسكت بقبضة قوية على الفارق الذي يميز هاتين الحالتين من صور الترابط بين أجزاء الكلام، وإذا قلنا أجزاء الكلام فقد قلنا جوانب الفكرة أو الأفكار المعروضة في ذلك الكلام، أقول: إنك إذا أمسكت بالفارق بين الصورتين فقد أمسكت حقا بمفتاح منهجي، يبين لك الاختلاف من جذوره بين تفكير ساد العصور القديمة كلها تقريبا، وهو نفسه الذي ما زال يسود تفكيرنا نحن أبناء الأمة العربية إلى حد كبير، وبين تفكير آخر، هو الذي انتقلت به أوروبا من عصورها الوسطى إلى العصر الحديث وإلى يومنا هذا، ولكي أزيدك إيضاحا بذلك الفارق أضرب لك مثلين صغيرين: فانظر - مثلا - إلى هذه العبارة: «إن تضحية المواطن لوطنه تضحية تتفاوت درجاتها من تقديم شيء قليل من ماله في سبيل الجهود الذاتية للتعمير والإصلاح.» انظر إلى العبارة مدققا، تجدها قد جعلت مبدأ «الانتماء» أساسا أوليا، تتولد عند نتيجة هي وجوب التضحية من المواطن لوطنه، وعن هذه النتيجة تتولد نتيجة فرعية هي تفاوت الصور التي تجيء عليها التضحية كما وكيفا، وهذا التسلسل الفكري مستطاع حتى لمن عاش عمره حبيس داره لم تقبس عيناه قبسا واحدا من وقائع الدنيا من حوله، ولا ينفي ذلك كونه مسلسلا فكريا صحيحا في ذاته، إلا أنه قائم كله على معرفة مفردات لغوية، وليس فيه ما يقتضي دراسة ظاهرة من ظواهر الكون كائنة ما كانت، وهو بأكمله متوقف على معنى المبدأ الذي جاء في صدر العملية الفكرية، وأعني مبدأ الانتماء، فإذا تبين - وكثيرا جدا ما يتبين - أن صاحب هذه العبارة إذا ما سئل عن تعريف «الانتماء» الذي جعل أساسا لتفكيره، عجز عن الجواب، ومن هنا يتبدى لنا جوهر الرسالة السقراطية التي أشرنا إليها في أوائل هذا الحديث، فما دام اللفظ الذي جعلناه سندا للعملية الفكرية هو بهذه الأهمية كلها وهذه الخطورة كلها فلا مناص لنا من دقة تعريفه تعريفا يتساوى في دقته مع تعريفنا للمفاهيم الرياضية كالمثلث والمربع، ولهذا يقال عن رسالة سقراط إنها كانت محاولة منه ليجعل المعاني الأخلاقية وكأنها من أسرة الفكر الرياضي، ولو استطاع الإنسان ذلك لتخلص من مشكلات تثقل حياته بهموم أثقل، من رواسي الجبال، فكل الحروب التي نشأت بين الفرق المتخاصمة إنما ترجع إلى اختلاف بينها في فهم «مبدأ» لفظي معين، استخلص منه كل من الفريقين نتائج تختلف عما استخلصه الفريق الآخر، وانظر إلى أقطار الأمة العربية كيف تجتمع كلها على مبدأ «الوحدة العربية»، لكنها تفرقت في تصورها لمعنى الوحدة؛ فتفرقت النتائج، وحدث التشقق والصراع.

تلك - إذن - صورة مصغرة لإحدى الحالتين من عمليات التفكير، وهي حالة - كما رأيت - تدور كلها بين جدران الألفاظ وثناياها، فتبدأ بكلمة أو كلمات، ثم تنتقل من كلام إلى كلام، وأما الحالة الثانية فهي تلك التي تبدأ من لقطات تلقطها بالحواس بادئ ذي بدء، حتى تتكون منها مشاهدات وتجارب، تتمركز حول ظاهرة معينة من ظواهر الكون، كظاهرة الضوء، أو الكهرباء، أو الجاذبية، أو تكوين الصخور في طبقات القشرة الأرضية، أو مصادر الطاقة المختلفة كالفحم والبترول والقوة النووية ... إلخ، فنقطة الأساس التي ستقام عليه العملية الفكرية، في هذه الحالة، ليست كلمة أو كلمات يفهمها كل على طريقته، بل هي وقائع شوهدت ورصدت ووصفت، ثم فسرت باستخلاص ما هو متضمن فيها من قوانين تضبط مسارها، وأظنه قد بات واضحا، مما ذكرناه، أن طريقة التفكير في الحالة الأولى رياضية الطابع ، أعني أنها تنحصر في «توليد» النتائج من مقدمات على نحو ما وضع مبدأ «الانتماء» - في المثل الذي أسلفناه - ثم استنبطت منه نتائجه، ولا فرق، من حيث الجوهر، في الطريقة الرياضية أن تكون مركبات «الرموز» التي توضع مقدمات، وما يتولد عنها رموزا كالأعداد والأشكال وأحرف الهجاء، وبين أن تكون مركبات «الرموز» المستخدمة كلمات تتألف منها جمل، فالمهم هنا هو التشابه في طريقة التوليد، وهكذا كانت صورة الفكر في العصور القديمة كلها. أما قراءة الواقع الطبيعي لاستخراج قوانينه، فلم يعرفه الإنسان معرفة تجعل له السيادة والشمول، إلا في عصر النهضة الأوروبية، وبالطبع لا ينفي هذا القول حقيقة أن يكون العالم القديم قد أقام البناء، وصنع كذا وكيت؛ لأن ثمة فرقا بين ما يقام على «خبرة» الحياة العملية، وبين ما يقام على تنظير علمي، بل ولا ينفي هذا القول أن يكون قد ظهر هنا وهناك، آنا بعد آن، عالم شغل بظاهرة طبيعية مثل ظاهرة الضوء (كابن الهيثم) أو عالم شغل بالتجارب الكيماوية (مثل جابر بن حيان) لأن السيادة المطلقة في منهج التفكير، إنما كانت للطريقة الرياضية في التفكير، ولا عجب - إذن - إن ظهر من القدماء مبدعون في العلم الرياضي يضعهم تاريخ العلم في أعلى درجات التفوق.

وبعد هذا الذي عرضناه عن بعض اللفتات المنهجية التي أضيفت إلى الوقفة السقراطية تجاه تحليل المدركات لتحديدها وتوضحيها، نعود إلى صاحبنا في الأعوام الأولى من ثلاثينيات هذا القرن، وكان قد فرغ من ترجمة أربع محاورات لأفلاطون، وكلها وثيقة العرى بحياة سقراط الحقيقية، قبل محاكمته، وفي محاكمته، وبعد محاكمته إذ حكم عليه بالموت، فخرج صاحبنا من تلك الترجمة ومصباح جديد في يده، هو المصباح الذي يتغلغل بضيائه في المدركات العقلية ذات الأهمية الخاصة في قدرة الإنسان على فهم المعاني فهما صحيحا ودقيقا في مجال الأخلاق بصفة خاصة، وأعني مجال الأحكام التي يطلقها أبناء المجتمع بعضهم على بعض فيما يتعلق بالفضيلة والرذيلة، لكن المجال يتسع ليشمل كذلك أحكام الناس في مجال السياسة والفن وغيرهما مما ينشغل به المثقفون في كل مجتمع وفي كل عصر، على أن المصباح المنهجي الذي خرج به صاحبنا من معايشته لسقراط بضعة أشهر هي الأشهر التي ترجم فيها تلك المحاورات الأربع، لم يتجاوز منهج التفكير كما عرفته العصور السابقة جميعا قبل النهضة الأوروبية، اللهم إلا استثناءات متناثرة لا تؤدي إلى حكم عام، وأعني ذلك المنهج «الرياضي» الذي يضع فروضه في أي موضوع أراد أن يجعله مجالا لبحثه، ثم يستخرج من تلك الفروض المقدمة نتائجها بطريقة التوليد، أي طريقة الاستنباط ترى الباحث على منهاجها يستنبط مادة المقدمات ليخرج ما فيها من «نبط» تماما كما نفعل اليوم على صعيد العالم المادي حين نحفر الابار استنباطا لما احتوت عليه من «نفط».

ومع ذلك فليس الذي خرج به صاحبنا قليل الشأن، بالرغم من أنه كان لا بد له أن ينتظر نحو عشرين عاما بعد ذلك، ليسعده الحظ بأن تقدم إليه الدراسات الحديثة ما يكمل به المنهج السقراطي، فتكتمل له الصورة «رياضة» و«طبيعة» وما يندرج تحتمها من فروع العلم والمعرفة على اختلافها، نعم، لم يكن المصباح السقراطي الذي خرج به قليل الشأن في تنويره، وحسبنا أن قد كان هو نفسه المصباح الذي اهتدى به سقراط، وكذلك كان صاحبنا تلميذا له ومغترفا منه - نظريته المعروفة في ربط «المعرفة» ب «الفضيلة» وهي نظرية ما أحوجنا نحن أبناء الأمة العربية اليوم إلى تشربها قطرة قطرة حتى نفرغ وعاءها في خلايا أدمغتنا وأنسجتها وتلافيفها، لماذا؟ لأننا في الأساس أبناء حضارات عريقة قامت قوائمها على «الأخلاق» - و«الأخلاق ركن جوهري من رسالة الدين» - إلى الحد الذي يكاد يشلنا إزاء الحضارة الجديدة في عصرنا؛ إذ وجدناها حضارة «علم»، فأخذتنا الخشية أن تكون علمية العصر صارفة له عن «الأخلاق» التي ندين بها ونجريها في دمائنا.

والنظرية السقراطية في «المعرفة» وارتباطها الوثيق ب «الأخلاق» خلاصتها أنه إذا عرف الإنسان كيف يحدد معنى اسم ما، يطلق على فضيلة معينة، كأن نقول «الوفاء» - مثلا - أو «التقوى» أو «الصدق» إلخ، أقول: إن الإنسان إذا عرف معنى الاسم الذي يشير إلى فضيلة من تلك الفضائل معرفة تحقق له التحديد الدقيق الذي عهدناه بالنسبة إلى حقائق الرياضة كمعنى، «مثلث» و«سبعة» و«نصف» وما إلى ذلك من مفردات اللغة الرياضية، فإنه يصبح محالا على ذلك الإنسان، الذي حدد لنفسه معنى الاسم الذي يشير إلى فضيلة معينة، أن يقترف ما يخالفها، أي إن مجرد «معرفة» الإنسان معرفة بالدقة الرياضية لما تعنيه «فضيلة» معينة كفيل للعارف أن يجتنب ما ينقضها، فإذا عارضت في ذلك قائلا: لكني كثيرا جدا ما أعرف معاني فضائل دون أن أستطيع التزامها في الحياة العملية، أجابك سقراط عندئذ، بأن ما قد أسميته «معرفة» لم يكن من المعرفة في شيء؛ لأن شرطها هو التجديد الواضح القاطع، وأما ما أسميته ب «معرفة» فقد كانت بغير شك مشوبة بالغموض والخلط، وإلا لكانت ألزمتك بتنفيذها في مسالك الحياة العملية، لماذا؟ لأن منها يتضح لك في جلاء أنها سبيلك إلى الخير والأمان، وهل رأيت إنسانا يكره لنفسه الخير والأمان وطمأنينة النفس؟

وهذا معناه: أن «الحق» (= المعرفة الصحيحة و«الخير» = السلوك على منهج الفضيلة وما ينتج عنه) يلتقيان في هوية واحدة، إن «الحق» و«الفضيلة» ليسا شيئين، بل هما شيء واحد، وإن يكن ذا جانبين، فإذا علمت عن معنى فضيلة ما علما دقيقا وصحيحا وكاملا، كنت بالتالي سالكا على نهجها، وإذا سلكت على نهجها، كنت بالتالي عالما بها، فلماذا - إذن - أسلفت لك قولي بأننا نحن أبناء الأمة العربية اليوم بحاجة ماسة إلى هذه الرؤية التي تدمج الحق والخير في كيان واحد؟

قلت ذلك لأني أعلم كم نحرص أشد الحرص على الإشادة بالفضائل من حيث هي «أسماء» وكم تغرينا ضرورات الحياة العملية بسلوك يتناقض مع ما نشيد به كلاما، مما يوقعنا في تناقض يضطرنا اضطرارا إلى ازدواجية المعايير، فنتحدث مع الناس على صورة تتفق مع المثل العليا، ونختبئ وراء الجدران لنسلك في الخفاء على صورة أخرى، وسر ذلك - خلال الرؤية السقراطية - هو أننا لم نكن قد عرفنا معنى ما نقوله عن الحياة الخلقية، بكل الدقة التي نعرف بها ما نعرفه عن الهندسة والحساب.

والسعي وراء مزيد من المعرفة بطبائع الأشياء وحقائق المعاني، هو بمثابة الجوهر في حركات «التنوير»، فكلما زدنا أبناء الأمة إدراكا للمعارف الصحيحة عن دنياهم، زدناهم بالتالي «نورا»، وعكس ذلك هو الظلمة والظلام والظلم، نعم، نعم، إن «الظلم» صنو «الظلام» لغة ومعنى، فإذا رأيت الظلم قد باض وأفرخ في هذا الركن أو ذاك من أركان الوطن العربي، فاعلم أن علة ذلك هي أن عتامة قد حجبت «النور» عن الأفئدة لقلة ما يعرفونه، ومع القلة جاءت كذلك أغشية من ضباب الخلط والغموض، ومن أجل هذا قامت في الناس حركات «التنوير» كلما دعت دواعيها، ولب «التنوير» هو مزيد على مزيد من معرفة صحيحة واضحة.

ولست أدري على وجه اليقين، هل كان مثل هذا الوعي بضرورة «التنوير» هو الذي دفع صاحبنا دفعا منذ شبابه إلى الانخراط بقسط كبير من جهده في حركة التنوير، التي نهضت بها حياتنا بعض النهوض إبان عشرينيات هذا القرن وثلاثينياته، أم كانت هي المصادفة التي صنعت له ميوله نحو نشاط كالذي نشط به منذ ذلك الحين، وهي نفسها الميول التي مالت به نحو أن يترجم المحاورات السقراطية الأربع، وهو لم يزل في أوائل خطواته على الطريق؟

أضاف صاحبنا ما أضافه إلى الأسس السقراطية، وكان له ذلك مع ازدياد علمه بماء جاءت به مراحل التطور الفكري خلال القرن العشرين، إلا أن الصورة السقراطية ما زالت حتى اليوم تجذبه جذبا قويا، حتى ولو طرأت عليها تعديلات يقتضيها عصرنا الجديد؛ كأن تحل رسائل الإعلام في الوصول إلى الناس محل التجول في طرق المدينة وميادينها وأسواقها لمحاورة الشباب محاورات تقشع عن أدمغتهم شوائب الغموض، ومع ذلك فربما أراد صاحبنا أن يتحوط في انجذابه نحو سقراط وطريقته في أداء دوره، بتحفظات لا تورطه فيما لا يجب أن يتورط فيه؛ فقد لوحظ على سقراط أنه غض نظره عن ظلم الطغاة لأثينا في أواخر حياته، وصاحبنا لا يريد أن يغض النظر عن طاغية، وكذلك لوحظ على سقراط أنه كان يفضل الروح العسكرية في مدينة إسبرطة، على روح الحياة الديمقراطية التي تعلقت بها أثينا، كأنما لمس فيها ضربا من التراخي لم يكن يريده لمواطنيه، ومن هنا قال عن نفسه إنه يؤدي في مجتمعه مثل الدور الذي تؤديه الذبابة القارصة التي تلسع لعل لذعاته توقظ الشباب الأثيني من ترهله، وصاحبنا لا يحب للروح العسكرية أن تسود مجتمعا استنار وتحضر، لكنه يرى ضرورة أن يصحو الشباب من غفوته إذا غفا.

فرار إلى مدينة الأحلام

ما زال صاحبنا في الأعوام الأولى، من ثلاثينيات هذا القرن، عندما أخذته الرغبة الشديدة في أن يسافر إلى القدس الشريف في فلسطين، لم يكن يعلم أن الرحلة تبدأ بإجراءات إدارية قد تثبط أصحاب العزائم الضعيفة؛ فينصرفون عما اعتزموا على أدائه، لكن أخانا لم يكن من هؤلاء، فاخترق كل ما وجده من عقبات، وهو ما زال حتى يومه هذا، يذكر أن القطار قد غادر به القاهرة ساعة الغروب وأن عبور القناة وركوب قطار آخر قد استغرق بضع ساعات، وأن هذا القطار الثاني قد وصل به إلى محطة «اللد» عند مطلع الفجر، فنزل ليستقل قطارا من «اللد» إلى القدس، وكان عليه أن ينتظر في محطة «اللد» حتى يجيء هذا القطار، ولم يكن هناك إلا رجل واحد، ارتدى زيه «الكاكي» الذي كان شبيها بأزياء الجنود، وكان الرجل بلا حقائب، شبك يديه خلف ظهره وهو يمشي على رصيف المحطة جيئة وذهابا، واعترضه صاحبنا بسؤال على ظن منه أن الصلة الكلامية في مثل هذا الظرف أمر واجب، حتى ولو لم يكن الكلام يحمل معنى مفيدا، فحياه أولا: صباح الخير (قالها بالإنجليزية) فأجابه بتمتمة لا تتبين فيها حروف، فعاد وسأله: ما جنسيتك؟ وهنا أجاب الرجل في شيء من الخشونة التي تنبئ بشر: أنا يهودي، ومرة أخرى عاد صاحبنا ليسأل: إني لا أسألك عن ديانتك، بل أسألك عن جنسيتك، فصرخ الرجل من غيظ، وأجاب: نعم، جنسيتي هي أني يهودي. ومضى يستأنف مشيته على الرصيف رائحا وغاديا.

لم يستطع صاحبنا على طول ما فكر، وهو في القطار الذاهب به إلى القدس، ماذا عناه ذلك الرجل عندما جعل جنسيته ويهوديته مترادفتين؟ لكنه تجاهل حيرته لعل الأيام تكشف له ما يفسر له الغامض، ووصل إلى القدس، وألقى بحقيبته في أقرب فندق استطاع النزول فيه، وخرج مسرعا ليجلس في مقهى ازدحم بالناس جلوسا ووقوفا، وقد ينسى صاحبنا كثيرا من أحداث ماضيه، لكنه لن ينسى تلك اللحظة التي أخذ فيها مجلسه وسط الزحام، والنشوة تملؤه، والفرحة ترسم على وجهه ملامح ضاحكة، ولم تمض إلا دقائق معدودات حتى جاءه شاب وسيم مشرق المحيا، حسن الهندام، وبعد أن حياه تحية النهار، سأله: أجئت إلينا زائرا؟ فأجابه: نعم، وقد وصلت لتوي آتيا من مصر. فسأله الشاب وكان من عمره في مثل صاحبنا من عمره، قال: هل تأذن لي بالجلوس معك؟ فأجابه القادم المصري: إن ذلك يجعل فرحتي فرحتين. وبدأ الفلسطيني الشاب يقدم نفسه إلى الزائر، فقال إنه تخرج من كلية الحقوق منذ عامين والتحق بمكتب محام في القدس ليقضي به فترة التدريب، ورد عليه الشاب المصري تعريفا بتعريف، وكان أول سؤال ألقاه الفلسطيني على أخيه المصري، هو: ما أخبار «القضية» في مصر؟ فرد المصري على السؤال بسؤال: أية قضية تعني؟ فعاد الفلسطيني إلى السؤال، وعلى وجهه علائم دهشة وتعجب قائلا: «القضية» يا أخي! إنها القضية العربية!

لم يفهم المصري عن زميله شيئا إلا بعد أن أفهمه ذلك الزميل ما لم يكن قد فهمه وأعلمه ما لم يكن قد علمه عن قضية العرب أهل فلسطين، فيما قد نشأ لهم من مشكلات مع الأقلية اليهودية في فلسطين، يشد أزرها المندوب البريطاني.

عاد صاحبنا إلى مصر، وقد عرف ماذا قصد إليه الرجل الذي التقى به في محطة «اللد» حين قال إن جنسيته هي نفسها يهوديته، وكذلك عاد صاحبنا إلى مصر وقد أدرك أنه برغم أنه قارئ يتابع أعلام القلم فيما يكتبونه لم يقع قط على شيء يشد انتباهه إلى «القضية» التي رأى الفلسطيني الشاب أنها هي القضية محددة بأداة التعريف، حتى ليغنيه أن يقول «القضية» ليفهم سامعه إنها هي القضية العربية التي أخذت تتعقد بما نشط بها اليهود في فلسطين يؤازرهم حاكم بريطاني، وأحدثت هذه المفرقة عند صاحبنا أثرا، إذ أخذت تضطرب في صدره أسئلة غامضة عما يعتور حياته الثقافية من أوجه النقص التي يستحيل أن يعود وزرها إليه وحده، ولا بد أن يشاركه في هذا الوزر حملة الأقلام الذين كانت لهم الريادة عندما كان صاحبنا شابا يتلقى.

وتمر الأيام بصاحبنا أعواما بعد أعوام وذكرى ذلك النقاش مع الفلسطيني الشاب في مدينة القدس، عما أسماه ب «القضية» عالقة في ذهنه، تناديه بأن يبحث عما يقرؤه عن تلك «القضية» التي لم تكن عند أصحابها تحتاج إلى بيان، وفجأة خطر له أن يقرأ شعر إبراهيم طوقان؛ فهو الشاعر الفلسطيني المبدع المجيد - أولا - وهو الذي لا شك منبئ في شعره عن روح «القضية» لما جاء وقعها على قلب مرهف حساس، فقد نظم ذلك الشاعر الثائر شعره خلال الأعوام التي كانت تتجمع فيها غيوم النكبة ظلمات بعضها فوق بعض، فصاح في قومه محذرا من فادحة توشك أن تقع، فكان كأنه يقرأ لهم عن مقبل الأحداث في كتاب مفتوح.

مات إبراهيم طوقان والحرب العالمية الثانية مستعرة الأوار، وترك شعره مفرقا في دفاتر وأوراق، فجمعه له شقيق وفي، وقدمته إلى القراء شقيقة شاعرة، وبفضلهما أصبح ديوان شعره بين أيدينا فاتحته قصيرة رائعة، ترسم لقارئها لوحة تصور شهيدا عربيا في فترة كان الشهداء فيها يخطون مستقبل بلادهم بكلمات من دم مسكوب، وهو شهيد رآه الشاعر يبتسم للخطوب حين تدهم، ويقتحم الأهوال إذا تطغى، فكأنما تجمعت في همته قوة خضم هائج ورسوخ جبل أشم، إنه العربي المجاهد، خلقه ربه فسواه من عنصر الفداء، ثم أرسله جذوة من الحق، تلفح بحرارتها جنوب الطغاة، حتى تظفر بحريتها أمم مقيدة، إنه العربي المجاهد، الذي لا يبالي في سبيل بلاده شيئا.

ولا تفرغ من القراءة عن هذا الشهيد المجهول، حتى تجدك من الديوان أمام رائعة الروائع، وهي قصيدة «الثلاثاء الحمراء» التي نظمت عن الثلاثة الشهداء الأبرار وهم: فؤاد حجازي من صفد، ومحمد جمجوم وعطا الزير من الخليل، الذين أعدموا في سجن عكا، صبح الثلاثاء السابع عشر من شهر يونيو (حزيران) سنة 1930م إثر حادث «البراق»، ذلك الحادث المفجع الذي أشعل أول ثورة عمت أرجاء فلسطين عام 1928م، و«البراق» عند المسلمين هو «حائط المبكى» عند اليهود، أرادوا الاستيلاء عليه، وكان في حوزة المسلمين، فثار المسلمون، وامتدت ثورتهم من القدس إلى سائر مدن البلاد وقراها، حتى اضطرت حكومة الانتداب البريطاني إلى قمع الثورة بالقوة، وأصدرت أحكاما بالسجن على ثمانمائة عربي، وأحكاما بالإعدام على عشرين، ونفذ الحكم صباح الثلاثاء التي أسماها الشاعر إبراهيم طوقان ب «الثلاثاء الحمراء» ونظم فيها رائعته - عن الشهداء الثلاثة الذين أسلفنا ذكرهم - وهي رائعة من الشعر نراها فريدة في طريقة بنائها الفني؛ فهو يقسمها إلى مقدمة وثلاث ساعات وخاتمة، أما المقدمة ففيها تهيئة للنفوس بجو أقتم يتناسب مع الفاجعة التي شهد ذلك اليوم هولها، على ثلاث ساعات متواليات، وجاءت المقدمة في ثماني مقطوعات، في كل مقطوعة خمسة أبيات: الأول والثاني على قافية والثالث والرابع مجزوءان وعلى قافية أخرى، والخامس على قافية وحده، تتفق مع القافية في الأبيات الخوامس، كلها من المقطوعات الثماني، فتجيء ضرباتها كأنها دقات الطبول الفاجعة في جنازة الشهداء، وقد رسم لنا الشاعر يوم المأساة وكأنه يطل على سوالف الأيام جميعا، باحثا فيها عن يوم ينافسه في عمق المأساة وسوادها، فتصدى له أول ما تصدى يوم من أيام محاكم التفتيش، التي شهدت ما شهدته من إحراق الآدميين الأبرياء، مع تعذيب وتنكيل يشيب لهما الرضع في حجور الأمهات، لكنه برغم هذا البغي كله، فإن يوم محاكم التفتيش هذا لم يكد ينظر إلى يوم مأساتنا، حتى استدرك مقرا بأنه لم يلق ليومنا في الجور شبيها، وتوارى في تواضع، لعل يوما آخر من أيام المنكر والبغي أن يتصدى للتحدي.

ذلك هو فحوى المقطوعة الثانية، وتليها المقطوعة الثالثة، وفيها ينهض للحديث، يوم راسف بقيوده، هو اليوم الذي كان الرقيق - أبيضه وأسوده - يباع فيه لكل من شاء الشراء من ذوي الثراء، وظن ذلك اليوم المكبل بحديده أنه قرن، أي قرن ليوم مأساتنا، فهاله أن رأى عجبا من العجب، فبعد أن تحرر البشر من ذل الرق عاد أدراجه إلى أسوأ ما شهده التاريخ، وذلك أن من زعم لنفسه تحرير الرقيق ومنع بيعه وشراءه، هو نفسه - اليوم - من أمسك بالأحرار ونادى بأن يشترى.

وتأتي المقطوعة الرابعة بيوم آخر، يحسب أن قد بلغت به المأساة أبلغ مداها، ولكنه سرعان ما أقر - بدوره - ليوم مأساتنا بأنه أبشع وأفظع، كأنه هو يوم المحشر، وأما المقطوعات الأربع الأخيرة من مقدمة القصيدة، فيخصصها الشاعر لجانب آخر من جوانب المأساة الدامية هو التوسل إلى المندوب السامي البريطاني في فلسطين ليعفو عن الأبرياء الثلاثة الشهداء، ويظل الرسول رائحا غاديا ولا رجاء، فما كان الأجدر بنا إذن أن نخص أنفسنا بالإباء، وبهذا تختم المقدمة.

وبعد المقدمة تجيء الساعات الثلاث، ساعة تلو ساعة، ففي كل ساعة منها يشنق شهيد، فتفاخر كل واحدة منها أختيها بشهيدها، على نحو ما رأينا الأيام السود التي شهدت مآسيها، إذ رأينا كل يوم منها ينعي نفسه، حاسبا أنه أحلك أقرانه سوادا، إلا أن عويل النعي هناك، يقابله ما يشبه غناء الأناشيد هنا، فكل منها تتغنى بمجدها الذي تستمده من مجد شهيدها، وقد خصت بكر الساعات الثلاث بالشهيد فؤاد حجازي، ثم جاءت الساعة الثانية مفتخرة بشهيدها محمد جمجوم، الذي لم يكفه استشهادا أن يموت في سبيل وطنه، بل زاد على ذلك باستباق ليأخذ المكانة الثانية، فبقيت ثالثة الساعات للشهيد الثالث عطا الزير، فكان أن جاء نشيد الساعة الثالثة مشيدا بحسنات ثالث الشهداء بادئا بقوله: «أنا ساعة الرجل الصبور» أنا ساعة القلب الكبير ... إلخ، وخرج صاحبنا من ديوان إبراهيم طوقان، وقد امتلأت مشاعره ب «القضية العربية»، كانت كذلك لحظة راجع فيها مع نفسه الحساب ليرى أن حملة الأقلام من كبار الرواد عندئذ، برغم قاماتهم السامقة وشموخهم العظيم، قد تعرضوا فيما بذلوه وقدموه لضروب من المفارقات، ربما ألزمتهم بها طبيعة المرحلة التاريخية التي أحاطت بهم ، فقد أخذ صاحبنا يتبين ما لم يكن قبل ذلك قد تبينه في وضوح من ضروب الازدواج التي تظهر في أعمالهم وفي حياتهم، كما نقرأ عنها في تراجمهم، مما يصعب تفسيره من جهة، ويقلل من أثر رسالتهم الثقافية من جهة أخرى.

كان من حسن الحظ لأعلامنا الكبار في الجيل الماضي، وهو الجيل الذي شهده صاحبنا في مطلع شبابه وما بعد المطلع ببضع سنوات، أن شاركوا بأقلامهم القادرة في ميدان السياسة عندما كانت قضيتنا الأولى هي التحرر من الاحتلال البريطاني؛ إذ كانت تلك المشاركة منهم في قضية تشغل جمهور الناس فردا فردا، كائنة ما كانت منزلتهم من درجات الثقافة والتعليم، وبذلك استطاع روادنا أن يجدوا طريقهم إلى مواطنيهم جميعا في ريف وفي حضر، أقول: إن ذلك كان من حسن الحظ لهؤلاء الرواد، لكنه كذلك كان حظا حسنا لجمهور الناس، إذ أتيح لهم، وهم في خضم الجهاد السياسي، أن يطالعوا ما يكتبه سادة الكلمة عندئذ، فإذا لم يكن في مقدورهم أن يطالعوه استمعوا إلى من يطالعونه لهم، فتهيأت بهذا كله فرصة عظيمة أمام صفوة المثقفين من كبار الأعلام أن ينتقلوا - يوما واحدا على الأقل كل أسبوع - من ميدان السياسة إلى ميادين الثقافة الخالصة، فيجدوا قراءهم في انتظارهم، وهم أنفسهم القراء الذين ما كانوا ليأبهوا مقدار خردلة لو أن هؤلاء الكتاب واجهوهم بجانبهم الثقافي وحده دون أن تمهد له شهرة بلغت أوجها في الكتابة السياسية، ومع ذلك فقد أدرك صاحبنا، فيما بعد ذلك بسنوات، كم ضيع روادنا على أنفسهم وعلى جمهور الناس جميعا فرصة ذهبية سنحت، فتركوها تتبدد مع الهباء، بسبب ما قد وقعوا فيه من ازدواجيات في المعايير، وكيف كان ذلك؟

كان ذلك من وجهين على الأقل؛ أولهما: أنهم لم يجعلوا - في أغلبهم - من ثقافتهم الرفيعة أداة لتغيير أشخاصهم بحيث يتخلقون في حياتهم العملية مع الناس، بالأخلاق التي يبشرون بها في ثنايا ما يكتبونه وأقول: في «ثنايا» ما يكتبون؛ لأنهم في الحقيقة قد بذلوا الشطر الأكبر من جهدهم في عرض ما كتبه فلان ، من الأسلاف أو ما كتبه علان من جهابذة الغرب، وبالطبع لم يكونوا يتخيرون لنا من يتخيرون من هؤلاء وأولئك إلا نفرا من العظماء الأخيار، الذين جاءوا إلى الناس ينشرون فيهم قيم الحق والعدل والحرية والمساواة وغير ذلك من أشرف المعاني، لكن هل استطاع روادنا أن يتعاملوا مع مواطنيهم على أسس المعايير التي بثت في ثنايا ما يعرضونه على قرائهم؟ إن حقيقة الأمر الواقع في حياتنا، هي أن التعامل بين الأفراد لا يجري على أساس «المساواة» بين الأفراد، فإذا كان الموقف المعين من مواقف ذلك التعامل، يشتمل على طرف ذي سلطان مع طرف آخر من عابري السبيل لم يتوقع أحد من الطرفين أن تكون المساواة بينهما مدار القول والفعل، وهكذا قل في سائر القيم العليا من حرية وعدالة إلى آخر هذه المعاني الشريفة، أقول: إن حقيقة الأمر في حياتنا هي أن هذا التفاوت موجود بالفعل بين الأفراد، برغم كل ما تنادي به في الدساتير وفي الشرائع وفي القوانين، والسؤال مرة أخرى هو: هل استطاع روادنا في الجيل الماضي الذين أخذوا أنفسهم بعرض خلاصات من تراثنا ومن نوابغ الغرب تحمل في ثناياها تلك القيم العليا، هل استطاعوا أن يحيوا مع عباد الله من مواطنيهم على أسس ما يبشرون به، أم غلبتهم العنجهية الموروثة، في طبائعنا، منذ اللحظة الأولى التي يرون أنفسهم فيها وقد كسبوا شيئا من السلطان أو من الثراء، أو من القوة في أية صورة من صورها الكثيرة؟ أما صاحبنا فيشهد شهادة صدق بناها على خبرة مباشرة بأن روادنا من أعلام الجيل الماضي، برغم ما كانوا يعرضونه مبثوثا في ثنايا ما يكتبونه من قيم الحرية والعدالة، والمساواة ... إلخ قد كانوا - على الأعم الأغلب - أحرص الناس على أن تبقى مسافات بعيدة بينهم وبين من يتعاملون معهم من سواد الناس، ومعنى ذلك أنه إذا لم تكن رسالة الكاتب قد أحدثت أثرها في شخصه هو فهل يتوقع لها أن تحدث أثرها في الآخرين؟

إذن فقد كانت هناك فجوة عميقة بين الصحائف كما كتبها كاتبوها ونشرها في الناس ناشروها وبين وقع الحياة الجارية، ولقد أسلفت نبأ الرحلة التي ارتحلها صاحبنا بعد تخرجه بعامين إلى مدينة القدس، وكيف كان أول ما فوجئ به هناك أن ثمة قضية عربية كبرى، يكتفى فيها بأن يشار إليها مقيدة بأداة التعريف، فيقال: «القضية» ويفهم الناس إلى أي شيء تشير، ولم يكن صاحبنا قد قرأ عنها حرفا فيما قرأ، وهو ممن كانوا يتابعون بالقراءة المتصلة كل ما كان ينشره روادنا، فهل كتبوا عن القضية العربية وأفلت منه ما كتبوه؟ هذا جائر بالطبع، لكنه ظن يومئذ أن ذلك أمر بعيد الاحتمال، فكانت هذه - في حسابه - علامة أخرى تضاف إلى ما قد لحظه من فجوة بين الرواد في كتاباتهم من ناحية، وفي محافظتهم على ما تواضع عليه المجتمع من عدم المساواة وعدم العدالة الاجتماعية وعدم الحرية إلخ، أقول: إن صاحبنا قد جمع في نفسه العلامة التي رآها في القدس، التي دلته على أن روادنا شغلهم ما ينقلونه تلخيصا من الكتب، عما تجري به حياة الناس من فواجع، إلى هذه العلامة الثانية فيما بدأ يلحظه من تناقض بين ما يكتبونه وما يسلكونه، فأوشك أن ينتهي إلى نتيجة يوقن بها أن جبابرة الكلمة في شبابه إنما كانوا يكتبون بعقولهم، وأما قلوبهم وما تؤمن به، فكانت متخلفة هناك، تنبض بما كان سائدا مما زعموا أنهم إنما كتبوا ليغيروه.

من ذا يلوم شابا عربيا طموحا لنفسه ولأمته، يبذل الجهد ما وسعه الجهد، ويتابع ما استطاع المتابعة تيارات التثقيف والتنوير كما أجراها أعلامنا الرواد، إذا رأى ومضات الضياء تسري في أنهر المجلات والصحف مبشرة بقيم جديدة ليست جديدة في تاريخ ولادتها، لكنها جديدة بالنسبة إلى ما كان بحياة الناس في الوطن العربي، ومع ظهورها على أقلام كتابنا، فلم يستطع هؤلاء الكتاب أنفسهم أن يحيوها مع مواطنيهم، أقول: من ذا يلوم ذلك الشباب، وقد انطبعت نفسه بما حوله على هذا النحو - إن صدقا وإن كذبا - إذا ضاق صدرا بما هو فيه؟ حقوق الإنسان يقرأ عنها ولا يجدها، الحرية والعدالة والإخاء والمساواة، ينادي بها الخطباء على منابر السياسة، ويشيد بها الأدباء والمفكرون، فيصدق صاحبنا ما يقرؤه وما يسمعه وينقل القول إلى حياته، فيناله ما يناله جزاء بلاهته، وهو أشبه شيء ب «دون كيخوته» حين قرأ عن الفروسية والفرسان، فنقل المقروء إلى حياته، فبات أضحوكة الضاحكين، وإن صاحبنا ليذكر جيدا تلك اللحظة في ساعة مبكرة من صباح يوم شتوي بارد، وقد كان عندئذ في طريقه من البيت إلى العمل، فأحس بقوة العزيمة في جوفه تهز كيانه هزا، وصوت باطني ينطق له في خفاء ليسمع، قائلا: لا بد من الخروج من هذا الطريق المسدود، ولكن كيف السبيل إلى الخروج؟ آه! اترك ذلك إلى ساعة تهدأ فيها نفسا وعقلا. هكذا همس صاحبنا لنفسه، ثم استطرد ليقول: لماذا لا تقضي عامك هذا في فرار إلى مدينة الأحلام، انتظارا للفرج يأتيك من رب العالمين؟

وقد قصد صاحبنا بما أسماه «مدينة الأحلام» تلك الصور الحالمة التي رسمتها عقول قادرة، نعم فللعقول القوية القديرة أحلامها، يضيق أصحابها من كبار المفكرين بالحياة كما تجري حولهم، فيصورون للناس ما يتمنونه للإنسانية إذا هي أفاقت من خلالها، وعاد صاحبنا إلى بيته يومئذ، ليبدأ بالبحث عما يقرؤه من مؤلفات هؤلاء الحالمين، وكانت نقطة البدء «جمهورية أفلاطون» التي رسم فيها ذلك الفيلسوف اليوناني العظيم صورة للدولة المثلى كما رآها، ثم تسلسلت المؤلفات الطوباوية التي اختارها صاحبنا ليهرب في صفحاتها من حياة ثقلت رحاها على صدره، فكان اختياره الثاني هو «يوتوبيا» تأليف «تومس مور»، وأما اختياره الثالث فكان أطلنطس الجديدة الذي كتبه «فرنسيس بيكون» الفيلسوف الإنجليزي في عصر النهضة، وقفز صاحبنا بعد ذلك إلى ما كتب في العصر الأحدث، خلال القرنين الأخيرين؛ فقرأ «جنة أرضية» من تأليف «وليم مورس» و«بلد لا وجود له» تأليف «صموئيل بتلر» و«يوتوبيا حديثة» بقلم «ه. ج. ولز» ولم يكن قد نسي «آراء أهل المدينة الفاضلة للفيلسوف العربي أبي نصر الفارابي» ... حقا لقد نعم صاحبنا بضعة أشهر بالأجواء الحالمة التي عاشها على صفحات تلك الكتب، وكان يلخص ما قرأه في موجزات تبين الخطوط العريضة لما حلم به أولئك الحالمون، ولم يكن يريد لتلك الموجزات إلا إثباتا لمقروءات قد يعود إليها ذات يوم على سبيل الذكرى، لكن شاء الله، الذي لا يضيع أجر من أحسن عملا، ألا يمر عام بعد تلك القراءات إلا ويقرأ صاحبنا إعلانا في الصحف عن مسابقة بين الشباب في التأليف الأدبي، وقفزت الفكرة إلى رأسه: لماذا لا نعيد كتابة تلك الموجزات في صورة حية تربطها جميعا في لوحة واحدة، يظهر فيها تطور الإنسان حتى في أحلامه؟ نعم، فإن نظرة مقارنة سرعان ما تهدينا إلى أن تصوره لإنسان حالم يوناني قديم ليس هو ما تصوره لإنسان حالم عصري، يحس للحياة نبضا جديدا وآمالا جديدة، وحسبنا أن نلحظ بأن الحالمين القدامى قد تصوروا مثلهم الأعلى في «مدينة» ثم جاء حالمون آخرون أيام النهضة الأوروبية، فتصورا مثلهم الأعلى في «جزيرة»، وأخيرا جاء الحالم في عصرنا فلم يكفه في مثله الأعلى إلا أن يكون الكوكب الأرضي كله وطنا واحدا للناس جميعا، لا تقام بينهم حواجز القوميات التي تشعل نيران الحروب، وأنجز صاحبنا فكرته في جمع تلك الصور في صورة، وتقدم بها في تلك المسابقة الأدبية، وكان أن ظفر بجائزتها الأولى.

لم يكن صاحبنا في مقره ذاك الذي لاذ به من ضيق نفسه، قارئا سلبيا يتلقى ولا يضيف، بل أخذ يقارن ويختار، فكانت درة الدرر عنده هي فكرة «فرنسيس بيكون» في «أطلنطس الجديدة»، ولنلحظ هنا أنه اختار هذا الاسم، ليضمنه إشارة إلى جزيرة خيالية كان أشار إليها أفلاطون في بعض ما كتب، وأسماها «أطلنطس» فجاء «بيكون» ليبدع بخياله «أطلنطس الجديدة»، والحق أن صاحبنا إذ تأثر بما رواه «بيكون» عن أحلام عقله، لم يكن تأثره مما يزول عنه بعد يوم أو بعد عام أو عشرة أعوام، بل هو تأثر باق معه إلى يومنا هذا؛ إذ يرى في الصورة المرسومة ما يتساءل إزاءه قائلا: لماذا لا يتحقق للإنسان هذا الحلم؟ وما الذي يتميز به حلم «أطلنطس الجديدة» دون سائر الأحلام؟ إن أهل هذه الجزيرة قد استبدلوا بالدولة السياسية دولة علمية، فبدل أن تتولى الحكم وزارة من رجال السياسة، تتولى الحكم في أطلنطس الجديدة وزارة من العلماء المتخصصين في فروعهم، وبدل أن يقال وزارة الخارجية ووزارة الداخلية ووزارة الزراعة ... إلخ، يقال: وزارة الفيزياء ووزارة الكيمياء ووزارة الجيولوجيا ... إلخ، والمكاتب في هذه الدولة العلمية هي «معامل» البحوث العلمية، والقرارات التي تصدرها الحكومة هي القوانين العلمية في شتى فروع العلم التي يكشف عنها في المعامل وهكذا، ورئيس الدولة هو كبير العلماء.

إنه لو وفق الإنسان في تحقيق هذا الحلم العظيم لانتفت الحروب، وانمحت الصغائر التي تشغل حتى أعلام الرواد، وأما الحروب فتنفى لأن الإنسان في أطلنطس الجديدة لا يحارب الإنسان ليقهره، وإنما يحارب الطبيعة لينتزع منها أسرارها فيسودها، وأما الصغائر التي تشغل الناس، حتى كبار العظماء منهم، فتنمحي لأن المفاضلة بين إنسان وإنسان لن تكون على أساس السلطة وجبروتها، بل على أساس القدرة العلمية في الكشف عن الجديد.

على أنه لم يكن لصاحبنا بد من صحوة يعود بها من فراره في مدينة الأحلام، ليواجه واقعه الصلب العنيد، محاولا أن يستبدل به واقعا جديدا.

سنوات التحول «1»

جاءت سنوات الأربعينيات لتكون مرحلة للتحول العظيم، وهو تحول شمل العالم كله وما زال إلى هذه الساعة يشمله، متجها نحو أن يقتلع نمطا من الحياة كانت له السيادة في ظل حضارة بلغت ذروتها في أوروبا القرن التاسع عشر، مع بضع سنوات من هذا القرن العشرين، يريد اقتلاعها من جذورها، ليقيم مكانها حضارة أخرى ينتج عنها نمط آخر لحياة الإنسان فردا ومجتمعا، ولقد شاء الله لصاحبنا أن تكون تلك السنوات نفسها مرحلة تتحول بها حياته الفكرية، على نحو يوثق الروابط بينه وبين تيارات عصره، قابلا مرة، رافضا مرة، باحثا عن صيغة جديدة تصلح له مرة ثالثة.

فقد كان سنوات الأربعينيات من هذا القرن، هي التي شهدت الحرب العالمية الثانية (1939-1945) وقيام هيئة الأمم المتحدة بأجهزتها المختلفة، وفي تلك السنوات أنشئت الجامعة العربية، وزرعت إسرائيل على أرض عربية، وصدرت وثيقة حقوق الإنسان ، وبدأ الاستعمار الأوروبي رحيله عن الأقطار المستعمرة في آسيا وأفريقيا، وأما ما تحولت به الحياة عند صاحبنا، فأهمه السفر في بعثة دراسية إلى إنجلترا، وكان ذلك في قلب الحرب العالمية، فأتيح له أن يرى الغرب من قريب، وأن يرى وطنه من بعيد، فأطلعته الرؤية القريبة على سيئات الغرب وحسناته، كما أظهرت له الرؤية البعيدة أين تكمن القوة في أمته وأين يكمن الضعف والقصور.

لم تكن الحرب العالمية الثانية حربا كل ما فيه حديد ونار وتقتيل وتخريب ودمار، بل كانت تحمل وراء ذلك كله رسالة حضارية تريد لوجه العالم أن يتغير لتتغير معه صورة الحياة، فلقد كانت أوروبا إبان القرن الماضي تحمل في جوفها نقيضين، وكان محالا على طابع الأمور أن يظل النقيضان متجاورين في سلام، أو لا بد لأحدهما أن يهدم الآخر ويمحوه: فبينما سارت صور الحياة الاجتماعية على سكون وجمود لا يسمح لأحد بأن يغير من الأوضاع المألوفة شيئا، كان هنالك تحت سطح البحر الهادئ تيار فكري جار يعمل على التغيير، فإذا كان الناس قد استقرت لهم الحياة في ظاهرها على رؤية سكونية تجعل «الثبات» أساسا، فلا يسأل سائل عن شيء ثبت على صورة معينة قائلا: ما الذي أدى إلى ثباته؛ فقد ظهر لهم من بينهم مفكرون يقلبون الوضع رأسا على عقب، بحيث يجعلون لهم «الحركة» أصلا، والسكون فرعا، فلا يكون السؤال هو: ما الذي حرك ذلك الموقف الثابت ليعرضه إلى التغير، بل السؤال هو: ما الذي جمد ذلك الموقف المعين، بعد أن كان الأصل في وجوده أن يتحرك ويتغير، ولقد امتدت الدعوة إلى هذا الانقلاب الفكري خلال القرن الماضي كله، بادئة بفكرة هيجل عن جدلية الأفكار، بمعنى أن تصورنا لفكرة ما يستوجب بالضرورة تصورنا لنقيضها، فإذا ما أخذ العقل ينتقل بانتباهه من أحد النقيضين إلى النقيض الآخر، وجد نفسه أمام طرف ثالث تولد عنهما، وأخذ أشد الأفكار تجريدا وتعميما، وهي فكرة «الوجود» المطلق الذي لا يتعين بأي مضمون معين يقيده، تجد أن فكرة الوجود - أو العدم - قد نشأت من تلقاء نفسها، متولدة من فكرة «الوجود » ذاتها، فإذا أخذت تنقل فكرك بين هذين التصورين: الوجود من ناحية، واللاوجود من ناحية أخرى، تولد لك تصور ثالث، يجمع في آن واحد بين الوجود واللاوجود، وهو ما يسمونه ب «الصيرورة»، وهي حالة تتحقق بالفعل في كل كائن من كائنات العالم المخلوق، فانظر إلى النهر - مثلا - تجده موجودا معدوما في آن واحد، فهو هو النهر المعين، تراه اليوم كما رأيته بالأمس، وكما سوف تراه في الغد، لكن هل مياه اليوم هي مياه الأمس أو مياه الغد؟ ثم انظر إلى نفسك، فأنت اليوم هو الذي كنت بالأمس والذي سوف تكونه غدا (لو أراد لك الله أن تحيا إلى غد) لكن هل تبقى تفصيلات أفكارك وأعضائك ومشاعرك هي هي اليوم كما كانت بالأمس أو ما سوف تكون عليه في الغد؟ وهكذا وهكذا تستطيع أن تدقق النظر فيما شئت من كائنات، لتجد في كل كائن ما يخلع عليه هوية تدوم ولو إلى حين، كما تجده - في الوقت نفسه - متغير التفصيلات على نحو لا يمكنه من الثبات على حالة واحدة لحظتين متتاليتين، وبهذا المعنى نقول إنه في حالة من الصيرورة المستمرة، أي إنه في كل لحظة موجود ومعدوم معا.

وإنه لمما يضيء لنا هذه الفكرة الجدلية، أن نقف عندها قليلا لنقارنها بما قد كان قبلها، لنفهم التغيير الذي طرأ على الإنسان في رؤيته للعالم وكائناته منذ القرن الماضي، فانتقل بسببه من عصر فكري استنفد دوره في التاريخ، إلى عصر فكري جديد بدأت طلائعه ليكتمل له كيانه بعد حين، وقد يفيدنا في وضوح التصور لما نحن بصدد عرضه من تغير في المناخ الفكري، أن نقارن بين تعريفنا لأية حقيقة رياضية - كالمثلث مثلا - من جهة، وأية حقيقة بيولوجية - كالشجرة - ففي الحالة الأولى، نقول عن المثلث إنه سطح مستو محيط به ثلاثة خطوط مستقيمة، وهو تعريف مقطوع بصوابه (في حالة استواء السطح) لا يتغير منه شيء بتغير المكان أو بتغير الزمان، فهو هكذا على سطح الأرض، وعلى سطح القمر أو المريخ، ثم هو هكذا في عصرنا، وفي كل عصر مضى، وفي كل ما سيأتي من زمان، لكن قارن ذلك بتعريفنا للشجرة، تلمس أوجه الاختلاف من فورك، فبينما الحقيقة الرياضية المتجسدة في «المثلث» هي حقيقة سكونية ثابتة ودائمة، نرى أنفسنا أمام «الشجرة» حيال كائن متغير، يولد وينمو ويذبل ويموت ويثمر أو يجدب من الثمر، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فالشكل الهندسي الذي نحن بإزائه، إما أن يكون مثلثا تام التكوين، وإما ألا يكون مثلثا، لكن ما هكذا الحال بالنسبة إلى الشجرة؛ لأنها لا تبدأ تامة التكوين بل تولد نبتة صغيرة وتأخذ في النمو نموا يأتيها باعتمال حيويتها من الداخل، ولا يأتيها بإضافات يضيفها إليها أحد من الخارج، وعلى ضوء هذه المقارنة بين تعريف المثلث وتعريف الشجرة نقول: إن وجهة النظر في العصور القديمة كانت تريد للعلم أن يحدد حقيقة الكائن أيا ما كانت طبيعته، على الأساس الرياضي، ولا فرق بين مثلث وشجرة، بل لا فرق بين فكرة وفكرة، ففكرة «الشجاعة» أو «العفة» أو «الوفاء» أو «العدل» أو «الفن» أو «الحرية» إلخ يجب أن تجد لها عند العقل تعريفا قاطعا محددا يجعلها ثابتة على مر الدهور، وفي أي مكان ظهرت، وكان ذلك كله طلبا للمحال، ثم كان في الوقت نفسه فكرا عميقا يحكم على حياة الإنسان بالجمود، فلا تغير ولا تطور.

وجاء القرن الماضي بأفكاره الكبرى لينقل الإنسان إلى تصور دينامي جديد، وضح في أشكال مختلفة باختلاف عمالقة الفكر على امتداد ذلك القرن، فهو وإن تكن بدايته «هيجل» وما طرحه من منطق الجدل بين النقائض ليتولد عنها جديد، إلا أن الفكرة التطورية هذه قد أخذت صورا مختلفة: عند دارون، وماركس، وفرويد، وسبنسر، وشوبنهور، ونيتشة، وبرجسون، ثم عند صموئيل ألكساندر، ولويد مورجان، وألفرد نورث وايتهد، وغيرهم، ممن ركزوا الانتباه على جانب «التغير» و«التطور» و«النمو» و«الإبداع» في هذا الكون وكائناته، متخلصين من الرؤية الرياضية إلى الأفكار والأشياء، وهي الرؤية التي ترى الحق في الثبات والدوام، لا فرق في ذلك بين شيء وشيء، ولا بين فكرة وفكرة.

على أن تلك الأفكار الكبرى، التي ساورت عمالقة المفكرين، خلال القرن الماضي وجزء من أعوام هذا القرن، لم تمنع أن يحيا الناس حياتهم العملية وكأنهم صبوا في قوالب من حديد، لا يريدون للتقاليد الشكلية أن يتغير منها شيء، ومن ثم فقد سارت حياة الفكر وحياة الجمود الاجتماعي جنبا إلى جنب، الأولى تجعل التغير والتطور محورها المحتوم، والثانية تقيس كل الحقائق على نماذج سالفة ثابتة مسحت بمسحة من التقديس، وكان لا بد لهذا الاختلاف بين الحياتين أن يحدث توترا ينتهي آخر الأمر بانفجار يقضي على أحدهما ليبقي على الآخر، وتمثل هذا الانفجار خلال النصف الأول من هذا القرن، في حربين عالميتين، وقعت بينهما ثورات وانقلابات وحروب أهلية.

وعودة بنا إلى ما قد أسلفنا ذكره عن الحرب العالمية الثانية، التي شغلت النصف الأول من سنوات الأربعينيات، من أنها لم تكن حربا تقتصر على الحديد والنار والتخريب والتقتيل والدمار، بل كانت تحمل وراء ذلك كله رسالة حضارية تبشر بوجوب التغيير في الحياة الإنسانية من أسسها وجذورها، وكان أول التغيير أن تتحرر الشعوب المقيدة، وهكذا كان، حتى أصبحنا اليوم في عالم زال عنه الاستعمار زوالا تاما (تقريبا) من الوجهة الصورية على الأقل، على أن ما يهمنا في المقام الأول - في سياق هذه الأحاديث الثقافية - هو ما ترتب على الاستقلال السياسي للشعوب في آسيا وأفريقيا، من استقلال ثقافي لمن استطاع إليه سبيلا، فبعد أن كان الموقف قبل الحرب، هو أن تكون ثقافة الغرب معيارا تقاس به درجات المثقفين أينما كانوا ارتفاعا وانخفاضا، فمن قرب من النموذج الغربي كان بالضرورة - بحكم ذلك المعيار - أعلى ثقافة ممن بعد عنه، أما بعد الحرب واستقلال الشعوب، فقد رفعت أولوية الاستقلال الثقافي أيضا، فلكل ثقافة على وجه الأرض قيمتها، إذ الثقافة - على خلاف العلم - تستمد مضمونها من خصوصية أصحابها ومبدعيها، فإذا كان العلم لا خلاف عليه بين شعب وشعب، فلا بد للثقافة أن يتغير لونها ومزاجها ومذاقها من شعب إلى شعب.

كان «ديبوا» في أول هذا القرن، قد تنبأ بأن القرن العشرين سيشهد ثورة «اللون»، فبعد أن كان للرجل الأبيض (الأوروبي) سيادة مطلقة على سائر الألوان البشرية: الأصفر في الشرق الأقصى، والأسود في أفريقيا، والأسمر هنا وهناك من أقطار الأرض، توقع «ديبوا» أن هذا القرن سيشهد اليوم الذي تثور فيه الشعوب الملونة على التفرقة اللونية، وتحقق ما تنبأ به، وكان تحققه أولى النتائج التي تولدت عن الحرب العالمية الثانية؛ وذلك لأنها كانت نتيجة محتومة لاستقلال الشعوب الملونة في آسيا وأفريقيا عن سيطرة المستعمر الأوروبي الأبيض، واسترداد تلك الشعوب لحريتها التي أرادتها لهم فطرة الإنسان، وكما تساوت الثقافات المختلفة في إثبات ذاتها، تساوت كذلك ألوان البشرة مع حق المساواة للبشر.

لكن مقاومة تلفت النظر وتتطلب شيئا من التأمل والتفكير الهادئ، نشأت عن تلك المساواة نفسها، فلقد أقيمت هيئة الأمم المتحدة لتضم شعوب الأرض جميعا (إلا من كانوا يحاربون الحلفاء ويناصرون محور النازية والفاشية) وكان لكل شعب صوته في الجمعية العامة للأمم المتحدة، لكن تلك المساواة نفسها جعلت أصحاب القوى الكبرى يتحوطون لصون امتيازهم، فعملوا على أن يقام مع الجمعية العمومية، التي تضم شتى الأمم على قدم المساواة، مجلس أطلقوا عليه اسم «مجلس الأمن» ليكون «أمنا» لهم مما عسى أن يهددهم من أخطار تلك المساواة المطلقة، وهناك في «مجلس الأمن» يكون الحل والربط في مشكلات العالم، رهنا بمشيئة كل دولة من الدول الكبرى على حدة، هذه واحدة، وأما الأخرى فظاهرة «ثقافية» لها مغزاها، وهي أن الوفود التي تذهب من مختلف أنحاء الأرض لتمثل شعوبها في اجتماعات الأمم المتحدة إنما تذهب مسلحة بكل ما يؤكد للآخرين هويتها الوطنية المتميزة عما سواها، فيغلب على أعضاء تلك الوفود أن يرتدوا ثيابهم الوطنية، وأن تحتوي حقائبهم على كلمات يلقونها على سائر الشعوب، وهي كلمات أعدت مقدما لتؤكد للآخرين وجهة النظر القومية التي يتعصبون لها تعصبا يسد المنافذ دون محاولات التفاهم والتوفيق بين الأطراف المتعارضة، ولقد شهدت الدنيا ألف برهان وبرهان، عل أن اتحاد الأمم المتحدة لم ينفع إلا في أوجه النشاط الحضارية، كالثقافة والزراعة والصحة وما إلى ذلك (وهو كسب كبير على كل حال) وأما مشكلات السياسة، فهي - أولا - حكر على القوى العظمى في مجلس الأمن، وهي - ثانيا - مما يمكن لدول صغرى أن تتمرد على ما يوجه إليها من قرارات تلك الدول الكبرى نفسها، وكأن أمور الناس الحيوية قد تركت لتصبح أقرب إلى لعبة شيطانية مكشوفة تسخر بها جماعة من الأبالسة على شعوب لا حول لها ولا سلطان.

لم يكن صاحبنا ذا مزاج سياسي بالمعنى الذي نراه متحققا في الساسة المحترفين، فكانت المشكلات السياسية عنده تتحول إلى مشكلات فكرية نظرية، وكأنها تخص أهل كوكب آخر غير هذه الأرض من كواكب المجموعة الشمسية، ومن ثم فهو كثيرا جدا ما يأخذه العجب مما يسمونه «سياسة» لكثرة ما يراه فيها من مجافاة لمنطق العقل، وحتى إذا حدث له أن أبدى رأيا كهذا في موقف معين، قال له المحترفون: إن هذه هي «السياسة»، وقد شاءت مصادفات الأيام لصاحبنا أن يوضع عضوا في أحد الوفود، في أول اجتماع لهيئة الأمم المتحدة، كان ذلك في لندن، أوائل سنة 1949م، وقصة ذلك، أنه كان عندئذ دارسا في جامعة لندن، وكان قد تقرر لهيئة الأمم المتحدة أن تعقد أولى دوراتها السنوية في لندن؛ لأن مقرها الذي اتفق عليه أن يقام في نيويورك لم يتم إعداده، وحدث أن إحدى الدول العربية الشقيقة، لم يكن الحد الأدنى من عدد الأعضاء (وهو ستة مقابل اللجان الست) متوافرا لها، فطلبت من السفارة المصرية هناك، أن تختار لها ثلاثة أعضاء من المصريين المقيمين في لندن، الذين ترى فيهم الصلاحية للاضطلاع بتلك العضوية، وكان صاحبنا أحد الثلاثة المختارين لذلك، فأتاحت له تلك المشاركة خبرة بحقيقة «السياسة» كما رآها متمثلة في أضخم رجال السياسة الذين ملأت شهرتهم يومئذ أسماع الدنيا وأبصارها، وتابع صاحبنا في شغف ما تدور به المناقشات، وما يوصل إليه من الحلول، وخرج من ذلك كله بنتيجة غرست في رأسه غرسا، وهي نتيجة أيدت له ظنه السابق في «السياسة» وطبيعتها، فهي لا تقل ولا تزيد عن أن تكون للدولة القوية إرادة ما، جاءت بها إلى الاجتماع، وتكون المهارة السياسية بعد ذلك، هي في أن تصاغ لتلك الإرادة صيغة لغوية مقبولة شكلا عند الأطراف المتعارضة، أما إنها ستعمل على حل المشكلة المعروضة للحل، فمسألة لا هي واردة، ولا هي في حسبان الأقوياء من أصحاب الإرادات.

نعم، كانت سنوات الأربعينيات قد تركت عند صاحبنا انطباعا، بأن سمة من أوضح سمات العصر، فيما بعد الحرب العالمية الثانية، سوف تكون سمة التذبذب بين «أفكار» العقلاء من جهة، و«رغبات» الراغبين من جهة أخرى، و«الفكرة» و«الرغبة» طرفان قد يلتقيان عند الأسوياء، فالعواطف تميل بصاحبها نحو «رغبة» ما، وإذا هي في الوقت نفسه مما يتفق مع منطق العقل، لكنهما كذلك قد يتنافران، فتجيء رغبة العاطفة متنافية مع ما يوجبه منطق العقل، وقد أسلفنا لك القول، بأن عمالقة «الفكر» في القرن الماضي، قد أبدعوا أفكارا كبرى تتحول بها الدنيا من رؤية سكونية إلى أخرى حركية (دينامية)، لكنهم لم يستطيعوا، بل ربما هم لم يحاولوا أن يجروا أفكارهم تلك مجرى التاريخ، أعني أن يعملوا على تجسيدها في حياة الناس الفعلية، فظلت على مستواها النظري طوال القرن الماضي وبضع سنوات من هذا القرن، يمكن أن يجعل نهايتها قيام الحرب العالمية الأولى سنة 1914م، وبحذاء ذلك المستوى النظري، بقيت الحياة السلوكية العملية على جمودها، بل أسرفت إسرافا شديدا في التشبث بالتقاليد المرعية حفاظا على «أشكالها» الظاهرة، حتى ولو اضطر الناس بدوافع من عواطفهم وغرائزهم أن ينقضوها في الخفاء، فلما أن جاءت الحربان العالميتان في هذا القرن، الأولى والثانية، وما توسطهما من ثورات وصور للتمرد الجماعي في بعض الأقطار نجحتا في دك الأشكال الجامدة العتيقة، لتفسح الطريق أمام الأفكار الجديد لتلتمس حظها من التطبيق وتغيير وجه الحياة، إلا أن نجاح ترك الأفكار الجديدة مع حظها في المحاولة، معرضة للصواب حينا وللخطأ حينا، وهو أمر طبيعي عند أية محاولة كبرى يهم بها إنسان إزاء القديم المألوف، ليستبدل به جديدا غير مألوف، لكنه أكثر صلاحية، فها هنا يغلب التردد على سلوك الإنسان في عملية العبور من القديم إلى الجديد، وها نحن أولاء قد رأينا كم كان عسيرا، حتى على كبار الساسة في العالم، أن يقعوا على نقطة تتم عندها مصالحة بين الروح «الوطنية» بمفهومها الضيق، والروح «الدولية» بالمعنى الذي تخيلته الأمم عندما أرادت أن تقيم منظمة دولية تتحد الأمم المختلفة أوطانها، في ساحاتها وفوق منابرها، لعل الوفاق السلمي يحل محل الحروب، فرأينا كبار الساسة - فضلا عن صغارهم - يتعثرون بين الإبقاء على مشاعرهم «الوطنية» متسترين خلف أقنعة «دولية»، وكان أمهر الساسة هو أكثرهم توفيقا في تلك اللعبة التي استهدفت الجمع بين الضدين.

وإذا شاء العربي أن يرسم لنفسه صورة صحيحة تبين له كيف تدور تروس تلك الآلة الكبرى التي يطلق عليها اسم «الأمم المتحدة» وأعني التروس المخبوءة في الضمائر بغض النظر عن الميثاق ومواده، ولقد أسلفنا لك شرحا لمعنى «المهارة السياسية» إذ رأيناها أقرب إلى القدرة على صياغة الألفاظ على نحو تقبله كل الأطراف المتعارضة في وقت واحد، مما يقطع أن تكون تلك الصياغة أبعد ما تكون عما يقتضيه منطق العقل فيما يراد له أن يكون فكرا على منهج العلم أقول: إننا رأينا فيما أسلفناه كيف تكون المهارة السياسية أقرب إلى قدرة «الحاوي» الذي يخرج من كمه أرانب ومناديل وبيضا وقطع النقود، منها إلى دقة المنهج العلمي الذي يتطلب أول ما يتطلب أن تكون مفردات اللغة أو غير اللغة من الرموز واحدية المعاني، بمعنى أن يكون للاسم المعين مسمى واحد، وألا يكون لهذا المسمى إلا اسم واحد هو الاسم الذي تصطلح عليه جماعة العلماء ذات الاختصاص الواحد، نقول: إنه إذا أراد عربي بأن يرسم لنفسه صورة للطريقة التي تدور بها تروس الأمم المتحدة في خفاء الصدور، فأين يجد الصورة المنشودة إن لم يجدها في قصة الأمم المتحدة ومواقفها من الأمة العربية وشعب إسرائيل؟

وإن صاحبنا ليكرر القول مرة بعد مرة، بأنه لم يخلق للسياسة وألاعيبها، فهو إذا وقف عند مسألة من مسائلها، فإنما يقف وقفة عقل منطقي إزاء مشكلة فكرية، وهكذا ينظر إلى حكاية العرب وإسرائيل والأمم المتحدة، أو قل الدول الكبرى صاحبة حق النقض في مجلس الأمن، فيحكى أن لورد بلفور، وكان وزيرا في الوزارة البريطانية سنة 1917م، كان مسئولا عن المستعمرات وشئونها، وكان ونستن تشرشل وزيرا أيضا في الحكومة البريطانية عامئذ، ثم يحكى أن بلفور أراد أن يجد مخرجا يعد به أن يقام وطن لليهود في فلسطين، ودخل عليه زميل ذات يوم، فوجده قد نشر خريطة فلسطين على مكتبه، والقلم في يده يبحث عن موضع ملائم يرسم بها خطوطا تحدد ذلك الوطن اليهودي المنشود، وعلم زميله بما يحاوله فسأله: وماذا أنت صانع بسكان هذه المنطقة من غير اليهود؟ فأجابه بلفور دون أن ينظر إليه: وهل لهذه المنطقة سكان؟! قالها ساخرا، وكأن الذي بين يديه لوحة الشطرنج يحرك أحجارها كيفما شاءت مهارته السياسية، ثم جاء يوم عرض فيه المشروع على مجلس العموم البريطاني، وربما كان له بين الأعضاء معارضون، فوقف الوزير ونستن تشرشل شارحا للمجلس بعض الأهداف التي قد تخفى على أعضاء المجلس، فقال ما معناه: إن وراء هذه الخطة هدفين؛ أولهما: أن قيام وطن يهودي من شأنه أن يمتص الثورة العربية، فبدل أن يتجه العرب بانفعالاتهم نحو بريطانيا، سيتحولون بها نحو الوطن اليهودي، وأما الهدف الثاني: فهو أن قيام وطن يهودي في المنطقة المقترحة من أرض فلسطين، من شأنه أن يقسم الوطن العربي قسمين تنقطع بينهما الصلة الجغرافية الميسرة فيدب بين العرب نوع من الفرقة بسبب ذلك التفريق.

كان ذلك كله سنة 1917م أي قبل وجود منظمة الأمم المتحدة سنة 1946م، وبعد قيامها بعام واحد - وهو العام الثاني لوجودها، والأول بعد انتقالها إلى مقرها الدائم في نيويورك - صدر قرار تقسيم فلسطين إلى دولتين: إحداهما للعرب من أهل فلسطين والأخرى لليهود، وبعد نحو ستة أشهر من هذا القرار، أعلن عن قيام الدولة اليهودية، وأن يطلق عليها اسم «إسرائيل».

إلى هنا وليس في منطق العقل ما يرفض شيئا من هذا، ما دام الأمر مشروطا بألا يضر التقسيم أحدا من أهل البلاد، وهو شرط يتولد عنه بالضرورة ألا يهاجر اليهود من أنحاء الأرض إلى فلسطين، إلا بما تسمح به مساحة الوطن اليهودي، فماذا تقول إذا علمت أن الدول الكبرى صاحبة النفوذ في الأمم المتحدة، هي نفسها التي عملت، وما زالت تعمل، على أن تفتح أبواب الهجرة اليهودية على مصاريعها؟ وليست تلك الدول - بالطبع - من البلاهة بحيث يفوتها ما لا بد أن ينتج عن ذلك من رغبة في توسع الدولة اليهودية على حساب دولة عربية، فإذا ارتفع صوت يعارض تلك الهجرة اليهودية المفتوحة، لما يتحتم أن تحدثه من أضرار بحقوق الجيران، ردت تلك الدول الكبرى بوجوب رعاية «حقوق الإنسان»، وكان تعريف «الإنسان» عندهم لا يشمل العرب، فمثل هذا التناقض فيما تصنعه هيئة الأمم المتحدة، هو ما ينفر منه منطق العقل.

وتساءل صاحبنا ذات عام فيما بعد قيام إسرائيل، وما تبعه من متناقضات ومفارقات يثور لها العدل والعقل معا: وماذا فعلت الجامعة العربية يا ترى تجاه حلقات العدوان الطاغي بغير حساب؟ وهنا دفعه حبه للمعرفة أن يقرأ شيئا عن نشأة الجامعة العربية وأسلوب عملها، فاهتدى إلى مجموعة من محاضر الجلسات التي عقدتها الحكومات العربية وهي في سبيلها إلى إنشاء الجامعة العربية، ووقف طويلا عند المناقشات التي دارت حول أن تكون قرارات الجامعة ملزمة للدول الأعضاء أو غير ملزمة، وأحس بحرارة المعارضين لفكرة الإلزام، حتى انتهى الأمر بأن تصبح القرارات بمثابة توصيات، من شاء أخذ بها ومن لم يشأ أهملها كأن شيئا لم يكن، فهمس صاحبنا لنفسه قائلا: كفى، كفى، فلا فرق بين أن تقوم للدول العربية جامعة، أو ألا تقوم، إذ لا يعدو شأنها في مجرى الأحداث، أن تتحول إلى دردشة لا تغير من أحداث العالم شيئا.

كان صاحبنا عند انتقاله في عقود السنين إلى سنوات الأربعينيات، وهي السنوات التي شهدت تحولات عميقة في حياة الشعوب بصفة عامة، وفي حياته هو الشخصية بصفة خاصة، قد ترك الثلاثينيات مثقل الصدر بهموم حقوق الإنسان الضائعة، حتى على أيدي روادنا الأعلام ، فماذا وجد في عقد الأربعينيات عن تلك الحقوق؟ وكيف جاء رد فعله لما وجد؟

سنوات التحول «2»

ألقت الحرب العالمية سلاحها سنة 1945م، وكان صاحبنا عندئذ في بعثته الدراسية التي جاءته متأخرة بعد تخرجه بأربعة عشر عاما، لم يكن قد أضاع منها يوما واحدا فارغ البال، إذ جرت حياته في ثلاثة خطوط متوازية، كان كل خط منها كافيا وحده أن يملأ الحياة عملا: فهو في أحدها معظم نهاره كاسبا لرزقه، حتى إذا ما فرغ من ذلك غمس نفسه في القراءة والكتابة كاتبا ليشارك في الحياة الثقافية، ثم هو آخر الشوط يختم نشاطه بدراسة يستعد بها لقدوم اللحظة المجهولة، التي إذا حانت، ظفر بحقه المرجأ في السفر إلى الخارج ليكمل دراسته العليا، وكان من طبيعة تلك الحياة المزدحمة أن تترك في صدر صاحبها مزيجا من الأمل واليأس، والحق أنه كان اليأس أقرب حلولا في نفسه من بوارق الأمل، فما أكثر ما أوحى إلى نفسه بأنه إنما ينفخ في رماد، هيهات أن تتوقد له من تحته جذوة فتبعث فيه الدفء، وربما كان بعض ذلك راجعا إلى كثرة ما امتلأ به طريقه من عقبات تدعو إلى الإحباط، فقد كان من أندر النادر في مجتمعنا، الذي لا نستثني معه أعلامنا الرواد، أن يجيء الحق إلى صاحبه بقوة الحق وحدها، فإما أن تعامل الناس والعصا في يدك، واللفظ الخشن بين شفتيك، وإما أن يصيبك الإهمال إلا أن يتولاك ربك برحمته وعدله، ولم يكن صاحبنا قد عرف الطريق إلى العصا، ولا اعتاد لسانه اللفظ الغليظ لينطق به في حينه فيستريح، حتى وإن أفلتت منه وسائل النجاح.

ولقد حدثناك عنه، فيما أسلفناه من أحاديث، كيف انتقلت به السنون من ثلاثينيات القرن إلى أربعينياته مثقل القلب بهموم اليأس من أن تجد حقوق الإنسان سبيلها ميسرة إلى من يستحقها، وكان مصدر يأسه أن روادنا الكبار قد غلب عليهم أن يكتبوا بالأقلام ما لا يفعلون، فهم يدعون إلى الحرية والعدل والمساواة وكرامة الإنسان من حيث هو إنسان وكفى، حتى إذا ما دخلوا في معاملات من سواهم، لم يكن لكل ما يدعون إليه إلا أضعف الأثر، فحرية الفكر والقول لهم وليس لمن دونهم، ومن ثم فلا عدالة، ولا مساواة، ولا كرامة، إلا وهي حبر على ورق، وسافر صاحبنا في بعثته الدراسية وملء صدره غيوم من هذه الهموم، ليجد مجتمعا آخر يتعامل أفراده بعضهم مع بعض على نحو ما كان يتمنى أن يراه في قومه، وهنالك أشرق عليه المعنى القوي الناصع، للعبارة التي قالها الإمام الشيخ محمد عبده، عندما زار إنجلترا سنة 1905م، حين قال إنه وجد في تلك البلاد إسلاما بغير مسلمين، بعد أن ترك وراءه في بلده مسلمين بغير إسلام.

ولم يكن قد مضى على نهاية الحرب العالمية الثانية إلا ثلاثة أعوام وبضعة أشهر، حتى أعلنت أمام العالم وثيقة حقوق الإنسان، في العاشر من شهر ديسمبر سنة 1948، فتلقاها صاحبنا بفرحة وكأنه يتلقى بارقة تزيح عن صدور الناس في أنحاء الأرض كوابيس الظلام، وماذا قالته تلك الوثيقة عن «حقوق الإنسان»؟ إنها رددت ما يمليه الإدراك الفطري السليم، فليس الذي ينقصنا هو «معرفة» الحقوق، بل هو التربية التي تدربنا على النط السلوكي الذي يصون تلك الحقوق، فأول ما نادت به الوثيقة، هو حق «الحرية»، ومن ذا ينكر على الناس حقهم في «الحرية» ما دام أمرها مقصورا على اسمها؟ لا أحد، لكن تأمل حياتهم العملية لترى كيف تفهم الحرية وكم يتحقق من معانيها، فهي في بلادنا - على أحسن الفروض - تفهم من جانبها السلبي وحده، إذ تفهم بمعنى التحرر من القيود، ومن القيود السياسية بصفة خاصة، ومثل هذا التحرر واجب محتوم، لكنه إذا اكتفي به لما كسب الإنسان من حريته شيئا إلا الشكل الخارجي، فبعد أن كان القيد يغل قدميه أزيل القيد، إلا أن القدمين ما زالتا عاجزتين عن السير، لماذا؟ لأن السير يريد هدفا يوصل إليه، ولأن الوصول إليه يتطلب «معرفة» بالوسائل، فإذا كان لا هدف هناك، أو كان هنالك الهدف ولا معرفة يستعان بها على خلق الوسائل المحققة لذلك الهدف، إذن فيا خيبة الرجاء، وهذا هو ما قد حدث بالفعل في معظم الأقطار التي فكت عنها قيود المستعمر، قطرا بعد قطر، منذ أن وضعت الحرب العالمية الثانية سلاحها، إذ ماذا يجدي إذا أزيلت الأغلال عن الأقدام، وبقيت أغلال تقيد العقول؟ ماذا يجدي أن تظفر أمة بحريتها السياسية، حتى إذا ما همت بعد ذلك تبني قوائم حياتها الجديدة وجدت نفسها في حاجة إلى ذلك المستعمر نفسه تطلب منه أن يعينها بعلمه وخبرته، وأجهزته؟ أليس سيد الأمس هو نفسه سيد اليوم، ولم يغير من الأمر شيئا أن تنتقل الأغلال من الأقدام إلى الرءوس؟

وحرصت وثيقة حقوق الإنسان منذ فاتحتها، على أن تطالب لكل إنسان بكل الحقوق، ولنتأمل هذا المعنى جيدا؛ لأننا لم نألف العيش في مجتمع لا يتفاوت فيه الأفراد بامتيازات تعطى لزيد ويحرم منها عمرو، ولست أعني بالامتياز ذلك التفوق الذي يظفر به صاحبه بمواهبه وبجهده، فهذا امتياز لا مأخذ عليه، بل وأراده لنا رب العالمين، وإنما قصدت إلى امتيازات تؤخذ سرقة ونهبا، وتعطى قسرا وتجبرا واعتسافا.

ويطالب إعلان «حقوق الإنسان» بحق «الحياة» وقد نسرع إلى الظن بأنه حق يضمن للإنسان أن يتنفس، فلا يغتاله أحد، أما صاحبنا حين طالع إعلان الحقوق فور صدوره، وأخذته الفرحة بما طالع، فقد ذهب بفكره بعيدا في فهم «الحياة» التي هي حق لكل إنسان، وساعده على هذا التوسع في فهم المعنى، ما كان يعرفه عن معنى «الحياة» في الفكر الإسلامي فصفة «الحي» اسم من أسماء الله الحسنى، ويذهب نفر من فقهاء المسلمين - ومنهم أبو حامد الغزالي - إلى أن الصفات المتضمنة في أسماء الله الحسنى، هي في الوقت نفسه صفات تلزم الإنسان المسلم بأن يتخلق بها، مع الفارق الواسع بين الحالتين، فبينما تفهم الصفة وهي منسوبة لله جل وعلا بمعناها المطلق الذي لا تحده حدود، تكون وهي منسوبة إلى الإنسان محدودة ومقيدة، فصفة «الحي» في كلتا الحالتين تتضمن - كما شعر الغزالي - صفتي «الإرادة» و«العلم»، إلا أن الله الحي - سبحانه وتعالى - مريد بمشيئة مطلقة ومحيطة بالكائنات جميعا، وهو كذلك «عليم» بعلم يسع السموات والأرض، وأما الإنسان فهو وإن تكن «حياته» الإنسانية متميزة دون الحياة في أي كائن آخر، بكونها مشتملة على القدرة المريدة والقدرة الإدراكية الواعية لما تدركه، إلا أن ذلك مقيد بحدود، وما دام الأمر كذلك، فحق «الحياة» بالنسبة إلى الإنسان، لا يقتصر على حصانة تمنع اغتياله أو قتله بأية صورة من الصور، بل يضيف إلى ذلك حق الإنسان في أن يكون ذا إرادة حرة، يسعى إلى العلم بمخلوقات الله ما وسعته القدرة على تحصيل ذلك العلم، فليس الناس سواء في قدراتهم الإدراكية وفي مواهبهم المختلفة، ومن حق الإنسان الحي في امتلاك هاتين الخاصتين - وهما أن يريد بإرادة حرة، وأن يحصل من المعرفة ما استطاع تحصيله - تنبثق حقوق أخرى انبثاقا يجعل تلك الحقوق جزءا من الفطرة الإنسانية، وليست هي موهوبة له من أحد سوى خالقه الذي فطره على ما فطره من خصائص: فمن كون «الحياة» الإنسانية مريدة بطبيعتها، ينتج بالضرورة أن تكون للإنسان «الحرية» التي يختار بها ما يريد، فإذا حرم من حق الاختيار الحر بين البدائل المتاحة، فكأنه حرم من إرادته التي هي جزء من فطرته، ومفهوم بالطبع أنه لما كان الفرد عضوا في مجتمع بحكم الضرورة، وجب أن تتوازن حريات الأفراد بحيث لا تطغى إرادة منها على أخرى، ومن هنا جاءت الشرائع والقوانين التي تضع لإرادات الأفراد حدودها في كل موقف من مواقف الحياة والقوانين التي تضع لإرادات الأفراد حدودها المشتركة، وكذلك ينبثق من كون الحياة الإنسانية - في الفكر الإسلامي - مميزة بتحصيل العلم، حق «التفكير» و«التعبير» عما قد انتهى إليه ذلك التفكير، فليس لأحد على أحد سلطان يقيد به فكره، أو يصادر به حقه في أن ينشر في الناس ذلك الفكر، ولعل أهم من ذلك كله، وقبل ذلك كله، وفوق ذلك كله، أن الفكر الإسلامي حين جعل «الحياة» الإنسانية مؤلفة من «إرادة» ومن «علم»، قد افترض افتراضا مسبقا لم يجعله موضع مجادلة بين قبول ورفض، وهو أن كل فرد من أفراد الإنسان قد خلق لذاته ، ولم يخلق من أجل ذات بشرية أخرى، وبذلك يكون من معاني حق «الحياة» أن يكون الإنسان غاية مقصودة، وهو مسئول أمام الله سبحانه وتعالى عما يعمل، بغض النظر عن سائر الأفراد، وكونه غاية في ذاته يستوجب رفض الرق الذي يوكل إلى السيد أن يسلب العبد إرادته فيسلبه - بالتالي - حياته الإنسانية فلا يبقى له من الحياة إلا جوانبها الآلية والحيوانية.

ويستخرج إعلان «حقوق الإنسان» بعض النتائج التي تتفرع عن حق «الحياة» لتكون بدورها حقوقا مسلما بها، منها ألا يكره إنسان على غير إرادته إكراها يلجأ إلى تعذيبه بأي نوع من أنواع التعذيب، سواء أكان إيلاما جسديا، أم كان إحراجا يحط من كرامته أمام الآخرين، كأن تهتك خصوصية حياته، الشخصية الخاصة، فمن حق كل إنسان أن تكون لحياته الخاصة حرمة تصان.

وهكذا يعلن ميثاق الحقوق عما يجب أن يتمتع به أفراد الناس جميعا، فلكل إنسان حق التنقل حيثما أراد، لا تحدد إقامته في مكان معين رغم إرادته، ولكل إنسان حق التملك لا ينازعه فيما كسبه بعمله منازع، وإذا كان لكل إنسان الحق في التفكير والتعبير، والحق في اختيار عقيدته، فإنه مما يلحق بذلك أن يكون له أيضا الحق في أن يغير من فكره ومن عقيدته إذا أراد لنفسه ذلك، ولكل إنسان الحق في العمل وفي حرية اختياره لنوع العمل الذي يراه ملائما لقدراته.

كما أن لكل إنسان الحق في وقت الفراغ، وذلك كله يستتبع أن تكون السلطة الحاكمة مسئولة عن تهيئة الظروف التي تكفل للعاملين درجة لائقة من مستويات العيش، وأن تدبر نظاما للتأمينات التي تكفل دوام ذلك المستوى في حالات البطالة والمرض والشيخوخة، وينص إعلان «الحقوق» بصفة خاصة على حقوق «الأمومة» و«الطفولة»، فالأم أم تستحق الرعاية والحماية، مهما تكن العلاقة التي أدت بها إلى تلك الأمومة، والطفل طفل تجب له العناية بغض النظر عن أي عامل اجتماعي أو طبيعي يحيط به. وللتعليم والثقافة نصيبهما في إعلان «الحقوق»، فلكل فرد حق في أن يتعلم وفي أن يجد زادا ثقافيا يلائمه، كما أن للقائمين بعمليات التعليم والتثقيف حقوقا ينص عليها الإعلان، تشمل فيما تشمله حقوق المؤلفين والمبدعين، كما تشمل حقوق الآباء في أن يكون لهم رأي في تعليم أبنائهم، وإلى جانب حقوق الأفراد التي ذكرنا بعضها، لم يفت الإعلان أن يذكر ما «للشعب» الذي هو مجموع مواطنيه، من حقوق، وعلى رأسها أن يكون الشعب مصدر السلطات جميعا، بما يكون لأبنائه من حقوق الانتخابات لمن ينوبون عنه في مواقع صنع القرار، لم يكن صاحبنا ولا كان غيره بحاجة حقا إلى إعلان لحقوق الإنسان لكي يعرفها بعد جهل، لكن جاء الإعلان ليوقظ الغافلين، فحقوق الإنسان أمور تكاد تمليها فطرة الإنسان، إلا أن تلك الفطرة فيها كذلك ما يملي التسلط والاستبداد والحقد والكراهية، وها هو ذا صاحبنا قد سافر في بعثته الدراسية محيطا بما وجده من خيبة الرجاء، حتى عند الرواد الكبار إذا ما اقتربت منهم لتراهم عن كثب، فلما أن استقر به المقام في الغربة، لم يستطع أن يقاوم إغراء القلم ليكتب فيما أثقل قلبه من أسى، لكنه حمل قلم الأديب، لأنه آثر أن يدخر قلم العالم ليجول به في مجال البحث العلمي، فماذا كتب الأديب بقلمه في سويعات فراغه هناك؟ إنه ابتكر لنفسه طرازا فريدا من المقالة «الأدبية» يصب فيها مرارة نفسه، وليست المقالة «الأدبية» موصوفة بهذه الصفة لمجرد أنها كلام مكتوب في لغة سليمة، أو بأسلوب متميز، وإنما هي «أدبية» لأنها صفة ضرورية لا يكون الفن فنا ولا الأدب أدبا إلا إذا توافرت فيه تلك الصفة، وقد يضاف إليها بعد ذلك صفات أخرى، أو لا يضاف، وتبقى هي شرطا ضروريا، وأعني بها الصورة، أو «الشكل» أو «التكوين» أو طريقة البناء، أو الإطار ... فهذه كلها أسماء تشير إلى طبيعة الصفة المميزة التي لا يكون الفن الأدبي، أو الفن من أي ضرب آخر، فنا إلا بها، فالفن إذا ما أراد أن يوصل إلى المتلقي حالة نفسية معينة، أو فكرة، لجأ إلى وسيلة تحمل تلك الحالة أو الفكرة المبثوثة إلى متلقيها، تصل إليه بطريق غير مباشر، لماذا؟ لأن الحالة النفسية أو الفكرة ينقصها التجسيد الذي يجعلها وكأنها شيء مما تراه الأبصار أو تسمعه الآذان أو تلمسه الأيدي، وعلى الفنان - في الأدب وفي غيره - أن يبحث عن وسيلة تجسيد ملائمة لموضوعه.

حمل صاحبنا - إذن - قلم «الأديب» ليصور ثورة نفسه على ما كان قد خبره في وطنه من روح التسلط والتعالي والظلم والخنوع والنفاق، وغير ذلك من الصفات التي يختفي منها كثير إذا ما نشأ المواطنون نشأة تبث فيهم الشعور بكرامة الإنسان من حيث هو إنسان، بغض النظر عن فقره وغناه، وضعفه وقوته، وما شئت من أوضاع اجتماعية تتبع ضروب العمل المختلفة، وأعجب العجب أن تسري في مجتمعنا هذه الأخلاق ولا يراها الناس، أو هم يتصرفون إزاءها وكأنهم لا يرونها، فلا المتسلط يرى في تسلطه شذوذا عن السواء، ولا الخانع أمام المتسلط يشعر بأنه قد أهدر آدميته بخنوعه وخضوعه لإنسان من البشر، نعم، أخذ صاحبنا ينشئ مقالاته «الأدبية» في غربته، ويرسلها إلى القاهرة؛ فتنشر وتحدث الصدى، فلكي يصور استعلاء بعضنا على بعض، بحيث إذا ظفر أحد منا على مقدار ذرة من قوة أو ثراء أو نسب أو ما شئت، تفنن في ابتكار الوسائل التي يتعالى بها على من دونه حتى ليطمس له حقوقه المشروعة من حيث هو إنسان ذو حقوق لا يضيعها حرمانه من أسباب القوة والسلطان، ومع ذلك فالشعب يلقن في الصباح وفي المساء بأنه قد بلغ من إنسانية الإنسان ما لم يبلغه شعب آخر ممن أعمتهم المادة والفساد! أقول إن صاحبنا لكي يصور تلك المفارقات، كتب ذات مرة يقول: «وأما جنتي فهي أحلام نسجتها على مر الأعوام عريشة ظليلة، تهب علينا النسائم عليلة بليلة، فإذا خطوت عنها خطوة إلى يمين أو شمال، أو إلى أمام أو وراء، ولفحتني الشمس بوقدتها، الكاوية، عدت إلى جنتي، أنعم فيها بعزلتي، كأنما أنا الصقر الهرم، تغفو عيناه فيتوهم أن بغاث الطير تخشاه، ويفتح عينيه، فإذا بغاث الطير تفري جناحيه، ويعود فيغفو، لينعم في غفوته بحلاوة غفلته ...» ثم يأخذ صاحبنا في تصوير نماذج من تعامل الناس أعلاهم مع أسفلهم، وفي صورة تقطر مرارة، أجرى مقارنة ساخرة بين قيمة الإنسان في مجتمعنا، وقيمته في مجتمع الغرباء الذي وجده في الغربة، كتب يقول: «... وجدت الناس هنا (أي في مجتمع الغرباء) لا يؤمنون بأن الليل لا ينبغي له أن يسبق النهار، ولا الشمس أن تدرك القمر، وأن كلا في فلك يسبحون، فهم يريدون لأجرام السماء كلها أن تسبح في فلك واحد، ثم تختلف بعد ذلك أوضاعها وأشكالها ما شاءت أن تختلف، وذلك الفلك الواحد عندهم هو صفة «الإنسانية» التي تجعل الإنسان شيئا غير الكلب والحمار، فكن عندهم فقيرا ما شئت، أو كن عندهم غنيا ما شئت، لكنك «إنسان»، كن عندهم ضعيفا ما شئت، أو كن عندهم قويا ما شئت، لكنك «إنسان»، كن عندهم زارعا، أو صانعا، فأنت «إنسان»، كن عندهم خادما أو مخدوما، وأنت في كلتا الحالتين «إنسان»، كأنهم جماعة من النمل، لا تختلف فيها نملة عن نملة، وأقارن فوضاهم هذه بالنظام في جنتي، فأحمد الله على سلامتي، أرادت زوجتي في جنتي، أن تستخدم خادمة فسألتها: اسمك ماذا؟» - بثينة يا سيدي.

لكن زوجتي كانت بثينة كذلك، فأبى عليها حب النظام إلا أن تفرق بين الأسماء؛ حتى لا يختلط خادم بمخدوم، وقالت في نبرة كلها مرارة، ونظرة تشع منها الحرارة: ستكونين منذ اليوم زينب، أتفهمين؟ - حاضر، سيدتي.

وبثينة بالطبع لم تفهم لماذا تكون منذ اليوم زينب؛ لأنها جاهلة صغيرة، لم تفهم بعد ما الفضيلة وما الرذيلة ...

كان صاحبنا يحمل معه ذكريات كثيرة عن الحياة الاجتماعية في وطنه، وهي ذكريات كانت مزيجا مما يدعو إلى الحب والفخر، وما يدعو إلى السخط والغضب، لكن الكاتب في موقفه من حقائق الحياة كما يراها، يشبه الطبيب في موقفه من مريضه، فالمريض ليس مرضا كله، بل هو جمع بين مرض وصحة، إلا أن الطبيب إنما جاء ليستخرج مواضع العلة، لتكون هي مشغلته لعله يكون وسيلة لشفاء مريضه، وكذلك الكاتب، إذا هو ركز انتباهه على جوانب القوة من حياة قومه مرة، فهو يركزه على جوانب الضعف مرات، لعله يستطيع أن يلفت إليها الأنظار فيصيبها إصلاح، وعلى هذا الأساس كان صاحبنا، وهو في غربته، يجد الأحداث والمواقف التي تجري حوله هناك - وكانت الحرب العالمية في لهب سعيرها - أقرب إلى أن تثير في نفسه ذكريات الخلل في حياة أهله، منها إلى إثارة الذكريات الجميلة الدافئة، ومن أبرز الصور التي كانت تعاوده حينا بعد حين، صورة الرئيس المستبد الوقح، الذي ينتهز فرصة الشعور بالضعف والحاجة عند من هم في قبضته، ولم تكن «الرياسة تقتصر» عنده على رياسات الدواوين وما إليها، بل هي تجاوز ذلك لتشمل كل ذي سلطان، وكثيرا ما كان صاحبنا يذكر رأيه لأصدقائه وقرائه، بأن الإسراف في قيمة «السلطة» عند مواطنيه، هو العلة الأولى في حياتهم، ولو استطعنا أن نقلقل حب التسلط لننزل من ذروته في سلم القيم عندنا لانزاح عن صدورنا كابوس ثقيل، إذ يضيع من جهودنا في نشر الحرية، والعدالة، والديمقراطية إلخ جزء كبير، يذهب هباء ما دامت قيمة «التسلط» تتربع على عرشها بين القيم، ومن هنا وجه صاحبنا قلم الأديب الذي خصص له سويعات من وقته هناك، ليكتب ما يرسله لينشر في مصر، نحو «التسلط» يصوره في بشاعته لعله يثير شيئا من سخط قارئه، وكان ذلك الجهد الأدبي المبذول، في وسط الأربعينيات من أعوام هذا القرن، ولم يكن قد بقي على موعد الثورة سنة 1952 إلا فترة تقل عن عشر سنوات، فتجيء ترفع لواء «العدالة الاجتماعية». كان بين ما كتبه صاحبنا هناك، موضوع أسماه «تجويع النمر» يقول فيه لقرائه: إن بين أفراد الناس فئة تشبه صنوف الحيوان في تركيبها النفسي، بحيث إذا بقر بطونهم مبضع التشريح، وجد في الجوف نمر كامن، أو ثعلب، أو حمل، أو ضبع، أو كلب، وهكذا فترى صاحب هذا المكنون الجوفي يتصرف على طباع الحيوان الذي كمن فيه، ويهمنا من هؤلاء قبيلة النمور، فماذا أنت صانع بنمر بشري استبد بك في طريق حياتك لتنجو من شره؟ الحل بسيط غاية البساطة، وهو أن تلجأ إلى تجويعه ، فأنت تعلم أنه يقتات على ضعفك، فما عليك في هذه الحالة إلا حرمانه من الغذاء الذي يشبعه، فإذا رأيت بوادر التنمر قد أخذت في الظهور، اتركه ليجد أمامه هؤلاء في خلاء.

وعن «الظلم» الاجتماعي كتب صاحبنا صورة يصور بها غلاما في نحو العاشرة، سمع في الطريق العام بائعا متجولا يصرخ وهو في قبضة شرطي، قائلا: هذا ظلم، ولم يكن الغلام قد سمع هذه الكلمة بعد، فلما عاد إلى منزله، سأل أباه: ماذا تعني كلمة «ظلم»؟ فأجابه أبوه بأنها تعني مجاوزة فرد من الناس لحدوده المشروعة فيؤذي آخرين، كأن تجلس خادمتنا على مقعد من مقاعدنا ... فما هو إلا أن جاء الليل ونام أفراد الأسرة، ليستيقظوا في الصباح فيجدوا كلمة «ظلم» قد كتبت بالطباشير على قطع الأثاث كلها، ولم يكن عسيرا على الوالد أن يعلم بأن ولده هو الفاعل، فنهره وزجره وأمره بألا يعود إلى مثل هذا العبث، ومحيت الكلمة حيثما وجدت، لكن لم يمض إلا يوم واحد، ليجد الجيران أن مجهولا قد عبث بأبواب منازلهم ودرجات السلم وفي كل بقعة تصلح للكتابة، إذ رأوا كلمة «ظلم» قد كتبت بالفحم هنا وهناك، ودارت الشكوى، وأدرك الوالد أنه ابنه الذي اقترف الإثم، فجعل عقابه هذه المرة ضربات أوجعت الصبي، ولكنه لم ينطق بصوت، ومرة أخرى حذر الوالد ولده وأنذره وتوعده إذا هو عاد، ولكنه فوجئ بعد أيام قلائل بشرطي يدق على بابه، ممسكا بالغلام، فعلم الوالد من الشرطي أن ابنه قد ضبط في ساعة مبكرة من الصباح، يلطخ أبواب المتاجر المغلقة، وبعض النوافذ في مكاتب حكومية مجاورة، يلطخها بكلمة «ظلم» يكتبها بفرشاة كبيرة يغمسها في وعاء مليء بطلاء أسود ... وهنا لم يجد الوالد بدا من عرض ابنه على طبيب نفسي، فأوصى الطبيب بأن يأخذ الوالد ولده إلى مكان يستريح فيه ويهدأ، فسافر الوالد مع ولده إلى الإسكندرية بالقطار، وما كان أشد العجب يعجب به الوالد، حين سمع عجلات القطار تدمدم على القضبان وكأنها تقول: ظلم، ظلم، ظلم ... على هذا النحو أخذ صاحبنا يكتب مقالاته «الأدبية» خلال السنوات الوسطى من الأربعينيات، وذلك في هوامش سويعات الفراغ بعد تركيز الفكر في ساعات العمل، ولما أعلنت وثيقة «حقوق الإنسان» في اليوم العاشر من شهر ديسمبر سنة 1948م، أحس بشيء من الرضا، إذ شعر كأنما كان بشخصه جزءا في التمهيد لظهور ذلك الإعلان.

سنوات التحول «3»

لم يكن صاحبنا نفسه يستطيع أن يرد ذلك القلق المؤرق إلى منابعه الأولى، وهو قلق محوره ما قد تصوره في صورة مكبرة، عن حرمان الإنسان في وطنه من حقوقه الأولية التي لا يكون الإنسان إنسانا بغيرها، لقد جاءه هذا الانطباع في السنوات الأخيرة من الثلاثينيات، وكان قبل ذلك على عقيدة أخرى، إذ كان هنالك في حياتنا ما يبرر له ولغيره رأيا يرى تلك الحقوق وقد رسخت في وعي الكثرة الغالبة من المواطنين، فهنالك حق الحرية قد أخذت تجري به الأقلام منذ رفاعة رافع الطهطاوي فصاعدا مع كبار الرءوس جيلا بعد جيل، كما قد أخذت تعيه في معناه السياسي أفئدة العامة من جمهور الناس، كما قد تجلى في ثورات وطنية تشتعل آنا بعد آن، ثم أخذ هذا الحق في الحرية يتفرع فروعا ليشمل ميادين أخرى غير السياسة في مجابهة الاحتلال البريطاني، كميدان الاقتصاد، وميدان الأدب، وميدان التعليم، وميدان المرأة، وميدان الحياة الشخصية للأفراد أمام الرأي العام.

وليس في كل هذا شك، فما الذي رآه صاحبنا بعد ذلك مما أثار فيه القلق؟ ربما كمن السر في أن المقارنة مع الشعوب الأخرى التي هي في موقع الريادة من حضارة هذا العصر وثقافته، قد أيقظته ليرى الفارق الكبير بين أن تجري أقلام الرواد بحق الحرية ووجوبه لكل إنسان، وبين أن يحيا هؤلاء الرواد أنفسهم على نحو ما يكتبون، فبينما ترى الواحد منهم، وقد أوشكت حروف كلماته أن تشتعل بحرارتها دفاعا عن الحرية والمساواة والعدالة ... إلخ، تنظر إليه في ساحات التعامل الفعلي يذل للكبار بقدر ما يستبد بالصغار، وقد رأى صاحبنا بعينيه وسمع بأذنيه، كيف لا يطيق حماة الحرية الفكرية أن يروا من هم دونهم وقد استباحوا لأنفسهم ذلك الحق نفسه، حتى إذا ما سافر صاحبنا وكذلك رأى هناك بعينيه وسمع بأذنيه كيف يتساوى في تلك الحقوق الأساسية كبار وصغار، بغير توتر أو شعور بالتحدي، كأنما هي عادات مألوفة لا تستلفت الأنظار، هنالك أدرك البون الشاسع بين سهولة القول وصعوبة العمل، وإنه ليذكر ذات يوم بعد نهاية الحرب بقليل، وقد أتيح له أن يرى هناك صفا من العاملين في ديوان حكومي وقف كل منهم في مكانه من الصف، يحمل في يده طبقا وشوكة وسكينا، وأخذ الصف يتحرك قليلا قليلا نحو منضدة كبيرة وقفت عندها مناولات يناولن من جاء دوره فنجان الشاي وقطعة الكعك، لكن كم كانت دهشة صاحبنا حين لمحت عينه فيمن وقفوا في الصف وزير الوزارة التي وقع في بهو ديوانها هذا المشهد، وكان الذي وقف أمامه أحد السعاة في ديوان تلك الوزارة نفسها، وما إن رأى هذا الترتيب المقلوب، حتى ركز بصره فيها لعله يجد أثرا للقلق عند الساعي، أو أثرا من الضجر عند الوزير، فلم تقع عينه على شيء من ذلك، فعاد إلى بيته مع المساء ليكتب قبل أن يأوي إلى فراشه، تحت عنوان «الكبش الجريح» قطعة من «أدب» المقالة ليبعث بها إلى وطنه، يصور بها ما كان ليحدث لو شاءت مصادفة عمياء أن يقع هذا الترتيب في الوقوف عندنا بين وزير وساع، وجوهر المأساة هنا، أن خيالنا قد يتصور وزيرا له من سعة الثقافة ما لا يقلقه أن يجيء دوره وراء دور خادمه، لكنه لا يتصور أن يجد الساعي الذي يرضى لنفسه أن يتقدم وزيره، خالطا في ذلك بين أن يكونا مواطنين يتساويان في غير مجال العمل، ولا يتساويان في مجال العمل، فللوزير عندئذ أن يأمر وعلى الساعي أن يطيع، نعم، كتب صاحبنا ليجسد لقرائه في وطنه هذا المعنى، في كبش ذبيح تنظر إلى عينيه ودماؤه تتدفق من عنقه، فإذا هما عينان ناطقتان بالطمأنينة والرضى.

ولأمر ما وجد صاحبنا نفسه مشدودا إلى حق «الحرية» أكثر من سواها في قائمة حقوق الإنسان، بمعنى أنه شغل بالقراءة عنها في فراغه أكثر مما شغل بالقراءة عما عداها، وربما كان ذلك لأنه وجد فيها أصلا تتفرع منه الفروع، ولعل أهم ما يلفت النظر في الطريقة التي يغلب على صاحبنا أن ينتهجها في تفكيره، أيا ما كان موضوع التفكير، نزوعه نحو أن يرد الفروع إلى الأصول، فتسهل عليه رؤية الحقائق من مواضعها في شجرة أنسابها، ومن هنا أقول إنه ربما ارتأى صاحبنا عندئذ أن «الحرية» أصل، ومعظم حقوق الإنسان الأخرى فروعا لها، أو ربما نظر إلى التاريخ الثقافي الحديث في مصر، فوجد فكرة «الحرية» توشك أن تكون محورا أساسيا للحركة الثقافية كلها، منذ الطهطاوي فاتيا، حتى لقد كانت تتقطر من أقلام الكتاب قطرات تتوالى وتتراكم آثارها في صدور الناس خلال بضعة عقود من السنين، ثم تتفجر ثورة عاصفة، فبعد نحو أربعين سنة من نشر الطهطاوي لمؤلفاته ومترجماته، قامت ثورة أحمد عرابي، وبعد نحو أربعين سنة من ثورة عرابي اشتعلت ثورة سعد زغلول، وبعد نحو ثلاثين عاما تفجرت ثورة جمال عبد الناصر، وفيما بين الثورة والثورة التي تليها، لا تكف الأقلام عن الدعوة إلى ضروب منوعة من الحرية، وكلما تحقق منها شيء طالب الناس بمزيد.

وأيا ما كان الدافع الباطني، فقد أحس صاحبنا برغبة شديدة في أن يطيل القراءة والنظر حول فكرة «الحرية»، وهي قبل أن تكون «فكرة» يتناولها العقل بالتحليل والتدليل كانت منذ كان على الأرض إنسان، حنينا نحو أن يملك الإنسان قياد نفسه في اختيار هذا وترك ذاك، وفي إزالة ما عساه مصادفة في طريق الحياة من عوائق وعقبات، ولماذا نقصر أمر «الحرية» على الإنسان، اللهم إلا إذا أردنا بلورة طبيعتها في عبارة لغوية تصفها وتحددها؟ أما إذا كان المراد هو أن يكون في وضع الكائن الحر أن يسلك سلوكا يستحيل التنبؤ به قبل وقوعه؛ لأنه سلوك أبدعه الكائن بوحي من فطرته إبداعا غير مسبوق بأسباب معلومة، ولا بمقدمات يمكن الاستناد إليها في استدلال ما سوف يترتب عليها، فإن كل كائنات الكون، من الذرة فصاعدا إلى الشموس والنجوم، فإلى دنيا الأحياء نباتا وحيوانا وإنسانا، نعم، إن كل كائنات الكون لها أنصبة متفاوتة من الإبداع غير المسبوق بأسباب معلومة أو بمقدمات تنبئ عما يتولد عنها، فكهارب الذرة تقفز من مدار إلى مدار دون أن يكون في مستطاع العلم البشري أن يعرف عن تلك القفزات كيف تحدث، ومتى، ولماذا، وإذا أراد العلم صياغة قانون أو قوانين تحدد مساراتها، فليس أمامه سوى تقريبات إحصائية يمكن الاعتماد عليها في عمليات التنبؤ، إذن فالذرة حرة النشاط بمعنى من المعاني، وعلى هذا الأساس يمكن القول كذلك بشيء من حرية النشاط في سائر الكائنات، ما دامت كلها مؤلفة آخر الأمر من ذرات حرة الكهارب، حتى إذا ما ارتفعنا بالنظر إلى عالم الأحياء، ثم سمونا على سلم الحياة لنبلغ ذروته متمثلة في الإنسان، وجدنا تلك الحرية المحدودة قد نمت وتفرعت حتى تصبح عند الإنسان «إرادة» حرة تريد ما تريد لتفعل ما أرادت.

الحق أن فكرة عابرة كانت قد طافت برأس صاحبنا قبل ذلك بسنوات، إذ حدث له في جلسة هادئة أن طرح على نفسه سؤالا يقول: ترى هل لي من مفتاح يفتح لي أفق النظر، لأقع على النقطة الأساسية التي منها نشأ اختلاف هذا العصر عما سبقه من عصور؟ وإنه ليذكر جيدا كيف فوجئ بفكرة تعرض نفسها عليه، وهي أن تلك النقطة الأساسية تكمن في «الذرة» الأولية وكيف يتصورها الإنسان، وهنا أود أن ألفت نظر القارئ إلى أن «الذرة» في أي شكل من أشكالها في شتى عصور الفكر، لا يدركها الإنسان بحواسه، وإنما هي تصور عقلي تثبت صحته أو لا تثبت عن طريق استدلال النتائج الممكنة من ذلك «التصور» العقلي لها، فإذا وجد العلماء الباحثون أن تلك النتائج تصدق على الواقع المحسوس، كان «التصور» العقلي الذي تصورناه للذرة صحيحا، فكثيرة هي التصورات التي تخيل بها رجل الفكر صورا لجزئيات المادة، التي نصل إليها بتحليل المادة تحليلا نبلغ به آخر حد مستطاع، وهو الحد الذي نفترض فيه أنه غير قابل للتحليل، فنطلق عليه اسم «الذرة»، إلا أن العصور السابقة كلها، حين تصور علماؤها كيف تكون ذرات المادة إذا وفقنا إلى بلوغها ، وبرغم اختلافهم في تصورهم لأشكال الذرة، فهم إنما كانوا على اتفاق بأن الذرة التي ينتهي إليها تحليل المادة، لا بد أن تكون صلبة لا يتخللها فراغ، وأما عصرنا هذا فقد انفرد وحده بتصور جديد، وهو أن يجعل الذرة أولا شحنة من الطقة، وثانيا داخلها خلاء تدور فيه كهارب سالبة حول مركز من كهارب موجبة، ثم جاءت بعد ذلك إضافات جديدة تضيف أنواعا أخرى من الكهارب داخل الذرة، لكنها إضافات لم تغير من الإطار العام للتصور الجديد، ولنلحظ أن هذا التصور الجديد للمادة، قد قرب مسافة الخلف بين «المادة» و«الطاقة»، حتى لقد كاد يمحو فكرة السلبية والموات والجمود التي كان التصور القديم - بمختلف أشكاله - يلحقه بالمادة، وخرج صاحبنا من تلك الخواطر - يوم أن طرح على نفسه السؤال في جلسته الهادئة تلك - بمفتاح التمييز الذي كان يبحث عنه، ليفرق به بين عصرنا وما سبقه من عصور؛ فالتفرقة تبدأ من «الذرة» التي كانت سلبية جامدة، فأصبحت إيجابية دينامية فاعلة، ثم هي قد أصبحت فوق هذا كله «حرة» تتحرك كهاربها في جوفها بوثبات لا تخضع لقانون في علم البشر.

وإذا كان هذا هكذا فنحن - إذن - في كون وهب الحرية في كل رجى من أرجائه، في كل كائن من كائناته، في كل ذرة من ذراته، ودع عنك، ما وهبته، الأحياء، نباتا يعرف كيف تسعى جذوره في التربة لتصل إلى مواضع الغذاء، وكيف يتلقى الهواء والضياء في معامله الكيماوية المنبثة في جذوعه وغصونه وأوراقه، ليأخذ العناصر التي تنفع ويلفظ العناصر التي تضر، وماذا - إذن - تقول عن عالم الحيوان؟ لقد كان من أشد ما شغف به صاحبنا في حياته أن يحيط بما وسعته قدرته أن يحيط به من علم بطرائق صنوف الحيوان في تدبير الحياة: كيف يجمع غذاءه؟ كيف يحتمي من عدوان الأعداء؟ كيف يدبر المصائب لفرائسه؟ كيف يؤمن الحياة بجحر أو عش أو عرين؟ ألا إنه لتلخيص مخل أن ترد هذه المهارات والبراعات كلها، إلى كلمة واحدة بسيطة نركن إليه ونستريح لها، كأن نقول - مثلا - إنها «الغريزة» أو إنها «الفطرة»، وكأننا قد حللنا العقدة بأن أطلقنا عليها اسما يسميها، ولو هدانا الله سبحانه إلى لفتة أصح، لاتجهنا إلى «الحرية» التي وهبها الخالق إلى مخلوقاته، ليتسع أمامها هامش الاختيار فيما تفعله وما تمسك عن فعله، حرصا على حياتها، على أن تتم لها تلك الحرية داخل إطار القانون أو القوانين التي تنتظم تلك الحياة.

فإذا ما بلغنا من مدارج الأحياء قمتها في الإنسان الذي أراد له ربه أن يكون له من التكريم ما يتفوق به على سائر الكائنات، وجدناه قد أشعلها حربا على نفسه، يأبى أقوياؤه إلا أن يحتكروا حق «الحرية» لأنفسهم، على حساب ضعفائه، حتى يصبح هؤلاء الضعفاء في حاجة إلى ألسنة تخطب وأقلام تكتب، تذكيرا لهم بحقائق ما فطرهم عليه فاطرهم وفاطر السموات والأرض، وهو - سبحانه وتعالى - إنما فطرهم على «إرادة» تريد و«عقل» يدبر، وأن الإرادة والعقل معا ليفقدان كل معناهما إذا لم تكن الإرادة حرة فيما تدع وما تختار، وإذا لم يكن العقل حرا في فرض فروضه ليستدل النتائج، التي من مجموعها الصحيح تتألف «العلوم» ...

إننا حين أشرنا إلى حرية العقل في فرض فروضه ليستدل نتائجها، قد وضعنا أصابعنا على خاصية من أبرز الخواص التي تميزت بها حرية الإنسان في عصرنا هذا، فلم تكن بنية العلم فيما سلف من عصوره، كبنية العلم في هذا العصر الذي قسم لنا أن نعيش فيه، ومن أهم ما نذكره من أوجه الاختلاف، أمران؛ أولهما: أن السابقين جميعا - إلا استثناءات لا تستحق الوقوف عندها - كانوا على ظن بأن كل فروع العلم قائمة على أساس واحد، هو الأساس الذي نراه متمثلا في أجلى صوره في العلم الرياضي الذي من شأنه دائما أن يوصلنا إلى يقين لا يحتمل ظلا من الشك في صحته، وكان على سائر العلوم غير الرياضية، كالعلوم الطبيعية، والعلوم الاجتماعية بشتى فروعها، أن تنهج في بحثها منهج العلم الرياضي لتحقق لنفسها يقين النتائج، وما هو صلب المنهج الرياضي؟ هو أن تصدر العملية الفكرية بمجموعة من «الفروض» تتميز بأنها تؤخذ مأخذ التسليم، أي إنها ليست مما يطلب عليه برهان، لكنها هي الإسناد التي يبرهن بها على صحة النتائج التي تتفرع عنها، فإذا سأل سائل عن مصدر صحة نتيجة ما، أجيب عليه بأن يشار إلى واحد أو أكثر من تلك الفروض التي وضعت بادئ ذي بدء لتؤخذ مأخذ التسليم من جهة، وليستخرج منها ما عساه يتولد عنها، فما دامت النتيجة المعينة قد أمكن ردها إلى الأساس الافتراضي الذي جاءت منه، وجب التسليم بصحة تلك النتيجة.

وكانت المشكلة في العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية جميعا، هي أنها ليست كعلوم الرياضة نضع لها نحن أسسا مسلما بصوابها، بل هي علوم تريد أن تبدأ من وقائع تقع فعلا في الظواهر الطبيعية كما نراها، وكل ما يحصله الإنسان بحواسه ومشاهداته وتجاربه معرض للخطأ، فكيف يتاح لنا التسليم بصحته لنجعله أساسا نستدل منه كما كانت الحال في العلم الرياضي؟ الفرق بين الحالتين واضح، وهو فرق يؤدي حتما إلى ضرورة ألا تتمكن العلوم الطبيعية من «يقين» كالذي تتمكن منه الرياضة، ومع وضوح الفرق بين الحالتين لم يدركه السابقون، ومن ثم أصروا على أن تنهج العلوم الطبيعية والاجتماعية نهج الرياضة.

ذلك - إذن - هو أحد الأمرين اللذين اختلفت بهما بنية العلم في عصرنا عن بنية العلم في العصور السابقة، وأما الأمر الثاني - ولعله تفرع من الأمر الأول - فهو أن تساءل علماء الرياضة، وتساءل معهم أعلام المناطقة منذ أواسط القرن الماضي، قائلين: من أين جاء الاعتقاد في أن الفروض التي يصدر بها الرياضيون عملياتهم الفكرية، هي في الوقت نفسه مطابقة لواقع الأشياء؟ إنها ما دامت فروضا فمن حق من شاء واستطاع، أن يستبدل بها فروضا أخرى فتتغير النتائج، ومن ثم تكون صحة الحقائق الرياضية مرهونة فقط بسلامة استدلالها من مقدماتها، دون أن يكون لها الحق في أن تمتد صحتها تلك لتشمل صحة انطباقها على عالم الأشياء؛ ولهذا جاز أن تتعدد الحقيقة الرياضية بتعدد البناءات التي ترد فيها، فلكل بناء منها فروضه ونتائجه، بحيث تصبح كل نتيجة مقيدة في صحتها ، بمجموعة الفروض التي وردت في سقف بنائها.

وهكذا جاء التحول العظيم نحو حرية «العقل»، فما أكثر ما وضعت له عند السابقين فروض ليبدأ منها فاعليته، ثم سرعان ما يجيء الوهم بأن تلك المقدمات «المفروضة» إن هي إلا «حقائق» ثابتة يطلب لها أن تؤخذ مأخذ التسليم، فلا مراجعة ولا حساب، ومن هذا التحول العظيم في مجال العلم، وهو تحول أثرى العلم الرياضي نفسه ثراء غزيرا، من جهة، وحرر العلوم الطبيعية والاجتماعية من ضرورة التزامها منهج الرياضة، فاتسع لها المجال، أقول: إنه من هذا التحول العظيم في بنية العلم انبثقت تحولات كبرى في الرؤى الثقافية بصفة عامة، فبعد أن كان الموروث عن السلف يقوم بالدور نفسه الذي كانت تقوم به «الفروض» في العلم الرياضي، بمعنى أنه كان يظن به اليقين، ويعطي حق التسليم بصحته عن غير برهان، أصبح من حق الإنسان أن يطور موروثه إذا لم يجد فيه الدينامية التي تحرك أوضاع الحياة نحو الأفعل والأفضل والأقوى.

وهكذا ترى أن فكرة «الحرية» في بلادنا، حتى عند أكثر المثقفين، ضاقت حدودها بحيث كادوا يقصرونها على التخلص من قيود الطاغية، بالمعنى السياسي في أغلب الأحيان، ومثل هذه النظرة الضيقة تضعهم في وهم كبير، إذ تجعلهم يتوهمون أنهم قد باتوا أحرارا وما هم في حقيقة أمرهم بأحرار، فلأن تفك عنهم قيود المستبد - على اختلاف ضروب الاستبداد - لا يعني أنهم قد صاروا بذلك أحرارا، بل يعني أنه قد توافرت لهم الظروف التي تمكنهم من أن يكونوا أحرارا لو أرادوا؛ لأن الحرية في صميم معناها هي القدرة على العمل في الميدان الذي نريد أن نكون أحرارا فيه، ومعنى ذلك هو أن الحرية مستحيلة بغير علم بتفصيلات العمل الذي تزعم لنفسك أنك حر في مجاله، فمن تعلم القراءة والكتابة - مثلا - حر إزاء حروف الأبجدية ويستطيع التصرف فيها تركيبا وتفريقا، والزارع حر إزاء أرضه وأدوات الزراعة والحرث والري التي يستخدمها، وسائق السيارة الذي يعرف كيف يصلح محرك سيارته إذا أصابه عطب، حر إزاء سيارته، وكذلك قل في رجل السياسة إزاء المشكلات التي يعالجها في شئون الحياة الداخلية، وفي العلاقات التي تتشابك بين بلده وغيره من بلدان العالم، وهكذا، فالحرية الحقيقية هي محصلة لمعرفة الحر بالمجال الذي يريد أن يكون حرا فيه، ومن هنا يتضح لنا كيف أن الحرية لا تكون مطلقة لأي إنسان، وإنما هي منسوبة دائما لما يكون الحر على علم دقيق به، وكان أفلاطون قد أدرك هذا المعنى للحرية إدراكا واضحا، إذ جعلها صفة تدور مع العلم وجودا وعدما، فحينما يكون للإنسان علم بشيء، تكون له بالنسبة إلى ذلك الشيء حرية بقدر علمه به، وقد فصل القول في هذا المعنى، في محاورة «ليزيس» وهو اسم لغلام في أسرة تملك عبدا، فمن حق الغلام أن يأمر العبد بما شاء وعلى العبد أن يطيع، فالإرادة هي إرادة السادة الذين يملكون الرقاب، ولا إرادة للعبيد، لكن ذلك العبد المعين كان يجيد سياسة الخيل وركوبها، وقد أراد رب الأسرة لولده «ليزيس» أن يدرب على ركوب الخيل، فأمر العبد أن يتولى الغلام بالتدريب، فكان لا بد أن تنقلب الأوضاع في فترة التدريب، بمعنى أن يكون للعبد حق أن يأمر، وعلى الغلام واجب أن يطيع، أي إن الإرادة تصبح للعبد، وتسلب من السيد إرادته، وإذا قلنا «الإرادة» فقد قلنا «الحرية»، ففي ساعات التدريب يصبح الحر هو ذلك الذي كان عبدا، والعبد هو «ليزيس» الذي كان حرا، فماذا أحدث هذا التغير في الموقف؟ إنه «العلم» بالمجال الذي بين أيدينا، وهو مجال سياسة الخيل وركوبها، فمن عرف كانت له السيادة، وعلى من جهل أن يتبع صاحب المعرفة.

وما نظن الشعوب التي جاهدت للحصول على حريتها من قبضة المستعمر ثم ظفرت بحقها آخر الأمر، وبصفة خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، التي كان من أهم ما نتج عنها، أن أخلى الغاصبون من أهل الغرب، سبيل من كانوا في قبضتهم، فتحرر المقيدون من أغلالهم، أقول: إننا لا نظن أن الشعوب التي رفع عن أعناقها نير المستبد بهم من دول الغرب، كانت في حاجة إلى أفلاطون ومحاورته «ليزيس» لتدرك أن الحرية الصحيحة مرهونة بأن يكون الحر على علم بالمجال الذي أراد أن يكون حرا فيه؛ لأن الشعوب التي ظفرت باستقلالها عن مستعمريها - وأغلبها من شعوب أفريقيا وآسيا - قد وقعت في الفخ، ولم تكن قد حسبت له حسابه، إذ وجدت نفسها أبعد ما تكون قدرة على تزويد أوطانها بما هي في حاجة إليه إذا أرادت تحضرا وتقدما، ومن أين لها القدرة على علم تبتكره ابتكارا، لتقيم عليه التصنيع الذي لا غناء لها عنه في سلم أو في حرب؟ ليس أمامها إلا أن تستعير مما كان بالأمس سيدا يتحكم في أرضها: علومه وصناعاته، فإذا شاء استجاب لها وإذا شاء امتنع، فماذا يعني ذلك إلا أن سيد الأمس هو نفسه سيد اليوم، وكل الفرق بين الحالتين أن سيادة الأمس كانت سلطانا ظاهرا لا خفاء فيه، وسيادة اليوم هي التي كتب لها أن تكون للذين يعلمون على الذين لا يعلمون.

بمثل تلك الشئون والشجون شغل صاحبنا خلال النصف الثاني من أربعينيات هذا القرن، وكان لم يزل في غربته دارسا، فكما أسلفت لك القول عنه، أخذ يبحث عما يقرؤه عن «الحرية» التي اختصها بأعظم اهتمامه دون سائر حقوق الإنسان، إذ رآها أصلا ورأى سائر الحقوق فروعا لها، وقد ألح عليه سؤال الحائر المتعجب: ما الذي يمنع أهله من السعي لكسب الحرية الصحيحة، وهي حرية من يعلمون، بعد أن تحرروا في مجال السياسة من قبضة المستعمر؟ ويجيء الجواب بعد تدبر طويل وتحليل علمي أطول، بأن السر يكمن في حقيقة عن الطبيعة البشرية، لعلها من أغرب ما نعرض له من حقائق، وهي أنه إذا كان الإنسان بحكم فطرته التي خلق عليها يريد أن يكون حر الإرادة، ليتاح له أن يكون حر الاختيار بين البدائل الممكنة في الموقف المعين؛ لكي يكون مسئولا مسئولية خلقية أمام ضميره، وأمام الناس، ثم آخر الأمر أمام ربه يوم الحساب، نقول: إنه إذا كانت الرغبة في هذه الحرية جزءا من فطرته، فجزء آخر من فطرته كذلك، أن يخاف من الحرية لثقل أعبائها ، ومن ثم نراه يعمل على أن يحيل الاختيار لسواه إذا وجد، وعندئذ يوهم نفسه بأنه حين أسلم إرادته لحاكم يحكمه، ويختار نيابة عنه، إنما فعل ذلك بإرادته الحرة، وأمثال تلك الإحالة واردة في الحياة السياسية، عندما ينتخب أفراد الشعب عددا محدودا منهم ينوبون عنهم في الاختيار وصنع القرار، لكن الأمر كثيرا ما يجاوز تلك الحدود المشروعة في الحياة الديمقراطية، مجاوزة تصل إلى ظهور فرد واحد يبتلع في جوفه إرادات المواطنين جميعا، لتبقى إرادة واحدة هي إرادته، فلا تكون الحرية عندئذ إلا رجل واحد، يعيد في شخصه صورة التنين الجبار الذي تصوره «تومس هوبز» في كتابه «اللواياتان» (ومعناها التنين).

وإذا كان ذلك كذلك - هكذا سأل صاحبنا نفسه يومئذ، في جدية صارمة - فكيف تكون النجاة من هذا الخوف الذي يخشى عواقب الحرية بحكم الفطرة، تماما كما يسعى الإنسان إلى كسب الحرية بحكم الفطرة؟ أين المفر؟ وكان الجواب الذي لا جواب سواه، هو أنها «التربية» وحدها هي السبيل، فالشعوب التي نراها حرة بأوسع معنى مستطاع لهذه الكلمة، لم تلتقط حريتها تلك التقاطا هينا من قارعة الطريق، بل تولت تربية أبنائها على حمل تبعة الحرية بكل أثقالها، وهي تبعة تشمل، فيما تشمله، عناء الكشف عن المجهول من سر الكون الذي يضن بنفسه أن يتبدى إلا لمن سعى، وبمثل هذا العلم تقتحم العقبة، فيخطو الإنسان عبر العتبة ليمسك ما شاء له ربه أن يمسك من عنان الطبيعة ليسود، فقد أحس صاحبنا يومئذ أن أهله في وطنه يربون أبناءهم على خوف من الحرية وتبعاتها، ولا مفر من أن يستبدلوا بتربية تقتل وتميت، تربية أخرى تفتح أمام الناشئين طريق الحياة ...

الصورة من بعيد

نظر إلى بلده من بعيد، وكان ذلك في أواسط أعوام الأربعينيات وأواخرها، فارتسمت له الصورة في خطوط واضحة، أوضح جدا منها وهو في قلب المعمعة، فها هي ذي ثلاثة خطوط تخلقت وتشكلت، وإن يكن بعضها هلاميا بعض الشيء، وكأنه جنين في أطواره الأولى، أو قل عن تلك الخطوط الثلاثة إنها كانت كجسد طائر بسط جناحيه، فأما هذان الجناحان اللذان يرفان رفيفا خفيفا آنا وعنيفا آنا، فهما جماعتان تولدتا من قب الأحداث، وهما جماعة إسلامية تشققت على امتداد الأعوام التالية جماعات رأت طريق الخلاص في إحياء الدين لتعود إليه مرة أخرى قوة التوجيه، وأما الجماعة الثانية فقد التقطت خط اليسار في خفاء حينا وفي شيء من العلانية حينا؛ لأنه لم يكن قد اكتسب لنفسه شرعية الظهور إلا وهو على كثير من التحفظ والحذر، وأما ما بين الجناحين فهنالك الشعب وحكومته، وكأنه لا ميمنة هناك ولا ميسرة، فهاتان بقيتا كالأمل يحلم بأن يتحقق أكثر منهما واقعا يحيا حياته اليومية مستظلا بقانون وحكومة، ومع ذلك ففيهما إرهاصات قد تتمخض عن ولادة واقع جديد.

ولم يكن صاحبنا - كما أسلفت عنه القول مرارا - من أصحاب الطبائع التي تنظر إلى الأمور أول ما تنظر، من جوانبها السياسية، بل كانت نظرته دائما متجهة نحو المعاني الثقافية لما يراه ويسمعه، وإذا لم يكن للموقف المعين معنى ثقافي يراه، فكان ذلك الموقف عنده غير ذي وجود، فلما أرسل بصره من بعيد إلى تلك الخطوط الثلاثة في بلده، أو إلى القلب والطرفين نظر إليها بالطريقة التي تعود أن ينظر بها إلى الأشياء، فإذا هو يهمس لنفسه قائلا: ها هو ذا شعب وحكومته يكادان يتحركان بدفعة القصور الذاتي، كالحجر تلقيه فيتحرك في الاتجاه الذي ألقيته فيه، لا حول له في ذلك ولا قوة، وتصحبهما في الطريق جماعة من أعلام الفكر والأدب، يكتبون فيما يزداد به المثقفون العاديون معرفة ونورا، لكنه لا يقلق شعبا ولا حكومة، وعلى الجانبين - كما ذكرنا - جماعتان تقفان إحداهما من الأخرى على طرفي نقيض: إحداهما تغترف من تاريخها، والأخرى تغترف من أوعية الغرباء، والأولى ترى طريق النهوض في استرجاع الماضي، والثانية تطرح ماضيها وراء ظهرها مشدودة البصر نحو مستقبل جديد يولد، الأولون يحسبون على «اليمين» الذي يؤثر استنبات ثقافته وحضارته من تربته، والآخرون يحسبون على «اليسار» الذي يقبل شجرة الثقافة والحضارة مأخوذة من خارج حدوده لتشتل في أرضه، والحق أن صاحبنا، وهو يقلب النظر في هذه المواقف الثلاثة، لم يستطع أن يرى أملا في أي من الجناحين، فالميمنة كما رآها، قمينة أن تفلت منها قوة العصر، والميسرة - كما رآها أيضا - قد تستتبع أن يفقد المواطن قوة تاريخه، وأما موطن الرجاء فيما تصور، فهو ذلك الوسط الذي تجمعت فيه جماعة الكتاب الكبار جميعا، وعلى اختلاف نزعاتهم، فلم يكن لأحد منهم خصوصية الجماعات الدينية، ولا خصوصية الجماعات اليسارية، وإلى تلك الجماعة تمنى صاحبنا منذ شبابه الباكر أن ينتمي.

ومع ذلك فقد استحدثت الحرب العالمية الثانية نتائج واسعة المدى بعيدة الأغوار، مما لم يكن مألوفا ولا معروفا لأعلامنا هؤلاء، وقد كان معظمهم في نحو الستين من عمره، أو ما يزيد على الستين، حين أخذت نتائج الحرب العالمية الثانية تفعل فعلها، فلم يكن هناك كبير أمل في أن ينخرط أحد منهم في المناخ الثقافي الجديد، فدورهم في حياتنا الثقافية قد أصبح في حكم المنتهي، وما دورهم؟ إنه دور يمكن تلخيصه في أنهم قدموا للشباب المتطلع - وصاحبنا كان واحدا منهم - غذاء متوازنا من تراثنا ومن نتاج الغرب في آن، ولا جدال في أن كل رجل من هؤلاء الرواد كان وثيق العلم بجوانب من تراثنا، فكان يعرف منها ما يعرفه معرفة خبير، لا يكتفي بخطفات يخطفها ليتظاهر بها، بل يدقق ويحقق حتى لكأنه من علمائها المتخصصين، ولا جدال كذلك في أن أكثر هؤلاء الرواد، كانوا على دراية كافية بنتاج الفكر والأدب في هذه اللغة أو تلك من اللغات الأوروبية، وبصفة خاصة الإنجليزية والفرنسية، فمنهم من كان ينقل لنا خلاصات من هذه، ومنهم من كان ينقل خلاصات من تلك، ذلك هو الدور الأساسي الذي اضطلع به رواد النصف الأول من هذا القرن، وعلى أنه لم يخل أحد منهم أن يكون له إبداع يبدعه، في شعر أو رواية أو مسرحية، لكنها كانت بمثابة بدايات «فيما عدا الشعر» خلقت ليجيء بعدها ما يطورها، أما الشعر فأمره يختلف؛ لأننا أمة تتابعت في تاريخها منذ زمن بعيد عصور الشعر عصرا في أثر عصر ، ولكل عصر منها خصائصه، إلا أن ديوان الشعر العربي يجمعها جميعا بين دفتيه.

بهذا الدور الذي اضطلع به هؤلاء الرواد، لم ينحازوا به إلى ميمنة أو إلى ميسرة، بل أرادوا به «تنويرا» للشعب وللحكومة معا، يستهدف أن يجتمع ماض إلى حاضر في صيغة «متوازنة»، لا تفقد المواطن هويته الأصيلة، ولا تضيع منه مسايرة عصره، فحين أسلفنا القول عن زمرة الرواد، أنهم من الناحية الثقافية وقفوا مع كتلة الشعب وحكومته، لم نرد قط أن دورهم كان بمثابة الصدى فيه رجع الصوت، بل أردنا أنه دور حامل المصباح ليستبين معالم طريق جديد.

لكن ما الذي أنتجته الحرب العالمية الثانية من نتائج عريضة و«عميقة»، مما لم يكن مألوفا ولا معروفا في جيل هؤلاء الرواد؟ أولى تلك النتائج ثورات اجتماعية من نوع جديد، فهي ثورات «أفقية» - إن صح التعبير - بالقياس إلى ما قد ألفه الناس من ثورات «رأسية»، فقد عرف الناس شعوبا تثور من أجل حقوق يرون أنها ضائعة، كالحرية والاستقلال والعدالة والمساواة إلخ، على أن ينحصر الشعب الثائر في حدود نفسه - غالبا - وأما الذي استحدث بعد الحرب الثانية، فهو أن الذي يثور شريحة وحدها من شرائح شعب، تبحث عن نظائرها في شعوب أخرى ليتضامنوا جميعا في ثورة واحدة؛ تحقيقا لهدف يخص تلك الجماعة وحدها، كأن يجتمع العامل مع العامل في حركة عمالية واحدة، وتجتمع المرأة مع المرأة في حركة نسوية شاملة، وأن يجتمع حملة القلم مع حملة القلم حيثما كانوا، وهكذا، على أن هنالك شرائح اجتماعية تنقصها حقوق، وليس لها القدرة على التعبير، أو ليس لديها القوة البدنية للكفاح، كالطفولة في الحالة الأولى، والشيخوخة في الحالة الثانية، فقامت من أجل هؤلاء وأولئك ما يشبه الثورة الاجتماعية التي تجاوز الحواجز القومية، سعيا إلى أن تكفل للطفولة وللشيخوخة حقوقها، ومثل هذه الثورات الأفقية من شأنها أن تدفع الفكر الإنساني دفعا نحو آفاق أوسع جدا مما كان مستطاعا لرجال الفكر من قبل، وانظر إلى ثورات الشباب في ستينيات هذا القرن، كيف تجاوبت أصداؤها في شباب العالم أينما كانوا، وإن تكن ثورتهم قد أخذت طابعا خاصا في كل شعب على حدة، وفيم كانت ثورة الشباب بصفة عامة؟ لقد وجدوا أن شئونهم يتولاها الكبار، وهؤلاء كثيرا ما يفقدون القدرة على الإحساس بلب المشكلات التي يعانيها الشباب، فلا يستطيعون معالجتها معالجة صحيحة، فقد يشعلون حربا لا نفع فيها، والشباب هو الذي يسفك دمه، أو - على الأقل - تذهب سنوات شبابه هباء، فلا نفع ولا انتفع «وتلك كانت علة الشباب الأمريكي في ثورته أيام حرب أمريكا مع فيتنام» أو قد يرى الشباب في شعب آخر «كما حدث في بريطانيا» أنه إذا كانت طائفة من التقاليد المعوقة لتيار الحياة، كان لها ما يبررها في عصر مضى، ولم يعد لها ما يبررها في الظروف الجديدة القائمة، فلماذا لا تشن عليها الحرب حتى تقتلع من حياتهم، أو قد يرى الشباب في أمة ثالثة «كما حدث في فرنسا» أن مناهج التعليم التي تفرض عليهم في الجامعات، كثيرا ما تبعد الشقة بينها وبين ما تتطلبه الحياة العملية، فيتخرج الطالب في الجامعة، في حوصلته علم كثير لكن سوق العمل لا تطلبه، ولقد حدث عندنا كذلك، أن تجاوب شبابنا مع شباب العالم في غضبته، إلا أن شبابنا - لسوء الحظ - نسي أنه شباب خلق ليمد بصره إلى المستقبل، فاختلط عليه الأمر ولوى عنقه إلى الوراء لعله يجد مستقبله في ماضيه.

هكذا اتجهت الأنظار في اتجاه نزعة دولية تضم الأشباه إلى أشباهها بغض النظر عن الفواصل الوطنية والقومية، وهو اتجاه لو ترجمناه إلى لغة «الثقافة» أي لغة الموسيقى والشعر والرواية والمسرحية والتصوير والنحت والعمارة، والفكر بما يتضمنه من إضاءة يصبها على أهداف الإنسانية العليا، لأوحت تلك الروح الدولية إلى المبدعين في شتى الميادين برؤية إنسانية تنظر إلى الإخاء بين أفراد الأسرة البشرية كلها بغير تمييز، لكن عصرنا بني على نقائض تلتقي في جوف واحد ليحد بعضها من سطوة بعضها الآخر، فتمحى المعالم ويتعذر وصف عصرنا بسمة معينة تميزه بصورة قاطعة لا تجد إلى جوارها النقيض الذي ينفيها، فانظر تجد مقابل الروح الدولية التي تتجاوز الحوائل الوطنية والقومية ليتضامن الشبيه مع شبيهه، أينما كان، على بلوغ هدف موحد: السياسي مع السياسي في الأمم المتحدة، والعامل مع العامل في عيد مشترك، والمرأة مع المرأة، والشباب مع الشباب، وهكذا أقول: إنك إذا ما نظرت إلى هذا الإخاء الإنساني بين الفئات المتماثلة، فلا تلبث أن ترى في مقابلها روح التفرقة على أسس جغرافية وطنية قومية، بل وعرقية متمثلة في التكتلات والتجمعات والأحلاف التي يتربص بعضها لبعض، فهنا حلف الأطلنطي، وهناك حلف وارسو، وبينهما التضامن بين دول عدم الانحياز لهذا أو لذاك، وفي هذا الإطار التحالفي نشأت جامعة عربية، ومنظمة للدول الأفريقية ... وأخرى للدول اللاتينية في أمريكا الجنوبية وحلف دول جنوب شرقي آسيا، ودع عنك ما يظهر كل يوم من روابط بين جماعات أحست بالخطر؛ فتجمعت تحت لواء واحد لتكون على أهبة الدفاع أو الهجوم.

إذن فهذان تياران متعارضان في عصر واحد، لا ندري معهما أيهما يكون هدف القيثارة والقلم والفرشاة والإزميل؟ إن محور التيار الأول هو حياة الإنسان تحت مظلة السلام إذا قامت قوائمها، ومحور التيار الثاني هو إعداد العدة للقتال إذا الحرب استعرت نيرانها، فبأي وتر يعزف الموسيقي، وبأي قلم يكتب الكاتب، وبأي فرشاة يرسم المصور، وبأي إزميل ينحت المثال؟ ومن بعيد ينظر صاحبنا إلى الحياة الثقافية في وطنه، إبداعا وتلقيا، فيراها وكأنها في واد آخر هناك على وجه القمر أو في المريخ أو زحل، الكل في حيرة: أشرق نحن أم غرب، أفي سلام نحن أم في حرب؟ إلى الحاضر بمشكلاته الحية ننظر، أم ننظر في أوراق الماضي ودفاتره؟ نعم، كان في وسع كل مواطن منا أن يحس مخاضا في جوف الجبل، ولكن أحدا لم يكن يستطيع أن يتنبأ بما يولد بعد هذا المخاض؛ لأن الأهداف كانت غامضة، أو كنا بلا أهداف، والحديث هنا منصب على «الثقافة» إبداعا وتلقيا.

ربما كان صاحبنا قد أخطأ النظر، لكن ذلك الخليط داخل أنبوب من العزلة عن العالم المضطرب عند خروجه من الحرب العالمية الثانية، هو ما رآه حين أرسل البصر إلى وطنه من بعيد، وانطوى في غرفته الصغيرة يواصل كتابة المقالات «الأدبية» التي كان ينشئها تباعا وفي هدوء متعمد وعلى مهل ليتقن بناءه الأدبي ما وسعه الإتقان، فكتب تحت عنوان «الدقة الثالثة عشرة» ليقول ما معناه: إن الساعة الدقاقة إذا تقدمت بأسرع مما ينبغي أخرناها لتنصلح، وإذا تأخرت لتكون أبطأ مما ينبغي قدمناها لتعتدل، أما إذا سمعتها تدق ثلاث عشرة دقة علمت بأن خرابها قد جاوز المدى، ولم يعد بد من إعادة بنائها. ثم كتب صاحبنا بعد ذلك ربما بيوم أو يومين، تحت عنوان «بيضة الفيل» يصور بها معلما وتلاميذه، فيطرح المعلم أمام التلاميذ مشكلة «علمية» ليديروا في شأنها البحث والنظر، قائلا لهم ما معناه: إن الفيلة - كما نعلم - تلد ولا تبيض، ولكن لنفرض أنها باضت، فماذا يكون لون بيضتها؟ وانصرف التلاميذ إلى «المراجع» وعادوا بنتائج متعارضة، فمنهم من انتهى إلى أن اللون يكون أبيض، مقدما لهذه النتيجة حججها وأسانيدها، ومنهم من انتهى إلى أن اللون يكون أسود، ومنهم من وجده رماديا يقع بين البياض والسواد، وبينما هم يتناقشون في هدوء «العلماء الباحثين» سمعوا دويا هائلا، وتساءلوا في فزع ماذا يكون، ولما أنبأهم منبئ بأنه شيء جديد اسمه «قنبلة ذرية» أخذهم عجب؛ لأن أحدا منهم لم يقع على سطر واحد في المراجع العلمية يذكر شيئا كهذا. إلى هذا الحد تصور صاحبنا وهو ينظر من بعيد، أن التخبط والعزلة «في الأمور الثقافية» قد بلغ بهما الخطر حده المخيف.

كانت حيرة كهذه قد أخذت بعقول الناس في الغرب وقلوبهم، لكنها حيرة المتعثر يبحث عما يقيله من عثرته، وسنحاول التوضيح بضرب الأمثلة: فقد غمضت أمامهم «بديهية» الحرية الإنسانية حتى تساءلوا لمن تكون؟ إنها في الأساس بديهية تمليها فطرة الإنسان وتتفهمها فطرة الإنسان ولا إشكال، لكن غبار الحرب هناك قد ران على قلوب الناس هناك وعقولهم، فقال قائل منهم: إن الحرية إنما هي لكل فرد على حدة؛ ليكون ذلك الفرد الحر مسئولا ومصونة كرامته، لكن صوتا آخر ترددت أصداؤه ليقول: بل إن الحرية هي حرية المجموع، وليس للفرد داخل هذا المجموع إلا ما للخلية الواحدة داخل الكيان العضوي، فهي تؤدي ما تؤديه في إطار ما يوجبه عليها مجموع الكيان، فإذا تمردت خلية بأن نشطت لحسابها هي، أصيب الكيان العضوي بالسرطان الذي يؤدي بحياته وشيكا، وعلى أساس هذا الاختلاف في وجهة النظر انقسم الغرب قسمين: قسم غربي الغرب، يؤمن بأن تكون الحرية للأفراد فردا فردا، لا يجد الفرد منهم إلا قوانين تسن لئلا تطغى حرية مواطن على حريات مواطنيه، وأما القسم الثاني فهو شرقي الغرب، جعل الحرية لكتلة المجموع القومي، وعلى الأفراد أن يسيروا في أفلاك ترسم لهم في مراكز العبادة العليا، وكان الزعم في أقطار الشرق الأوروبي، أنه إما حرية للأفراد وإما عدالة بينهم، ولا تجتمع حرية وعدالة معا؛ لأن النشاط يغلب أن يطغى به المواطن القوي على مواطنيه الضعفاء، وقد اختار الشرق الأوروبي من الضدين طرف العدالة، ثم فهم الحرية على الضوء الذي يجعلها صفة تلحق المجتمع في كتلته، ولا كذلك أقطار الجانب الغربي من الغرب، إذ جعلت الأولوية للحرية، زاعمة في الوقت نفسه بأنه لا تضاد بين حرية وعدالة إذا ما وضعتا في منظور صحيح، وكانت الصيغة التي وضعها غرب الغرب لتدل على فكرته هي: أن الفردية لا تفهم مجردة، بل تفهم على أن الفرد «فرد في مجموع» والفرق بين الحالتين واضح، فالفرد في النظرية «الشمولية» لا يستطيع أن يتمرد على مجتمعه فيهجره إلى مجتمع آخر، وأما في نظرية الآخرين، فالفرد من حقه أن يرفض الإقامة في مجتمعه ويهاجر، ولقد شغل المفكرون الكبار في أوروبا الغربية وفي الولايات المتحدة الأمريكية بالتنظير الصحيح للعلاقة بين الفرد والمجتمع، وكان من المصادفات السعيدة لصاحبنا وهو في غربته، أن أنشأت الإذاعة البريطانية قناة أسموها يومئذ بالقناة الثالثة، تخصص لكبار الكبار من رجال الفكر عندهم، فأذاع فيها مفكرهم الفيلسوف برتراند راسل سلسلة أحاديث عن «الفرد والمجتمع» واستمع إليها صاحبنا ليخرج منها بحصيلة فكرية أعمق ما يكون التفكير وأقوى.

ومثل آخر نسوقه للحيرة الفكرية في أوروبا وأمريكا بصفة خاصة بعدما ألقت الحرب العالمية الثانية بركامها، مشكلة «العلم» في حياة الإنسان المعاصر، إنه لم يكن للعلم مشكلة قط في أي عصر سابق من عصور التاريخ، لكنه كان على مدى القرون السابقة علما بغير أنياب وأضراس، إنه لم يكن قط علما يتسلل بمخالبه في حياة كل إنسان مهما تكن درجة فقره وانفراده لأن العلم وراءه بأجهزته؛ وذلك لأن علم هذا العصر ينفرد وحده بأنه علم تقني «تكنولوجي»، أي إنه يقوم على أجهزة وينتج أجهزة، وإن الأجهزة والآلات تنتج بدورها أجيالا جديدة من أجهزة وآلات، جيلا بعد جيل، وكل جيل منها أدق من سلفه وأقوى وأنفذ إلى الخفايا والحنايا والأبعاد والأعماق، ومن هنا يجيء نفعه ويجيء خطره معا، وحسبك أن تنظر إلى جانب واحد منه، وهو الخاص بالقوة النووية، كيف يمكن أن تهلك وتفني من تهلكه وتفنيه، لكنها في الوقت نفسه مارد جبار أخرجه العلم من قمقمه الذي لبث حبيسه دهورا بعد دهور، له من القوة ما يستطيع أن يرفع حضارة البشر درجات، فماذا نحن صانعون إزاء العلم الجديد في جبروته نفعا وضرا؟ يقول قائل: دعه ينطلق إلى آخر مداه، ويقول آخر: بل لا بد له من حد أقصى يقف عنده حتى لا يهلك البشر. وتفنن رجال الفن والأدب في تصوير ما عساه ينجم عن العلم من شر إذا طغى، فهذا «أولدس هكسلي» يكتب روايته العلمية «عالم طريف» لينذر بها الإنسان بفداحة الشر إذا هو ترك العلم الجديد يمضي إلى غير حد معلوم، ولا أول ولا آخر لما تبدعه أقلام الأدباء هناك من «خيال علمي» يستنبط النتائج التي قد تتولد للناس من معطيات العلم الجديد، وفوق هذا كله فليس في رجال الفكر والأدب هناك، من لا يلحظ ما قد أصاب الإنسان من علل نفسية تؤرقه وتقلقه وتنغص عليه حياته؛ لأن العامل تحت ضغط الأجهزة والآلات بدقتها وحدتها قلما ينجو من الشعور بالضيق والإرهاق والشعور بعبث الحياة التي يحياها؛ لأنه بعد يوم مضن يمسي ليصبح في يوم مضن آخر، دون أن يعلم شيئا عن القيمة الحقيقية لما يعلمه؛ وذلك لأنه في أغلب الحالات لا ينفرد بعمل متكامل يشهد له أولا ووسطا وثمرة، والأغلب أن ينحصر واجبه في جزيء صغير من عملية كبرى لا يدرك هو أطرافها بين بداية ونهاية، وسؤال الفكر والأدب والفن هناك لا ينقطع عن القول: ماذا نحن صانعون ليبقى العلم الجديد في قوته، ولينجو من شره الإنسان في الوقت نفسه؟

وهو سؤال تملي البداهة بعض جوابه، بأن تبث في الناس «ثقافة» يعتدل بها الميزان، فليست حياة الإنسان علما كلها، بل فيها من الجوانب الأخرى ما ليس يقام على منطقية العقل العلمي، كالدين والفن والأدب، مما يعتمد على الجانب الوجداني، ويحمل في ثناياه ما يلطف حدة العلم وصرامة وقعه، خصوصا وهو متمثل في تقنيات «تكنولوجيا» في المصانع وغير المصانع، ومن أهم قنوات الزاد الثقافي وسائل التعليم ووسائل الإعلام، ومن هنا لوحظت عناية الدول الكبرى التي عانت ويلات الحرب قبيل أن تبلغ الحرب ختامها، بأن تعد العدة لتطويع الجهاز التعليمي بصفة خاصة، تطويعا يمكنه من تنشئة الجيل الجديد تنشئة تتناسب مع الظروف الحضارية الجديدة، هذا فضلا عن إقامة منظمة يونسكو، التي هي جناح من أجنحة هيئة الأمم المتحدة، أريد بها أن تتولى الميادين الثقافية في شتى أقطار الأرض، بالعون وبالتوجيه، وبالعمل على تبادل الثقافات المختلفة وتفاعلها بما يؤدي إلى روح الإخاء بين الناس، فحالة السلام وحالة الحرب كلتاهما ينتج، عما ملئت به، رءوس الناس وقلوبهم من أفكار ومشاعر، فإذا استبدلت بأفكار البغضاء ومشاعر الكراهية أفكار للتعمير والبناء، ومشاعر للصفاء وللإخاء، تبدل المناخ الثقافي الذي يتنفس الناس هواءه، واتجهت سبل الحياة كلها نحو ما يبعث في النفوس طمأنينة تنعكس على مؤسسات العلم التقني الجديد متجهة به نحو الخير، وإن للإنسان في عقيدته الدينية وفي نشوته الفنية، وفي ساعات فراغه إذا أحسن توجيهها بثقافة رفيعة، ما يرد لإنسانيته ذلك المفقود الذي أهدرته آليات العصر الجديد.

كثيرون هم أولئك الذين ينظرون إلى عصرنا نظرة سطحية، فيأتيهم الظن بأنه عصر تمزقت أواصره، وتناقضت نظراته، ولا شك في أن ذلك هو ما يبدو للعين المجردة، وحسبه تمزيقا أنه اختلف غربا مع شرق وبينهما موقف محايد، كما اختلف شمالا غنيا بصناعاته وجنوبا فقيرا بمواده الخام، وحتى إذا جاوزنا ظواهر السطح لننظر فيما وراء ذلك من أعماق فلسفية، يقينا بأن في تلك الأعماق وحدها تجد روح عصرها، فسوف يصادفنا هناك ما قد يؤيد التمزق والتفرق؛ لأننا واجدون هناك حوارا للفكر يختلف باختلاف الرقعة الجغرافية: ففي الولايات المتحدة الأمريكية، التي هي المنشئة الأولى لحضارة هذا العصر، وقد أقامتها أساسا على العلوم الطبيعية، ولم يحدث قط فيما مضى أن قامت حضارة على هذا الأساس في المقام الأول، أقول: إننا هناك واجدون منحى فلسفيا يجعل تعريف «الحق» مرهونا بالنتائج، فما حسنت ثمرته فهو حق وما ساءت ثمرته فهو باطل، وفي الشمال الغربي من أوروبا متجه فلسفي آخر، يجعل تحليل العلم إلى ذراته المنطقية مشغلته الأولى، على اعتبار أننا في عصر العلم، وأول واجب على صاحب الفكر الفلسفي أن يصور حقيقة عصره بلغة «الفكر»، وفي غربي أوروبا متجه فلسفي ثالث له ظهور أكثر من سواه، يتجه باهتمامه نحو «الإنسان» من حيث هو كذلك، فبأي شيء يتميز، وبأي حياة يستطيع تقرير ذاته وإثبات وجوده، فإن كانت جذور حياته ضاربة في أصول نشأته الثقافية الأولى وجب البحث عن تلك الأصول لنصب عليها الضوء، وفي شرقي أوروبا متجه فلسفي رابع له طريقته في فهم التاريخ على نحو يجعل أصابع الأيدي العاملة أوغل في حقيقة الإنسان من نواتج عقله ووجدانه، فهذه إنما هي فرع تفرع من تلك، وفي كثير من البلاد غير الأمريكية والأوروبية لها متجهات فلسفية أخرى غير الأربعة المذكورة يغلب عليها بصفة عامة أولوية الروح على المادة، وإذا كان عالم اليوم مشتت النظر على هذا النحو، فبأي معنى يحق له أن يكون «عصرا» فيه ما يوحده؟

لكن صاحبنا وهو يدير بصره فيما حوله، يوم أن كان الزمن لا يزال في الأعوام الأخيرة من أربعينياته، وجد وراء هذا الاختلاف كله محورا يجتمع عليه الرأي كله، وهو «الإنسان» ذاته ووضعه موضع الصدارة يكون غاية في ذاته، وجميع ما هنالك مما نرى ونسمع إنما هو - من وجهة النظر في هذا العصر - وسائل تخدم تلك الغاية، أو ذلك هو ما ينبغي أن يكون، وهي نظرة لم تكن، وإنما فيما سبق هي المحور الذي تتجمع حوله الأشتات.

هكذا أرسل صاحبنا البصر من بعيد ليرى في ساحة الحياة الثقافية عند أهله جماعات وتيارات لا تتقاطع خطوطها في نقطة تلتقي عندها، كلا ولا هي تمتد نحو الأفق لتتلاقى عند هدف واحد مشترك، نعم كان صاحبنا يعلم كذلك أن بلاد الغرب من حوله تصطرع بالأفكار المتعارضة وبالمواقف المستعصية، لكنه كان يلحظ أن كل ذلك يصاحبه عندهم فكر أصيل جاد هادف، يحاولون به أن يجدوا للمشكلات حلولها، وخلاصة الفرق بيننا وبينهم هو أنهم يعيشون عصرهم الذي صنعوه بأيديهم ونسجوا خيوط على أنوالهم بكل حسناته وسيئاته، وأما نحن فنقف وقفة تشبه الرفض الذي يأبى على صاحبه أن يخوض هذا البحر الهائج الذي هو عصرنا، وكأنما أراد الله سبحانه وتعالى أن يبين لنا ماذا تكون النتيجة إذا تلاقى أبناء العصر بقوته وعلمه وسلاحه وصناعته ودهائه، مع أبناء الرفض بما لحقهم من ذبول وضعف، فجاء لهم في أعقاب الحرب العالمية الثانية بدولة إسرائيل التي هي في الحقيقة اختصار لهذا العصر، ثم تلاقى الجانبان في حرب كانت نتيجتها صارخة: بأن الويل لمن يتلكأ رافضا لعصره بما فيه من جوانب القوة ومحاولا أن يتقي ما فيه من عوامل الضعف.

رؤية واضحة «1»

عاد الغريب إلى وطنه وفي قلبه حنين، وفي عقله عزم وتصميم، لم يكن ما طرأ عليه من التحولات هناك من طراز ينقل الكائن الحي من جنس إلى جنس آخر، كالتحول الذي تصوره «كافكا» حين تخيل إنسانا تعتمل في جوفه عوامل حولته إلى خنفساء، بل كانت تحولاته هناك أشبه بشجرة لم تكن قبل انتقالها قد أزهرت، فأزهرت هناك زهرتها التي لم تنبثق من عدم، بل نقلت الشجرة إلى الأرض الغريبة وإرهاصات الأزهار كامنة في أصلابها، فإذا كان للتربة الغريبة فضل عليها، فهو فضل الإسراع نحو النضج لما كان قبل ذلك قد اختمرت خمائره، وما أكثر ما يستهين الإنسان بالبذرة الضئيلة متناسيا أنها تحمل في جوفها شجرة قوية الجذع، متشابكة الفروع، غزيرة غنية الثمر، لم يكن ينقصها إلا أرض تمدها بالغذاء، وسماء تسقيها الماء، ومناخ يجود عليها بالهواء الطلق والضياء الهادي.

وهكذا سافر صاحبنا حين سافر، وحقوق الإنسان تداس تحت أقدام الأقوياء ورؤى الناس يغشاها الضباب، يقرأ ويسمع عن شعوب أخرى تقدمت فلا يسهل فيها أن تهان كرامة إنسان، ولا يكثر فيها أن تختلط عند الناس أحلام ووقائع، وأدرك الفرق البعيد بين الحالتين: فحالة منهما يحياها مع سائر مواطنيه، والأخرى يتصورها بخياله، وهو تصور هين قريب المنال، رآه وعبر عنه بالقلم منذ أواخر الثلاثينيات وأول الأربعينيات من أعوام القرن، إذ صور لنفسه حياة الإنسان السوي في دائرتين: دائرة منهما للعقل وأحكامه، والأخرى للقلب وخلجاته، في الأولى تنتج العلوم بكل فروعها، ومع العلوم تلك الأحكام العامة التي يطلقها الإنسان استقطابا لخبراته، وفي الثانية يكون الإيمان بما يؤمن به، ويكون الفن، ويكون الأدب، وتكون مكابداته ومعاناته بما ينفعل به من حب وكراهية، ورضا وسخط إلى آخر هذه الحالات التي خبرناها جميعا، وبهذه الصورة البسيطة كان صاحبنا، منذ ذلك الزمن البعيد، قد رأى لنفسه أن سر التقدم والازدهار هو أن نوفي لكل من هاتين الدائرتين حقها، وألا نخلط بينهما قط، بحيث نبحث في دائرة العقل عما تختلج به القلوب، أو نبحث في دائرة الوجدان عن منطق يستدل ويقيم البرهان، وأن الإنسان ليصيبه شلل ثقافي وحضاري، بنفس القدر الذي يخلط فيه بين المجالين، صورة بسيطة - كما ترى - لكن بساطة التصوير لا تغني بعد فقر ولا تشبع بعد جوع، حتى ولو أصابت فيها الرؤية، وصلحت أساسا لبرنامج فكري واف بتفصيلاته، كاف لتغيير الحياة التي يحياها الناس، وكان أن أغنى صاحبنا في غربته ذلك الإطار البسيط الذي سافر به، وأشبعه تفصيلا وتحليلا، مهتديا بكثير من روافد الفكر هناك، ثم عاد إلى وطنه محدد الرأي واضح الرؤية.

أول الفكر «فرض» يسبق إلى ذهن المفكر على ترجيح منه بأن ذلك العرض هو مفتاح الحل الذي نتخلص به من المشكلة المطروحة بغير ذلك «الفرض» الذي يوضع في صدر الطريق الفكري نفقد العتبة التي يقفز منها إلى النتيجة أو مجموعة النتائج، حتى إذا ما فرغنا من استخراج ما يمكن استخراجه من «الفرض» الذي فرضناه، كان الفيصل بعد ذلك بين الصواب والخطأ هو صدق تلك النتائج على الواقع الذي كان بادئ ذي بدء قد أشكل علينا، ومن أين يأتينا ذلك «الفرض»؟ إنه يأتي استلهاما لما بين أيدينا من تفصيلات جمعناها عن الواقع الذي أحسسنا فيه بما أشكل علينا فأردنا معالجته بحل يفض إشكاله.

وكانت مشكلة حياتنا كما رآها صاحبنا في الأربعينيات ورآها غيره، هي أننا قد تخلفنا عن الركب الحضاري في عصرنا، والمسألة هنا مسألة نسبية، فلقد كنا في السلم الحضاري على درجة أعلى بكثير أو قليل عن مجموعة من بلدان العالم، ولكننا في الوقت نفسه كنا على درجة أدنى من مواقع رواد الحضارة العصرية وصانعيها، ومن الطبيعي أن نسأل أنفسنا كيف السبيل إلى اللحاق بمواقع الريادة؟ ولكي يجاب عن هذا السؤال إجابة مؤسسة على منهج فكري سليم، كان لا بد من «فرض» - كما أسلفنا - لنبدأ به خطوات السير، وكان ذلك «الفرض» عند صاحبنا وعند غيره ممن يشبهونه نشأة ودراسة، هو أن ما قد أفلح به رواد الحضارة وصانعوها في أوروبا وأمريكا، هو نفسه ما نفلح به نحن إذا كنا حقا جادين فيما أردناه، على أن ما أفلح به القوم هناك هو مركب ثقافي ضخم كثير التفصيلات، ومن تلك التفصيلات ما هو عام ومشترك بين الأمم المتقدمة جميعا، ومنها ما هو خاص بكل أمة على حدة، فأما العام المشترك فهو «العلم» بوجهه الجديد، وذلك الوجه الجديد هو التقنيات «التكنولوجيا» بصفة أساسية، وعن ذلك تتفرع فروع كثيرة ليس هنا مكان حصرها ، لكن لكل أمة بعد ذلك جانبها الثقافي الخاص، الذي يطبعها بهوية متميزة، فليس الإنجليزي كالفرنسي أو الإيطالي، وليس الأمريكي كأي واحد من هؤلاء، على أننا لا بد أن نذكر هنا، بأن الأمريكي لحداثة عهده، ما زال حتى اليوم يجاهد في تكوين هويته الأمريكية الخاصة، لتحل محل الهويات الكثيرة المختلفة التي تلازم أصحابها ممن هاجروا إلى الدنيا الجديدة من كل أرجاء الأرض، وربما كان تخفف الأمريكي من عبء التاريخ الطويل بما يفرضه من قيود، وتخففه - بالتالي - من «هوية» خاصة محددة القسمات، هو الذي جعله أقدر من سواه على التفكير المبتكر غير المقيد بأعراف وتقاليد، ومن ثم فقد كان الأمريكي قبل غيره مسئولا عن تشكيل «العلم» في شكله التقني الجديد، ولا ينفي هذه الحقيقة أن تكون أوروبا قد شهدت على أرضها بعض البواكير على ذلك الطريق الجديد.

إذن كانت مشكلتنا هي التخلف الحضاري، هكذا رآها صاحبنا عندئذ، وكان «الفرض» المفترض لحلها، هو أن نأخذ بجانب «العلم» ولواحقه، في صورته التقنية الجديدة، على أن تظل لنا تلك الجوانب من ثقافتنا، التي نراها ضرورية للإبقاء على هويتنا القومية والوطنية، ذلك هو الموقف بكل بساطة ووضوح، ولقد صاغ صاحبنا فيما بعد هذا الموقف البسيط الواضح في عبارة «الأصالة والمعاصرة» فهو يريد لوطنه أن يعاصر الحضارة القائمة، معاصرة لا يكفيها أن تشتري معالم العصر من أصحابها، بل لا بد أن تضيف المشاركة الفعلية في صنعها وفي تجددها وتقدمها المستمرين، وربما جرت تلك العبارة نفسها «الأصالة والمعاصرة» على قلم قبل قلمه ولسان قبل لسانه، لكن اليقين المؤكد هو أن أحدا آخر لم يبذل مثل ما بذله من جهد لترسيخ هذه القاعدة، ولم يبلغ أحد من سعة التحليل لما ينبغي أن يؤخذ به ليتحقق لنا إدراك معناها إدراكا مشبعا بتفصيلاته ودقائقه، مثل ما بلغه هو من تحليل مستفيض، وأما «الأصالة» فقد أراد بها تلك الجوانب الثقافية التي نبتت أساسا في تربة الوطن، وابتدعتها عقولنا نحن، ومشاعرنا نحن، وقرائحنا نحن ابتداعا، ومن هذا «الأصيل» وذلك «المنقول المشتول» يجب أن تنسج حياتنا الجديدة لحمة وسدى.

لكن لماذا جعلنا الصيغة المقترح لها أن تكون حلا لمشكلة التخلف الحضاري «فرضا» مفترضا، ولم نزعم لها منذ البداية أنها حقيقة لها كل ما للحقائق من ثبوت وثبات؟ الجواب عن ذلك هو أن هناك بيننا من ينكر الظاهرة الإشكالية أساسا، فلا يجد في حياتنا «تخلفا» ربما وجد أن العكس هو الصحيح من وجهة نظره، إذ يرى أن حضارة العصر قد أصابت الحياة الإنسانية بالتحلل والفساد، بمقدار ما بعدت في أسسها الأولية عن نهج الدين ومبادئ الأخلاق، وإذا كان ذلك كذلك، ففكرة «المعاصرة» مرفوضة عنده، ولا يبقى بين يديه إلا ما هو أصيل، ولما كان هذا الأصيل إرثا ورثناه عن أسلافنا لزم عن ذلك أن يكون «التقدم» الحقيقي، عند أصحاب هذه النظرة، هو الرجوع إلى الماضي لنحيا فيه جنبا إلى جنب مع هؤلاء الأسلاف، أو قل - والمعنى واحد - نحيي الماضي لنحيا به ويحيا بنا، وما دامت هذه الصورة قائمة بيننا ولها أنصارها، أصبحت الصورة الأخرى التي أخذ بها صاحبنا ومن يشبهونه، أحد فرضين، بل وأصبحت تهمة «التخلف» الحضاري نفسها في حاجة منا إلى إثبات.

ودليل الإثبات عندنا - في اختصار شديد - هو أن من أهم المقومات الحضارية دائما: الدين والعلم والفن «بما فيه الفن الأدبي» فالدين مع جوانبه الإيمانية، يستتبع صورا معينة من الأخلاق والسلوك، والعلم يتبعه صناعة وزراعة وعمران، تقوم على هداه، والفن بكل فروعه يضيف إلى تلك الضرورات التي تفرض نفسها على الناس فرضا، إضافات يبدعها الفنان له وللناس، استعلاء بذواتهم عن أحكام الضرورة، وعلى هذه الأسس تقام نظم مختلفة في شتى ميادين الحياة: في الاقتصاد وفي العلم، وفي القضاء، وفي بناء الأسرة، وفي صورة الدولة ... إلخ إلخ، إلا أن «العلم» هو العنصر الوحيد بين تلك العناصر الحضارية الذي «يتقدم» بمعنى أن يجيء حاضره أصح من ماضيه؛ وذلك لأنه هو العنصر الوحيد الذي «يتراكم» و«ينمو» والحضارة اللاحقة منه تصحح أخطاء الخطوة السابقة، فعلماء اليوم لا بد أن يكونوا أكثر علما وأصدق وأدق من جميع العلماء السابقين، وأما غير العلم من سائر المقومات الحضارية والثقافية، فليس في أي منها ما يمنع أن يكون السابق أسمى منزلة من اللاحق، فماذا يمنع أن يكون السابقون، في أية عقيدة دينية، أنقى عقيدة، وأصفى رؤية، وأخلص عبادة، وأفضل سلوكا، من اللاحقين؟ وماذا يمنع أن يكون شاعر قديم أعظم شاعرية من جميع من جاءوا بعده؟ أو أن يكون مصور، أو مثال، أو معماري في عصر الفراعنة، قد بلغ في روعة فنه ما لم يبلغه أحد في سائر عصور التاريخ؟ لا، ليس هناك - من الناحية النظرية على الأقل - ما يمنع ذلك، ومن هنا كانت فكرة «التقدم» غير متحققة بحكم الضرورة في أي مجال إلا في مجال العلم، وماذا يعني ذلك؟ إنه يعني أن من لا يأخذ بالرؤية العلمية السائدة في عصره، يصبح - حتما - محسوبا على عصر سابق، ومنتميا إليه؛ لأن جواز الدخول في عصر جديد لا يتمثل في شيء قدر ما يتمثل في مشاركة العصر الجديد في روحه العلمية، إذن يصبح السؤال عن موقفنا من علم عصرنا سؤالا عن مشاركتنا في الخطوة التي تقدم بها التاريخ في عصرنا.

على اننا إذ نقول عن الأمة العربية أنها لم تشارك في علم هذا العصر مشاركة إيجابية منتجة وكاشفة، وأنها بهذا المعنى «تخلفت» بالقياس إلى حركة التقدم التي نراها في بلاد الغرب، التي هي صانعة هذه الحضارة القائمة، كما كنا نحن صانعيها في مراحل سابقة من التاريخ، فلسنا نعني فقط أن إضافاتنا العلمية الجديدة، التي أضفناها على أيدي علمائنا في بعض العلوم وأخذها عنا الآخرون ليجعلوها جزءا من الحصيلة العلمية المشتركة، إنما هي إضافات أخف مما يحسب لها حساب، بل نعني فوق ذلك ما هو أهم وأخطر، وهو اننا لم نتشرب من المنهج العلمي الجديد شيئا، فنحن بغير شك نتابع دراسة الناتج العلمي بمعظم محتواه على اختلاف موضوعاته، وذلك فيما ندرسه في جامعاتنا ومعاهدنا، وفيما يصدره علماؤنا من مؤلفات علمية وبحوث نظرية وتجريبية، إلا أننا - أولا - يغلب علينا في كل هذا المجال، الأخذ عن الناتج منه في بلاد الغرب، لا أقول عن طريق الترجمة المباشرة دائما، بل هو أحيانا كثيرة يكون نتيجة دراسة جيدة مهضومة، فتعرض المادة العلمية بعد ذلك وكأنها ناتج عربي أصيل، و- ثانيا - (وهو كما قلت أهم وأخطر) فنحن قادرون على اصطناع المنهج العلمي الدقيق عندما نكون في غرفة البحث العلمي، ولكننا كذلك قادرون على خلع الرؤية العلمية منذ اللحظة التي نترك فيها غرفة البحث العلمي، تماما كما نخلع ثياب العمل بعد عودتنا إلى منازلنا، وإلا فلو أننا من ممارساتنا للعمل العلمي ونحن في مكانه، قد أشبعنا نفوسنا بنوع العلاقات التي تجيز للباحث العلمي أن يستخلص قوانينه العلمية، ليبقى إطار تلك العلاقات في نفوسنا انطباعا لا يزول، بحيث إذا ما تركنا العمل العلمي الخالص ومكانه وموضوعه، وانتقلنا إلى تيار حياتنا اليومية بشتى صورها: الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، والنقدية، وغيرها، عالجناها - لا أقول بمنهج علمي دقيق - بل برؤية علمية، وعندئذ نحس نفورا إذا ما ربطت لنا الظواهر بغير أسبابنا، أو استخدمت الكلمات الدالة على معان كبرى، مثل الحرية والديمقراطية والعدل، وما إليها، استخداما يعوزه الحد الأدنى من الدقة، ومن ثم تقع حياتنا كلها في دهماوية «من الدهماء» مهوشة تؤدي بأصحابها إلى هلاك محتوم، فلم تكن مصادفة صرفا تلك التي أخضعت بلادنا لسلطان المستعمرين، بل لا بد أن قد كان لتلك الظاهرة، التي شملتنا جميعا، ما يعللها، وربما وجدنا تعليلها في معالجتنا لشئون حياتنا معالجة انفعالية عشواء، أبعد ما تكون المعالجة عن الرؤية العلمية، التي إن لم تكن دقيقة النهج العلمي، فهي على الأقل تتحرك في إطاره، لا، بل كثيرا جدا ما جاوزنا هذا الحد، مجاوزة تورطنا بها في إعلان العداء الصريح للعلم الطبيعي بصفة خاصة؛ رغبة عميقة منا في ألا يظهر الإنسان مظهر القادر، وكأنما شرط الإيمان، كما نراه، أن يكون المؤمن إنسانا عاجزا.

إننا ما زلنا نحتفظ باسم «العلم» و«العلماء» لكننا نريد أن ننصرف بمعناه نحو من «حفظ» مجموعة من نصوص موروثة، أو غير موروثة متمثلة في كتب العلوم الحديثة، وإن يكن الموروث أرجح قيمة في ظن الجمهور العام ومن شاكله من الدارسين، ولقد وقعنا في هذا الخلط بين المعاني المختلفة لكلمة «علم» ونعني بصفة خاصة خلطنا بين معنيين أساسيين لهذه الكلمة، فنحن نطلقها على من درس موضوعه فيما ورد عنه في المراجع كما نطلقها على من درس موضوعه على الطبيعة مباشرة، فافرض - مثلا - أن موضوع الدراسة هو «العناصر» الأولية التي لا تقبل التحليل، ومنها تتركب سائر الظواهر المادية، فهنالك من يبحث عن هذه العناصر في مؤلفات أرسطو أو مؤلفات جابر بن حيان، وهناك من يبحث عنها بتحليل معملي مباشر، يحلل به المركبات إلى عناصرها، حتى يصل إلى ما ليس يقبل التحليل، فكلمة «عالم» العربية تطلق على الرجلين معا، وأما في لغات الأمم التي شاركت في البحث العلمي الحديث، فلكل رجل من الرجلين اسم يميزه، ومن هنا يظهر للناس ما بين النوعين من فوارق، فلا يخلط بينها أحد، حتى بين سواد الناس في الجمهور العام.

خلطنا نحن بين النوعين فخلطنا بين المنهجين: منهج مراجعة موضوع البحث المعين فيما كتب عنه قديما وحديثا، ومنهج التوجه إلى الظواهر الطبيعية التي يتجسد فيها ذلك الموضوع، في الحالة الأولى يكون الفرق بين عالم وعالم، مقدار ما عرف كل منهما ما هو موجود بالفعل في بطون الكتب، فهو أكثر علما إذا كان أوسع دراسة بالكتب الموجودة أولا، وبما قد ورد في كل كتاب منها عما يتصل بموضوع البحث من جهة أخرى، وأما في الحالة الثانية فالفرق بين عالم وعالم، مقدار ما «كشف» عنه كل منهما، فيما يتيح للإنسان استخلاص القوانين المطردة التي على منوالها تسلك الظاهرة بما تسلك، وليست المسألة هنا مسألة مقدار كمي، بقدر ما هي «أهمية» الكشف العلمي الذي تم على يدي كل منهما، وبهذا المقياس نفسه نوازن بين جهودنا نحن العلمية بصفة عامة، وجهود أمة متقدمة من أمم الغرب، فنجد الفرق واضحا؛ فأولا: الأغلبية الغالبة من جهودنا نحن العلمية، تقع في النوع الأول، والأغلبية الغالبة من رجال «الكشف العلمي» عن أسرار الطبيعة، تقع في النوع الثاني، وثانيا: في العلوم التي ننقلها عن الغرب لنصبح بفضلها علماء ونقوم بتدريسها لطلاب العلوم في المدارس والجامعات، نصب عليها منهج النوع الأول، لا منهج «الكشف العلمي» عن طريق النظر التحليلي التجريبي إلى الظاهرة نفسها موضوع الدراسة.

فواضح - إذن - أن ما نسميه في حياتنا ب «العلم»، شيء تتقسمه فيما بينهما فئتان: فئة تحصر علمها في الإلمام بالموروث، يجتزئ منه كل عالم على حدة ذلك الجانب الذي تخصص في الإلمام بما قد ورد في الكتب عنه، وفئة ثانية ينحصر اهتمامها في نوع آخر من المؤلفات، وهو ما يعرض شيئا من العلوم الحديثة كما قد صاغها صانعوها من علماء الغرب وأيضا يجتزئ منها كل عالم على حدة، ذلك الجزء الذي يتصل بما أراد أن يتخصص في الإلمام بما قد ورد عنه، وبالطبع لا يخلو الأمر من أفراد يجمعون في دراستهم العلمية شيئا من هذا وشيئا من ذاك، وإذا كان هذا هكذا، كانت حياتنا العلمية بنوعيها، مقصورة كلها - تقريبا - فيما هو قائم بالفعل من حصيلة العلوم المختلفة، فمن أين - إذن - تأتي مشاركتنا ومواكبتنا لركب الحركة العلمية في تجددها بما هو كشف جديد كل يوم؟ إننا، على أحسن الفروض، محتوم علينا أن نقف وراء العلماء الكاشفين بخطوة واحدة، هذا على افتراض أنه كلما كشف الغطاء عن حقيقة علمية في الغرب نقلناها عنهم في اليوم التالي، وعلى أية صورة يكون «التخلف» إن لم تكن هذه هي صورته؟

ومهما يكن من أمر، فقد كان الرأي عند صاحبنا منذ أربعينيات القرن، هو أن الموقف العام في بلادنا، تسوده نظرة لا علمية على نحو لا يدع مجالا للشك، خصوصا إذا رأينا حقيقة الموقف من وجهة نظر الجمهور، فحتى لو كان علماؤنا قد استطاعوا أن يأخذوا العلم الكشفي مأخذ الجد، فلم يكن تأثيرهم ليتجاوز أشخاصهم ليصبح فعالا في تحويل الجمهور العام نحو قدر من الرؤية العلمية، حتى ولو كان ذلك القدر ضئيلا؛ لأن الأمية نسبتها عالية، والقراءة بين من تعلموا ضيقة الحدود، فضلا عن ارتفاع الصوت الذي يناديهم في غير انقطاع لاصطناع الوقفة المستقبلة المستسلمة في غير نقد، أو اجتراء على السؤال فيما لا ينبغي لهم أن يعلموه، وهي وقفة كثيرا ما تتورط في مفارقة عجيبة، وانظر إلى الريفي في بساطته وبراءته تجده شكاكا فيما ينقل إليه عن أفراد الناس، وعن نيات الحكومة إزاءه، لكن أنبئه ما شئت من مستحيلات عن كائنات غيبية فلن يتردد لحظة في تصديق ما أنبأته به.

إنه لا عجب أن تعرض «العقل» ويتعرض في حياتنا لأزمات لا تنتهي، فللرأي العام عندنا قوة ضاغطة، لا يجرؤ على عصيانها علنا إلا مغامر، وهو رأي عام تسوده اللاعلمية كما أسلفنا، فانشر فيه من الخرافات ما شاء لك خيالك أن تنشر، وأنت في ذلك بمأمن من الخطر، بل يرجح لك أن تحمل على الأعناق لتوضع في مكانة رفيعة تتناسب مع قدرك العظيم، لكن حاول أن تلقي ضوءا على فكرة مقبولة عند الرأي العام، بحيث تحيط الفكرة بشيء من الريبة في وضوح معناها، وعندئذ لا تدري ما عسى أن يصيبك من عدم الرضا، وماذا يبقى للعقل من طبيعته إذا سلبته حرية الحركة الفاعلة، فيفرض ما شاء من فروض، وهو قول يساوي أن نقول إنه حر في تصور الأهداف، ليبحث لها بعد ذلك عن الوسائل الموصلة إلى تحقيقها، ومع ذلك فحياتنا كما يحياها جمهور الناس، ويحصنها رأي عام قادر على طمس أي صوت يرتفع ليغير صورة الحياة نحو ما يظنه الأفضل، تتصدى للفكرة الجديدة حتى ولو كانت متصلة بالعلم النظري الذي لا يمس حياة الناس العملية في شيء، فها هو ذا طه حسين وما تعرض له من هجمات الرأي العام - ولا أقول شيئا عن «العلماء» - مع أن فكرته المرفوضة كانت متعلقة بالشعر، وها هو ذا علي عبد الرازق وما تعرض له من سخط الرأي العام لفكرة قالها في مجال هو بالقطع أعلم به من الجمهور؛ لأنها خاصة بما يقوله الإسلام عن نظام الحكم، فأي عجب أن تفقد الأمة ما فقدته في هجرة العقول الممتازة من أبنائها؟

ليس «العقل » وطريقته في التفكير العلمي حكرا على هذا العصر وحضارته، بل هو جزء من الفطرة البشرية ، كثيرا ما يجعلونه أقوى أجزاء تلك الفطرة دلالة على ما يتميز به الإنسان دون سائر الأجناس والأنواع الحية، إذ قد نجد بقية الأجزاء مشتركة بين الإنسان وهذا أو ذلك من صنوف الحيوان، بل ومن صنوف النبات وما دونها من خلايا أولية بسيطة التركيب، لكن العقل وطريقته في التفكير لا يشترطان موضوعا بذاته ليتحقق لهما الوجود الفعلي، ومن هنا رأينا العصور المتولية بما قد ظهر فيها من حضارات وثقافات، لم تخل قط من ميادين معينة يتناول الإنسان العاقل موضوعاتها بمنطق العقل، فتصبح أقرب من سواها إلى ما نسميه ب «العلم»، وهل كان يمكن لمهندس العمارة المصري القديم أن يقيم ما شيده من هياكل ومقابر وغيرها، دون أن يكون متضمنا في علمه فكرا علميا بأدق معنى لهذه العبارة؟ وهل كان اليوناني القديم ليلجأ إلى قوة في نظرته أصلح من منطق العقل ليرد ظواهر الوجود إلى عللها الأولى كما حاول أن يفعل، وهل كان العالم العربي ليستخدم أداة غير أداة العقل ومنطقه، وهو يقيم علوم اللغة والفقه والرياضة والفلك والكيمياء وغيرها؟ لكن عصرنا هذا - مع تلك السوابق كلها على طول التاريخ البشري - قد جاء لتكون له طريقة متميزة مما عداها، في إعمال فكره العلمي، وهي طريقة استخدامه للأجهزة ابتغاء مزيد من الدقة والقدرة، وابتغاء الوصول إلى مزيد من أنواع الأجهزة ذاتها، حتى لنجد في حالات كثيرة أن تتوالى من النوع الواحد «أجيال» متعاقبة، كل جيل منها يتفوق على سابقه، وبهذا يصدق القول بأن معنى «التقدم» في العلوم، هو تقدم في أجهزته، فإذا رأيت فردا من الناس، أو شعبا من الشعوب، يستخدم في حياته العملية أدوات قد فات أوانها، وحلت محلها «أجيال» بعد أجيال من بدائل لها، أيسر استخداما، وأسرع إنتاجا، وأدق تحقيقا لما تصنعه، وصفنا ذلك الفرد، أو الشعب ب «التخلف» عن عصره، دون تجن على حقوقه، أو افتئات على كرامته.

بهذه التصورات وأمثالها، عاد صاحبنا إلى بلده في الثلث الأخير من أربعينيات القرن، بقلب ينبض بالحنين، وبعقل يدرك أهدافه، وبإرادة تتوثب تصميما وعزيمة.

رؤية واضحة «2»

لم يكن صاحبنا هازلا كل الهزل، عندما أرسل من غربته الدراسية إحدى مقالاته «الأدبية» التي كان يشحنها بانفعاله، ويبعث بها إلى بلده لتنشر، وأعني مقالته التي جعل عنوانها «الدقة الثالثة عشرة» قاصدا بهذا العنوان إلى القول بأن إصلاح الساعة قد يهون إذا كان كل عطبها مقتصرا على كونها تؤخر أو تقدم في إشارتها إلى الزمن، إذ ربما سهل على مصلح الساعات أن يقدم الميزان في التي أخرت، أو أن يؤخره في الأخرى التي قدمت، أما إذا دقت الساعة الدقاقة ثلاث عشرة دقة، استدل مصلح الساعات في يقين بأن الجهاز بأكمله بحاجة إلى مراجعة وإعادة تركيب؛ لأن التلف في هذه الحالة لا يكفيه أن نقدم قائمة الميزان أو نؤخرها، وفي تلك المقالة صعد مصعد أصابه شيء من الكساح، صعد بمفتش التعليم إلى فصل دراسي في طابق علوي من عمارة ضخمة كثيرة الطوابق، حيث اجتمع عدد من أطفال المرحلة الأولى من مراحل التعليم، وهناك وقف ليستمع إلى طفل يطالع في كتابه بصوت مسموع، فأخذ يتهجى الحروف المفردة فيذكرها واحدا واحدا، ثم يضمها معا في الكلمة التي تتألف منها، وكان أول ما سمعه المفتش قول الطفل «تاء، باء ... زرع» فامتعض المفتش وأسرع عائدا إلى ديوان التعليم ليقرر للرؤساء حقيقة ما سمع ورأى، وكانت تلك الحقيقة هي أن عقل الطفل منذ المرحلة الأولى في حياته التعليمية، يصاغ على نحو يجيز له أن يتقبل المفارقات والأضداد والمتناقضات جنبا إلى جنب في موقف واحد، بالطمأنينة والرضا، فيكبر وتزداد في حوصلته تلك المتنافرات سعيدا بها مدافعا عنها.

شيء كهذا كان صاحبنا قد أجاد تصويره في مقالة «الدقة الثالثة عشرة» - وفي غيرها من تلك المجموعة التي كتبها هناك في أواسط الأربعينيات - مستهدفا بذلك كله أن يثير القلق في نفوس مواطنيه؛ لما يحيون فيه من مناخ اللاعلمية واللاعقلية، شعروا بذلك أم لم يشعروا، وكان ذلك بمثابة التمهيد، فأول الإصلاح معرفة الداء ومواضعه، فها هو عالم جديد يدخل من تاريخه في عصر جديد، غرست بذوره - كما أسلفنا القول في أحاديث سابقة - في كبريات الأفكار الجديدة التي أبدعها مبدعوها خلال القرن الماضي كله، ثم ترك لهذا القرن العشرين وما بعده، أن يخرج تلك الأفكار الكبرى من مرحلة النظر إلى عالم التطبيق في حياة الناس الجارية يوما بعد يوم، وقد يختلف أصحاب الرأي في تحليل عصرنا هذا إذا ما أرادوا رده إلى المبدأ الأساسي الذي تنبثق عنه سائر الفروع، لكن الرأي في ذلك لن يبعد عن الحق بعدا يفسد صوابه، إذا هو ارتأى أن محور عصرنا هذا الجديد، هو «العلم الطبيعي» منظورا إليه بنظرة جديدة، وتتضمن هذه العبارة فيما تتضمنه، أن العصور العلمية السابقة ربما برعت في «العلم الرياضي» كثيرا أو قليلا، لكنها لم تكن قد توجهت بجهودها نحو «العلم الطبيعي» إلا قليلا، وكان هذا القليل نفسه من طراز غير الطراز الجديد الذي خلع على عصرنا طابعه وهويته.

ولعله مما يفيد القارئ، ويضعه «في الصورة» (كما يقال)، أن نذكر له صفتين بين مجموعة صفات أخرى اجتمعت لتعطي للفيزياء الجديدة خاصتها المميزة، أولاهما - كما أشرنا في كثير مما كتبناه - استخدام الأجهزة في عملية البحث العلمي ذاتها، ولم يكن شيء من ذلك يحدث في البحث العلمي عند السابقين، إلا بدرجة أضأل من الضآلة، وعلى مستوى أبسط من البساطة، وبالأجهزة البحثية الدقيقة، والتي تزداد دقتها كل يوم، حتى لقد أصبح «تعريف» التقدم العلمي بأنه هو التقدم في الأجهزة البحثية ودقتها، هذا فضلا عن جانب آخر من هذه الظاهرة، وهي أن النتائج التطبيقية للعلوم قد بات يغلب عليها أن تكون بدورها في صورة أجهزة تعرض للاستعمال في حياة الناس الفعلية، وأما الخاصة الثانية مما أردنا عرضه على القارئ عما يتميز به العلم الطبيعي الجديد، فهي مشتقة من الخاصة الأولى، وأعني بها تلك الدقة التي تزداد بها الأجهزة البحثية في مجال العلوم، إذ مؤدى التزايد المتواصل في دقة المقاييس بكل أنواعها، كالسرعة، والوزن، والأبعاد المكانية إلخ، أن تتغير مقاديرها اطرادا مع زيادة الدقة، فالميزان الذي يعطيك اليوم رقما دالا على كتلة الجسم الموزون سوف يحل محله غدا ميزان أكثر دقة، يتغير به الرقم تغيرا ربما كان بالغ الصغر، لكنه تغير على كل حال، إذن فلو سئل علماء الطبيعة عن رقم من تلك الأرقام التي تدل على جانب أو آخر من جوانب الظاهرة المبحوثة، ما هو؟ فهل يسعهم إلا أن يجيبوا جوابا «مؤقتا»، توقيتا مرهونا بالدرجة التي بلغتها الأجهزة البحثية من التقدم، ومعنى ذلك أن كل أنواع المقاييس إن هي إلا تقريبات مقيدة بما تستطيعه الأجهزة البحثية في مرحلة زمنية معينة، سرعان ما تمضي لتجيء مرحلة تليها، بأجهزة أكثر قدرة ودقة، وإذا بالمقاييس قد أخذت أرقاما أخرى وهكذا، ومحصلة هذا كله هي أن صفة اليقين الحاد الحاسم التي كانت تصف أحداث الطبيعة عند علمائها، خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، وجزء من التاسع عشر، قد استبدل بها صفة أخرى بوحي من واقع البحث العلمي وأجهزته ونتائجه، وتلك الصفة الأخرى هي أن الحقيقة العلمية نسبية، ونسبيتها مرهونة بالتقدم في الأجهزة البحثية، وبعوامل أخرى قد نذكر بعضها في مناسباتها.

إننا هنا نتحدث عن «العلم» الطبيعي في عصرنا، وكلمة «العلم» في استعمالنا نحن لها، ولا أقول استعمالها على ألسنة من لم يحصلوا من العلم على شيء يذكر، بل أعني فئة ضخمة ممن ظفروا بقسط موفور منه، بل وربما امتدت تلك الفئة لتشمل عددا ممن جعلوا هذا «العلم» مدار حياتهم ومصدر أرزاقهم، أقول: إن كلمة «العلم» هذه في استعمالنا نحن لها، إنما يصيبها من أذى التشويه ما يصيب أخوات لها كثيرات يقعن جميعا في صميم الحياة الفكرية والثقافية بصفة عامة، فتتقدم تلك الحياة بتقدمها وتتأخر بتأخرها، ولما كان تقدمها مرهونا - بغير شك - بدرجة وضوحها في الأذهان، أدركنا كم تتعثر بنا الحياة الثقافية بسبب الغموض المعتم الذي يلف مجموعة المعاني المحورية الخطيرة، التي من بينها معنى «العلم»، مما يحملنا على السؤال: متى تكون الحقيقة «العلمية» علمية بالمعنى الصحيح لكلمة «العلم»؟ وليس المجال هنا مجال تفصيل القول جوابا عن هذا السؤال، وتكفينا الإشارة السريعة الموجزة إلى جوانب، بغيرها يفقد القول المعين أهليته ليكون جزءا من علم، أيا كانت طبيعة هذا العلم، وأول ما نود الإشارة إليه في هذا الصدد، هو أن لغة العلم يجب وجوبا أن تختلف عن لغة الناس في حياتهم اليومية؛ لأن لغة الناس هذه إنما خلقت ليعبروا بها عن «رغباتهم» وما «يشعرون» به من حالات مستبطنة في دخائل نفوسهم، ثم هي فوق ذلك لغة يراد بها قضاء المنافع في سبل العيش وتبادل الحديث بين الناس، وأما لغة «العلم» فلا بد لها - قدر طاقة البشر - أن تخلو خلوا تاما مما هو «خاص» بذات المتكلم، من رغبات ومشاعر ومنافع موقوتة بلحظتها، ومن هنا اختلف القول عن الشيء الواحد المعين، بين أن يرد ذكره في بحث علمي وبين أن يرد في أحاديث الناس الجارية، ففي هذه الأحاديث لا يريد المتحدثون عن «الماء» أكثر من أن يكون «ماء»، وأما في سياق البحث العلمي عن «الماء» فهو يترجم إلى عناصره الأولية التي هو مركب منها، وفي أحاديث الناس اليومية لا يريدون إذا أرادوا الحديث عن «الفقر» إلا أن يشيروا إليه بهذه الكلمة، وهل هنالك في أحاديث الناس اليومية ما هو أوضح من أن نسمي «الفقر» فقرا و«الثراء» ثراء؟ لكن عالم الاقتصاد وهو في سياق بحثه العلمي، يجد في هاتين الكلمتين غموضا يفسد عليه علمية بحثه، فيلجأ إلى تحديد متوسط دخل الفرد من جماعة الناس التي جعلها مدار بحثه، ومثل هذا المتوسط العددي لا يوصف في ذاته بفقر أو غنى، بل الأمر في هذا الصدد متوقف على نسبة هذا المتوسط إلى متوسطات أخرى في جماعات أخرى، أو على نسبته إلى ما يكلفه الحد الأدنى المقبول من نفقات العيش، أو ما يشبه ذلك من معايير، فإذا كان الموضوع المبحوث من طبيعة يتعذر فيها ترجمته إلى لغة الرياضة، تحتم على الباحث العلمي أن يلجأ إلى تعريف مصطلحاته الواردة في بحثه تعريفا دقيقا؛ ليكون هو المرجع بينه وبين من يراجعه.

بهذه الوسائل وأشباهها نضمن للعلم «موضوعيته» بأكبر درجة مستطاعة، ونبرأ من حالاتنا الذاتية الخاصة، براءة نبلغ بها أبعد حد مستطاع، فإذا قلنا إن مفتاح دخولنا إلى ساحات عصرنا، لكي نعد من أبنائه كما يجب أن نكون، هو أن نتشرب روح «العلم» بحقائق الأشياء - وأعني «العلم الطبيعي» بصفة خاصة - كنا في الوقت نفسه بمثابة من يشترط على نفسه منهاجا للرؤية التي ينظر بها إلى العالم، يتميز بما يتميز به ذلك العلم، ألا وهو الدقة الموضوعية إزاء ما نريد العلم بحقيقته، دقة تتبين «الواقع» في واقعيته، بحيث لا يخالطها شيء من رغباتنا وميولنا ومشاعرنا، إذ لا يغير من واقعية الواقع أن نرضى عنه أو نسخط، إلا بمقدار أن تدفعنا معرفتنا بحقيقة الأمر الواقع، إلى الحفاظ عليه إذا وقع منا موقع الرضا، أو تغييره إذا وجدناه مثيرا للسخط والغيظ.

على أن هذا الذي ذكرناه، قد يكون موضع قبول عند الجميع، ما دام هو حديثا عن «العلوم الطبيعية» إذ هي علوم لا يتدخل فيها عامة الناس، تاركين الخبز لخبازه، ثم هي علوم عند أصحابها من علماء الفيزياء والكيمياء، وغيرها من فروع في هذا المجال، مكفول لها كل الشروط التي ذكرناه، والشروط التي لم نذكرها لأن المجال هنا ليس مجالها، لكن هذا الموقف يتغير تغيرا حادا، إذا ما انتقلنا بالحديث من دائرة «العلوم الطبيعية» المشهود لها بهذه الصفة، إلى دائرة «العلوم الإنسانية» - وقد تسمى بالعلوم الاجتماعية - كعلوم «النفس» و«الاجتماع» و«الاقتصاد» و«السياسة» و«النقد» (نقد الأدب والفن) و«الفلسفة»، وغيرها مما يدرس عادة في الكليات الجامعية التي جرى العرف على تسميتها بالكليات النظرية؛ وذلك لأنه يشق على من لم يدرب تدريبا كافيا على الفصل بين ما يندرج في قائمة العلوم الطبيعية وما لا يندرج، أن يضم في حزمة واحدة علوما تبحث في ظواهر طبيعية كالضوء والكهرباء والجاذبية، وعلوما أخرى تبحث في خصائص «الإنسان» النفسية والاجتماعية، إذ كيف نسوي - هكذا قد يسألون - بين مادة صماء بكماء تخضع لقوانينها خضوعا جبريا لا حيلة لها فيه، وبين «الإنسان» صاحب الإرادة الحرة التي تختار ما تختاره وترفض ما ترفضه، وهو الإنسان المسئول عما يفعل بناء على اختياره الإرادي الحر؟ إن الإنسان متأثر بعواطفه ومشاعره، يحب ويكره، ويغضب ويرضى، ثم هو قد يتسامى على عواطفه ومشاعره ليلقي إلى عقله بزمام نفسه، نعم، إنه ليشق على من لم يدرب على النظرة العلمية رؤية الفواصل التي تفرق بين ما يصلح أن يكون موضوعا للبحث العلمي المنهجي الدقيق، وما لا يصلح لمثل ذلك البحث، وهؤلاء ينظرون إلى الكائن البشري في مجموعه وكأنه وحدة مستحيلة على التحليل إلى عناصر، ومن ثم يرفضون أن يتساوى هذا الكائن البشري - من حيث صلاحيته لأن يكون موضوعا لمنهج البحث المستخدم في سائر العلوم الطبيعية - فيرونه ينزل منزلة سامية شريفة تلتزم مبادئ الأخلاق التي هي مسئولة عنها في الدنيا وفي الآخرة معا؛ ولذلك فهم يفضلون أن يكون هنالك للبحث العلمي أكثر من منهج واحد، فهنالك منهج للجانب المادي من الكون وظواهره، وهنالك - أو يجب أن يكون هنالك - منهج آخر عندما يكون موضوع البحث جانبا يمس «الإنسان» من حيث هو «إنسان»، ونقول هذا لأن في الإنسان جوانب يشترك فيها مع أي كائن حي آخر، كالبحث في الأعضاء ووظائفها، وفي التغذية والنمو، وليس هذا الفريق الذي يريد تكريم الإنسان بتخصيص منهج علمي خاص به، مقتصرا على عامة الناس، بل إنه ليجاوز هؤلاء العامة ليشمل فئة من «العلماء» أنفسهم.

ولم يكن صاحبنا في نظرته العلمية واحدا من هؤلاء، إذ استطاع أن يرى في الظاهرة «الإنسانية» ذلك الحد الفاصل بين ما يمكن إخضاعه لما تخضع لما موضوعات العلوم الطبيعية من شروط المنهج البحثي، وبين ما يستعصي إخضاعه لذلك المنهج، فأما الجانب الممكن فهو وحده الذي يوضع موضع البحث العلمي، وأما الجانب غير الممكن فيوكل النظر فيه إلى دائرة الموضوعات «الوجدانية»، ولهذه الموضوعات مناهجها ومقاييسها، فلا يعقل أن يحاسب موقف الإعجاب بمعزوفة موسيقية، أو قصيدة من الشعر، بما يحاسب به موقف الباحث العلمي الذي يحاول الوصول إلى قوانين الفيزياء والكيمياء، ويكون معنى هذا كله، هو أن ثمة منهجا واحدا مقبولا عند «العلم» الطبيعي، يشمل جميع الكائنات، ومن بينها ذلك الجانب من «الإنسان» الذي يمكن وضعه موضع المشاهدة العلمية، والتجربة المنهجية، واستخراج القوانين التي تنتظم مسالك ذلك الجانب، فتكون هي قوانين «علم النفس» أو «علم الاجتماع» أو أي علم مما يتفرع عنهما، وهي قوانين لم تبلغ بعد دقة قوانين العلوم الطبيعية، إلا أن الفرق بين الحالتين إنما هو فرق في الدرجة، وليس فرقا في «النوع».

وإنه ليجدر بنا في هذا الموضع من الحديث، أن نضع بين يدي القارئ حقيقة لا تخلو من دلالة، وهي أن رجال البحث العلمي، قبل القرن الماضي، عندما كانوا يقارنون بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية، من حيث المنهج البحثي الذي يصلح لكل منهما، كانوا على ظن أحيانا، بأن الفارق الرئيسي بين المجموعتين، هو أنه بينما قوانين العلوم الطبيعية قطعية اليقين، فإن قوانين العلوم الإنسانية «إحصائية»، ومن ثم فهي لا تزيد على أن تكون «احتمالية»، أي إن كل قانون منها هو صحيح بنسبة مئوية معينة، ثم دار الزمان دورته، وجاءت الرؤية الجديدة إلى العلوم الطبيعية وقوانينها، وإذا ب «الطبيعة» ذاتها - في المنظور الجديد - لا تقدم ظواهرها المختلفة محددة بحدود قاطعة حاسمة، حتى يمكن أن تستخلص منها قوانين قاطعة حاسمة كذلك، بل إن كل ظاهرة طبيعية إنما تقدم نفسها إلى حواسنا، أو إلى الأجهزة التي تساعد حواسنا، في صورة مذبذبة، ابتداء من الذرة فصاعدا، فليس في وسع الباحث العلمي إلا أن يقيس بأجهزته الظاهرة المراد قياس سرعتها، أو تحولاتها، أو وزنها إلخ، عدة مرات، ليستخرج المتوسط فيكون هو أساس القانون العلمي، وإذا قلنا «متوسطا» حسابيا لعدة قياسات، فقد قلنا بالتالي إن القانون الذي يبنى عليها هو قانون «إحصائي»، فبعد أن كان الرأي فيما سبق هو أن العلوم الإنسانية تنتسب من حيث المنهج إلى العلوم الطبيعية مع فروق في درجة الدقة، أصبح الأصح هو أن نقول: إن العلوم الطبيعية باتت في هذا العصر القائم تنتسب من حيث المنهج إلى العلوم الإنسانية، في أن تكون «إحصائية» مثلها، مع بقاء الفرق في درجة الاحتمال قائما، فاحتمالية القانون الطبيعي تقترب من اليقين، في حين تتفاوت الدرجة الاحتمالية في العلوم الإنسانية، تفاوتا تبعد به أو تقرب من مكانة العلم الطبيعي.

وأيا ما كان الأمر، فالذي نريد للقارئ أن يخرج به من هذا كله، ليرسخ في ذهنه بعد ذلك رسوخا ثابتا يساعد على توجيهه في دروب حياته العملية، هو هاتان القضيتان؛ أولاهما: أن العلوم الطبيعية ومنهاجها في النظر، هو الذي يخلع على عصرنا القائم لونه الخاص، وثانيتهما: أن من أراد العيش متآلفا مع عصره، لا مندوحة له عن أن يجعل «رؤيته» العامة للحياة ومواقفها ومشاكلها، مؤسسة على ذلك المنهج، على أننا لا نقصد بذلك إلى الزعم بأن العلوم الطبيعية هي كل ما في العصر، إذ هو عصر كأي عصر آخر في تاريخ الإنسان، فيه إيمان ديني، وفيه فن وأدب، وفيه عواطف إنسانية بين الوالد وولده، والصديق وصديقه، والجار وجاره، وكل ما يربط أفراد الناس في تعاون وإخاء، كما أننا لا نقصد إلى الزعم بأن كل فرد من الناس ينبغي له أن يكون عالما من علماء العلوم الطبيعية لكي يصبح متآلفا مع عصره، كلا، ولا قصدنا إلى الزعم بأن التآلف مع روح العصر يقتضي بالضرورة قبول العصر بكل ما فيه، خيره وشره على السواء.

وأما عن الاستدراك الأول، وهو الذي أردنا أن نبعد به شبهة الظن بأننا ننفي أن يكون إلى جانب العلوم الطبيعية في عصرنا جوانب أخرى؛ لأن حياة الإنسان بغيرها، كالدين والفن والأدب والتقاليد والأعراف المرعية في الروابط بين أفراد الناس، فقد كان يمكن ألا نذكره وننبه إليه، لأنه بدهية يدركها كل إنسان، إلا أننا نعلم أن بعض المجادلين في مجتمعنا يكادون يحملونك بلجاجتهم، أن تقيم لهم البرهان على أن الضحى في إشراقه مختلف عن الليل إذا سجى، وأن ماء النهر في نقائه عذب وأما الماء في المحيط فملح أجاج؛ ولهذا أردنا أن نعيد - مؤكدين لما قد أسلفنا قوله مرة بعد مرة - بأننا ننظر إلى حياة الإنسان الإدراكية، فنراها منقسمة قسمين، لا يوجد بينهما إلا اجتماعهما في شخص إنساني واحد، تماما كما تجتمع فيه أعضاء السمع والبصر، فليس السمع بصرا ولا البصر سمعا، لكن الإنسان الواحد هو الذي يجمع في فؤاده بين القناتين، وهكذا تكون الحال - أو ينبغي أن تكون - في نظرتنا إلى العلم ومنهجه من ناحية، وإلى سائر القنوات الإدراكية الأخرى من ناحية أخرى، فليس ذلك هو هذا، ولا هذا هو ذلك، لكن الجانبين معا مقومان أساسيان في كل إنسان واحد، فإذا طالبنا الفرد من الناس، إذا أراد أن يتسق مع عصره، بأن يقيم «رؤيته» العامة على إطار العلوم الطبيعية ومنهاجها، فإنما نطالبه بأن يقيم موازين المنطق العقلي في كل بحث «موضوعي» دون أن يكون في ذلك أي مساس بحياته الوجدانية، من إيمان ديني وما يقتضيه إلى نشوة فنية، وعاطفة يشبعها في تعامله مع الآخرين.

وأما عن الاستدراك الثاني، الذي أردنا به أن نميز بين التزام المنهج العلمي عند رجال العلم أثناء قيامهم بالبحوث العلمية، وبين أن يتشرب الفرد العادي روح ذلك المنهج في «رؤية عامة» ينظر بها إلى أمور دنياه، فقد أردنا به أن نوضح ضرورة أن يعيش عامة الناس في مناخ تسوده النظرة التي تبرأ من الخرافة في تعليلها للحوادث، بأن تفسر الأحداث بأسبابها الحقيقية، فذلك هو الفرق بين عصور الظلمات وعصور النور، فإذا تعذر النور فليكن تنويرا يسير بالناس نحو النور، نعم، ذلك هو الفارق الرئيسي بين الحالتين: في عصور الظلام تعلل الظواهر بغير عللها، وفي عصور النور - أو التنوير - ينظر إلى العلاقة بين الأشياء في منظورها الصحيح، والرؤية العلمية للأشياء وتفريعاتها هي الوسيلة الموصلة إلى ذلك المنظور الصحيح.

وأما الاستدراك الثالث، فقد أردنا أن نؤكد به أن التآلف المطلوب بين الإنسان وعصره، ليس معناه أن يقف ذلك الإنسان موقفا سلبيا عاجزا يتلقى ما قد نسجه الآخرون، بل المقصود هو أن يحس الفرد إحساسا قويا بأنه هو عصره، فليس عصر الناس في فترة معينة ملكا لأحد دون آخر، بل يملكه كل من تقلهم أرضه وتغطيهم سماءه، ولأن العصر ملك لمن أراد أن يشارك فيه، قبولا ورفضا وتعويما، فقد استهدفنا أن نوقظ الوعي بهذه الحقيقة بين أبناء الأمة العربية، إذ نلحظ فيها ميلا نحو أن يتركوا العصر للغرب وأبنائه على أساس أن معظم ما فيه هو صنيعتهم، لكن هذه السلبية منا إزاء زماننا تزيد من رغبتنا وتردنا بدفعة أقوى نحو أن نلوذ بماضينا لنعتصم به ونحتمي، وكأنه لا حاضر لنا يعاش، فنحاسب على ما قدمناه وما قصرنا في تقديمه.

ومع ذلك، فلتكن منا عودة إلى ماضينا، لنستلهمه كيف نعيش عصرنا كما عاش سلفنا عصورهم، فهل خاف أسلافنا عواقب الرؤية العلمية كلما اقتضتها موضوعية النظر والرأي؟ بأي منهج أقام علماء اللغة علومهم إذا لم يكن بمنهج العلم في حدوده المعلومة يومئذ؟ وبأي منهج بحث الفقهاء؟ بأي منهج حقق المحدثون صحة الأحاديث؟ بأي منهج بحث جابر بن حيان في الكيمياء، وابن الهيثم في البصريات؟ إن طريق العلم ومنهجه في حياة السلف أوضح من أن يخفى على عين تبصر، وهو طريق لم يصادر على الطريق الآخر ليمنعه أو ليقلل من شأنه، وأعني طريق الإيمان، وطريق النشوة الفنية في عالم الإبداع، شعرا وفنا وموسيقى.

بهذه الرؤية الواضحة للوقفة الصحيحة التي ينبغي للعربي أن يقفها من عصره، عاد صاحبنا من غربته الدراسية إلى أرض الوطن، قلبه يملؤه الحنين، وعقله متأجج بعزم وتصميم ...

ولا تزال لهذا الحديث عن تلك الرؤية الواضحة بقية تأتي ...

رؤية واضحة «3»

كثيرة الدوران على ألسنة المتحدثين، تلك الحكمة التي تنسب إلى رجل من أهل الصين، قالها لسماك، حين هم السماك بأن يعطي سمكة صيده لفقير جاءه يستجدي، فقال الحكيم للسماك: خير له أن تعلمه صيد السمك من أن تتصدق إليه بسمكة. فالسمكة المعطاة هي وجبة واحدة، تأتي بعد زوالها حاجة متكررة إلى وجبات، فإذا تعلم الصيد وجد ما يشبعه كلما جاع ... وعلى منوال هذه الحكمة النافذة، أدرك صاحبنا، منذ كان في غربته الدراسية، أن تدريب المتعلم على منهج التفكر المنتج خير ألف مرة من مضاعفة المادة العلمية المحصلة؛ لأن مقدار ما يحصله الدارس من مادته العلمية مهما كثر فهو قليل، وأما من زود عقله بمنهج التفكير العلمي فهو قادر أبدا على أن يلتمس الطريق الصحيح، كلما أشكل عليه أمر يتطلب له حلا، على أننا لا نريد بهذا القول أن نجعل الاختيار بين طرفين: فإما تحصيل لمادة علمية ولا منهج، وإما تدريب على منهج ولا شيء على الإطلاق من مادة علمية، كلا بل أقرب إلى ما نريد أن نقوله، هو أن مزيدا من التدريب على منهج التفكير العلمي، مع قدر معقول من المادة العلمية، خير من شحن الذاكرة بمحصول كبير محفوظ، ومعه قدرة متواضعة من منهج التفكير، فالحصيلة العلمية المحفوظة في الذاكرة، شبيهة بالسمكة التي نتصدق بها على الجائع الفقير، فيشبع مرة واحدة؛ وذلك لأن تلك الحصيلة المحفوظة مهما بلغ مقدارها من الضخامة، فمشكلات الحياة الواقعة أكثر منها، وانظر إلى دارس الطب - مثلا - كم تتنوع أمامه الحالات في المرض الواحد، بحيث تكاد كل حالة فردية منها تتطلب معالجة تناسبها، تختلف عما يلائم سائر الحالات، فإذا لم يكن الطبيب بمنهجه العلمي أوسع من الحالات المفردة في المرض الواحد، وجد نفسه وقد استجاب لجميع الحالات بصورة واحدة، والذي يجعل الطبيب أوسع مما يعرض عليه، هو أنه - فوق مادته العلمية - مدرب على منهج للنظر والاستدلال في مجاله الطبي.

وأيا ما كان الأمر في هذا، فقد عاد صاحبنا بهذه الفكرة تملأ رأسه فلا تدع مكانا لغيرها؛ لأنه إذا كانت بعض الدراسات العلمية تحتم على الدراس إلماما دقيقا وكافيا بالمادة العلمية التي هي موضوع تخصصه، كأن يلم الطبيب بمادة العلم الطبي، ورجل القانون يلم بمواد القانون، وهكذا، فإن ذلك لا ينطبق انطباقا تاما على بعض المواد العلمية الأخرى، ومنها مادة «الفلسفة»، أو قل إن ذلك هو ما عاد صاحبنا مؤمنا به؛ لأن عملية التفكير عند الفيلسوف، إن هي إلا «منهج» يستطيع به أن يرد فروع الحياة من حوله إلى أصل فكري واحد، يصل إليه بعمليات من التحليل المنطقي لما يراه، كي يستخرج من جوف الأمور الواقعة ما هو مضمر فيها من دلالات، ومن شأن الفيلسوف في أي عصر، أن يثبت ما قد وصل إليه، إما تلقينا لتلاميذه، وإما كتابة يدون بها ما قد رأى، وتتراكم هذه التدوينات من مختلف الفلاسفة، في مختلف العصور، حتى يصبح بين أيدينا - نحو الورثة - ما هو في حقيقة أمره، تاريخ للفلسفة، وعلى الدارسين لهذا الفرع من الميراث الفكري، أن يلموا بذلك التاريخ ما استطاعوا دقة وشمولا.

لكن كل فيلسوف ممن ورد ذكرهم في هذا التاريخ، إنما هو رجل عني بعصره هو، إذ رأى حوله من ظواهر الحياة والكون ما رأى، بل وما يشاركه في رؤيته عامة الناس ودع عنك صفوتهم، إلا أنه هو الذي ينفرد بموهبته دونهم جميعا، في القدرة على استقطاب الكثرة الكثيرة من الظواهر، استقطابا يردها إلى أم واحدة، أو إلى أصل واحد، وأن طالب الفلسفة ليخرج من دراسته بأقل من القليل، لو أنه تخرج لا يحمل في جعبته إلا ما قاله الفلاسفة، كل في عصره وعن عصره، لكنه يتخرج ومعه ثروة لا حدود لها، إذا كان قد استطاع أن يستخرج من طرق الفلاسفة في التفكير، ذلك المنهج الذي يمكن به رد الظواهر الثقافية إلى عناصرها وأصولها؛ لأنه عندئذ لا يفقد كثيرا إذا نسي مع مر الأيام بعض ما قاله هذا الفيلسوف أو ذاك، في هذه الظاهرة أو تلك، لأن ما هو أهم من ذلك عنده، إنما هو ما يستطيعه هو إزاء الحياة الثقافية التي يحياها مع أهل عصره، فكلما ازداد قدرة على «نقدها» نقدا يريد به تأصيلها وتحليلها والكشف عن عناصرها، ازداد بالتالي قدرة على الكشف عن مدى صلاحيتها أو عدم صلاحيتها للظروف التي يحيا مع مواطنيه في حبائلها، وإذا لم يتخرج دارس الفلسفة بكثير أو قليل من هذه القدرة النقدية لفكر عصره، فلأي هدف آخر - يا ترى - قد درس ما درسه من تاريخ الفلاسفة السابقين وما دونوه؟

عاد صاحبنا وفي رأسه رؤية واضحة عن الفكر الفلسفي وما ينبغي لدارسه أن يستخدمه فيه، هذا إذا حرص ذلك الدارس على ألا تضيع دراسته هباء مع الهباء، فهو وإن يكن مسئولا عن الإلمام الوافي بما تخصص فيه من ميادين ذلك الفكر، فيما أورده التاريخ مما قدمه الفلاسفة على امتداد عصوره، إلا أنه لا يكون قد ظفر من دراسته بثمرتها الحقيقية، ما لم يدرك جيدا لماذا قال الفيلسوف المعين ما قاله، وبالطريقة التي قاله بها، وماذا كانت العلاقة بين ما قاله من جهة، وما يحياه الناس في حياتهم الواقعية من جهة أخرى، فإذا تحقق الدارس من هذا كله، نتجت له نتيجتان واضحتان؛ الأولى: هي أن الفكر الفلسفي، بكل صوره ومذاهبه، وثيق العرى بالحياة الفعلية التي يعيش الناس في رحابها وثناياها، وعلى نحو ما يجيء الفن والأدب فيصوران تلك الحياة، أو قل ينعكسان عنها إما تصويرا مرآويا وإما تعديلا لمسارها، وفي هذه الحالة يستخدم كل فرع وسيلته الخاصة به، فالموسيقى تقول في ذلك ما تقوله ألحانا وأنغاما، والأدب يقول كلمات منظومة أو منثورة، في شعر أو مسرحية أو رواية، والتصوير يقوله ألوانا وخطوطا وأشكالا، تجيء الفلسفة فتقول فكرا، ومن هنا نلحظ أن جميع هذه الفروع «الثقافية»، إنما تنسج خيوطها بعضا مع بعض لمن أراد أن يجمعها معا في رقعة واحدة، يطلق عليها اسم «الحياة الثقافية» وأما النتيجة الثانية، التي يستخلصها دارس تاريخ الفلسفة، وهي نتيجة بالغة الأهمية وتتطلب إمعان النظر: فهي أن «الفلسفة» لا تشترط نفسها موضوعا معينا؛ لأنها «منهج» أولا وآخرا، ينصب به صاحبه على ما شاء من موضوعات العلوم والثقافة، وتكون مهمته في ذلك هي أن يرتد بالموضوع الذي ينظر فيه إلى مبادئه الأولى التي عليها يقام هيكل بنائه، ولماذا يفعل ذلك؟ إنه يفعله لتتضح العلاقة الحقيقية بينه وبين سائر فروع الحياة الثقافية في العصر المعين، وكثيرا جدا ما يحدث أن من يفلسف موضوعا معينا من موضوعات العلم والثقافة، هو أحد المختصين بذلك الموضوع، أراد أن يتعقب موضوع اختصاصه إلى جذوره، وهنا نلحظ أن صاحب الفكر الفلسفي قد يقتصر على النظر في موضوع واحد كعلم الطبيعة ، أو علم الأحياء، أو علم التاريخ أو غير ذلك من فروع، لكنه كذلك قد يتسع به الأفق، وتشتد به الموهبة، فيحاول الوصول إلى المبدأ الأساسي الذي تقوم عليه العلوم كلها، كما تقوم عليه مع العلوم سائر ما يمكن أن يدركه الإنسان من حقائق الكون العظيم.

إذن فليس المهم في الفلسفة ماذا يكون موضوع البحث، بل المهم هو المنهج الفكري الذي ينصب على أي موضوع يختاره الباحث، ليتقصاه إلى مصادره وأصوله الأولى، ولا نعني أن نتعقب تاريخه، بل نعني أن نتعقب منطق وجوده وكيانه، ومع ذلك فلا بد لنا أن نضيف حقيقة مهمة، وهي أنه بالرغم من حرية الفكر الفلسفي في اختيار موضوعه حيثما شاء، إلا أن واقع الأمر هو أن ثمة ثلاثة محاور كبرى تستقطب عناية الإنسان وأسئلته واهتماماته، لا فرق في ذلك بين عصر وعصر، أو أمة وأمة، وتلك القضايا الثلاث هي: الله، والكون، والإنسان، لكنها قضايا - كما ترى - أوسع جدا من أن يلتقي فيها الفكر الإنساني كله عند جانب معين من جوانبها، فلئن وجدناها ماثلة في نتاج الفلاسفة من أي عصر في التاريخ؛ فذلك لأنها موضوعات كبرى تتسع لمعظم ما قد يشغل الناس فيتساءلون ويسألون ليظهر فيهم من يحاول الجواب، أما إذا قصرنا النظر على تفصيلات ما يشغل الناس في عصر معين، فهنا نجد لكل عصر ما يشغله ويميزه.

الفلسفة - إذن - «منهج» بلا موضوع، أو هكذا استخلص صاحبنا من دراساته، فاتسع أمامه مجال النشاط الفكري؛ لأنه حر فيما يختاره من موضوعات ليتقصاه بالنظر، والذي يميز منهج الفكر الفلسفي دون مناهج العلوم الأخرى، هو سمة هامة، لولاها لا نحبس العقل وراء قضبان من حديد تقيد حركته بغير مبرر، وذلك المميز هو أنه لا يبدأ عمليته الفكرية من «فروض» يقيمها هو، أو تقيمها له جهة أخرى، لتكون له بمثابة محطة القيام للقطار، ولا كذلك الحال بالنسبة إلى العلوم جميعا: رياضية وطبيعية وإنسانية، فهذه كلها تقيم بنيانها على «فرض» يوضع ليبدأ منه السير، ونعني ب «الفرض» هنا، حقيقة توضع على سبيل الاقتراح، لنرى بالبحث ما عساها تتجه لنا من نتائج، كالنظريات في الرياضة، والقوانين في العلوم الطبيعية والاجتماعية، وأما الفكر الفلسفي فيصب البحث على موضوع البحث مباشرة وبلا وسيط، فإذا كان السؤال المطروح - مثلا - هو عن حقيقة الزمان، أو المكان، أو الخلق، أو العقل، أو النفس، أو الدولة، أو الحرية، أو الصداقة، أو الفن، أو ما شئت، تناولها الفكر الفلسفي بالنظر المباشر، غير مقيد بفرض يقول له: ابدأ بما يقال عن الزمان بأنه كذا، أو عن الدولة بأنها كيت، بل ينصرف مباشرة إلى تحليل الموضوع إلى عناصره الممكنة؛ ليستند إليها - إذا ما تبينها - في الوصول إلى «تعريف» قاطع لحقيقة الموضوع المطروح للنظر، والأغلب أن تتجمع بين يدي الفيلسوف مجموعة تعريفات لعدة موضوعات، كان قد أحسن اختيارها؛ فيتخذ منها ما يشبه العمد التي يقام عليها بنيان.

وبقدر نجاحه في ذلك، يكون نجاحه في أداء المهمة الأساسية التي كان من أجلها يبذل الفكر، ألا وهي «توضيح» ما يغلب عليه أن يكون غامضا في أذهان الناس، بمن فيهم علماؤهم وقادة الفكر منهم، على أهميته في صحة الحياة الإنسانية وجريانها في قنواتها ميسرة السبل، ومن ذلك ترى أن غاية الفيلسوف من عمله، هي «وضوح الأفكار»، وهنا قد يدهش القارئ؛ لأنه كثيرا ما سمع عن «الفلسفة» غموضها وتعقيد عبارتها، وهو في ذلك معذور؛ لأن جميع من سمع منهم تلك الفرية، إنما هو أناس يخلطون بين «الدقة» و«الغموض»، فما أيسر أن تقول - مثلا - إني أرى جبلا، ولكن هذا الذي اكتفيت فيه باسم «جبل» إذا ما اقتربت منه رأيته في تفصيلاته عالما معقدا من حجر ونبات وحشرات وكهوف إلخ، وكذلك كل «فكرة» ترد في أحاديث الناس تسهل ما دمنا نكتفي بذكر اسمها، لكنها سرعان ما يتبين لنا كم هي مليئة بمقوماتها وعناصرها ودوافعها ومراميها، إذا ما أعمل فيها مشرط الفكر الفلسفي تشريحا وتفصيلا، وعندئذ قد يصعب ما كان سهلا، لكن وجه الصعوبة هنا هو أن ما كان معلوما بمعرفة سطحية لا تغني عن الحق شيئا، قد أصبح معلوما في دقة ووضوح، ويستطيع من شاء أن يقيم على تلك المعرفة الدقيقة الواضحة ما شاء أن يقيم وهو على ثقة من سلامة المبنى.

كان صاحبنا على يقين بينه وبين نفسه، بأن الحرية الفكرية في وطنه بحاجة إلى مراجعة تتناولها من الأساس، فأقل ما يقال فيها يومئذ، هو أنها على فقر شديد في الإبداع الفكري، وليس الحديث هنا متجها بصفة مباشرة إلى عالم الأدب والفن، إذ قد يكون الرأي مختلفا بعض الشيء في هذا المجال، أما «الفكر» الذي من شأنه أن يفرز «تصورات» عقلية مجردة، تكون في حقيقتها بمثابة خرائط مكثفة ترسم أمام الناس طرق السلوك العملي الناجح في مختلف ميادين الحياة، فقلما كان فيه إبداع من صنع المواطن العربي المعاصر، إذ هو في حياته الشخصية والاجتماعية معتمد بصفة عامة على الموروث: إما عن طريق ما هو مدون في كتب السلف، وإما عن طريق التقاليد المتوارثة في صورها العملية، وأما فيما عدا ذلك من جوانب الحياة، كنظم الحكم وما يتعلق بها من أفكار ومذاهب، ونظم التعليم في مراحلها وأقسامها وفي المواد العلمية التي تدرس بها، ولك أن تضيف إلى ذلك تيارات الفكر المختلفة المتعلقة بالأوضاع الحضارية الجديدة، بما في ذلك مذاهب الفلسفة والسياسة والنقد والتذوق، وما إلى ذلك من أمور، أقول: أما عن هذا كله، فكان الأرجح فيه أن ينقل المفكر العربي عن الغرب نقلا مباشرا، اللهم إلا محاولات لفظية كانت تشاهد عند فريق يرفض - نظريا - ذلك الاغتراف من حضارة الآخرين وثقافتهم، لكنها محاولات لم تكن لتؤثر تأثيرا ظاهرا تتغير به الأوضاع كما هي قائمة أو متطورة على أرض الواقع، فنظم الحكم هي نظم الحكم، ونظم التعليم هي نظم التعليم، وهكذا ...

نعم، هكذا كانت الحال: «أحوال شخصية» (كما يسمونها) تلتزم التقليد والعرف وأحكام الشريعة كما يبينها علماء الدين، وإلى جانبها حضارة جديدة بصورها وما يلحق بها في عالم الفكر، مأخوذة من الغرب بصفة أساسية، فأين ما أبدعه «الفكر» العربي في أي شيء من ذلك؟ إن معظم «الأفكار» الأساسية التي كانت تدور حولها أوجه النشاط عند رجال الفكر منا يومئذ، لم تكن من إبداعنا العقلي، بل كانت منقولة عن مثيلاتها في الغرب، وخذ من تلك الأفكار أقواها ظهورا، وأوسعها شيوعا وأشدها تحريكا للضمائر، مثل فكرة «الحرية» و«العدالة» و«الوطنية» - وهي أمثلة نسوقها - ودقق النظر فيها سائلا من أين جاءت معانيها وأبعادها، لمن تناولوها من أعلام روادنا في عالم «الفكر» تجد مصادرها هناك في الغرب، وهي حقيقة قد تثير الدهشة للوهلة الأولى، وما هي إلا لحظة واحدة من مراجعة نزيهة، حتى يتبين الحق، فهذه «الكلمات» معروفة ومفهومة، وهي ألفاظ من لغتنا العربية، وهي ورادة في الكتب الموروثة عن السلف قليلا أو كثيرا، وأما «معانيها» الجديدة التي على أساسها احتدم اللهب الفكري على أقلام روادنا، فهي مأخوذة عن أصحابها من أبناء الغرب، ولا عجب في ذلك - إذا أردت النزاهة - لأن هذه المفاهيم وأمثالها لا تتحدد معانيها على صورة معينة ثابتة منذ تولد، بل هي تنمو في معانيها مع النمو الحضاري والثقافي، نموا يضيف إليها أبعادا من المعنى لم تكن لها في تاريخها الماضي، فلم يكن يرد على خاطر العربي في الماضي وهو يستخدم لفظ «الحرية» بعض معانيها، كالحرية التي يقابلها «الرق»، والحرية التي تختار بها «الإرادة» «مخيرا» لا مسيرا، وإنما أبعاد معانيها كما نعرفها اليوم، في السياسة، وفي الاقتصاد، وفي الفن والأدب، وفي تربية الطفل، وما إلى ذلك، فلم يكن لها وجود ظاهر، وحتى مفهوم «الوطنية» بمعناه السياسي والاجتماعي، لم يكن واضحا في الأذهان وضوحه عند الغرب الحديث، ومنه أخذه الآخرون وأخذناه، وهو مفهوم لا ندعي أنه خير كل الخير، بل نراه قد اقتضى روح التعصب القومي على نحو مسرف، كثيرا ما كان سببا في نشوب الحرب، حتى بين أبناء الأمة الواحدة، إذا أحس فريق منها أنه مختلف عن الفريق الآخر: عرقا، أو تاريخا، أو مذهبا، فأراد أن يستقل وحده في وطن خاص به.

والفقر في إبداعنا الفكري لا بد أن يثير سؤالا، وهو السؤال الذي وجده صاحبنا منذ أواخر الأربعينيات مطروحا ويتطلب الجواب، وأعني السؤال الذي يسأل: ما الذي أحدث فينا عندئذ عقم التفكير فامتنع الإبداع ، ولجأنا إلى الأخذ، عن أسلافنا مرة وعن الغرب الحديث مرة؟ وكان بعض الإجابة الصحيحة عن هذا السؤال - فيما ظن صاحبنا - هو الطريقة الغامضة التي نستخدم بها «اللغة» ولسنا نقصر القول في هذا على عامة الناس، بل نوسع مداه ليشمل رجال الفكر منا، بل ويشمل معهم كثيرين من رجال العلوم، والحديث عن «اللغة» من حيث هي، بالطريقة التي تدور بها على ألسنة الناس في أحاديثهم الجارية، بل وتدور بها كذلك على أقلام الكتاب فتترك انطباعها على القراء، ليس حديثا عن شيء جديد ظهر بعد أن كان خافيا، وإنما هو حديث رأيناه واردا عند كثيرين من أئمة الفكر، لا سيما عندما ينتقل التاريخ الفكري من عصر إلى عصر جديد، ففي مرحلة الانتقال، أو قل إن مرحلة الانتقال ذاتها لم تكن لتحدث إن لم يكن قد ظهر في الناس نابغ يلفت أنظارهم إلى ما توقعهم فيه «اللغة» من سقطات عقلية، لا ينقذهم منها إلا التدقيق في استخدامهم للغتهم، كلما كان موضوع الحديث من الجدية والأهمية والخطورة، بحيث يستوجب أن تكون «الفكرة» المنقولة والمحمولة في أصلاب التركيب اللغوي الذي ينقلها، فكرة واضحة الدلالة في المرحلة الزمنية والرقعة المكانية التي استخدمت فيها.

فذلك هو سقراط يقف بشخصه وجهوده مرحلة انتقال للتاريخ الفكري بين عصرين: عصر سبقه أراد أن يترك للعادات اللغوية وحدها أن تحدد المعاني، حتى ولو كانت تلك المعاني ذات أثر عميق في حياة الناس، ومن هنا أحيطت الأفكار بضباب من الغموض؛ لأن لكل فرد معين زاوية خاصة تلقى منها عاداته اللغوية، ولكي تفهم ذلك بطريقة واضحة انظر في عصرنا هذا، وفي بلدنا هذا، كم إجابة تأتيك إذا سألت جماعة متفرقة من المواطنين، ما الذي يفهمونه من كلمة «الاشتراكية» أو «الديمقراطية» أو «المواطن الصالح» ...؟! إنك على الأغلب واجد نفسك أمام إجابات تتعدد بتعدد الأفراد، أولا، وواجد - ثانيا - أن أحدا ممن أجابوك لا يعلم على وجه الدقة والوضوح ما الذي يعنيه بجوابه، ومن مثل هذه الحالة المضطربة في استخدام الناس للغتهم - مفردات وتراكيب - حاول سقراط ، في بلده وفي زمنه، أن يلفت أنظار الناس إلى ضرورة البحث إزاء كل مصطلح له أهميته، عن معناه الذي يكون في تحديده ودقته، بمثابة «التعريف المنطقي» الذي يقيمه العقل لذلك المصطلح، فليست هذه الدقة وما يلازمها من وضوح الفكر، نوعا من الترف الذي يمكن حذفه عند الضرورة، بل هو شرط أساسي لمن أراد حياة فيها مقومات التقدم والازدهار.

ولماذا اشتملت الخطوة العلمية الأولى في مسيرة الفكر الإسلامي، على العناية ب «اللغة» عناية أريد بها أن يقام البحث فيها على أسس علمية دقيقة؟ كان ذلك لأن كتابا كريما قد نزل بدين الإسلام، ولا بد أن تقام على ذلك الكتاب الكريم حضارة إسلامية وثقافة إسلامية، وذلك يستوجب أن يحيط المسلم بلغته إحاطة العلم الدقيق الواضح؛ لكي يتاح له فهم الكتاب الكريم فهما يعول على صحته، ثم لماذا حين أرادت أوروبا أن تنهض من ظلام عصورها الوسطى، قام فيها رجلان يرفعان للناس لواء «اللغة الواضحة» وهما ديكارت في فرنسا، وفرنسيس بيكون في إنجلترا؟ ونسأل للمرة الثالثة «لماذا» كان من أوائل ما صنعه رجال الثورة الفرنسية، في أواخر القرن الثامن عشر، أن أقامت مجمعا للبحوث العلمية، جعلت أحد أقسامه مختصا بما أسموه للمرة الأولى في تاريخ المصطلح الأوروبي «أيديولوجيا» لكنهم قصدوا به معناه الحرفي، وهو «علم الأفكار»؟ وكان علم الأفكار عندهم يهتم أول ما يهتم بدراسة «اللغة» دراسة تهدي إلى طريقة استخدامها على دقة ووضوح، كلما اقتضى الموقف فكرا واضحا ودقيقا.

هذه كلها أمثلة من تاريخ الفكر، تبين لنا كيف كان الانتقال بالفكر من عصر إلى عصر يليه ويتقدم عليه، مشروطا بنظرة جديدة إلى «اللغة» لتجعلها منارة دقة ووضوح، فلم يكن غريبا - إذن - على صاحبنا أن يلتفت هذه اللفتة، بل وأن يسعى إلى لفت الأنظار إليها، ولعل أقوى ما يمهد به إلى هذه اللفتة الجديدة الجادة، هو أن يتبين لنفسه أولا، لكي يبين للناس ثانيا، أن «اللغة» التي يضع فيها المفكر فكره لينقله إلى سواه، هي هي «الفكر» نفسه، وها هنا فلنتمهل قليلا، ولنتأمل قليلا؛ حتى لا تضيع منا هذه الفكرة وأهميتها فيما نحن بصدد الحديث فيه: فالمألوف بين الناس أن ينظروا إلى العبارة اللغوية نظرتهم إلى «وعاء» يملأ بما يملأ به، أو يترك شبه فارغ من مادة تملؤه، أي إن المألوف بيننا هو النظر إلى العبارة اللغوية نظرة تجعلها شيئا آخر غير المعنى الذي جاءت لتؤديه، لكن اللفتة الجديدة التي نلفت الأنظار إليها، تمهيدا للوضوح الفكري الذي نبتغيه، هي أن العبارة اللغوية هي نفسها الفكرة، إذا غابت معها الفكرة، وإذا اضطرب نظمها اضطرب معه معناها، وليس هذا القول جديدا كل الجدة حتى على أبناء اللغة العربية والفكر العربي، فقد كانت النتيجة التي انتهى إليها عبد القاهر الجرجاني من بحثه عن أسرار البلاغة - وتذكر أن هدفه من بحثه كان آخر الأمر كشفه عن بلاغة القرآن الكريم ما سرها؟ - أقول: إن النتيجة النهائية التي انتهى إليها عبد القاهر الجرجاني من كتابيه «أسرار البلاغة، وإعجاز القرآن» هي أن السر كامن في الطريقة التي ترتب بها مفردات الجملة، وهكذا تكون الحال كذلك لو سألنا: ما سر الوضوح في عالم الفكر؟ كان الجواب أنه في الطريقة التي تساق بها الكلمات.

ولقد عاد صاحبنا وقلبه ينبض بالحنين، وعقله متوثب بعزم وتصميم، أن يجعل الدعوة إلى الفكر ووضوحه غاية غاياته ...

مطالع النور «1»

ما أكثر ما تكون الحقيقة الضائعة ماثلة بين يديك ولا تراها، لا عن علة في البصر، ولكن لأنك لم تعرف كيف توجه البصر توجيها سديدا، ومن أوضح الأمثلة على ذلك - فيما يروي صاحبنا نقلا عن خبرته المباشرة - أن ترى جماعة من الناس تفرقت مذاهب وأحزابا على وهم من الأطراف المتحركة بأن ثمة بينها خلافا في الرأي، وإذا بنظرة مفاجئة كاشفة، تبين للمختلفين بأن كل ما اختلفوا به بعض عن بعض، هو الصورة اللغوية التي اختارها كل منهم ليصف بها رؤيته، أو هو أن كلا منهم وقعت عينه على ناحية واحدة من نواحي الموضوع المختلف عليه، وبذلك تصبح حقيقة الأمر هي أن تجمع زوايا النظر بعضها إلى بعض، فإذا بحاصل جمعها هو الحقيقة المنشودة، أي إن الأطراف التي كانت متنازعة على ظن منها بأنها أطراف تتعارض ولا تتلاقى، إنما هي أجزاء متفرقة من كيان واحد، وحكاية جماعة العميان والفيل معروفة، فقد أرادوا معرفة الفيل بلمسات الأيدي، وحدث أن لمسه كل منهم عند موضع واحد من جسمه الكبير، فاختلفت صورة الفيل بينهم بمقدار ما اختلفت مواضع اللمسات، فكان الفيل عند أحدهم قرصا مستديرا، وعند الثاني جسما أسطواني الشكل، وعند الثالث سطحا خشنا مقوسا، وعند الرابع عمودا ضخما غليظا، وهكذا، فمن ذا ينبئهم بأن الفيل على حقيقته هو مجموعة الأجزاء سوى مبصر يرى الحقيقة في تكامل أجزائها.

أمثلة ذلك في حياة الفكر كثيرة، يهمنا منها في سياق حديثنا هذا، ما رواه صاحبنا عن نفسه في لحظة مشرقة، حين أدار الفكر فيما يتقسم عصرنا من مذاهب فلسفية تتصارع، وقد وجد نفسه متحصنا بمذهب منها، وضللته الأوهام حينا من دهره كما ضللت سواه، ولو كان الخلاف بين تلك المذاهب المتصارعة مقصورا على أصحابها هناك في الغرب لجاز أن نلوي شفاهنا ونهز أكتافنا، قائلين إن الشأن ليس شأننا، لكننا هنا على أرض الوطن قد تحولنا بقدرة قادر إلى مرايا، لكل مرآة منها ما تعكسه على سطحها من تلك المذاهب المتنازعة، ولم تقنع مزايانا الفكرية بأن تعكس أضواء سوانا، بل أخذت بدورها تعترك ليهشم بعضها بعضا، وهكذا أخلصت كل مرآة لما عكست.

وفي تلك اللحظة المشرقة التي أشار إليها صاحبنا، سأل نفسه سؤالا تمليه البديهة، قائلا: كيف يمكن للعصر الواحد أن يتجزأ بين رؤى بينها كل هذا الاختلاف المزعوم؟ إن جوهر العصر التاريخي المعين، الذي بفضله يصبح العصر عصرا متميزا مما سبقه وما سوف يعقبه، هو تلك «الرؤية» الخاصة التي توحدها بين فئات الناس وأفرادهم غاية مشتركة تستقطب أوجه النشاط على تفرقها، فكيف إذن نخلع على عصرنا هذا صفة العصر وهو على هذا الذي نظنه فيه من تمزق الرؤى تمزقا لا يجمعها على هدف مشترك؟ وهنا أشرق على صاحبنا السؤال: أحقا تتباين المذاهب الفكرية في عصرنا كل هذا التباين الذي توهمناه؟

تعالوا نراجع معا حقيقة الموقف الفكري كما هو قائم بالفعل في عصرنا، ولكي نتفق جميعا على أساس نقيم عليه هذه المراجعة، سنفرض صحة الأساس الذي أقام عليه صاحبنا وجهة نظره، في هذه المسألة الفكرية التي نحن الآن بصدد الحديث عنها، ألا وهي: أن الحياة الفكرية في أي عصر تظهر على حقيقتها فيما قد أفرزه ذلك العصر من فكر فلسفي على وجه التحديد، لماذا؟ لأن الفلسفة بمعناها الصحيح، وهو المعنى الذي يؤيده تاريخها، إذ هو المعنى الذي نراه متمثلا في أعمال أولئك الذين وصفوا بهذه الصفة، وأبقى عليهم الزمن موصوفين بهذه الصفة، أشارت إليهم المؤلفات على أنهم «فلاسفة» وأشارت إلى أقوالهم على أنها «فلسفة»، فلكي نكشف عن السمات الفكرية التي تميز عصرنا، فما علينا - بناء على الأساس الذي ذكرناه - سوى أن ننظر لنرى أهم المذاهب الفلسفية التي تستوعب عصرنا الحاضر، متمثلا في صانعيه وهم أهل الغرب، ولا يغير من هذه الحقيقة أن تكون هنالك أمم وشعوب، رافضة للعصر وحضارته وثقافته وداعية أبناءها إلى العودة لما كان عليه أسلافهم في ماضيهم المجيد، لكن هؤلاء بكل مالهم من حق في اختيار الجهة التي يوجهون إليها خطواتهم، فهم في الوقت نفسه ليسوا هم هذا «العصر» بحكم رفضهم له، وإدارة ظهورهم لمقوماته؛ كي يتوجهوا بوجوههم نحو الفترة الزمنية التي اختاروها وهي الماضي.

أما عن المذاهب الفلسفية التي تتقسم فيما بينها شعوب الغرب من أهل أوروبا وأمريكا الشمالية، فالأساس منها أربعة، جاء تقسيمها مطابقا على وجه التقريب، للرقعة الجغرافية التي يقع فيها كل من تلك المذاهب الأربعة، ففي الشمال الغربي من أوروبا تسود الرغبة في تحليل العلم إلى أبسط وحداته المنطقية، التي من تركيباتها تتكون العلوم المختلفة، وفي غربي أوروبا تسود الرغبة في أن يتجه الفكر الفلسفي نحو ما ينبغي أن يكون جوهرا للإنسان، وهو أن يكون كائنا مريدا وفعالا لما يريد، مع تبعة أخلاقية يلتزمها الإنسان فيما أراد وفعل، وفي شرقي أوروبا تسود رغبة في أن تكون الحياة الإنسانية مدار التفكير، إلا أنها الحياة الإنسانية في صورتها المجتمعية، وليس في صورتها الفردية كما هي الحال في غربي أوروبا، وفي أمريكا الشمالية تسود الرغبة في أن يتجه الاهتمام نحو المستقبلية، وبذلك يختلف العلم الصحيح عن العلم المغلوط، في أن الأول هو ما يمهد الطريق إلى مستقبل أغنى وأقوى، وأما المغلوط فهو يرد معايير صوابه إلى حقائق مضت وانقضى زمانها، تلك هي المتجهات الأربعة على وجه التعميم والتقريب، وليس على وجه القطع والتحديد، وإلا فلا يخلو قط أن تجد هنا وهناك فروعا لها قيمة كبرى، ولأصحابها منزلة رفيعة، إلا أنها ليست هي ما يعطي العصر ملامحه وقسماته.

وسؤالنا إزاء هذه الأقسام هو: أهي حقا - كما يبدو من ظاهرها - أضداد لا تلتقي؟ بحيث إذا وصفنا مجتمعا ما بأحد هذه الأقسام، فلم يعد يجوز لنا أن نصفه بما يوصف به أي قسم من الأقسام الأخرى؟ أم هي في حقيقة أمرها «زوايا» مختلفة للنظر بمعنى أن كل مذهب منها قد اختار وجها واحدا من وجوه العصر، مؤثرا إياه على سائر الوجوه في أحقية الاهتمام والنظر، وإذا صدق هذا الرأي كان عصرنا هو كل تلك الزوايا جميعا، وكان علينا عندئذ البحث عن الحقيقة الأساسية التي تكمن وراءها، ولم يكن صاحبنا يشك لحظة في أن عصرنا هو مجموع وجهات النظر الأربع معا، وأراد ذات يوم أن يوضح هذا الرأي لمن أنكره عليه، فأشار له إلى «سجادة» فرشت على أرض الغرفة، قائلا له: إننا نستوعب القول عن هذه «السجادة» استيعابا كاملا، إذا نحن استوفينا الإجابة عن أسئلة أربعة عنها فنسأل عمن صنعها وكيف صنعها؟ ثم نسأل ثانيا لأي شيء صنعها صانعها بالطريقة التي صنعها بها؟ ثم نسأل ثالثا عن نوع المادة التي صنعت منها ماذا عسى أن تكون؟ ثم نسأل رابعا عن الصفة الأساسية بين صفاتها التي بررت لنا أن نقرر بأنها «سجادة» لها حق الوجود في عالم الأشياء على هذا الأساس ، فلا هي خرقة من القماش ولا هي قطعة من الخيش.

دقق النظر في هذه الأسئلة الأربعة حول «السجادة» التي كانت موضوعا للحديث، وهي أسئلة تستوعب الإجابة عنها كل ما يراد معرفته عنها، تجد أن المذاهب الفلسفية الأربعة التي تتقسم الفكر في الغرب، إن هي إلا ضرب من محاولات أربع، أجابت كل منها عن سؤال واحد من الأسئلة الأربعة التي يمكن السؤال بها عن عصرنا هذا وخصائصه التي تميزه، فأوروبا الشرقية، التي هي بمنزلة من أراد أن يهتدي بحركة التاريخ في تكوين الحياة الحاضرة، لاءمتها النظرة المادية الجدلية في فهمها للتاريخ، فالتاريخ عندها محصلة صراع بين أصحاب المال وأصحاب العمل، فإذا استطاع الحاضر أن يجمع الجانبين في المواطن الواحد، بحيث يكون هو العامل المنتج وهو في الوقت نفسه الذي يملك وسائل الإنتاج، ذابت الطبقية وانتهى الصراع، أقول: إن أوروبا الشرقية باصطناعها لهذا الموقف كانت كالذي نظر إلى «السجادة» (في المثل الذي أسلفناه) ليسأل: من صانعها وكيف صنعها؟ وأما أمريكا الشمالية، وعلى وجه التخصيص الولايات المتحدة، فقد اتخذت لنفسها (في مثل «السجادة») موقف من سأل: لأي شيء صنعت؟ إذ هو موقف من يسأل عن المنفعة المستقبلية للشيء المعين، أو للفكرة المعينة، وعلى هذا الأساس يجيء الحكم بالصلاحية أو بعدم الصلاحية لموضوع الحكم، وأما الشمال الغربي من أوروبا، فقد وقفوا موقف من يسأل عن خامة «السجادة» ما هي؟ وذلك لأن أهم ما شغل به فلاسفة ذلك الركن الجغرافي من أوروبا، هو أقرب ما يكون إلى تحليل البنية العالمية تحليلا يردها إلى خامتها الأساسية، وبقيت أوروبا الغربية، فكان سؤالها هو عن مبرر الوجود لما هو موجود مما نريد فهمه وتقويمه، فما هي الصفة الأساسية التي بها يكون الإنسان إنسانا؟ أيكفي - مثلا - أن يكسب العلم بحقائق الأشياء ليكون إنسانا؟ أيكفي لذلك أن يعرف حقيقة التاريخ وأن يصوغ حياته على أساس تلك الحقيقة التاريخية؟ وهل يكفي أن يصور لنفسه المستقبل الغني القوي فيعمل على تحقيقه ليكون إنسانا؟ لا، إن ذلك كله مطلوب ولكنه ليس هو جوهر الإنسان في إنسانيته، بل إن جوهره هو أن «يريد» وأن يسلك وفق ما أراد، متحملا تبعة ما قد أراد وفعل.

هي إذن اختيارات لهذا الركن أو ذلك الركن من أركان أربعة لمربع واحد، وذلك هو عصرنا في واقعه الفكري، وأما «المربع الواحد» في تشبيهنا، فهو «الإنسان»، فمذاهب عصرنا الفكرية جميعا، قد تلاقت على موضوع واحد، هو «الإنسان»، هنا على هذه الأرض، من هو؟ وكيف ينبغي له أن يكون؟ فكأنما أجاب الشمال الغربي لأوروبا قائلا: إن إنسان العصر هو من يبني حياته على العلم. وأجاب الأمريكي: إنه هو من يقيم على ذلك العلم صناعة تلد مستقبلا ناجحا مأمولا. وأما أهل القارة الأوروبية فيجعلون الأولوية لحياة الإنسان قبل أن يجعلوها لعلمه وصناعته، إلا أن الجانب الغربي من أوروبا ركز اهتمامه على الإنسان فردا، بينما ركز الجانب الشرقي اهتمامه على الإنسان مجتمعا.

تلك هي نظرات الفكر حول حقيقة عصرنا، كما نراها عند مبدعيه، فماذا عن سائر الأمم، والأمة العربية منها على وجه الخصوص؟ فأولا: كان موقف الأمة العربية إزاء هذا كله موقفا سلبيا، يتلقى قارئا لما يكتبه أهل الغرب، أو منصتا لما يقوله العارفون، وثانيا: نلاحظ أن أوساط المثقفين من الأمة العربية قد غلب عليهم رفض ثلاث إجابات عن الإنسان، من الإجابات الأربع التي أسلفنا ذكرها، كما غلب عليهم الجهل بالإجابة الرابعة فلم يكن لهم فيه رفض واضح أو قبول واضح، ومع ذلك فقد اختلفت بينهم أسس الرفض وأسس القبول.

فالفكر الشيوعي في شرقي أوروبا، والفكر الوجودي في غربيها، معروفان بدرجات تتفاوت سطحية وعمقا بين جماعة المثقفين، ولكنهما مرفوضان معا على أساس ديني أولا، وبعد ذلك قد تجيء أسباب أخرى، وهنا يجب أن نذكر بأن للمذهب الوجودي جانبين، فجانب منهما مؤمن ومن هذه الناحية هو مقبول، وجانب آخر ينتهي إلى موقف ملحد، وهو لذلك مرفوض، كما يجب كذلك أن نذكر بالنسبة إلى الفكر الماركسي في شرقي أوروبا، أن هنالك منا من قبلوه من ناحيته السياسية، مع الثبات على رفضه من ناحيته اللادينية، وظنوا أن الأخذ بجانب من المذهب والتنكر للجانب الآخر أمر ممكن، وأما عن «براجماتية» النظرة الأمريكية فهي على الأغلب لا تلقى الرضا، وأغلب الظن أن ذلك النفور يرجع إلى كراهية سياسية قبل أن تكون نتيجة لدراسة واعية، وإلا لما كانت تلك «البراجماتية» ذاتها، قد لقيت منا قبولا في دوائر التربية والتعليم، من الوجهة النظرية على الأقل، وبقي من المواقف الأربعة ذلك الموقف الذي اتجه بمعظم اهتمامه الفكري - على المستوى الفلسفي - نحو تحليل العلوم تحليلا ردها إلى وحداتها الأولية، وهنالك ظهرت الفوارق بين مختلف فروعها ظهورا واضحا، وقل أن تجد بين أوساط المثقفين عندنا من يتجه باهتمامه نحو هذا الطريق الفكري؛ ولهذا فهو - على وجه العموم - بمنجاة من القبول ومن الرفض على السواء، إلا أن يجدوا شيئا منه قد تعرض له من يقاومونه فيستنكرونه بالكراهية، وليس بالعقل وميزاته.

ذلك هو بعض ما يقال عن ردود الفعل عند جماعة المثقفين في الأمة العربية لتيارات الفكر في الغرب المعاصر، متمثلة في مذاهبه الفلسفية، وهي ردود فعل تغلب عليها السلبية - كما ترى - ولذلك نستطيع القول على وجه الإجمال بأن تلك المذاهب لم تؤثر في تكوين الفكر العربي المعاصر، بالرغم من كونها مقررات دراسية في معظم الجامعات العربية، ولكن كل ما يدرسه الطلاب في قاعات الدرس، هو ذو أثر ملحوظ في الحياة الفكرية العامة خارج أسوار الجامعات، إذن لا بد لسؤال أن يطرح نفسه علينا هنا، وهو: بأي متجه فكري تسير الأمة العربية في حاضرها؟ والإجابة السريعة عن هذا السؤال، هي أن الأمة العربية لا تلتقي على هدف فكري واحد، كما كان ينبغي لها أن تفعل، فما يتحمس له زيد يتنكر له عمرو، وذلك يفسر ازدواجية من الازدواجيات الكثيرة التي تكتنف حياتنا، وأعني بها ازدواجية «الحضارة» من جهة، و«الثقافة» من جهة أخرى، فهنالك في الغرب المعاصر حركة علمية قوية مبدعة تنتج عنها كل يوم كشوف جديدة سرعان ما يتجسد أثرها في أجهزة وآلات، فلا يتردد العربي في شراء ما يستطيع شراءه منها، لمستشفياته، ومواصلاته، وصناعاته ، ولكل جانب من جوانب حياته العملية، على أنه يرى في الوقت نفسه، أن في مستطاعه رفض الفكر الذي أدى بأصحابه إلى تلك الكشوف العلمية وما نتج عنها، فجاءت وسائله «الحضارية» على صورة، وحياته «الفكرية» على صورة أخرى.

ذلك هو المشهد الذي رآه صاحبنا منذ الأعوام الأخيرة من الأربعينيات، وبدا له في جلاء أننا بين أمرين، لا بد من اختيار أحدهما في شجاعة المؤمن: فإما أن نسد الفجوة بين مظهرنا الحضاري ومخبرنا الثقافي، بأن نقبل الحضارة فنكيف لها الجانب الثقافي، وإما أن نختار الحفاظ على حقيقتنا الثقافية، فنرفض المظهر الحضاري المستعار، وصدق الرسول عليه الصلاة والسلام إذ قال: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ...» فمن حق كل منا أن يختار أحد الخيارين، على أن يتصدى لشرح ما اختار والدفاع عنه، وكان اختيار صاحبنا هو أن يؤخذ الوجه الحضاري من عصرنا، وأن يكيف المضمون الثقافي ليتلاءم مع الظاهر الحضاري المأخوذ.

لكن هذه الصيغة لا بد لها من ضوابط وتحفظات، وإلا أمن أن ينبثق منها شر لا نرضاه، إذا هي فهمت على إطلاقها، فما الذي يجوز تغييره من مضمونات حياتنا الثقافية لتتم الملاءمة مع حضارة العصر؟ ثم ما الذي نريد له أن يؤخذ من عناصر تلك الحضارة بحيث لا نشوه جوهرها، ولا نقتات في الوقت نفسه على اللب الثقافي الذي يميزنا أمة لها من السمات الخاصة ما تنفرد به؟ قد يبدو للوهلة الأولى أننا بهذه القيود نكون قد نسفنا الغاية التي نتغياها، ويصبح شأننا كشأن من قيل عنه: ألقاه في اليم مكتوفا، وقال له: إياك إياك أن تبتل بالماء، بيد أن حقيقة الأمر في موقفنا، أيسر جدا مما قد يبدو.

إن مقومات الحياة الثقافية في تميزها وتفردها بالنسبة إلى نظائرها في سائر الشعوب، إنما تكمن أساسا في أربعة أركان هي: الدين، والفن بما فيه فنون الأدب، ومجموعة من التقاليد والأعراف تتناقلها الأجيال لاحقا عن سابق، ثم مجموعة من الأفكار التي في صميمها موجهات للناس في حياتهم العملية، بما تنطوي عليه من معايير وأهداف ، فإذا طالبنا بأن يتكيف المضمون الثقافي من حياتنا ليلائم الوجه الحضاري الجديد، منقولا إلينا من الغرب، كان هذا الذي نطالب به متغيرا تتغير صورته بالنسبة إلى كل مقوم من المقومات الثقافية الأربعة التي ذكرناها، فأما أول تلك المقومات، وهو العقيدة الدينية، فهو مقوم ذو حصانة، فلا يجوز لمن يؤمن بعقيدة دينية أن يغير منها ويبدل بحسب الظروف الطارئة، وإلا فقدت معناها من حيث هي «عقيدة» ومن حيث هي «دين»؛ ففي صلب «العقيدة» يكمن إقرار من حاملها بأنها هي «المبدأ» الذي يترتب عليه الحكم بصحة الصحيح وفساد الفاسد، والعكس هنا غير صحيح، فليست طوارئ الظروف والأحداث هي التي تفرض نفسها على «المبدأ» ليتغير معها كلما تغيرت، والأمر في ذلك شبيه بالأمر في الميزان وما يوزن به، فالميزان ثابت، وموازين الأشياء التي يزنها هي التي تخضع لمعاييره، وأما من حيث هي عقيدة «دينية» فالإلزام بالثبات يزداد ضرورة وإحكاما؛ لأن «الدين» بحكم تعريفه أمر إلهي، فإذا آمنت به لم يعد من حقك أن تغير فيه، شريطة أن يظل للمؤمن المؤهل أن يرى الرأي في فهم النصوص، لأن اللغة بطبيعتها كثيرا ما تفسح المجال لتعدد معانيها.

إذن فليس هو الجانب الديني من النسيج الثقافي الخاص، هو الذي يتغير أمام الحضارة الجديدة الوافدة ليتلاءم معها، وإنما الذي يمكن أن يتكيف لها فهو المقومات الثلاثة الأخرى: الفن ومعه الفن الأدبي، التقليد والأعراف، مجموعة الأفكار حاملات القيم والأهداف، وليس في ذلك من شك أو حرج؛ لأن التاريخ شاهد على صدق هذا الزعم، فليس بين شعوب الأرض شعب لم يتعرض للتغيرات مع مراحل التاريخ فنه، وأدبه، وشيء من تقاليده وأعرافه، وطريقته في فهم الأفكار الكبرى الموجهة للسلوك والأهداف، وأن ما قد طرأ بالفعل على الفن العربي: موسيقاه، وتصويره، وعمارته، وأدبه، من تحولات في عصرنا هذا، بحيث اختلفت كل هذه الجوانب عما عرفناه عنها خلال عصورنا الماضية جميعا، ليشهد بأن ما نزعمه لتلك الجوانب من قابلية التغير ابتغاء الملاءمة مع ظروف عصر جديد، لا يقبل ريبة المرتاب، وكذلك قل في التقليد والعرف، فأمام أعيننا ما يتحول به الناس تدريجا في هذا المجال، تحت ضغط الحياة الجديدة وما تقتضيه.

وبقي الحديث عن المقوم الرابع، وهو «الأفكار» التي تنطوي على قيم وأهداف، فلعل هذا العامل - فيما نرى - هو أهم العوامل الثقافية جميعا في عملية التغيير والتطوير، وما هي تلك «الأفكار» التي نشير إليها؟ إن الخريطة الثقافية أينما كانت، تتألف من طرفين ووسط يقع بينهما، والطرفان هما: طرف «العلوم» التي يراد فيها أن تنسحب الذات الإنسانية بميولها ونزعاتها وانفعالاتها وعواطفها انسحابا يجب أن يبلغ أقصاه، بحيث لا يبقى منه إلا ما ليس في وسع البشر التخلص منه؛ وذلك لنضمن لقوانين العلوم وأحكامها «موضوعية» تامة ما استطعنا إلى ذلك من سبيل، وأما طرف الفن والأدب فها هنا مجال الذات تضع نفسها على أي نحو شاءت، فلا حرج عليها في أن تطلق العنان للطاقة الوجدانية الفردية الخاصة، إطلاقا لا يحدده إلا ضوابط الإبداع الفني في المجال الذي يبدع فيه المبدع؛ ولهذا فبينما نحن في مجال العلم نسقط عن الإنسان فرديته التي ينفرد بها كي نخلص إلى ما هو عام ومطلق يصدق في كل مكان وفي كل زمان، فنحن في مجال الفن والأدب نسقط عن الموقف المعين ما هو مشترك بينه وبين غيره، لنبحث فيه عما يجعله فردا فريدا متميزا عن أي شيء سواه، وبين هذين الطرفين: طرف العلم من ناحية، وطرف الفن في ناحية ثانية، هنالك كائنات وسطى لا هي فن من الفن، ولا هي علم من العلم، ومع ذلك فهي تسري في كليهما سريان الدم في الشرايين، وتلك الكائنات الوسطى هي مجموعة من «أفكار» من قبيل الحرية، المساواة، الديمقراطية، الكرامة، الانتماء، الوفاء، الوطنية، التعاون إلخ إلخ، هي أفكار لم يخل منها، ولن يخلو أبدا إنسان يتعايش في مجتمع واحد مع آخرين، إذ فيها تكمن الضوابط التي تضبط العلاقات الضرورية لتفاعل الأفراد بعضهم مع بعض، ومن أخص خصائص هذه «الأفكار» استحالة تعريفها تعريفا يبين حدودها إلا على سبيل التقريب؛ وذلك لأن كل واحدة منها تنمو مع درجات النمو التي يصعد بها الإنسان نحو الأكمل، فإنسان العصر الحجري لا بد أن يكون قد احتفظ لنفسه بالحرية - مثلا - بحد من حدودها وبمعنى من معانيها، وجاءت بعده عصور الحياة البشرية تدرجا صاعدا، من مرحلة الصيد، إلى مرحلة الرعي، إلى مرحلة الزراعة، ثم إلى مرحلة الصناعة في صورها التي تدرجت بدورها حتى بلغت ما يحيط بنا من صناعات تقنية (تكنولوجية) ومع كل مرحلة من هذه المراحل، اتسع أفق «الحرية» وكثرت جوانبها وأبعادها، ولهذه المرونة الشديدة في معاني كل فكرة من «الأفكار» التي نشير إليها، قد تجد في العصر الواحد - كعصرنا الحاضر - مجمعا إجماعا لا استثناء فيه، على وجوب «الحرية» للإنسان، و«الديمقراطية» ... إلخ، لكن انظر كم تختلف الحدود لكل من هذه الأفكار في شعب عنها في شعب آخر، فما هو معدود في إطار الحرية عند هذا الشعب يعد خروجا إلى هوامش التمرد والفوضى عند ذلك الشعب، وما هو «ديمقراطية» في بلد ديكتاتوري الحكم يعد تسلطا واستبدادا في بلد آخر، وهكذا، وها هنا في مجال هذه المجموعة الخطيرة من «الأفكار» نجد الفرصة مواتية في تفسيرها على نحو يساعد مجتمعنا العربي على التغير المطلوب، لمواجهة ما عسانا ناقلوه من حضارة عصرنا، دون أن تتأثر بذلك الهوية العربية، بل العكس أقرب إلى الصواب، إذ يعمل التوسع في فهم هذه «الأفكار» على مزيد من الغزارة في إنسانية الإنسان، هذا - إذن - هو المضمون الثقافي الخاص، أين نغيره وكيف نغيره، وبقي أن ننظر في الجانب الثاني من جانبي القضية، وأعني الجانب الحضاري الذي نرى ضرورة نقله عن مصادره، ولنذكر دائما أن العلاقة بين «الحضارة» و«الثقافة» هي شديدة الشبه بالعلاقة بين جسم الإنسان وروحه، فالجانب الحضاري كله منشآت مجسدة أو ما يؤدي إلى إقامتها، وحضارة عصرنا مدارها الأساسي علوم طبيعية نجحت نجاحا متسارعا في قراءة الظواهر الكونية قراءة استخرج بها العلماء أسرار تلك الظواهر وصاغوها في قوانين، وعلى الرغم مما تقدمت به العلوم الرياضية، إلا أنها ليست هي الطابع المميز لعصرنا؛ لأن التفكير الرياضي والبراعة فيه قد تحقق للنابغين من أبناء العصور الأولى، وأما الجديد حقا فهو العلوم الطبيعية ، خصوا في صورتها التقنية المعاصرة، ثم نتجت نتائج - بالطبع - لما كشف عنه الإنسان من أسرار الكون وتفرعت النتائج، حتى انتشرت لنرى آثارها قد دخلت كل بيت، لينعم بها كل إنسان، أيا كانت درجة علمه، أو ثرائه، أو مكان إقامته، وكان لا بد لهذا كله أن يحدث آثاره في حياة الناس، فردية كانت أم اجتماعية، ومثل هذه الآثار الجانبية التي تتولد عن الحقيقة الأم، ألا وهي أن تكون السيادة في عصرنا للعلوم الطبيعية، هي مما يمكن توجيهه والتحكم فيه، فتختلف من شعب إلى شعب، فمثلا قد نتج عن العلم جهاز يذيع الصوت ويذيع الصورة حول العالم بأسرع من البرق، وفي هذه الحقيقة العلمية يشترك الجميع، لكنهم لا يشتركون - إذا شاءوا الاختلاف - في مضمون الصوت أو الصورة المذاعين، فلكل منا أن يختار ماذا يذيع لينفع الناس في إطار تصوره للنفع كيف يكون، واختصارا فإن للعلم أن يزودنا بوسائل القوة، ولكل شعب حريته - في حدود ثقافته - أن يختار نمطه الخاص في استخدام تلك الوسائل.

فعصرنا كأي عصر آخر علمه نور، وثقافتنا كأية ثقافة أخرى تختار لنفسها كيف تستضيء بذلك النور.

مطالع النور «2»

هي صفة واحدة، لو أتيح لها أن تشيع في جماعة من الناس اتساعا وعمقا، لكانت وحدها كفيلة أن تحقق لتلك الجماعة قفزة جبارة إلى أعلى وإلى أمام في وقت واحد، ألا وهي صفة «الصدق»، ولهذه الصفة أبعاد كثيرة وخطيرة، تجاوز بها المجال الخلقي المحدود، الذي ألف معظم الناس أن يجدوا فيه هذه الصفة مستخدمة، وهو المجال الذي يروي فيه راوية عن حدث وقع أو عن حديث قيل، بحيث تجيء روايته وصفا صحيحا للحدث، أو نقلا أمينا لما قيل، فعندئذ نقول عن ذلك الراوية إنه صادق، فإذا حللنا موقف «الصدق» تحليلا يبين أطرافه، وجدناه موقفا يتضمن صورتين، قد تكونان من نوع واحد، كأن تكون كلتاهما تركيبة لغوية تكرر إحداهما الأخرى لفظا ومعنى، وقد لا تكونان من نوع واحد، كأن يشهد شاهد أمام المحكمة بما قد رآه في حادثة معينة، فتجيء الصورة «اللفظية » التي يقدمها مطابقة للحادثة في تفصيلاتها وما بين تلك التفصيلات من علاقات، فتفصيلات الحادثة وطريقة ارتباطها بعضها ببعض ليست «ألفاظا» لغوية، كما كانت شهادة الشاهد ألفاظا، إلا أن الصورتين برغم اختلافهما مادة، فقد تكونان متطابقتين، ومن هنا يجيء صدق الشهادة، ولكن كيف يتحقق التطابق التام بين صورتين اختلفتا مادة، بل وشكلا، اختلافا يبلغ أن تكون إحدى الصورتين مرئية بالعين، وتكون الأخرى مسموعة بالأذن، وبين المشهود والمسموع ما بينهما من اختلاف الخامة، فالمشهود في حالة البصر موجات من الضوء، والمسموع بالأذن موجات من الصوت، ولكل من الحالتين عصب أو أعصاب تتلقى، غير العصب أو الأعصاب التي تتلقى في الحالة الأخرى، لكننا نرجئ القول في الطريقة التي تتطابق فيها المختلفات مادة وتكوينا، إلى موضع آخر من هذا الحديث، وحسبنا الآن أن نقول: إن مثل هذا التطابق بين ما يرويه الراوية عن حدث رآه، أو عن قول سمعه، هو ما قد ألف معظمنا أن يستعمل في شأنه صفة الصدق والصادق، وهو نفسه المعنى الذي يكاد يقتصر عليه المبدأ الخلقي.

لكن هذا الهيكل الصوري نفسه، الذي يتألف من جانبين متطابقين، انطباقا لا يمنع تحققه اختلاف الجانبين مادة وشكلا، أقول: إن هذا الهيكل الصوري نفسه، يمتد نطاقه ليشمل حالات أخرى، في ميادين متباعدة متباينة، ومن ثم يتسع مجال «الصدق» اتساعا يستوعب في آفاقه كثيرا جدا من مقومات الحياة، إذ يشمل العلوم بجميع فروعها، كما يشمل الدين، والفن، والأدب، والعلاقات الاجتماعية في حياة الناس العملية جميعا، كيف؟ ذلك هو ما سوف نبينه ما استطعنا له بيانا، على أن يكون معلوما بادئ ذي بدء، أن المعاني المباشرة لصفة «الصدق» تبدو في ظاهرها مختلفة باختلاف ميادين استعمالها، لكنه اختلاف ظاهري، وراء هيكل شكلي واحد، يدل على العلاقة الأسرية بين تلك الفروع الكثيرة؛ فكل «صدق» في مجال معين هو أخ شقيق لكل «صدق» آخر في مجال آخر، ومن هنا رأينا في فاتحة هذا الحديث أن هذه الصفة الواحدة كفيلة وحدها، إذا ما رسخت في أخلاقيات جماعة معينة من الناس ، أن تقفز بها قفزة جبارة إلى أمام وإلى أعلى، وسبيلنا الآن أن نفصل القول في بعض الفروع فرعا فرعا، ليزداد القارئ وضوحا فيما أجملناه.

ونبدأ بالصدق في مجال «العلوم»، والعلوم - كما هو معروف - ثلاث مجموعات أساسية: رياضية، وطبيعية، واجتماعية (أو إنسانية)، وذلك على أساس موضوعاتها، لكنها من ناحية منهج البحث تصبح مجموعتين، إذ تنضم العلوم الاجتماعية مع العلوم الطبيعية في منهج واحد، وتقوم الرياضة وحدها منفردة مع شقيقها علم المنطق، تحت لواء منهج آخر، على أن العلوم الاجتماعية أو الإنسانية مختلف عليها: أهي فرع من العلوم الطبيعية منهجا؟ أم هي قائمة برأسها في منهج خاص بها؟ لكن صاحبنا وهو يرسم خطته الفكرية التي اعتزم النشاط على أساسها، أخذ بوجهة النظر الأولى، ومع ذلك فلتختلف فروع العلم موضوعا ومنهجا ما شاء لها أصحابها أن تختلف، فهي جميعا - من الزاوية التي تهمنا في هذا الحديث - تقيم صدقها على أساس الهيكل الصوري الذي ذكرناه، وهو أن يكون في كل حالة صادقة من حالاتها جانبان متطابقان.

فإذا كنت في مجال العلم الرياضي أمام معادلة، أو أمام فرض ونتيجة تلزم عنه، ففي كل من الحالتين أنت أمام طرفين، ويتوقف الصدق على ما بين الطرفين من تطابق، فإذا كانت المعادلة في الحالة الأولى - مثلا - 3 + 4 = 7، فلكي ترى التطابق واضحا، حلل كل شطر من شطري المعادلة إلى آحادها، تجد بين يديك سبعة آحاد في كل منهما، ولو كان الذي بين يديك هو فرض ونتيجة تلزم عنه، كقولنا - مثلا - إذا «أ» ضعف «ب»، كانت «ب» نصف «أ»، ففي هذه الحالة، إذا أردت رؤية التطابق بين الفرض والنتيجة، حلل معنى كلمة «ضعف» وكلمة «نصف» فعندئذ ترى أن الفرض بأن «أ» ضعف «ب»، هو كالقول بأن «أ» إذا قسمت نصفين، كان كل نصف منهما هو «ب»، فيظهر لك في وضوح أن النتيجة لا تقدم لنا شيئا أكثر من أنها كررت الحقيقة الماثلة في الفرض، أي إن بين الشقين تطابقا، ومن ثم جاء الصدق.

أريد للقارئ ألا يترك هذا الموضع من سياق الحديث، منتقلا إلى ما بعده، قبل أن يلحظ نقطة مهمة فيما ذكرناه عن مصدر الصدق اليقيني في الاستدلالات الرياضية، وأهميتها لا تقتصر على مجال الرياضة، وإلا لتركناها لعلماء الرياضة وأعفينا منها القارئ العام، بل إن أهميتها لتجاوز تلك الحدود التخصصية لتضرب في أصلاب العمليات الفكرية أيا ما كان موضوع النظر، وسوف يرى القارئ الآن كيف أن من يحسن إدراك هذه النقطة المهمة، كان بمثابة من وقع على أخطر مفتاح للنور العقلي في حياته الفكرية كلها، فدقق النظر فيما ذكرناه لك في المثلين اللذين وضعناهما بين يديك لتوضيح الفكر الرياضي كيف يسير ليصل إلى نتائجه الصحيحة، ففي المثل الأول عرضنا معادلة حسابية لنبين أن صحتها نابعة من التطابق بين شطريها، تطابقا يجعلهما - إذا أخضعناهما للتحليل - على تشابه تام إحداهما مع الأخرى، فكأننا نكرر حقيقة واحدة مرتين، وفي المثل الثاني قدمنا فرضا ثم استخرجنا منه نتيجة تلزم عنه، فتصبح النتيجة صادقة صدقا محتوما، إذا سلمنا بصدق الفرض، وأيضا أوضحنا للقارئ في هذا المثل، كيف ينبع الصدق من تطابق المقدمة مع نتيجتها تطابقا يجعلنا وكأننا قد كررنا حقيقة واحدة معينة مرتين، وهنا تبرز أمام أعيننا تلك النقطة المهمة المضيئة التي أردنا أن نلفت إليها نظر القارئ، وهي أن نكون على حذر ويقظة واعية، حين نكون في أي سياق فكري مقدم إلينا، لنميز الفرق بين فكرة جاءت على النمط الرياضي وفكرة أخرى جاءت لتشير إلى جانب من دنيا الواقع، فإذا كانت الحالة الأولى هي المعروضة، تنبهنا بأن الفكرة المقترحة - حتى إذا صدقت - فلا شأن لها بالعالم المحيط بنا من أي وجه من وجوهه، فها أنت ذا قد رأيت أن صحة المعادلة في الرياضة وصحة استدلال نتيجة من مقدمتها، إنما هي صحة قررناها من داخل الرموز الرياضية التي استخدمناها، ولم نلجأ قط إلى عالم الأشياء والظواهر، لنرى إذا كان القول مطابقا لشيء أو لظاهرة من أشياء الدنيا الخارجية وظواهرها، ومرة أخرى أعيد لك التحذير، بألا تقيم على أية فكرة تستمد صدقها من طريقة بنائها، أي دليل على صحة أمر يتعلق بعالم الأشياء والظواهر وكن على أوثق ثقة بأن هذا المفتاح التنويري وحده كفيل لك بالنجاة من التورط في خطأ وخلط وغموض، مما يقع فيه ألوف الألوف ممن أفلت منهم هذا الميزان، وتكفيك الآن في هذا الصدد حالة واحدة لتقيس عليها، وهي حالة كثيرة التكرار في العالم «الفكري» بين الناس، وهي أن يقدم صاحب الفكر «تعريفا» لمدرك من المدركات، ثم يتوهم، ويوهم الناس أن ما قدمه إليهم هو فكرة ملزمة بصدقها، فافرض - مثلا - أن كاتبا بنى أفكاره على مبدأ قرره عند فاتحة تفكيره، هو القول بأن «العلم هو ما ينفع الناس» ثم أخذ يسلسل النتائج التي تتولد من ذلك المبدأ والتي قد يكون منها، أن الفيزياء النووية قد أدت إلى الفتك بأرواح البشر، وقد يكون منها كذلك أن اختراق الإنسان بصواريخه للفضاء، حتى وصل إلى القمر ومشى على سطحه، وعاد إلينا بنماذج من معادنه وصخوره وترابه، شيء لا نفع فيه لأهل الأرض، إذن فلا الفيزياء النووية ولا رحلات الفضاء تندرج حقا تحت العلم بمعناه الذي قرر عنه الكاتب في بدء حديثه «تعريفا» من عنده يقول فيه إن «العلم هو ما ينفع الناس» فانظر إلى موقف كهذا، تجده رياضي التركيب، بمعنى أنه ينتزع نتائج من مقدمة مفروضة، وما دام الاستدلال صحيحا إذن تكون العملية كلها صحيحة، ونسي مثل هذا الكاتب وأراد لنا أن ننسى معه، أن مصدر الصحة في هذه العملية الفكرية هو أن النتائج «تكرر» مضمون المقدمة، وبذلك تتوقف صحتها على صحة المقدمة، مع أن تلك المقدمة كانت فرضا مفروضا، فالعملية كلها، إنما بدأت وسارت، وانتهت داخل الدماغ، ولا شأن لها بأي شيء من كائنات الواقع وظواهره ومواقفه.

وهنا ننتقل بحديثنا عن «الصدق» من مجال الفكر الرياضي، وكل ما يركب على غراره، إلى مجال العلوم الطبيعية، التي جعلناها تشمل العلوم الاجتماعية أو الإنسانية لنسأل: متى يحكم بالصدق على قانون علمي، أو أية نتيجة تتأدى إليها في مجال تلك العلوم؟ والإجابة هنا أيسر من مثيلتها في مجال العلوم الرياضية، فهناك كان الصدق نابعا من تطابق طرفي المعادلة، أو التطابق بين النتيجة ومقدمتها المفروضة، وأما هنا فصدق القول مرهون بتطبيقه على الواقع، فإذا انتهى العلم الطبيعي إلى قانون كقانون الجاذبية أو قوانين الضوء - مثلا - فبرهان الصدق هو أن نرجع إلى الظاهرة ذاتها التي جاء القانون قانونا لها، أو جاء أي قول مما يدعي له أنه يصف أمرا من أمور الواقع، ومع هذا الاختلاف بين العلوم الطبيعية والعلوم الرياضية، في السند المرجعي الذي نحتكم إليه في التمييز بين الصحة والخطأ، فالمجالان كلاهما يشتركان في الهيكل النظري المتضمن، وهو أن يكون هناك طرفان، وأن يعد صحيحا أو صادقا ما تطابق فيه الطرفان.

وهنا أيضا نناشد القارئ ألا يترك هذا الموضع من سياق الحديث، قبل أن يلحظ نقطة مهمة، تضيء الطريق في كل عملية فكرية، يسير فيها العقل مثل سيره في العلوم الطبيعية، دون أن يكون الأمر المعروض للفكر مما جرى العرف أن يدرج في الموضوعات العلمية، والنقطة المهمة التي أعنيها هنا، هي أنه في أي موقف يدير الإنسان فكره فيه حول شيء من كائنات الواقع، كائنا ما كان، فذلك المفكر عندئذ ملزم بأن يجعل سند الصدق فيما يزعمه، هو صلاحية التطبيق على ذلك الشيء من أشياء الواقع، الذي أدار حوله فكرته، وإني لأرجو القارئ أن يتنبه ها هنا بكامل وعيه إلى هذه الحقيقة الآتية، وهي أنه لما كان عالم الواقع لا يشتمل إلا على «أفراد» أو «مفردات» معينة محدودة بمكانها وزمانها، فإذا كان «الفكر» بطبيعته يتناول أفكارا فيها تعميم، وفيها تجريد، فبرهان صدقه يجب أن يستند إلى واقع متعين بفرديته وتخصيصه وتحديده، فإذا وجدنا أنفسنا أمام فكرة مزعومة لا نجد لها، ولا يجد لها صاحبها نفسه، تطبيقا على كائنات الواقع الفردي الجزئي المرئي أو المسموع - أو المحسوس به بحاسة أخرى من الحواس - أصبحنا بين أمرين: إما أن نعلق تلك الفكرة المزعومة في أذهاننا، لا نحكم عليها بالصدق إلا إذا حدث أن وجدنا لها ما تتجسد فيه وتطابقه، وإما أن نجد فيها ما يبين لنا بأن وجود مثل ذلك الواقع المنتظر مستحيل استحالة منطقية فنرفضها ابتداء؛ لأنه لا أمل في أن ننتظر ظهور الواقع الذي يتطابق معها، وإلا فهل ننتظر ظهور دائرة مثلثة الأضلاع؟

لا بد أن يكون القارئ قد لحظ أن الطرفين اللذين يتطابقان ليتحقق «الصدق» هما - في حالتي العلوم الرياضية والعلوم الطبيعية، بما في هذه من علوم اجتماعية أو إنسانية - طرفان من واقع أو من «رموز» لها دلالاتها، وهي إما رموز من مفردات اللغة ومركباتها، وإما من أرقام أو حروف أو غيرهما مما قد اصطلح عليه عند المشتغلين بتلك العلوم، وإذا كان كل ما هنالك هو إما واقع وإما رموز متفق على دلالاتها، فإن الأمر - إذن - متعلق بأطراف لا دخل للمشاعر الإنسانية فيها، حتى إذا ما تنبه ناقد بأن الإنسان القائم بالعملية العلمية قد أقحم ميوله العاطفية فيما يقرره، لم يتردد أحد من رجال العلم عندئذ في التشكك في القيمة العلمية لقول تسللت إليه ميول صاحبه؛ لأن «الموضوعية» الخالصة - إلى آخر حد يستطيعه بشر - هي شرط ضروري للعمل العلمي في شتى ميادينه ... لكن كل العلوم مجتمعة، لا تستغرق ما عند الإنسان، فلئن حرص الإنسان وهو في دائرة العلم ألا يقحم مشاعره في موضوع بحثه، حتى ولو كان ذلك الموضوع هو «الإنسان» كما هي الحال في العلوم الاجتماعية، إذا هو مطالب عندئذ بأن ينظر إلى الإنسان من حيث هو «ظاهرة» كأية ظاهرة أخرى مما يخضع للبحث العلمي، أي إنه ينظر إلى الإنسان من «ظاهر» كما يفعل مع سائر «الظواهر».

وتأمل كلمة «ظواهر» لأنها تشير إلى أن شأن العلم هو ما يظهر من الأشياء أقول: لئن حرص الإنسان على التزام «الظاهر» وهو يبحث ما يبحثه في دائرة العلم، فإن ذلك لا يعني أن بقية عظيمة الشأن في حياته تبقى ومن حقها ومن حقه أن تنال من عنايته ما تنال موضوعات البحث العلمي، وتلك البقية التي أشرنا إليها، هي «الحالات» التي يحسها صاحبها وهي تعتمل في جوفه، وهي «حالات» لا تنفك ملحة على صاحبها أن «يعبر» عنها ليراها أو يسمعها الآخرون، وانظر إلى كلمة «يعبر» هذه وصلتها اللغوية ب «العبور» لترى كيف تلح «الحالات» الداخلية من كل إنسان تريد لنفسها ويريد لها صاحبها «عبورا» من كونها «حالة» لا يحسها إلا حاملها، لتكون ذات وجود محسوس للآخرين، وأغلب وسيلة من وسائل «العبور» من داخل إلى خارج، أو من باطن إلى ظاهر، هي وسيلة اللغة، ومن اللغة إذا ما ملكها موهوب تشكل أشكال تقوي عملية العبور أو التعبير، وعندئذ يكون المنطوق أو المكتوب، شعرا وغير شعر من صور الإبداع الأدبي، بيد أن اللغة ليست كل وسائل التعبير الذي يعبر به باطن الإنسان ليصبح ظاهرا معروضا أمام الآخرين، فهنالك وسائل أخرى يتحقق بها العبور كأنغام الموسيقى، وألوان التصوير وخطوطه، وأحجار النحت والعمارة، وهنالك الرقص والتمثيل، بل والانفعالات بالضحك أو بالبكاء، وغير ذلك.

والسؤال الذي يمس موضوع هذا الحديث، هو: ماذا يعني «الصدق» في هذه الأمور وأشباهها؟ أيظل محتفظا بجوهر معناه الذي رأيناه في مجال «العلوم» وأعني أن يكون هنالك طرفان فنراهما متطابقين؟ والجواب هو بالإيجاب، وهاك شيئا من التفصيل:

نحن الآن في الدائرة الثانية من دائرتين إدراكيتين تتألف منهما معا حقيقة الإنسان من حيث هو كائن ذو وجدان، كما رأيناه في دائرة العلوم كائنا يسترشد بمنطق العقل في إدراك دنياه، ونستطيع أن نحدد في دائرته الوجدانية جانبين: الدين والفن، بما في هذا الدين فنون الأدب، وإذا كنا نميز «العلم» من «الثقافة» لنجعل منهما معا ركيزتين تقوم عليهما حياة الإنسان، فماذا تكون «الثقافة» غير ما نراه بين أيدينا من ثلاثة فروع تجتمع معا في بنية الحياة الثقافية، لا غناء للإنسان عن أي منها، لكنها تتفاوت أهمية وقدرا وتلك هي: الدين، والفن ومنه الأدب، ومجموعة التقاليد المتعارف عليها، ينقلها جيل عن جيل، وسوف نغض النظر عن «التقاليد» لأنه لا مجال فيها لأن توصف بصدق أو كذب؛ لأنها كما يدل عليها اسمها صور من السلوك يقلد فيها الولد والده، وبهذه المحاكاة المادية الآلية يمتد حبلها عبر الأجيال، وسنقصر القول في معنى «الصدق» على الإيمان والفن.

فمتى وكيف يكون الإنسان صادق الإيمان؟ فأولا يحسن بنا بادئ ذي بدء أن نستحضر في أذهاننا بوضوح أن «الحالة» الداخلية التي نطلق عليها اسم «إيمان» هي حالة القبول المباشر قبولا نصدق به نبأ سمعناه أو رؤية دعينا إلى اصطناعها لينظر من زاويتها إلى ما ننظر إليه من شئون حياتنا، فالإيمان في جميع حالاته هو قبول بغير تحليل ومراجعة، هو قبول ينبض به القلب بغض النظر عما قد يقيمه العقل بعد ذلك أو لا يقيمه من برهان عقلي على صحته، هو إدراك بالبصيرة سواء أدرك البصر ما يؤيده أم لم يدرك، وإذا استخدمنا كلمة «حدس» التي هي مصطلح أظن أن الإمام الغزالي كان أول من استخدمه ليدل على ذلك النوع من إدراك حقيقة ما إدراكا مباشرا، لا يستند فيه إلى تعليل أو تحليل أو إقامة الدليل؛ ولذلك فلا غرابة أن قورن بلمعة النور يقذف بها الله سبحانه وتعالى في قلب المؤمن فيؤمن بما آمن به، وعن مثل هذا القبول القلبي المباشر تقول الآية الكريمة

ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا

فإذا استخدمنا كلمة «الإيمان» في غير مجال الدين فقد يختلف بنا الموقف؛ لأن من يعلن إيمانه بمذهب سياسي معين، أو بوجهة نظر معينة في أوضاع المجتمع أو غير ذلك، فربما جاء إيمانه ذاك تلبية لدعوة من زعيم فقبل الدعوة قبولا سلبيا بغير مراجعة نقدية، وربما سبق تلك الحالة الإيمانية عنده فحص وتمحيص، إذن فلنحصر قولنا هنا في حالة الإيمان الديني على سبيل التحديد والتخصيص.

ونسأل ما الذي نعنيه ب «الصدق» حين نصف به حالة «الإيمان»؟ إننا نعني أن ينعكس ذلك الإيمان الذي هو حالة داخلية في صدر صاحبها، لا سبيل لأحد أن يراها رؤية العين ولا أن يسمعها سمع الأذن ولا أن يلمسها بالأصابع، فلا مرجع فيها إلا ما ينبئنا به صاحبها لكن مثل هذا النبأ - بالطبع - لا يكفي دليلا على صدقه، وإنما الذي يكفي هو أن نرى ذلك الإيمان الداخلي المزعوم، منعكسا في المواقف السلوكية لصاحبه، كلما استحدثت له الحياة العملية موقفا يتطلب منه الرد عليه برجع حركي يفعل به شيئا، أو يكف به عن فعل شيء، فالطرفان اللذان نتوقع لهما أن يتطابقا في حالة الإيمان الصادق، هما المضمون الإيماني المزعوم وجوده بشهادة صاحبه، من جهة، وضروب العمل التي تظهر للناس في سلوكه المرئي إزاء مثيرات السلوك من وقائع الدنيا، على كثرتها واختلافها من جهة أخرى، وأن في اقتران «الإيمان» بالعمل الصالح اقترانا مطردا في الكتاب الكريم لدليلا على معنى الإيمان أقطع دليل.

أمعن النظر مليا فيما يطلب من المؤمن الصادق في إيمانه، من مطابقة سلوكه وردود أفعاله إزاء ما يحيط به من أحداث ومؤثرات تجد صدق الإيمان ليس هنة هينة يسيرة التحقيق، ولكي تقترب من التصور الصحيح فانظر مرة أخرى نظرة فاحصة متأنية في التفصيلات التي يشتمل عليها المضمون الإيماني عند مسلم آمن بالله وشهد بأنه: لا إله إلا الله، وحسبنا في هذا الصدد أن نذكر جانبا واحدا مما يقتضيه ذلك الإيمان، وهو ما يطلب من المؤمن بأن يتخلق بأخلاق الله سبحانه وتعالى، تخلقا يقف عند حدود القدرة البشرية، فما معنى ذلك؟ معناه أن يروض الإنسان نفسه حتى تصبح عليمة بالحق، ما مكنتها حدودها البشرية وأن تكون مريدة فعالة لما أرادت، ومسئولة بعد ذلك عما فعلت، ما استطاعت بطبيعتها البشرية إلى ذلك سبيلا، ومعناه أن تكون كريمة حليمة، حكيمة، خبيرة بديعة «أي مبدعة» معناه أن تكون معايير السلوك هي تلك الصفات التي وردت في الكتاب الكريم، ولعل ذلك بل لا بد أن يكون ذلك هو ما قصدت إليه السيدة عائشة رضي الله عنها، حين سئلت عن أخلاق النبي عليه الصلاة والسلام، فقالت ما معناه: إن خلقه هو القرآن الكريم. تأمل ما يتلوه المؤمن بلسانه ألف ألف مرة بعد ألف ألف، حين يتلو وهو يقرأ «الفاتحة»

إياك نعبد وإياك نستعين ، ثم حاول أن تترجم في ضميرك هذا القول الكريم إلى سلوك عملي فماذا أنت صانع؟ إنه هو ألا تعبد إلا إياه، وألا تستعين إلا إياه، فلا عبادة لمال ولا عبادة لسلطان لا عبادة لوسيط أو شفيع ولا استعانة بذي نفوذ أو بذي جاه، فأنت وما تعمل مما يرضي ربك وما يرضيه مذكور في كتابه الكريم، وحاول أن تتخيل كم يكون قدرك أمام نفسك حين لا تتجه بعبادتك إلا لله وحين لا تستعين إلا بالله، وأظنه الإمام علي بن أبي طالب هو الذي قال، ولست على يقين في ذلك: «احتج إلى من شئت تكن أسيره وأحسن إلى من شئت تكن أميره، واستغن عمن شئت تكن نظيره.» وهذا الجزء الثالث هو الذي يهمنا أكثر من سواه فيما نحن بصدد قوله الآن، «استغن عمن شئت تكن نظيره» نعم إن كل من حملتهم الأرض على ظهرها من أصحاب الهيل والهيلمان لا سلطان لهم عليك إذا كنت عنهم في غنى، ويتحقق لك ذلك إذا صدقت في إيمانك وأنت تتلو:

إياك نعبد وإياك نستعين

لكن صدق الإيمان وأعني التطابق بين ما قد أعلنت إيمانك به، وبين ما تسلك في حياتك، ليس هنة هينة وإنما هو هدف أسمى لا سبيل إلى تحقيقه إلا برياضة النفس وجهادها.

وأخيرا ننتقل إلى الصدق في مبدعات الفن والأدب، والمبدأ هنا هو نفسه المبدأ الذي رأيناه في صدق العلوم بجميع فروعها، ورأيناه في صدق الإيمان، فلا يزال المقياس هو أن يكون هنالك طرفان نراهما متطابقين، إلا أن التطابق في حالة العلوم يكون بين رموز ورموز في الرياضة، وبين رموز وواقع في العلوم الطبيعية، وأما في الإيمان وكذلك في الفن والأدب فهو تطابق بين مضمون باطني في ذات الإنسان وسلوك يسلك أو قول يقال، ففي كل موقف إبداعي في فن أو أدب هنالك «حالة» في نفس صاحبها يريد أن يجد لها طريقا لتعبر به من داخل إلى خارج فتظهر أمام الناس أو على مسمع منهم: معزوفة، أو قصيدة إلخ، لكن مجال الفن والأدب ينفرد دون سائر المجالات بأن الطريق يجيء على ثلاث خطوات وليس على خطوتين، ومعنى ذلك أن العملية الإبداعية الواحدة تتضمن التطابق مرتين، فتطابق بين الحالة التي أحسها المبدع والشكل الذي استعان به في إخراجها، ثم هنالك التطابق بين ذلك الشكل عند وقعه على المتلقي وما يستثيره فيه من حالة نفسية داخلية يرجح لها أن تجيء شبيهة بما انطوت عليه ذات المبدع حين أبدعت.

لقد كان من أهم المهام التي اضطلع بها صاحبنا ليرضى عن نفسه قبل أن ترضى عنه نفوس الآخرين، هو أن يقيم الحدود للصدق الثقافي يقينا منه أن هذه الصفة الواحدة - صفة الصدق - لو رسخت في حياتنا رسوخ الإيمان لكانت وحدها كفيلة لتلك الحياة بما نتمناه لها من نمو وازدهار.

مطالع النور «3»

هل كان يمكن أن يرتج البنيان الحضاري وما يتخلله ويسايره من أنماط ثقافية، ولا يرتج معهما «الفكر» بصفة عامة، والفكر الفلسفي منه على وجه الخصوص؟ إن بين «الحضارة» و«الثقافة» - فكرا وفنا وأدبا - حركة جدلية لا تنقطع، فالرؤية الثقافية تتغير لسبب أو لآخر، لتتغير معها متجهات الإنسان ومنجزاته، ومجموعة المنجزات التي تنشأ في مناخ متجانس موحد الهدف، هي «الحضارة»، وإذا أخذت الحضارة المستحدثة بعض شوطها عادت بدورها فأثرت في الحياة الثقافية، ولسنا نقول في هذا ما يجهله قارئ واحد، فأمام أعيننا وبين أيدينا ما يبين في أجلى وضوح، كيف تتغير المشاعر والأفكار حول وجه حضاري معين، فنقبل عليه نروج له، أو ننصرف عنه وننفر الناس منه، تبعا لما تغيرت به تلك المشاعر والأفكار، ثم يرتد الأثر في اتجاه عكسي، وأعني أنه إذا ما استقر بنا الأمر على الجانب الحضاري الذي اخترناه، عمل هذا الموقف الجديد بدوره على توجيه مشاعرنا وأفكارنا، فإذا كان التأثر والتأثير لا ينقطعان بين الجانب الحضاري من جهة، والجانب الثقافي من جهة أخرى، فهل كان يمكن - كما أسلفنا السؤال - أن يرتج البنيان الحضاري، ارتجاجا تمثل في حربين عالميتين وما بينهما من ثورات، خلال النصف الأول من هذا القرن، ولا يسبق ذلك ويلحق ذلك، تحولات كبرى في المشاعر والأفكار، ثم لا يحدث - بالتالي - متجه جديد للفكر الفلسفي؟

إن هذا الكاتب حين يحرص على أن تكون طبيعة الفكر الفلسفي واضحة للقارئ المثقف، فحرصه نابع من يقين عنده بأنه ضرب من المحال أن تبلغ الحياة الثقافية في أمة من الأمم مداها، ما لم تستطع أن تستقطب أوجه النشاط الكثيرة، المبعثرة بين أبنائها وبناتها، بالكشف عم تضمره تلك الكثرة المنوعة المتفرقة، من مبدأ واحد مشترك، ومن هدف واحد مشترك كذلك، فلا بد للأمة الواحدة، في العصر الواحد - إذا كانت حياتها سوية - أن تصدر في خضم مشاعرها وأفكارها وأفعالها عن ينبوع مشترك، وأن تستهدف برغم ما يبدو على سطح حياتها من متضادات ومتناقضات، غاية واحدة، لكن ذلك المبدأ الواحد وهذه الغاية الواحدة، لا يؤمر بهما المواطنون من صوت ينفخ لهم في بوق ليسمعوا ويطيعوا، كلا، بل هي الظروف الحضارية تنسج مناخا بخيوطها، يوما بعد يوم، وعاما بعد عام، فتظل تلك الخيوط تتوازى وتتقاطع وتنساب وتتعاقد، حتى ينتج عنها المناخ الثقافي الذي يتنفسه الناس في حياتهم اليومية شهيقا وزفيرا، فمن الذي يستخرج لهم من بحر الحياة العملية الهائج بفعله وانفعاله، المائج بخصوماته ومصالحاته، ما عساه أن يكون غارقا في قاعه من مبادئ دفينة وغايات مضمرة؟ إنه الفكر الفلسفي بأهم وجه من وجوهه، فما هذا الفكر في لبه وصميمه إلا إزاحة لرغوة الحياة العملية كما هي واقعة، حضارة وثقافة؛ لينكشف ما تحت الرغوة من حقيقة البحر وما يضمره، فهو فكر قريب الشبه جدا بمنظار ذي عدسات تقرب البعيد، وتكبر الصغير، ليراهما الرائي بعد أن لم يكن يستطيع ذلك بحواسه المجردة، إن الفيلسوف الحق لا يسعى وراء جديد يبدعه إبداعا منقطع الصلة بتيار الحياة كما يجري، بل هو أقرب إلى رجل العلم الذي يحاول بالمناظير المقربة «التلسكوب» أن يرى أجرام السماء التي تبعد عن مكانه مسافة تقاس بآلاف الملايين من السنين الضوئية، كما يحاول بالمناظير المكبرة «ميكروسكوب» أن يرى جسيمات تبلغ من الصغر حدا يستحيل معه على العين المجردة أن تراها، إلا أن يقابل تلك المناظير عند الفيلسوف قدرته على أن ينفذ بثاقب فكره إلى ما هو واقع في حياة الناس العلمية والثقافية والعملية ليستخرج منها مبادئ مطوية في ثناياها، على أسسها يقيم الإنسان نشاطه العملي أو الفكري والفني، دون أن يكون على وعي بها، إلا إذا كان ذلك الإنسان نفسه أحد أولئك القلائل الذين يأخذهم القلق إذا هم لم يتعقبوا الوسائل التي توصلهم إلى تلك الأسس الأولية المطمورة في حنايا الضلوع - إذا جازت هذه الاستعارة - ولذلك فمن النادر أن تجد فيلسوفا في أي عصر، لم يكن هو نفسه مشتغلا بأمر من أمور العلم أو الفن أو غيرهما، مما قد بني على أسس مأخوذة مأخذ التسليم من عامة الناس، لكنه هو قد تميز من سائر زملائه، بأن اشتدت به الرغبة، وكانت لديه القدرة في أن يزيح أستار الخفاء عما قد دس في الأعماق من جذور، هي المسئولة عما خرج على سطح الحياة العملية والفكرية التي يحياها الناس في أوجه نشاطهم على اختلافها، وبعبارة أخرى ربما كانت أيسر قبولا، نقول عن الفكر الفلسفي: إنه في أغلب حالاته محاولة ل «تفسير» أوضاع الحياة الفعلية القائمة، فمن رغب في تفسير الظواهر الحياتية السائدة تفسيرا يبلغ نهاية مداه أحب الفلسفة وعرف قدرها، ومن لم يرغب في ذلك عجب لماذا خلق هذا المخلوق النظري ليشغل الناس.

وهذه الحقيقة عن طبيعة الفكر الفلسفي، كثيرا ما تخفى حتى على بعض الدارسين، ذلك لأحد سببين أو لهما معا؛ أولهما: اختلاط «الفلسفة»، كما ألفها دارسها، ب «الحكمة» التي يتميز بها من خبروا الحياة العملية خبرة عميقة، مكنتهم من تنظيرها في قواعد عامة، وأما السبب الثاني: فهو أنه بعد أن يعكس الفيلسوف عصره ومحاوره، فيما كتبه أو قاله لمريديه، تمضي الأعوام وتأتي عصور بعد عصور، يظهر فيها من يريدون، أو يراد لهم، أن «يدرسوا» ذلك الموروث المأثور عن فلاسفة الماضي، فالذي يدرسونه إنما يطالعون «تاريخ» ما قد حدث في هذا العصر، أو ذاك، أو ما قد حدث في جميع العصور متسلسلة في تاريخ متصل، فإذا نظر هؤلاء إلى ما يطالعونه من جهة، وإلى بعض ظواهر حياتهم القائمة من جهة أخرى ، لم يجدوا قسمات حياتهم منعكسة فيما يدرسونه، فينكرون أن تكون العملية الفلسفية في حقيقتها «تفسيرا» للحياة المحيطة بالفيلسوف، ويفوتهم أنهم إذا أرادوا صورة حياتهم كما يحياها عصرهم، وجدوها عند فلاسفة عصرهم هم، لا في عصور السابقين، على أن ذلك لا ينفي أن يكون هنالك في حياة الإنسانية من المسائل الكبرى، ما يطرح نفسه في كل العصور؛ لأن إجابة العصر الواحد أعجز من أن تستوعبها على نحو شامل، فيه كل الصدق، ومن هنا نجد شيئا من التشابه فيما يشغل الفلاسفة في كل العصور على حد سواء.

ولماذا وقفنا هذه الوقفة الطويلة لنلقي بعض الضوء الشارح على طبيعة الفكر الفلسفي، الذي يتميز به «المبدعون» في هذا المجال، وقد لا يتميز بشيء منه من اقتصروا على «دراسة» ما خلفه هؤلاء المبدعون؟ علة ذلك هي أننا بصدد الرواية عن صاحبنا الذي نقص قصة المعالم الكبرى في حياة أحاطت به فانفعل بها، وكان من تلك المعالم أن رأى بعيني بصره وبصيرته معا، كيف أخذت في الانهيار حضارة ختمت بختام القرن التاسع عشر من عقد من أعوام هذا القرن العشرين، وكيف أخذت تبرز خطوط وملامح من حضارة جديدة تولد، ولم يكن بد ليحث هذا التحول الواسع العميق، إلا بنشوب حربين كبريين، واشتعال عدة ثورات سبقتهما، وتوسطت بينهما، ولحقتهما؛ ولذلك طرحنا سؤالنا في أول هذا الحديث: أكان يمكن أن تسقط حضارة وتولد حضارة أخرى، دون أن ينقضي عهد بفلسفته ليظهر عهد جديد بفلسفته الجديدة؟ ذلك ضرب من المحال، إذا أريد للحياة أن تكون سوية معافاة مبدعة، ومع ذلك فصاحبنا إذ اشتدت به عزيمة مصممة على أن يثبت في مواطنيه نفثات من روح الحضارة الجديدة، وهي نفثات دارت في معظمها حول أسس الرؤية العلمية، ولا غرابة في ذلك، فهو عصر «العلم» بلا جدال، لقي ما لقيه من مقاومة مستهترة غشيمة، وممن جاءت المقاومة أولا، ثم تبعهم نفر ممن دخلوا الهيجاء وهم على جهل تام بما يدور حوله القتال؟ جاءت من دارسي الفلسفة أنفسهم، وكان الذي أضحك وأبكى أن تعجب المتعجبون من «الدارسين» كيف جاز لصرخة مدوية أطلقها مجنون، أن تدوي في محراب الفلسفة الهادئ، تريد له أن يصخب بلغو ليس منها ولا هو ينتمي إليها بسبب من الأسباب.

كانت الثورة التي غيرت من اتجاه السير للفكر الفلسفي، لكي يساير حركة الانتقال من عصر ذهب أوانه، إلى عصر لم يولد بعد، وإن يكن الوجود الحضاري قد أخذت تذب فيه إرهاصات المخاض، أوضح من أن تقاوم من حيث المبدأ، وأما تفصيلات التفريع من ذلك المبدأ فقابلة للنقد والتعديل، وهي إن لم تكن كذلك لماتت ودفنت في مهدها، وكانت، إلى جانب وضوحها، أعمق من أن تلهو بها أهواء طفلية، إذا جازت في أي مجال آخر فهي لا تجوز في ساحة الفكر الفلسفي، وإن صاحبنا لا ينسى تلك اللحظة التي جاءه فيها زميل ليسأله: أين أجد نقد المعترضين على هذه الثورة في وجهة النظر؟ فأجابه: إنك واجد شيئا مما تريد عند فلان وفلان، فما هو إلا أن يجد الزميل وقد استخرج ما استطاع استخراجه من نقد المعترضين، لينشره وكأن البضاعة بضاعته، وربما كان عذره في ذلك أن أخلاقيات حياتنا العلمية اليوم أصبحت تبيح هذا السطو على ملكية الفكر، لكن الذي يثير الحسرة حقا هو أن المعتدي في هذه الحالة لم يكن على أقل درجة من درجات المعرفة بالحقيقة المفقودة، فذلك لم يكن عنده بذي خطر؛ لأن الأهم هو أن يضيف إلى صراخ الغاضبين صرخة لعله يظفر بنصيب من الثواب.

فما الذي أرادت الدعوة الجديدة أن تستحدثه، ليتلاءم الفكر الفلسفي مع المتجه الحضاري الثقافي الجديد؟ كان بكل البساطة والوضوح، أنه لم يعد يحق في عصر العلم لأحد من غير العلماء في ميدان معين، أن يقتصر الفكر الفلسفي على النقد المنهجي، وليس على موضوع البحث العلمي ذاته، وقد يسأل سائل: ولماذا لا يقوم بذلك النقد المنهجي في ميادين العلوم علماء تلك الميادين؟ والإجابة على سؤال كهذا، هو: أن هذا هو ما قد حدث بالفعل، عندما ينصب النقد المنهجي انصبابا مباشرا على علم من العلوم ، ومعظم العلوم قد خضعت في عصرنا هذا لمثل ذلك النقد المنهجي، ومن ثم حدث التغير الواسع العميق في البنية العلمية، وكان الذي قام بالعملية النقدية علماء في الميدان الذي اهتموا بنقده، فالذين عنوا بالنقد المنهجي للأسس التي كانت العلوم الرياضية قائمة عليها - مثلا - هم نفر ممن كانوا علماء في ذلك الميدان وأدركوا أن تلك الأسس في حاجة إلى مراجعة، إذ بدا لهم أنها كانت منطوية على تناقض داخلي، مما كان له أثره في الشرائح العليا من تلك العلوم، وهكذا قل في سائر فروع العلم، ولم يكن الانقلاب الذي حدث في وجهة النظر العلمية، منذ بداية هذا القرن، صدفة عمياء، بل هي نتيجة مباشرة لتلك الجهود النقدية.

لكن هنالك في حياة الناس جوانب لها أهميتها وخطرها، ليس فيها ذلك التخصص العلمي الذي ينحصر في مادة بحثية معينة كالرياضة والفيزياء والكيمياء، وغيرها، وتلك الجوانب تتناول فيما تتناوله مجموعة «الأفكار» التي هي حاملات «القيم»، والذي يعنى بالنظر فيها وتحليلها ونقدها، يشترط فيه نوع آخر من المعرفة والتدريب، فليس من يفكر بالمنهج الفلسفي في موقف الناس من الحرية والديمقراطية والسلام، والتعاون بين الأفراد وبين الشعوب، يحتاج بالضرورة إلى أن يكون من علماء الرياضة أو الفيزياء، لكنه في الوقت نفسه يفيد كثيرا إذا استخدم منهج النقد المنهجي الذي يستخدمه العلماء في فلسفة العلوم.

من هنا جاءت الدعوة الجديدة لأن تكون الفلسفة منهجا بغير موضوع، ومنهجا هو منهج التحليل الذي يرد الفروع إلى جذوعها، ويرد الجذوع إلى الجذور، وذلك يفسر لماذا أطلق على عصرنا عصر «التحليل»، ففهم الإنسان لشيء أو لفكرة أو لنظام من النظم لا يكون إلا بتحليله أولا إلى عناصره الأولية، ثم معرفة على أي صورة تتركب تلك العناصر بعضها مع بعض، وليست هذه العملية الضرورية لفهم الإنسان لشيء أو لفكرة بنت عصرنا من حيث الولادة والنسب، فقد كانت جزءا هاما في منهج ديكارت، الذي يعد فاتحة النهضة الأوروبية على المستوى النظري، إلا أن العصور تتميز بما يسودها ويملأ أرضها وسماءها وليس بفكرة شاردة ولدت ثم بقيت مقصورة على قلة قليلة في أركان مجهولة، ومنهج التحليل في ميادين العلوم وميادين الحياة الثقافية بصفة عامة، قد اتسع في عصرنا ليصبح علامة مميزة له دون سوابقه، حتى لأصبح «المثقف» في حساب عصرنا، هو ذلك الذي يقف من الأفكار السائدة وقفة ناقدة على منهج التحليل.

ولكن ما الذي نحلله، وكيف نحلله، إذا أردنا أن نجيد الفهم لفكرة معينة؟ جواب ذلك هو: أن نحلل التركيب اللغوي الذي يحملها، وبهذا الجواب نكون قد وصلنا بك إلى أهم ركيزة ترتكز عليها ثورة الفكر الفلسفي في عصرنا، فالفكرة هي لغتها، هل تأذن لي أيها القارئ بأن أعيد هذا القول البسيط الذي نزعم له أنه يحمل في جوفه ثورة فكرية شاملة؟ إذن فلنقل مرة أخرى: الفكرة هي لغتها، إنه مألوف لنا أن نقول عن اللغة إنها «وعاء» يمتلئ بما يملؤه به، كأنه في وسع الإنسان أمام جملة معينة، كقولنا «إن الحرية حق للإنسان ينبع من فطرته فيفرغها من عصارتها، ثم يعود فيملؤها إذا شاء، كما نفعل بكوب ماء.» لا، ليس هذا هو واقع الأمر، بل جوهر الأمر - كما ترى - هو أنك إذا نظمت عددا من مفردات اللغة نظما يجعلها جملة، كنت بذلك قد نسجت فكرة، وليس للفكرة وجود من وجهة نظر الآخرين الذين توجه إليهم الخطاب، إلا أن تكون متجسدة في لغة تؤديها، وإذا كان هذا هكذا، وهو هكذا بكل اليقين، إذن فتحليل الفكرة المعينة هو هو نفسه تحليل عبارتها اللغوية، وعندئذ تجد نفسك أمام جسد مجسد، هو الجملة اللغوية التي تسمعها منطوقة، أو تراها مكتوبة، فما عليك بعد ذلك إلا أن تقوم بعملية تشريح لهذا الجسم اللغوي الذي تسمعه أو تراه، لتمعن النظر في أعضائه كيف تلاحم بعضها مع بعض، وهنالك تستطيع أن ترى من طبيعة الروابط بين تلك المفردات، هل يتكون معنى؟ وإذا تكون المعنى، فهل هو صحيح بمطابقته للواقع الذي جاء ليشير إليه، ماذا ؟! أتقول «معنى»؟ فمتى يكون للجسم اللغوي «معنى» ومتى لا يكون؟ ماذا تقول يا رجل؟! وهل هنالك جملة لغوية أقر سلامتها علم النحو غير ذات معنى؟! ... نعم، نعم، يا صديقي، هنالك مثل هذه الجملة الصحيحة نحوا وتركيبا، والخالية معنى، بما يعد ألوفا ألوفا، ومن أجل الشفاء من مرض الأقوال الخاوية، كأنها الجعجعة، التي لا ينتج عنها طحين، عني صاحبنا بشرح الموقف وتوضيحه، ليعرف من يهمه الأمر كيف يفرق بين الضأن والماعز فيما ينطق المتكلمون وما يكتب الكاتبون، وربما كان ذلك هو نفسه ما أثار على صاحبنا غضب الغاضبين، فقد كانوا يؤثرون لأنفسهم أن يرسلوا الكلام إرسالا لا يسبقه رقيب ولا يلحقه حسيب.

لعلك تذكر ما تحدثنا به في حديثنا السابق عن «الصدق» وكيف تختلف معانيه في أربعة من أهم ميادين القول، وهي: العلوم الرياضية، والعلوم الطبيعية بما فيها العلوم الاجتماعية، ثم في مجال الدين، ومجال الأدب والفن، على أن معاني «الصدق» التي تباينت بين تلك الميادين الأربعة، تلتقي كلها في أساس مشترك، وهو أن يكون في كل حالة صادقة طرفان متطابقان، ومن تطابقهما يأتي «الصدق» على اختلاف طبيعة تلك الأطراف باختلاف ميادين القول، والذي نود أن نلفت إليه النظر الآن، هو أن سياق حديثنا هنا منصب فقط على جانب العلوم الطبيعية من المجال الأول، ولقد أدى التغاضي عن هذا التخصيص إلى سوء فهم وسوء تفاهم، كان لهما من الآثار السلبية ما لم نكن نتمنى حدوث شيء منه، إذن فلنكرر التحذير مرة أخرى لعلنا نفلح في توجيه الانتباه الوجهة التي نقصد إليها، وهي أن كل ما نذكره هنا من ضوابط المعنى التي تقتضيها دقة الفكرة المعينة عند عرضها، مراد به نوع واحد من الأنواع الأربعة، وهو نوع الكلام الذي يتبادل به الأفراد أفكارهم حين تكون تلك الأفكار دائرة حول أمور الواقع الحسي، وهي الحالة التي تختص بها العلوم الطبيعية، كما تختص بها شئون الناس في حياتهم العملية، عندما يتحدثون أو يكتبون عن وقائع الحياة اليومية الجارية، أي إن أيا من ضوابط المعنى التي نذكرها هنا، لا يقصد بها العلوم الرياضية، ثم لا يقصد بها ما يقال أو يكتب في مجال الفكر الديني، أو في مجال الأدب والفن؛ لأن هذه الضروب من ضروب القول لها معايير صدقها الخاص، التي ذكرناها موجزة في الحديث السابق.

وبعد هذا التنبيه والتحذير، نقول: إن الشرط الضروري لكي تكون الجملة اللغوية صادقة في معناها لا بد لها من وسيلة يراجعها بها المتلقي على واقع معين هو الواقع الذي جاءت تشير إليه، فإذا قيل - مثلا - إن نسبة الأمية في مصر تبلغ نحو ثلاثين في المائة من عدد الذين تضعهم أعمارهم في مراحل التعليم، وجب أن تكون هنالك الوثائق الإحصائية التي يعتمد عليها، أو قيل إن متوسط الدخل السنوي للمصري هو كذا، أو قيل إن عدد السكان سيصل إلى كذا في السنة الفلانية، أو قيلت حقائق عن بترول مصر ومعادنها وحركة السياحة وغيرها وغيرها، كل هذه وأمثالها ترد في حياة الناس، على المستويات المختلفة العلمية والسياسية وأحاديث الناس الخاصة، وكثيرا جدا ما يريد المدقق أن يراجع القول على مرجعه في عالم الواقع فلا يستطيع، وحتى إذا استطاع وجدته قانعا بالمراجعة التقريبية، بغير تحليل ولا تفصيل.

على أن هنالك حالات كثيرة من الأقوال الصادقة، ذوات الإسناد الواقعية، شريطة أن نفهم «الواقع» فهما لا ينحصر في وقائع العالم الخارجي، بالمعنى المألوف، فهنالك - أولا - أقوال المؤرخين فيما يكتبونه من تاريخ، فهم بالطبع يشيرون إلى أحداث مضت ولم يعد لها وجود نراه نحن ونلمسه، فكيف نفسر «صدق» الجملة التاريخية؟ إن التحقيق هنا وسيلته الوثائق وغيرها من آثار الماضي، وما يمكن استدلاله منها استدلالا صحيحا، وعلماء التاريخ يعرفون كيف يتحققون من حجية وثائقهم ومراجعهم، فكأنهم بذلك يستندون إلى الواقع الفعلي الماثل بين أيدينا.

هنالك أقوال قد ترد مشيرة إلى كائنات، لا هي من كائنات الواقع الحاضر، ولا هي وقعت فعلا فيما مضى، وإنما هي كائنات ابتدعها خيال الأدباء فيما أبدعوه، فلم يشهد التاريخ رجلا حقيقيا اسمه «هاملت» وكان أميرا للدنمارك، لكنه من مبدعات شكسبير، وليس بين الطيور في عالم الطير الحقيقي طائر يكون هو «الرخ» الذي أشارت إليه حكايات ألف ليلة وليلة، فإذا تحدث متحدث عن أمثال هذه الكائنات، فعلى أي أساس من الواقع الحقيقي يجيء الحكم بصدق القول أو بعدم صدقه؟ الجواب هو: إن ما هو «واقع» يرجع إليه هنا هو العمل الأدبي الذي ورد فيه الاسم الذي هو مدار التحقيق، فمسرحية «هاملت» هي مرجع الصدق فيما يزعمه متحدث عن هاملت، وحكايات ألف ليلة وليلة هي «الواقع» الذي يقاس إليه الصدق فيما يقوله قائل عن طائر الرخ، وهكذا فالقاعدة العامة - إذن - هي أن يحكم بالصدق أو بالانحراف عنه، بناء على السياق الحقيقي الذي وردت فيه العبارة المراد التحقق من معناها ونصيب ذلك المعنى من الصواب.

وهنالك حالة ثالثة، تضاف إلى أقوال المؤرخين، ومبدعات الأدباء، وهي حالة التصورات التي يمكن للإنسان أن يتصورها بدقة تامة في تفصيلاتها، لكنها لم تتجسد قط في وجود واقعي لا في الحاضر، ولا في الماضي، ولا هي وردت في كتاب، مثال ذلك أن يتخيل فرد من الناس خطة يهم بتنفيذها في رحلة سياحية، أو أن ترسم الدولة خطة لما تنوي إقامته من منشآت خلال فترة زمنية معينة، فها هنا يكون كل ما بين أيدينا «تصور» ذهني محض، فأين يجد الفاحص مشروعية صدقه؟ الجواب هو أن مشروعية الصدق تكمن في «إمكان» الحدوث الفعلي إذا حانت له فرصة الخروج من عالم الإمكان إلى عالم الواقع، وأنه لما يميز «الخيال» البناء عند الإنسان الناضج، من خيال الطفولة والمراهقة، بل ومن خيال الحالم أحلام النوم أو أحلام اليقظة، هو أن الخيال في الحالة الأولى خيال أقرب إلى رسم خريطة يهتدي بها المسافر في رحلة سفره، وأما الخيال في الحالات الأخرى، فهي تمويهات وهلوسات قد تمتع صاحبها، لكنها خلو من قابلية التنفيذ.

هكذا كان صاحبنا في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات، قد أدرك مقدار ما تخلفت به أمثلة وحاول تشخيص الداء حتى رآه ماثلا أمام عينيه، وهو أنه داء من أفلتت منه حقيقة عصره، وهي حقيقة تتمثل أوضح ما تتمثل في الكشف العلمي عن قوانين الكون، ثم تغيير واقع الحياة بناء على أساس الرؤية العلمية، فيصبح السؤال هو: إن أمتنا أمة يغلب الوجدان على رؤيتها، ولا تفرق بين ما قد خلق ليرضى عنه القلب والعاطفة، وما خلق للعقل وإرادة التغيير، فأطلق العربي قلمه كاتبا ولسانه ناطقا بما تستريح له الآذان، بقدر ما ضيق المجال أمام العقل ووسائله في دقة التفكير وإحكام التخطيط.

فإذا كان صاحبنا قد أصاب في تحديده لموضع الداء، كان أول السير على طريق النهوض، دعوة مفصلة نحو علمية عصرنا، لتوضع في مجالها، تاركة لفروع الحياة الثقافية الأخرى ميادينها.

المطبوعة الزرقاء «1»

أجهل الجاهلين جاهل يجهل أنه جاهل، لكن هذا القول في حاجة منا إلى تحديد وتوضيح، فليس على وجه الأرض إنسان يجهل كل شيء كلا، وليس عليها إنسان يعلم كل شيء، فحتى الرضيع الذي يحبو على أربع يكون قد بدأ يحصل معرفة بما حوله ومن حوله، وكذلك يكون أعلم علماء الدنيا في موضوع بذاته، على جهل بكثير جدا من حقائق الكون والحياة، ولا عيب في إنسان يعلم شيئا ويجهل أشياء، فذلك النقص إنما هو حتم محتوم على البشر، شريطة أن يكون ذلك الإنسان على بينة من أمره ما يعلم وما يجهل؛ لكيلا يستبيح أن يكون له حق الرأي فيما يجهله، لكن العيب كل العيب هو أن يكون إنسان على جهل بموضوع معين، ثم لا يدري أنه على جهل به، فيقتحمه بالرأي، فيضل هو، ويضلل معه الآخرين.

ومحال علينا أن نقول هذا الذي قدمناه دون أن نذكر ذلك الرجل المعجزة: سقراط؛ فلقد كان سقراط على ظن من نفسه بأنه قليل العلم بأشياء كثيرة مما يراه ويسمعه، وكان لكل شيء من تلك الأشياء المجهولة له، من هو مختص فيه، ويتوهم - ويوهم الناس - بأنه محيط به علما، فمثلا، هنالك شيء اسمه «الفن»، وهنالك من الناس من هو مشتغل بالفن، فيقصد - بداهة - ويتصور الناس معه، أنه لا بد أن يكون على علم واسع عميق، بحقيقة «الفن» ما هي ؟ فيقصد إليه سقراط، راجيا أن يتعلم من ذلك المختص حقيقة ذلك الشيء الذي اختص فيه ، لكنه ما يكاد يمضي معه في الحديث خطوة أو خطوتين، حتى ينكشف المستور، له ولمن يحاوره معا، وهو أن الرجل الذي حسب أول الأمر أنه على معرفة دقيقة بالفن وطبيعته، إنما هو في الحقيقة لا يعرف عنه شيئا، أو ما يكاد يكون كذلك، وهكذا أخذ سقراط يدور على ميادين الحياة العملية والنظرية، واحدا واحدا، يسأل أصحاب التخصص ماذا يعرفونه عما قد تخصصوا في ممارسته عملا، أو في الإلمام به فكرا، فكان في كل مرة لا يعود من محاولته إلا بشيء واحد، وهو أن هؤلاء الأدعياء لم يكونوا يعلمون ما قد ظنوا به علما، فكل يجهل ميدان عمله أو فكره، لكنه يجهل أنه يجهله، فقصد الرجل إلى كاهنة عرافة، يعرض عليها الأمر لعلها تهديه إلى ما يزيل عنه الحيرة، وعندئذ أدرك الفرق بينه وبين هؤلاء الأدعياء، فبينما هو لا يدري، ويعلم أنه لا يدري، فقد كانوا هم يجهلون حقائق الأشياء كما جهلها هو، إلا أنهم يجهلون أنهم جاهلون بما ادعوا به دراية وعلما.

إن اسم «المعرفة» إنما مطلق على غير مسماه، إذا أطلقته على خليط من معلومات غامضة ومهوشة، مما يتعلق بالمجال الذي تتوهم أنك قد درسته ومارسته وعرفته، فالطفل لا يكون قد عرف الشجرة أو السمكة أو العصفور، لمجرد أنه قد عرف أسماءها، بل إنه يظل يزداد بها علما كلما صعد درجات العلم درجة درجة، حتى إذا ما بلغ المرحلة التي يعرف عندها كيف يوغل في تفصيلات الخصائص في أي شيء يزعم أنه قد عرفه حق المعرفة، إيغالا يمكنه من تحديد الفواصل التي يتميز بها شيء من شيء. لقد كان «ديكارت» فاتحة عصر علمي جديد، هو العصر الذي يوصف بأنه العصر «الحديث» لأنه أعلن في الناس - بين ما أعلنه - منهجا جديدا للعلم، ولقد جعل أول شرط من شروط ذلك المنهج، ما أسماه ب «الوضوح والتميز» فيما نقول عنه إننا قد عرفناه، و«الوضوح والتميز» جانبان ، أو خطوتان، في أولاهما نلم بحقيقة الشيء الذي نريد له أن يكون موضوعا للمعرفة، وأما الخطوة الثانية - أعني «التميز» - ففيها نتبين ما يختلف به ذلك الشيء عما سواه، فإذا كان كل نبات عند الطفل «شجرة» وكل ذي جناح «طائرا» وكل سابح في البحر «سمكة»، فهو بهذه الأسماء لا يكون قد عرف من مسمياتها إلا القدرة المحدودة، على استخدام حفنة من ألفاظ، يدير عليها كلامه مع الناس، أما الأشياء: الشجرة، والطائر، والسمكة، فهو لم يعرف بعد شيئا عنها، فمتى يبدأ علمه بها؟ إنه يبدأ بمعرفة حقائقها أولا، وما يميزها عن سواها ثانيا.

وهنا أبدأ حديثي فيما أردت التحدث عنه، وهو الموقف الطفلي الذي يسود حياتنا الفكرية، والذي تدور فيه ألسنتنا وأقلامنا، بمفردات من اللفظ، حتى إذا ما كان الأمر متصلا ب «الأشياء» التي جاءت تلك المفردات اللفظية لتشير إليها، وجدنا أنفسنا - في كثير من الحالات - في موقف من جهل حقيقة ما يتحدث عنه، ثم جهل أنه جهل، مما ينتهي بنا إلى أخلاط وأغلاط تصيب حياتنا العقلية بالشلل أو ما يقرب منه، وسبيلي في هذا الحديث، هو أن نتعاون معا على رسم «مطبوعة زرقاء» كالتي يرسمها مهندسو العمارة حين يوضحون بخطوط بيضاء على رقعة زرقاء، تقسيم الأرض التي سيقام عليها البناء ليستعين بها المقاول ومساعدوه على إخراج المبنى من عالم التصور والتصوير، إلى عالم التنفيذ والواقع، إلا أن العمارة التي أريد أن نتعاون على توضيح غرفها وأبهائها، هي حياتنا العقلية، فنحاول معا أن نرسم الفواصل بين أجزائها؛ لتتحقق لنا بذلك الخطوة الأولى نحو «المعرفة» بمعناها الصحيح، فبأي الصفات يتميز «العلم» وبأي الجوانب يختلف عن «الأدب»، وما هو جوهر «الأدب» الذي يجعله أدبا من جهة، ويختلف به عن «العلم» و«الدين» من جهة أخرى، وعلى أي نحو يستقل «الدين» بخصائص لا تكون في «العلم» ولا في «الأدب»، وهكذا سنحاول تبيين الفواصل ما استطعنا، لا فيما يختص بالرءوس الكبرى فقط، بل في بعض التفصيلات الداخلة في كل رأس من تلك الرءوس، ففي «العلم» - مثلا - علوم رياضية، وأخرى طبيعية، وثالثة اجتماعية تختص بالإنسان، فأين تتلاقى تلك الأقسام وأين تختلف؟ وفي «الأدب» شعر ورواية ومسرح ومقالة، فما الذي يجمعها؟ وما الذي يفرقها؟ وفي «الدين» عقيدة، وشريعة، وعليها تقام «علوم»؛ فعلى أي نحو يتم ذلك، حتى إذا تحققت لنا «المطبوعة الزرقاء» التي توضح لنا أقسام البيت الثقافي الذي نسكنه معا، فقد تنفتح الأبصار على مواضع الخلط والخطأ حين ندمج ما ليس يندمج، أو حين نباعد بين ما ليس من شأنه أن يتباعد.

وأول ما نلفت إليه النظر في مطبوعتنا الزرقاء، هو أن تعدد الأجزاء والعناصر لا ينفي ما بينها من «وحدة عضوية» تجعل منها في الحقيقة الواقعة كيانا واحدا موحدا، فتعدد الغرف والأبهاء والمنافذ في العمارة الواحدة لا يلغي وحدتها، كما أن تعدد الأعضاء ووظائفها في الإنسان، أو في أي كائن حي آخر غير الإنسان من نبات وحيوان، لا ينفي وحدتها العضوية، وماذا تعني «الوحدة العضوية»؟ إنها تعني في المقام الأول، أنه لا غنى لأي جزء عن سائر الأجزاء، فالرئتان شيء ذو وظيفة معينة هي التنفس، والقلب شيء آخر ذو وظيفة أخرى، لكن أحدا منهما لا يعمل إلا بمعونة الآخر، وهكذا قل في كل عضو من الكائن الحي، إذا جاءت حياته على الصورة المتكاملة التي أريدت لها، وعلى أساس هذا المعنى «للوحدة العضوية» أقمنا المعيار النقدي في دنيا الأدب والفن، الذي نطلب به أن يكون كل ناتج من مبدعات الأدب والفن مترابط الأجزاء على ذلك النحو الذي أشرنا إليه في الكائنات الحية جميعا.

وعلى هذا النحو نفسه، نريد لأجزاء المطبوعة الزرقاء التي نقدمها هنا تصويرا للحياة الثقافية كلها، أن تفهم على أنها أجزاء من «كل» موحد متصل، وليس من ذلك التوحيد بينها مناص؛ لأنها أولا وأخيرا، تتصل بحياة مجتمع من الناس، لا يتم له معناه من حيث هو «مجتمع» إلا إذا كان موحدا برغم تعدد أفراده، وإلا كان هؤلاء الأفراد كومة من المفردات المنفصل بعضها عن بعض، لا يربطها شيء سوى أن المصادفة العمياء جمعتهم في مكان واحد، إبان فترة معينة من الزمن، فإذا وجدت أن مطبوعتنا الزرقاء قد اشتملت على «علم » و«دين» و«أدب» و«فن» وربما اشتملت كذلك على أجزاء أخرى إذا أردنا أن نتوسع فيها، فاعلم أنها برغم ذلك تشير إلى رباط حي يصل تلك الأجزاء في حياة إنسانية واحدة، ومع ذلك فلا بد لمن أراد الفهم الصحيح لحياته، أن يحلل تلك الوحدة إلى عناصرها، ليتمكن من رؤية كل عنصر وما يؤديه، على حدة لا يختلط فيها مع عنصر آخر، فلن نكون على إدراك واضح «للعلم» وحقيقته وطبيعته ووظيفته، إلا إذا وضعناه وحده في أنبوبة اختبار، وكذلك الأمر بالنسبة إلى كل قسم من الأقسام الأخرى، لكن هذا العزل لكل عنصر، على حدة، لا يعني أن الباحث العلمي وهو يضطلع بالعملية البحثية، يلزم نفسه ببعض «القيم» التي جاءته أساسا من «الدين»، فهو يلتزم «الصدق» و«الأمانة» في أدائه وفي نتائجه، ومن ذا الذي علم الإنسان وجوب الصدق والأمانة، إلا أن تكون أمثال هذه الأوامر، قد جاءته من مصدر خارج النطاق العلمي الذي يجد نفسه في مجاله أثناء قيامه ببحثه العلمي، وكذلك قل في مبدعات الأدب والفن، فهي وإن تكن معنية قبل أي شيء آخر - بالشكل البنائي الذي تقيم هيكله ليحمل المضمون الإنساني الذي يحمله - فإنها لا تعظم قدرا، ولا تعلو رتبة، إلا إذا تضمنت في أعماقها المخبوءة أفكارا وقيما، ما كان المبدع ليستطيع في عمله الفني أن يفصح عنها علانية وبصورة مباشرة، إلا إذا أراد أن يجعل من عمله «وعظا» فإذا هو فعل خنق فنه خنقا، وإنما هو عمل «الناقد» بعد ذلك، أن يحلل ناتج الأدب أو الفن الذي بين يديه، ليخرج من أغواره الخفية ما قد كمن في ثناياها أو اختفى وراء أستارها، وهنا يجيء السؤال: ومن أين للأديب أو الفنان بالأفكار العظيمة أو القيم الروحية التي يبثها فيما يبدعه؟ إنه لا سبيل إلى ذلك إلا أن يستقيها من مصادر أخرى كالعلم أو الدين أو الخبرة بالحياة العملية في دنيا الواقع.

أما وقد لفتنا الأنظار إلى ما تخفيه الأجزاء وتعددها، من وحدة بينها تربطها في كيان بشري واحد ، فلنتحول الآن إلى مطبوعتنا الزرقاء وما تشتمل عليه؛ لنمعن النظر في أجزائها جزءا جزءا، وأول ما نبدأ به هو «العلم» وحقيقته؛ فنرى فيه أول ما نرى، وأن العلوم المختلفة لا تجري كلها في فلك واحد، وإن يكن بينها - وراء هذا الاختلاف - جذر واحد مشترك يربطها جميعا في أسرة واحدة، وإلا لما جاز لنا أن ندرجها جميعا تحت اسم واحد هو «علم»، فأما جانب الاختلاف بينها، فهو أنها تقع في مجموعات ثلاث، لكل منها موضوعها الخاص، فالمجموعة الأولى هي العلوم الرياضية، وموضوعها الخاص هو جانب «الكم» من أي شيء يمكن إخضاعه للقياس الكمي، وأما المجموعة الثانية فهي العلوم الطبيعية، وموضوعها الخاص هو ظواهر الكون على اختلافها، وأرجوك أن تقف قليلا عند كلمة «ظواهر» ليرسخ في ذهنك جيدا، أن مهمة العلم الطبيعي تقف به عند ما هو «ظاهر» من الأشياء، وأقول ذلك لكثرة أولئك الذين يتوهمون أنهم لن يبلغوا الكمال في مجال العقيدة الدينية إلا إذا أقاموا الدليل على تفاهة العلم، فتراهم يسألون في تحد: إن العلم يصف لنا ظاهر الكهرباء - مثلا - لكنه يعجز عن بيان حقيقة الكهرباء الكامنة وراء ذلك الظاهر، ومن أجل هؤلاء الذين يجهلون ويجهلون أنهم يجهلون، وجهت الرجاء إلى القارئ أن يقف قليلا عند كلمة «ظواهر» عندما حددنا الموضوع الخاص للعلوم الطبيعية، وأما المجموعة الثالثة فهي العلوم الإنسانية، وموضوعها الخاص هو «الإنسان» فردا ومجتمعا.

ونكتفي بهذا التقسيم إبرازا لجانب الاختلاف بين العلوم، أما ما تلتقي عنده كل تلك الفروع المختلفة لتبرر بهذا الالتقاء حقيقة كونها تنتمي إلى أسرة واحدة، فهو وجوب التزامها بمنهج «عقلي»، على اختلاف بينها بعد ذلك في صورة ذلك المنهج؛ لكي يتلاءم منهج البحث مع طبيعة الموضوع المطروح للبحث، فإذا كان الموضوع من مجموعة العلوم الرياضية، كان منهجه العقلي هو توليد النتائج من مقدماتها، و«التوليد» هنا مقصود بمعناه المباشر، كما تلد الأنثى ولدها، فقد كان الوليد مستبطنا في جوف أمه، ثم جاءت الولادة فأظهرت ما كان مستبطنا (وتأمل كلمة «مستبطن»، فهي تعني ما هو كامن في «البطن») ومنهج العلوم الرياضية هو كعملية الوليد، فيكون بين يديه حقيقة ما، كالعدد سبعة، أو ك «المثلث» في الهندسة أو ما شئت من رموز الرياضة ومفرداتها، فولد منها ما قد استبطنته، ويكون عمله العلمي صحيحا كلما كان الدليل قائما على أن هذا الوليد كان في جوف تلك الأم، وليلحظ هنا أمرا بالغ الأهمية، وهو أن الرياضي في عمله ذاك لم يستخدم أية حاسة من حواسه، فلا هو استخدم العين لينظر، ولا الأذن لتسمع، بل ركز على «الرمز» الرياضي الذي بين يديه، ليستولده ما كان مكنونا في جوفه، وأما إذا كان الموضوع من مجموعة العلوم الطبيعية، فالمنهج في معالجته - وإن يكن مرتكزا أيضا إلى «العقل» - إلا أنه جد مختلف، وذلك في نقطتين أساسيتين، بين أشياء أخرى؛ أولاهما: هي أن المرتكز الأول إنما يستند إلى ما قد أدركته «الحواس» من بصر وسمع بصفة خاصة، وما يعين البصر والسمع من أجهزة تكفل زيادة في دقة ما يرى وما يسمع، فتكون تلك الحصيلة من مرئيات ومسموعات هي «المعطيات» التي يقام عليها البناء، وأما النقطة الثانية: فهي أن الباحث العلمي، وهو يتفحص تلك المعطيات (التي قد يبلورها في إحصاءات أو في رسوم بيانية) لا «يستولدها» النتائج، كما كان يفعل زميله عالم الرياضيات، بل هو «يستلهما» ما عساها توحي إليه به من فكرة يفسر بها جميع تلك المعطيات المرئية أو المسموعة، وأمثالها من ظواهر الطبيعة، فإذا فتح الله عليه بأن ينقدح ذهنه عن فكرة كهذه، صيغت صياغة دقيقة، قد يلجأ فيها إلى لغة الرياضة، أصبحت مشروع قانون علمي يعرضه للمراجعة والتوثيق.

وبقيت مجموعة العلوم الإنسانية، فهي كأختيها السابقتين، لا تستحق أن تنخرط في زمرة العلوم، إلا إذا انتهجت منهجا يستند إلى منطق «العقل»، إلا أن الرأي في ذلك ينقسم إلى رأيين: أحدهما يريد لهذه المجموعة من العلوم منهجا خاصا بها، لاختلاف الظواهر «الإنسانية» عن سائر ظواهر الكون، في حين يصر أصحاب الرأي الثاني على أن يكون المنهج واحدا مشتركا بين ظواهر الوجود الإنساني، وظاهر الأشياء الأخرى؛ لأن كلتيهما مدركة بالحواس، فإذا كان الإنسان متميزا وحده بصفة ما، لم تكن تلك الصفة مما يخضع للبحث العلمي، وتحال إلى مجال آخر من مجالات مطبوعتنا الزرقاء.

فلئن كانت العلوم بمجموعاتها الثلاث، تختلف فيما بينها منهجا على النحو الذي ذكرناه، إلا أن مناهجها جميعا تتفق في كونها مقامة على منطق «العقل»، ولقد سبق لهذا الكاتب في مناسبات كثيرة؛ رغبة منه في أن تكون هذه الكلمة الهامة والخطيرة محددة المعنى تحديدا لا لبس فيه ولا غموض، ومع ذلك فلا بأس في أن نعيد تحديدها مرة أخرى، فنقول: إن العملية الذهنية تكون «عقلا» إذا كانت حركة استدلالية، ينتقل فيها الذهن من مقدمات موضوعة بين أيدينا، إلى نتائج تترتب عليها، وفي العلوم الرياضية تكون تلك المقدمات «فروضا» يقدمها العالم الرياضي، وكان من حقه كما هو من حق غيره، أن يقدم فروضا أخرى، وعندئذ تصبح النتائج مختلفة، ويصبح البناء الرياضي كله غير الذي كان، وأما في العلوم الطبيعية، فنقطة البدء دائما تكون معطيات قدمتها لنا حواسنا عن الحقيقة الواقعة، ولا حق للباحث أن يغير مما هو واقع، بل محتوم عليه أن يلتزم به وبنتائجه.

وعند هذه النقطة نتحول إلى مجال «الدين» في مطبوعتنا الزرقاء، لنجد الفارق الواضح بين «علم» و«دين»، حتى إذا ما رأيناه في وضوحه الناصع، حق لنا أن نعجب من علماء أفاضل يخلطون بين المجالين، فيرون «علما» فيما هو «دين»، فلقد أوضحنا لك فيما أسلفناه عن «العلوم» بكل صنوفها، أنها قائمة أساسا على منطق «العقل»، وحددنا لك ما نعنيه في هذا السياق بكلمة «عقل»، وهو أنه حركة استدلالية انتقالية يتحرك بها الفكر من مقدمات أو شواهد، إلى نتائج تكون هي نظريات العلم وقوانينه، أي إن «العقل» ينتهي إلى ما ينتهي إليه بطريق غير مباشر، إذ هو يلجأ إلى حركة انتقالية تتوسط بين المعطيات الأولية من جهة، والنتائج التي تولدت عنها من جهة أخرى، وأما العقيدة الدينية فعمادها «إيمان»، والإيمان طريقه مباشر، فينزل الوحي الإلهي على نبي أو رسول، فيعلنه أمام الناس، فمن قبله كان مؤمنا، والقبول هنا مباشر، لا واسطة فيه بين المسموع من جهة وقبوله من جهة أخرى، شأنه في ذلك شأن العملية الذوقية، تضع الطعام على اللسان فتذوقه بلمسة مباشرة، كما تلمس بأصابعك الحديد الساخن فتحس لسعته مباشرة، بغير وسيط بين الملموس واللامس، وهكذا أيضا تكون النشوة الفنية، إذا استمعنا إلى بيان لغوي أخاذ، كقصيدة جيدة من الشعر أو إذا ما وقعت أبصارنا على موضع في الطبيعة أو في مبدعات الفن، وهكذا ينزل الوحي على القلوب فتنبض بالقبول، فيكون إيمانا، وبالطبع قد يحدث بعد ذلك لمن آمن أولا، أن يتناول ب «العقل» ما كان قد آمن به، ليستدل منه ما يمكن استدلاله، وبهذا يتكون «علم الدين» أو «علوم الدين» حين تتعدد تلك العلوم بتعدد الزوايا التي ينظر بها الباحثون إلى النصوص التي كانوا، وما زالوا، يؤمنون بها إيمان «قلب»، سواء تناولها بعد ذلك «عقل» علمي أم لم يتناولها، فذلك لا يغير من إيمان المؤمنين شيئا.

إن من أخص خصائص الدين، أنه مع الإيمان بالله ورسله، وكتبه، واليوم الآخر، يمد المؤمنين بمجموعة ضخمة من «قوانين» السلوك الصحيح، فهو آنا «يأمر» بما يجب فعله، وآنا آخر «ينهي» عما لا يجوز فعله، وواضح أن تلك القوانين الأخلاقية، الضابطة لسلوك المؤمنين بالدين المعين، تجيء «قبل» السلوك ذاته، حتى إذا ما أراد السالك أن يسلك طريقا ما وجد بين يديه «القانون» الأخلاقي الموجه له، وهنا نلفت النظر إلى فارق واضح آخر، غير الفارق الذي أسلفناه بين ما هو «علم» وما هو «دين»، فبينما قوانين العلم تأتي «بعد» وجود الظاهرة الكونية، التي استخلص منها العلماء قوانينها نرى قوانين الأخلاق - عند المؤمنين بالدين - تأتي «قبل» أن ينشأ السلوك الذي يهتدي بهديها.

فهل يجوز لنا بعد هذا كله، أن يلتبس الأمر علينا، فنخلط بين «علم» و«دين» خلطا ذهب بنا إلى حد أن نبحث عن «العلوم»، في كتاب الله الكريم ؟ فنسمع عن مؤتمر يقام تلو المؤتمر، ويحضر تلك المؤتمرات علماء نجلهم أعظم إجلال، ونوقرهم أرفع توقير، يحضرونها ليبحثوا مرة عن علم الطب في القرآن الكريم، ومرة ثانية عن علم الاقتصاد، ولقد طالعتنا الصحف ذات يوم بالمهندسين يرجون أن يقام مؤتمر للبحث عن العلوم الهندسية في القرآن الكريم، إنه إذا وردت «حقائق» معينة في الكتاب الكريم، عن هذا المجال أو ذاك، فهي «حقائق» ولكنها ليست «علوما»؛ لأن جوهر «العلم» ليس هو مجموعة معينة من «حقائق»، بل جوهره «منهج» خاص يؤدي إلى الكشف عن تلك الحقائق، فإذا حدث أن تبين شيء من القصور أو الخطأ في تلك النتائج التي كان قد وصل إليها العلم بمنهجه ذاك، جاء من العلماء بعد ذلك من عرف كيف يسد وجه القصور أو يصحح موضع الخطأ، ولعله مما ينفع الناس في هذا السياق، أن نذكرهم بأنه عندما كان «للفلسفة» اليونانية التي نقلها العرب المسلمون في القرون الأولى من تاريخ الإسلام، نوع من ارتفاع المنزلة عند رجال الفكر يومئذ، فقد أحسوا بشيء من الغيرة على ما قد نزل به الدين الموحى به، فاتجهوا بجهدهم نحو أن يبينوا أن ما قد أنتجته حكمة الفلاسفة وارد في القرآن الكريم، ثم لم يلبث نفر من أئمة الفكر الإسلامي، كابن تيمية والغزالي، أن أخذهم القلق من ذلك الموقف الذي ربما دل على شعور بالنقص إزاء وافد عليهم من خارج دينهم، وتمضي القرون، وإذا بوافد آخر يأتينا من خارجنا، وهو هذه المرة «علوم» لا فلسفة، فواعجبا أن نرى الغيرة القديمة قد أخذت علماءنا المحدثين والمعاصرين، فاتجهوا بجهدهم أيضا ليقولوا إن ما قد جاءت به «العلوم» الحديثة، وارد في القرآن الكريم، وفي الرأي المتواضع لكاتب هذه السطور، أن «الدافع النفسي» في كلتا الحالتين لم يكن له ما يبرره، فإذا ظهرت فلسفات هناك، أو علوم هنا، فتلك وهذه ملك للإنسانية كلها، وواجبنا الصحيح هو المشاركة الإيجابية الفعالة في هذه وتلك معا، على قدم المساواة بيننا وبين سوانا، إذ ليس في الأمر ما يدعو أحدا إلى هجوم ودفاع، إن القرآن الكريم هو كتاب الإسلام، والدين والعلم يتكاملان في الإنسان كما يتكامل فيه السمع والبصر، أو كما يتكامل القلب والرئتان دون أن يكون السمع بصرا أو البصر سمعا، ودون أن نقول عن الرئتين إنهما موجودتان داخل القلب، أو إن القلب موجود داخل الرئتين، وعلى هذا القياس لا يكون الصواب هو أن يقول المؤمن إن لي دينا فيه العلم، وإنما الصواب هو أن يقول: إن لي دينا، وعلما محكوما بقيم الدين.

ها نحن أولاء قد فرغنا - في استطلاعنا لأقسام المطبوعة الزرقاء - من الحديث الموجز عن الدين والعلم، وما بينهما من فواصل وصلات، وبقيت أمامنا أقسام أخرى، كالأدب بفروعه، والفن وفروعه، والفلسفة ووظيفتها إزاء هذا كله، فليس لنا يد، إذا نحن أردنا لأنفسنا وضوح الفكر، من أن نكون على بينة من طبائع هذه الأقسام التي منها تتألف حياتنا الفكرية، ففي الخلط بينها زلل وخبط في الظلام.

المطبوعة الزرقاء «2»

«سر البلاغة في الوصل والفصل» ... هذا مبدأ في نقد الأدب، صاغه في هذه العبارة الموجزة ناقد عربي قديم، ولست على رأي ثابت في مدى صحته، فبينما هو أمر مقطوع بصوابه، أن يكون جانب من براعة الأديب أن يحسن «الوصل» و«الفصل» بين أجزاء الكلام، بحيث تجيء «عبارته» منسابة في يسر وكأنها مسلسل من ينبوع دافق، لا يتعثر فيها القارئ عند الفواصل، لكنها - مع ذلك الانسياب المتصل - لا يفوتها أن تقف وقفات مفاجئة، بطريقة من طرق الفصل بين سابق ولاحق، وذلك عندما يراد للقارئ أن يتنبه لحقيقة هامة يوردها الكاتب في سياق حديثه؛ لأنه إذا امتد الأمد بالقارئ في انسياب موصول منغوم، فقد تأخذه سنة من خدر، وعندئذ يصبح في حاجة إلى «فصلة» تشق عليه الطريق المطرد، فتوقظه، وهكذا يظل القارئ، بين انزلاق يسهل فوق سطح أملس، من كلام محبوك الوصلات، بين أجزائه، ووقفات تقطع الرتابة، عند مواضع ينفصل فيها سابق عن لاحق. أقول إنه بينما هو أمر مقطوع بصحته أن يكون على براعة يحسن بها وصل الكلام وفصله، فهنالك ما يبرر لنا أن نتساءل قائلين: أحقا إن سر البلاغة كامن في هذه البراعة وحدها؟ فنحن إذا ما أدرنا البصر بلمحة واحدة، إلى آيات الإبداع الأدبي، وجدناها أكثر تنوعا من أن تكون هذه الظاهرة وحدها - وأعني إجادة الوصل والفصل بين أجزاء الكلام - هي الشرط الضروري والكافي لتعليل «البلاغة» وتأصيلها.

على أننا وإن كنا نتردد في قبول هذا المبدأ النقدي القديم - الذي أراد أن يجعل في «الوصل والفصل» أساسا تقام عليه «البلاغة» بجميع أشكالها - فنحن على استعداد لقبول هذا الأساس نفسه، لنقيم عليه «وضوح الأفكار»، والفرق بعيد بين «أدب بليغ» و«فكر واضح»، وليس أمامنا أدنى مجال للشك، بأن الحد الفاصل بين «فكرة واضحة» و«فكرة غامضة»، هو أن الأولى تدقق في جمع ما هو متشابه ليكون بمثابة الأفراد في أسرة واحدة، قد يختلفون في صفات عارضة، لكنهم يتفقون في عصب واحد، وفي الوقت نفسه، تدقق الفكرة الواضحة في إبعاد ما ليس ينتمي بطبعه إلى تلك الأسرة، ومعنى ذلك هو أن وضوح الفكر يكمن في «وصل» ما هو متشابه الجوهر، و«فصل» ما ليس منه؛ حتى لا يختلط حابل بنابل، وليست هذه العملية الفكرية الواصلة الفاصلة، بالهنة الهينة التي يستطيعها كل عابر طريق، بل هي مما تحتاج من كاسبها إلى تدريب منهجي طويل، انظر - مثلا - إلى قول الكتاب الكريم، موصيا الولد أن يخفض لوالديه جناح الذل من الرحمة، فها هنا تصوير «للرحمة» بطائر ذي جناحين، إلا أن الجناحين غير متشابهين، فجناح منهما تكون فيه «الرحمة» استعلاء من الراحم على من يتجه إليه برحمته، وأما الجناح الثاني فتكون «الرحمة» فيه عن استسلام وخضوع لمن يتلقى منه تلك الرحمة، وهذا الضرب الثاني هو الذي يوصي الكتاب الكريم بأن يراعيه الولد نحو والديه، فصاحب الفكر الغامض المتعجل، قد يكتفي بنظرة سطحية إلى معنى «الرحمة» على ظن منه أن المعنى واضح لا يحتاج إلى تحليل وتمييز، فتضيع منه هذه التفرقة بين نوعين غير متشابهين، برغم كونهما يندرجان معا تحت اسم واحد.

وربما دهشت إذا زعمت لك أن جانبا ضخما من التخلف الفكري الذي يلفنا بسواده، إنما يرجع إلى خلط فاضح تخلط به بين المعاني، حتى لقد جاءت الأمثال الشعبية لتشير إليه لعلنا ننتبه فنحذره، وذلك في مثل قولنا: «إذا قلنا: ثورا، قالوا: احلبوه»؛ خلطا منا بين الثور والبقرة، فما بالك إذا ارتفعنا بمستوى الحديث لنتناول الفوارق بين ما يكون من الكتابة «أدبا» وما لا يكون؟ لقد حدث لي ذات يوم بعيد، أن دعاني جار كريم على شاي العصر، مع ضيف دعاه لزيارته، وكان الضيف حاملا لإجازة الدكتوراه في القانون من السوربون بباريس، وهو من مناصب القضاء في درجاتها العليا، وما كادت تدور بيننا أطراف الحديث، حتى اتجه نحوي بهذا السؤال: من أي الكليات الجامعية يتخرج «الأديب»؟ أهي جامعة الأزهر التي تخرج «الأدباء»؟ وكان أعجب ما عجبت له من السائل وسؤاله، هو أن حديثنا قبيل ذلك كان عن توفيق الحكيم وأدبه، وكان السائل هو نفسه الذي بادرني بقوله: إن توفيق الحكيم برغم كونه أديبا عظيما فهو من رجال القانون، فلما رددت عليه قائلا: ولماذا تريد حرمان رجال القانون من موهبة الإبداع الأدبي؟ فاجأني بسؤاله الذي أسلفت ذكره عن الأدباء ومن أية كلية أو جامعة يتخرجون، دون أن يلحظ التناقض الصارخ بين ما تحدث به عن توفيق الحكيم، دارسا للقانون ومبدعا للأدب - وبين سؤاله بعد ذلك مباشرة عن تخريج الأدباء من أين يكون؟ وبرغم ذلك التناقض كله، وهذا التجاهل كله، أخذت أشرح له - مع ذكر الأمثلة من حياتنا الأدبية - كيف أن موهبة الإبداع الأدبي لا شأن لها بنوع الدراسة الجامعية أو غير الجامعية، فأحمد شوقي شاعر ودراسته القانون، وحافظ إبراهيم شاعر ودراسته عسكرية، وإبراهيم ناجي شاعر ودراسته الطب، وعلي محمود شاعر ودراسته الهندسة، وصالح جودت شاعر ودراسته المحاسبة، وصلاح عبد الصبور شاعر ودراسته الأدب العربي، وعباس العقاد شاعر ودراسته في مكتبة منزله.

فإذا رأينا رجلا في مثل هذه الدرجة العالية في التعليم والمنصب، وفي موضوع كموضوع «الأدب» من حيث هو موهبة خلقت خلقا في مبدعيه، قد اختلطت في ذهنه المعاني، اختلاطا أدى إلى ما قد رأيناه من غموض فكري - وهو غموض ربما اقتصر عنده على مجالات غير مجال تخصصه الذي هو «القانون» في صورته النظرية وفي تطبيقه - أقول: إذا رأينا رجلا في مثل هذه المكانة قد انبهمت أمامه الفواصل التي تقيم الحدود بين فكرة وفكرة، فماذا نحن قائلون في أنصاف المثقفين وأرباعهم - ودع عنك عامة الناس - ولا سيما إذا كان الموضوع المطروح بطبيعته صعب التحديد، هلامي المفهوم، وفيه مرونة تسمح لمن شاء أن يخلع عليه من المعاني ما شاء؟! و«القيم» كلها من هذا القبيل: كفكرة الحرية، والعدل، والوطنية، والانتماء، والتضحية، وغير ذلك من المعاني التي هي قوية التأثير في حياة الناس، وهي في الوقت نفسه على كثير جدا من التداخل بعضها في بعض.

إن هدفنا من هذه «المطبوعة الزرقاء»، هو أن نبين ما وسعنا البيان، أقسام الحياة العقلية والوجدانية التي يحياها الإنسان، وأن نحدد ما استطعنا التحديد، الروابط «الواصلة» بين مختلف الأقسام، كما نحدد في الوقت نفسه، أوجه الاختلاف «الفاصلة» قسما منها عن سائر الأقسام، وذلك يقينا منا أن مثل هذا التحديد هو الخطوة الأولى والضرورية، نحو الفكر الواضح، ووضوح الفكر - بدوره - هو الأساس الذي لا يعادله أساس آخر، من حيث قوة البناء الثقافي الذي يبنى عليه، لتدور في غرفه وأبهائه حياة الناس، ولقد أسلفنا لك في حديثنا السابق، ما بين «العلم» و«الدين» من صلات وفواصل، وسبيلنا الآن هو أن نبين المعالم الرئيسية التي تميز ذلك الشيء الذي يسمونه «أدبا» والذي كثيرا ما غمض فيه الأمر حتى ليعد كل ما أمسك بقلم، وجرى به على ورق «أديبا»؛ فما هي أهم المعالم التي تميز «الأدب» تمييزا يتباين به عما عداه من أقسام البناء الفكري والوجداني في حياة الناس؟

الحق أن ما قد احتفظت به خزائن الشعوب، من نفائس تركتها لهم أقلام النابهين من أسلافهم، بل وإلى جانب تلك النفائس المكتوبة، ذخائر ليست بالقليلة مما نطق به اللسان قبل أن يعرف الإنسان ما الكتابة وما العلم؟ ثم جاء بعد ذلك - في عصور التدوين - من دون تلك الذخائر الصوتية التي لم تكن قد وجدت ما يحافظ عليها سوى ذاكرة الإنسان الحافظة، أقول إن ما قد حفظته خزائن الشعوب من تلك النفائس والذخائر، هو من الكثرة والتنوع، ما يخيل إلينا بإزائه، أن محاولة الوقوع على صفات مشتركة بين تلك الكثرة الهائلة والمتنوعة، إنما هي ضرب من المحال، فهنالك «الشعر» قد جاءنا على صور مختلفة، وهنالك النثر من الأدب قد رأيناه على ألف شكل وشكل، فما هو الرباط الواصل بين هذه المتنوعات، الذي يتيح لنا أن نقول عنه، إنه هو الصفة الحاسمة المميزة لما يستحق أن يعد «أدبا»؟ ومن هنا اختلف بيننا الرأي، فما يسلكه أحدنا في عالم «الأدب» قد يخرجه آخر من ذلك العالم ليجعله كلاما كسائر الكلام، ويحدث هذا الاختلاف في الرأي، حتى في الحالات التي يخيل إلينا فيها أن الحق واضح أبلج لا مكان فيه لريبة المرتاب، وليس تاريخنا في ذلك ببعيد، حين رأينا شاعرا مثل أحمد شوقي، يكاد يجمع عليه الرأي بأنه شاعر لا شك في مكانته من دنيا الأدب، ومع ذلك لم يخل ميدان «النقد الأدبي» من جماعة لها وزنها الراجح في تقويم «الأدب»، تعلن بأن أحمد شوقي لا هو شاعر ولا شبيه بالشاعر (بهذا النص وبهذه الكلمات) فمن أين لنا - إذن - أن نتفق على خاصية تميز «الأدب» من سائر الأجناس من التي تجتمع معا في الوعاء الثقافي المشترك؟ لكن الأمر الواقع في التاريخ الأدبي، عندنا وعند غيرنا، قد استقر - برغم ذلك التباين الواسع في أحكام النقاد - على خصائص بعينها، لا بد أن يتوافر منها عدد مقبول، إن لم تتوافر كلها، في العمل الذي يستحق أن يدرج في الميراث الأدبي.

وأولى تلك الخصائص - في تقدير هذا الكاتب - أن يكون مدار الاهتمام في العمل الأدبي - أيا كان نوعه - هو «الإنسان» لا من حيث أن ينظر إلى «الإنسان» من زاوية تجعله «ظاهرة» في الطبيعة، كسائر الظواهر، بحيث يدرسها الدارس من ناحية الواقع الظاهر، ليستخرج ما قد يراه من «قوانين » مطردة، كما هي الحال بالنسبة إلى علماء العلوم الإنسانية، كعلم النفس، وعلم الاجتماع، وعلم الاقتصاد ، وما إليها؛ لأن هذه كلها «علوم» كسائر العلوم، ومطالبة بما يطالب به «العلم» على اختلاف ميادينه، من ناحية «المنهج» الذي أجاز للباحث العلمي أن ينتهي إلى النتائج العامة التي انتهى إليها، ومن علامات الوقفة «العلمية» أن يكون من حق كل مختص في ميدان علمي معين، أن يطالب البحث الذي وصل به بحثه العلمي إلى نتيجة معينة، أن يبين له كيف استطاع الوصول إلى النتيجة تلك؟ على أن يكون التطبيق على الواقع أحد المراجع الحاسمة التي تميز الخطأ من الصواب.

والفرق بعيد بعد النقيض من النقيض، بين ما نعنيه ب «الإنسان» حين يكون موضوعا لأحد العلوم الإنسانية، و«الإنسان» الذي نقصد إليه، حين نقول عنه إنه هو مدار الاهتمام في الإبداع الأدبي، فبينما الباحث العلمي في الإنسان يطرح من حسابه ما هو خاص بهذا الفرد من الناس أو بذلك الفرد، ليستبقي من حقيقة «الإنسان» ما هو مشترك بين الناس جميعا - أو بين الناس في المجموعة المعينة التي اختارها موضوعا لبحثه - نرى صاحب الإبداع الأدبي يسير في الاتجاه المضاد، بمعنى أنه يطرح من حسابه ما هو عام ومشترك بين الناس، ليستبقي ما هو خاص بالفراد الواحد الذي جعله مدارا لاهتمامه في إبداعه الأدبي، وواضح أن ذلك التخصيص والتفريد - لا يتناقض مع تصوير الأدب لجماعة من الأفراد - يجمعهم معا في ساحة واحدة ليجعلهم يتفاعلون معا، فيتحابون أو يتنافرون، بل إن ذلك التفاعل البشري، الذي هو عمل الأديب الروائي في المقام الأول، هو من أقوى الوسائل الأدبية إظهارا لحقيقة كل فرد من جماعة الأفراد المتفاعلة بعضها مع بعض، على أن الأديب قد يركز الرؤية على فرد واحد، وربما كان هذا الفرد الواحد هو الأديب نفسه، كما هي الحال فيما يسمى بالشعر الغنائي، الذي ينصب معظم القول فيه على ذات الشاعر نفسه من الباطن، يتعقب خلجاتها في لحظة زمنية بعينها، كالذي نراه في شعر الغزل عند المحبين، وهنا نلاحظ أن عملية «التفريد» والتخصيص، التي تميز الأدب بصفة عامة، إنما تبلغ أقصاها؛ لأنها لا تكتفي بأن يكون «الواحد» المتميز فردا من الناس، بل إنها لتجتزئ من حياة ذلك الفرد الواحد «حالة» واحدة، في «لحظة» واحدة، وقد يقول الشاعر عن نفسه شيئا آخر، إذا ما انتقلت حياته إلى «حالة» أخرى، في «لحظة» أخرى.

وأرجو أن يلحظ القارئ هنا، تلك النتيجة الهامة المترتبة على أن يكون العمل الأدبي قائما - من جهة - على التخصيص والتفريد، لا على التعميم والتجريد اللذين يتميز بهما العمل «العلمي»، وقائما - من جهة أخرى - على أنه ينقل «حالة إدراكية» عند الأديب، إزاء موضوع معين، لا على أن يقدم «فكرة» لها طبيعة الأفكار التي تقدمها العلوم، وتلك النتيجة الهامة التي أشرت إليها، هي ألا يكون من حق المتلقي للناتج الأدبي، لقصيدة الشعر، أو المسرحية، أو الرواية، أن يطالب صاحبها بإقامة «البرهان» على أن ما قد أورده في كلامه صحيح، بالنسبة إلى واقع الأشياء، فإذا قال المتنبي مثلا:

أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي

وأسمعت كلماتي من به صمم

فلا يجوز لأحد أن يعترض على ذلك بقوله: إن الأعمى لا ينظر، وإن الأصم لا يسمع؛ لأن الشاعر هنا قد أحس تجاه شعره، إحساسه بما يستحيل وجوده في الحياة الواقعة كما يألفها الآخرون، فنقل إحساسه هذا إلى المتلقي، فإذا كان الأثر عند هذا المتلقي هو أن يفتح عينيه، ويفغر شفتيه، ذهولا من ذلك المستحيل الذي عرضه عليه الشاعر، كأن الشاعر قد نجح في توصيل «الحالة» التي اختلجت بها نفسه حين أرادت تلك النفس أن ترى قدرها بالقياس إلى أقدار الأنفس الأخرى.

لكن كيف يتاح لصاحب الإبداع الأدبي أن ينقل «حالته» الإدراكية الخاصة به إلى الآخرين؟ إن ذلك يكون بالطريقة التي يرتب بها كلماته، وذلك «الترتيب» أو «التنظيم» أو «النظم» هو ما يسمونه بالصورة، أو الشكل، أو «الفورم»، ومن هنا كان «الشكل» - أعني الطريقة التي رتبت بها أجزاء العمل الأدبي بجميع أنواعه - شرطا ضروريا لأي عمل يراد له أن يكون أدبا أو عمم هذا القول إن شئت، وقل: إن «الشكل» شرط ضروري لكل فن، أدبا كان ذلك الفن أم كان فنا آخر من فنون التشكيل والتعبير، والمراد بالشكل في أي تكوين فني، بما في ذلك، «الأدب»: هو ذلك التنظيم الذي يجعل المتلقي، إذ هو ينتقل من جزء إلى جزء يليه، يبني في نفسه - جزءا جزءا - «حالة» نفسية، هي ذاتها الحالة التي اختلجت بها نفس الفنان، فأخرجها كما أخرجها، بحيث إذا ما جاء المتلقي إلى خاتمة مطافه، كانت تلك «الحالة» قد اكتمل وجودها عنده، وأنه لأمر يتعذر حدوثه، إذا لم تكن القطعة الفنية قد صيغت كما صيغت، ورتبت أجزاؤها كما رتبت.

ولما كانت كل حالة إدراكية أو وجدانية، مما يجيء به تيار الوعي في نفس الإنسان، فريدة نوعها، بمعنى أن تكون معدومة النظائر، لا عند الآخرين فحسب، بل عند صاحبها نفسه؛ لأنه إذا ما امتلأ - مثلا - بحالة من «اليأس» في لحظة بذاتها، ثم انتقل في لحظة أخرى إلى حالة أخرى من حالات «اليأس»، فلكل من هاتين الحالتين ظروفها، التي لا تجعل الحالتين تتساويان كما يتساوى الشطران في معادلة رياضية، بل إن المذاق ليختلف بينهما برغم اشتراكهما معا في أسرة «اليأس»، ولو لم يكن الأمر كذلك، لاكتفينا من قيس في حبه لليلى، بقصيدة واحدة، بل لاكتفينا منه ببيت واحد، ومن ذلك نفهم أن متلقي القطعة الفنية إذا تكونت لديه «حالة» كالحالة التي اختلجت بها نفس الفنان، وهو يبدع، لم يكن معنى ذلك أن يتطابق الأصل والصورة تطابق الشيء وانعكاسه في المرآة؛ لأن لكل من الفنان ومتلقي فنه، حياته الخاصة وظروفها، فيكفي إذن أن تجيء الحالة عند الفنان، وانعكاسها عند المتلقي، كالأخوين في أسرة واحدة، يتشابهان لكنهما كذلك يختلفان.

وهذه الفردانية المطلقة التي نزعمها «للحالة» التي يهم الأديب بنقلها، تقتضي أن يجيء التعبير عنها منفردا فردانية مطلقة كذلك، فالمثل الأعلى الذي نتوقعه، من الأثر الفني أيا كان نوعه، هو أن تجيء بلا مثيل في كل ما أنتجه بشر، فيأتي اللفظ - في الأدب - وكأنه مستخدم في صورة جديدة ، والصورة الأدبية لا بد أن تكون مبدعة غير مسبوقة عند أديب آخر، وهكذا الأمر في كل تفصيلة من تفصيلات البناء الأدبي، وهذا الإبداع لما هو جديد غير مسبوق، لا ينفي أن يقوم إلى جانبه «جديد» من نوع آخر، وهو تلك الروح التي تشمل جميع المبدعين في العصر الواحد المعين، بحيث يتميز كل عصر بما يميزه في عصور التاريخ الأدبي.

وأود أن أختم حديثي هذا عن «الأدب» وما يتميز به من ملامح وسمات، دون سائر ضروب الكتابة الأخرى، بكلمة أحدد فيها للقارئ عن «المقالة» متى تكون أدبا ومتى لا تكون، فقد لا يصعب على القارئ أن يتبين خصائص «الأدب» في الشعر، وفي المسرحية، وفي الرواية، وفي القصة لكنه كثيرا جدا ما يلتبس عليه الأمر، إذا ما كان المعروض بين يديه ذلك الضرب من الكتابة الذي يسمونه «مقالة»، فآنا ترى من يجعل كل مقالة «أدبا» مهما كان موضوعها، ومهما كانت صورتها، وآنا آخر ترى من يخرج «المقالة» من دنيا الإبداع إخراجا يباعد بينها وبين أن يكون لها بالأدب نسبة ولا صلة، وآنا ثالثا ترى من يجيز إطلاق اسم «الأدب» على «المقالة» وكأنه يفعل ذلك تصدقا وتفضلا.

وحقيقة الأمر في «المقالة» حين تعد «أدبا» وحين لا يتوافر لها ما تستحق به أن تكون «أدبا» هي حقيقة واضحة، ف «المقالة» التي يراد لها أن تكون أدبا من الأدب، لا حق لأحد أن يعفيها من شروط «الأدب» الأساسية، وهي الشروط التي أسلفنا لك بعضها؛ فأولا: يجب أن يكون موضوعها وهدفها هو بيان «الإنسان» في جانب من جوانب طبيعته، على ألا يجيء ذلك بطريقة «العلوم الإنسانية»، بل لا بد أن يجيء بطريقة الإبداع الأدبي، ما دام كاتبها قد أراد لها ذلك.

وطريقة الإبداع الأدبي - كما أسلفنا القول - تختلف أساسا عن طريقة «العلوم» في أن البحث العلمي من شأنه أن يسقط من حسابه خصائص «التفريد»، أي الخصائص التي تجعل من الموقف المعين، أو من الإنسان المعين، كائنا مفردا وفريدا، يختلف بخصائصه عن كل ما عداه أو من عداه من سائر المواقف أو من سائر الأفراد، نعم إن «العلم» من شأنه أن يطرح من حسابه كل ما هو «خاص» بحثا عما هو عام وشامل للنوع كله، في حين يتجه «الأدب» اتجاها مضادا، فيبقى بين يديه ما يخصص الموقف المعين أو الفرد المعين، مسقطا من حسابه التعميمات المجردة الشاملة؛ وعلى هذا ف «المقالة» تكون «أدبا» إذا تركت قارئها بانطباع فيه خصائص التمييز والتفريد، ولا تكون من الأدب، إذا شابهت في طريقة عرضها طريقة البحث العلمي، بمعنى أن تعرض نفسها في فقرات، كل فقرة منها بمثابة المقدمة المنطقية التي يتولد فيها ما يليها.

وربما يكون تصويرنا للفرق بين الحالتين أوضح إذا قلنا: إنه بينما المقالة غير الأدبية تكون في تتابع أجزائها، كدرجات السلم التي تصعد بالصاعد من أرض المبنى إلى سقفه، وها هنا لا بد لكل درجة من سابقتها ليتمكن الصاعد من الصعود، نرى المقالة التي هي «أدب» تلجأ إلى طريقة أخرى للوصول إلى هدفها، إذ تعرض خطوطها، وكأن كل خط وحدة قائمة بذاتها، إلا أنها تحرص على أن تتلاقى جميع تلك الخطوط المستقلة، عند نقطة واحدة، هي النقطة التي أراد كاتب المقالة الأدبية أن يوصلها إلى القارئ.

ذلك - إذن - هو شرط من شروط «المقالة» حين تكون «أدبا»، وأما الشرط الثاني، فهو أنها - شأنها في ذلك شان كل صورة أدبية أخرى - يجب أن تنصب في «شكل» يدبره لها كاتبها، أعني أنها يجب أن يقام لها «فورم» ينظم على أساسه تتابع تلك الخطوط المستقلة التي ذكرناها، فليس في عالم الفن كله - أدبا وغير أدب من موسيقى وتصوير ونحت وعمارة - فن واحد لا يتوافر فيه «الشكل» أو «الفورم» أو خطة الترابط الذي يربط الأجزاء بعضها ببعض، وفيما يختص ب «المقالة» فإنها حين لا يراد لها أن تكون أدبا، لا يتقيد فيها تتابع الأجزاء إلا بالرابطة المنطقية وحدها التي تجعل السابق مقدمة تستلزم التالي، وأما حين يراد «للمقالة» أن تكون قطعة من أدب، فيلزم اللجوء إلى «شكل» يوصل المضمون إلى المتلقي بطريق غير مباشر، حتى لكأن ذلك المضمون أقرب إلى «حالة» منه إلى «فكرة»، وإذا نجح الكاتب في بث «حالة» نفسية معينة في قلب المتلقي، نجح كذلك في أن يودع فيه حوافز العمل نحو التغيير.

وغني عن البيان أن تجيء «المقالة» الأدبية - كأي أدب آخر - حاملة في سطورها شخصية كاتبها، حتى ليقرأ له القارئ فيحس كأنه يراه أمامه متحدثا، فبينما «العلم» يستهدف موضوعية عارية مجردة تخفي قسمات الباحث العلمي، فلا يعرف القارئ أجاء من بلاد الغرب أم جاء من بلاد الشرق يستهدف الأدب «ذاتية» متميزة السمات، فإذا قرأت قلت هذا فلان.

إنها صلات وفواصل تتقارب بها نواتج الفكر والفن وتتباعد، وأولى درجات «الوضوح» أن نكون على بينة بما يصل وما يفصل، وبقدر ما استطعناه من هذا التمييز تكون الهداية في تسديد الخطى نحو الأهداف.

المطبوعة الزرقاء «3»

قال لي صاحبي: كنت في العشرين من سنوات عمري، عندما علمت مصادفة، بأن هنالك في حي عابدين بالقاهرة، معرضا أقامته وزارة الصحة، عرضت فيه ضروبا مختلفة من التصوير والتجسيد، تبين للناس كيف ركب جسم الإنسان، وكيف تتسلل إليه جراثيم المرض، وكيف تكون الوقاية، فذهبت لأرى، وهناك وجدت عند المدخل صفا من أنابيب زجاجية، كانت هي أول ما يراه الزائر، وهي أنابيب تتدرج ارتفاعا وحجما، وتبدأ بأنبوبة ضخمة، لا تناسب بينها وبين ما يليها في صف الأنابيب، امتلأت ماء، ثم جاءت جارتها الصغيرات، لتحتوي كل منها على قطع صغيرة من مادة ما، فواحدة فيها قطع من حديد، وثانية فيها قطع من الفحم، وثالثة فيها قطع من كلسيوم، وهكذا، وعلقت فوق صف الأنابيب ورقة كتب عليها عبارة كهذه: «بهذه المواد، وبهذه النسب بينها، يتركب الإنسان.» وإني لأذكر جيدا، كيف أطلت الوقوف لأشهد وأتأمل، مع ابتسامة ساخرة على الشفتين، أوشكت أن تنفجر في ضحك مسموع، كأنما أردت أن أقول: أهذا - إذن - هو الإنسان المغرور؟ فعظمه ماء، وأضيف الماء إلى هذه الأحجام من مواد، إذا جمعت كلها بيعت في السوق بنصف قرش، هذا إذا وجدت لها بائعا أو شاريا؟ لكن أذكر جيدا كذلك، أني لم ألبث إلا لحظة طائرة، حتى أفقت إلى نفسي أصيح: لا، لا ، ليس هذا هو الإنسان، إن هذه المواد الرخيصة لن تكون ما عرفه الكون من كائنات، فالخطأ هنا، أفحش الخطأ، أن يسوى بين العناصر فرادى ومجتمعة، إن قصيدة الشعر ليست هي كومة الألفاظ التي ركبت منها، ولوحة الفنان ليست هي كومة الألوان والخطوط التي فيها، إن «الواحد» هنا ليس متكثرا في أجزائه، بل تبدأ حقيقته وهو «واحد»، وهذه الواحدية لا تتحقق إلا وهو في كيانه المتكامل، وعندئذ فقط يكون الإنسان إنسانا، حتى وهو جنين لم يولد بعد.

ومضت بعد تلك الوقفة أعوام بعد أعوام، ثم جاءت وقفة أخرى، شديدة الشبه بالوقفة الأولى، لكنها كانت هذه المرة وقفة أمام تحليل «المعرفة» إلى عناصرها، فالإنسان - كل إنسان، وأي إنسان - هو بمثابة جهاز حي، عبئ بمعلومات أخذ يجمعها من خبراته معلومة معلومة كل يوم، كل ساعة، كل دقيقة أو جزء من دقيقة.

وليكن التعاون بين الأفراد فيما جمعوه، كما وكيفا، ما يكون، فأقلهم محصولا يشتمل جهازه البشري على قدر من المعلومات، محال أن يعد أو يحصى، وإن الشبه في ذلك بين الإنسان والكمبيوتر، شبه وارد، فلكل من الحالتين مخزونها، ولكل من الحالتين طريقتها في استخراج المطلوب من ذلك المخزون، وفق ما تقتضيه اللحظة القائمة، فها هنا كذلك لو عن لأحد أن يضع الجهاز الآلي، وأن يكتب في ورقة يعلقها فوق رأسه، عبارة كهذه: «هذا إنسان في مخزونه من المعرفة، وفي استخراجه لما هو مطلوب من ذلك المخزون.» لصحت الصيحة نفسها، التي صحتها في ذلك المعرض الصحي الذي أشرت إليه، وكل الفرق بين الصيحتين، هو أن الأولى كانت عن واحدية الجسم، وأما الثانية فهي عن واحدية المعرفة.

فكما أن الإنسان لا يكون إنسانا بجسمه، إلا إذا توحدت أجزاء ذلك الجسم في كيان عضوي واحد، فكذلك هو لا يكون إنسانا بمعرفته إلا إذا توحدت تلك المعرفة في نسق واحد، إلا أن ثمة فرقا بين الحالتين يستوجب الذكر، وهو أن الوحدة النسقية التي يجب أن تربط أجزاء المعرفة، لا يشترط لها أن تتوافر في كل فرد على حدة، بل يتسع مداها ليأخذ المعرفة من مجموعة الأفراد الذين يحمل كل فرد منهم جزءا منها.

على أننا ونحن في هذا المجال، وأعني مجال المحاولة التي نوحد فيها معارف الإنسان، لا نضيع الوقت في معلومات متناثرة وعابرة، مما يلم به زيد من الناس أو عمرو، بل نحصر اهتمامنا فيما هو مهم، والمهم هو ما يجوز عليه البقاء لينتقل مع الناس عبر الأجيال، وأهم هذا المهم هو الأقسام الثلاثة التي أسلفنا لك الحديث عنها، فيما سبق من أحاديث عن «المطبوعة الزرقاء»، ألا وهي، بالترتيب الذي ورد في سياق تلك الأحاديث: العلم، والدين، والأدب والفن، فعلى الرغم من أننا أخذنا نبين ما تتصل به، أو تنفصل، تلك الأقسام بعضها عن بعض، فقد أرجأنا القول في طرائق تجميعها جميعا في نسق معرفي واحد متكامل، لنتناوله بشيء من التفصيل والشرح في هذا الحديث.

والسؤال الذي نطرحه، لنبدأ به ذلك الشرح المفصل، هو: إذا كان الذي بين أيدينا هو أقسام ثلاثة: قسم فيه العلوم على اختلافها، وقسم فيه الدين متمثلا في نصوصه، وقسم فيه مبدعات الفن أدبا وفنونا أخرى في التعبير والتشكيل، وإذا كان المراد جمع هذه الأقسام في بناء معرفي واحد، يضمها في كيان موحد كما يضم الجسد الحي مختلف أعضائه في كيان، أفلا نكون بحاجة إلى قسم رابع يضطلع بمهمة التوحيد؟ والجواب هنا هو بالإيجاب: نعم، لا بد من وحدة معرفية رابعة، لا تقف مع الوحدات الثلاثة المذكورة في صف أفقي واحد، بل تختار لنفسها موضعا خارج ذلك الصف؛ ليتاح لها أن تنظر إليها نظرة تحلل بها وتقارن، حتى تنتهي إلى الرابطة التي تضم الوحدات الثلاث في وحدة أعلى، وأما ذلك القسم الرابع، فهو «الفلسفة».

إن المهمة الأولى للفكر الفلسفي، هي إيجاد الوحدة التي يتوحد بها ما قد يبدو في الظاهر متفرقا متناثرا، سواء أكان ذلك فيما تفرق وتناثر من كائنات الطبيعة، فيوحدها الفكر الفلسفي ليراها الإنسان «كونا » واحدا متصل الأجزاء في بناء منظوم، أم كان ذلك فيما تفرق وتناثر من أجزاء المعرفة الإنسانية، فيوحدها الفكر الفلسفي في نسق واحد، يظهر ما بين تلك الأجزاء من صلات وثيقة، برغم ما تحمله كذلك من فوارق تفصلها بعضا عن بعض، ويهمني في هذا الموضع من سياق الحديث، أن ألفت النظر إلى أنه بغير هذه الوحدة النسقية لأجزاء المعرفة، تنعدم «الرؤية» الواضحة عند الفرد الواحد من الناس، فإذا كنت عالما أعظم علماء الدنيا في علمك الذي تخصصت فيه، ثم أوقفت نفسك عند حدوده، لا تعرف شيئا عن وراء تلك الحدود، فمحال عليك أن ترى حتى ذلك العلم الخاص الذي نبغت فيه، رؤية صحيحة، إنك في هذه الحالة تكون كمن عرف كل شيء عن مدينة القاهرة، لكن وقف عند حدودها، لم يعرف ما هو وراء تلك الحدود من سائر أجزاء مصر، ودع عنك ما تمتد به مصر إلى بقية الوطن العربي، ثم ما وراء هذا كله من أقطار العالم الذي نعيش فيه، فهل يستحق مثل هذا العالم بالقاهرة وأجزائها، أن يقال عنه إنه حقا يعرف القاهرة؟ لقد أصاب «رديارد كبلنج» حين قال: إنه لا يعرف وطنه من لا يعرف إلا وطنه. وأقول ذلك لأني أعلم الكثير عما يضل علماءنا عن «الرؤية» الشاملة، فيغريهم الغرور العاجز بأن يقف عند حدود تخصصه العلمي، مستعليا أحيانا على أن يقال عنه إنه مد البصر إلى غير ميدانه، وحين يتجه الفكر الفلسفي بأدواته نحو أقسام المعرفة ليوحدها، فليس له في ذلك سبيل واحد، فقد يختار أن يتناول موضوعه عن طريق البحث في «القيم العليا المتمثلة في تلك الأقسام»، ألم نقل إن الأقسام الأساسية ثلاثة: العلم، والدين، وعالم الفن بما فيه فن الأدب؟ فانظر إلى هذه الأقسام واحدا واحدا، باحثا عن القيمة العليا التي اتخذها دعامة ومحورا، إن «العلم» قد جاء باحثا عن «الحق»، أي التصوير الصادق لظواهر الكون، وذلك بكشفه عن قوانينها، ومصداق صدقه في ذلك الكشف، هو أن تجيء القوانين العلمية دقيقة التطابق مع الظواهر، إلى الدرجة التي تمكن الإنسان من استخدام تلك الظواهر، كل ظاهرة بما تنطوي عليه من قوة ، وأما «الدين» فالقيمة العليا التي ينشدها ويقيم لها قوائمها هي قيمة الخير، بمعنى أن يضع القوانين الضابطة لسلوك الإنسان، حتى يجيء ذلك السلوك على استقامة تنفع الدنيا وتزكي للآخرة، وأريد لك أن تلحظ هنا، أنه بينما الإنسان في مجال «العلم» هو الذي يستخلص من الظواهر الكونية قوانينها ليلجمها بها فتثمر، نراه في مجال الدين وقد وضعت له هو القوانين الأخلاقية؛ لينضبط بها سلوكه فيستقيم، وأما في المجال الثالث، مجال الفن والأدب، فأصلابه وأوصاله قائمة على قيمة «الجمال»، والجمال يتمثل في دقة النسب في الشكل الذي يبنى ليسرى المضمون في قوائمه، كل فن بمادته: الصوت في الموسيقى، والكلمات في الأدب، والألوان والخطوط في التصوير، والحجر في النحت والعمارة، فإذا ثبت لنا بالتحليل أن تلك القيم الثلاث: الحق، والخير، والجمال، لا تقوم إحداها إلا وهي مقرونة بشيء من أختيها، ثم إذا ثبت لنا كذلك أن تلك القيم الثلاث تتجاوب مع فطرة الإنسان، أي إن الإنسان بطبيعته يحس بأن الحق أولى من الباطل، وأن الخير يعلو على البشر، وأن الجمال أجذب من القبح، أيقنا بأن تلك القيم الثلاث، وإن تفردت كل منها بمعناها، إلا أنها تكون معا كأضلاع المثلث، حتى وإن تفاوتت أطوالها في المواقف المختلفة، أما القيم الثلاث موصول بعضها ببعض، بحيث لا يتاح لإحداها أن تستقل وحدها في حالة معينة، وكأنها ليس لها أختان تصحبانها، فيظهر لنا من أن كل واحدة منهما، لا يكتمل معناها في الحالات السوية، إلا إذا حققت القيمتين الأخريين: فإذا قلنا - مثلا - إن قانون الجاذبية بين الأجسام «حق» أثبته العقل من أبحاثه العلمية، وجدنا أن تلك الجاذبية بين الأجسام هي التي قد أحدثت في أجرام السماء تعادلا وتوازنا، كما أنها هي التي بفعلها تدور الأرض حول نفسها فيتعاقب عليها الليل والنهار، وتدور في فلكها حول الشمس، فتتعاقب عليها الفصول، وكل ذلك «خير» ما كان يمكن بغيره أن تستقيم لنا حياة، وماذا يكون «الجمال»، إذا لم يكن ماثلا فيما نراه حولنا - أينما وجهنا البصر في أنحاء الكون - من نظام مطرد دقيق؟ وقد يبدو لنا، أن «الحق» و«الخير» و«الجمال» أسماء ثلاثة على مسمى واحد، والذي يختلف في الحالات الثلاث، وهو وسيلة إدراكنا لذلك المسمى الواحد، فإذا أدركنا ظاهرة معينة ب «العقل» (وذلك في حالة العلم) أدركنا عنها، ما هو «حق»، وإذا عدنا فأدركناها هي نفسها ب «البصيرة» (وذلك في حالة الإيمان) أدركنا عنها ما هو «خير»، ثم إذا عدنا مرة ثالثة فأدركناها ب «حاسة» من حواسنا، لندرك عنها طريقة تشكيلها وأثره في إحداث حالة معينة في نفوسنا، كان ذلك هو الجمال، وهكذا ترى كيف يوصلنا التأمل في القيم الثلاثة الكبرى (وهي التي تتفرع عنها كل ما يعرفه الإنسان من قيم) إلى ضم الكثرة الكثيرة التي نشاهدها في الكائنات المختلفة، حتى لتصبح أمامنا وجودا واحدا موحدا تتكامل فيه تلك الكثرة كما تتكامل في الكائن الحي أعضاؤه.

وليس التوسل بالقيم الثلاث، هو الوسيلة الوحيدة التي يلجأ إليها الفكر الفلسفي ابتغاء الوصول إلى وحدة الكون، من خلال ما فيه من كثرة وتعدد، بل يمكنه الوصول إلى الغاية نفسها، إذا حصر انتباهه فيما أنتجه الناس من تشكيلات اللغة وما إليها من مجموعات الرموز، وقد يبدو هذا غريبا للوهلة الأولى، إما إذا صبرنا إلى الوهلة الثانية زال عنا كثير من مصدر الغرابة، فالإنسان - دون سائر الكائنات جميعا - لم يعش حياته على كوكبه الأرض صامتا، بل ما فتئ - منذ خلقه الله إنسانا - يتأمل ما حوله «لينطق» إلى الآخرين عما قد رآه وسمعه وتأمله، ثم ابتكر لنفسه وسيلة «الكتابة ليثبت» بها بعض ما قد أحسه بحواسه، أو فكر فيه بعقله، أو تأمله بكل ما وسعه من أجهزة الإدراك، وذهبت قرون وجاءت قرون، وكثر في أيدي الحاضرين محصول السابقين، فكان لا بد له من تصنيف وتبويب وشيئا فشيئا أخذت تتضح المعالم، التي يمكن على أساسها القيام - في دقة أكثر - بالتصنيف والتبويب، حتى انتهينا إلى ما نحن فيه الآن، وهو أننا لا نكتفي بأن يميز مجموعة من ذلك المحصول الموروث، بأنه «علم» ونميز مجموعة أخرى بأنها «دين» ومجموعة ثالثة بأنها «فن وأدب»، بل ازددنا إمعانا في كل قسم من هذه الأقسام لنقسمه إلى فروعه، فالعلم - مثلا - علم رياضي وعلم طبيعي، والعلم الرياضي جبر، وحساب وهندسة، إلخ، والعلم الطبيعي فلك، وعلوم الطبيعة، وكيمياء، وأحياء من نبات وحيوان، ثم نفرد من الأحياء نوعا له أهمية خاصة هو «الإنسان»؛ فتقام عليه علوم النفس، والاجتماع والاقتصاد إلخ، ومثل هذا التفريع نجريه كذلك فيما هو خاص ب «الدين» مما اجتمع لدينا من موروث مكتوب، كما نجريه على مأثورات من الفن والأدب.

لم تكن هذه الأقسام مفرعة إلى فروعها الكثيرة منذ عصر الإنسان الأول، بل هي تتفرع فروعها تلك مع مر الزمن ودقة التخصصات، ثم يتعرض كل فرع إلى تفريع جديد، كلما ازددنا علما، وتعمقنا تخصصا، فكان لا بد للعقل أن يقف إزاء هذه الفروع الكثيرة، ليسأل نفسه قائلا: أئذا اضطررنا أمام المحصول العلمي الهائل، الذي ورثناه ثم أضفنا إليه، كما سوف يضيف اللاحقون جيلا بعد جيل، أن نلجأ إلى تقسيم المعارف «العلمية» أقساما أقساما، ثم فروعا فروعا، وأن نترك أمرنا إلى أوهامنا التي قد تضلنا وتوهمنا بأن «الكون» هو بدوره مقسم ومفرع، بمثل ما تقسمت علومنا وتفرعت؟ أم هو أوجب علينا أن نفرغ إلى تلك الأقسام الكثيرة بفروعها الأكثر، لنرى كيف تتوحد؟ لكن ماذا تكون وسيلتنا إلى الكشف عن «الجذر» الواحد المشترك أو الأساس الواحد المشترك الذي أقيمت عليه هذه الفروع كلها أو هذه الطوابق كلها؟ هل نغض النظر عما سطرته العلوم في دفاترها، ونتجه بأبصارنا مباشرة إلى الكون نتأمله، التماسا لرؤية واحديته؟ كلا؛ لأننا إذا فعلنا ذلك، فكأننا أهدرنا جهود العلماء عبر مئات القرون، فلم يبق إذن سوى أن أحلل هذا المكتوب في دفاتر العلم، لأرى - عن طريق الصياغة اللغوية - أهي في الحق علوم كثيرة لا سبيل إلى توحيدها في أساس واحد، أم أنها في حقيقة أمرها أساس واحد ثم تفرع بين أيدينا فروعا بحكم ضرورة التخصص؟

وهذا هو ما كان، لكن من ذا الذي يتصدى له؟ هنالك علماء تعددت تخصصاتهم العلمية وتنوعت، فمنهم من اختار مجال العلوم الرياضية ومنهم من اختار فرعا معينا من العلوم الطبيعية أو العلوم الإنسانية، كل منهم مشغول بميدان تخصصه، فمن الذي يريد منهم ويستطيع أن يخرج من جدران غرفته لينظر من بعيد إلى سائر الغرف محللا ومقارنا؟ الجواب هو أن الذي يتصدى لذلك - عادة - واحد من هؤلاء جميعا، تساوى معهم في مستوى التخصص العلمي ثم انفرد وحده بمزاج خاص وقدرة خاصة على أن يشمل بنظرته مجموعات العلوم: من حيث موضوعاتها ومناهجها ليرى هل تتحد؟ وإذا اتحدت، فأين وكيف؟ وذلك هو الفيلسوف، وليلحظ القارئ هنا، أني لا أشير بهذا الاسم إلى «أساتذة» الفلسفة «وطلابها»؛ لأن هؤلاء جميعا يدرسون ما قد قدمه «الفلاسفة» من نتائج محاولاتهم، والأساتذة والطلاب يتفاوتون بالطبع في درجة التحصيل، وفي القدرة على تمثل ما قد حصلوه، لكن ذلك كله شيء وأما أولئك الذين يفرزون فكرا جديدا ويضيفون إضافات جديدة في الميدان الذي تصدوا لمشكلاته التماسا للحلول فشيء آخر.

ولقد وفق فلاسفة العصر الحديث بصفة خاصة إلى إيجاد ضروب من الوحدة بين العلوم، فعرفوا كيف يسلسونها في خط رأسي تتصاعد فيه بحسب ما فيها من تجريد وتعميم وكيف يرتبونها في خط أفقي تتنوع عليه بحسب موضوعاتها، فيجيء كل خط من الخطين موحدا لها وكأنها أعضاء بدن واحد، وربما سأل سائل هنا - وكثيرا جدا ما ورد السؤال - قائلا: وما «فائدة» هذا العناء الفكري المبذول نحو توحيد المعرفة الإنسانية في جذور مشتركة برغم اختلافها فروعا وثمارا؟ وقبل أن أجيب، يطيب لي أن أذكر للقارئ عبارة عميقة الدلالة قالها «جوتة» وهي: «احرص على الفروع الثقافية التي قد يبدو لك أنها غير ذات نفع مباشر؛ لأن الفروع ذوات النفع المباشر كفيلة بأن تحرص على نفسها بنفسها.» وشرح ذلك هو أن العلوم ذات النفع المباشر كالطب والهندسة، وما إليها تفرض نفسها على الإنسان فرضا، فكل إنسان يريد أن يجد طبيبا إذا مرض ومهندسا إذا أراد أن يشيد مسكنا، وأما الجوانب التي لا تفعل في الإنسان فعلها إلا بطريق غير مباشر فهي التي كثيرا ما تثير السؤال: وما فائدة هذا أو ذاك؟ كالأدب والفن والفلسفة، وبعد هذه الملاحظة أجيب على سؤال السائل: وما فائدة الفكر الفلسفي في جهده المبذول نحو توحيد المعرفة؟ والجواب هو باختصار: إنه يمدك آخر الأمر بوجهة للنظر، وبغيره تظل أمام كومة من المعلومات والمعارف تزيد من محصولك، لكنها لا «تربيك» ولا «تصوغك» إنسانا موحدا بما لديه من «رؤية» موحدة. وهل «التوحيد» في الدين توحيد الله سبحانه وتعالى عند المؤمنين به إلا عقيدة استطاع الإيمان بها من استطاع أن تكون له رؤية موحدة إلى الكون؟

أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم .

إلى هنا قد رأينا طريقين يمكن للفكر الفلسفي بسيره في أي منهما أن يبلغ «التوحيد» الذي ينشده فيما يراه من كثرة ظواهر وكائنات؛ كان أولهما طريق «القيم»: الحق، والخير، والجمال، وهي القيم الكبرى التي تحمل في جوفها جميع القيم التي نهتدي بها في حياتنا، «فالحق» في مجال المعرفة العلمية وما يدور مدارها و«الخير» في مجال السلوك التقي المستقيم وهو نفسه السلوك الذي جاء «الدين» ليرسم صورته أمام الناس، ثم «الجمال» الذي يشير إلى الحالة الوجدانية التي يشعر بها الإنسان إزاء ما يعمله بدافع المعرفة وما يعمله بدافع الدين، وأما الطريق الثاني الذي قد يسلكه الفكر الفلسفي؛ التماسا «للوحدة» المنشودة في ظواهر الكون وكائناته، فهو طريق النظر إلى التشكيلات اللغوية والرمزية التي استخلصها الإنسان في تدوين ما «عرفه» عن الأشياء، وما «أحس» به من ضروب المشاعر نحو تلك الأشياء، فقد يؤدي النظر إلى تلك التشكيلات اللغوية، وهي التي تحمل «العلوم» و«العقائد» و«الأدب» وغيرها، إلى الوصول إلى جذر واحد مشترك تجيء تلك الأقسام فروعا له.

وهنالك غير هذين الطريقين طرق أخرى يسلكها الفكر الفلسفي للوصول إلى الوحدة المنشودة، لعل أهمها هو ما يلجأ إليه «المتصوفة» وخلاصته: أن يلجأ الإنسان إلى اللقاء المباشر بالوجود العيني بدل أن يلجأ إلى «الأقوال» التي قيلت عن ذلك الوجود، ولأضرب للقارئ مثلا بسيطا يفرق له بين الجانبين: افرض أن أمامنا «وردة» معينة فقال عنها قائل: «هذه وردة حمراء زكية الرائحة.» فهل ترى حقا أن بين هذين الطرفين تكافؤا بحيث نستطيع أن نستغني بالجملة اللغوية عن «الوردة» ذاتها، التي قيلت عنها تلك الجملة؟ الواقع أن العلاقة بين الطرفين لا تؤدي بنا إلى مثل هذا التكافؤ، فبينما «الجملة» مؤلفة من عدة كلمات وكل كلمة منها مؤلفة من عدة حروف، نرى «الوردة» كائنا موحدا، إن «الجملة» جعلت للون الأحمر اسما قائما وحده وجعلت للرائحة الزكية رموزا قائمة وحدها، وأما «الوردة» فلا انفصال فيها بين جسمها ولونها ورائحتها، كل هذه الجوانب التي باعدت بينها «اللغة» نراها في «الشيء» مدمجة بعضها مع بعض موحدة كلها في وجود واحد، وهكذا يرى «المتصوف» من الفلاسفة وأعني «التصوف» من حيث هو «منهج» للنظر يفضل أن يمس بوجدانه حقائق الأشياء، فإذا وجد نفسه مضطرا إلى اللجوء إلى «اللغة» ليعبر بها عما أحسه من وحدة كونه، كان على بينة بأنه في الحقيقة لم يضع فيما كتبه وجدانه الذي شعر به، إذ لا حيلة لأحد يستطيع بها أن يبلغ الآخرين وجدانه الداخلي، فهيهات للمحب - مثلا - أن ينبئ الآخرين عن حقيقة حبه بكلمات يقولها، إذ الكلمات هي كلمات وليست شعورا ينبض به قلب، وهكذا الحال فيمن أحسن الوحدة في الوجود، وهو إحساس يقرب صاحبه من إدراك الواحدية والأحدية في خالق الكون سبحانه وتعالى.

لقد سرت مع القارئ في رحلة ارتحلناها معا في «مطبوعتنا الزرقاء» التي تصور بالخطوط الأولية أقسام المعرفة الأساسية: العلم، والدين، والفن، والفلسفة، إيمانا منا بأن أول النهج المؤدي بصاحبه إلى «رؤية» صحيحة هو وضوح الفكر، ولن يتأتى لإنسان هذا الوضوح إلا إذا درب نفسه على إدراك الصلات والفواصل بين الأفكار، أو بين المعاني وبالتالي بين المواقف والأشياء، فليس في الناس من هو أشد جهلا ممن يخلط الأفكار والمعاني والأشياء والمواقف بعضها ببعض ثم يحسب أنه قد عرفها ، ألم أقل لك في فاتحة هذه الأحاديث أن أجهل الجاهلين جاهل يجهل أنه جاهل؟ فأود أن أختمها بقولي: إن أعلم العلماء عالم يعني أنه مهما بلغ من العلم فهو لم يؤت من العلم إلى القليل.

إرادة التغيير «1»

قل ما شئت عن معجزات الخلق الإلهي لهذا الكون العظيم بمن فيه وما فيه، فكل ما يصادفك في رحابه الواسعة، من أصغر كائناته إلى أكبرها - إذا كان في وسعك أن تقف عند شيء منه قائلا هذا هو أصغرها، وعند كائن آخر قائلا: وهذا هو أكبرها؛ لأن وراء ما تراه اليوم أصغرها ما هو أصغر منه ينكشف لك غدا، وفوق ما تظنه اليوم أكبرها، ما تعلم غدا أنه أكبر منه - أقول: إن كل ما عساك مصادفته في هذا الكون الواسع جدير بأن يستوقف النظر بما قد انطوى عليه من إعجاز الخلق، وحسبك من هذا الإعجاز ما قد ينكشف للإنسان الباحث سره، وهو سر يتجلى في «القوانين» التي تضبط سيره، بدءا مما هو دون الذرة من جزئياتها فصاعدا إلى المجرات، كل صغيرة في هذا الكون اللامحدود وكل كبيرة محكوم بقانون أو بمجموعة قوانين، يكشف العلم ما يكشفه، وبمقدار ما يكشف يزداد إدراكا لعظمة الخالق عز وجل، ومع ذلك الإعجاز المتجلي في كل كائن على حدة وقد انتظمته قوانينه حتى لا يكون الأمر في وجوده فوضى فإن «الحياة» متبدية في الكائنات الحية، من أصغر نبتة تنبت من الأرض فصعودا حتى يبلغ الصاعد ذروة «الحياة» متمثلة في الإنسان الذي أراد له ربه بين سائر الأحياء تكريما؛ ففي الإنسان كل ما في الحياة النباتية والحيوانية من أصول حيوية، ثم أضيف إليها قدرات أخرى، كل قدرة منها يبعث إعجاز خلقها على الذهول، عند من يتدبرها مليا ليتأمل روائعها في روية وعلى مهل، وإن هذا الكاتب ليتخير في لحظته هذه إحدى تلك القدرات المعجزات، راجيا قارئه أن يشاركه الوقفة المتأملة فيما اختار، وأعني قدرة الإنسان على «التذكر»، ففي وعاء ذاكرته، ويا له من وعاء الله أعلم بحقيقته! ملايين الملايين من مخزونات المكان والزمان وما قد وقع فيهما من أحداث، منها ما هو مرئي، ومنها ما هو مسموع، ومنها كل ما يخطر ببالك من تفصيلات الحياة كما تقع للأحياء؟ وإذا شئت فاجلس مع نفسك جلسة سارحة، تاركا زمامها إلى أحلام يقظة تتداعى لك فيها قطوف ولمحات من ماضيك، وتأمل عندئذ ذلك السيل الدافق من مشاهد ولقاءات وأحاديث وضحكات وصرخات ودموع تأتيك من مخزون الذاكرة، وكأنها شوارد الإبل في فلاة، فأخذت «الذاكرة» المعجزة العجيبة تنشط لتجمعها لك من هناك ومن هنا لا تدري أنت كيف جاءت بها من أطرافها المتباعدة مكانا وزمانا، ولا لماذا اختارت تلك الشوارد المتباعدة في حدوثها، لتسلكها لك الآن في عقد منضود يقدمها إلى بصيرتك صورة في إثر صورة، وربما ظننت أنها قد تتابعت دون أن تكون بين سابقة منها ولاحقة تلك الرابطة السببية التي تشير إلى نظام يضمها معا في سلسلة متعاقبة الحلقات، إلى أن تعلم شيئا عن «القوانين» العلمية التي استنبطها علماء النفس من دراستهم لأحلام اليقظة وأحلام النوم.

ذاكرة الإنسان كنز نفيس يحمله ولا يدري أين حمله، فهي في جوف صاحبها بمنزلة عالم بأسره فيه أرجاء المكان وآناء الزمان، وفيه أفراد من البشر وجماعات، وفيه أحداث تعلو في بعضها حظوظ فيكون النعيم والضحك، وتهبط في بعضها حظوظ فيكون الشقاء والبكاء، إنه هو العالم كما خبره الذاكر، طواه في ذاكرته طي الحريص على نفائسه يودعها الخزائن الآمنة كي لا يضيع منها مثقال خردلة، لا بل إن صور الحياة التي عاشها صاحب الذاكرة بالطريقة التي حفظت بها وبالطريقة التي يسترجع بها ما يسترجعه الذاكر من أحداث ماضية، لهي أكثر نفعا وأشد حيوية من الحياة الحقيقية التي خاضها صاحب الذاكرة؛ لأن الصور المكنونة في خزائن الذاكرة لا تتقيد بترتيب زمني مفروض عليها، ففي مقدورها أن تعيد ترتيب مراحل العمر، فتأتيك في سرحة واحدة من سرحات أحلامك بصورة من أمسك القريب لتأتيك بعدها بصورة من أمسك البعيد، فللصور في ترتيب الذاكرة منطق خاص ليس هو منطق الحياة كما وقعت ، وقد يضيف الخيال إليها إضافات من عنده ليصلح بها ما كانت قد أفسدته وقائع الحياة الحقيقية كما وقعت بالفعل، فمثلا ربما لقيت إهانة من سليط ذات يوم، وجمد لسانك وقتئذ فلم ترد الإهانة بما تستحقه، فتعود إليه الصورة في أحلام يقظتك أو «أحلام نومك» بعد عشران من السنين، فها هنا يتقدم الخيال برد مناسب يقحمه إقحاما في موضعه المناسب من حلقات الصور المتتابعة.

بمثل هذه الذاكرة في حيويتها وإبداعها راح صاحبنا يستعيد شيئا من حياته الفكرية خلال تلك الحقبة من سنه، وأعني تلك الفترة التي استدارت بها عقود السنين، خروجا من الأربعينيات ودخولا في الخمسينيات، فيذكر فيما يذكره تلك الساعة التي استثيرت فيها ليكتب كذا أو ليكتب كيت، فالعاطفة تثيرها مشاهد الحياة البائسة اليائسة، والعقل يرتب الصورة التي يصورها القلم، وما أكثر ما رسم صاحبنا بقلم الأديب - وليس بقلم العالم في تلك الحالات - وما قد انفعل به من مشاهد الحياة عندئذ، ولم يعد بنا حاجة إلى أن نعيد على القارئ ما قد أسلفناه له في بعض هذه الأحاديث، عما يميز المقالة «الأدبية» مما سواها من فنون «المقالة»، وكانت لصاحبنا قدرة موهوبة بشكر الخالق الوهاب جلت قدرته، وأعني طريقته في صياغة المقالة «الأدبية» إذا ما أرادها في موقف معين، يكفينا تذكير للقارئ أن نذكره هنا بأن المقالة «الأدبية» هي كأي فرع من فروع الفن صورة تقام على «شكل» بحيث يصل المعنى المقصود إلى المتلقي بطريق غير مباشر، وفي تلك المرحلة من عمره، أكثر صاحبنا من تلك الصياغة الفنية ليعرض بها ما أراد عرضه على قرائه، وعلى سبيل التلخيص الموجز السريع نذكر أمثلة ترد الآن من تلقاء نفسها على سن القلم: فمقالة كان عنوانها «عند سفح الجبل» وفيها أنه سمع عن جماعة شأنها عجب تسكن على قمة الجبل فصعد إلى القمة ليرى ويسمع، وإذا هي منطقة سكنية غاية في الأناقة والنظافة والثراء والجمال، وشوارعها كالخالية، وسأل: أين سكان هذا المكان؟ فقيل له إنهم مجتمعون في قاعة المداولة يبحثون في دستور يريدون «للشعب »، وذهب صاحبنا إلى حيث يجتمعون فلم يجرؤ على الدخول، لكنه وقف مترددا عند الباب المغلق وهو باب ينفتح وينغلق كلما جاء عضو أو خرج عضو، وعند كل انفتاحة للباب يتاح لصاحبنا أن يسمع صياح المتحدثين، فلا يسمع إلا كلمة «الشعب» حتى لقد سمعها مئات المرات، ثم هبط من قمة الجبل ليجد عند السفح امرأة حطمتها السنون، ولا بد أن يكون مع تلك السنين عوز ومرض وكدح وعناء، جلست المرأة متربعة على الأرض، وفرشت أمامها رقعة من الخيش رصت عليها قطعا من الحلوى، وكلما مر بها إنسان قالت بصوتها المتقطع البطيء وهي تنش بذراعها الذباب عن حلواها: «حلاوة يا زباين.» فوقف صاحبنا سائلا: بكم تبيعين يا أمي كل هذه الحلوى؟ فأجابت دهشة: كلها؟ كلها؟ إنها بقرشين، فأخرج صاحبنا القرشين ولف قطع الحلوى في صحيفة كانت في يده، أما أين ذهب بها فيترك للقارئ أن يكمل لنفسه الجواب، وكانت تلك المرأة هي «الشعب» الذي من أجله اختلف السادة على قمة الجبل، أيستعيرون له الدستور من فرنسا؟ من بلجيكا؟ من واق الواق؟ وكانت المسكينة بأمس حاجة إلى حياة ترعاها في شيخوختها المحطمة المريضة.

وفي مقالة أخرى عنوانها «عروس المولد» صورة لغلام وقف في برد الشتاء، حافي القدمين، وكانتا قدمين تشقق منهما الجلد حتى لقد كان الغلام يرتكز على يمناهما حينا، وعلى يسراهما حينا، ليريح القدم المرفوعة من حصوات الأرض، أقول: وقف ذلك الغلام قبالة بائع حلوى المولد، مركزا بصره في عروس بعينها، رآها مزدانة ببريقها مسيلة للعابه بحلاوتها، وبينما هو يميل برأسه نحو كتفه في حلم المتيم المشتاق، إذا بكف غليظة تهوى على قفاه فتوقعه صارخا، وينظر ليرى الشرطي فيفزع ... إلخ، وفي ذلك الشرطي تتجسد الدولة الراعية للشعب الباحثة له فوق قمة الجبل على دستور مستورد من «بلاد بره» ملفوف في ورق السلوفان أو في كساء من حرير.

ومن هذا الطراز أخذ صاحبنا يكتب مقالاته الأدبية عشرات منها تلو عشرات، ثم فوجئ صباح يوم صائف، هو الثالث والعشرون من شهر يوليو سنة 1952، بمتحدث في الإذاعة يذيع نبأ الضباط الأحرار، وما هي إلا أيام قلائل حتى دوت أرضنا وسماؤنا بما يعلن عن ثورة لإقامة «عدالة اجتماعية»، وها هنا تطابق الصوت مع الصدى، وجاء الواقع محققا للحلم، نعم، إنها «عدالة اجتماعية» ما يريده الشعب، وسرعان ما أخذت بشائر إنصاف الجماهير يعلن عنها واحدة في إثر واحدة، وكانت فاتحة التغيير إعادة النظر في ملكية الأرض الزراعية، ولم تمض بضعة أشهر حتى أنشئت وزارة جديدة أسموها وزارة الإرشاد القومي (أو ما فيه هذا المعنى) وهي التي تطورت لتصبح فيما بعد «وزارة الثقافة»، وخوطب صاحبنا يوم إنشائها ليضيف إلى عمله الجامعي منصبا قياديا في تلك الوزارة الناشئة، فظنها فرصة سنحت، تمكنه من أن ينقل بعض رؤاه فيما يتصل بتكوين المواطن المصري ثقافيا بحيث يتلاءم مع مقتضيات ينقلها إلى عالم التطبيق، لكنه سرعان ما تبين له أنه يحلم في واد، وأما واقع الحياة في تيارها الجاري ففي واد آخر، لقد حسب أخونا أن عبارة «الإرشاد القومي» يراد بها رسم خطة جديدة لمستقبل الثقافة في تفاوت مستوياتها، وإذا بالمقصود هو المشاركة في ترتيب «الدعاية» وتوجيهها في سبيل التبشير بالثورة وأهدافها، وإنها لثورة، وإنها لأهداف، جاءت حقا معبرة أصدق تعبير عما كان يضطرب في صدورنا جميعا، لكن «الدعاية» لها بتلك الصورة المباشرة المطلوبة، هي آخر ما كان يستطيعه صاحبنا، فللدعاية بمعناها المعروف قدرات وشخصيات ليست هي، ولم تكن قط في يوم، قدرات صاحبنا وشخصيته، فهو دارس مدقق في المعاني، خجول، منطو، وهي - أي الدعاية - تريد من يأخذ المعاني على إجمال ظاهرها، كما تريد الجريء الذي لا يبالي مواجهة الجمهور، فلم يكن بد أمام تلك الزاوية المنفرجة - بين المطلوب من جهة والمستطاع من جهة أخرى - إلا أن يكر راجعا إلى محرابه.

وأما هدف الثورة في تحقيق العدالة الاجتماعية فقد ظل هو هدفه؛ لأنه - كما تبين من الأمثلة التي سقناها مما كان يكتبه قبل إعلان الثورة - لم تكن تهدأ له نفس أو يسكن في يده قلم، إزاء المفارقات البشعة التي يراها بين إنسان وإنسان من أبناء الوطن الواحد، ولعل أبشع ما أثاره من تلك المفارقات، أن حملة الأقلام الذين طفقوا يحاربون بسنان أقلامهم في سبيل حقوق الإنسان لمجرد كونه إنسانا، كانوا هم أنفسهم إذا ما وصل أحدهم إلى مقاعد السلطة، تعلق قلبه بهيلمان السلطان، ولم يكن يرضيه أن تنمحي المسافة بينه وبين سائر عباد الله، لكن الذي لم يفهمه، صاحبنا، وهو إلى يوم الناس هذا لا يفهمه، أن يتساوى النظر فيما له صلة بالعدالة الاجتماعية، بين أمور «الثقافة» وأمور غيرها من ميادين الاقتصاد والسياسة وغيرهما من جوانب الحياة الجديدة، فقد كان من العدل الاجتماعي حقا أن تؤخذ أرض زراعية من كبار ملاكها، لتوزع ملكيات صغيرة على الزارعين، وقد كان من العدل الاجتماعي حقا، أن تفتح أبواب التعليم أمام القادرين من الناحية العقلية على مواصلة الدراسة في مراحلها جميعا، بلا تفرقة بين غني وفقير، ومن ثم وجبت مجانية التعليم، وهكذا قل في كثير من أوجه الحياة الاجتماعية، أما أن ينظر بالنظرة نفسها إلى مجال «الثقافة» فذلك ما تعذر فهمه على صاحبنا، حين خيل إليه أن أولي الأمر يستهدفون الحد من فرص الثقافة الرفيعة، التي هي دائما ثقافة الصفوة العقلية والذوقية، وهي صفوة لا تصطفى على أسس المال والجاه والنسب، بل تقوم على أساس المواهب الفطرية، أقول: إن صاحبنا قد خيل إليه أن الميل متجه نحو الحد من فرص الثقافة لحساب ما أسموه بثقافة الجماهير، كأنما الأمر في هذا هو أمر إما أولئك وإما هؤلاء، كما هي الحال في ملكية الأرض الزراعية، وواقع الحقيقة في موضوع «الثقافة» هو أنها كالجبل لا يصير جبلا إلا إذا كانت له ذروة وسفوح، ولا سبيل إلى تثقيف السفوح إلا عن طريق الذروة، فهذه الذروة العليا تعطي من يليها وهؤلاء أو من يليهم هم الذين يتولون تثقيف السفوح بما يكتبون وما يذيعون، وليس في هذا القول ذرة من استعلاء أو غرور، بل هو وصف أمين لما يقع فعلا في واقع الحياة السوية، فقد نزل القرآن الكريم للمسلمين جميعا، ومع ذلك فلا بد لجماهير المسلمين أن يستمعوا إلى علماء الذروة وفقهائها: على أي نحو تفهم آيات الكتاب الكريم، وماذا يمكن استنباطه من أحكام الشريعة، استدلالا من تلك الآيات الكريمة؟ ولا يسوغ العاقل أن تحد فرصة العلم والفقه، لحساب التوسع في خدمة الجماهير، وعلى غرار ما يكون إسلام الجماهير هو من جنس إسلام العلماء والفقهاء، وإن اختلفت الدرجة بينهما ارتفاعا وانخفاضا في إدراك المعاني والأحكام، كذلك يكون الشأن بين صفوة الثقافة الرفيعة وثقافة الجماهير، بحيث يكون الهدف الأسمى، هو أن يتذوق عامة الناس ما يتذوقه أصحاب المواهب العظيمة، مع اختلاف في الدرجة لا في النوع.

وقد بلغ اختلاف وجهات النظر في هذا الصدد أقصى حدوده، حتى لقد ساغ للسائلين من ذوي المكانة أن يسألوا مستنكرين: هل هناك ما يسمى بالثقافة الرفيعة؟! إن الثقافة ثقافة لا رفعة فيها ولا انخفاض! وهكذا بلغ الاختلاف بين وجهات النظر، وكأن أسلافنا من كبار الفقهاء والعلماء، لم يفرقوا بين ما هو «للخاصة» وما هو «للعامة» في مجال الفقه والعلم، بل إن خاصة الناس عندهم كانوا ينقسمون منزلتين: فهنالك فوق الخاصة من أسموهم «خاصة الخاصة»، أو كأن القرآن الكريم لم يفرق لنا في طرق الدعوة إلى سبيل ربنا بين جماعات ثلاث من مراتب المعرفة، فيكون لكل منها ما يصلح لها من سبيل الدعوة: فهنالك خاصة الخاصة ممن يحتكمون إلى العقل المدرك لفواصل المعاني تمييزا لها ودقة في فهمها، وسبيل الدعوة إلى هؤلاء هي طريق «الحكمة»، ومعنى الحكمة هو الارتكاز على منطق الاستدلال العقلي في الوصول إلى النتائج والأحكام، وهنالك دون هؤلاء جماعة الخاصة في عمومهم، وسبيل الدعوة إلى هؤلاء هو طريق الجدل، ومعنى «الجدل» هو أن تبدأ المحاجة من حقيقة مسلم بصحتها، لا يطلب عليها هي نفسها برهان، كأن تعرض إحدى حقائق العقيدة الدينية موضع التوضيح، فيسلم الطرفان معا - عارض الموضوع ومتلقيه - بصحتها، فلا يبقى للعارض إلا أن يوضح للمتلقي معناها وما يترتب عليها من معان فرعية وأحكام، وأما عامة الناس من سواد الجمهور فلا هم يستطيعون ملاحقة التحدث على المستوى الأول، ولا هم يستطيعون المشاركة على المستوى الثاني، إذن فلهؤلاء العامة سبيل ثالثة إلى الدعوة الدينية، وهي طريق «الموعظة الحسنة»، ومعنى الموعظة هو تبين الحقيقة المعروضة بضرب الأمثلة، والفرق واضح بين أن تعرض فكرة على الناس لا تستند في إيضاحها إلا إلى أمثلة عملية تجسدت فيها تلك الفكرة المعروضة، كأن يسأل سائل: ما معنى «العدل» بالنسبة إلى الحاكم؟ فنضرب له مثلا بعهد عمر بن عبد العزيز، فليس في هذه الإجابة أي ذكر بعنصر من العناصر التي تتكون منها صفة «العدل» التي هي موضع السؤال، أقول: إن الفرق واضح بين إجابة كهذه، وبين ما أجاب بها علماء الكلام في الفكر الإسلامي، عن «العدل» وقد كان للمعتزلة في ذلك التعريف بالعدل موقف تميزوا به دون سائر العلماء من الفرق الأخرى، وهؤلاء جميعا يندرجون تحت عنوان «الجدل»؛ لأنهم يسلمون بادئ ذي بدء بوجوب قيام «العدل» صفة لله سبحانه وتعالى، وبالتالي فهي كذلك صفة مطلوبة في حكومة الناس في هذه الدنيا، وفوق أهل «الجدل» وجمهور «الموعظة» تأتي خاصة الخاصة من أرباب «الحكمة» فهؤلاء يبدءون حجاجهم من الصفر - إذا صحت هذه الكلمة في هذا السياق - بمعنى ألا يفترض من البداية أن ثمة شيئا اسمه «العدل» ليبدأ المتحدثون بتحديد ماذا عساه أن يكون، وهل لا بد له أن يكون؟ حتى إذا ما استقر الرأي في ذلك انتقل المتحاجون إلى استدلال ما يترتب على وجوده أو على ضرورة وجوده.

ذلك هو تراثنا في النظر إلى قدرات الناس المتفاوتة، بحيث يتحتم أن يكون لكل درجة منها ما يلائمها من الغذاء الإيماني إذا كنا في مجال الدين، والغذاء الثقافي بصفة عامة إذا كانت «الثقافة» هي مجال الحديث، على أننا نكرر هنا، إنه سواء أكان الحديث مقصورا على المجال الديني، أما كان شاملا للحياة الثقافية كلها، فليس الاختلاف بين الذروة وعامة الجمهور، خلافا في لب الموضوع وجوهره، بل هو في درجة الوعي بتفصيلاته وتعليلاته، إذن يكون الفرق بين ثقافة الذروة وثقافة الجماهير هو أن الذروة تبدع والجماهير تعمل على تذوق ما أبدعته، وبغير الأولى لا يتحقق للثانية وجود؛ فكلنا مؤمن بدينه، لكن الصفوة منا تؤمن وتعرف على أي الأسس جاء ذلك الإيمان، وأما الجمهور فيؤمن إيمانا قد يقف به عند حد الإيمان، إلى أن تسعفه الصفوة بما يستطيعه من تعليل وتأصيل، وكلنا مفطورون على ذوق فني مبهم، لكن الصفوة وحدها هي التي تعرف شيئا عن السر في ذلك التذوق، ومطلوب منها أن تنقل إلى عامة الجمهور ما أمكن نقله من تلك المعرفة؛ حتى لا يظل التذوق الفني عنده أصم وأبكم.

على أن هذه التفرقة بين خاصة وعامة في الحياة الثقافية، لا ينبغي لها أن تصرف أنظارنا عن حقيقة بدهية لم تكن لتحتاج إلى تنويه وتذكير، لولا أن ظروف الحياة التي نحياها كثيرا ما تضطر الناس اضطرارا إلى التسرع في قراءة ما يقرءونه، والتعجل في فهم ذلك الذي قرءوه، وأعني بتلك الحقيقة البدهية أن الصفوة الموهوبة المبدعة في عالم الثقافة إنما تستقي إلهامها من نبض الحياة التي تحياها جماهير المواطنين، ولا يتحقق ذلك الاستلهام للمبدع لأن المبدع من أهل القمر أو المريخ ينظر من عل إلى الكوكب الأرضي وأهله، وإنما يتحقق ذلك لأن المبدع المستلهم هو في الوقت نفسه مواطن من زحام المواطنين يحيا حياتهم ويضيق صدره كما تضيق صدورهم، لكنه - دون سائر الجمهور - أقدر على رؤية السر، وأكثر سيطرة على الوسائل التي تخرج مكنونات الصدور إخراجا تسمعه الآذان ألحانا وشعرا، وتطالعه مسرحا ورواية، وتتذوقه لوحات من فن التصوير، إلى آخر وسائل المبدعين، فليس في الأمر سيد ومسود، بل فيه مواطن يهمس لمواطن بما يشتركان فيه من خلجات الشعور.

وربما وجب علينا في هذا السياق أن نضيف إلى العلاقة بين الخاصة والعامة في دنيا العقيدة، والفن والأدب جانبا آخر كثيرا ما ينسى أو يغض عنه النظر، برغم أهميته في حياة الناس، عندما يكون هؤلاء الناس جميعا على اتفاق في إرادتهم لتغيير حياتهم تغييرا ينهض بها نحو ما هو أعلى وأكمل، فيصوغون أو يصاغ لهم «مفاتيح» «لفظية» كل مفتاح منها يلخص بعدا من أبعاد التغيير المطلوب فتشيع فيهم كلمات مثل «حرية» و«اشتراكية» و «ديمقراطية» و«إرادة الشعب» إلخ إلخ، إلى هنا والأمر ضروري وطبيعي؛ إذ لا بد من بلورة التغيير المنشود في أمهات مسائله ولا يتم ذلك إلا بأن يطلق على كل مسألة فيها اسم يميزها، لكن الذي يحدث بالفعل في هذا الصدد هو أن تتحول تلك المفاتيح اللفظية إلى أجراس تدوي برنينها دويا يملأ المسامع، لكنه لا يبلغ عند معظم المواطنين بمن فيهم نسبة كبيرة من «المثقفين» أن يكون له في عقولهم «معنى» معلوم حق العلم، وما «حق العلم» هذا؟ هو أن يتحول المعنى في ذهن حامله إلى خريطة أفعال محددة المعالم واضحة الخطوات، فنحن - إذن - أمام ثلاث درجات متصاعدة إزاء تلك المفاتيح اللفظية التي عادة ما تكون هي المحاور التي تقدم لأفراد الشعب على أن ينسجوا حولها نشاطهم الفكري: أما الدرجة الدنيا من تلك الدرجات الثلاث والتي هي أوسعها شيوعا في أفراد الشعب الذي أراد أن يغير من حياته، فهي درجة الاكتفاء بمجرد اللفظة ينقطونها ويكررونها ويتحمسون لها، دون أن يكون لديهم من دلالاتها إلا أقل من القليل، وتعلو على هذه الدرجة اللفظية الدنيا درجة يلم فيها حامل اللفظة خيوطا من معناها وكأنها موحدة المعنى، ومن هنا يضيق الأفق عنده إلى الحد الذي لا يتصور معه أن يكون عند غيره من الناس معنى آخر أو معان أخرى، فينتج عن ذلك تعصب سياسي أو اجتماعي يضر ولا ينفع، والأغلب عند أصحاب هذا المعنى الواحد لكل مفتاح لفظي من مفاتيح الحياة الجديدة، ألا يكونوا على إدراك واضح بأن كل لفظ من تلك الألفاظ الجليلة إنما هو اسم اختاره صاحب مذهب معين، ومن حق غيره أن يذهب مذهبا آخر تحت هذا اللفظ، فمن أطلق لفظ الحرية لأول مرة لم يكن قد استوعب مقدما كل ما سوف تعنيه هذه الكلمة عند مجموعة الدعاة على تعاقب العصور، ولا أول من أطلق كلمة «اشتراكية» أو «ديمقراطية» قد فعل مثل ذلك، ولا كان في مستطاع بشر أن يفعله؛ فلكل حركة اجتماعية، داخل كل شعب من الشعوب، في عصر من عصور تاريخها ما تعنيه أمثال تلك المفاتيح اللفظية؛ وعلى ذلك كان الواجب الأول على رجل «الفكر» في كل حالة من تلك الحالات، أن يحدد على وجه الدقة عناصر المعنى المطلوب لكل مفتاح منها، وبمثل هذا التحديد وحده يستطيع حامل المفتاح من أفراد الجمهور أن يحوله إلى خريطة أفعال تتسق معه ومع غيره من المواطنين في نمط سلوكي واحد متفق عليه، وأما ثالث الدرجات ارتفاعا في سلم الفهم الصحيح لتلك المفاهيم اللفظية في حركة التغيير، فهي عند هؤلاء القادرين على مقارنة أطياف المعاني المختلفة للمفتاح الواحد مقارنة تزيده وضوحا من جهة، وتزيد الناس قدرة على اختيار ما يختارونه من تلك البدائل.

كان صاحبنا واحدا بين ملايين المواطنين الذين صفقوا للتغيير الاجتماعي نحو عدالة تعم الجميع في معاملات كل منهم مع الآخرين، وهو تغيير كان الشعب قد «أراده» إرادة لم تجد وسيلتها إلى العبور من بواطن الصدور إلى دنيا الفعل والتفاعل، لكن صاحبنا مع آخرين كان يدرك إدراكا ملزما بأن مفاتيح التحول الاجتماعي الجديد قد شاعت في الناس على غموض، وبات واجبا على من استطاع أن ينشر ما قد يزيد الحركة سدادا في خطاها نحو عدالة اجتماعية معلومة الحدود، واضحة القسمات.

إرادة التغيير «2»

عندما نودي بإقامة عدالة اجتماعية، لتكون محورا لما قامت ثورة الضباط الأحرار في شهر يوليو من سنة 1952 من أجل تحقيقه، أخذت تتفرع أمامنا تلك الصياغة المحورية فروعا فروعا، وكأن كل الأهداف النبيلة التي تعلق بها طموح الإنسان على امتداد تاريخه محتواة في هاتين الكلمتين: «عدالة اجتماعية»، والحق أن مثل هذه المرونة في مصطلح معين، ليتسع بها وعاؤه إلى أقصى ما يريد له الإنسان أن يتسع، بحيث يمكن أن تجتمع في جوفه كل ما يريد صاحب المصلحة أن يضعه فيه، إنما هي صفة تلحق دائما بكبريات «القيم» التي هي الموجهات للإنسان في ميادين نشاطه، ولولا هذه المرونة الشديدة في القوة الدلالية لأسماء تلك القيم ، لما استطاع كل اسم منها أن يستوعب ما لا حصر له من المواقف المختلفة في حياة الناس برغم كثرتهم، وتنوع مناشطهم، ولو راجعت الحركات الإصلاحية الكبرى، التي تغيرت بها صور الحياة الإنسانية على أيدي عمالقة الفكر، لرأيت كل حركة منها قد قامت لتحقق «مبدأ» جديدا، يغلب فيه أن يكون أوسع أفقا، وأعلى رتبة من «المبدأ» الذي كانت تقام عليه الحياة من قبل، ولم يعد يصلح بسبب ما قد طرأ على أوضاع الحياة العملية من تغير تطورت به حاجات الإنسان وضروراته إلى أمام وإلى أعلى في آن معا، فكان لا بد للحياة أن تفرز من أبنائها من يقوى على حمل رسالة جديدة، أو مبدأ جديد، لتتبدل الصورة، فينشأ جديد ويفنى قديم، ومثل هذا «المبدأ» الجديد الذي يوضع للحضارة الجديدة التي يبشر بها المصلح العملاق، موضع العنوان من الكتاب قد ينحصر في كلمة واحدة، أو بضع كلمات قليلة، لكنها اختيرت من ذوات المرونة الدلالية التي أشرنا إليها، ليتسع مداها إلى جميع ما سوف تتكون به أوجه الحياة النظرية والعملية معا.

لكن تلك السعة الدلالية التي تتميز بها أسماء «القيم»، كالحرية والعدالة، والحب، والخير، وما إليها، تستتبع بالضرورة غموضا في المعنى، وهذا «الغموض» النسبي في تلك الأسماء، هو هو نفسه الذي أتاح لكل اسم منها أن يكتسب مرونة المعنى، فبينما اسم «الحرية» يمكن أن يحمل في معناه إضافات يظل الإنسان يضيفها إليه عصرا بعد عصر، نجد اسم «المثلث» لا يتحمل إلا معنى محددا واحدا مهما تعاقبت عليه عصور العلم نماء وارتقاء، وبسبب مرونة المعنى في اسم «الحرية» كان غموض نسبي في ذلك المعنى، وكذلك بسبب تحديد المعنى في اسم «المثلث» كان وضوحه المطلق، الذي لا يحتمل لبسا، ومن هنا رأينا الغموض النسبي في الحالة الأولى، كثيرا ما يفرق بين الناس في معتقداتهم ووجهات أنظارهم، إلى حد القتال في ميادين الحرب أحيانا، بينما استحال عليهم في الحالة الثانية أن يختلف بينهم الرأي، بل إن كلمة «الرأي» نفسها غير واردة في مجال الوضوح العلمي، ولكنها ترد ورودا طبيعيا في حالة الغموض النسبي الذي يكتنف عالم «القيم»، فليس من المقبول أن يقول لنا قائل: إن «رأيي» في المثلث هو أنه سطح تحيط به ثلاثة أضلاع، بينما نقبل أن يقول: إن رأيي في الحرية هو أنها حق فطري لكل إنسان.

فلما نودي في ثورة 1952 بمبدأ «العدالة الاجتماعية» فإنما جاء ذلك النداء ليفصح عما أضمرته الصدور، ولو استثنينا أفرادا قلائل ممن كانوا ينعمون بامتيازات هائلة: ثراء وجاها ونفوذا وسلطانا، وبالتالي لم يكن في مصلحتهم أن تسود عدالة تتناول الجميع على حد سواء، أقول: لو استثنيت هؤلاء الأفراد القلائل، لأمكن القول بأن الدعوة إلى عدالة اجتماعية، إنما كانت صدى لما يكنه أبناء الشعب جميعا، لكن أحدا لم يسأل: ما هي تلك «العدالة» المنشودة، وماذا في خصائصها قد جعلها «اجتماعية»؟ أهي من جنس «العدالة» التي تسعى إلى تحقيقها المحاكم، بأن ترد إلى أصحاب الحقوق الضائعة حقوقهم ممن اغتصبوها ظلما؟ وإن كان ذلك كذلك فأين الجديد الذي تنشده الثورة، وينشده معها أبناء الشعب جميعا؟ أم تكون عدالة المحاكم تعنى بحقوق «الأفراد» أو من يتخذ لنفسه صفة الفرد من هيئات وجماعات، وأما «العدالة الاجتماعية» التي جاءت الثورة لتحقق وجودها بعد أن لم يكن، فمقصود بها النسب القائمة بين «طبقات» المجتمع؟ وإذا كان هذا هو شأنها، فقد افترضت مقدما - إذن - وجود طبقات اجتماعية منها ما يعلو ومنها ما يسفل على نحو لا يبرر للأعلى أن يكون أعلى، وللأسفل أن يكون أسفل.

وليست هذه الأسئلة وأشباهها هي ما يعنينا في المقام الأول خلال هذا الحديث، لكن الذي نحن معنيون به الآن، هو ما قد أخذ يتولد عن فكرة «العدالة الاجتماعية» من مبادئ فرعية، وكان من بينها القول ب «إرادة التعيير»، وهي عبارة وصفية أطلقت لتدل على مطلب من مجموعة المطالب الشعبية التي كانت قد جمعت معها في الدعوة إلى «عدالة اجتماعية»، ومرة أخرى نجد أنفسنا أمام «قيمة» من القيم التي يراد بها أن تقنن فكر الإنسان السوي وسلوكه في المجتمع الجديد الذي قامت الثورة لتحقيقه، وهي «قيمة» يلتقي عندها الرأي، فسواء أفصح المواطن المعين عن رأيه في ذلك أم سكت عن ذكره، فقد انطوت الضمائر كلها يومئذ على وجوب «إرادة التغيير»، ولم يكن يكفي الناطقين أن يقولوا بوجوب «التغيير» دون أن تسبقها كلمة «إرادة» حتى لا يسبق الظن إلى أحد، بأنه تغيير مفروض على الشعب ولم يكن يريده، فمن حيث هي «قيمة» عليا كانت إرادة التغيير صيحة مقبولة من الجميع، ولكنها أيضا وفي الوقت نفسه من حيث هي قيمة عليا كانت مغلفة بالغموض فيما تعنيه.

كان صاحبنا كغيره يومئذ - ونحن معه الآن في الأعوام الأولى بعد ثورة 1952 - يؤمن بوجوب التغير، كما يؤمن بأن يكون هناك في الأذهان تصور إجمالي لما يراد الوصول إليه بذلك التغير، وكأن أرجح الظن عنده هو أن كثرة الشعب الغالبة لم تكن واضحة الرؤية لمثل ذلك التصور المطلوب؛ لأن تلك الكثرة قد ألفت أن تقبل الأفكار - أو ترفضها - على علاتها (كما يقولون) إذ هي نادرا ما تفرق بين واضح وغامض فيما تقبله أو ترفضه من الأفكار، ومثل هذا الموقف «الشعبي» الذي يشمل مع عامة الجماهير عددا كبيرا من «المثقفين» أو إن شئت عبارة أدق، فقل من «المتعلمين» الذين ظفروا بحظ من التعليم قد يصل بهم إلى الدرجات العليا، فهؤلاء قد يكونون على شيء من الحذر وهم في ميادين تخصصاتهم العلمية، لكنهم يخففون القيد المنهجي عن عقولهم فيما هو خارج تلك الحدود، فيقبلون غوامض الأفكار قبول الرضا، ولعل هذه الحقيقة عن حياتنا العقلية، كانت من أهم ما حفز صاحبنا على أن يبذل معظم جهده الفكري منصبا على لفت الأنظار نحو ضرورة «الوضوح» في الأفكار المحورية - على الأقل - التي ندير حولها نشاطنا الحيوي، فها هي ذي ثورة قد قامت لتقوم شيئا مما اعوجت به حياتنا، وهو تقويم لا يتأتى إلا إذا كانت هنالك تصورات واضحة لما نريد أن نشكل به المواطن الجديد ... ثم المجتمع الجديد في نهاية المطاف، أما أن نترك أنفسنا في ضباب الغموض لا ندري معه على وجه الدقة ماذا نريد بأنفسنا لأنفسنا، فما ذاك إلا موقف شبيه بمن ركب سيارة وأمر سائقها أن ينطلق بالسيارة مسرعا، وإذا سأل السائق: إلى أين؟ أجابه بقوله: لا أدري.

وأمسك صاحبنا بمجهره المنهجي ليقلب به النظر إلى «إرادة التغيير» التي رفعت شعارا - مع زميلات لها - ليعلم السائرون الثائرون إلى أين يكون السير، فماذا يكمن في جوف هذه التركيبة اللفظية من عناصر المعنى؟ هكذا تساءل صاحبنا ومجهر التحليل في يده، فجاءه الجزء الأول من الجواب، وهو أن هذه العبارة حين أضافت كلمة «تغيير» إلى كلمة «إرادة» كانت كأنها لم تضف شيئا مع إيهامها السامع بأنها قد أكملت «المعنى» المطلوب، فنتج عن هذا الإيهام وما أحدثه في الناس من وهم، أن اكتفى هؤلاء الناس بما سمعوا.

لكن تعالوا معي ننظر مع صاحبنا في مجهره إلى كلمة «إرادة» وهي مستقلة وحدها، فماذا عساها تعني؟ ما هي الحالة البسيطة أو المركبة التي جاءت تلك اللفظة لتشير إليها في عالم الكائنات، باطنها وظاهرها جميعا، بناء على ما اتفق عليه أبناء اللغة بالنسبة إلى هذا المفرد اللغوي، ولست أعني هنا ما هو وارد عنها في معاجم اللغة فقط، بل أعني كذلك ما هو أهم من المعاجم، وهو الشحنة التي شحنت بها اللفظة خلال استعمالها، ويضاف إلى ذلك ما يقوله العلماء المعنيون بالموضوع الذي خلقت تلك اللفظة لتدل عليه، واللفظة في سياق حديثنا هذا هي «إرادة»، ولو أذن لي القارئ بأن أوجز المعنى مع مراعاة هذه التحفظات كلها لقلت في شأن «الإرادة»: إنها حالة ينشط بها الإنسان ليخرج رغبة أحسها في باطنه، إلى صورة فعل يحقق وجودها أو على الأقل يحاول ذلك. وراقب نفسك عن كثب، ولنفرض أنك أحسست بالظمأ ورغبت في شربة ماء؛ فسوف نراك وقد تحرك بدنك قياما وسيرا وحركة تنتهي بتحقيق ما أردت تحقيقه، إن هذه السلسلة كلها من أول حلقة فيها إلى آخر حلقة هي إرادة واحدة وفعلها، ولو حدث أن اعترض سيرها ما يحبطها، فتجهض قبل أن تكمل حلقاتها، كنا أمام حالة تعطلت فيها الإرادة ، فلم يكتمل تكوينها وامتنع ظهورها، وعندما يقول الله سبحانه وتعالى إنه:

فعال لما يريد

فهو جل وعلا ينبهنا إلى الفرق بين إرادته المطلقة وإرادة الإنسان المقيدة بظروف تنفيذها، فبينما إرادة الله عز وجل لا بد لها أن تكتمل حلقاتها، نرى إرادة الإنسان قد تبدأ لكنها توءد قبل اكتمالها.

وما دام «الفعل» المراد هو حلقة ضرورية ليتم للإرادة كيانها، ثم ما دام كل فعل إنما هو تغيير وقع في دنيا الأشياء نتج لنا أن «التغيير» جزء لا يتجزأ من «الإرادة»، فإذا لم يحدث تغيير حكمنا بأنه لم تكن هنالك إرادة مكتملة، ولا يقلل من صدق هذا الرأي، أن تجهض إرادة اعتزمها زيد من الناس في موقف من المواقف لأي سبب من الأسباب، إذ الذي نزعمه هو أنه لو ادعى فرد أو مجموعة أفراد أنه قد أراد ولكن إرادته أحبطت فذلك معناه أنه لم يكن هناك «إرادة» يحسب حسابها، فالجنين الذي يموت قبل ولادته لا يحسب في إحصاء السكان.

لم يكن المهم - إذن - أن نرفع شعار «إرادة التغيير» ولكن المهم حقا هو أن يحدد في وضوح - أو فيما يقرب من الوضوح - شكل التغيير المعتزم إيجاده في عالم الواقع الفعلي، أما التغيير مطلق التغيير فذلك قد ضمنا حدوثه ما دمنا قد ضمنا تحرك الإرادة فيمن أراد، تلك نقطة أولى التقطها صاحبنا بمجهر التحليل، ننتقل بعدها إلى نقطة ثانية، فإذا كانت الصيحة تنادي بإرادة التغيير نشأ - أو كان ينبغي أن ينشأ - سؤالان: أولهما يسأل قائلا: إرادة من؟ ثانيهما يسأل عن الصورة التي اعتزمت تلك الإرادة استحداثها في حياة الناس، فأما عن هذا الشق الثاني فقد يقال إنه قد فصل (بالفاء مضمومة والصاد مشددة) فيه القول حين وضع أولو الأمر مجموعة المبادئ التي حددوها لتكون خطة عمل نحو تحقيق التغيير المنشود، وأما عن الشق الأول الذي يسأل: إرادة من؟ فقد كان يسيرا على أولى الأمر أن يجيبوا بقولهم إنها إرادة الشعب، لكن مثل هذه الإجابة في حاجة إلى تحديد الصورة التي تمت بها إرادة شعب ، على أنه أيا ما كانت عليه تلك الصورة، فلن تكون هنالك إرادة لشعب إلا إذا وجدنا ذلك الشعب قد اجتمع أفراده على «هدف» واحد، فحتى المبادئ الأساسية التي رسم بها أولو الأمر عندئذ «أهدافهم» من التغيير الاجتماعي الذي أرادوه فإن تلك المبادئ ذاتها إن هي إلا وسائل يراد بها الوصول إلى الغاية الحضارية والثقافية المراد استحداثها، ومثل هذه الغاية الواحدة، الواضحة، لم يكن لها في حياتنا عندئذ وجود ظاهر، وإلا لما احتاج الأمر إلى اتخاذ إجراءات تجاه المخالفين على النحو الذي وقع، ويكفينا في هذا الصدد أن ننظر فنرى: جماعة قد جعلت غايتها احتذاء السلف، وجماعة أخرى قد جعلت غايتها احتذاء الشرق الأوروبي، وجماعة ثالثة جعلت غايتها احتذاء الغرب الأوروبي مضافا إليه الجانب الأمريكي، وجماعة رابعة قد وضعت ثقلها مع رأي يأخذ بالتحديث مع وقفة محايدة بالنسبة إلى محاور القوى، وقد رأينا هذه الاتجاهات المتعارضة كلها منعكسة في الحياة الثقافية كما نشط بها أصحابها، وإن صاحبنا ليذكر في هذا الصدد خبرة حية وقعت له أكثر من مرة حيرته حيرة لم يجد لنفسه منها مخرجا، فهو بطبعه لا يجد ما يبرر له أن ينغمس في تيار دون آخر من تيارات السياسة العملية، وإنما تهمه الوقفة «الثقافية» بغض النظر عن تيارها السياسي ماذا يكون في حساب الأمر الواقع، إنه يرى أن الترتيب الصحيح لخطوات السير يجب أن تبدأ من مشكلات حقيقية في حياتنا التي نحياها بالفعل: قد تكون في مجال التعليم، أو الجمارك والضرائب، أو التوسع في الأراضي المزروعة، أو توليد الكهرباء، أو غير ذلك، فتجيء بعد تحديد المشكلة المعينة محاولة حلها قدر المستطاع، ولا يهمنا بعد ذلك من أين يأتي الحل ... أهو من صنع علمائنا؟ أم أخذناه عن هذا البلد أو ذاك ممن نجد عنده ما يعين على الحل المنشود؛ فإذا كان هذا النظر إلى أمور الواقع بما يكتنفه من مشكلات هو «السياسة» إذن فصاحبنا منغمس في تلك السياسة إلى أذنيه، ولكنه في حالة كهذه يدهش أن نفرق في حل مشكلاتنا الحقيقية بين مصدر ومصدر، ومهما يكن من أمر في هذا الصدد فالذي حدث بالفعل في دنيانا الثقافية إبان الفترة التي نتحدث عنها، هو أن رواد الفكر وغير الفكر من مقومات الحياة الثقافية، ومن أيدهم من أتباع، قد انقسموا على أنفسهم في «الغاية» التي يتغياها كل منهم تحقيقا للمواطن الجديد، وبالتالي للمجتمع الجديد، فإذا كانت أرضنا يومئذ قد تشققت تحت أقدامنا لنصبح في تيارات متعارضة لكل تيار منها غايته، إذن فقد كان «التغيير» الذي حملته في جوفها العزمة الإرادية حين ذاك، مجهول القسمات مبهم المعالم والملامح، ولقد ظهرت لذلك الغموض الفكري - بالطبع - نتائجه الطبيعية فيما رأيناه من أحداث.

وكيف كان يمكن للغاية القومية أن تتوحد هدفا حتى وإن اختلفت الوسائل إليها، ما لم تكن هناك حياة ثقافية متجانسة المناخ برغم اختلاف وسائل التعبير في مجالات الإبداع؟ إن الإنسان يتحرك برأسه قبل أن يتحرك بقدميه، أي إن فكره وإرادته يرسمان له طريق السير، ويحددان له أهداف الحياة، وبعد ذلك يجيء نشاط السلوك المنظور على الصورة التي يظن لها أن تكون محققة لما فكر صاحبه وأراد، ومجموع الشعب أو الأمة تتجانس أفكاره ومشاعره وتتقارب الأهداف عند أفراده أو أفرادها، بفضل ما يتشربه هؤلاء الأفراد قطرة قطرة من ذويهم ومعلميهم، وما يقرءونه وما يشاهدونه وما يتناقله الأصدقاء والزملاء من أخبار وآراء وهكذا، وذلك الذي يتشربونه إنما يستقى من مصادر هي نفسها المصادر التي تسمى آخر الأمر بكلمة «ثقافة»، فإذا توحدت تلك الثقافة روحا برغم اختلاف ميادينها ومضموناتها، فهي كفيلة بإحداث ذلك المناخ العام المشترك الذي يتنفسه الجميع على حد سواء، ولا ضير بعد ذلك أن يتفاوت أفراد الأمة الواحدة في مقدار ما يتنفسونه من ذلك المناخ المشترك وفي رتبته من درجات الارتفاع.

ولا بأس في أن نعيد هنا ما قد ذكرناه للقارئ أكثر من مرة في مناسبات أخرى، وهو أن اختلاف وسائط التعبير في أنواع الفن والأدب إبان عصر معين، لا ينفي أن يكون بينهما - رغم ذلك الاختلاف الظاهر - تشابه أعمق هو الذي يجمعها جميعا تحت عنوان واحد، وذلك التشابه الأعمق إنما يكمن في طريقة التكوين، وأعني الإطار أو الشكل أو «الفورم»، فإذا كان العنوان الواحد الذي يميز العصر المعين والأمة المعينة، هو «العقلانية» - مثلا - رأيت ما يبرز هذه الصفة في ألحان الموسيقى وفي نظم الشعر، وفي شكل الرواية أو المسرحية، وفي فنون التصوير بالنحت والعمارة، فبينها جميعا رباط كالرباط الذي يكون بين «النظائر»، وانظر إلى العلاقة بين الخريطة الجغرافية وقارنها بالإقليم نفسه، الذي جاءت تلك الخريطة لتصوره، تجد اختلافا واسعا بين الطرفين، لكنهما مع ذلك يتشابهان تشابه النظائر، بمعنى أن كل جزء في أحد الطرفين يشير إلى جزء يقابله في الطرف الآخر، وهكذا تكون الحال بين مبدعات الفن والأدب على تباين أنواعها وبين «الحياة» الفعلية التي تقابلها، وذلك - بالطبع - مشروط بأن تكون الفاعلية الإبداعية سوية، وهي سوية إذا كانت كلها تستهدف - عن وعي أو عن غير وعي - غاية موحدة، ونسأل: ومن الذي يضع للأمة الواحدة في عصر معين تلك الغاية الموحدة التي يهتدي بها المبدعون في عملهم؟ إن ذلك لا يجيء طاعة لأمر يصدره الحاكم، بل تمليه الظروف التاريخية إملاء، أو توحي به إيحاء إذا لم تكن هناك قوة قسرية تحول دون أن يبدع المبدعون وفق ما توجههم إليه مشاعرهم.

وكانت الفرصة مواتية بعد إجماع الجمهور على تأييد ثورة 1952 ودعوتها إلى عدالة اجتماعية، لكننا لم نلبث على اتفاقنا إلا قليلا، ثم أخذنا نتفرق غايات مختلفة، إذ فسرت العدالة الاجتماعية تفسيرات تناقض بعضها مع بعض تناقضا لم يبق من الغاية المشتركة إلا الصيغة اللفظية التي سميت بها، وكيف نتفق وبعضنا يريد أن يعيد الماضي ليكون هو الحاضر أيضا، وكأنه لم يكن هنالك امتداد زمني بيننا وبينه، وبعضنا الآخر يريد أن نترجم أرواحنا ترجمة كاملة إلى صور ثقافية غريبة ليست منا ولسنا منها. على أن ما هو أهم من هذا كله أن روح الوحدة الغائبة بين أفراد الأمة لم تترك لتمليها علينا ظروف التاريخ، فيجري المبدعون في إبداعهم طواعية وفق ما أرادت لهم المرحلة التاريخية أن يسيروا، بل نزلت بها أوامر وقرارات من أصحاب السلطان.

نعم إن الفرصة كانت مواتية لولادة ثقافة حركية تتلاءم مع طموح الأمة في أن تنفض عن نفسها غبار الركود وبلادة الوخم كي تنهض مع الناهضين فتشارك في بناء عصرها مع سائر البناة؛ وذلك أولا: أن تبلورت لها «الغاية» التي تستحق أن تتحرك نحوها إرادة البعث والتجديد، وثانيا: بأن أقيمت لنا أجهزة تعين على النشاط الثقافي؛ فأنشئت وزارة للثقافة، ووزارة للإعلام، ومجلس أعلى للثقافة، أطلق عليه عند نشأته اسم «المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب» وبعد قليل أضيفت العلوم الاجتماعية إلى الفنون والآداب، وفيما بعد أصبح الاسم «المجلس الأعلى للثقافة» ثم أقيمت أكاديمية للعلوم والبحث العلمي وأكاديمية للفنون وأقيمت مجالس قومية متخصصة، كان للتعليم والبحث العلمي والثقافة والإعلام والفنون نصيبها الضخم في جهودها، فكان يمكن لتلك الأجهزة كلها أن تفعل فعلها في توحيد «الغاية» التي تستقطب مبدعات المبدعين واستعدادات المتلقين استقطابا يجعل من الحركة كلها موكبا يعرف لماذا أقيم وإلى أين يتجه، ولكن الأمر الواقع هو أن زاوية التفرق في الغايات ووجهات النظر قد ازدادت انفراجا، وأسوأ من انفراجها أن ركنت بعض التيارات المتعارضة إلى أخذ خصومها بالتهديد والإرهاب.

ولما كانت السيئة تلد السيئة، فقد تولد لنا عن روح الفرقة الثقافية ما هو أسوأ منها، إلا وهو تميع معنى الثقافة بين الرواد أنفسهم، فما بالك بالأتباع، وأعني أن الجسم الثقافي نفسه قد اختلف على طبيعته؛ فما هو «ثقافة» عند هذا، هو غثاثة وتفاهة عند ذاك، نعم إن «الثقافة» اسم أطلق ويطلق على عناصر متباينة متباعدة على نحو يثير الحيرة أين يقع اللقاء بين هذه المتباينات المتباعدات بحيث تستحق أن يطلق عليها اسم واحد يضمها جميعا في أسرة واحدة، فاختلفت في طبيعتها الآراء اختلافا بعيدا، لكننا برغم هذا كله نستطيع من واقع ما حفظه لنا التاريخ على أنه من عناصر المركبات الثقافية في العصور المختلفة أن نخلص إلى خصائص نطمئن إليها، فناتج الفاعلية الثقافية لا يؤكل ولا يشرب ... لكنه هو الذي تنسج من خيوطه إنسانية الإنسان، وتميز الفرد أو الشعب من سائر الأفراد أو الشعوب، إنك لا تأكل المعزوفة الموسيقية ولا ترتدي ثوبا من قصيدة الشعر، ولا تشرب ماءك من لوحة الفنان، إنك تذهب إلى المسرح أو إلى السينما لتشهد رواية تدفع ثمنا لما شاهدته ولا يعطونك لقاء مالك المدفوع إلا كلاما ومشاهدة، فماذا - إذن - يأخذ المتلقي من النواتج الثقافية مما يراه جديرا بالمال يدفعه أو بالوقت يقضيه؟ إن ما هو ضرورات مادية لحياة الإنسان لا يحتاج إلى توصية من أحد برعايته؛ لأن ضرورته تلزم الإنسان إلزاما بأن يرعاه، وأما الذي قد يبدو ترفا لا تحتمه الضرورة - كالمبدعات في الفن والأدب - فهي التي تحتاج إلى لفت أنظار الغافلين. إن الإنسان إذ يحيا حياته العملية، عاملا أو زارعا أو تاجرا أو قاضيا أو طبيبا أو ما شئت من طرق العيش، فإنما يحيا بما تقتضيه الحرفة أو المهنة أو الطعام والثياب والمسكن ووسائل المواصلات، ومن ذلك كله تقام الحياة العملية من كل وجوهها، فتأتي جماعة موهوبة بقدرات مختلفة لا يكتفي أفرادها بأن يحيوا حياتهم الضرورية كسائر عباد الله، بل تدفعهم مواهبهم إلى ترجمة تلك الحياة ذاتها ترجمات تختلف باختلاف المواهب، فهذا يترجمها إلى أنغام وهذا يترجمها إلى كلمات نظمت شعرا، وثالث يجريها ألوانا وخطوطا، ورابع يبثها في رواية أو في مسرحية يصنعها خياله ... فإذا اجتمعت هذه المبدعات كلها، وما يجري مجراها في صلته بالحياة الإنسانية كما ينشط بها أصحابها، أقول: إذا اجتمعت هذه العناصر كلها ونفذت في أحشائها أشعة «الناقد» المبصر البصير، فوجد فيها روحا واحدة تسري في جنباتها سريان الدماء في الجسم الحي كانت هي «الثقافة» الناتجة ليتلقاها من يتلقاها.

س سؤال:

ولماذا يتلقاها خيالا، بعد أن عاشها هو بنفسه لحما ودما؟

ج جواب:

لأنه يريد أن يرى نفسه مصورة بطريقة أخرى، فيراها شارحة مشروحة ليخرج وقد تحركت فيه «الإرادة» لأن يقوم من نفسه عوجها أو ليبقي على ما يستحق البقاء، واختصارا فإن المتلقي لمبدعات الثقافة إنما يتلقى ما يصنع له «الضمير»، فهل أنجزت لنا أوجه النشاط الثقافي، بكل مواهبها وأجهزتها من وزارات ومجالس عليا ولجان، ما ينشئ فينا الضمير القومي الحي ويهديه؟

إرادة التغيير «3»

كان صاحبنا خلال أعوام الخمسينيات وما بعدها، واحدا من آلاف المواطنين الذين اشتدت بهم الرغبة في أن تتغير عندنا الرؤية الحضارية، بحيث تنغرس في الهوية المصرية العربية تلك العناصر التي استحدثت في الغرب إبان القرنين الأخيرين، فجعلت لعصرنا هذا ملامحه الخاصة التي تميز بها دون سائر ما سبقه من عصور، ولم تكن هذه الرغبة مستنكرة من أحد على المستوى العملي في حياة الناس الجارية، بمعنى أن الثمرات التي أنتجتها حضارة العلم الجديد - والعلم الجديد هو ما انتهج في أبحاثه منهج الأجهزة العملية ما وجد إليها سبيلا؛ لما تكفله تلك الأجهزة من دقة عند حساب الجوانب الكمية من الظواهر الطبيعية، ومن توسيع لآفاق المشاهدة وإجراء التجارب، ليرى الباحث العلمي من خفايا الظواهر الطبيعية الموضوعة تحت البحث، ما لم يكن يراه بغير تلك الأجهزة - أقول: إن الثمرات التي أنتجتها حضارة العلم الجديد، لم يكن بين عامة الناس ودع عنك خاصتهم من يستنكرها، وإلا فأين هو ذلك الفرد الواحد من أفراد الجمهور العريض، الذي يرفض أن يطبب بأجهزة الطب الجديد إذا مرض؟ أو الذي يرفض أن ينزل ساحة القتال في حروبه مع العدو، غير مسلح بأحدث ما أنتجه العلم الجديد؟ أين هو الفرد الواحد الذي يستنكر أن تقام على أرضنا صناعة من الطراز الحديث، الذي لا يتحقق إلا بمكينات ومعدات وأساليب ابتدعها العلم الجديد؟ وحتى إذا نحن جاوزنا ميدان التقنية بصوره المتعددة، وألقينا نظرة على «النظم» الاجتماعية في كثير جدا من أوضاعها، وجدنا للفكر الجديد موقعا منها لا يوجد بين الناس من يستنكره، فمن ذا يستنكر قيام صحافة على النحو الذي نألفه؟ وإذاعة مرئية ومسموعة على الوجه الذي نمارسه؟ وإذا كان ذلك كله مرغوبا فيه، فكيف يقام بغير العلم الجديد والفكر الجديد؟ سل نفسك: كيف تريد لنا أن يكون أمرنا شورى بيننا؟ يأتيك الجواب مسرعا، بأن الصورة المرجوة هي أن ينيب أبناء الشعب ممن بلغوا الرشد من يمثلهم في مجلس أو مجالس، يناط بها النظر في تهيئة الحياة للمواطنين بقوانين أو قرارات يوصل إليها بأغلبية الأصوات على النحو الذي عرفناه ونقلنا عن أصحابه فكرته وإطاره، إنه لم يكن يكفي أن يؤذن لنا بحكم عقيدتنا وموروثنا بأن يكون الأمر بيننا شورى، إذ لا بد لتنفيذ الشورى من معرفة بطريقة التنفيذ التي تتلاءم مع المكان والزمان؛ لأن لذلك التنفيذ صورا كثيرة شهدها التاريخ وعرف أنها اختلفت من عصر إلى عصر ومن شعب إلى شعب، ولم يكن عيبا فينا أن اخترنا عن الأمم الرائدة في عصرنا ما يعيننا على رسم الصورة التي تلائمنا، وأترك للقارئ أن يدير النظر في جوانب حياتنا الاجتماعية، كنظام التعليم، ونظام ري الأرض وزرعها، وطرق العمل بتقسيمه إلى تخصصات متنوعة ليمهر كل عامل فيما يحسنه، وطرق التمتع المفيد في أوقات الفراغ، وغير ذلك مما قد لا يقع تحت حصر يحدده، أترك للقارئ أن يتدبر هذه الجوانب ليرى كم انتفعنا فيه ما نقلناه عن رواد الحضارة الجديدة في عصرنا، دون أن يرتفع صوت واحد ليستنكره، وذلك معناه أن جمهورنا قد قبل العصر عن رضا وطواعية، حتى إذا ما انتقلنا به من قطف الثمار الجاهزة، إلى دعوة ليشارك مشاركة المبتكر المبدع في زرع الشجرة التي تنتج تلك الثمار، رأيناه يتململ في ضيق وكراهية، وفي هذا الرفض - رفض العصر - على المستوى الفكري والعلمي، تكمن المشكلة العجيبة المحيرة.

كان ينبغي للحركة الثقافية في بلادنا أن تجعل سؤالها الأول الأهم، هو: كيف ننقل موقفنا من حضارة عصرنا - وهي من صنع الغرب - من الاكتفاء بقطف ثمارها، وهي ثمار أخرجتها أشجار لم نكن نحن زارعيها، إلى موقف المشاركة في زرع الأشجار منذ مرحلة البذر وحتى مرحلة الازدهار ونضج الثمار، إننا نخدع أنفسنا بإيهامها بأنها قد اضطلعت بقسطها العادل في إقامة البناء الحضاري في عصرنا الراهن، ما دمنا نعلم أبناءنا وبناتنا كل العلوم في أحدث صورها، متجاهلين أن تلك العلوم في صورتها هذه لم تكن من قرائح علمائنا، بل اشتريناها سلعة كما تشترى سائر السلع من أسواق الغرب، إذ اشترينا مؤلفاتها وأجهزتها وطرائق استخدامها ، ومن هذه السلعة المجلوبة تعلم أبناؤنا وتخرج منهم العلماء وخدعنا أنفسنا حين رأينا المصانع قد أقيمت على أرضنا، وقام على إدارتها ورعايتها مواطنونا، متناسين أن كل ما قد أقمناه من آلات المصانع، إنما كان بدوره سلعة أخرى اشتريناها كما تشترى من الأسواق سائر السلع، ومما تعلمه علماؤنا وخبراؤنا من أصحابها علما وخبرة دارت العجلات وأنتجت المصانع ما أنتجته، وهكذا قل في كثير جدا مما تتألف منه حياتنا الجديدة، وإننا في الحق لنحمد الله سبحانه أن هدانا إلى اجتلاب ما اجتلبناه من أسباب الحضارة العصرية؛ لأنه أتاح لنا أن نتقمص بقمصان زماننا، فكان لنا بذلك أن نبدو في مظهر المتحضر بحضارة عصره، ولو إلى حد مقيد بحدود، لكن ذلك الكسب على أهميته، لم يكن يجوز له أن يكون خاتمة مطافنا وكأننا قد أكملنا به الرحلة الحضارية كلها، على نحو ما فعلناه إزاء الحضارات السابقة، فبعد أن حملنا وحدنا «تقريبا» العبء الأكبر من إرساء البنيان الحضاري للبشرية جمعاء على أسس قوية من فن، وعلم، وصناعة، ونظم اجتماعية، حتى لقد أكملنا «للدولة» شكلها، أخذت الحضارات تتوالى ظهورا: عند اليونان، والرومان، ثم جاءت رسالة الإسلام ونشأت في مناخها حضارة عربية، فكانت مصر وهي تتلقى عن اليونان ثقافتهم، وعن الرومان إدارتهم، تعرف كيف تتلقى من الآخرين ما عندهم لتشارك أصحاب الحضارة في صنع الحضارة وإثرائها، حتى إذا ما جاءها الإسلام مصحوبا باللغة العربية، وأسلمت مصر وتعربت لغتها، سرعان ما أخذت مكانها في موقع الريادة، فكيف حدث - إذن - أن أصابنا كل هذا القصور تجاه حضارة عصرنا، وكانت لأول مرة تبنى على العلوم الطبيعية أساسا، بعد أن كانت الحضارات السابقة تبنى على أسس أخرى، أقول: كيف حدث أن قصرنا هذا القصور كله إزاء حضارة عصرنا، بحيث اكتفينا بلبس قميصها دون أن نضطلع بدور في ابتكار الوسائل التي عملت على غزل خيوطه ونسجها؟

خدعنا أنفسنا بإيهامها بأننا كلما غرسنا في أرضنا فسيلة مجلوبة من نبات الغرب، ونمت الفسيلة شجرة نتفيأ ظلها ونجني ثمارها، بأننا متساوون مع باذر البذرة الأولى هناك، والبذرة الأولى تلك، إنما هي الإبداع الذي يبتكر الشيء مما يشبه العدم؛ لأن ما قد أبدعه الغرب في نهضته من عصوره الوسطى، كان لفتة جديدة نحو متجه جديد، هو أن يضيف إلى قراءة الموروث من كتب السابقين، قراءة أخرى هي قراءة الطبيعة لاستخراج قوانينها، فذلك شيء جديد، لا ينفي أن قد سبقته أمثلة من العلم الطبيعي متناثرة بين العصور والأمم، كما لا ينفي أن يكون للحضارات السابقة على النهضة الأوروبية فضل التنوير والإيحاء.

كانت هذه الخواطر وأمثالها هي التي تملأ في صاحبنا خلال تلك الأعوام رأسه وقلبه معا، فيتساءل إذا أصبح به صباح، ويتساءل إذا أمسى به مساء: أين يقع من حياتنا مكمن الداء الذي إذا ما رفعنا عنه جرثومة العلة شفيت حياتنا من عوامل تقصيرها الإبداعي وقصورها؟ وإنه ليذكر تلك الليلة التي عبر فيها المحيط الأطلنطي إلى الولايات المتحدة الأمريكية، مسافرا إليها ليقضي بجامعتين من جامعاتها عاما دراسيا، في كل جامعة منهما فصل دراسي، وذلك في حركة لتبادل الأساتذة عامئذ بين جامعة القاهرة وبين من يمثل الجامعات الأمريكية، وكان ذلك للعام الجامعي 53-54، نعم إنه ليذكر تلك الليلة التي عبرت به الطائرة المحيط، ونظر خلال زجاج النافذة بجواره، ليرى ذلك المنظر الآخذ بمجامع القلوب فتنة وروعة، فتحت الطائرة ما يشبه آفاقا ممتدة إلى غير نهاية في أي اتجاه أرسل البصر، كأنها فرشت بأكداس من قطن مندوف، هي أكداس سحب بيضاء سطع بياضها تحت ضوء القمر، وأسند صاحبنا رأسه إلى حشية لينة على ظهر مقعده الوثير، وانسابت في رأسه الخواطر بادئة بهمسة فيها حسرة، تقول: هنا يقع الفرق بينك - مخاطبا نفسه - وبين كرستوفر كولمبس حين عبر هذا المحيط للمرة الأولى في تاريخ الإنسان، وهو نفسه الفرق بين وقفتنا نحن من حضارة عصرنا، ووقفة من أبدعوها ويبدعونها، فبينما أنت - مخاطبا نفسه مرة أخرى - تعبر المحيط مستريحا فوق الوسائد والحشايا، يدار عليك الطعام في أوقاته، وتضبط لك درجة الدفء داخل الطائرة حتى لا ينال منك حر أو برد، وتنام ملء جفنيك إذا أحسست رغبة في نوم، وترسل البصر إلى السماء وقمرها المضيء وإلى بساط السحب التي فضضتها باللجين فضة القمر، كلما أحسست رغبة في سرحة الخلي الذي لا تشغل قلبه هموم السفر، فما غادرت بك الطائرة مطار القاهرة في موعد مضروب، سوف تصل بمشيئة الله إلى ختام رحلتها في موعد معلوم لك قبل أن تترك دارك في القاهرة، أقول بينما أنت على هذه الحال في عبورك للمحيط، تذكر كيف كانت الحال في رحلة ذلك الملاح وصحبه، عندما عبروا هذا المحيط بذاته منذ ثلاثة قرون ونصف القرن، فكلما شالت سفينته الشراعية موجة مفترسة أو حطتها موجة، وسوس له الشيطان بما عساه ملاقيه من موج أشد افتراسا، ماذا هو صانع لو طال به الطريق البحري المجهول، إذا ما فرغ زاده هو ورجاله من طعام وماء عذب؟ إن المرض لينال من رئات بحارته ومن الكلى، فمن تأخذ المنايا من تختاره منهم، يلقون بجثته في البحر بعد أن يجتمع له الرفاق الأحياء للصلاة والدعاء، قارن يا صاحبي - مخاطبا نفسه مرة ثالثة - رحلتك الرخية الرضية المستريحة، برحلة كولمبس في وقت كان اسم هذا المحيط في كتبنا «بحر الظلمات»، لتعلم يا صاحبي كم يكون الفرق بين من أبدع ومن جاء بعده لينعم بما قد أبدعه سواه، إننا نخدع أنفسنا بإيهامها بأنها ما دامت تملك المصابيح الكهربائية لتضيء لها فتزيح عنها سواد الليل، فقد أصبحت على درجة سواء مع من ابتكر تلك المصابيح، وما دامت تعرف كيف تزيل الصداع بقرص الأسبرين، فقد تساوت مع من ابتكر الأسبرين، وما دامت شفاه الناطقين من حولها تنطق بالحرية، وأقلام الكاتبين تكتبها، فقد باتت حرة كالذين كشفوا بالعلم بعض السر من ظواهر الكون، فسخروا تلك الظواهر تسخيرا بمقدار ما كشفوا عن سرها، إنها حرية الذين يعلمون، يقهرون بها ما كانت تفرضه عليهم سطوة الطبيعة من حوائل وعقبات.

هكذا كان صاحبنا يؤمن أشد ما يكون الإيمان، بأن قلوبنا التي ومضت بالأمس ومضات الحياة، وعقولنا التي نطقت على امتداد تاريخها بكلمات الحق لتسمع عنهم أرجاء الدنيا، قد ران عليها صدأ الوخم والخمول، فلا القلوب تنبض بالحياة كما نبضت، ولا العقول تنطق بالحق كما نطقت، وأصبح سؤالنا الأول والأهم هو: كيف السبيل لنصبح كما أمسينا؟ كيف يتبدل الوهم يقظة، والخمول حركة واعية ونشاطا يبدع ويبتكر؟ والجواب هو أنه لا بد لنا من عزمة الإرادة، فبالإرادة نغير ما ران على قلوبنا وعلى عقولنا، وبفضل الله يتغير لنا وجه الحياة فيبتسم بعد عبوس، ومفتاح ذلك كله هو أن نستبدل فكرا بفكر، وأن نغرس في ثقافتنا بذورا لتنمو وتورق، فنتحول من ثقافة قعود وسكون، إلى ثقافة انتفاض وحركة.

ليست ثقافة الفرد أو الشعب ضربا من ضروب الترف، إما أن تبقى فتبقى صورة الحياة معها براقة بوميضها مزدانة بحليها، وإما أن تزول فيزول عن الحياة بريقها وزينتها، لكنها مع ذلك تبقى حياة كلا، بل الثقافة هي نفسها محركات وموجهات للسلوك، فينشأ المواطن مزودا بما يجوز له أن يفعله وما لا يجوز، بما يراه جميلا وما يراه قبيحا، ينشأ مزودا بخطة عمل بنيت كلها على أساس مجموعة من القيم والمبادئ لا يطمئن الفرد ولا الرأي العام إلا إذا جاءت الأفعال محققة لتلك المبادئ والقيم، فالأمر في ذلك هو كما وصفه أبو العلاء المعري حين قال:

وينشأ ناشئ الفتيان منا

على ما كان عوده أبوه

ثم تأتي مبدعات الفن والأدب انعكاسا لما يسود بين الناس من ضروب التفاعل، وهو انعكاس يصطنع لنفسه لغة خاصة به، فلكل لون من ألوان الفن والأدب وسيطه الذي يتوسل به إلى إبداع ما استطاع إبداعه، وعلاقة الثقافة المبدعة فنا وأدبا، بالثقافة مطبقة في التعامل والتفاعل الواقعين بالفعل في حياة الناس، هي علاقة الشعاع الضوئي يمر بعدسة فينكسر مساره بزاوية تحددها طبيعة العدسة، وهكذا يتلقى الموسيقي أو الشاعر أو الروائي والمسرحي وأديب المقالة ما يتلقاه من خبرات حية تتوالى على سمعه وبصره وسائر حواسه، فإذا تسللت إلى دخيلة نفسه نفذت خلال تلك العدسة الباطنية الخاصة، ثم خرجت منها بما لا يمكن التنبؤ به قبل خروجه، إذ تخرج راضية أو غاضبة أو ما شاءت نفس المبدع الفنان أو الأديب؛ لذلك فقد تأتي منتجات الفنان أو الأديب تصويرا مرآويا لما كان تلقاه من مؤثرات، بعد صبها في القالب الفني الخاص، ولكنها كذلك قد تأتي متجاوزة عيوب الواقع الحاضر ونواقصه لتصور مستقبلا مرجوا يتخلص من أوجه القصور التي تعيب الحياة كما هي واقعة، على الصورة الفنية أو الأدبية، سواء أكانت تفعل فعل المرآة لما هو حادث، أم تفعل فعل المصباح في كشف الطريق إلى مستقبل يغير ما هو قائم، فإن طبيعة الفن والأدب تأبى إلا أن تجيء الغاية المنشودة مختفية في ثنايا القطعة الفنية أو الأدبية، اختفاء لا يزيح عنه الستار إلا ناقد مدرب قدير، أو من كانت عنده تلك الملكة الناقدة الفاحصة من جماعة المتلقين، فما إن يترك هذا الجانب الثقافي المبدع أثره في نفوس الناس، حتى يفعل فعله بما ينسجه شيئا فشيئا من حالة نفسية معينة وموجهة لحاملها نحو أن يسلك في الحياة سلوكا يتلاءم مع تلك الحالة، وإلا فكيف يبلغ الأمر بأمة بأسرها أن تشعلها ثورة حامية مطالبة بتغيير أوجه حياتها البغيضة، مدفوعة إلى ثورتها تلك بما أحدثته فيها منتجات الفن والأدب؟ فمن ذا ينكر نشوب الثورة الفرنسية في 1789 نتيجة مباشرة لحركة التنوير التي اضطلع بها أعلام الفكر والأدب إبان القرن الثامن عشر؟ من ذا ينكر قيام الثورة في روسيا سنة 1917 نتيجة مباشرة لما كتبه ونشره كارل ماركس ومؤيدوه؟ وهل جاءت ثورة مصر سنة 1919، ثم ثورتها سنة 1952 من فراغ؟ ألم يسبق كلا من الثورتين أقلام تكتب وفنون تعزف وتصور؟

ونعيد ما قلناه قبل هذا الاستطراد الشارح، وهو أن الثقافة بمعناها المبدع، من فن وأدب وفكر، ليست ترفا تزدان به الحسناء وكان يمكن لها ألا تفعل، بل الثقافة أداة فعل، أداة توجيه وتحريك، ما دامت ناتجا سويا، بمعنى أن يكون ناتجها في مختلف ميادينه مستلهما من غاية منشودة ومضمرة، ولنلحظ هنا أن بين الجمهور ومبدعي الثقافة جدلا يظل بين قطبيهما يروح ويغدو، فالجمهور يكمن في حناياه أمل يتمنى له أن يتحقق، وبين أفراد ذلك الجمهور طائفة موهوبة بما وضعه في أفرادها ربهم الذي خلقهم على قدرات، فيلقطون ما تضطرب به صدور الناس في أنين مبهم مكتوم، فيخرجونه آخر الأمر أنغاما معزوفة أو شعرا ناطقا، أو غيرهما من وسائل الإخراج في عالم الإبداع، فتعود الكرة مرتدة إلى قطبها الأول، حين يستقبل الجمهور صناعة الفنان والأديب ليجد فيها ما كان أحسه في نفسه ولم يجد وسيلة إلى إخراجه، وها هنا تزدوج الصورة عند الجمهور المتلقي، فإحدى الصورتين هو ما يحسه في دخيلة نفسه، وأما الصورة الثانية فهي ما يراه أو يسمعه معزوفا في الموسيقى أو في شعر الشاعر أو رواية الروائي، فإما أن يرى بين الصورتين تطابقا في الجوهر المضمون، وإما أن يرى بينهما اختلافا يدله على ما ينبغي تعديله وتقويمه من جوانب حياته كما هي قائمة، لكن الحياة الثقافية لشعب معين في فترة معينة، قد لا تكون على هذا الاستواء الذي يوحدها في غاية واحدة تبث في قنوات الإبداع، لكل قناة منها بلغتها الخاصة، وعندئذ تتعرج وتتقطع خطوط السير في الحركة الجدلية بين الجمهور من جهة ومبدعي الثقافة من جهة أخرى، إذ في هذه الحالة يصبح الشعب الواحد وكأنه عدة شعوب متخاصمة متناكرة في وطن واحد!

ومثل ذلك التعدد في الغايات بين فئات الشعب، وبالتالي تعدد الوسائل، هو ما رآه صاحبنا في أمته، ولم يخدعه أن يجد ذلك التعدد المتخاصم المتعارض قد اختفى وراء توحد جمع الشعب كله ليلتقي مع الضباط الأحرار فيما أرادوه من عدالة اجتماعية لا بد منها لكي تصان لكل مواطن كرامته على أرض وطنه، وإن تعددت صور العمل وتنوعت، فذلك المطلب الذي توحدت به فئات الجمهور وراء عنوانه، لم يلبث أن تشقق وتفرق عند التطبيق، وإذا لم يكن الأمر كذلك لما اضطر أولو الأمر أن يقسموا الراشدين العاملين من أبناء الوطن خمس فئات متمايزة، ثم اختصرت الخمس لتصبح من الوجهة العملية جماعتين: فالفلاحون والعمال في جماعة واحدة، و«الفئات» الثلاث الأخرى، وهي الجنود والمثقفون وأصحاب الرأسمالية الوطنية، في جماعة أخرى، وهو تقسيم له أهميته في صنع القرار؛ لأنه تقسيم يسري في كل هيئة يصدر عنها قرارات تمس الحياة العامة بوجه من الوجوه، وقد اشترط في ذلك التقسيم النيابي أن يكون للجماعة الأولى - جماعة الفلاحين والعمال - نصف المقاعد «على الأقل»، وهذا بعبارة أخرى معناه أن القرار أيا كان مجال تطبيقه هو ما يقرره الفلاحون والعمال، والذي يهمنا من هذا الآن هو نقطة واحدة نحن الآن بصدد الحديث عنها وعن آثارها، وهي أننا لم نكن من ناحية الحقيقة الواقعة، ومن ناحية التصور الرسمي عند القادة، شعبا واحدا في رؤيته، توحده غاية قصوى واحدة، يتبعها صالح عام واحد، بل كنا عدة فئات، ما يصلح لفئة منها قد لا يصلح للفئة الأخرى، فإذا تعارض الرأي بين الطرفين، كانت الأولوية لما يصلح للفلاحين والعمال.

فعلى أي أساس - إذن - ننسج المناخ الثقافي المتجانس، الذي تستقطبه غاية واحدة تجيء مضمرة في شتى المبدعات، ليتسنى لها أن تجد طريقها إلى الجمهور كافة، فيتوجه آخر الأمر نحو مستقبل متفق عليه؟ وإذا وضعنا هذا السؤال نفسه في صورة أبسط وأوضح، قلنا: ما هي صورة المواطن الجديد الذي نسعى إلى استحداثه بما نقدمه من عناصر ثقافية؟

إنه سؤال إذا ما طرح في استفتاء عام، جاءتنا تصورات ينقض بعضها بعضا؛ لأننا - كما قلنا - لسنا على هدف واحد، وبالتالي فلسنا على ثقافة واحدة، وأسوق إلى القارئ مثلا لما بيننا من تباعد في وجهات النظر: فقد حدث أن دعي صاحبنا مع زميلين آخرين إلى ندوة إذاعية، أريد بها إبداء الرأي في قضية شاع الحديث عنها يومئذ، وتفرق الناس حيالها فرقا، وكان الأمل في ندوتنا الإذاعية أن نلتقي عند رأي رشيد يسمعه منا من يسمع، فلم يكد يبدأ التسجيل حتى برز بيننا نحن الثلاثة خلاف مبدئي عجيب، إذ قال منا قائل: إن الوضع الصحيح ليس هو أن نقول نحن أو أمثالنا من المثقفين ماذا نراه في كذا وكذا من شئون الحياة العامة، لتهتدي الجماهير بما نقوله، بل الوضع الصحيح هو أن يستمع المثقفون لما تقوله الجماهير ليهتدوا؛ لأن جماهيرنا لها من النضج ما ترشد به أمثالنا، وليس لدينا نحن ما نرشدهم به، تلك كانت البداية في الندوة الإذاعية التي دعي إليها الزملاء الثلاثة، واكتفى صاحبنا بقوله: إنه إذا كان الأمر كذلك، لوجب على المسئولين في الإذاعة أن يوجهوا دعوتهم إلى الجماهير لتلتف حول هذا الميكروفون، وكان علينا أن نجلس في ديارنا لنستمع، إلى هذا الحد يبلغ بيننا الخلاف، فماذا نحن صانعون؟

لم يتردد صاحبنا في اعتقاده - حيال هذا التنافر الظاهر - بأن علة العلل لا تكمن في «رأي» نتفق عليه أو نختلف، بل تكمن في غموض معتم يلف حياتنا الفكرية بأسرها، فإذا تحدث اثنان عن «الاشتراكية» أو عن «الديمقراطية» أو عن «نضج الجماهير» أو ما شئت من أمثال هذه المحاور الكبرى في حياة الفكر، كان عند كل منهما معنى لما يتحدثان عنه، غير المعنى الذي يتحدث عنه الآخر، نعم إن أمثال هذه المفهومات التي تدور حولها موجهات الحياة العملية، فيها من عدم التحديد ما يجعلها دائما محل خلاف لا ينتهي، في أي شعب أردت من شعوب العالم، لكن الفرق الجوهري بيننا في ذلك وبين الشعوب المستنيرة بثقافاتها، هو أنهم هناك إذ يختلفون بعضهم مع بعض، فإن موضع الاختلاف يرتكز أساسا على أصلح «تعريف» يحدد معنى هذا المفهوم أو ذاك، وبذلك يصبح المختلفان على وعي بما ينبغي عليهما الاتفاق عليه بادئ ذي بدء، وهو «التعريف» وإذا لم يتلاقيا عند تعريف واحد يرضيان عنه معا، تكونت في دنيا الفكر «تيارات» يستمد كل تيار ماءه من منبع ليس هو المنبع الذي تستقي منه التيارات الأخرى، وبهذا يمكن لمثل هذا الاختلاف أن يتحول إلى غنى تثرى به دنيا الثقافة، وليس إلى فقر يقعد تلك الثقافة فتعجز عن دفع الحياة إلى ما يراد لها أن تندفع.

وأما صورة التنافر عندنا فيغلب ألا تكون حول «التعريف» لأن هذه المرحلة هي في حد ذاتها درجة متقدمة من التثقيف، وأعني بها وعي الجمهور، أو جماعة المثقفين من ذلك الجمهور ، إن معاني تلك المفهومات الأساسية لم ينزل بها وحي من السماء فتتقيد به، وإنما هو من صناعة الفكر البشري؛ ولذلك فكل مفهوم منها ينمو معناه ويتسع مع نمو الخبرات البشرية واتساعها، لا ليس التنافر الفكري بيننا مؤسسا على اختلاف في تعريف الفكرة المختلف عليها، بل هو تنافر لا يستند إلى شيء عقلي على الإطلاق، فيصبح الأمر كله انفعالات تشتعل بين المتحاورين، يدخلها الطرفان صديقين، ويخرجان منها عدوين يكيد أحدهما للآخر بقية حياته، فلا الفكر قد أثري، ولا الصداقة دامت للأصدقاء!

وإذا كانت علة العلل كامنة في مثل هذا الغموض الفكري، فلماذا لا نعالج تلك العلة عند المنبع كما يقولون، ليستقيم الفكر فيستقيم السبيل لإرادة التغيير؟

في سبيل الوضوح «1»

لم تكن المراحل التي اجتازها صاحبنا خلال سنوات عمره، منفصلا بعضها عن بعض بخطوط حادة، بحيث جاءته المرحلة التالية بما وجده جديدا كل الجدة بالنسبة لما خبره في المرحلة التي سبقتها، كلا بل إن «الحياة» في أية صورة من صورها، لا تعرف تلك الفواصل الحادة بين مراحل النمو، ومن ذا يستطيع أن يحدد أمثال تلك الفواصل الحاسمة في شجرة تنمو، أو في فرخ الطير يتحول من عجز إلى قدرة على شق السماء بجناحيه، أو في رضيع بشري وهو يجتاز مراحل الزمن ليصبح ما يصبح: قوة جبارة من قوى الدفع بالأمة كلها، أو بالإنسانية جمعاء في مدارج الصعود الحضاري، أو من قوى الشد إلى الوراء، لعل شريط الزمن يعود على يديه فينطوي ليبعث الماضي وينشر حاضرا مرة أخرى، أو هو رضيع لن يظهر منه سوى إنسان من هؤلاء الملايين الذين يحيون حياة تتوالى فيها الأيام نسخات كربونية، أمسها كيومها، ويومها كغدها، وكأن العمر فيها يوم واحد كلما غربت عنه الشمس، عادت فأشرقت عليه هو نفسه لم يتغير منه شيء.

على أنه إذا كانت طبيعة الحياة، كائنة ما كانت صورتها، هي أن يتدرج فيها التغيير بحيث لا تظهر للعين المجردة فواصل تبين النقلة من حالة إلى الحالة التي تليها، إلا أن «الإنسان» ربما تميز عن سائر الكائنات الحية، في أن حياته ليست بيولوجية صرفا، بل هي تضيف إلى الهيكل البيولوجي امتدادات «ثقافية»، وفي هذه الامتدادات يختلف فرد من الناس عن فرد، بمعنى أنه قد تطرد القشرة الثقافية عند فرد اطرادا يمكث معه سنوات لا يتغير وكأن القشرة قد تحجرت ولم تعد تنمو، بينما تتغير بالنمو تلك القشرة الثقافية عاما بعد عام عند فرد آخر، بحيث يأتي العام اللاحقي باتجاه جديد يتوجه به ذلك الفرد في سيرة حياته، على خلاف حاد في ذلك مع اتجاه العام الذي سبقه، وبين هذين النوعين من أفراد الناس، فيما يختص بحركة النمو في حياتهم الثقافة، هنالك نوع ثالث، تتغير حياته تغيرات تجيء كل مرحلة منها بمثابة النبات الأخضر يخرج من بذور كانت مبذورة كامنة في مراحل العمر السابقة، ومن هذا النوع الثالث كان صاحبنا - على الأغلب - في تطوراته الثقافية بصفة عامة، والجانب الفكري منها بصفة خاصة، حتى لتراه يستطيع أن يرد ما قد ظهر عنده من أفكار تولدت في مرحلة لاحقة، إلى بذورها التي كانت لم تزل في حالة الكمون في مراحل سابقة.

وهذا هو ما نعنيه إذ نقول عنه إن مراحل حياته الفكرية لم تكن منفصلا بعضها عن بعض بفواصل حادة، ففي كل مرحلة يحدث أن تزهر وأن تظهر عناصر كانت في حقيقة أمرها موجودة كما توجد الأجنة في الأرحام، تولد عندما تتهيأ الظروف لولادتها، وكان الوليد الجديد الذي ظهر في أعوام الخمسينيات بعد أن اكتملت صورته، هو مبدأ «الوضوح» فيما يتبادله الناس من أفكار، إذ كان صاحبنا عندئذ على يقين - أو ما يقرب من اليقين - بأن الحياة العقلية، في الفرد الواحد، أو في الأمة بأسرها، إنما تزدهر وتبلغ نضجها، إذا ما غلب عليها «وضوح» الأفكار التي تدخل في دنيا التعامل والتبادل، فليست العبرة بكثرة المحصول الفكري، بل هي بوضوح ما قد حصله الإنسان من أفكار، والفرق بين الفكرة الواضحة والفكرة حين يلفها الغموض، هو أشبه بالفرق بين رحالة في حوزته خريطة واضحة التفصيلات، يستطيع السير على هداها فيصل آمنا إلى غايته المنشودة، ورحالة آخر كل ما في حوزته في هذا الصدد ورقة خطت عليها مجموعة مختلطة من خطوط، ولا ترسم شيئا ولا تدل على شيء، فيضل طريقه في تيه الفلاة.

ولعله كان من أهم ما كشفت عنه التحليلات الفلسفية في هذا القرن العشرين، كشفا لما يشهد تاريخ الفكر كله ما يقارن به دقة علمية، أقول: لعله كان من أهم ما كشف عنه عصرنا في تحليله «للفكر» وطبيعته، هو أن «الفكر» هو هو نفسه «اللغة» التي يظهر بها، وقد يتبادر إلى ظن القارئ، أن هذه النتيجة البسيطة لا يحق لها أن تتضخم في قيمتها بحيث نرتب عليها شيئا ذا خطر، لكنها في حقيقة أمرها نتيجة قلبت لنا الموقف البحثي نورا ظلام، لأننا لو بقينا نلف وندور حول مفهوم «الفكر» كما نتصوره بأذهاننا، لما وصلنا إلى نتيجة صحيحة حاسمة، ولو لبثنا نبدي في المشكلة ونعيد ألف ألف عام، أما وقد تبين لنا ذلك الدمج التام بين «الفكرة» و«لغتها» بمعنى أن تكون تلك هي هذه وهذه هي تلك، وليس أمرهما كما ألفنا أن نقرأ عنه ونسمعه، وأعني ما كان يقال عن الجانبين في تشبيهات تجعلها كالإناء وما يمتلئ به ذلك الإناء، أقول: أما وقد تبين لنا ذلك الدمج في هوية واحدة، فقد أصبحنا أمام تركيبة من رموز لغوية، أو رموز من أعداد أو حروف (كما هي الحال في الرياضة)، ننظر كيف ركبت حين وضح المعنى، وكيف ركبت حين غمض المعنى، وكيف ركبت حين خلت من المعنى، وحين ينصب البحث في ذلك على تركيب معين بين أيدينا نكون قد خلصنا أنفسنا من الضبابية الشبحية التي كانت تواجهنا عندما كنا ندير النظر فيما أسميناه «فكرا» خالصا ومجردا من جسد يخرجه من ظلمات الخفاء إلى ضوء النهار.

وعلى هذا الأساس البسيط الواضح، إذا أردنا الحكم على «فكر» فلان وضوحا وغموضا، لم يكن مرجع حكمنا سوى الرجوع إلى «قوله»، ففي الطريقة التي ركبت بها كلماته واتصلت بها عباراته بعضها ببعض - أو التي انفصلت بها بعضها عن بعض - وها هنا نجد المجال فسيحا أمام النظر العلمي الذي نؤسس عليه الحكم بالوضوح أو بالغموض أو بالخلو من أي معنى، فليست المعاني مرهونة بمفردات اللغة، أو الرموز الرياضية، بقدر ما هي مرهونة بمجموعة العلاقات التي ربطت تلك المفردات ربطا صارت به «فكرة»، ولو ارتبطت تلك المفردات ذاتها بمجموعة أخرى من العلاقات لتغير الموقف، بحيث صار الواضح غامضا، أو الغامض واضحا، أو اكتسب معنى ما لم يكن يدل على معنى، أو فقد معناه ما كان ذا دلالة تحدد معناه.

بل إن فكرة «المعنى» في حد ذاتها قد استوقفت أنظار الباحثين متسائلين: ماذا نريد على وجه التحديد، حين نقول عن جملة معينة إنها ذات «معنى» وعن جملة أخرى إنها ليست بذات «معنى»، ولم يكن هذا السؤال من الباحثين عابثا، إذ ما نكاد نمعن النظر فيه، حتى يتبين أن الأمر في حاجة إلى شيء من الروية والتدبر؛ وذلك لأن المراد ب «المعنى» ليس شيئا واحدا في جميع الحالات، فلعل القارئ يذكر ما عرضناه بشيء من التفصيل فيما سبق من أحاديث عن مجالات القول المختلفة: فهنالك أولا: مجال القول العلمي، وهو يعود بدوره فينقسم قسمين أساسيين، هما: العلوم الرياضية والعلوم الطبيعية بما فيها مجموعة العلوم الإنسانية، وهنالك ثانيا: مجالات الفن والأدب، وأهم ما تشتمل عليه من فروع: الموسيقى، والأدب شعرا ونثرا، بما فيه الأدب الروائي والمسرحي، وهنالك ثالثا: مجال القيم، التي هي بطبيعتها تمد سلطانها ليسري في العلم والفن والأدب جميعا، والمصدر الأساسي للقيم هو «الدين»، ثم هنالك رابعا: الفلسفة التي هي محاولة فكرية تسعى إلى الكشف عن الأساس الواحد، في كل عصر معين، الذي ترتكز عليه تلك المجالات كلها، وذلك إذا كانت الحياة الثقافية إبان ذلك العصر حياة سوية، وشرط السواء هنا هو أن يكون هنالك ينبوع مشترك، أو سؤال واحد كبير مطروح للعصر المعين كي يجد عنده الجواب، ومن ثم يصطبغ العصر بلون ثقافي متميز يمكن تحديده، ولعل القارئ يذكر كذلك ما قد أسلفنا فيه القول مفصلا، عما نعنيه في كل حالة من تلك الحالات الأربع، حين نصف قولا معينا بصفة «الصدق» أو الصواب؛ وذلك لأن ما نعنيه ب «الصدق» يختلف في مجال عنه في سائر المجالات، لأن لكل مجال منها أساسه الخاص الذي يقيم عليه صدق القول، وإن تكن الأسس الأربعة تعود فتلتقي في كونها جميعا تشير إلى جانبين يتطابقان، مع اختلافهما بعد ذلك في طبيعة الجانبين، وفي طريقة التطابق.

فإذا استعاد القارئ ما قد ذكرناه فيما سبق عن هذا كله، بات يسيرا عليه أن يرى وجه الضرورة التي تقتضي ممن أراد الدقة، أن يمعن النظر فيما يراد لكلمة «معنى» من دلالة، فمتى يكون لكلام المتكلم «معنى» ومتى لا يكون؟ فالجواب هنا يدور مع المجالات المختلفة لضروب القول، كما يدور مع الدلالات المختلفة لصفة «الصدق» في كل مجال على حدة، ففي العلوم الرياضية يغلب أن تجد بين يديك معادلات، أو نتائج معينة استنبطت من مقدمات مسلم بصحتها، وفي هذه الحالات يكون المطلوب ليس هو «المعنى» بل أن يكون هنالك «اتساق» - أي عدم التناقض - بين الأجزاء، فشطر المعادلة يتسق مع شطرها الآخر، والنتيجة المستنبطة تتسق مع مقدماتها التي استنبطت منها، وأما في العلوم الطبيعية، أو ما يدور مدارها، وأعني كل قول أراد صاحبه أن يشير به إلى أي جزء من أجزاء الواقع، «فالمعنى» يستقيم للقول، إذا كان هنالك تطابق تام بين المركب اللفظي من جهة، والمركب الواقعي من جهة أخرى، بمعنى أن كل طرف ورد ذكره في القول يقابل طرفا في الأمر الواقع المشار إليه، وكل «علاقة» تربط الأطراف في القول تقابلها علاقة بين أطراف الواقع، وبهذا تصبح الجملة صادقة المعنى إذا جاءت متماثلة التكوين تماثل إقليم معين وخريطته، أو تماثل شخص معين وصورته، فإذا قلت: في جيب سترتي ثلاثة جنيهات، وجب أن يجيء «معناها» متطابقا من حيث الأطراف وما يربطها من علاقات: فهنالك شخص هو أنا، وسترة، وجيب، وجنيهات، وهنالك علاقة احتواء بين الجيب والجنيهات، وعلاقة شكلية بين الجنيهات والعدد ثلاثة، ولاحظ أن «معنى» الجملة هو هذا الأمر الواقع نفسه، وهكذا يراد ب «المعنى» في كل قول مشير إلى عالم الواقع في أي جزء من أجزائه هو أن نجد لذلك القول واقعا يطابقه، إما على سبيل الحقيقة الفعلية، وإما على سبيل إمكان الحدوث.

وليس بنا حاجة إلى إعادة ما ذكرناه في مواضع سابقة من هذه الأحاديث، عن «معاني الصدق» في كل فرع من فروع الفن والأدب، وما ذكرناه عن صدق الإيمان في مجال العقيدة بصفة عامة، والعقيدة الدينية بصفة خاصة.

فأين هذا كله مما نراه حولنا، حتى ممن كنا نتوقع عندهم مراعاة الدقة العلمية فيما يكتبون ويذيعون، أقول: أين هذا كله مما نراه حولنا من إرسال القول إرسالا مهملا، في غير حيطة ولا تحفظ، استخفافا ب «العقل» وب «العلم» وبأمانة القول ودقته، فما أيسر أن تجد «الدين» قد اختلط ب «العلم»، وأن «النقد الأدبي» قد اختلط ب «الأدب»، وما أهون عند المتكلم فنيا أو الكاتب، حتى في أعلى مستويات القول والكتابة، أن يقذف بكلمات من قبيل «فقر» و«غنى» و«علم» و«جهل» ومئات غيرها وآلاف وكأنها كلمات محددة المعاني، وليست دالة على نسبة تختلف باختلاف الظروف.

وفي سبيل الوضوح الفكري، الذي رآه صاحبنا دائما علامة تشير إلى درجة الارتقاء في مضمار التطور الثقافي والعلمي، اضطر إلى مجادلة المعارضين في حالات كثيرة، كان منها أن أخذ يعرض على القراء مرة بعد مرة، وجوب التفرقة بين «الأدب» من ناحية، و«نقد الأدب» من ناحية أخرى، فالأدب إبداع لا يسأل فيه المبدع عن صدق ما يعرضه على واقع الكون صدقا علميا، وحتى عندما نصف أدبا معينا بأنه واقعي، فلسنا نعني بالواقعية هنا ما نعنيه بها في مطابقة الأقوال العلمية لواقع الطبيعة، وأما «النقد» فعملية «علمية» لما نتوخاه من «تحليل» و«تعليل»، فالناقد «يحلل» الرواية أو قصيدة الشعر إلى عناصرها، مع أن الإبداع الأدبي ذاته بعيد كل البعد عن التحليل؛ لأن «الحياة» نفسها لا تحلل الأشياء بل هي تبدع الكائنات، كل كائن بما يجعله كائنا موحد الأجزاء، والناقد كذلك «يعلل » ارتفاع العمل الفني أو سقوطه، أي إنه يذكر الأسانيد التي يستند إليها في أحكامه، بأن يشير إلى عناصر معينة وردت في جسم العمل الفني المنقود، وعمليتا «التحليل» و«التعليل» كلتاهما، هما من صميم الوظائف العقلية التي يتميز بها رجال العلوم، وليس ثمة فرق كبير بين موقف «عالم الطبيعة» من موضوع بحثه، و«ناقد» الأدب أو الفن في موقفه من موضوع نقده، وكل الفرق هو أن بين يدي عالم الطبيعة «ظاهرة» طبيعية يريد استخلاص قوانينها، وأما الذي بين يدي الناقد في مجالات الأدب والفن، فهو منتج معين أبدعه أديب أو فنان، وحين يصدر الناقد حكمه في نهاية التحليل والتعليل، فإنما يصدره بناء على سند هو أشبه بالقوانين العلمية في تجريده وتعميمه، ثم الوصول إليه فيما قيل، نتيجة لاستعراض ما قد خلده الزمن من آثار الأدب والفن، واستعراضا يؤدي إلى استخراج ما هو مشترك في جميع الأعمال الخالدة.

وإنه لمما يؤدي إلى غموض الرؤية عند «الناقد» الذي يزعم لنفسه أن «النقد» معتمد على «تذوق» الناقد، والتذوق هو أدخل في مجال «الذات» منه في مجال «الموضوع»؛ ولذلك فهو أقرب إلى العملية الإبداعية منه إلى عمليات المشاهدة والتجربة والتحليل في منهج البحث العلمي، والرد على ذلك هو أنه لا حرج على ناقد في أن يعبر عن وقع الأثر الأدبي أو الفني في نفسه، تعبيرا هو بغير شك يندرج تحت مقولة الإبداع، لكن ذلك الناقد قد أخطأ في هذه الحالة حين أطلق على نفسه صفة الناقد، اللهم إلا على سبيل التجوز الذي يبعده عن دقة الوصف، وإلا فما هو الفرق من حيث الجوهر بين مبدع وقف على شاطئ النيل في ظلال مجموعة من النخيل، فأحس النشوة، ثم أجاد التعبير عنها، وبين ناقد وقف أمام ديوان من الشعر، وأحس النشوة لما تلقاه عن قراءته من قصائد ذلك الديوان، ثم جلس ليعبر عن تلك النشوة فأجاد التعبير؟ إنه لا فرق يعتد به بين الحالتين؛ ولذلك فالتعبير عن النشوة هو إبداع أدبي في الحالتين، إذا أجاد الكاتب في وسيلة التعبير.

مجادلات كثيرة شارك بها صاحبنا في مجال النقد الفني والأدبي، سعيا منه إلى توضيح المواقف والمعاني، ومثلها مجادلات شارك بها في مجال التفرقة بين «الدين» من جهة، وغيره من أوجه النشاط الفكري أو الشعوري من جهة أخرى، من ذلك أن وجهت إليه المؤاخذة الساخرة ذات يوم في إحدى الصحف، بأنه لا يدرك، أن «الدين» هو «علم» بكل ضوابط العلم ودقته، ولما كان ذلك الاتهام قد جاء من كاتب له مكانته، فإن صاحبنا لم يجد بدا من أن يعرض على الناس حقيقة القضية، رغبة منه في إزاحة الغموض عن موضوع له أهميته الكبرى في الحياة الثقافية، فالفرق بعيد بين «الدين» في طريقة تقبل المؤمن له، وبين الوقفة العلمية إزاء موضوع يريد العالم أن يقننه، ويمكن توضيح الموقف المثلث الأطراف بمثل قارئ جلس إلى مكتبه، وأضاء المصباح ليقرأ ما أراد قراءته، فها هنا ثلاثة أطراف أساسية؛ أولها: ضوء المصباح الذي يستضيء به القارئ، وثانيها: القارئ المهتدي بالضوء، وثالثها: «علم الضوء» كما ورد في الكتب العلمية التي تفصل القول في بحوث العلماء في هذا الصدد، وما استخرجوه عن الضوء من قوانين علمية تضبط طرائق سيره وانعكاسه وانكساره وسرعته إلخ، مرة أخرى نقول: هنا ضوء، ومستضيء، وعلم أقيم على موضوع الضوء، ولنلحظ هنا أن وجود الضوء يظل وجودا قائما بذاته حتى ولو لم يستضئ أحد وأن وجود الضوء والمستضيء قد يظل وجودا قائما حتى ولو لم يقم العلماء على ظاهرة الضوء ما أقاموه من بحوث انتهت بهم إلى قوانين، وعلى أساس هذه الصورة انتقل إلى «الدين»، تجد الأطراف الثلاثة: فهنالك «دين» وهنالك «متدين» أو متدينون آمنوا بهذا الدين، وهنالك علوم تقام على المضمون الديني، وكما رأينا في مثل الضوء والمستضيء وعلم الضوء، نرى هنا أيضا إمكان أن ينزل «دين» ولا يجد متدينا به، أو باحثا يقيم عليه علما، ثم قد يتدين بذلك الدين متدينون، ومع ذلك فلا تقام عليه علوم، مما يدل دلالة واضحة على استقلالية الدين عن علم الدين، والعكس غير صحيح؛ لأنه إذا وجد ما يسمى بعلم يقام على المضمون الديني، فلا بد أن يكون قد سبقه دين، وليس أقطع دليل على هذه الاستقلالية، وهذا التحديد الذي يبين الفواصل بين الأطراف الثلاثة، من الآيات الكريمة في آخر ما نزل به وحي قرآني، وهي قوله تعالى:

إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا

إلى آخر السورة الكريمة، وواضح من الآيات أن قد نزل «دين»، وأعلن عن اكتماله بقوله تعالى:

اليوم أكملت لكم دينكم ، ثم كان هنالك متدينون بهذا الدين، وهم الذين دخلوا في دين الله أفواجا، ثم انقضت عشرات السنين بعد ذلك، قبل أن تقال كلمة واحدة في علم واحد من علوم الدين التي أخذت بعد أن بدأت، تتوالى ويتوالى فيها الجهد المبذول إلى يومنا هذا، إذن فواضح من ذلك كله أن «الدين» شيء، وأن «المتدينين» بهذا الدين شيء ثان، وأن «علم الدين» شيء ثالث، ولم يقع المهاجم الساخر ذو المكانة في حياتنا فيما وقع فيه من خلط إلا بسبب ما يكتنف حياتنا الفكرية، في عمومها، من ضباب الغموض.

الحق إنه لو كانت جهود صاحبنا المتصلة إبان عقد الخمسينيات بصفة خاصة لتختصر تحت عنوان واحد، لكان ذلك العنوان هو «في سبيل الوضوح» والوضوح المبتغى إنما ينصب أساسا على دائرة «العقل» وما ينضوي تحته من علوم وأفكار تتصل بالعالم الموضوعي على نحو ما تتصل العلوم وفروعها، وأما الدائرة الإدراكية الأخرى في الكيان البشري، وأعني جانب «العاطفة» وما تشتمل عليه من المواقف الإيمانية، والنظرات الفنية، وما دار في هذا الفلك، فهو على عظيم قدره في حياة الإنسان، وهو قدر ربما زاد على قدر التفكير العلمي والموضوعي بكل فروعه، إلا أنه لصلته الوثيقة ب «الذات» ربما استعصى على «الوضوح» المطلوب في الجانب العلمي أو الفكر الموضوعي، الذي يشترط له، فيما يشترط، أن يتخلص من «الذات» في خصوصية نزعاتها وميولها، ولم تكن عناية صاحبنا ببث الإحساس العام بضرورة «الوضوح» الفكري في المسائل العامة، لتمس في كثير أو قليل ذلك الجانب الثاني من الحياة الإنسانية الذي يختص بالذات وخصوصية مشاعرها؛ لأن لهذا الجانب الشعوري ميادينه التي تختلف أبعد اختلاف عن ميدان التفكير العلمي أو ما يدور مداره، اللهم إلا أن يكون ذلك على سبيل المقارنات التي من شأنها أن تزيد الوضوح وضوحا.

ومع هذا الحرص الشديد على التفرقة في عالم الإدراك، بين قسمين أحدهما فقط هو الذي تنصب عليه شروط الوضوح العلمي، فقد تعرض صاحبنا لكثير من النقد الصادر عن حماة الجانب العاطفي من الإنسان، وكان ذلك الجانب العاطفي حكرا احتكرته طائفة من الناس دون طائفة، وكان معظم النقد - إن لم يكن جميعه - ناشئا عن خلط الناقدين بين دائرة التفكير العلمي من جهة، ودائرة التعبير عن حياة الشعور من جهة أخرى، بحيث ظن أولئك الناقدون أن ما أريد تطبيقه على الجانب العلمي وحده من ضوابط وقيود، قد أريد به كذلك أن ينطبق على المعتقد الديني، وعلى الشعر، وعلى الفن، وعلى كل ما تمتلئ به حياة الإنسانية من عاطفة التمست سبلها إلى التعبير بما يتفق مع طبيعتها.

وكان لهذا الخلط الذي حجب الحق عن أبصار الناقدين، موضعان أساسيان تركزت عليهما أسنة الأقلام الجارحة: أولهما، وأقلهما خطرا، هو مجال القول إذا وردت في القول المعين كلمة أو كلمات دالة على قيمة من القيم الأخلاقية بصفة خاصة، كالحب والوفاء والكرم إلخ، فمن ناحية الوضوح العلمي، لا يجوز أن تدرج أمثال هذه الأقوال في دائرة العلوم وما تخضع له من شروط وضوابط؛ لأن جملة تقول - مثلا - إن قيسا أحب ليلى، لا برهان عليها إلا ما قاله قيس عن ذلك الحب، وهو قول إذا تعرض لشك مرتاب، لم يكن في حدود الممكن أن نجد ما يزيل ذلك الشك وصولا إلى يقين؛ وذلك كله بسبب أن حالة «الحب» حالة باطنية خاصة، لا يعرفها على سبيل اليقين إلا صاحبها، وصدق الشاعر القديم الذي قال:

لا يعرف الشوق إلا من يكابده

ولا الصبابة إلا من يعانيها

وهكذا قل في كل عبارة يقولها قائل زاعما بها قيام حقيقة باطنية شعورية عنده، وبناء على ذلك فلا مفر من إخراج ذلك النوع من أقوال الناس، من مجال الفكر الموضوعي الذي هو ما أريد له أن يخضع لشروط الوضوح العلمي، فما هو إلا أن نهض نفر ممن يغارون على الجانب الشعوري من الإنسان - وهو يتضمن المعاني القيمية كلها - ليوجه إلى صاحبنا تهمة التنكر «للأخلاق» والدعوة إلى هدمها.

لكن مثل هذا الاتهام لم يكن عند صاحبنا بذي خطر، ومع ذلك لم يفتر عن البيان والشرح ليزيل غمامة الغموض، لعل الغشاوة تزول عن الأبصار، وأما الجانب الذي كان له في نفسه أثر عميق وحزين، فهو الاتهام الثاني الذي زعم به أصحابه أن كل ما نشره عما رآه ضوابط للفكر الواضح هو في الحقيقة موجه نحو «الدين» كما هو متمثل في نصوصه؛ لأن تلك النصوص قلما تجيء على نحو ما تجيء القوانين العلمية، إذ أقل ما يقال فيها هو أنها تخاطب في الإنسان قلبه وشعوره، جنبا إلى جنب مع مخاطبتها لعقله العلمي، واستشهد أصحاب هذا الاتهام بكتاب أصدره صاحبنا سنة 1953م وعنوانه «خرافة الميتافيزيقا».

وقد عدل العنوان في الطبعات التالية ليصبح «الموقف من الميتافيزيقا»، وكانت خلاصة الاتهام الموجه، هي أن مؤلف ذلك الكتاب إنما أراد أن يقول إن الدين وما يدعو إليه من إيمان بالله إنما هو خرافة، نعم لقد اجترأ ناقد أن يوجه إلى صدر صاحبنا ذلك السهم المسموم لعله يصيبه في مقتل فيستريح الناقد ومن يشبهونه، وسرى هذا الظن الآثم الظالم من زيد إلى عمرو إلى خالد، دون أن يقرأ أحد منهم حرفا من ذلك الكتاب ليرى إن كان قد عدل في ظنه أو ظلم، ولا يتسع المقام هنا إلا لشرح موجز شديد الإيجاز لقارئ اليوم الذي جاء بعد صدور الكتاب بنحو أربعين عاما، والخلاصة هي أولا: أن الكتاب مؤلف في موضوع فلسفي صرف، وليس الدين فلسفة ولا الفلسفة دينا، وثانيا: البحث الذي يسمى في مجال الدراسة الفلسفية «ميتافيزيقا » هو بحث فيما يجاوز علوم الطبيعة من فروض، وذلك لأن ما يقال عن «الطبيعة» المرئية الملموسة ، إنما يقال عن «ظواهرها»، وأما إذا جاوزنا بالبحث تلك الظواهر إلى «ما وراءها» فإن البحث عندئذ يكون خاصا ب «ما وراء الطبيعة»، وثالثا: كان الرأي الذي عرضه صاحبنا في كتابه ذاك، هو أن فيلسوف الميتافيزيقا، الذي يبدأ تفكيره من «مبدأ» يضعه هو لنفسه، ثم يستدل منه النتائج التي تتولد عنه، لا حق له في أن يزعم بأن نتائجه تلك هي التي تصور حقيقة الكون كما هي قائمة، ورابعا: قدم صاحبنا رأيه في أن الميتافيزيقا المشروعة حقا والمفيدة حقا يجب أن تنصب على أقوال العلوم في العصر المعين الذي يكتب عنه الفيلسوف، ليستخرج من مجموعة تلك الأقوال العلمية ما قد أضمرته من فروض، حتى يصل به التحليل إلى آخر مداه، بأن يصل إلى أعمق قاع تؤسس عليه العلوم ما تقيمه من قوانين علمية، وعندئذ يكون ذلك القاع الخفي عن الأبصار، هو ما يمثل المحور الأساسي الذي تدور حوله مناشط العصر ووجهة نظره، وهو - بالتالي - الذي يصبغ العصر المعين كله بالطابع الذي يميزه من سائر العصور، وبمثل هذا التحديد لمجال البحث في ما هو «وراء» بأن يجعله «ما وراء البناء العلمي» في العصر المعين الذي يهمنا الإلمام بحقيقته وحقيقة ما يرمي إليه، نكون قد بذلنا الجهد فيما هو ممكن أولا، وفيما هو نافع ثانيا.

وسواء أكان هذا الرأي سديدا أم لم يكن، فهو على أي الحالتين لا يتصل بمجال الدين من قريب أو من بعيد، لكن هكذا ضل من ضل من الناقدين، فأضلوا من أضلوهم ممن يهاجمون بغير سلاح إلا سلاح الخلط والتخليط، والتخبط في غياهب أوهام لا يتسلل إليها شعاع من نور، وأعني نور الفكر الواضح.

في سبيل الوضوح «2»

لم يكن من شقشقة اللسان، ولا كان من سفسطة الكلام، أن أصر صاحبنا وهو يهم بالتحدث إلينا عن «الوضوح» على وجوب البدء بإلقاء الضوء بادئ ذي بدء، على معنى «الوضوح»، قبل أن نتخذ من هذه الكلمة ميزانا نزن به الحياة الثقافية كما رآها، وأحسها، وعاشها مع روادها في ذلك العقد من خمسينيات هذا القرن، فلقد روينا عنه في حديثنا السابق، اتهامه لتلك الفترة من الزمن، باللامبالاة حيال المعاني الكبرى التي أخذت الأفواه تقذف بها مع أمواج الصوت، فأخذت أقلام كثيرة تجري على الورق بأصداء ما سمعته الآذان، أما أن يسأل المتكلم نفسه: ما حدود هذا المعنى أو ذاك قبل أن يبشر به، وأما أن يلجم الكاتب قلمه حتى لا يكتب للناس شيئا إلا وهو محدد مفهوم ما وسعه الفهم والتحديد، فذلك ما لم تكن عجلة الزمن في دورانها السريع تسمح به، وربما لم يكن صاحبنا وهو يوجه اتهامه هذا إلى تلك الفترة الزمنية المعنية، قد أراد أن يقصر الاتهام عليها، دون سابقتها ولاحقتها، لولا أنها هي الفترة التي يخصها الآن بالحديث، في سياق استعادته لأحداث السنين وما خلفته له من حصاد، بما احتوى عليه ذلك الحصاد من حلو ومن مر على حد سواء.

وأيا ما كان الأمر في هذا، فقد أصر صاحبنا هذه المرة أن يجعل صفة «الوضوح» ذاتها واضحة، ما دام قد جعلها أساسا للحكم على منتجات الحياة الثقافية «إبان» تلك الفترة، وكانت خطوته الأولى في توضيح «الوضوح» هي أن يقصر هذه الصفة على دنيا «الأفكار» العامة وحدها، دون سائر الأقسام التي فصلناها في أحاديثنا عما أسميناه «المطبوعة الزرقاء»، وتلك الأفكار العامة هي التي يغلب على كثير جدا منها أن تحمل في مضموناتها ما اصطلح العرف الثقافي على تسميته ب «القيم»، وأما «العلوم» و«الفنون» و«فروع الأدب»، فليس من المألوف، ولا هو من المقبول أن توصف بالوضوح أو الغموض؛ لأن كلتا الصفتين لا تلائم طبيعة المادة الموصوفة، فليس من المألوف ولا هو من المقبول أن تصف قانونا علميا كقانون الجاذبية - مثلا - أو قانون انعكاس الضوء، بأنه «واضح» أو بأنه «غامض»؛ لأن المطلوب للقانون العلمي أن يكون «صحيحا» سواء أجاء واضحا سهل المأخذ أم تعذر على أفهام غير المختصين واستعصى، وكذلك ليس مألوفا ولا هو مقبول أن توصف لوحة أو تمثال أو معزوفة بأنها «واضحة»؛ لأن مبدع الفن إنما ينتج كيانا موحدا، كثرت عناصره أو قلت، فإذا تعذر تحليلها إلى عناصرها على متلق من عابري السبيل، فلا ضير في ذلك على الفنان، ومهمة ناقد الفن أن يقوم بمثل هذا التحليل ليفهم جمهور الناس وليتذوقوا ما فهموه، أو - على الأصح - ليفهموا ما كانوا تذوقوه بالنظرة المباشرة، وكذلك الحال في الأدب بشتى فروعه: شعرا، ورواية، ومسرحية، وما شئت، فليس لقول القائل معنى إذا قال عن قصيدة إنها غير واضحة، أو إذا قال ذلك عن رواية أو مسرحية؛ لأن مناط الحكم على مبدعات الأدب ليس وضوحها، بل هو على طرائق تركيبها أولا، ثم على عمق دلالاتها ثانيا، مما يسمح للناقد الأدبي أن يغوص بتحليلاته إلى الأغوار فيعود بلآلئ الخبرة والنفاذ إلى طبائع الناس، ولا كذلك الحال بالنسبة إلى ما أطلقنا عليه اسم «الفكرة» أو «الأفكار» كالحرية، والمساواة، والانتماء، والديمقراطية، والطبقية، والتضحية، والحق، والخير، والجمال، والتعاون إلخ إلخ، فنحن هنا أمام كائنات فريدة وعجيبة، لا هي من قوانين العلوم التي يستخلصها العلماء في معاملهم أو تجاربهم البحثية، ولا هي موسيقى تعزف على قيثارة أو في مزمار، ولا هي شعر، أو مسرحية ورواية، بل هي كما أسميناها «أفكار»، وموضع العجب فيها أنها وإن لم تكن علما ولا فنا ولا أدبا، فلا بد منها لتسري برحيقها في شرايين العلم والفن والأدب جميعا؛ لأنها - في أغلبها - أسماء تشير إلى «الحالات» يتلبسها أو لا يتلبسها الإنسان في حياته، فتنعكس - هي أو نقائضها - فيما يسلكه أو يقوله أو يتفاعل به مع الناس والأشياء، فللمؤمن بالحرية سلوك وأهداف غير سلوك غير المؤمن بها وأهدافه، وهكذا قل في أسرة الأفكار جميعا.

ومن لوازم الفكرة من هذه الأفكار، أنها كالبحر الذي لا تحده شواطئ - إذا أمكن تصور بحر بلا شواطئ - فليس للفكرة من تلك المجموعة «تعريف» جامع مانع (كما يقولون في علم المنطق) بل لكل إنسان أن ينهل منها بمقدار ما يستطيع أن ينهل، وإنه لمن الأخطاء التي نتعرض للوقوع فيها، أن نتصور للحرية - مثلا - أو للوطنية، حدودا قاطعة «حاسمة» كما هي الحال مثلا في تعريفنا للمثلث، أو عنصر الكربون أو مكونات الماء، إذ تتميز «الفكرة» من تلك المجموعة، بمرونة مطلقة لا تقيدها قيود، ولكل إنسان أن يأخذ منها ما أسعفته طاقته الحضارية والثقافية أن يأخذ، فهنالك من الشعوب من تتسع شهيته للحرية الواسعة، كما أن هنالك من الشعوب من تحكم عليه ثقافته وتقاليده أن يقنع من الحرية بالقليل، ومن هنا أمكن للناس جميعا أن ينفقوا على حقائق العلم، وأن ينفقوا كذلك إلى حد بعيد على آيات الفن والأدب برغم اختلاف مصادرها زمانا ومكانا، لكنهم لم يستطيعوا قط أن يجمعوا الرأي المحدد الحاسم عن الحرية - مثلا - متى تجوز وإلى أي حد تجوز؟ ولا عجب إذا رأينا تاريخ البشر يخلو من حرب اشتعلت بين بلدين لاختلافهما حول حقيقة المثلث، أو عناصر الماء ما هي، لكننا رأينا ذلك التاريخ متخما بحروب أثارتها اختلافات في تصور الناس لفكرة من تلك الأفكار، فالأمور «الواضحة» لا خلاف عليها، وإنما يقع الخلاف حول أفكار، يعوزها الوضوح بحكم طبيعتها.

لكن امتناع الوضوح الكامل، لا يمنع وجوب قدر من التحديد يتيح لحامل الفكرة أن يسلك بمقتضاها، وها هنا تأتي الخطوة الثانية فيما عرضه صاحبنا على رفاقه في حديثه معهم عن وضوح الفكر وغموضه، بعد أن بين أن صفة الوضوح لا يوصف بها «علم» ولا «فن» ولا «أدب»؛ فقد بين لنا كيف أن الدرجة التي تبلغها فكرة ما، عند شخص معين، أو بين أفراد شعب معين، هي نفسها الدرجة التي تبلغها تلك الفكرة من دقة التفصيلات التي تعين حاملها على السير بهداها في مسالك حياته العملية، فالفكرة - أيا كانت - هي خريطة يهتدي بها السائر، ثم تتفاوت الخرائط دقة وإيهاما.

وعلى هذا الأساس أقام صاحبنا حكمه على فترة الخمسينيات بأن كثرت فيها الأفكار، لكنها كانت أفكارا على درجة خطيرة من الغموض، وهو غموض يرجع معظمه إلى حقيقة كونها قرأها متعجلون في كتب ذاع صيتها في الغرب قبل الخمسينيات وإبانها، وخرجوا من تلك القراءة المتعجلة بخلاصات مؤخرة جاءت - كأية خلاصة يستخرجها طالب علم متوسط القدرات - أسطحا بغير أعماق، أو نتائج بغير مقدمات، فانقسمت حياتنا الفكرية يومئذ قسمين؛ أحدهما: خافت الصوت لأنه من رواسب الجيل الأسبق، وثانيهما: مرتفع الصوت لأنه مستند إلى قوة السلطان، وأما رجال القسم الأول فقد كانت بضاعتهم كشأنها حتى في عزها أيام العشرينات، لا تكاد تضيف شيئا جديدا إلى قراءات طالعوا بعضها عند السلف فأجادوا المطالعة وأحسنوا العرض، وطالعوا بعضها الآخر عند أصحابها في الغرب، ثم عرضوا خلاصات لما قرءوا، فأتيح لشباب ذلك الجيل من خلال روادهم، أن يكونوا على علم بالمصدرين: مصدر السلف ومصدر الغرب، ثم صادف هذا الاقتران بين الثقافتين جماعة من أصحاب المواهب في الأدب والفن، فأبدعوا أدبا وأبدعوا فنا، لكنهم لم يتعرضوا للأصول «الفكرية» التي تكمن وراء الثقافة الجديدة إلا بقدر ضئيل، لا فرق في ذلك بين رواد وأتباع.

وأما شباب الخمسينيات، وهم الجيل الجديد عندئذ، فقد تلقفوا مجموعة كبيرة من الأفكار التي أخذت تشيع في أرجاء العالم بعد الحرب العالمية الثانية، وفي أقطار العالم الثالث بصفة خاصة، وهي أقطار نالت استقلالها السياسي بعد الحرب، وأمسك بمقاليد الحكم فيها نفر من أبنائها المجاهدين، الذين يمكن أن يقال عنهم بصفة عامة - تقبل الاستثناء - أنهم أشد طموحا من قدراتهم، ففي ذلك العقد من السنين وما تلاه شاعت لغة «اليسار الاشتراكي» شيوعا لم تصحبه دراسات كافية، ولم يكن وليد تربة محلية وقرائح قومية، ومن ثم كثرت التجربة والخطأ، وظهرت مواهب الشباب التي تتوق إلى «إبداع»، فجاء إبداع كثير منهم وقد استقى من عيون ماؤها ضحل، ونتج عن ذلك كله غموض في الفكر، وتعثر في التطبيق، وضعف شديد في القدرة الناقدة.

هكذا كانت الرؤية عند صاحبنا لما يجري حوله في الحياة الثقافية، وحتى لو كان قد أخطأ الرؤية للأصول التي نتج عنها ذلك الضعف، فلم يكن يساوره أدنى ريبة في صدق النتيجة التي أخذ بها، وهي أن «الفكر» قد غاب، وأن قابلية وجود «نقد للفكر » قد انحدرت إلى حضيض المحاق، فالأفكار اليسارية التي ملأت الجو جاءتنا منقولة مشتولة، ونقد الفكر لم يعرف قط طريقه إلى حياتنا الثقافية، حتى ليتعذر علينا أن ندرك المراد بنقد الفكر، لنميزه من نقد الأدب؛ وذلك لأننا أبدعنا أدبا مهما قيل في قوته أو ضعفه، فهو ذو وجود، فقام على ذلك نقد ونقاد، فعرفت حياتنا الثقافية شيئا اسمه نقد الأدب، ارتفع مع الشوامخ، وتوسط مع الأواسط، ونزل على السفح مع صغار المجتهدين، فازدادت معرفتنا بمعنى النقد الأدبي معرفة شملتنا جميعا على تفاوت أقدارنا، وأما «نقد الفكر» فشيء ندر أن رأيناه؛ ولذلك ندر أن عرفناه.

هكذا ضاعت عنا أصالة الفكر دون أن نشعر بضياعها، وشاع فينا فكر نقلناه على أيدي من لم يحسن الدراسة والفهم والنقل، فأصبحت كجماعات من بغاث الطير تتكاثر دون أن توجد منها نسور وعقبان، مما يجيز لنا أن نقول: إن الثورة وفقت في تحديد الغاية التي كانت أملا مبهما حبيسا في الصدور، إلا أن الغلاف الثقافي الذي أحاط بتلك الغاية المرجوة، والتي هي تحقيق العدالة الاجتماعية، كان غلافا لا يشف عن حقائق ما اضطربت به الصدور، ففقدنا الصدق والشفافية والإخلاص، ولنا أن نراجع نماذج مما شغل أقلام الفئة الكاتبة عندئذ، لنجد كم أسرفت في النقل عن كتب الآخرين، أكثر جدا مما أصغت إلى أحلام الشعب الحقيقية، ففكرة «اليمين واليسار» كانت مسيطرة على أقلام الكاتبين، إذ جاءت بديلا لما كان شائعا في الجيل الأسبق، حين جعلوا قسمة الناس قسمة بين جديد وقديم، لكن هذا البديل الجديد لم يكن لغوا بغير معنى، بل أريد به أن يشير إلى سمة من سمات الموجة الاشتراكية الجديدة، فاليسار هو المذهب الاشتراكي، واليمين هو ذو عناصر كثيرة كلها مذمومة عند أنصار اليسار، ومن تلك العناصر الإسراف في النزعة الدينية، وفي العودة إلى التراث ليكون أساسا في ثقافة المثقف، والأخذ برأسمالية الاقتصاد، ومن الأفكار المحورية كذلك، التي شاعت فملأت الصحف والكتب، فكرة «الصراع الطبقي» باعتباره عاملا جوهريا في حركة التاريخ، وأنه ليحسن بنا في هذا السياق من الحديث، أن نلفت الأنظار إلى ترجمة تلك الأفكار المنقولة، كيف حرفت المعاني - عن غير قصد - تحريفا أملاه التصور الاجتماعي عند المترجم المجهول، فعبارة «صراع طبقي» - مثلا - قد جاءت ترجمة عربية لما هو في أصوله الغربية «صراع فئوي»، والفرق الاجتماعي بين الصورتين كبير؛ لأن الصراع حين يكون بين فئة من الناس تملك المال، وفئة أخرى من الناس تعمل بالسواعد، فإنه لا يشير إلا ما هو «أعلى» وما هو «أدنى» بين الفئتين، إذ موضع الاختلاف بينهما هو فيما تستطيع كل من الفئتين تقديمه في عملية الإنتاج، وأما الترجمة العربية التي شاعت بيننا، فقد جعلت الصراع بين «طبقة» وطبقة أخرى، مما يركز الانتباه على أن فئة تسود، وفئة أخرى تتبع، وكانت النتيجة المؤكدة لهذا التحريف، هي أنه إذا كان التقابل في الحياة الاقتصادية هو بين فئة وفئة، فإن ذلك في ذاته يشير إلى أن طريق الإصلاح هو في إعادة التوزيع لما يساعد على عدالة من جهة، وزيادة في الإنتاج من جهة أخرى، وأما إذا جعلنا التقابل هو بين سيد رفيع المقام، ومسود خفيض المقام، فإن ذلك يوحي بأن يكون طريق الإصلاح لا بد أن يتضمن نوعا من الانتقام للكرامة الجريحة فيمن انخفضت مكانته، وذلك بدوره يشجع على أن يؤخذ من الأعلى ليهبط، ويعطي للأدنى ليعلو، بغض النظر عن موقع ذلك التعبير على الإنتاج زيادة ونقصانا، وإنك لتجد تحريفا آخر في ترجمة المصطلح الذي أشارت به اللغات الغربية إلى ما أسميناه نحن في الترجمة العربية «الاشتراكية» في حين أن ترجمته الصحيحة هي «المذهب الاجتماعي» أو ربما كانت كلمة «المجتمعي» أكثر صوابا، وها هنا أيضا تجد الفرق واضحا بين الحالتين في القوة الإيحائية، فبينما كلمة «اجتماعي» أو «مجتمعي» توجه النظر إلى أن تكون أولوية الإصلاح للمجتمع من حيث هو كيان موحد، قبل أن يتضخم أفراد بثرائهم وقوتهم داخل ذلك الكيان فيفسدوه، نرى الترجمة العربية، «اشتراكي» قد جعلت بؤرة النظر «مشاركة»، وهي كلمة تتضمن أن يشارك الفقراء فيما يملكه الأغنياء، فإذا سألنا: من الذي يشارك من؟ لم نجد جوابا يتمشى مع اللفظ العربي، سوى أن «أفرادا» من «الطبقة» الأقل ثراء ، تأخذ مما يملكه «أفراد» من «الطبقة» الأكثر ثراء، وإن ذلك المنحى ليفوح بالرغبة في «الانتقام» أكثر مما يبرز الرغبة في «عدالة اجتماعية» ووفرة في الإنتاج.

ونضيف إلى هاتين الفكرتين فكرة «الصراع الطبقي» وفكرة «الاشتراكية» فكرة ثالثة ثم نكتفي، وهي فكرة «الجمهور» أو «الجماهير»، فهي الأخرى قد شاعت إبان الخمسينيات - وما بعدها - شيوعا جعلها محورا لكل تفكير يراد به الإصلاح على نحو يحقق أمل «العدالة الاجتماعية»، وفكرة «الجمهور» أو «الجماهير» هي الأخرى أحيطت بغموض شديد، جعلت لا تثبت أمام أشعة الضوء لمن أراد الوضوح، فمن هم الذين يراد تنحيتهم جانبا خارج كتلة الجمهور؟ دقق النظر ما شئت تجد «الصفوة» التي ظن بها الطغيان على حق الجماهير، ومن ثم وجب تجميدها، إن لم يكن حرمانها من بعض ما هي فيه، ليخلو الطريق أمام العناية بالجماهير، أقول: دقق النظر في تلك الصفوة تجدها هي هي نفسها تلك الجماهير، بعد أن ظفرت بحظ من التعليم، اللهم إلا استثناءات ليست مصرية الجذور، ونود هنا ألا يغيب عن القارئ أن صاحبنا الذي نروي عنه، إذا تحدث فحديثه عن «الثقافة»، وإذا فكر ففكره حول الثقافة، وإذا كتب فهدفه هو الثقافة، فالكلام هنا منصب كله على الحياة الثقافية، وإشارتنا السابقة إلى «جمهور» و«صفوة» إنما تشير في واقع الأمر إلى كثرة من الشعب لم تتعلم، وقلة تعلمت حتى بلغ بعضها من سلم التعليم درجاته العليا، فبأي معنى يا ترى يراد أن تتجه العناية نحو الجماهير، وأن ينظر إلى أبناء تلك الجماهير، ممن نالوا حظا من التعليم ميزهم، وكأنها أقلية اجتماعية أجحفت القسط مع عامة الشعب؟ ومما يزيد الغموض غموضا، هو أن تلك الصفوة نفسها هي التي سوف يناط بها تثقيف الجماهير، إما بطريق مباشر، وإما بتثقيف مجموعة وسطى تجيء وسطا بين الطرفين، على أن ما هو أدعى إلى التساؤل - رغبة في توضيح الغامض - هو أن نسأل: هل يمكن حقا تبسيط الأصول الثقافية الرفيعة، لنقدم المبسطات إلى الجماهير؟ كيف يكون - يا ترى - تبسيط الموسيقى والتصوير والشعر والرواية والمسرح؟ قد يكون التبسيط ممكنا فيما هو «فكر» بأن تقص أطراف الفكرة، ويكتفى منها بجانب دون سائر الجوانب، لكن ذلك ليس هو «الثقافة» كل الثقافة، ولن نجد بديلا لتثقيف الجماهير يقوم مقام «الأصول» كما أبدعها مبدعوها، وكل ما نستطيعه إزاء تلك الأصول، هو أن يقوم مختصون في المراكز الثقافية بإرشاد الجمهور إلى ما قد جعل روائع الإبداع ذوات صلة وثيقة بحياة الجماهير، التي هي مصدر الإلهام الثقافي في جميع الحالات، على أن تلك الأمثلة التي عرضناها لنبين بها طرفا من الغموض الفكري الذي زعمناه، مما كان ينبغي لنقاد الفكر عندئذ أن يوضحوا ما قد غمض، وذلك إذا كانت حياتنا قد عرفت شيئا عن نقد الفكر ونقاده، أقول إن تلك الأمثلة وما يجري مجراها مما قد شاع في الفترة التي هي موضوع الحديث، لم تتناول من الحياة الفكرية التي تتطلب النقد الجاد لعلها تستقيم إلا جوانب مما يطفو على سطح الماء فتراه الأبصار، لكن تحت السطح أعماق تريد الناقد الغواص، وفي تلك الأعماق تقع المحركات المستترة لعجلات الحياة الثقافية التي تحيط بالناس فينهلون منها ما ينهلون، ويستحيل على تلك الحياة أن تصح من مواطن صنعها، لمجرد أن يوضح النقاد للناس ما يطفو على سطح حياتهم من مفهومات يتبادلونها ويتعاملون بها، وإلا لكنا كمن يعالج الطفح الذي يظهر على وجه المريض، فيعود الطفح كما كان؛ لأن مصدره الخبيء كامن في الداخل.

قال ذلك صاحبنا لأصحابه ذات يوم، فقالوا له: اضرب لنا مثلا بنقد فكري كانت تتطلبه حياة الثقافة على أرضنا، ولم يجد ناقدا غواصا، فأجابهم قائلا: سأكتفي من هذا بمثل واحد، تضرب فيه العلة حتى تبلغ النخاع، وهي علة تشيع فينا شيوعا لا يفلت منه جانب من جوانب الفكر التي نحياها، وهو أننا نغترف من الأفكار المنقولة عن آخرين أفكارا، فنجعلها قواعد نستند إليها في إصدار أحكامنا على ما قد يصادفنا في حياتنا العملية من مواقف، ولو كانت تلك الأسس الفكرية المنقولة، عند أصحابها قد استخلصت من حقائق الدنيا ووقائعها، لما ضرنا استعارتها وتطبيقها ، ولكنها كانت في حالات كثيرة، لا تزيد عن كونها «تعريفا» قدمه صاحبه ليحدد به معنى معينا من وجهة نظره، وما دام أمره كذلك فهو لا يلزم أحدا غير صاحبه، ولكل ذي قدرة حق التعريف من وجهات نظر أخرى، افرض - مثلا - أننا نريد أن نقيم خطتنا في تطوير التعليم على بث روح «الطموح» في أبنائنا وبناتنا - مع مبادئ أخرى نجعلها قوائم ترتكز عليها العملية التعليمية - فماذا نختار ليكون هدفا لذلك الطموح؟ أنجعل الهدف نبوغا في العلم؟ أم جمعا للثروة؟ أم سعيا للحكم؟ أم تضحية في خدمة الناس؟ أم استغراقا في العبادة؟ أم انتماء إلى القوة العسكرية؟ تلك أمثلة يمكن أن تضيف إليها ما تضيفه، لتحدد به صورة الإنسان الذي تراه جديرا بأن يطمح الشباب إلى أن يتمثلوه في أشخاصهم الأرجح في إطارنا الفكري الذي نعيش في حدوده، إننا إذا ما فكرنا أن نبث في أبنائنا روح الطموح، فلا يطرأ لنا ببال أن معنى «الطموح» لا يكتمل إلا بالهدف الذي يتضايف معه فكما أنه لا والد بغير ولد، ولا حب بغير حبيب، فكذلك لا طموح بغير هدف يسعى الطامح إلى بلوغه وهذه واحدة، والثانية هي أننا، حتى لو تنبهنا إلى حاجة الطموح إلى تحديد الهدف ليكتمل معناه، فطريقتنا في التفكير هي أن نستمد الهدف من نماذج البطولات التي نستمدها من السلف، وهذا هو الأغلب، أو من بطولات الإنسان أينما ظهرت في شعوب الأرض بغير تمييز، وإنه لاحتمال بعيد التحقق أن يطلب الرؤساء المسئولون عن التربية والتعليم عندنا، أن يطلبوا من الباحثين المتخصصين أن يقوموا ببحث علمي، يحللون به حياتنا وما هي في حاجة إليه ليكون هو الصفة التي نبثها في شبابنا ليطمحوا إليها، فنحن أميل جدا نحو الأخذ عن آخرين، ولا فرق في ذلك أن يكون هؤلاء الآخرون أسلافا لنا، أو أن يكونوا من شعوب أخرى، ففي كلتا الحالتين نحن لا نستمد الغاية من حياتنا كما نحياها، أو كما نتمنى لها أن تكون، ولو فعلنا لصدرت أحكامنا عن «واقع» يبقى أو يتغير ، ويندر جدا أن نجعل «الواقع» سيدنا في عملياتنا الفكرية، وفيما يتعلق بالمثل الذي ضربناه، وهو: ماذا نصع لو أردنا بث روح الطموح في شبابنا، نود أن نشير إلى حقيقة اختلاف العصور، واختلاف الشعوب، في الصفة التي تسبق سواها في تربية النشء تربية تساعدهم على تحقيقها، وها نحن أولاء ننظر إلى عصرنا فنجد أقوى وأغنى دولة فيه، وهي الولايات المتحدة الأمريكية، قد جعلت جمع الثروة ملايين وبلايين الدولارات هو مقياس «النجاح» في الحياة، وبما أن من لوازم التاريخ الحضاري، كما ذكر ابن خلدون في هذا الصدد، أن تنحدر الإيحاءات من ذروة الجبل إلى سفوحه، أي أن يضرب من هو أقوى مثلا يحتذيه من هو أضعف، فقد شاع هذا المقياس «للنجاح» في شعوب العصر جميعا، ولكننا كنا نتمنى لأنفسنا شيئا من التدبر، لنختار غاية حياتنا الجديدة من ضرورات الواقع الحي الذي نكابده ونعانيه.

ولقد كنا بصدد الحديث عن نقد الفكر، وهو النقد الغائب عن حياتنا الثقافية بصفة عامة، فلعل صاحبنا فيما أجاب به عن سؤال أصحابه الخاص بنقد الفكر ما معناه؟ قد بين لنا مصدر الحرارة المشتعلة التي حفزت صاحبنا على أن يكتب ثم يكتب، ويحاضر ثم يحاضر في وجوب النقد ووسائله؛ كيلا يطول بحياتنا الفكرية ركودها، والنقد بهذا المعنى، الذي هو تحليل الفكر السائد تحليلا يظهر للناس خفاياه، يكاد يكون مرادفا لعملية «التنوير»، فخروج الشعب في حياته الفكرية من الظلمات إلى النور، لا يقتصر على زيادة «المعلومات» التي تساق إلى أفراد الشعب، وهي عملية ضرورية في حد ذاتها، وهي التي حدت برواد التنوير في فرنسا إبان القرن الثامن عشر، أن ينشروا «الموسوعات» ليضعوا «المعلومات» بين يدي الشعب، بل لا بد لحركة التنوير فوق هذا المستوى الشعبي العام، من تحليلات نقدية تقدم إلى «الصفوة» لعلهم يبينون حقيقة ما يديرونه بينهم من أفكار، فإذا لمسوا فيها أوجها للقصور عالجوها بما يقومها، وكان ذلك الجانب النقدي أهم ما افتقرت إليه حياتنا ولم تجده.

خيوط تلاقت «1»

عندما أخذت خطوات الزمن تنقله من خمسينيات القرن إلى ستينياته، كان صاحبنا قد تجمعت له خيوط كثيرة، ربما ظنها الرائي متفرقة متجزئة لا شأن لخيط منها بخيط آخر، مما يجعل حاملها أقرب شبها بمكتبة المنوعات، منه بشخصية متكاملة التكوين في العلم والثقافة، لكن تلك الخيوط الكثيرة التي تلاقت في شخصه عندئذ سرعان ما تبددت على حقيقتها، بأن نسجت في ديباجة واحدة، تألفت خيوطها فلا تنافر بينها ولا تناقض، وتعاونت الأجزاء على توحيد النظرة والمتجه، وأعانت على جلاء الرؤية ووضوح الغاية واقتراح الوسائل.

وكان أبرز تلك الخيوط ظهورا للناس، وأشدها لفتا للنظر، وأكثرها إثارة لغيظ المغتاظ وكيد الكائد وسخط الساخط، هو نفسه الخيط الذي كان ينبغي أن يكون أقل الخيوط مساسا بجمهور المثقفين، الذين لا تربطهم بالفكر الفلسفي صلة، اللهم إلا أن يكون جهل الجاهل بحقيقة ذلك الفكر وطبيعته، مما يمكن أن يعد ضربا من ضروب الصلات التي تربط الإنسان بالأشياء، وذلك أن الخيط الذي نعنيه، هو تلك الدعوة التي طفق صاحبنا يدعو إليها في مجال تخصصه الأكاديمي - وهو مجال الدراسة الفلسفية - وهي دعوة مؤداها أن ينتقل محور الاهتمام من تحديد «موضوعات» معينة تقليدية، لتكون هي مناط البحث والنظر، إلى «المنهج» الذي يتميز به الفكر الفلسفي، وذلك لسببين؛ أولهما: هو أنه حتى لو بقيت للفلسفة موضوعات خاصة بها، بعد أن زحفت «العلوم» زحفها المتسارع مع الأيام لتتناول هي، بمناهجها الخاصة، تلك الموضوعات التي تركت خلال العصور لقرائح الفلاسفة، ترى في شأنها ما تراه بقوة البصيرة ودقة الاستدلالات النظرية، أقول إنه حتى لو بقيت للفلسفة «موضوعات خاصة بها» ولا تطمع «العلوم» في تحويلها إليها، ولقد بقيت للفلسفة موضوعات معينة خاصة بها، فقد أعفيت من موضوعات كثيرة جدا كانت تدخل في مجالها ولم تعد كذلك، وإلا فمن ذا الذي يركن اليوم إلى مؤلفات الفلاسفة إذا أراد أن يعلم شيئا عن الطبيعة وظواهرها، بعد أن أصبحت الكلمة فيها لعلماء العلوم الطبيعية بأجهزتهم ومعاملهم، ومن ذا الذي يلجأ اليوم إلى مؤلفات الفلاسفة ليقرأ عن الفلك - أو الطب - أو عن «النفس» و«المجتمع»؟

وأما السبب الثاني الذي يدعونا إلى نقل محور الاهتمام - في مجال الفلسفة اليوم - من موضوعات بذاتها إلى المنهج الخاص الذي يتميز به الفكر الفلسفي: فهو أن مثل هذه النقلة تشبه الفرق بين أن تكسب قطعة معينة من الذهب، وبين أن تقع على مفتاح يفتح لك منجما كاملا للذهب، تأخذ منه ما أردت وفي أي وقت تشاء، والحق أننا قد غفلنا عن هذا الفرق الجوهري البعيد، بين أن تنحصر دراسة الدارسين - أيا كان مجال الدراسة - في مقرر علمي محدود بحدوده، يبدأ من هنا وينتهي هنا، دون أن يتمرس هؤلاء الدارسون ب «منهج البحث العلمي» الذي كان وسيلة العلماء إلى الوصول إلى مادة ذلك المقرر المدروس وغيره من المقررات، وبذلك يتخرج الدارسون من معاهدنا وجامعاتنا، وفي رءوسهم مقررات محفوظة، بل ربما تخرجوا ولديهم التدريب العملي على تطبيق تلك المقررات العملية في ميادينها، ولكنهم خارج تلك الحدود قلما يستطيعون شيئا، ولو أنهم تخرجوا مزودين إلى جانب قطعة الذهب المحدودة بمفتاح يفتح لهم منجم الذهب، كلما أرادوا مزيدا منه، لما ضاقت بهم حيلة عندما تلقي إليهم الحياة العملية بمشكلات واقعية تريد أن تحل على أيديهم؛ لأنهم في مثل هذه الحالات المستحدثة التي لم تكن لها حلول في مقرراتهم الدراسية، يلجئون إلى «منهج» البحث العلمي، فيحققون به ما أرادوا أن يحققوه.

وهكذا قل في مجال الفكر بصفة عامة، والفكر الفلسفي بصفة خاصة؛ فمن الاعتراف بالضرورة الملزمة للدارسين، أن يدرسوا ما هو موجود بالفعل من مواد دراستهم، مما أنتجه عمالقة الفكر في شتى موضوعاته، وعلى امتداد التاريخ نخطئ خطأ فادحا في حق أنفسنا وفي حق أمتنا، إذا أوقفنا الدارسين عند حدود ما هو موجود بالفعل من أعمال المفكرين والفلاسفة، دون أن نعاونهم على أن يستخلصوا من ذلك الموجود ما قد بث فيه من «منهج»، كان صاحب الفكر المدروس قد استعان به ليصل إلى ما قد وصل إليه من أفكار، وليس ثمة من شك في أننا - فيما يختص بالفكر الفلسفي - إذا ما أمعنا النظر في كل ما يعرضه علينا تاريخ الفلسفة من مذاهب ومواقف ودراسات، لا بد واجدون ذلك الخيط الرابط بين هؤلاء جميعا في تاريخ واحد، وذلك الخيط إنما هو «منهج» الفكر الفلسفي على اختلاف الفلاسفة ومذاهبهم وموضوعاتهم التي أخضعوها للنظر، ولأن نعين دارس الفلسفة على استخراج ذلك المنهج خير له ولنا ولحياتنا الفكرية بأسرها من أن تضاعف له ما تجب عليه دراسته من مقررات، بل إننا لو فرضنا جدلا بأن الجمع في ذهن الدارس بين معرفة ما خلفه أعلام الفلسفة من مذاهب وأفكار وبين الإلمام بتفصيلات «المنهج» الذي إذا انتهجه ذلك الدارس بعد تخرجه من الجامعة في معالجته للمشكلات الفكرية التي تعرضها الحياة العملية على الناس، لأمكن أن يكون له أكثر مما لغيره قدرة على التصدي لتلك المشكلات، والخروج منها برأي يعرضه على مواطنيه، أقول: إننا إذا فرضنا جدلا بأن ذلك الجمع بين الطرفين مستحيل أو متعذر، وأن على الدارس أن يختار بعد تخرجه: إما أن يكون له هذا الجانب وإما أن يكون له ذاك، لما ترددنا لحظة في أن نوصيه باختيار «المنهج» ليعالج به هو مشكلات أمته - أو عصره - ما أسعفته قدرته، فعباقرة الفكر الفلسفي الذين خلدهم التاريخ، والذين هم موضوع دراسة الدارسين في هذا المجال، إنما أعملوا ذلك المنهج في مشكلات أمتهم أو عصرهم، فكان لهم من القول ما كان مما سجله لهم المؤرخون، ثم جئنا نحن الدارسين لندرس ذلك الذي أوصلهم إليه التفكير فيما أعضل على الناس في يومهم، ومع ذلك فلا يفوتنا هنا أن نؤكد بأن ثمة من تلك المعضلات الفكرية ما يتجاوز حدود الأمة الواحدة والعصر الواحد، فيبقى معروضا على أهل النظر كل يدلي فيها بدلوه، إلا أن الأغلب هو أن نجد لكل عصر نبرته الخاصة في معالجته لأمثال تلك المسائل العصية، التي لا تنقضي بجهود أمة واحدة أو عصر واحد.

كانت هذه الدعوة إلى توجيه الاهتمام العام في دوائر العلم والتعليم، والفكر وسائر الفروع في حياتنا الثقافية نحو «منهجة» المواطن الذي نتولاه بالتعليم والتثقيف، خلال المادة التي نقدمها إليه عن طريق هذه القنوات المختلفة، بحيث يبقى للمواطن نظرته المنهجية التي اكتسبها، حتى لو نسي أكثر التفصيلات التي كان تلقاها مع المضمون الفكري الذي تلقاه، أقول: كانت هذه الدعوة من أهم ما شغل به صاحبنا إبان الخمسينيات بصفة خاصة، إذ كان على اعتقاد بأن حياتنا الفكرية، وإن تكن فقيرة في ذاتها، فأشد منها فقرا قدرتنا على النقد التحليلي لما نتلقاه من فروع المعرفة، والنقد التحليلي هو آخر الأمر أساس للرؤية المستنيرة التي يعول عليها في هداية السير، فالمثقفون منا - ودع عنك من ليس لهم من التثقيف إلا حظ قليل - قد يوفقون في سعة ما يعلمونه بحيث ترى المثقف منهم قادرا على ذكر أسماء النابهين في ميادين العلم والفكر والأدب والفن والسياسة وأسماء مذاهبهم، إذا كانت لهم مذاهب، وبعض الحقائق التي يشتمل عليها كل مذهب، لكنك قليلا جدا ما تجد المثقف الذي تبلورت له من ذلك كله «وجهة نظر» تلازمه ليؤسس عليها أحكامه فيما يستحدث من مواقف؛ ولذلك لم يكن شيئا نادرا في حياتنا، أن تجد المثقف ولا أعني مثقفا من عامة المثقفين، بل أعني من له وزن ومكانة وريادة أن تجده يقول الرأي المعين اليوم، ثم يقول نقيضه غدا، فقد يتخذ موقفا سلفيا متطرفا مرة، حتى إذا ما أمسى عليه المساء وأصبح الصباح سمعته وهو يدعو إلى ما يشبه النظرة الشيوعية في شئون الحياة، أو قد ترى أحدهم وقد تحمس إلى أساليب الفن الحديث يوما ثم انقلب عليها بغير مبرر يوما آخر، وكل هذا التخبط الذي لا يعرف لسيره سبيلا يتبع إنما هو تفريعات تتفرع عن غياب المنهج.

ولم تكن الدعوة إلى توجيه اهتمامنا إلى المنهجية لنستحدثها بعد غياب لتعني شيئا كثيرا إذا هي اقتصرت على ترديد كلمة «منهج» ألف مرة أو ألف ألف، بل كان لا بد من تفصيل العناصر - أو ما هو أساسي منها - التي لا بد أن نحرص على غرسها في الوعي غرسا تتحول به إلى عادة يألفها صاحبها، كلما تناول فكرة معينة بالنظر، وغرس هذه العادة على هذا النحو عن طريق وسائل التعليم والتربية والتثقيف والإعلام هو في صميم عملية «التنوير»، ومن ثم رأيت صاحبنا لا يكاد يكتب شيئا أو يحاضر في شيء حتى يلتمس كل وسيلة ممكنة لتعبئة المضمون الفكري المقدم، بما يوحي بالتنبيه إلى ما يجب أن نتنبه له من شروط الرؤية المتسقة القادرة على توصيل صاحبها إلى ما يحقق له هدفا من أهدافنا المضمرة في نفوسنا ونريد لها أن تتحقق على أرض الواقع أو في سمائه؟

ومن أجل هذا لم يكن أمامه بد من تبيين العلاقات الواصلة بين ما نقوله أو ما نكتبه عن أمور حياتنا عندما يكون في سياق المواقف الجادة غير الهازلة من جهة ووقائع العالم الحادثة أو القائمة بالفعل، أو التي يمكن أن تحدث أو تقع إذا تهيأت لها الظروف المؤدية إلى ظهورها، وكانت محاولاته الملحة في أن يوضح للناس وجوب هذا الربط بين «الفكرة» من ناحية و«الواقع» من ناحية أخرى من أشد العوامل التي أثارت الغيظ والسخط بدل أن تجد آذانا تصغي ونفوسا تقبل وعقولا تعي، لماذا؟ لأن سوء الظن قد شطح بهم إلى الخشية أن تؤثر دعوة كهذه تدعو إلى توثيق العرى بين القول ودنيا الواقع الحسي في قوة الإيمان بالغيب؛ إذ لا سبيل إلى قول يقال عن حقائق الغيب، ليكون موصولا بوقائع العالم المحسوس، وهي خشية تدل هي نفسها على غياب الحد الأدنى من الفكر المنهجي؛ لأن الدعوة إلى ربط القول بالواقع بالعقل، أو الواقع بالإمكان تقصر نفسها على مجال واحد من مجالات كثيرة، وهو مجال «العلم» على تفاوت درجاته، بدءا من علم موغل في التجريد فنازلا إلى علم قريب الصلة بوقائع الحياة، وليست هي دعوة تمد نطاقها إلى مقدار خردلة خارج حدود «العلم»، وإلا فهل نطالب الشاعر مثلا ألا يقول عن الليل إنه كموج البحر إلا إذا بين لنا أين هو الماء الذي يموج به الليل؟ على أن صاحب الدعوة حين أراد أن يوطد الصلة بين أقوالنا والواقع وقصر دعوته تلك - بطبيعة الحال - على مجال «العلم» إنما أراد لدعوته أن تمتد من العلم بمعناه المعروف إلى ما يشبهه من أقوال يزعم أصحابها أنها قيلت عما هو واقع، فمن زعم للناس مثل هذا الزعم لقول ينشره فيهم فعليه أن يلتزم الحدود الضابطة لمثل تلك الصلة بين قول وأمر واقع.

ومع ذلك فهذا الجانب البدهي من جوانب الدعوة، التي من أهدافها أن تجعل المواطن مسئولا أمام عقله كما هو مسئول أمام ضميره فيما تختص به أمارة الضمير، لم يكن أعسر الجوانب قبولا عند المثقفين؛ إذ كان أشد منه عسرا ذلك الجانب الآخر من أركان النظرة المنهجية الذي يبين بأن العبارة التي يقولها صاحبها عن شيء ليصف بها ذلك الشيء وصفا يخلع عليه صفة خلقية أو صفة جمالية، مما يجعله مقبولا أو مرذولا، إنما هي عبارة «خاصة» بما يشعر به قائلها، وليست «عامة» تلزم الإنسان أينما كان وحينما كان بقبولها، فافرض مثلا أن تقاليد مجتمع معين تقضي بألا يراجع ولد فيما يقوله والده، فليس مثل هذا الحكم التقويمي بملزم لأحد إلا أصحابه؛ لأنه حكم لا يوصف بالصحة أو بالخطأ على نحو ما توصف الأحوال العلمية وأشباهها، بل هو حكم «ذوقي» يبنى على قيمة من قيم المجتمع المعين، ولما كانت جميع الأحكام القيمية تتضمن الإشارة إلى «تفاعل» بين الإنسان وما يراه ويسمعه، وليست هي أحكاما مقصورة على الإشارة إلى المرئي والمسموع وحده بغض النظر عن تفاعل الإنسان معه، كانت بحكم طبيعتها هذه قابلة لأن يختلف فيها الناس دون أن يكون ذلك الاختلاف دالا على صحة الرأي عند أحدهم وخطئه عند آخر؛ إذ لا تناقض بين أن يعجب معظم الناس بغناء أم كلثوم - مثلا - وأن تجد قلة من الناس لا يشاركونهم هذا الإعجاب، وكل ما يمكن قوله في موقف كهذا هو الإشفاق على من لم يستطع تقدير مثل ذلك الصوت الجميل؟ فإذا أدركنا أن هذا المثل من اختلاف الناس في التقويم، يوضح لنا طبيعة الاختلاف الذي يقع بين الناس في حالات كثيرة جدا ويظنونه اختلافا بين ما هو صواب عند أحدهما وخطأ عند الآخر، مع أنه في حقيقته اختلاف بين حالات «شعورية» لا شأن لها بخطأ وصواب، وليست هي دائما من نوع المثل البسيط الذي ضربناه، من أن هذا يحب صوتا غنائيا لا يحبه الآخر، بل قد يتطور الأمر ليصبح اختلافا في «القصائد» الدينية أو في المعتقدات السياسية أو في الآراء حول أوضاع اجتماعية مما قد تدعو خطورته إلى تفجر القتال أحيانا، مع أن الأساس الأول الذي بني عليه الاختلاف هو مما يندرج في مجال الشعور قبولا أو رفضا، وإذن فهو مجال «خاص» بالأفراد وليس «عاما» موضوعيا يلتزم به الجميع، وعلى سبيل التطبيق السريع لما يحدثه هذا الخلط بين النوعين ذكر لنا صاحبنا عما حدث له ذات يوم، وكان بعد ثورة 1952 بقليل، أن شكلت لجنة لمناقشة خطة تعليمية جديدة وضعها مسئولون في هذا الموضوع، وكان صاحبنا عضوا في تلك اللجنة، ولما بدأت المناقشة وجد أن أول بند من بنود الخطة المقترحة يحدد الهدف من التعليم بأنه إخراج المواطن الصالح، فأبدى رأيه في ذلك قائلا: إن معنى «الصلاحية» المنشودة للمواطن في حاجة إلى تحديد، وإلا فما يعده فريق صالحا قد يراه فريق آخر غير صالح. فدهش رئيس الجلسة من هذا التعليق الذي يثير مشكلة فيما لا إشكال فيه؛ إذ ليس بين الناس إنسان واحد لا يعرف من هو المواطن الصالح «كما قال»، فلم يتركه صاحبنا ليمضي في كلام مرسل وقال: إننا لتونا قد نجحنا في ثورة نعد أبطالها أمثلة للمواطن الصالح، لكن هل يوافق الملك المخلوع على هذه الصلاحية؟ فالنقطة التي تتطلب التحديد والإيضاح هي: هل صلاحية المواطن تكمن في طاعته المطلقة للنظام القائم مهما يكن فيه من مواضع القصور؟ أو أن الصلاحية هي في أن يستمع المواطن لصوت ضميره حتى إذا ما رأى ما هو في حاجة إلى التغيير، جعل نفسه أداة لذلك التغيير؟ وإذا تدبرنا مثل هذا الجدل بين صاحبنا ورئيس اللجنة وجدت أس الاختلاف هو أن ما قد ظنه رئيس اللجنة مقبولا قبولا «عاما» لموضوعيته رآه صاحبنا مقبولا عند رئيس اللجنة على أساس شعوري «خاص»، وإذن فالأمر في رأيه يتطلب تحديدا حاسما لمعنى الصلاحية المستهدفة كي يتحول الموضوع من دائرة المشاعر إلى دائرة التفكير العلمي.

وأيا ما كان الأمر في هذا الصدد فقد كانت الدعوة إلى النظرة المنهجية في المسائل العامة أبرز خيط فكري في جملة خيوط شغل صاحبنا بغزلها خلال الخمسينيات ليجدها في آخر العقد قد تلاقت بين يديه في نسيج واحد.

وأما الخيط الفكري الثاني فهو ذلك الحرص الشديد عند صاحبنا على أن يتبين الفواصل الفارقة بين أنواع القول المختلفة يقينا منه بأن الخلط بين تلك الأنواع مؤد حتما إلى فكر مهوش؛ إذ يجعل الإنسان في موقف يتطلب من نوع معين أن يلتزم ما تلزمه أنواع أخرى، ومن هنا ينتج الاضطراب والخطأ، ولعل أظهر ما تظهر فيه هذه الحالة تلك الحيرة التي كثيرا ما أحدثت فجوة تلتها جفوة بين الناس، وأعني الحيرة في تحديد العلاقة بين العلم والدين، فأحيانا يتنكر رجل الدين للعلم، كما يحدث أحيانا كذلك أن يتنكر رجل العلم للدين، وأحيانا أخرى يزعم لنا رجل الدين أن الدين علم، بل هو العلم بأداة التعريف، أو يزعم بأن كل ما جاء به العلم وما سوف يجيء به قد سبقه إليه الدين، وهكذا وهكذا مما قد سمع كل قارئ طرفا منه.

كل هذا الاضطراب الفكري يختفي إذا عرفت الفوارق الدقيقة بين جملة ترد في الدين وجملة أخرى ترد في العلم، إنهما نوعان من القول مختلفان من حيث القناة الإدراكية التي يعتمد عليها في كل من الحالتين، ومن حيث الصياغة التي يصاغ بها المضمون، وأخيرا من حيث موقف المتلقي، فالإدراك في حالة الحقيقة الدينية إنما يكون قبولا إيمانيا يتقبله الوجدان دون أن يطلب منذ البداية إقامة برهان على صحته، وأما الإدراك في حالة العلم فيكون دائما على مرحلتين يختلفان في العلوم الطبيعية عنهما في العلوم الرياضية، وأما الأولى: فتجعل أساسها الأولي معلومات جمعت عن الظاهرة المبحوثة، حتى إذا ما أوحت تلك المعطيات إلى الباحث بفكرة تفسرها كان المحك للرفض أو القبول بعد ذلك هو انطباق تلك الفكرة المقترحة على الواقع، وأما في الثانية أعني العلوم الرياضية: فالمرحلة الأساسية الأولى ليست معطيات تجمعت من وقائع العالم الفعلي، بل هي مجموعة من الفروض تؤخذ مأخذ التسليم، لا لأنها بالفعل مقطوع بصحتها بمقاييس الواقع الوجودي، ولكن لأنه لا بد للعقل من عتبة يقفز منها إلى ما ينتج عنها، وإذا ما وصل العالم الرياضي إلى نتائجه عرضها كما تعرض قطع الثياب الجاهزة، قد تجد من تلائمه من أفراد الناس وقد لا تجد، لكنها في كلتا الحالتين صحيحة من وجهة النظر الرياضية؛ لأنها استدلت من الفروض المسلم بها استدلالا صحيحا.

ذلك هو الفرق بين الدين والعلم في طريقة الإدراك عند كل منهما، وأما الفرق في صياغة المضمون، حتى ولو كان المضمون واردا في كليهما، فهو أن الدين يستخدم بالطريقة التي تؤثر في وجدان المتلقي، فتجيء عبارته دائما على ضرب من ضروب البلاغة، وأما الصياغة في الحقيقة العلمية فمثلها الأعلى أن تساق في تركيبة رياضية أو تركيبة من أحرف الهجاء «كما في الكيمياء»، وإذا لم يكن ذلك ممكنا، كما يحدث في العلوم الإنسانية غالبا، يلجأ الباحثون إلى دقة التعريف في تحديدهم للمعاني المقصورة فيما يستخدمونه من مصطلحات، والهدف في جميع هذه الحالات هو أن يصل البحث العلمي إلى جملة لا تعني إلا شيئا واحدا، وذلك الشيء الواحد لا يمكن تمثيله في جملة أخرى غير هذه الجملة، فلئن كانت العبارة البليغة تزداد بلاغة كلما حملت في تركيبها قابلية تعدد المعاني عند مختلف الدارسين، لكل تفسيره الخاص أو تأويله الخاص، بشرط ألا يخرج عن طاقة التركيب اللغوي الذي بين يديه، فإن الجملة العلمية لا تجعل جوهرها مرهونا بالغنى في جوانب التأويل، بل تجعله في الدقة التي لا تدع مجالا إلا لمعنى واحد، وبشرط مضاف هو أن ذلك المعنى الواحد لا يجد دقة صياغته إلا في تلك الجملة.

وأخيرا تختلف الجملة في الدين عن الجملة في العلم في موقف المتلقي، فهو في حالة الدين يؤمن أي إنه يصدق ما قد تلقاه، وقد يجيء بعد ذلك أو لا يجيء من يبين بالبحث العلمي في مضمون ذلك الإيمان أنه مضمون يمكن إقامة البرهان الفعلي على صحته من الناحية الموضوعية، إلا أن ذلك لا يزيد شيئا في إيمان المؤمن ولا ينقص منه شيئا، فإيمان المؤمن بما آمن به موقف فردي خاص لا يتغير إن آمنت الإنسانية بأسرها أو لم يؤمن منها إنسان واحد سواه، وأما النتيجة العلمية فعلى خلاف ذلك؛ لأنها حقيقة «عامة» وليست خاصة بصاحبها، وهي اجتماعية وليست فردية، بمعنى أن مكتشف الحقيقة العلمية مطالب بأن يقيم على صحتها البراهين أمام مجموعة العلماء المتخصصين، فهي اجتماعية بهذا المعنى تقوم قائمتها أو لا تقوم بناء على مراجعة المشتغلين في ميدانها لها، للتأكد من صحتها، فإن لم تثبت لهذه المراجعة سقطت من الحساب.

إنه ليتعذر علينا أن نتصور إمكان الخلط بين الجملة الإيمانية والجملة العلمية إذا كنا على بينة من تلك الفواصل الفارقة بين النوعين، وكثيرا جدا ما يحدث للموقف الفكري الواحد جانب ديني إيماني وجانب علمي منهجي في آن واحد، ومع ذلك فلا يصعب علينا أن نرجع كلا من الجانبين إلى مجاله إذا أردنا ذلك، فافرض، مثلا، أن عالم التفسير أو عالم الفقه الديني قد نظر في آية كريمة لتفسيرها أو لاستخراج ما تتضمنه من أحكام شرعية، ففي هذه الحالة تظل الآية الكريمة منتمية إلى دائرة الإيمان الديني، وتظل العملية التفسيرية أو العملية الفقهية منتمية إلى دائرة التفكير العلمي، فبينما تبقى الآية الكريمة موضع إيمان من كل مسلم لا اختلاف عليها بين مؤمن ومؤمن، يجوز أن يختلف المفسرون في طريقة تفسيرها أو أن يختلف الفقهاء فيما يستخرج منها في مجال الأحكام الشرعية.

لكن الذي قد يحدث بين نصوص الدين ونتائج البحوث العلمية هو أن تخرج علينا بحوث العلم بنتائج نجد تناقضا ظاهرا بينها وبين نص من نصوص الدين، كما حدث مثلا عندنا وعند غيرنا من أصحاب الديانات الأحرى حيال النظرية الدارونية في تطور الحيوان تطورا جعل الإنسان حلقة أخيرة من حلقات السلسلة، بينما يرد في النص القرآني الكريم «وكذلك في التوراة والإنجيل» ما يدل على أن كل كائن حي بصفة عامة والإنسان بصفة خاصة قد خلق على نحو ما خلق منذ لحظة خلقه بأمر إلهي قضي له بأن يكون فكان، فها هنا يتطلب الأمر مخرجا لا ينتقص من الإيمان شيئا، ثم يحاول أن يرى الحقيقة العلمية في ضوء يتسق مع ما يقتضيه إيمان المؤمن، إذا كان مثل ذلك المخرج مستطاعا، فقد يكون العلم أخطأ جوهر الحقيقة، وكذلك قد يكون في مستطاعنا أن ننظر إلى الفارق النوعي الذي طرأ على ضروب الحيوان عامة وعلى الإنسان خاصة فجعله نوعا قائما بذاته، على أنه أي الفارق النوعي هو المقصود في عملية الخلق بالنسبة إلى كل نوع، على حدة على أننا لا نقدم هذا القول ليكون رأيا نتمسك بصحته.

فمهمتنا في هذا السياق من الحديث أن نبين الخطوط الفكرية التي امتدت مع صاحبنا خلال الخمسينيات ليراها في آخر ذلك العقد وقد تلاقت كلها في نسيج واحد.

خيوط تلاقت «2»

لم يكن نسج الخيوط المتفرقة في نسيج فكري واحد عن عمد سابق وتدبير، فما اجترأ صاحبنا يوما أن يدعي لنفسه مثل ذلك الفكر النافذ والنظر البعيد، ربما كانت هذه الخصائص النادرة مقصورة على أفراد عمالقة من أسرة «عبقر»، وأعني أن تلوح الفكرة الكبرى أول ما تلوح في ذهن العبقري وهو في بواكير عمره، وما هو بعد ذلك إلا أن تراه ناسلا من فكرته الجبارة تلك، خيوطا من محتواها الفني، تجيء فرادى ومع مناسباتها وظروفها على مراحل حياته بعد ذلك ... وهي - بالطبع - إذ تجيء متفرقة بين الأعوام المتوالية، فإنما تجيء متسقا بعضها مع بعض، بحكم أنها جميعا بنات فكرة كبرى واحدة، ولدتها القريحة العبقرية بادئ ذي بدء، ثم أخذ صاحب القريحة يقطف للناس ثمارها المختلفة كلما وجدهم في حاجة منها إلى ثمرة، لكن ما هكذا الحال بالنسبة إلى من هم دون تلك الذروة العالية؛ إذ الأنوال عند هؤلاء تغزل الخيوط خيطا خيطا بما تستوجبه الظروف، فقد تغزل رأيا في حق من حقوق الإنسان في فترة زمنية معينة، ورأيا آخر عن أهمية النظرة العلمية في مواجهة المشكلات العامة في فترة زمنية أخرى، ورأيا ثالثا عن التعليم في فترة زمنية ثالثة، وهكذا، حتى ليخيل للمتعقب، بل ربما يخيل لصاحب تلك الآراء نفسه، أنها أفكار تناثرت متباعدة، مستجيبة لمناسبات ظهورها، دون أن يكون فيها ما يضمن لها أن تكون في حقيقتها عناصر من كيان فكري موحد، إلا أن طبيعة الشخصية السوية - على الأرجح - أن تصدر في طرائق تفكيرها، وفي أنماط سلوكها، بل وفي استجاباتها العاطفية لمختلف العوامل الخارجية، عن أسلوب واحد، أو متقارب في جميع تلك الحالات.

والحق أن هذه الطبيعة الراجحة في الشخصية السوية، وأعني اتساقها مع نفسها اتساقا يوحد طريقتها في أسلوب الحياة، فكرية أم عاطفية، أم سلوكية، مسألة تستحق النظر بحثا عن جانب الصواب فيها، فمن ناحية، لولا ذلك الاطراد النسبي في شخصية الإنسان السوي لما أمكن للناس أن يتعاملوا بعضهم مع بعض فيما يشبه الأمان؛ لأن ذلك التعامل قائم أساسا على أن كلا من الطرفين يعرف مسبقا صورة رد الفعل الذي سيجيب به الطرف الثاني على ما قد بادره به، نعم، إننا في حياتنا العملية كثيرا جدا ما نفاجأ من الطرف الثاني برد لم نتوقعه بناء على ما عرفناه فيما مضى عن شخصيته، لكننا في معظم المواقف لا يخيب فينا الظن، إذ نتلقى ممن نعامله ردودا توقعناها، وبهذا «التعارف» بين الناس يسير بهم تيار الحياة ودودا هادئا، بل إن ترجيحنا عن الشخصية المعنية بأن أفكارها وأفعالها وانفعالاتها وعواطفها ستجيء كما نتوقع لها أن تجيء هو نفسه الأساس الذي يبني عليه أديب الرواية وأديب المسرحية رسمه لشخصياته رسما يجعلهم نظائر للأحياء.

ذلك كله من ناحية، لكن هنالك ناحية أخرى للموضوع، وهي «حرية» الإنسان فيما يرد فعله إزاء مواقف الحياة كلما فاجأه منها موقف يتطلب الفعل، فلو أن سواء الشخصية معناه اطرادها فيما تفكر فيه أو ما ترد به على طوارئ الأحداث، لفقدت بذلك عنصرا أساسيا في مقومات «الحياة » ذاتها من حيث هي مجرد حياة، فالكائن الحي حتى إذا كان من أدنى الأحياء درجة في مدارج التطور، كالنباتات الهلامية البدائية التي تنمو في مياه البحار، قادر على «ابتكار» فعل جديد غير مسبوق، إزاء الحديث الجديد الذي لم يسبقه مثيل في حياة ذلك الكائن، ونحن إذ نقول عن عالم النبات وعالم الحيوان إجمالا، بأن الأحياء فيه تسيرها طبائعها وغرائزها، ولا اختيار لها فيما تفعل وما تدع، فإنما نقول ذلك على سبيل التعميم الجارف، الذي يعتدي على أطراف كثيرة من حقائق ذلك العالم: عالم النبات والحيوان، وإذا كانت هذه الحرية النسبية مكفولة لتلك الكائنات، فماذا نقول عن الإنسان، الذي هو وحده المخلوق الذي أراد له ربه أن يكون مسئولا عما يفعل يوم الحساب، وهي مسئولية تتضمن بالضرورة أن يكون كائنا قادرا على الاختيار بين البدائل.

ومعنى هذه الحرية في حياة الإنسان - فيما نحن بصدد الحديث فيه - هو احتمال المفاجأة بالفعل المبتكر غير المتوقع وغير المسبوق بشبيه له فيما سبق من مجرى حياته، وعلى أساس هذا الذي نراه في طبيعة الشخصية الإنسانية، حتى وهي سوية غير منحرفة انحرافا تشذ به عن مألوف الحياة، نقول: إننا إذا استثنينا العباقرة العمالقة الذين لا يقاس إليهم سائر البشر، حق لنا أن نصف من هم دون ذلك رتبة بصفتين في آن واحد، رغم ما يبدو عليها من تناقض؛ إحداهما: أن نتوقع اطراد الشخصية السوية واتساقها مع نفسها فيما تفكر وتشعر وتسلك، الثانية: هي أن نتوقع من تلك الشخصية السوية ذاتها تجددا لا ينقطع في طرائق الفكر والشعور والسلوك، ليساير به تجدد الحياة من حوله؛ لأنه إذا جمد على صور مطردة، أمام حياة متغيرة، أفلت منه موكب التاريخ.

وفي إطار هاتين الصفتين المتناقضتين ظاهرا، المتكاملتين باطنا، تجيء شخصية الإنسان السوي، فهو كائن ثابت متغير، أو متغير ثابت في آن واحد، هو كالنهر الذي يتدفق في كل لحظة بماء جديد، ومع ذلك يظل هو هو النهر الذي عرفه الناس، فالإطار يبقى، ومضمونه يتغير، وهذا الإطار الثابت الباقي هو - على وجه الدقة - ما يخلع على الفرد شخصيته، وعلى الشعب هويته، وماذا عسى أن يكون ذلك الإطار؟ إنه «وجهة النظر» التي على أساسها نقبل هذا ونرفض ذاك، هو «الرؤية» العامة التي على أساسها نفاضل بين الأشياء والاتجاهات لننتقي منها ونختار، فالكون حولنا جميعا كون واحد، والكوكب الأرضي الذي هو موطن الجنس البشري كله كوكب واحد، لكن تجيء وجهات النظر المختلفة بين هذا الفرد وذاك، وتجيء الرؤى المختلفة بين هذا الشعب وذاك، فيتباين الأفراد، وتتنوع الشعوب.

وبفضل الله على صاحبنا، كان ذا وجهة نظر، يجتمع حول قطبها أشتات الحوادث، فهو إن تكن أنواله قد غزلت خيوط أفكاره خيطا خيطا، وعلى فترات، إلا أن تلك الخيوط قد تلاقت معه في موقف ثقافي واحد، بغير تدبير وتخطيط، ولكن توحد الرؤية ووضوحها كفيلان بذلك، ولقد أسلفنا من خيوطه تلك خيطين، كان أولهما: «علمية» النظرة ووجوبها في المسائل المشتركة العامة، وكان ثانيهما: التفرقة عند الإنسان بين قناتين للإدراك؛ فهناك ما يدرك على خطوتين وهو المدركات العقلية، كما هي الحال في مجال العلوم، وهناك ما يدرك مباشرة وعلى خطوة واحدة، كالمدركات الوجدانية، ومنها حالات «الإيمان» بما يؤمن به مؤمن، ونحن في سبيلنا الآن إلى الحديث عن خيط ثالث، ظهر في نشاط صاحبنا الفكري مستقلا، لكنه وجد فيما بعد مكانه من النسيج الموحد المتآلف، وأعني به موقفه من الأدب ونقده، أو من الفن ونقده.

مفتاح الرأي عند صاحبنا هو نفسه الأساس الذي يقيم عليه رأيا، أيا ما كان المجال الذي يتطلب إبداء الرأي فيه، وذلك الأساس هو التفرقة الواضحة بين قناتين للإدراك عند الإنسان، يتكاملان ولا يتناقضان، وهما قناة المنطق العقلي وقناة الحدس المباشر، وأما المنطق العقلي، فأميز ما يتميز به، هو أنه حركة انتقالية تنقل صاحبها من «مقدمة» (أو شواهد) إلى نتيجة تقام على أساس تلك المقدمة أو الشاهد، وأما الحدس المباشر فهو تأثر فوري يحدث عند نقطة التلقي ولا تجد داعيا يدعوها إلى الانتقال منها إلى سواها، وذلك معناه أن ما يدرك للوهلة الأولى، هو نفسه ما يصبح معتقدا عند الشخص الذي أدرك، فلا استدلال هنا لنتيجة تنتزع من مقدمة سبقتها، وكلمة «الحدس» قد أطلقت اسما على هذه العملية الإدراكية، المباشرة، من فقهائنا الأقدمين، وقد يكون أبو حامد الغزالي - على وجه التحديد - هو أول من أطلقها.

مرة أخرى نقول، ونقوله هذه المرة بعبارة أخرى، ابتغاء مزيد من الوضوح والإيضاح: إن الأساس الأول الذي تستند إليه الحركة الفكرية كلها عند صاحبنا كان ولا يزال، التمييز الحاد بين قدرتين مختلفتين على الإدراك عند الإنسان بصفة مطلقة؛ أولاهما: إدراك مباشر، والثانية: إدراك غير مباشر، القدرة الأولى طاقة وجدانية تشعر بما تشعر به، قبولا أو رفضا، إقبالا أو إدبارا، إزاء المدركات الخارجية، فلا وسيط بين الذات التي تدرك وتشعر وبين الشيء الذي تدركه وتشعر به، على نحو ما يكون الأمر بين إنسان وأريج وردة يشمها، أو بين إنسان وتذوقه لطعام في فمه، أو بين محب وحبيب ينبض لرؤيته قلبه بالحب، وهكذا أيضا يكون الأمر بين إنسان يؤمن بدعوة يهتز لها قلبه عند سماعها، كما يكون هو الأمر بين قارئ للشعر، أو منصت لمعزوفة موسيقية، إذا ما مس ذلك وترا في نفسه، كل هذه الحالات أمثلة للإدراك «الحدسي» أو الوجداني، أو المباشر، الذي لا يتطلب وسيطا بين الشخص المدرك والشيء الذي يدركه.

وأما القدرة الإدراكية الثانية فهي التي نقول عنها إنها النمط المنطقي، أو العقلي في الإدراك، وهي عملية تستدعي قيام وسيط بين الشخص المدرك من جهة، والحقيقة التي يدركها من جهة أخرى، وذلك الوسيط هو حركة استدلالية تنصب على الطرف الأول لتخرج منه النتيجة التي هي بمثابة الطرف الثاني، ويمكن تشبيه الموقف كله بقطار يبدأ رحلته من محطة القيام، لينهيها عند محطة الوصول، وأما الطريق بين هذه وتلك فهو بمثابة العملية الاستدلالية في الموقف العقلي، يبدأ من المعطيات المقدمة لينتهي منها إلى النتيجة المبتغاة.

وعلى هذه الخلفية الشارحة التي قدمناها، يقوم الرأي في التفرقة بين الفن ونقده، بما في ذلك فنون الأدب على اختلافها، والفرق بين الفن من جهة ونقده من جهة أخرى، واضح لصاحبنا وضوح الشمس، بينما هو عند آخرين مشكلة عويصة تتنازعها الآراء من يمينها ويسارها، مجادلاتهم ومناظراتهم تتردد فيها صيحات مبهمة حيرى: هل النقد تحليل علمي أو ذوق؟ هل يكون الناقد أديبا على نحو ما يكون مبدع القطعة المنقودة أديبا؟ إلخ وأمام هذه الجلبة التائهة الحيرى تسمع لسان الحال عند صاحبنا يعيد بيت المتنبي:

أنام ملء جفوني عن شواردها

ويسهر الخلق جراها ويختصم

ووضوح الفكرة عند صاحبنا قائم على وضوح المبدأ: فعملية الإبداع قناتها عند صاحبها هي قناة الإدراك الوجداني المباشر حتى تطلب الإبداع أن يقوم المبدع بجهد عقلي علمي يبذله في تحصيل ما أنتجه العلم بشتى فروعه ليستعين بها في عمليته الإبداعية، كما قد يدرس الشاعر علوم اللغة ويدرس المصور علم الضوء، لكن هذا الجانب العلمي المحصل، لن يكون هو العمل المبدع، بل هو قوة تضاف إلى موهبة المبدع لتعلو به في درجات فنه الذي يبدع في مجاله، وأما نقد الناقد لما يتجه نحوه من آثار المبدعين فشيء آخر، إذ العلاقة بين الناقد وما يهم بنقده شبيهة أقرب الشبه بالعلاقة بين العالم الطبيعي والظاهرة التي يهم بتحليلها واستخراج قوانينها، وافرض أن الأثر المنقود قصيدة من الشعر، فالذي يحدث هو أن الناقد - من حيث هو إنسان قارئ قبل أن يكون ناقدا - يقرأ القصيدة كما يقرؤها آخرون، وقد تثير فيه ما تثيره من مشاعر، وهنا ربما اختار لنفسه أن يكتفي بما قرأ وما شعر كما يفعل كثيرون غيره، وعندئذ لا يولد شيء اسمه «نقد»، ولكنه كذلك قد يهم بتسجيل ما عن له من تعليقات على القصيدة يبرر بها شعوره الذي أحسه حيالها، ثم يحزم أمره ويكتب، لتنشر كتابته على القراء، وها هنا يولد «نقد» أدبي تتفاوت درجاته بتفاوت قدرات الناقدين، وماذا تكون طبيعة تلك القدرات على وجه الدقة والتحديد؟ جواب ذلك لا ينبغي أن يكون إشارة إلى «ذوق» أو «تذوق»؛ لأن مرحلة الذوق والتذوق - على ضرورتها الحتمية - قد انتهى أمرها مع مرحلة القراءة الأولى؛ إذ أنه لولا أن القارئ عندئذ قد ذاق وتذوق لما كتب شيئا عما قرأ، إذن ماذا تكون طبيعة العملية النقدية؟ إنها يقينا عملية علمية تحليلية، تستهدف «تعليل» (وأرجوك الوقوف برهة عند كلمة «تعليل» هذه) تعليل المشاعر التي صاحبت الذوق والتذوق، و«التعليل» معناه رد هذه المشاعر الذوقية إلى مثيراتها مما ورد في القصيدة أيا كان نوعه، والتحليل وما يقام عليه من تعليل، هو جزء من صلب العملية العقلية المستخدمة في العمل العلمي على اختلاف ميادينه.

ومع ذلك فليس ثمة من حرج على من شاء - واستطاع - أن يبدع أدبا استلهاما لأدب آخر، بمعنى أن يقرأ قارئ قصيدة للبحتري - مثلا - فينشئ عنها كلاما هو في ذاته يحمل طابع الإبداع الأدبي، لكون قائله قد جسد ذاته في كتابته، حتى أصبحنا أمام أثرين من آثار الإبداع الأدبي: قصيدة البحتري أولا، وما أثارته القصيدة عند أديب آخر فكتب بدوره أدبا، وهناك بالفعل أمثلة كثيرة لمثل هذا الأدب الذي يقام على أدب، وقد جرى العرف على أن يدرج الأديب المنفعل بأدب غيره، في زمرة «نقاد» الأدب، وعندئذ يقال عن نقده إنه نقد انطباعي، أو ذوقي، وذلك كله جائز ومقبول، شريطة أن نكون بيننا وبين أنفسنا على بينة بحقيقة الموقف، وتلك الحقيقة هي أن مثل هذه الحالة أقرب إلى أن يقال عنها إنها انطباع بديع (أو مبدع) أحدثته قراءة المنطبع لما أبدعه أديب آخر، أقول إنها حالة أقرب إلى هذا التوصيف منها إلى «النقد الأدبي» بمعناه الأدق، ويكفي في هذا الصدد أن نلفت النظر إلى أن الانطباعات الأدبية التي يراد لها أن تعد «نقدا» لا تصلح بطبيعتها أن تكون موضوعا للمناقشة؛ لأنها لم تضع نفسها في مجال «الفكر» الذي هو وحده القابل لاختلاف الرأي، وإقامة الحجة أو دحضها، وماذا أنت قائل لمتيم ولهان أجرى وجيب قلبه على الورق؟ إنه عاشق كسائر العاشقين، فهل من سبيل إلى منطق يقيم حجة أو يهدم حجة مع المحبين ؟ وما كذلك الحال في نقد يحلل لكي يعلل، فها هنا ينفسح المجال العلمي للأخذ والرد بين مختلف الباحثين.

وفي إطار التحليل من أجل التعليل - الذي هو صميم العملية النقدية بمعناها الأقوم والأنفع - يمكن أن تعدد المذاهب النقدية بتعدد الأهداف التي يختارها القائمون على النقد لتكون موضوعا للتحليل أولا فالتعليل ثانيا (وأعني تعليل الشعور بالرضا أو بعدم الرضا أثناء قراءة القطعة الأدبية قراءة أولى) فهناك من يستهدف سيكولوجية المبدع كما تشف عنها آثاره المبدعة، وهناك من يبحث عن الحالة الاجتماعية التي انعكست في الآثار المبدعة، وهكذا، وفي جميع هذه الحالات يكون الهدف المستهدف من الناقد هو نفسه ميزانه في الحكم بدرجة الجودة الفنية فيما ينقده، فإذا استهدف سيكولوجية المبدع من وراء إبداعه كان معيار الجودة الفنية هو مدى قدرة القطعة المنقودة على فعل ذلك، أو استهدف الحالة الاجتماعية كيف كانت في لحظة الإبداع، كان معيار الجودة الفنية هو قدرة الأثر المنقود على أن يشف عما وراءه في هذا السبيل.

على أن بين مذاهب النقاد مذهبا يستحق أن ينفرد بوقفة قصيرة؛ لأنه - واعجباه - هو ما يطلق عليه في عصرنا هذا ب «النقد الجديد»، وهو في الوقت نفسه ما نراه سائدا عند نقاد العرب الأولين، وأعني به أن تنصب الفاعلية النقدية (ومحورها تحليل وتعليل) على النص المنقود ذاته، لا لكي تستشف منه نفسية مبدعه، ولا لنستدل منه المحيط الاجتماعي الذي أحاط بذلك المبدع، بل تنصب تلك الفاعلية على البناء اللفظي الذي بين أيدينا، لنرى كيف ركبت أجزاؤه تركيبا أدى إلى ما قد شعرنا به أثناء القراءة من حالات ذوقية، فكان موضوع الناقد على هذا المذهب هو «العمارة» اللغوية كيف أقيمت لتكون على ما هي عليه من قوة التأثير في ساكنيها، وساكنوها هم من يقرءونها فيتسللون بتلك القراءة إلى مداخلها ومخارجها وشرفاتها وأبهائها، وإذا سئل صاحبنا: وما موقفك أنت من هذه المذاهب النقدية؟ أجاب بأنها تتكامل ولا تتعارض، وأن الدارس ليزداد غوصا في حقيقة الأثر الفني كلما كثرت الزوايا التي ينظر إليه منها، إلا أنه - أي صاحبنا - يجعل لهذا المذهب الأخير - ولنطلق عليه المذهب الشكلي، أي الذي يعنى بالجانب المعماري من العمل الفني - أولوية على جميع المذاهب الأخرى؛ لأن كل واحد من هذه المذاهب الأخرى يجعل الأدب أو الفن كله بصفة عامة وسيلة لغاية وراءه أهم منه، فإذا أراد الناقد أن يستشف من الأدب نفسية المبدع، كان «علم النفس» مخدوما من حيث هو غاية، وإذا أراد الناقد أن ينفذ خلال الأدب المنقود إلى صورة الحياة الاجتماعية في لحظة الإبداع، كان «علم الاجتماع» هو في نهاية المطاف موضع الاهتمام، وأما النقد الذي ينصب على العمارة الفنية ذاتها كيف أقيمت وكيف ترابطت أجزاؤها، فالأدب ذاته هو الوسيلة وهو الغاية في آن معا.

هكذا نلحظ تحالفا وثيق الصلات، بين فاعلية العقل في خطواته المنطقية، من جهة، ونبضات الوجدان بما يستكن في ضمير الإنسان من إيمان وعقيدة، ومن شعور وعاطفة، فالجانبان مستقل أحدهما عن الآخر في طبيعته ووسيلته، ولكنهما كذلك متناصران يشتركان معا في أهم ما يهم الإنسان من أوجه النشاط الفردي والجماعي، كل بطريقته وبدوره الذي يؤديه، ولا يعني ذلك ألا تكون هناك حالات كثيرة في حياة كثير جدا من الناس فرادى ومجتمعين على سواء، يتعارض فيها الجانبان فيطغى عقل على عاطفة ليمحوها - تلك أقل الحالات حدوثا - أو تطغى فيها عاطفة على عقل فتمحوه، وذلك هو الأغلب إذا ما اختل التآلف بين الجانبين، ولقد عرضنا عليك فيما أسلفناه خيوطا فكرية ثلاثة، لازمت صاحبنا إبان الخمسينيات، قبل أن تلتقي الخيوط كلها في رقعة واحدة، وكانت الخيوط الثلاثة التي عرضناها هي علمية النظرة وأهميتها، وإقامة الفواصل الفارقة بين أوجه الحياة الثقافية الواحدة ومختلف مقوماتها، والعلاقة بين عالم الفن بما فيه الفن الأدبي ونقد الفن والأدب، وفي كل قسم من هذه الأقسام، يظهر لنا التحليل تعاونا وثيقا بين جانبي العقل والوجدان، مع استقلالية كل منهما بطبيعته وطريقته في الأداء وذلك - بالطبع - إذا ما كانت الحياة الثقافية سوية متوازنة العناصر، تؤمن عاقلة، وتعقل مؤمنة.

وننتقل بك الآن إلى خيط رابع هو موقف صاحبنا من الماضي وعلاقته بالحاضر، وذلك في مجال النشاط الثقافي إبداعا وممارسة، وحقيقة الأمر في هذا، هو أن صاحبنا كانت له وقفة أولى فيما قبل منتصف الخمسينيات، ووقفة ثانية بعد ذلك، ظاهر الأمر فيهما أنه قد صحح نفسه، ولكن باطن الأمر فيما يؤكد صاحبنا عن نفسه، أن ما قد تغير هو النبرة دون الأهداف، فالغاية التي يتغياها في الحالتين واحدة، وهي أن تنهض الأمة العربية من غيبوبة فقرها وجهلها وضعفها وتفككها، إلى صحوة فيها القوة والعلم والثراء والتوحد، ففيما قبل منتصف الخمسينيات أخذ عن عمد وإصرار، يبرز وجوب الأخذ بما أخذ به الغرب حتى ساد الدنيا بعلمه وصناعته وقوته، وأما بعد ذلك التاريخ فقد اتجه برجحان أكبر نحو إبراز الصيغة الثقافية المطلوبة إذا ما تحققت للأمة العربية نهضتها، وهي صيغة لا بد لها أن تحرص على مقومات الهوية العربية كما عرفها التاريخ والريادة للعربي، على أن تدمج في تلك المقومات صفات تقتضيها حضارة هذا العصر، إذ هي حضارة تميزت من سابقاتها بسيادة العلوم الطبيعية وتقنياتها في المقام الأول.

ولم تكن الدعوة إلى وقفة تجمع بين ماضينا الثقافي وحاضر الدنيا في آن معا، تعني إغراق الخصوصية العربية في بحر الغرب، فالفرق واضح بين مشاركة العربي مشاركة إيجابية في بناء عصره - وفي تقويمه أيضا - وبين أن يمحو العربي عروبته، فإذا قلنا اختصارا: إن حضارة عصرنا كما هي قائمة عند بناتها في الغرب، تقوم على ركيزتين بالعلم في صورته التقنية (التكنولوجيا) من ناحية، والأخلاق الدائرة حول محور المنفعة، من ناحية ثانية، فإن العربي الجديد مدعو للأخذ بالركيزة الأولى بلا تحفظ ولا حذر، وللحفاظ - في الوقت نفسه - على موقفه الأخلاقي الأصيل، الذي هو موقف يدير الأخلاق على ما «يجب» فعله، إما التزاما بما يمليه عليه الدين إذا كان هنالك ما يمليه بالنسبة إلى الظروف المعينة التي يجد نفسه فيها، وإما التزاما بما يوجبه التكافل الاجتماعي كما يقرره أصحاب الرأي الراجح في الأمة، إذا لم يكن في شرع الدين توجيه يتصل بالمشكلة القائمة، وهذا الالتزام في حالتيه، بغض النظر عن «المنفعة» كما يريدها الغرب في نظرته، أي أن تكون منفعة تقاس بالسلع المنتجة أو بالمال المكتسب، وربما كان أقرب إلى الصواب، أن نقول: إن المطلوب من العربي الجديد في مشاركته البناءة لعصره، أن يوسع من معنى «المنفعة» التي هي ثانية الركيزتين في هيكل الحضارة القائمة، بحيث تشمل الجوانب النفسية للإنسان، من حيث هو إنسان يحيا وجدانه الديني العاطفي، مع حياته المنتجة في معامل العلم وأروقة المصانع.

وبهذا التصور للعربي الجديد، ننظر إلى ماضينا الثقافي كما هو مرسوم فيما ورثناه عن السلف، فنجد طريق السير واضحا؛ فأولا، وقبل كل شيء آخر: يجب أن يكون واضحا بأن التنكر للماضي في جملته إنما هو من تخليط المجانين، فلا تعرف الدنيا إنسانا واحدا يستطيع التنكر لماضيه حتى إذا أراد ذلك، فهو مضطر أن يتكلم لغة هبطت إليه من ذلك الماضي، ويعتقد في دين نقل إليه عن مصادره جيلا يأخذ عن جيل، ويكتب بطريقة يتعلمها ولم يكن هو صانعها، ويبني أسرته مما يسودها من علاقات داخلية بين أفرادها على أسس تكونت وتطورت قبل أن يولد، وهكذا إذن فلنصم آذاننا عما يقال عن إدارة ظهورنا للماضي على هذه الصورة الرعناء، وثانيا: تجيء نظرة مضادة يريد لنا أصحابها أن نحيط بكل ما ورثناه بهالات التقديس، وهي نظرة إن تكن أقل جنونا من سابقتها، فهي تظل مع ذلك في دائرة الجنون؛ لأن الله سبحانه وتعالى حين خلقنا في زماننا هذا لم يخلقنا عبثا، مكتفيا منا بأن نحاكي نموذج أسلافنا دون أن نضيف ما يثبت وجودنا، وثالثا: من المقدمتين السابقتين تلزم نتيجة هادية، وهي أن نأخذ من ماضينا ما يخدم حاضرنا؛ فلا هو إنكار له، ولا هو تقديس، بل الأمر أمر حياة لا بد لها من مواجهة ظروفها الراهنة، ثم لا بد لها في الوقت نفسه أن تجعل نفسها حلقة في سلسلة الحلقات التي هي تاريخها، وإلا حكمت على نفسها، بأن تكون حاضرا لقيطا مجهول الأبوين، وبهذا اللقاء بين «عاطفة» الانتماء من جهة ، و«عقلانية» المواجهة لمشكلات العصر، نشأ لصاحبنا خيط فكري رابع.

رؤية موحدة «1»

أخذت الأعوام تنحدر على مسار الزمن، لتخرج من عقد الخمسينيات المزدحم بأحداثه، وكانت كلها أحداثا تعمل على تغيير جوهري في هيكل البناء الاجتماعي، أو أحداثا تتصدى لمن أراد الوقوف في طريق ذلك التغيير، ولتدخل في عقد الستينيات التي استأنفت حركة التغيير والتطوير، ولكنه تغيير انصب معظمه هذه المرة على تفصيلات الحياة داخل الهيكل الاجتماعي الجديد، وعند ذلك المنحنى الزمني بين العقدين نظر صاحبنا، فإذا الخيوط الفكرية التي ظهرت إبان الخمسينيات وما قبلها، وكأنها كتفرقة يسير كل منها مستقلا عن سواه، قد تلاقت بين يديه لترسم وجهة واحدة للنظر، وأصبحت هي الوجهة التي يسير على هداها، على نحو آخر يزداد على مر الأيام وضوحا، وربما جاز لنا القول عن تلك النظرة الموحدة: إن مفتاحها هو رؤية جديدة للثقافة العربية، بين طبيعة تلك الثقافة وجوهرها الأصيل، الذي ظل محورا لها على امتداد الزمن، تتبدل حوله المتغيرات التاريخية وتتحول، وهو في جوهر طبيعته ثابت ذلك الثبات النسبي الذي يتلاءم مع جريان الزمن؛ لأن الثبات المطلق لا يتحقق إلا لمن هو فوق الزمان وتقلباته وقيوده سبحانه وتعالى.

إن صاحبنا لا يدعي أن رؤيته الجديدة هذه، خصوصية الثقافة العربية، قد خرجت على يديه مكتملة الكيان والقسمات كما خرجت منيرفا كاملة النمو من بيتها الصدفي، ولكنه كذلك لا يعرف أحدا قبله قد رسم الصورة على نحو ما رسمها هو، وهي صورة تولدت لديه من تلك الفكرة الأساسية التي راودته مبهمة أول الأمر منذ الأعوام من أربعينيات القرن، حين أدرك الفارق الفاصل بين قناتي الإدراك عند الإنسان؛ إحداهما: للمدركات العقلية التي تكون منها العلوم وما يجري مجراها من أقوال يزعم لها قائلوها بأنها مطابقة لما هو واقعه في عالم الأشياء، والأخرى: لجوانب الحياة الوجدانية التي تتميز في طريقة إدراكنا لها، بأنها تدرك إدراكا مباشرا لا يبحث لنفسه عن برهان صدقه؛ لأن صدقه موثوق به عند نبضات القلب وخفقات الشعور، وكان صاحبنا منذ أخذ يميز - وإن يكن على شيء من الغموض - في جوف كل إنسان واحد يتصور أن في وضوح الفصل بين هاتين القناتين فيما يؤديانه يكون وضوح التفكير، وفي غموضه يكون الغموض، على أن ذلك الفصل بينهما لا يمنع أن يشتركا معا في العملية الفكرية الواحدة، فيكون لكل منهما دوره الخاص به دون أن يتدخل في دور رفيقه.

ومثل هذه المشاركة بين وجهي الإدراك - في العملية الواحدة، عند الفرد الواحد - هو ما رآه صاحبنا رؤية جلية أول دخوله في ستينيات القرن، وعندما تلاقت بين يديه خطوطه الفكرية المتفرقة في صورة موحدة، وكأنها خيوط تلاقت في منسوج واحد، رأى صاحبنا في ذلك سمة تميز العربي في وقفته من العالم وفي نفسه، ومن ثم فقد جاءت تلك السمة مميزا للثقافة العربية الأصيلة، سواء أكان ذلك في عصورها القديمة، أم تجلى في أفراد نابهين من العرب المحدثين، ولا بد لنا هنا أن نستبق خواطر القارئ الذي ربما وجد في هذا القول تخصيصا للعربي، ما هو في حقيقته صفة تعم البشر أجمعين، وجوابنا على ذلك هو: أن الأمر في تمييز الأمم بعضها من بعض بخصائص معينة إنما يكتفى فيه بأن تكون الصفة المميزة الغالبة في أمة معينة منحصرة في أمة أخرى، وإلا فالبشر بشر على السواء، ينتمون جميعا آخر الأمر إلى أبيهم آدم عليه السلام.

لقد بات مألوفا لنا قسمة العالم - من الناحية الثقافية - إلى «شرق» و«غرب»، والأرجح أن يكون أبناء «الغرب» هم الذين أطلقوا هذا التقسيم، وهو بالطبع تقسيم لا يخلو من دلالة؛ فإذا قلنا إن «الشرق» هو قارتا آسيا وأفريقيا بصفة أساسية، وأن الغرب هو أوروبا وأمريكا الشمالية بصفة أساسية أيضا (كانت أوروبا تعد وحدها أولا، ثم أضيفت أمريكا الشمالية بعد ذلك) فلنا أن نسأل: هل هنالك صفة مشتركة تجعل آسيا وأفريقيا وحدة ثقافية متميزة وصفة أخرى تجعل أوروبا وأمريكا وحدة لها ما يميزها، إننا لو أردنا الإجابة على هذا السؤال، بناء على تصور أوروبا وأمريكا الشمالية، كما نرى ذلك التصور فيما يكتبونه عن «الشرق» وجدنا صفة «الشرق» تتضمن عندهم - أعني عند الغربيين - مجموعة من صفات التخلف والجهل والفقر، والغدر، والنفاق ... إلخ ، إلى جانب صفة واحدة أخرى تخلو من المعنى السيئ وهي «الرومانسية»، إذ هم يرون في العربي إنسانا يؤثر العيش في أوهام الخيال على العيش في انضباط العقل، وما يتبع ذلك من نظرة علمية، لكننا إذا غضضنا النظر عما يظنه أهل الغرب في «الشرق» وحاولنا أن نجد صفة أو صفات أساسية مشتركة بين قارتي آسيا وأفريقيا، مما يبرر أن تجمعا معا تحت اسم وصفي واحد هو «الشرق» لقلنا إنهما يشتركان في قدم التاريخ الحضاري، وفي أنهما كانا منشأ الديانات عموما، ومهبط الوحي في ديانات الوحي الإلهي إلى أنبياء الله ورسله على وجه الخصوص، فإذا صح هذا عن «الشرق» أضفنا إليه ما عساه ينتج عن هاتين الصفتين من نتائج، وهنا نتعرض للخطأ وللصواب في الوصول إلى تلك النتائج، وكان بين الأخطاء التي وقع فيها أهل الغرب في تصورهم «الشرق» أن صوروا لأنفسهم «دروشة» الشرق ولاعلميته في النظر إلى وقائع الحياة، ضمن نتائج أخرى، وإذا كان تصورهم هذا داعيا إلى العجب، فأعجب منه أننا نحن «الشرقيين» صدقناهم فيما تصوروا، ولم نجد مانعا يمنع بأن نعيش حياتنا اليومية على هذا الأساس، فنقف من «العلم» موقف العداء وننظر إلى دروشة الزهد نظرة العطف والحنين.

ومهما يكن من أمر الحقيقة في هذا كله، فذلك هو ما ارتآه صاحبنا في المرحلة الزمنية التي يتحدث عنها، فجعله هدفا لمقاومته بكل ما وسعه من معرفة بالتاريخ الفكري ومن قدرة على التحليل العقلي، فليقولوا ما شاءوا عن «الشرق»، لكن ثقافة العربي كما شهدها تاريخه لا تدرجه في «الشرق» بهذه المعاني، فقد بنيت ثقافته على رؤية دينية، هذا صحيح، لكن تلك الرؤية الدينية عنده لم ينتج عنها انصراف عن النظرة العلمية، كلا، ولا نتج عنها انصراف عن وجدانية النظر؛ ولذلك جاء العربي ملتقى للقناتين تجتمعان في شخصه على نحو رآه صاحبنا فريدا، إذا قيس إلى أهل الشرق الأقصى من ناحية، وإلى أهل أوروبا ابتداء من اليونان الأقدمين من ناحية أخرى، فبينما يتميز الأولون - بناء على ما نراه في تراثهم القديم - بالنظرة الحدسية، الصوفية إلى الكون وكائناته كما يتميز اليونان الأقدمون، ومن ثم كل الغرب بعد ذلك، بالنظرة المنطقية العلمية إلى حقائق الأشياء، نجد العربي في رؤيته جامعا للطرفين في نظرته وإنه إذ يفعل ذلك، فإنما يفعله بفطرته التي تكونت في وعاء صحراوي، كما شرحنا ذلك في شيء من التفصيل في موضع سابق.

وحسبنا في هذا الموضع من سياق الحديث، أن نوجز القول في هذه الخاصية العربية، فإذا تصورنا نموذجا يوضح طريقة العربي في التفكير، كان هذا النموذج مؤلفا من مقدمة تؤخذ مأخذ التسليم، تنتزع منها نتائجها التي تترتب عليها؛ أما المقدمة: فهي عادة نص لغوي مأخوذ من وحي ديني، أو من موروث بشري مأثور، وأما النتائج: فهي ما تؤديه فاعلية «العقل» عندما تسلط أدواتها على تلك المقدمة وما تنطوي عليه، فإذا نظرت إلى هذا النموذج، وجدته في ذاته نقطة التقاء بين «عقل» و«وجدان»، وهما القناتان الإدراكيتان اللتان اتخذ منهما صاحبنا محورا يقيم حوله وجهة نظره، فالمقدمة في أغلب الحالات مأخوذة من مصدر له علاقة وثيقة بوجدان العربي؛ لأنها يغلب أن تكون - كما أسلفنا - إما نصا من الدين، وإما موروثا مأثورا عن السلف، وكلتا الحالتين وثيقة الصلة بقلب الإنسان وما يحنو عليه، وأما النتائج التي تولد من تلك المقدمة فهي حصيلة عملية عقلية صرف، قد يختلف عليها من أراد أن يختلف بغير حرج، شريطة أن يبين وجه الخطأ الذي يراه قد وقع من طريقة استدلالها.

وعلى هذا الضوء تستطيع أن تراجع الفكر العربي حتى وهو في أزهى عصوره لترى كيف أنه فكر بني معظمه على «مقدمة» أو مقدمات يحيط بها شيء من التقديس أو من التوقير، بحيث لا يسهل على العربي التشكك فيها أو رفضها، ثم تولد النتائج وتنشأ المذاهب وتتشعب الآراء، فيما يستخرجونه من تحليل تلك المقدمة وما تتضمنه، ترى ذلك واضحا عند جماعة المتكلمين (علم «الكلام» هو تحليل طائفة من المعاني التي وردت في كلام الله سبحانه وتعالى) كما تراه واضحا عند عمل الفيلسوف منهم، هو أن يضع بين يديه حقيقتين كبريين: الأصول الإسلامية من جهة، وما ترجموه عن الفلسفة اليونانية من جهة أخرى، ليرى كيف يخلص إلى موقف يجمع بين الطرفين، وانظر إلى هذا العنوان الذي أطلقه ابن رشد على أحد مؤلفاته، وهو: «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال» (والحكمة هنا ومعناها ما قد ورد في فلسفة اليونان) وواضح من هذا العنوان أن هدف المؤلف هو البحث عن مواضع الاتصال بين الشريعة الإسلامية والفلسفة اليونانية، وهو هدف لم يقتصر على ابن رشد وحده، بل يعم الحركة الفكرية كلها، ولو أن المفكرين العرب المحدثين فيما له صلة بالفكر الفلسفي، أرادوا أن يحذوا حذو أسلافهم، مع مراعاة الفوارق بين عصرنا وعصرهم، ليجعلوا هدفهم العام هو البحث عن مواضع الالتقاء بين عقيدة الإسلام وشريعته، من جهة، و«علوم» الغرب في صورتها الراهنة، من جهة أخرى؛ لأنه إذا كان «الغرب» فيما مضى (وهو اليونان) قد أدار حياته الفكرية حول «الفلسفة» فإن غرب اليوم يدير حياته الفكرية حول «العلم» الطبيعي وتقنياته بصفة خاصة، ومثل هذه الوقفة التي تبحث عن صيغة فكرية، تحافظ على عقيدتنا والعناصر الأساسية الأخرى من هويتنا العربية، وتحاول في الوقت نفسه أن تدمج في تلك الصيغة متطلبات الحياة العلمية الجديدة أقول: إن مثل هذه الوقفة هو على وجه الدقة ما يلخص الرؤية الموحدة عند صاحبنا.

وتحقيق هذا الهدف يتطلب أول ما يتطلب أن نكون في حياتنا الثقافية العامة، وفي أجهزتنا التعليمية - نظامية وغير نظامية - على بينة واعية بحقيقة أنفسنا كما تجلت في منجزاتنا على امتداد التاريخ، من ناحية، وعلى بينة بجوهر هذا العصر تحيط بنا أحداثه، ويكون بأحداثنا الخاصة جزءا منه، من ناحية أخرى، لنهتدي في رسم طريقنا، نعمل على أن تجتمع الناحيتان في حياتنا كما نحياها بالفعل وليس كما نرسلها أمنيات فيما نكتبه أو نذيعه، ولنبدأ بالحديث عن المطلب الثاني، وهو إلمامنا بجوهر عصرنا، إذ هو أبعد ما يكون عن الوجود الواضح في أذهاننا، ولقد وقع صاحبنا على أمثلة أثارت دهشته لأقوال نسبت إلى أفراد من ألمع أبناء هذه الأمة ذكاء واطلاعا يتساءلون بها عن المعنى المقصود ب «المعاصرة» التي نطالب بها، كما طالب في واقع الأمر أغلبية غالبية من أعلام نهضتنا الثقافية الحاضرة، منذ رفاعة الطهطاوي، ومرورا بالشيخ محمد عبده، وقاسم أمين، ولطفي السيد، وطه حسين، والعقاد، والدكتور هيكل، وأحمد أمين، وتوفيق الحكيم، وغيرهم، ومع ذلك يتساءل المتسائلون برغم منزلتهم الرفيعة في حياتنا عما نعنيه بالمعاصرة، وتكاد تسمع رنين النبرة الساخرة في سؤالهم حين يقولون: كيف نطالب بالمعاصرة ونحن نحيا في عصرنا بالفعل؟ وإذا لم نكن كذلك ففي أي عصر نحيا إذن؟ ويفوت هؤلاء الأفاضل إدراك بدهية تفرض نفسها، على العقل بلا عناء ولا افتعال، وتلك هي أن معنى «العصر» في هذا السياق، هو الأفكار الأساسية التي يدور حولها النشاط المنتج المؤثر بشتى صوره من علم وفن وسياسة واقتصاد ونظم للحكم وللتعليم، إلى آخر هذه المحاور التي هي مقومات العصر، فليست المسألة هنا مسألة أنفاس يتنفسها الكائن الحي، وطعام يأكله وثوب يرتديه، يوم كذا، من شهر كذا، من السنة الفلانية، فتكفل له أن يحسب على عصره؛ لأن هذه الأمور كلها قد تتحقق لإنسان اتجه بفكره كله وبمشاعره كلها نحو عصر من عصور الماضي ليعيش فيه مع أفكاره وأشعاره وأبطاله، بل المسألة هنا هي بمشاركة العصر الحاضر في «فكرته» التي خلعت عليه سماته المميزة، فلكل عصر «محورية كبرى» تجيء لتحل محل فكرة أخرى كانت لها السيادة، ثم استهلكت واستنفدت أغراضها وظهرت للناس حاجات جديدة استحدثتها الحوادث، ثم ما هي إلا أن تراكمت في حياة هؤلاء الناس، وهم في ظل الفكرة القديمة، بمشكلات فوق مشكلات «تصرخ» كلها في طلب الحل، وهنا تولد «الفكرة الجديدة» لتنمو ويشتد ظهورها حتى تزحزح الفكرة القديمة، فيذهب بذلك عصر، ويجيء مكانه عصر، ليس بمعنى السنين وأعدادها، بل بمعنى نوع المشكلات الحيوية التي تثقل على عواتق الناس ما تريد ليعالجها القادرون.

فما هي «الفكرة» المحورية التي تدور حولها اهتمامات عصرنا هذا وهمومه: إننا نستطيع أن نضع بين أيدينا قائمة طويلة بأفكار، كل فكرة منها تصلح أن يقال عنها إنها محور العصر، فلنا أن نقول: إنها فكرة «التغير المستمر» في مقابل ما كان سائدا من جمود الحياة وركودها، أو إنها فكرة «التقدم» بمعنى أن حاضر الحياة وما سوف يتبعه من مستقبل، له أفضلية على الماضي، فليس «العصر الذهبي» هو ذلك العصر الذي انقضى، بل هو عصر يعمل الإنسان في حاضره تمهيدا ليتحقق عصر ذهبي في مستقبله، أو إنها فكرة «العلم الطبيعي» في صورته التقنية الجديدة؛ لأنه أسرع الوسائل كشفا عن حقائق الكون، وتسخيرا لها في حياة الإنسان، وهكذا، إلا أن هذه الأفكار المتعددة في ظاهرها، إنما هي على الحقيقة أوجه مختلفة لجوهر واحد، ربما نحسن قولا لو جعلناه «حرية» الإنسان، فكل ما أسلفناه من أفكار يصح أن نميز بها عصرنا هذا، تنطوي آخر الأمر على أن تحقق للإنسان «حرية» لم يكن يحلم بها في أي عصر شهده التاريخ فيما مضى.

وما أكثر ما كتبه صاحبنا منذ حمل القلم كاتبا، عن «الحرية» من زواياها المختلفة؛ إدراكا منه لهذه الحقيقة الكبرى، التي هي لب العصر وجوهره، وإنها لحقيقة يعرف عنها كل إنسان شيئا كثيرا أو قليلا، ويطالب بها في حدود إدراكه لمعناها، وذلك لأنها «فكرة» أوسع من البحر المحيط، تبدأ في تصوير الإنسان بداية محدودة ثم لا تعرف لها نهاية بعد ذلك، تكون هي النهاية التي ليس بعدها بعد، فلكل عصر، ولكل شعب، ولكل فرد أن يغترف من بحرها المحيط ما وسعته القدرة أن يغترف، ولئن كانت لجميع «الأفكار» المثالية التي من هذا القبيل هذه الخاصية، وهي أن معانيها «تنمو» مع نمو الوعي، كما ينمو الشجر، إلا أن لكل شجرة حدودا يقف نموها عندها، وأما أمثال هذه «الأفكار» فتظل تنمو مع نمو الوعي إلى غير نهاية معلومة، ومن هنا ندرك كم يخطئ كثيرون منا، عندما يقولون إن «الحرية» وأخواتها ومثيلاتها، قد عرفها السابقون فلا فضل لعصرنا فيها، إذ الذي يمتد وجوده بين السابقين وبيننا، ثم يمتد بيننا وبين من سوف يخلقهم ربهم بعدنا حتى يرث الله الأرض ومن عليها، هو اسم الحرية، وأما مدلول هذا الاسم فيما يمارسه الناس منها، فذلك ما لا يمكن التنبؤ به من الناحية النظرية، فلسنا ندري عن شعب معين مما يعاصرنا ونعاصره من شعوب، كم اتسع مدلول «الحرية» عند أبنائه، إذ أمر ذلك مرهون بواقع معين، يتطلب لمن أراد العلم به أن يجعله موضوع بحث علمي يجربه «على الطبيعة» كما يقولون.

ولمن شاء أن يسأل: وعن أي شيء يبحث الباحث عن مدى ما اتسعت به «الحرية» أو ضاقت عند شعب معين، أو في حياة فرد بذاته؟ إنه سؤال وارد ولا غرابة فيه؛ لأن كثرتنا الكاثرة قد وقفت في إدراكها لمعنى «الحرية» عند المعنى السلبي، إذ الحرية في أذهان أولئك جميعا تحطيم لقيد أو قيود تحول دون أن يتحرك المقيد بها كيفما شاء وأينما شاء، والتحرر السياسي من المستعمر، أو من المحتل الأجنبي، أو من سيادة السيد، أيا كان نوع سيادته، كلها معان وتصورات تندرج تحت الجانب السلبي للحرية؛ لأنها جميعا «تحرر» من قيد، حتى إذا ما تحرر المقيد لا تكون «حريته» بالمعنى الإيجابي لهذه الكلمة قد بدأت بعد، فمن تفك عن قيوده يقال له: لك الآن أن «تفعل» ما شئت، وفي «الفعل» الذي يختار ليؤديه تكون الحرية بمعناها الإيجابي، لكن «الأفعال» التي يجريها فاعلها لتؤدي ما أريد لها أن تؤديه، تستبق بطبيعتها شرطا لا يتحقق لها وجود بدونه، وهو أن يكون الفاعل على «علم» بحقائق الميدان الذي سيجري أفعاله في نطاقه، وبغير هذا «العلم» المسبق يبطل أن تكون الأفعال أفعالا بالمعنى المعقول لهذه الكلمة؛ لأنها ستجيء حتما «خطبا كخبط الثور في مستودع الخزف» كما يقال، أعط للزراع آلة مستحدثة لري الأرض، أو لحرثها، دون أن يكون ذلك الزارع على علم بطريقة استخدامها، تصبح تلك الآلة المجهولة قيدا على حياته جاء ليحل محل قيد قديم تحطم، لكن أعط الآلة نفسها لزارع يعرف كيف يديرها وكيف يصلحها إذا عطبت تزدد بها حريته في زراعة أرضه، فأعظم المعاني التي تفهم بها «الحرية» الإيجابية الفاعلة البناء هو ذلك المعنى الذي يتحقق لها عن طريق العلم بطبيعة الميدان الذي سيمارس الإنسان الحر حريته فيه، فالحرية بمعناها الأسمى هي حرية الذين «يعلمون»، وصدق الله العظيم حين قال:

هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ، كلا إنهم لا يستوون؛ لأن الذين يعلمون أحرار في نطاق ما يعلمونه، والذين لا يعلمون يفتقرون إلى الحرية حتى ولو لم تغل أجسادهم أغلال، وماذا نعني بحرية «الفكر» حين نطالب بها أو نتحدث عنها؟ إننا - بالطبع - لا نعني أن يكون للمفكر الحق في أن يدير فكرة في رأسه؛ لأن ذلك الحق مكفول لمن أراده، لا يستطيع أعتى الجبابرة أن يسلبه ذلك الحق، وكيف يسلبه شيئا يدار داخل جدران الجمجمة، لا يسمعه سمع ولا يبصره بصر، لكن الموقف يتغير من أساسه إذا ما عبرت الفكرة من مكمنها إلى علانية تنشرها بين خلق الله فيقرؤها من يقرأ ويسمعها منطوقة من يسمع ثم يزداد الموقف تغيرا، إذ لم يقنع صاحب الفكرة بنشرها مكتوبة أو مذاعة بالصوت، بل هم بترجمتها إلى «فعل» يجسدها، فهذه - إذن - ثلاث خطوات في حياة الفكرة المعينة هي بمثابة ثلاث درجات نحو «الحرية» بمعناها الإيجابي الفعال: خطوة أولى تكون الفكرة فيها بكماء حبيسة الدماغ في جسم صاحبها، وخطوة ثانية تلتمس الفكرة فيها طريقها إلى العلانية، وخطوة ثالثة تتمثل بها في فعل يحقق وجودها، والمستبدون من الحكام لا يعنيهم أن تنحبس في رءوس المفكرين ما ينحبس من أفكار، وقد يكون منهم من يتسامح في الخطوة الثانية التي تخرج الفكرة من السر إلى الجهر، ما دامت تقف إلى فعل، وأما الخطوة الثالثة التي تحول بها الأفكار من «كلام» إلى «فعل» فهي حقا محك «الحرية» الفكرية إذا اكتمل وجودها.

بهذا المقياس يمكنك أن ترى كم نمت «الحرية» وكم اتسعت آفاقها، وعلت درجاتها بفضل «العلم» الطبيعي في صورته العصرية، التي هي صورة تملؤها التقنيات من حيث هي أجهزة تستخدم في عمليات البحث العلمي، فتبلغ بها من عمق النفاذ ودقة الأرقام ما لم يكن يطوف بخيال السابقين، فكل ما عرفه العلم الطبيعي قبل عصرنا من أجهزة للبحث، تجري بها التجارب وتقاس بها المقادير والأبعاد، لا تزيد إلا قليلا عن لعب الأطفال إذا ما قيست مما هو بين أيدينا اليوم.

ثم لم يقتصر أمر التقنيات على أن تكون وسائل للبحث العلمي، بل جاوزت ذلك الحد لتخرج إلى حياة الناس العملية، تراها الآن في كل كوخ انعزل بصاحبه عن العمران، لكن جهاز الراديو الصغير في يده كفيل وحده بأن يصل الروابط بينه وبين أقطار الكوكب الأرضي جميعا.

وما معنى ذلك فيما يتصل ب «الحرية» التي نتحدث عنها في معناها العظيم؟ معناه أن قد تحول كثير جدا من أهوال الطبيعة التي كانت تخيف الإنسان وترعبه، لتصبح أطوع من مارد القمقم في أساطير الأولين، يخرجه فعل السحر ليؤمر فيطيع، لكنها هي حرية الذين يعلمون دون غيرهم ممن لا يعلمون، اللهم إلا ما يتصدق به أولئك على هؤلاء بما عملوا وما صنعوا، وواضح أنها حرية تتسع أو تضيق ما اتسعت دائرة العلم أو ضاقت، فهل نخطئ إذا قلنا إن الشعوب التي عرفت كيف تحطم قيود المستعمر تحطيما أكسبها التحرر من نير المستبد في عالم السياسة، لكنها مفقودة الحرية أمام مستعمريها السابقين؛ لأنها تركت جمهور الكشف العلمي ينفرد بها سادتهم السابقون، فظلوا سادة بعلومهم وما ينتج عنها من أدوات «الحرية» التي يقهر بها الإنسان ظلمات الكون وأسراره فتضيء نورا وتجهر بعلانية، ويبقى تابع الأمس تابع اليوم، مقيدا بجهالته وحموله، لم ينفعه إلا بالقيل أن أزيلت عن جوارحه أطواق الحديد.

لقد ذكرنا لك فيما ذكرناه، أنه إذا كان أسلافنا أيام مجدهم، قد اختاروا لأنفسهم موقفا فكريا يلتمسون به موقعا يجمع لهم قلبا إلى رأس، أو وجدانا إلى عقل، وأنهم بعد أن نقلوا إلى العربية «حكمة» اليونان، أي فلسفتهم، جعلوا همهم أن يجدوا الصيغة التي تؤاخي بينهما شريعة الدين وحكمة اليونان، فكأنما وضعوا لنا برنامج العمل في يومنا هذا وكل ما في الأمر من تغير، هو أن نضع «العلم» - الذي هو طابع عصرنا - مكان «الحكمة» أو الفلسفة التي كانت طابع اليونان الذين يمثلون «الغرب» عندئذ، فيصبح شعارنا هو أن نبحث عن طريقة يلتحم بها «علم» العصر مع شريعة ديننا، فيكون لنا من الحياة الثقافية ما نريد.

لكننا أضفنا إلى ذلك أن هذه الصيغة المرجوة لا تتحقق لنا، إلا إذا كنا على تصور واضح بطرفين؛ فنلم بحقيقة هذا العصر في جوهره لنعرف ما الذي يراد له أن يلتئم مع الطرف الثاني الذي هو حياتنا نحن كما تريدها لنا عقيدتنا الدينية، ومعها ما قد استقر في الوجدان العربي من قيم، فأما عصرنا فجوهره علم يزيد من حرية الإنسان، وأما موروثنا المأثور في نظرته إلى ذلك العلم وهذه الحرية المترتبة عليه فقد قدمنا عنه من الحديث ما يكفي.

رؤية موحدة «2»

شهدت أعوام الستينيات في حياتنا ما شهدته من أحداث جسام يهتز لها رواسخ الجبال، فكيف بها على شعب في حالة انتقال من نظم اجتماعية بليت إلى نظم أخرى تعلق بها الرجاء في أن ترد للمواطن العادي قيمته وكرامته، بعد أن كانت قيمة الإنسان وكرامته مشروطين بأن يكون ذلك الإنسان من الفئة المحظوظة، ولكن تلك الأحداث بكل جسامتها، بادئة من موجة تأميم اقتصادي غمرت معظم مراكز العمل، حتى أوشكت صورة الحياة دولة وعمالها، لم تترك للفرد المستقل فرصة وجود إلا في حيز ضئيل، إلى حرب سنة 1967م مع إسرائيل وما انتهت إليه من كارثة الهزيمة، وما تبعها من آثار هي أبعد مدى من أن يختزلها قلم في جملة عابرة، وبين رجة التأميم في أعوام الستينيات، ورجة الهزيمة في أواخرها، كانت الحياة الثقافية قد مالت بمعظم ثقلها نحو «السياسة» بالمعنى المباشر لهذه الكلمة وبالمعنى غير المباشر معا، بحيث أخذت الأصوات وأصداؤها تدوي بعبارات وكلمات تحمل إلى أذن السامعين روح المذهبية السياسية قبل أن تصل معانيها إلى العقول لتتدبر في رؤية وتحكم، فامتلأ جو سمائنا ب «اليمين واليسار» و«الصراع الطبقي» و«الكادح المطحون» و«سيادة اليد العاملة» وما إلى ذلك، فأحس صاحبنا إزاء هذا كله بكثير من القلق؛ لأنه رأى في مجمل الموقف - من الزاوية الثقافية - تبعية الثقافة للسياسة، وكان الصواب عنده دائما هو أن تكون الريادة للثقافة، ثم تجيء السياسة وغير السياسة فروعا لها، والفرق بين الحالتين قد لا يظهر لكثيرين، لكنه فرق يستحق وقفة متأنية ليتبين وجه الحق.

كان صاحبنا، وما زال وسيبقى على رأي يراه ولا يتصور سواه، وهو أن الحياة السوية للشعب، وللفرد الواحد على حد سواء، تقتضي أسبقية «الفكرة» على تنفيذها، وإنه لضرب من الاحتجاج على «العقل»، ومن التنكر للفطرة السليمة أن يروج المروجون لعكس هذا الترتيب المنطقي لخطوات السير، فالفكرة من الأفكار لا تكون شيئا على الإطلاق إن لم تكن في حقيقتها خطة عمل، وتظل تلك الخطة «نظرية» ما دامت في ذهن حاملها ثم تتحول لتصبح «عملية» عند تطبيقها، وإذا كان ذلك كذلك، لم يعد أمامنا موضع للشك، في أننا إذ ما وسعنا نطاق الحديث فجعلنا الفكرة الواحدة مجموعة أفكار متشابكة الأطراف في شجرة واحدة، ثم أضفنا إلى شجرة الفكر ما قد يتصل به من مبدعات الفن والأدب، بل أضفنا كذلك إلى هذا وذاك حياة العلم، والتعليم والإعلام لنجعل من كل هذه الجوانب حياة واحدة هي التي أشرنا إليها باسم «الحقيقة الثقافية»، لم يكن لنا بد من القول بأن الترتيب الطبيعي للأمور، هو أن يتشرب الشعب روح تلك الحياة فيتولد له من ذلك «رؤية» «معينة»، على أساسها ينشط الأفراد بما ينشطون به، وعلى أساسها كذلك تبنى أحكامهم بالصواب وبالخطأ على أقوال الناس وأفعالهم، وما «السياسة» وأصحابها وما يختلفون عليه من مذاهبها إلا جزء مما تنتجه الحياة الثقافية على نحو ما انطبعت به قلوب المواطنين وعقولهم، بل إن الاختلاف حول المذاهب السياسية ذاته لا يكون عندئذ إلا اختلافا على «الوسائل» المؤدية إلى تحقيق «الرؤية» الثقافية كما يحياها المواطنون.

فإذا رأينا حياة انعكس فيها ترتيب المراحل، بحيث أملى رجل السياسة مستلهما ما قد اختاره لنفسه من مذاهب السياسة على مبدعي الثقافة بمختلف فروعها ما ينبغي لهم أن يتجهوا بإبداعهم إليه، علمنا أن في الأمر خللا جعل التابع متبوعا والمتبوع تابعا.

وكانت هذه هي الصورة كما تصورها صاحبنا لحياتنا خلال الستينيات، وحدث في منتصف ذلك العقد من السنين، أن عرضت عليه وزارة الثقافة أن تنشئ باسمها مجلة تعنى ب «الفكر»، فلم يتردد في القبول، وأطلق من فوره الاسم على الوليد قبل ولادته، وهو أن يكون اسم المجلة الجديدة «مجلة الفكر المعاصر»، وبينما هو في سبيل إعداده لظهورها نشر أول إعلان عنها في الصحف قائلا عنها إنها لا تفرق بين يمين ويسار في عالم الفكر، إذ هي تسعى إلى إيجاد فاعلية فكرية حرة لا تفرض عليها فروض مسبقة، وإلا زالت عن «الفكر» الصحيح أخص خصائصه، وذلك أنه يهدي، وإذا رأيناه اهتدى بغيره، فإنما يهتدي بالوسائل التي تمكنه من سداد الخطى نحو نتائج يضمن لها أكبر قدر من الصواب.

وصدرت مجلة الفكر المعاصر أول عام 1965م، والتزمت نهجها، وكان من أبرز ما عني صاحبنا فيما كتبه هو من مقالات، تحليلات مستفيضة لأفكار يكثر ترددها حوله، فيحس هو إزاءها بدرجة من غموض معانيها ما لا يتفق مع أهميتها في الجهاز الفكري العام، فيتولاها بتلك التحليلات ليفهم هو أولا ماذا يمكن أن تحمله في جوفها من مضمونات ليعرضها على «العقل» عرضا واضحا، فالوضوح الفكري هو حجر الزاوية في أي عصر يراد له أن يكون عصر تنوير ونور.

وضوح الأفكار المتداولة بين الناس شرط أساسي لتحقيق الوحدة التي تجعل منهم أمة واحدة أو شعبا واحدا، هذه حقيقة مكفول لها القبول من ذوي الشأن جميعا، لكن المشكلة في هذا الصدد هي أن تجد أكثرية عظمى من أبناء الشعوب التي لم تظفر بقدر كاف من التنوير بالتعليم والتوعية، تقيم حياتها على أفكار ترددها بالشفاه، وكأنها مفهومة لهم فهما واضحا، فإذا ما اختبرتهم وجدتهم لا يحيطون منها إلا بإيقاع أسمائها في مسامعهم وهم لا يشعرون، ومن هنا سهل على من أراد أن يتحكم في أمثال هذه الجماعات أن يفرض سلطانه بأيسر السبل فيكفيه شيء من الجرأة على الحق، يضاف إلى شيء من طلاقة اللسان، يرسل بها في الجماهير عقودا منضودة من كلمات يحسن وقعها على النفوس، فإذا بالرجل يقبض على الزمام، وإذا بالجماهير تهتف له هتافات تشق الحناجر، ثم ما هو إلا وقت يمضي حتى يتبين لمن يهمه أن يتبين أن تلك الكلمات بقيت على حالها كلمات لم يتحول شيء منها إلى فعل يحقق الأحلام، لماذا؟ ليس ذلك لأن الحاكم لا يريد لشعبه الحسنى، بل هو يريدها، لكن الأفكار التي كانت تلك الكلمات قد جاءت لتعنيها، لم تكن واضحة له كل الوضوح، إذ هو بدوره قد نقلها عن غيره قراءة أو استماعا، فأخذت بلبه وأراد بكل نية حسنة - ربما - أن يشيعها في قومه؛ تمهيدا لتحويلها إلى حركات قومية تغير من وجه الحياة التي يعيشها الناس، فلما جلس على كرسي الحكم، وهم بالعمل، لم يدر ماذا هو فاعل تحقيقا لأمله وآمال أمته، فالفكرة الواضحة في ذهن صاحبها هي وحدها التي تسهل ترجمتها إلى فعل محدد؛ لأنها بطبيعتها تماثل خطة رسمت بدقة، بحيث يستطيع المكلفون بتنفيذها أن يخرجوها إلى واقع ملموس يتسم بالدقة نفسها، التي كانت في الخطة المرسومة، وانظر إلى مهندس العمارة كيف يفرغ من مطبوعاته الزرقاء، التي يصور بها ما قد أراد تنفيذها في البناء المعتزم إقامته، ويسلم رسومه إلى مقاول التنفيذ، فلا يتعذر عليه أن يجسد الخطة في عمارة، ومثل هذه العلاقة التماثلية هو نفسه ما نطلب تحقيقه في العلاقة بين «فكرة» معينة وتطبيقها، فبمقدار وضوحها ودقتها يكون انضباط التطبيق ودقته.

إن المناخ الثقافي الذي يلف القوم ليتأسوه في حياتهم عقائد ومذاهب وطقوسا ونظما اجتماعية، ليس ترفا من الترف الذي لا يختلف الأمر فيه كثيرا أن يقوم أو يقعد أو يزول، بل هو - آخر الأمر - أداة للعيش، إذن فلا بد للأداة أن تفعل فعلها في وصول الناس إلى ما يبتغون الوصول إليه؛ وعلى ذلك فالمعول في قبول ثقافة بعينها أو في رفضها، هو قدرتها على تحقيق الغاية التي يتعلق الجمهور بتحقيقها، شأنها في ذلك شأن كل أداة؛ فمفتاح الباب لا يكون مفتاحا لمجرد كونه قد أخذ شكل المفتاح بل لا بد له أن يفتح الباب المغلق ليستحق اسمه هذا، وكذلك قل في مركب ثقافي يراد للشعب أن يمارس حياته العملية في ثناياه وحناياه يستمد أفراده منه معايير الحكم على الأشياء والأحياء والمواقف بالقبول أو بالرفض، فليس قدره مرهونا بحب الناس له أو عطفهم عليه لأسباب تاريخية أحيانا ولأسباب دعائية أحيانا أخرى، بل إن قدره هو نفسه مقدار صلاحيته للارتفاع بشأن من يحبونه حتى يصبحوا أخلص إيمانا، وأوسع علما وأمضى إرادة، وأوفر ثراء، وأصح نفوسا وأبدانا، وأوثق مؤاخاة بين إنسان وإنسان.

ولا يتحقق للمركب الثقافي أداء هذا كله، إلا إذا توافرت له شروط الفاعلية التي من أهم أركانها وضوح الأفكار وبصفة خاصة تلك الأفكار المحورية التي تدار عليها عجلات الحياة الاجتماعية، كالوطنية، والانتماء والتقدم، والحرية والعدالة والتعاون ... إلخ ولا عجب - إذن - أن نجد أعلاما من أعظم من عرف تاريخ الفكر البشري، توجهوا بعمايتهم نحو تدقيق النظر في «وضوح الفكر» ماذا عساه يعني على وجه اليقين (أو ما يقرب من ذلك إذا تعذر اليقين)؟ كان من هؤلاء الأعلام سقراط في اليونان القديمة، وكان منهم ديكارت في مشارف النهضة الأوروبية التي أخرجت الغرب من عصوره الوسطى لتدخله في تاريخه الحديث، وربما كانت تلك الدعوة الحريصة على استيفاء الوضوح للحياة الفكرية من أدل المؤشرات على الرغبة الشديدة في أن تقام للفكر العلمي دولته؛ إذ لا تقدم لحضارة بغيره مهما يكن من قدر العناصر الضرورية الأخرى في مقومات البناء الحضاري.

وقد يختلف فلاسفة المنهج العلمي في الطريقة المثلى لتوضيح الأفكار، فقد كانت الطريقة عند سقراط مقارنة الأقوال المختلفة عن الفكرة المراد توضيحها للبحث عما يمكن أن يكون منطويا في تضاعيفها من تناقض داخلي بين عناصرها، فإن وجد مثل هذا التناقض رفض القول لبطلانه، وذلك فضلا عن محاولته رد الفكرة إلى المبدأ العام الذي هي فرع تولد عنه، وبعبارة مختصرة كانت طريقته هي نفسها طريقة الرياضي إذا أراد البرهنة على صحة جملة رياضية معينة، لا كمعادلة في الحساب، أو نتيجة من نتائج الاستدلال في الهندسة، إذ يجب أن تكون خالية من التناقض بين أجزائها كما يجب ردها إلى الأصول التي استدلت منها، للتأكد من سلامة الاستدلال، وأما ديكارت فكانت طريقته هي أن تكون الفكرة الواضحة مما يمكن إدراك صحته إدراكا باطنيا مباشرا، كإدراك الإنسان لوجود ذاته، ومن هنا تبدأ عملية الاستدلال، فتكون كل نتيجة متنوعة من الفكرة الأولية صحيحة كصحة الأصل الذي تولدت عنه.

ولا نترك هذا السياق قبل أن نشير إشارة سريعة إلى أن طريقة المحدثين والمعاصرين في البحث عن وضوح الأفكار مختلفة عن طرائق القدماء في جوانب جوهرية، من أهمها أن القدماء كانوا ينظرون إلى المدرك العقلي المعين - كقولنا «تقوى» أو «وجود» - على أنه حقيقة قائمة بذاتها يمكن وصفها بالوضوح أو الغموض، في حين أن هاتين الصفتين لا تعنيان شيئا إلا إذا كان الموصوف بهما جملة كاملة التكوين، وإذا قلنا «جملة» فقد قلنا عدة أطراف وما يربطها من علاقات، خذ مفهوم «الحرية» - مثلا - فلا يؤدي بك إطالة النظر في هذا اللفظ إلى شيء ينفع، لكن ابدأ بوضع اللفظ في جملة تحتويه (فمثلا): كان زعماء الثورة يدعون إلى حرية اجتماعية.

فها هنا يصبح واجبا على من أراد ضبط المعنى، أن يسأل بالتفصيل عن الأنماط الحياتية التي كانوا يدعون إلى إقامتها للنظر في عناصرها وطريقة بنائها، وهل تشترك جميع هذه الأنماط في مبدأ واحد مشترك ما دامت قد انطوت كلها تحت عنوان الحرية الاجتماعية، وفي تحليل تلك الأنماط المقترحة، ومراجعتها على الواقع التطبيقي، تظهر صحتها أو عدم صحتها؛ لأن مثل ذلك التحليل والمراجعة هو ما يجعلها «واضحة».

أنكون قد أطلنا الحديث عن وضوح الأفكار وما يعنيه؟ كلا؛ لأن مجموعة الأفكار المتداولة بين من يعنيهم الأمر، في عصر معين، إنما هي بمثابة لغة مشتركة يتم بها التفاهم بين الأفراد أو لا يتم، فإذا كانت أفكار «الحرية الاجتماعية» و«الديمقراطية» و«العدل» و«الطبقية» و«البرجوازية» و«سيادة الجماهير» ... إلخ شائعة على الأقلام - كما كانت خلال الستينيات - فإذا لم تكن معانيها «واضحة» على صورة يشترك فيها الكاتب والقارئ أو المتكلم والسامع نتج لنا مجتمع من الصم يقول المتكلم ما لا يسمعه الطرف الآخر، ومع ذلك يجيب هذا الطرف الآخر بما يجيب به، وهكذا يدور الحوار بين اثنين اعتصم كل منهما ببرج مغلق، ولقد كان صاحبنا يومئذ على شك يساوره بأن يكون ثمة تفاهم بالمعنى الصحيح بين الأفراد فيما يقولون ويكتبون، وفيم العجب وقد كانت هذه الحالة من «اللاتفاهم» هي المناخ السائد في العالم كله، ففي هيئة الأمم المتحدة لم تكن الأمم المتحدة، برغم استخدام أعضائها جميعا لقيم وأهداف مشتركة بينهم في اللفظ، وإلا فمن ذا الذي يعلن بأنه عدو للديمقراطية، أو للحرية أو لحق تقرير المصير للشعوب؟! حتى إذا ما جاء دور التطبيق الفعلي على ما هو قائم على الأرض، وجدنا الطاغية الذي يطغى باسم الحرية، والعنصري الذي يدعو إلى التفرقة باسم الديمقراطية، وهكذا ومن هنا نشأ في عصرنا هذا ما يسمى بأدب العبث، أو أدب اللامعقول كما أسميناه في بلادنا، وهو أدب يدور حول محور اللاتفاهم بين أطراف الحديث.

لكن ما الذي أردناه بهذا الذي عرضناه، في حديث نجريه عن الرؤية الموحدة التي تكاملت لصاحبنا منذ أن بدأ الزمن رحلته في عقد الستينيات؟ الذي أردناه متصل بجانب أساسي في تلك الرؤية الموحدة، وهو وجوب المشاركة بين أفراد الأمة الواحدة في العصر المعين، في «هدف» واحد، ليكون الاختلاف بين الأفراد بعد ذلك مقصورا على الوسائل المقترحة لتحقيق ذلك الهدف، على أن هذا الذي رآه صاحبنا شرطا لا مفر منه لإقامة حياة ثقافية سوية هو أبعد ما يكون عن الحالة الواقعة، فقد كنا يومئذ - وما زلنا - من الناحية الثقافية عدة شعوب في شعب واحد، ثم تزداد الصورة تمزقا إذا ألقينا نظرة إلى الأمة العربية وشعوبها، ويكفي أن نقول إننا لم نتفق على متجه نتجه إليه: أنتجه نحو الماضي لنعيده حيا من جديد؟ أم نتجه نحو حاضر عصري نهتدي به إلى صورة مستقبلية مشرقة؟ أنتجه في السياسة والاقتصاد نحو ما يسمونه يمينا أم نحو ما يسمونه يسارا؟ وإذا كان هذا ذاك فماذا يا ترى يعني «اليمين» أو «اليسار» في تفصيلاته، هل يضمن مجرد الاسم بيان مسماه؟ ومن هم الأصلح لتولي زمام الحكم من بين فئات المجتمع؟ وهكذا وهكذا كانت الأسئلة مطروحة في الجو الثقافي، إما لتجد الأجوبة الصريحة عند القادرين على الجواب، وإما ليجوز إعلان بعضها وليمتنع ظهور بعضها الآخر، لكن الذي يعنينا من هذا كله أن حياتنا الثقافية افتقدت وحدة الغاية، فاستحال عليها السير في متجه يوحدها ويجمع روافدها في نهر عظيم واحد.

إن وحدة الهدف هي التي تميز العصر المعين بأبرز ما يميزه من سمات ليمكن وصفه بأنه عصر العقل، أو عصر الإيمان، أو عصر التنوير، وغير ذلك مما ألفناه في التفرقة بين عصور التاريخ، وإذا ما تحقق للشعب إجماعه على هدف، رأيت فروع الإبداع الثقافي قد اتجهت كلها في اتجاه واحد كل منها بوسيلته الوسيطة، فهذه موسيقى وألحانها، وهذا أدب وكلماته، وذلك تصوير وألوانه وهكذا، لكن هذه الوسائل الوسيطة على بعد ما بينها يمكن أن تتشابه كلها تشابه «النظائر»، كالتشابه الذي يكون بين دوران القمر حول الأرض وحركة المد والجزر في البحار والمحيطات، فكلتا الظاهرتين - وبرغم الاختلاف البعيد بينهما في طبيعة كل منهما - متشابهتان في كونهما معا نتيجة «الجاذبية»، فبفعل جذب الأرض للقمر يدور حولها كما يدور، وبفعل جذب القمر لماء البحار والمحيطات يرتفع الماء مدا ثم ينحسر جزرا، فإلى أي حد - يا ترى - يوجد مثل هذا التشابه بين مبدعاتنا في الفن وفي الأدب وفي الفكر وفي التعليم وفي السياسة وفي الاقتصاد؟ إنه لو كان بين هذه الفروع في حياتنا تشابه يذكر لما شهدنا كل فرع ينتقل على أيدي مبدعيه من النقيض إلى النقيض بين عشية وضحاها، فالأمر - فيما يبدو - مرهون عندنا بأفراد وما يتقبلون به في أمزجتهم كما يشاء لهم الهوى أكثر منه ارتباطا بأمة متجانسة وهدفها الواحد، ومن أجل هذا جاء حديثنا الذي أسلفناه عن وضوح الأفكار وأهميته في إقامة الحدود التي تحدد المعاني وتقيم بالفواصل الفارقة بين ما اختلف منها، لنكون جميعا على بينة بما نريده بالقول وما نقصد إليه من عمل.

والتزام الشعب بهدف واحد، يكون بمثابة الأمل المرتجى عند الجماهير وبمثابة البوصلة المنظمة لاتجاه السير عند المبدعين وسائر المشتغلين في شتى الميادين، لا يتنافى مع تعدد الآراء واختلاف وجهات النظر، فحقيقة الأمر في ذلك - كما يصورها صاحبنا ذات يوم - تشبه أن يجلس جماعة من الرسامين حول مائدة مستديرة وضع عليها تمثال وطلب إليهم أن يرسموه، فها هنا يتحد الرسامون في الهدف، لكنهم بطبيعة الحال يختلفون في زوايا المنظور، فلكل منهم زاويته التي ينظر منها، اللهم إلا إذا شذ أحدهم وأبى إلا أن يجلس وظهره إلى المائدة فلا تمثال أمام بصره ليرسمه، وقد يختار لنفسه شيئا آخر مما يقع عليه بصره، ومثل هذا الاختلاف الأساسي هو بالفعل ما يسود حياتنا الفكرية؛ إذ لو كان بعضنا يوجه نظره نحو الحاضر ومشكلاته ونحو المستقبل الذي يراد لهذا الحاجز أن يمهد له، فإن بعضنا الآخر يدير ظهره لهذا الحاضر وما يؤدي إليه ليوجه البصر نحو صور من الحياة ذهب زمانها.

وليس تشبيه الوقفة المطلوبة بجماعة الرسامين حول ما يراد لهم أن يرسموه، وبذلك فهم يشتركون في الهدف ويختلفون في وجهة النظر (بالمعنى الحرفي لهذه العبارة) أقول: ليس هذا التشبيه بعيدا عن حقيقة ما نطالب به للحياة الثقافية؛ إذ كيف يتاح لنا أن نتصور الهدف المطلوب إلا إذا جسدناه لأنفسنا في صورة واضحة السمات والقسمات والحدود، إننا لو تركنا فكرة الهدف مجردة بغير قسمات وملامح تحدد بعض تفصيلاتها لتعذر على الذهن وعلى الخيال معا، أن يتبينا الهدف الذي يراد استحداثه ليتحقق وجوده بعد أن كان أملا يرتجى، ومهما يكن من أمر الهدف المنشود فهو بالضرورة أمل يتضمن تصورا معينا للمواطن كيف نريد له أن يكون؟ والشأن في ذلك لا يختلف كثيرا عن شأن والد يحلم لوالده أن تنتهي به التربية إلى أن يكون طبيبا مثل فلان، أو مهندسا أو ما شاء لولده، وهكذا الحال بالنسبة إلينا إذا ما حلمنا لأمتنا أن تجيء مواطنوها في المستقبل المأمول بحيث يتحقق في أشخاصهم كذا وكذا من الشمائل والصفات، وهنا حقا ينشأ السؤال الصعب الذي قد طرح نفسه علينا بالفعل منذ أوائل القرن الماضي وتفرقنا - وما زلنا متفرقين - في الإجابة، فالصورة المرجوة عند بعضنا، كما أسماها، هي أن نعد شخصيات أسلافنا لتسكن جلودنا، وهي عند بعضنا الآخر أن نحاكي أبناء العرب ما استطعنا، ثم هي عند جماعة ثالثة أن ننشئ مواطنا عربيا جديدا، لا يحاكي الأولين ولا يحاكي الآخرين ولا يحاكي أحدا؛ لأن مجرد المحاكاة تتضمن نسخا لوجودنا الخاص، وهو وجود يتمنى له هذا الفريق الثالث أن يعمل على ديمومة الهوية العربية في أخص خصائصها، التي هي أن تستلهم الوحي، وأن تجعل الأولوية للخلود على الزوال، وأن تقرأ الكون قراءة من يكشف قوانينه، شريطة أن يكون التطبيق لتلك القوانين العلمية على شئون الإنسان مكوما بضوابط الأخلاق، وغير ذلك مما أسهمنا فيه القول في مناسبات كثيرة سلفت، وكان صاحبنا من هذا الفريق الثالث، بل أفاض فيه القول والتحليل إفاضة جاوز بها عشرين كتابا معا جعله غير مسبوق في أنصار الفريق الثالث بنظير ينافسه، على أن صورة المواطن العربي الجديد لا ينبغي لها أن تقف عند ديمومة الهوية العربية في عناصرها الأساسية، وإلا فلا جديد، بل لا بد لها من إضافة تغرسها في تلك الهوية غرسا لتنمو شخصية العربي مع الزمن، وهي إضافة تمكن العربي المعاصر من مشاركة عصره همومه وآماله، فمجرد مواجهة العصر لا يكفي، بل هي مشاركة إيجابية في إقامة بنيانه وفي تخليصه مما قد شابه أو يشوبه من نكسات، هو ما يحلم به صاحبنا مع سائر أقرانه من أعلام الفريق الثالث منذ رفاعة الطهطاوي وإلى يومنا هذا.

ولم يكن صاحبنا ينظر إلى استحداث المواطن العربي الجديد نظرته إلى أحلام البطالة التي يسترسل بها الحالم استرسالا حرا غير مقيد بواقع يحدده، شأن من يطمع في نيل المطالب بالتمني، بل كان الأمر عنده مرهونا بتربية وتعليم وتثقيف على منهج يؤدي إلى إخراج المواطن الجديد، لقد قال الفيلسوف الفرنسي «لليبنتز» (القرن 17) ذات يوم لأميره ما معناه: «سلمني قياد التربية جيلا واحدا من الزمان أغير لك وجه الحياة.» وقد أصاب القول إلى حد كبير، وربما كان استخراج المواطن الجديد ضربا من أحلام لو أن الخاصة الثقافية التاريخية للعربي، فيها ما يستعصى على هذا التحول، لكن حقيقة الأمر غير ذلك، فالثقافة العربية التقليدية - كما أسلفنا القول مرارا - منطوية على نظرة مرغبة من جانب إيماني يتمثل في مقدمات بين يديه وهو يفكر، ومن جانب علمي يعمل به على إجراء عمليات استدلالية يلتزم فيها منطق العقل، ولسنا نطالب العربي الذي يبقى على هويته التاريخية، ثم يضيف إليها ما يعاصر به حاضره الراهن بأكثر من استخدامه لهذين الجانبين في شخصيته.

كان صاحبنا ينظر إلى مكونات الشخصية العربية نظرة والد سقراط كلما أراد أن ينحت قطعة من المرمر ليشكلها على أية صورة أراد، وقد سأله ابنه سقراط مرة، بعد أن وقف برهة ينظر إلى أبيه وهو ينحت المرمر ليخرج منه تمثال أسد: على أي اساس يا أبت تضرب الإزميل في الحجر ليخرج لك منه الأسد الذي أردت إخراجه؟ فأجابه أبوه قائلا: إني أرى بعين الخيال ذلك الأسد رابضا داخل الحجر، فأضرب الإزميل ضربات تشتد أو تضعف مهتديا بالصورة التي يراها خيالي كامنة.

وعلى هذا النهج نفسه ينظر صاحبنا إلى خواص النفس العربية فيرى كامنا في ثناياها ذلك المواطن العربي الجديد الذي يوقظ كوامن فطرته، فإذا هو أمام عربي جاء استمرارا لآبائه في وقفتهم الدينية العلمية من الكون، وجزءا حيا نشيطا فعالا في حضارة عصره الراهن، مزودا بكلتا خاصيتيه من دين وعلم.

رؤية موحدة «3»

وقعت الواقعة في اليوم الخامس من شهر يونيو سنة 1967، فأصابنا الذهول ولم نكد نصدق ما وقع، لكننا شعب لم يولد بالأمس، بل هو الشعب الذي شهد مطلع الفجر من تاريخ الإنسان وهو يقيم للحضارة قوائمها، فإذا لم يكن هذا الشعب العريق قد تعلم من تاريخه إلا درسا واحدا، فذلك الدرس هو أن يعرف كيف يسرع إلى الوقوف على قدميه إذا كبا، وذلك ما قد كان بعد الهزيمة، إذ ارتد كل فرد إلى نفسه يسائلها أين كان موضع الخطأ؟ ثم ما هو أهم من ذلك: كيف يستقيم بنا السير من هنا والآن؟ وبالطبع كان لكل منا جوابه الخاص الذي يتلاءم مع طبيعة موقعه وما يؤديه، وما موقف الأمة من حيث هي أسرة كبرى، في أمثال هذه الظروف التاريخية، إلا حاصل جمع الأفراد من أبنائها الراشدين، كيف يفكرون وماذا يصنعون.

وصاحبنا فرد من هؤلاء الأفراد، صناعته التعليم داخل أسوار الجامعة، لكنه دأب منذ شبابه الباكر، على أن يضيف إلى واجبه في قاعات التدريس، واجبا آخر يشارك به في الحركة الثقافية خارج تلك الأسوار، ومع ذلك فلم تكن الشقة بعيدة بين ما يؤديه داخل الأسوار وما يضطلع به خارجها؛ لأنه إذا كان التعليم مهنته، فالتثقيف مشغلته، وبين التعليم والتثقيف صلة كصلة الرحم التي تربط الشقيقين، لا سيما وموضوعه الذي تعلمه ويعلمه، ضارب في بنية الفكر من نهايات فروعها العليا إلى أطراف جذورها السفلى، وتلك هي طبيعة الدراسة الفلسفية.

وكان أول ما تبادر إلى ذهنه، عند محاسبة النفس يوم الهول والذهول هو أن يتدبر الصلة بين رجل الفكر من جهة، ومشكلات الحياة العملية من جهة أخرى، وقد لا يرد سؤال كهذا على طبيب، أو مهندس، أو قاض، أو أحد غير هؤلاء، ممن ترتبط تخصصاتهم العلمية ارتباطا وثيقا بما يضطلعون به من أوجه النشاط العملي، فالطبيب يطب للمرضى، والمهندس يهندس المدائن والعمائر والطرق والجسور، والقاضي يفض منازعات المواطنين بما يقضي به القانون، وهكذا، أما رجل الفكر «المجرد» فيثير الحيرة عند من لا يعلمون إلا قليلا عن طبيعة ذلك الفكر وصلته بالواقع الذي يحياه الناس، في البيت، والمتجر، والمزرعة، والمصنع، والمعمل، والمحكمة ... فإذا قلنا لهؤلاء إن رجل الفكر المجرد قد ساءل نفسه صبيحة يوم الهول والهزيمة، قائلا لها: ماذا أنت يا نفس صانعة منذ اليوم، حتى يتلاءم جهدك مع ما تقتضيه الرغبة في نهوض الأمة بعد كبوتها؟ فربما همس بعضهم لبعض: ما يمكن أن يؤديه رجل كهذا ينسج أثوابه من خيوط هوائية، إذا هي صلحت لطبقات الجو العليا، فهي لا تصلح للمسة الواقع فوق هذه الأرض؟

ولقد فات هؤلاء أن الجبل مهما ارتفع ليشق بذروته أعلى السحاب، فسوف تظل الروابط موصولة بين ذروة الجبل وسفوحه، ينزل ساكن الذروة إلى السفح كلما أراد، أو يصعد ساكن السفح إذا شاء واستطاع، وماذا صنع الفلاسفة على امتداد التاريخ؟ إنهم لم يكونوا يمضغون الهواء، أو يغزلون خيوطهم من أشعة القمر، بل كان كل منهم في عصره يقف في قلب الواقع الحي ومشكلاته من رأسه إلى القدمين، حتى وإن لم تكن وقفته تلك كوقفة الحداد من الحديد يطرقه، أو النجار من الخشب ينجره، ولكنه يغوص وراء المعالجة المباشرة التي يعالج بها الحداد حديده والنجار خشبه، وكل ذي مهنة خامة مهنته، حتى يقع على أطراف الخيوط الخافية عن الأعين والتي يحركها ما يحركها، فتنشأ عن حركتها تلك الأسطح الظاهرة التي يراها الناس، ألم نكن منذ برهة نتحدث عن هزيمة أمة بأسرها؟ فما الذي صنع الهزيمة؟ ابحث عنه ما شئت في ظواهر الحياة كما تراها الأبصار أو تسمعها الآذان، ولن تجد ما يجيبك عن سؤالك، اللهم إلا القليل؛ لأن الجواب كامن هناك في الخبء المستور، ويحتاج إلى خبير يعرف كيف ينفذ خلال الظواهر الظاهرة ليصل إلى رءوسها المستترة المضمرة، فعواطف الناس وأفكارهم وأعمالهم ومعاملاتهم، هي كالنبات في الحقل، يكشف لك عن سيقانه وأوراقه وثماره، لكنه لا يكشف عن جذوره الدقيقة في تربة الأرض، والتي هي مصدر ريه وغذائه.

وانظر إلى الناس من حولك، وهم في خضم أوجه نشاطهم، فماذا ترى؟ هنالك علماء اختلفت ميادينهم، قد لا يقفون ليسألوا عن مناهجهم التي ينتهجونها في عملهم، لأنهم دربوا على إجرائها تدريبا يصرف أنظارهم عما قد يكون مبثوثا فيها من خلل يعرضهم للخطأ، إلى أن يقيض الله منهم واحدا، يأخذه القلق، فينصرف إلى إعادة النظر في ذلك النهج الذي مارسه حتى ألفه ، وها هنا قد يقع فيه على خلل كان السبب في بطء المسيرة العلمية وقصورها؟ فيعلنه على الملأ، وما هي إلا فترة تمضي حتى يستقيم المعوج في طريق البحث العلمي، وأما ذلك الزميل الذي كشف لهم عن الخبء، فيطلق عليه اسم «الفيلسوف»! وربما يدهش القارئ إذا علم بأن «الرياضة» التي عرفت طوال العصور بدقتها البالغة، قد تعرضت في القرن الماضي وأوائل هذا القرن، لنفر قليل من كبار علمائها، دب في نفوسهم قلق لما أدركوه من تناقض في الأسس التي تقام عليها عمارة العلم الرياضي، وما إن تبين صدق زعمهم حتى تحول طريق الفكر الرياضي في متجه جديد، هو الذي أثمر لنا ما أثمره، وكان من ألمع الأسماء في هذا السبيل، برتراند رسل من إنجلترا، و«فريجه» من ألمانيا، وقد شاء لهما الله أن يلتقيا لأول مرة في مؤتمر عقده علماء الرياضة في أوروبا في أوائل هذا القرن (وفي أواخر القرن الماضي) ليتبين أنهما قد كشفا عن شروخ في ذلك البناء العلمي، كل منهما مستقلا عن زميله، فرصدهما سجل الفلسفة فيلسوفين رائدين في هذا الميدان.

وكان الرأي على ما يقرب من الإجماع، في مجال العلوم الطبيعية، بأن قوانين هذه العلوم مقطوع بيقينها يقينا لا يختل مقدار شعرة هنا أو هناك إلى أن شاء الله للناس، أن يخرج من صفوف علماء الطبيعة أنفسهم، من يغوصون إلى أغوار أعمق، فإذا بأحدهم (هو هيزنبرج) يلمح في سلوك الكهارب داخل الذرة ما يستوقف النظر، وهو الإلكترون يقفز من فلك إلى فلك آخر قفزات لا يمكن التنبؤ بها قبل وقوعها، وإن قفزاته تلك تحدث في لا مكان، ولا زمان، ومعنى ذلك أنه جزء من الطبيعة «حر» حرية مطلقة، فإذا أراد العلم استخراج قوانين سلوكه، فعليه بالمتوسطات الإحصائية، وقد أخذت هذه اللفتة الجديدة تتسع في نطاقها، حتى باتت قوانين العلوم الطبيعية في حقيقتها إحصائية الطابع، احتمالية الصواب، وقد كانت لأحد الكبار المشتغلين بمناهج العلوم ملاحظة طريفة في هذا الصدد، وهي أنه بعدما كانت العلوم الاجتماعية تحاول محاكاة العلوم الطبيعية في وصولها إلى قوانين مطلقة الصواب، بدل اقتناعها بما هو إحصائي احتمالي، انعكس الوضع حين تبين أن الطابع الإحصائي الاحتمالي هو غاية المطاف، ولم يكن أمام السجل الفلسفي إلا أن يثبت في زمرة الفلاسفة أولئك الذين تعمقوا النظر في طبيعة التفكير العلمي، حتى وصلوا إلى نتائج غيرت مجرى التاريخ بالنسبة إلى ذلك الضرب من ضروب التفكير.

وهنا قد يقول لنا قائل: إنك حتى الآن لم تقدم لنا أمثلة للفكر الفلسفي، إلا من مجالات التخصص العلمي البحت، فمن بين علماء التخصص أنفسهم يظهر من يزيد القاع عمقا ليصل إلى قاع أبعد غورا، وأسميت هذا العمل فكرا فلسفيا، وجعلت القائم به فيلسوفا، فماذا عن سائر جوانب الفكر مما يقترب من اهتمامات الناس في حياتهم اليومية؟

وعن مثل هذا السؤال أجيب بأن الأمر يظل هو هو في أي مجال آخر، وأعني أن يجترئ باحث على أن يتناول بالبحث والتحليل والتعليل فكرة ما، كان الجمهور قد أخذها مأخذ التسليم، ثم بنى عليها جانبا من حياته العملية، فإذا حدث لذلك الفاحص الجريء أن اهتدى إلى نتيجة تصادف عند العقل قبولا، ويترتب عليها تغيير لوجهة النظر السائدة نحو ما هو أقدر على توضيح الغوامض، كان ذلك العمل متسما بالطابع الفلسفي، وكان صاحبه منتهجا نهج الفلاسفة في تفكيره.

فافرض - مثلا - أنك قد أدرت البصر في جوانب حياتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية (وكل هذه جوانب متداخلة ومتشابكة) وأحسست نحوها بشيء من القلق وعدم الرضا، وهممت بالتفكير في الأمر لعلك واقع على علة رأيتها ولم يكن قد رآها سواك، فعلى أي نهج تسير، إذا كان في عزمك أن تحاكي الفلاسفة في طرائقهم، إنه لا سبيل أمامك في هذه الحالة إلا أن تفعل شيئا شبيها بما فعله رجال العلم الذين ضربت لك بهم مثلا، حين أقدموا على ما هو بمثابة قواعد الارتكاز المسلم بها عند زملائهم، محاولين تحليلها وردها إلى ما هو أصل نشأتها إذ الأغلب أن يؤدي ذلك الكشف إلى توضيح الرؤية وتيسير الوقوع على مواضع العلة.

ففي الجانب الاجتماعي من حياة الإنسان، بما في ذلك السياسة والاقتصاد وما إليهما، يحسن الحفر في أرضية البحث، حتى نصل إلى أول نشأة المجتمع، لنرى ماذا كان أساس تلك النشأة؟ هل اتفق أفراد على أن يجتمعوا في حياة مشتركة، بشرط أن يكون لهم حق اختيار الحاكم؟ أو أن رجلا قويا أجبر الأفراد إجبارا على أن يجتمعوا في قبضته، وما إلى ذلك من أمثلة تشعل فاعلية العقل بحثا لها عن جواب، وعلى هذا الجواب يتوقف كثير من موازين الصواب والخطأ في الرأي، فإذا استطاع باحث أن يمضي في هذا الطريق، كان فكره متسما بالخاصية الفلسفية، وكان له من خصائص الفيلسوف بمقدار ما استطاع، وكثيرا ما يوفق مفكر فيما يختص بمجال واحد محدود، ينظر فيه مثل هذا النظر بحثا عن مبادئه الأولى، فيكون له من حق الانتماء إلى زمرة الفلاسفة بقدر ما يستحق، فقد يقتصر اهتمامه على مجال «اللغة» - مثلا - أو على مجال «الفن» أو على مجال «الأخلاق» وهكذا، فيقاس عند التقدير بمقياس الحجم الذي اقتصر عليه، ومدى نجاحه في التحليل والكشف، لكن صفة «الفيلسوف» بمعناها المطلق، لا تطلق عادة إلا على أولئك العمالقة الذين استطاعوا جمع الوجود كله، بكل ما فيه من أقسام وميادين، تحت مبدأ واحد، فيه من الشمول والعمق ما يفسر كل مجال مما يمكن للفكر أن يجول فيه.

ويوضح لنا هذا الذي قدمناه، طبيعة العلاقة بين رجل الفكر المجرد وبين مشكلات الحياة، فالصلة بين الطرفين وثيقة، لكنها كثيرا ما تخفى على الأبصار العابرة المتعجلة، فمشكلات الحياة العملية هي - بالطبع - مواقف استعصت على الأفراد في مجرى الأحداث اليومية، كمشكلة الإسكان، وارتفاع الأسعار، وهبوط المستوى التعليمي، وتلوث البيئة بفضلات الصناعة وغيرها من عناصر الحياة الجديدة، وعمل المرأة بين البيت وخارج البيت، إلخ، ويجيء تناول هذه المشكلات على عدة مستويات متدرجة، تبدأ في أدنى درجاتها من نقطة تقرب من أرض الواقع، كما يحدث في التقارير الصحفية التي تؤخذ من مواقع المشكلة على الطبيعة، ثم تتدرج في عمليات التقليل وإيجاد الحلول، درجات قد يأخذ بعضها صورة البحث العلمي، حتى إذا ما ارتفعت عن المستويات التي تقصر البحث على المشكلة في ذاتها، إلى مستوى أعلى يضع تلك المشكلة مع غيرها مما يتصل بها، لتظهر علاقات وحقائق لم تكن لتظهر قبل أن توضع المشكلة في خريطة أوسع منها نطاقا، كنا بذلك قد دخلنا ما يشبه طبقات الجو العليا، وعندئذ تنكشف للباحث المنابع والأصول، فتزداد المعرفة وضوحا ودقة، ويزداد المختصون قدرة على حل المشكلات الحادثة في حياة الناس العملية فوق سطح الأرض، ولعل ثمة وجها للتشابه بين هذه الحالة وحالة الكشف عن منابع النيل، فقد لبث العالم دهرا طويلا - من مصريين وغير مصريين - يجهل من أين يأتينا نهر النيل بمائه؟ وما أكثر ما ورد في كتب الأقدمين قولهم بأن النيل يجيء بمائه من ينبوع في الجنة، إلى أن جاء عصرنا الحديث وعلماؤه الرحالة، فكشفوا لنا بكل الدقة عن الحقيقة الأرضية لهذا النهر العظيم، كشفا وضع في أيدينا زمام النهر، نقيم عليه الضوابط والخزانات، ولو بقينا على أوهام السابقين، لبقي سر النهر لغزا محيرا، ربما دفع الناس إلى عبادته اتقاء لغضبه واستجداء لفضله ونعيمه.

وهكذا الحال في عالم «الأفكار»، فكلها أفكار يحياها الناس حياة تطبيقية عملية، إما استمتاعا بخيراتها، وإما حرمانا منها وسعيا إلى اكتسابها، وأين في الأسرة البشرية كلها من لا يحيا «الحرية» على أحد هذين الوجهين؛ استمتاعا أو جهادا نحو الحصول عليها؟ أين هو الإنسان الواحد الذي لا يحيا فكرة «المساواة» بين الناس، إما ممارسة لها على ضيق أو على سعة، وإما كفاحا في سبيلها، حتى إذا ما يئس من النجاح، أحالها إلى الحياة الآخرة، حيث لا فضل لإنسان على إنسان إلا بتقواه في الحياة الدنيا.

لكن جمهور الناس إذ يحيون تلك الأفكار الكبرى حياة عملية، بالفعل أو بالأمل، فهم إنما يحيونها حياة ساكن المدينة الكبيرة لا يعرف منها إلا بيته وقليلا من المنطقة المجاورة؛ ولذلك فقد يكون قليل الحظ مما يعرفه عن تلك الفكرة وما يتخللها من ثنايا وانعطافات، وبالتالي فهو ذو حظ محدود في مدى علمه بحقوقه عند الآخرين، وبواجباته تجاه الآخرين؛ لأن الأفكار الكبرى منطوية - عادة - على حقوق الإنسان وواجبات عليه ، وهكذا يظل إلى أن يظهر رجل «الفكر» في هذا الصدد، فيقوم بما هو شبيه بالكشوف الجغرافية لما كان مجهولا من البر والبحر، أو ما يقوم به رواد الفلك في الكشف عن أجرام السماء.

هذا إذن هو الفكر المجرد وما يستطيع فعله في معالجة المشكلات كما يعانيها الناس في حياتهم العملية الجارية، ونعود بالقارئ إلى النقطة التي كنا مسسناها مسا سريعا قبل أن نستطرد معه في الحديث عن الفكر الفلسفي ودوره في تشكيل الواقع، وكان ذلك عندما ذكرنا له يوم وقعت الواقعة في الخامس من يونيو سنة 1967م، وما أصابنا فيه من ذهول، لكن الشعب الذاهل - بحمد الله - لم يطل الوقوف عند ذهوله، بل سرعان ما نشط بالحركة الواعية لعله يمحو آثار الهزيمة فيسترد كرامته ومكانته، وأخذ كل منا في موقعه يتدبر الأمر ويراجع الحساب، وكان صاحبنا واحدا من هؤلاء، لكنه - كما نعلم عنه - رجل إذا كان الله سبحانه وتعالى قد وهبه شيئا، فذلك هو ميله نحو أن يرتفع بأية مشكلة جزئية تصادفه ويراد لها الحل، إلى درجة من درجات التجريد ليضعها هناك في موضعها من الخريطة العامة، إذ ليس هناك في هذه الحياة بأسرها، بل وفي هذا الكون العظيم بأجمعه، شيء واحد يمكن فهمه مستقلا عن كل ما سواه، وهو إذ يرتفع بمشكلة الهزيمة إلى سماء المجردات، إنما يكون في طريقه إلى البحث عن نقطة البدء الأولى التي ينبغي أن يبدأ منها إصلاح ما فسد من حياتنا كما نراها جارية على أرض الواقع، فمحال أن تصاب الأمة بهزيمة كتلك التي أصابتها، دون أن يكون الخلل قد سرى هنا أو هناك من أجزاء «الآلة الكبرى» التي هي المجتمع الذي نحن أبناؤه وأعضاؤه، فماذا تكون نقطة البدء عند صاحبنا إلا بنية المواطن - كل مواطن على أرضنا - باحثين في تركيبها عن مواضع العلة؟ وكانت الخطوة الأولى على هذا الطريق، هي خطوة تجاوز بها مصرية المصري ليصل إلى عروبة العربي - مصريا وغير مصري على السواء - إذ أقل ما يقال هنا هو أن القضية التي نكبت بالهزيمة قضية عربية في المقام الأول.

وما إن طرح الأمر على هذا النحو، حتى أفرخت المشكلة مشكلات، كل واحدة منها تحيل الباحث على مشكلة سبقتها فأحدثتها، فكم في المصري من «العروبة» وكم في العربي الحاضر من موروث سلفي يسري في تلافيف الدماغ، وكم تلقى من عصره الذي يحيط به؟ واختصارا ما هي حقيقة الصورة التي تنتج لنا من تشريح الشخصية العربية كما هي قائمة اليوم - على الأعم الأغلب - وإلى أي حد تتلاءم هذه الصورة مع ما ينبغي أن يكون، والذي يحدد لنا المثال المتبقي هو صلاحية المشاركة في عصرنا هذا، مشاركة تضمن لنا قدرا معقولا من قوة العلم، وقوة الإنتاج، وقوة السلاح، وقوة المال، إلى آخر هذه القوى التي لا غناء عنها لمن أراد العيش في هذا العصر موفور الكرامة مسموع الكلمة مرهوب الجناب.

إذن فالمطلوب هو البحث عن صورتين: المواطن العربي كما هو الآن بالفعل، ثم المواطن العربي كما نريد له أن يكون، وواضح أنه مطلب يقتضي فيما يقتضيه إلماما كافيا بالتراث العربي لمعرفة ما يجب الإبقاء عليه من مقوماته، وما يجوز الاكتفاء فيه بالدراسة التاريخية على سبيل العناية والرعاية اللتين تلزمان الحاضر بأن يكون على صلة بماضيه، كما يقتضي هذا المطلب أيضا، إلماما كافيا بمقومات عصرنا؛ لنكون على بينة واعية بما يجب علينا إزاءه مشاركة وأخذا وعطاء، وبهذا وضح الهدف الذي في سبيله يسعى صاحبنا خلال المرحلة الأخيرة من حياته الدارسة المتأملة الكاتبة، كما وضحت أمامه بعض شعاب الطريق. لم يكن صاحبنا يريد، في كل مرحلة من مراحل حياته العاملة، أن تكون «الثقافة» حلية يزدان بها المثقف أمام الناس، إذ كان الرأي عنده دائما، هو أن ثقافة المثقف الفرد، كثقافة الأمة مأخوذة في مجموعها، إنما هي أداة يستعان بها على تلوين الحياة العملية بلون يميزها، وعلى تزويد حاملها بحوافز ومعايير، تحفزه إلى القيام بدوره في إقامة الحياة مستخدما معايير ثقافته في التمييز بين ما يجوز وما يجب وما لا يصح، فلقد رسخت في ذاكرته عبارة كان قرأها فيما قرأ للرائد الإسلامي محمد إقبال قالها بمناسبة ما رواه عن أحد كبار الصوفية، من أنه عجب كيف وصل النبي عليه الصلاة والسلام في معراجه إلى سدرة المنتهى، ولم يبق هناك، لينعم بالقرب من النور الإلهي، بدل أن يعود إلى الأرض بوعثائها وظلامها؟ ثم استطرد محمد إقبال ليقول: إن هذا يبين الفرق بين ما آمن بفكرة فآلى على نفسه أن ينشرها في الناس ليعم نعيمها، ومن آمن بفكرة فقصرها على نفسه لينعم بها، ولا عليه بعد ذلك أن يشرك معه الناس في نعيمها، فعلى عواتق الرجال من الصنف الأول يقع عبء تغيير الحياة وتطويرها نحو الأكمل، وأما الصنف الثاني فيحيون حياتهم ويموتون كما يظهر الظل ويختفي.

وهكذا يكون الفرق بين مثقف يتحلى بثقافته فيكفيه ذلك، ومثقف مثالي لا يستقر له بدن على مضجع حتى ينشر بين أبناء المجتمع ما قد رآه صالحا ومصلحا، وأن في هذه التفرقة ما يلقي لنا بعض الضوء على مشكلة فكرية وعملية معا، هي من أهم ما يكابده أبناء هذا العصر بجميع أطرافه، وأعني مشكلة الخيار بين أن نجعل الأولوية للفرد بالنسبة إلى مجتمعه الذي هو مواطن فيه، أو أن نجعل تلك الأولوية للمجتمع، وأما الفرد فوجوده كله مستغرق في كونه جزءا من كل، وقد تبدو هذه المشكلة وكأنها افتراضية ونظرية، لا تترك أثرا على مجرى الحياة العملية، لكنها على عكس ذلك إذ انقسم عصرنا حيالها أقساما تتنازع وتتقاتل من أجلها، فقسم أصر على ألا تبتلع حقوق الفرد في جوف التنين الجبار الذي هو الدولة باعتبارها ممثلة للجميع، وقسم آخر آثر أن يقوي جبروت التنين، حتى لو جاء ذلك على حساب الأفراد المأكولة (تشبيه الدولة الطاغية بوجودها على وجود أفرادها بالتنين - الذي هو وحش خرافي - استخدمه تومس هوبز بل وجعل هذا الاسم عنوانا لكتابه) وبين القسمين تتوسط أقسام صغرى، تتفاوت فيها الظلال بين هذا وذاك، ونحن نقول هنا ، بأن مشكلة الحيرة بين الفردية وشمولية الدولة، قد تجد حلها في «الفردية الاجتماعية» التي تترك الفرد الواحد لضميره، لكنها تميل بهذا الضمير نفسه نحو العمل على ما فيه صالح المجتمع كله، وبهذه المصالحة بين الطرفين أخذ صاحبنا مذهبه، ورؤيته، وأسلوب عمله.

وعلى ضوء هذه المصالحة بين الأطراف المتنازعة، بينما هي في حقيقتها متكاملة لا متناقضة، أخذ ينظر - أول ما ينظر - إلى المذاهب الفلسفية؛ وذلك لأنه بدأ عمله بسؤال طرحه على نفسه: إنه إذا أريد البحث على أكمل مواطن في أمثل مجتمع وجب أن نتبين بادئ ذي بدء ماذا تكون «الفلسفة» التي يبني عليها ما يبني، فقد اختلف رجال الفلسفة في الأساس الذي يقيمون عليه البناء الفكري، برغم اتفاقهم جميعا على أن الغاية من جهدهم المبذول، هي أن يسلطوا مراياهم على الحياة بكل صخبها كما يحياها الناس، ليترجموا صورة الحياة إلى لغة «الفكر المجرد»، على نحو ما يترجمها الموسيقار إلى أنغام، والشاعر إلى كلمات منغومة، والمصور إلى ألوان وخطوط، والمشرع إلى قوانين، وهكذا فهنالك من الفلاسفة من جعل محوره في ترجمته للحياة التي انعكست له صورتها في مرآته، رؤى «العقل»، فمن داخل الدماغ يبدأ الإنسان طريق السفر، خارجا به إلى حيث عالم الأشياء، فهو يعرف ما يعرفه عن العالم في ضوء جهازه العقلي، لكن هنالك من الفلاسفة من يترجمون صورتهم المرآوية ترجمة أخرى، إذ يرون أن نقطة البدء في طريق الرحلة الفكرية من حياة الإنسان هي عالم الأشياء، وعن هذا العالم تنقل العين والأذن وسائر الحواس رسائل إلى الدماغ، وهناك تلقى من أجهزة الإدراك ما يصوغ تلك الرسائل في كيان يوحدها، وهناك من الفلاسفة من يقسم المعرفة التي يكتبها الإنسان قسمين: أحدهما يبدأ من رحلته من الداخل مطلة على العالم والثاني يبدأ رحلته من الأشياء فتنقل إلى الأجهزة الداخلية ما تنقله فتصوغه فكرا، وهكذا، وتأمل صاحبنا هذا كله، فلم يجد فيه ما يغير من وجه الحياة شيئا، وقد لا يكون بين وجهات النظر فرق حقيقي، فوجهة ترى الخارج من نافذة داخلية ، وأخرى ترى الداخل من نافذة خارجية، والواقع يظل هو الواقع، وأجهزة الإدراك تظل هي أجهزة الإدراك.

من هنا اختار صاحبنا لنفسه، وجهة النظر التي تجعل الفكر الفلسفي «منهجا» في تحليل العلم والفكر وما ينتهيان إليه، تحليلا يبين الصحيح من الفاسد، معفية الفيلسوف من التزام موضوع معين، لا تكون الفلسفة فلسفة إلا به؛ لأنه إذا كان الفيلسوف فيما مضى قد اضطلع بالدورين معا، دور العالم ودور الفيلسوف، فقد أصبحت التخصصات العلمية اليوم أرحب أفقا بحيث لم تبق شيئا للفيلسوف، إلا أن يمسك بالميزان النقدي فيميز لمن يهمه الأمر بين الطيب والخبيث، وقد أسلفنا القول في بعض تفصيلات هذه المهمة النقدية، فيما سبق من فصول.

نهاية الطريق «1»

لم يكن قد بقي من أعوام الستينيات إلا عامان، حين اجتمع الرأسان في يوم واحد: رأس السنة الهجرية ورأس السنة الميلادية، وكان اجتماعهما مصدر نشوة متفائلة عند صاحبنا دون أن يقع على سبب واحد يبرر نشوته وتفاؤله، لكن ما أكثر ما يستعصي على الفهم من حالات النفس المتراوحة بين انقباض وانبساط خوف وطمأنينة يأس وأمل وأنه ليسعد الإنسان أن يجد أن أحداث الحياة كما يصادفها قد جاءت لتبين صدق النبوءة التي كانت قدمتها حالة نفسية سابقة، وكأنها جاءته إشارة من الغيب تلوح له بما هو ملاقيه بعد حين: وسر تلك السعادة - فيما يبدو - كان في رغبة الإنسان الشديدة في أن يكون له من شفافية الروح ما يستبق به الواقع قبل وقوعه، حتى ولو تم له ذلك بصورة مبهمة، وليكن ذلك الإنسان من عملية النظر ما يرتفع به إلى الذرى، فهو برغم ذلك يظل ذا فطرة تتطلع أن تكون موهوبة بقبس من نورانية الروح، وأيا ما كان الأمر تفاءل صاحبنا يوم أن التقى رأس السنة الهجرية برأس السنة الميلادية في يوم واحد، لم يكن صاحبنا مطمئن النفس خلال تلك الفترة الزمنية، فلقد اعتاد طوال ما يقرب من أربعين عاما سبقت على أن يبذل من الجهد قدرا يستنفد كل طاقته، فلا يبقى لنفسه من تلك الطاقة مدخرا مرصودا لما قد تفاجئه به الأيام من أعباء، وهو مع ذلك الجهد المبذول يبلغ من نكران الذات حدودا لا يألفها معظم الناس، فمعظم الناس يعطي ليأخذ ولا لوم على أحد في ذلك، بل ربما كان مما يفقد الإنسان شيئا من كرامته عند الناس إذ رأوه يبذل العطاء ولا يتوقع مقابله شيئا يساويه، لكن هكذا خلق، وهكذا جرت عادته أن ينعم بالعمل الذي يجب عمله مستغنيا بذلك النعيم عن أي جزاء آخر، وفي تلك الفترة الزمنية التي نتحدث عنها كان مثقلا بالواجبات: فهو يعد محاضراته الجامعية ويلقيها، وهو يشرف نيابة عن وزارة الثقافة على مجلة الفكر المعاصر مع المشاركة في تحريرها بمقال شهري طويل، يتناول فيه ما يتناوله من الأفكار التي كانت تتناثر في أجوائها خلال الستينيات، فيحللها ليبين لقرائه مدى امتلائها بالمضمون أو خلوها منه، وكان عضوا في لجنتين من لجان المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، كما كان يسمى يومئذ (اسمه الآن المجلس الأعلى للثقافة) هما لجنتا الفلسفة والشعر، ولم تكن تلك اللجان في ذلك الحين تجتمع لتسمر، بل كانت تفرض على نفسها أعمالا لا تنتهي، وكان عضوا في لجنة تفرغ الفنانين والأدباء، وعملها هو أن تنتقي من رجال الفن والأدب ما تتوسم فيه ثراء العطاء لو أزيح عن كاهله عبء الوظيفة أو عبء الحاجة، فتوصي بمنحه راتبا مع تفرغه لإبداعه الفني أو الأدبي، وكان عضوا في لجنة المقتنيات الفنية، وعملها زيارة كل ما يقام من معارض الفن لتختار من المعروضات ما توصي الحكومة بشرائه لقيمته الفنية، ولتقوم الدولة بواجبها في مساندة المبدعين، وكان عضوا في لجنة المتاحف، وغير ذلك مما ملأ حياته بالعمل، وهو عمل يراد به المشاركة في خدمة الحياة الثقافية، وبينما هو مغمور بواجباته تلك لا يكاد يفكر لحظة في نفع يأتيه مقابل الاضطلاع بكل جهده بما ينفع العلم والفن والأدب، أثار غضبه أن تتلاحق عليه أحداث «رأى خلالها» كم تخف كفته كلما أقيم للأقدار ميزان.

وعند تلك الغضبة وما صاحبها من صدر يضيق وقلب أثقلته الهموم تلاقى رأس السنة الهجرية مع رأس السنة الميلادية في يوم فاستبشر صاحبنا خيرا، وإذا بذلك اليوم نفسه يحمل إليه برقية من جامعة الكويت تطلب استعارته لفترة، وهداه الله سبحانه إلى المسارعة بالقبول، وهناك في جامعة الكويت وحد الفرصة سانحة لأداء ما كان شديد الرغبة في أدائه، وهو أن يتعقب طريق «العقل» في تراث العرب الأوائل؛ وذلك لأنه كان على يقين من رجحان العقل في كثير جدا مما شغل به السلف من مشكلات تتصل بالحياة الثقافية، وإذا كان ذلك كذلك فلا يبقى علينا إلا أن ندعو المعاصرين من أبناء الأمة العربية إلى مواصلة السير في طريق الآباء، ولا يتحقق ذلك بأن يعيد ابن اليوم ما قاله رجل الأمس، بل يتحقق بأن يأخذ الخلف «وقفة» السلف إزاء ما أشكل عليهم ليقفها الخلف إزاء ما استحدثه له الزمن من مشكلات، ولكن ماذا كانت مشكلات السلف وكيف تناولوها؟ وماذا أصبحت عليه أيامنا نحن من مسائل تتصل بزماننا؟ تتطلب منا النظر والحل؟

إنه مع اعترافنا بأن محاولات التبسيط، لما هو بطبيعته غني بتفصيلاته، لا بد لها من التضحية ببعض جوانب الموقف على حقيقته؛ لكي تظفر بتوصيل وصف تقريبي لذلك الموقف أقصى ما يطمع فيه هو أن تجيء المنفعة المرجوة أكثر من الضرر الناتج عن تقديم الحقيقة منقوصة العناصر! نقول: إنه مع اعترافنا بذلك منذ البداية فلا سبيل أمامنا في تصوير الحركة الثقافية خلال فترة زمنية محددة وفي أمة واحدة من استخلاص الصورة العامة بعد طرح الجانب الأكثر من تفصيلاتها.

وعلى هذا الأساس أقدم صاحبنا على تحقيق رغبته في متابعة التيارات الثقافية خلال الخمسة القرون الأولى من التاريخ العربي بعد الإسلام، وكانت خطته التي رسمها لنفسه في تحقيق ذلك هي أن يسير على مراحل، كل مرحلة منها تمتد قرنا من الزمن بادئا من القرن الثامن «الثاني الهجري»، على اعتبار أن الفترة الإسلامية السابقة على ذلك التاريخ كانت هي الفترة التي نزلت فيها الرسالة، وتحققت خلالها امتدادات الرقعة الإسلامية فانتشرت العقيدة إيمانا بها، لكنها لم تكن قد وضعت بعد في مجالات البحوث العلمية التي تقام على أساسها، وإذا قلنا البحوث «العلمية» فقد قلنا بالتالي إنها بحوث تعتمد في مناهجها على منطق العقل في التحليل والتعليل والاستدلال.

وبنظرة الطائر عبر تلك القرون الأولى يمكن أن يقال عن القرن الثامن «الثاني الهجري» إن اهم ما شغل به علماؤه علوم أريد بها أساسا أن يزداد المؤمن فهما للكتاب الكريم، فبدهي - إذن - أن تكون علوم اللغة العربية بين ما يجتذب أقدر العقول على البحث العلمي في دقة منهجه؛ إذ هي علوم تنشأ لأول مرة: فمفردات اللغة تجمع، وشواهد معانيها تستقصى، وقواعد نحو اللغة وطرق الاشتقاق من مفرداتها تستنبط وتستقرأ من واقع استعمالها ... وهكذا.

ومع علوم اللغة في ذلك القرن قامت علوم أخرى خاصة بالعقيدة الدينية وشريعتها، فقام من يطلق عليهم اسم علماء «الكلام» و«الكلام هو كلام الله سبحانه وتعالى»، فوجهوا قدراتهم العقلية على التحليل نحو أفكار وردت في الكتاب الكريم يحتاج فهمها فهما يتسم بالدقة إلى تحليلها: كفكرة التوحيد، وفكرة العدل الإلهي، وفكرة الحرية أو الجبرية في كل «فعل» يفعله الإنسان ويكون مسئولا عنه يوم الحساب، وفكرة القضاء والقدر وهكذا، ولم يكن هؤلاء العلماء على رأي واحد فيما ينتهون إليه من نتائج؛ ولذلك فهم يتفرقون فرقا متباينة: ففرقة تعلي من شأن العقل وما يكشف عنه من حقائق المعاني وتلك هي جماعة المعتزلة، وفرقة أخرى أرادت أن تحد من المدى الذي يطلق للعقل فيه أن يكون صاحب الكلمة، فالأمر أولا وآخرا هو أمر عقيدة دينية يؤمن بها من يؤمن، وهكذا إلى جانب هاتين المجموعتين من العلماء - وأعني علماء اللغة وعلماء الكلام - ظهر فقهاء الشريعة، وظهر معهم علماء الحديث، وفي كلتا الحالتين رأينا ضروبا من المنهج العلمي: في التحقق من صدق القول وفي استخراج الأحكام، وإذا كان هذا النشاط العلمي المتعدد الفروع قد شهده القرن الثاني الهجري إذن فنحن على حق إذا زعمنا أن قد كان للعقل في تلك الفترة مكان الريادة.

وجاء القرن التاسع (الثالث الهجري) فكان أبرز ما تميز به من سابقه هو تلك الحركة الواسعة في نقل الثقافات الأخرى وأهمها ما نقل عن اليونان من فلسفة وعلم، ولا يفوتنا هنا أن نذكر بأن هؤلاء اليونان يومئذ كانوا هم «الغرب» من الناحية الثقافية، إذا جاز لنا أن نستخدم في هذا السياق مصطلحا مألوفا بيننا نحن عرب اليوم، وكذلك نقلوا عن فارس وعن الهند، وكان أهم ما نقلوه من تلك الجهة الشرقية «التصوف»، وكانت مصر مصدرا ثالثا إذ أخذوا عن الإسكندرية فلسفة وعلما، ولقد كان الأثر الذي أخذته حركة النقل عن الثقافات الأخرى أثرا واسع المدى عميق الغور في تلوين الثقافة العربية بعد ذلك بطابع جديد.

ظهر ذلك الطابع الجديد في ثقافة القرن الرابع الهجري وما بعده العاشر الميلادي وما بعده ظهورا واضحا، فهنالك ظهر الفلاسفة الأفذاذ كالفارابي وابن سينا! ولنلحظ هنا أنه لولا ما نقل من فلسفة اليونان لما ظهر هؤلاء؛ لأن محور الفلسفة عند الفلاسفة المسلمين كان بمثابة الحوار مع فلسفة اليونان حوارا يراد به معرفة الصلة اتفاقا أو اختلافا بين ما نزلت به رسالة الإسلام وما قد ورد في حكمة اليونان، وكان المتجه العام في هذا الصدد، وهو نفسه المتجه العام في أوروبا المسيحية إبان العصور الوسطى، هو أن ما آمن به المؤمن وحيا هو في جوهره ما سلمت به الفلسفة اليونانية برهانا عقليا، ويجيء في مقدمة ذلك وجود الله الخالق عز وجل؛ فهو عند اليونانية كشف عقلي يقوم عليه البرهان، وهو عند المؤمن تسليم بالقلب تسليما لا حاجة به لبراهين العقل تؤيده، وفي القرن الرابع الهجري أيضا ظهر نقد أدبي منهجي يقوم على تحليل النص المنقود - وهو شعر على الأغلب - تحليلا أدق ما يكون التحليل، وجدير بنا أن نذكر للقارئ في هذه المناسبة أن مثل هذا التحليل للمركبات اللفظية لاستخراج ما يبرر قيمته الأدبية هو نفسه أساس ما يسمى عند النقاد في الغرب المعاصر بالنقد الجديد، وما دام الأمر في النقد الأدبي أمر تحليل المركب إلى عناصره لكي يتاح الحكم، إذن فهو نقد أداته منطق العقل، ولا ينفي ذلك أن يكون الناقد ذواقة للشعر وغير الشعر من الإبداع الأدبي، لكنه جانب مضاف، ليس هو أساس الحكم النقدي في آخر المطاف، وكذلك شهد ذلك القرن الرابع نفسه فروعا من العلم تزدهر، وفي العلوم الرياضية بصفة خاصة، مما يؤكد لنا المتجه العقلي إبان تلك الفترة، ويجيء القرن الحادي عشر (الخامس الهجري) ليكون امتدادا لسيادة النزعة العقلية، ولنأخذ مثلنا هذه المرة من الأندلس، فهناك أصدر ابن طفيل مؤلفه الفريد «حي بن يقظان» ليروي به قصة من خياله عن رضيع يترك وحده في جزيرة ليس فيها بشر، وكل ما فيها حيوان ونبات وظواهر الطبيعة! وتتبنى الرضيع غزالة ترضعه حتى يستقيم على قدميه ويكبر الطفل ويشاهد الدنيا من حوله، ويفكر ويستدل، فإذا هو آخر الأمر - عن طريق عقله المحض - يدرك وجود الله سبحانه وتعالى، كما يدرك كذلك بحكم الضرورة العقلية مبادئ أساسية تتفق مع مبادئ الإسلام، ومغزى ذلك هو أن ما هو إسلام بالوحي يتضمن صفات تجعله مقبولا من منطق العقل، وهكذا نرى غلبة النزعة العقلية واضحة، على أن صاحبنا كانت له - بينه وبين نفسه - وقفة أمام «حي بن يقظان» وما انتهى إليه بقوة العقل وحدها، فقد تأمل الموقف وتدبره فأخذه كثير من الشك في أن تكون العملية العقلية كما تخيلها ابن طفيل ممكنة من حيث الأساس؛ لأن طفله الذي نشأ في الجزيرة وحده، إلا من صحبة الحيوان والنبات وظواهر الطبيعة، لم تكن له «لغة» وبغير اللغة تستحيل عملية التفكير، ولنذكر هنا أن الله سبحانه وتعالى لما خلق آدم لينسل البشر علمه الأسماء كلها، أي زوده بجهاز اللغة ليكون له ولأبنائه من بعده القدرة على التفكير.

كان ذلك هو الإطار العام الذي انتهى إليه صاحبنا من قراءته لكثير من أصول الثقافة العربية خلال القرون الأولى بعد الإسلام، وهو إطار جعل «العقل» العلمي دعامة من دعامتين أقيم عليهما البناء الثقافي كله، وأما الدعامة الأخرى فهي المضمون الوجداني الذي بثه الدين الجديد في قلوب المؤمنين، ولم يكن في تلك القلوب من مضمون وجداني فيه قابلية الدوام التاريخي إلا الشعر وما يقرب من الشعر! فماذا ينتج لنا عن هذه الحقيقة، إلا أن تنتج صورة للعربي في مقوماته الإدراكية الأصيلة وجوهرها هو: أن العربي قد جمع في كيانه عقلا ووجدانا يتكاملان معا في كل عملية إدراكية، ويتناسقان معا برغم اختصاص كل منهما بطريق ينفرد به دون زميله.

وهنا قد يساورنا تساؤل: أليس ذلك هو الكيان البشري في العربي وغير العربي على السواء؟ والإجابة هي نعم ولا: أما نعم فلأن الإنسان هو الإنسان من حيث الفطرة الأولى، لا شك في ذلك وأما «لا» فلأن تلك الفطرة الأولى تتعرض لبيئات مختلفة فتختلف النسبة بين ذينك الجانبين، فمحال أن يتكيف ساكن الصحراء لمحيطه بنفس الخصائص التي يتكيف بها ساكن الجبال في البلاد المثلوجة ببردها، وليس هنا موضع القول المفصل فيما تؤثر به البيئة المعينة في ساكنيها، وحسبنا في هذا الصدد أن نستمد شاهدا حاسما من التاريخ يشهد للعربي بالقدرتين معا متكاملتين متناسقتين على نحو لم يشهد به التاريخ لأمة أخرى، وأعني بذلك الشاهد التاريخي ما أسلفنا لك ذكره، من أن العربي قد نقل عن اليونان فلسفة وعلما (وهذا نتاج عقلي صرف) كما نقل في الوقت نفسه عن فارس والهند تصوفا (وهذا وجدان صرف) فكانت له المعدة التي تهضم الطرفين بقدرة متساوية في الحالتين، ثم كانت له الحياة الثقافية بعد ذلك التي أمكن أن تجري في شرايينها معقولات ووجدانيات يجدلان معا في الموقف الواحد حينا (كما نرى رجلا كأبي العلاء المعري) أو يطغى أحدهما على الآخر طغيانا يمحوه، حينا آخر (كما ترى في متصوف كالحلاج).

هذه القدرة المزدوجة التي نراها متمثلة في تاريخ الفكر العربي - والتي مكنت العربي من أن يكون مع العلماء عالما إذا أراد ومع المتصوفة متصوفا إذا أراد - هي التي تجعلنا نؤمن بأن ما ينقص الأمة العربية لكي تشارك في حضارة عصرنا العلمية التقنية الصناعية، هو أن تتحرك إرادة العربي نحو هذا الهدف، ولكنه لأمر ما وقف من ذلك الهدف موقف الرافض، مكتفيا من العلم الجديد وما يرتبط به من تقنيات وآلات، بل ومن نظم سياسية واجتماعية أحيانا، بما يأخذه عن الغرب مصنوعا ومجهزا ، والذي نريد إثباته هنا في هذا الصدد هو أن العلم ولواحقه، ومنطق العقل وما يقتضيه، ليس هو ما يجعل الغربي غربيا، وامتناعه يجعل العربي عربيا، وكل ما يطلب لكي يعبر العربي الحدود الفاصلة بين تخلف عن موكب العصر، وتقدم مع هذا الموكب في تقدمه، هو توعية وتنوير في حياتنا الثقافية نوضح بهما للناس سواد الأسود وبياض الأبيض، ثم نترك لهم الخيار بين ضعف وقوة، بين جهل وعلم بين تبعية وسيادة.

لكن الذي تتميز به الأمة العربية حقا، ولا احتفاظ بهويتها الأصيلة بغيره، صفات أخرى تستحق منا أيضا أن ندعو إلى ترسيخها وتقويتها بتوعية وتنوير، ومن تلك الصفات رؤية العربي النابعة من عمق كيانه للقيم على اختلافها أخلاقية وجمالية معا، على أنه لا بد لنا من الإسراع إلى تنبيه القارئ، قبل أن تأخذ منه أوهامه مأخذها، بأن الفرق بيننا وبين سوانا في ذلك ليس هو الفرق بين من يملك ومن لا يملك؛ إذ ما أكثر ما نسمع بأننا أمة تلتزم قيم الأخلاق بخلاف آخرين - والمقصود دائما هم أبناء الغرب - لا يأبهون أجاءت أعمالهم مقيدة بضوابط الأخلاق، أم انسابت كما شاء لها الهوى، وليس هذا صحيحا، فكل إنسان بلا استثناء مرتبط أمام ضميره بالتزام خلقي قد يتهاون فيه هذا أو ذاك من أفراد الناس، لكن ذلك المتهاون نفسه، شأنه شأن سائر الناس من حوله، يدرك أنه قد أخطأ سواء السبيل، لا ليس الفرق بيننا وبين هؤلاء الآخرين أننا أمة أخلاقية عن مبدأ وعقيدة، وهم لا أخلاقيون عن مبدأ وعقيدة كذلك، بل الفرق هو في تصورنا وتصورهم لمصدر الأوامر والنواهي في الحياة الأخلاقية ما هو، ومن اختلافنا عنهم في التصور تتفرع نتائج تتبدى آثارها في حياتنا وحياتهم، فبينما نحن على مبدأ وعلى عقيدة بأن تلك الأوامر والنواهي - في معظمها - قد نزلت إلينا وحيا إلهيا مع الوحي، وبذلك فقد أصبحت عندنا دينا من الدين، نجد الآخرين - أو قل أكثر هؤلاء الآخرين - يرون أوامر الأخلاق ونواهيها قد نبتت من أرض الخبرة على مر القرون، فقد دلت تلك الخبرة بشئون الحياة الدنيوية على أن كذا وكذا، حتى وإن تولد عنه نفع مباشر، فمصيره آخر الأمر أن يضر بالإنسان فردا وجماعة، وأن كيت وكيت من الأفعال تبين بعد خبرة بالحياة الواقعة أنها تنتهي آخر الأمر إلى نفع الإنسان فردا وجماعة، حتى وإن لحقها فور فعلها ضر وأذى، إذن فهي خبرة الإنسان بواقع الحياة، وليس وحيا من السماء ما قد علم الإنسان ماذا يعد فضيلة وماذا يعد رذيلة، ومع ذلك الفرق بيننا وبينهم في تصور المصدر، فالأرجح ألا ينعكس هذا الفرق على القيم الأخلاقية في ذاتها، فما هو فضيلة عندنا يعد فضيلة عندهم كذلك، وما هو رذيلة هنا رذيلة هناك، اللهم إلا ما يختص ببعض صور الحياة العملية نراها مقبولة عندنا مرفوضة عندهم أو العكس.

إذن أين يكمن الفرق فيما تتأثر به حياتنا وحياتهم؟ الفرق هو أن تصورنا نحن ليس نسبيا يختلف باختلاف الظروف، بل هو مطلق لا يتغير مهما تغيرت الظروف، فمن الناحية النظرية يستطيع أبناء الغرب أن يغيروا من السلوك المقبول إذا ثبت لهم أن السلوك الذي كان قائما وسائدا لم يعد يؤدي بصاحبه إلى نجاح في تحقيق أغراضه، في حين أننا نحن من الوجهة النظرية كذلك لا نغير من الصورة السلوكية المأمور بها، حتى لو لم يثبت نجاحها في ظروف استحدثت؛ لأننا في هذه الحالة نمد أبصارنا إلى الجزاء الحق فيما هو وراء هذا الواقع، حيث حياة الخلد وثوابها أو عقابها، وبهذا يصبح مرد الاختلاف بيننا وبينهم في هذا المجال هو علاقة المخلوق بخالقه، فبينما العربي لا يتردد لحظة في أن يجعلها علاقة آمر بمؤتمر ولا مجال للخلط بينهما؛ فالسماء سماء والأرض أرض، نرى هذه العلاقة عندهم مبهمة المعالم بعض الشيء، فكما كان الآلهة عند اليونان القدماء يعتلون قمم الأولمب، والناس تسعى هناك أسفل الجبل على السهول وفي الوديان، إلا أن ساكن القمة وساكن السهول والوديان قد يتلاقيان في حالات من الود أو من الغضب والعصيان، فإن ظلا خفيفا من هذا اللقاء بين الطرفين ما زال قائما في تصور المحدثين، مما يساعد على بعض التساهل في العلاقة بين الآمر والمطيع.

ذلك فيما يخص الموقف الأخلاقي عند العربي وما يتميز به، فالحق حق مطلق ولا نسبية فيه، والباطل باطل مطلق ولا خلاف عليه، وأما فيما يخص القيم الجمالية - أو قل معايير الجودة في الفن والأدب - فالموقف العربي هنا أيضا له ما يميزه مما له علاقة بالمطلق والنسبي أيضا، فبينما معيار الغرب هو الفردي الجزئي الذي من طبيعته أن يظهر ليختفي بعد ظهوره اختفاء بغير عودة، وتكون مهمة الفن هي الإمساك بذلك الإنسان، وذلك التثبيت لما هو زائل وعابر إنما يتحقق بتخليده في صورة من صور الفن والأدب، أقول: إنه بينما الموقف عند الغربي في إبداعه الفني والأدبي هو عشقه للفردي الجزئي في حيويته وحركته عشقا يدعوه إلى تخليده، نرى الأمر في موقف الفنان أو الأديب العربي ذا شأن آخر، ونحن هنا نتحدث عن تقاليد الفن والأدب كما دامت عبر العصور غير متجاهلين ما طرأ عليها من تغيرات في عصرنا، فالعربي ينشد الثبات والدوام والخلود، ويرى أن نقطة البدء في إبداع الفن والأدب ليست هي الفردي الجزئي في سرعة زواله وعبوره، بل هي «الفكرة» المجردة، ولذلك يجعل هدفه تصوير هذه «الفكرة» فنا وأدبا، ففي الرسم هو أميل إلى تصوير التخطيط الهندسي لما يرسمه، أي إنه يستخلص من الأشياء عناصر دوامها، وقد يقال - بل قيل بالفعل - إن الفن العربي تنقصه الحيوية والحركة، والرد على ذلك هو أن التخلص من الحيوية والحركة هدف في ذاته وصولا إلى ما وراءهما من ثبات المطلق الخالد، وهذه النزعة نفسها قد نلمسها في الإبداع الأدبي كذلك، فلم يكن تصوير الأفراد في تفصيلات حياتهم الاجتماعية غاية الأديب العربي، بل الأجدر بالعناية عنده هو أن يلتمس وراء تلك التفصيلات «مبدأ» يضعه في صورة «حكمة» نصائح في بيت من الشعر.

وفي مستطاعنا أن نرى العلاقة الوثيقة بين معايير العربي في فنه وفي أدبه من جهة وعقيدته الدينية من جهة أخرى، فهذه العقيدة التي جعلت رسالتها «التوحيد » وركنا أساسيا من بنيانها «اليوم الآخر»، من شأنها أن تميل بالمؤمن بها نحو إيثار الوحدة التي تجمع الأجزاء في كيان متصل، على التجزؤ الذي يفتت الواحد في كثرة، كما تميل به نحو إيثار الدوام على الزوال والثبات على التغير، وهي نظرة نراها تقع في صميم الهوية العربية، مما يستدعي ضرورة الحفاظ عليها وتنميتها بالتربية والتوعية والتعليم والتثقيف، مع الحرص الشديد على أن توضع الرغبة في توحيد المتفرقات، والرغبة الأخرى في إيثار الثبات على التغير، في الموضع الصحيح؛ لأن إساءة الفهم هنا قد تؤدي إلى جمود أولا فتخلف عن الركب الحضاري ثانيا، وليتذكر أن حديثنا هذا متعلق بالقيم الأخلاقية والجمالية كما تتجسد في صور حياتنا العملية وفي صور مبدعاتنا في الفن والأدب، ففي هذا المجال لا بد من التفرقة بين «الإطار» من جهة وتفصيلات «محتواه» من جهة أخرى، فإذا أردنا استمرارية تاريخية بين عربي اليوم وعربي الأمس فإنما يكون ذلك في المبدأ وليس في تفصيلات التطبيق، فالقيم الأخلاقية يجب أن تبقى اليوم على حالها بالأمس، وهي أن تكون مطلقة لا نسبية، إلا أن ذلك الإطلاق يتعلق بالصورة لا بحشوها، فالشجاعة اليوم قد لا تكون شجاعة المبارزة بالسيف بقدر ما تكون شجاعة في اقتحام الصعاب في سبيل الحق، والكرم قد لا يكون اليوم ذبحا للناقة من أجل ضيف عابر بقدر ما يكون في التكافل الاجتماعي المنظم، وكذلك قل في تعلق العربي في إبداعه الفني بالفكرة أكثر من تعلقه بمفرد واحد يجسدها، فمثل هذا الموقف يمكن الحفاظ عليه، دون أن يتحول الفن به إلى زخارف.

شيء كهذا هو ما رآه صاحبنا في حقيقة العربي الأصيل وقد تساءل: ماذا تكون الصفات المميزة لأبناء هذا العصر؟ وهل فيها ما يمنع أن يوضع فيها العربي موضعا يتناغم فيه مع سائر خلق الله دون أن يتنازل عن شيء من مقومات تاريخه وعناصر هويته ووجوده؟ لقد طرح صاحبنا هذا السؤال على نفسه وحاول أن يجيب.

نهاية الطريق «2»

لا يذكر صاحبنا متى قرأ رواية «دون كيخوته» لأول مرة، كلا ثم لا يذكر ما هو أهم من مجرد قراءتها؛ إذ لا يذكر أين ومتى ولمن من كبار النقاد، قرأ التعليقات النقدية على تلك الرواية، وإنه ليعلم أيقن العلم بأن الآيات الكبرى في عالم الأدب والفن تظل بالنسبة إلى كثير جدا من المثقفين - حتى الصفوة منهم - مزمومة الشفتين لا تنطق لتفصح عن سرها، إلى أن يتولاها كبار النقاد، وعندئذ فقط يظهر الدر الكامن في جوفها، ويسطع بالضوء ما كان معتما غامضا، فمن من جموع المثقفين على تفاوت درجاتهم، لم يسمع برواية «دون كيخوتة» لمؤلفها «سر فانتيز»؟ إن لم يكن قرأها كاملة أو مختصرة مبسطة كما تعرض أحيانا في كتب المطالعة بالمدارس؟ وهي رواية إذا نحن وقفنا عند سطحها الظاهر أضحكتنا - صغارا وكبارا على السواء - بغرابة بطلها «دون كيخوتة» ثم تقف الكثرة الغالبة من الرواية عند هذا الحد من متعة الضحك! بل ربما عجب كثيرون أن يكون وراء تلك البساطة الشديدة في شخصية «دون كيخوتة» شيء أكثر من التفكه، فهذا رجل قيل عنه إنه عاش إبان الشطر الأخير من القرون الوسطى، وقد أحب القراءة عن جماعة «الفرسان» الذين امتلأت بأخبارهم كتب التاريخ التي تروي أنباء ما كان قد مضى من قرون العصور الوسطى، حين كانت تقاليد الحياة التي تميزت بها تلك الفترة، مرعبة بكل حذافيرها، ومن أبرز معالم ذلك العهد جماعة «الفرسان»، فللفارس أعراف تميزه، منها: أن تكون له مغامرات حب عذري ومنها أن ينجد الضعيف أينما صادفه، وهكذا، ولما كان أداء هذه الواجبات التقليدية كثيرا ما يوقع صاحبها في معارك، كان من شأن الفارس أن يكون مجهزا بعدة الفروسية، من سيف ورمح وتحصينات بالدروع وتغطية الرأس بغطاء معدني وغير ذلك، وعن جماعة الفرسان هؤلاء قرأ «دون كيخوتة» حتى أشبعت نفسه بما قرأ، وحسب نفسه أحد هؤلاء الفرسان بعد أن تأخر به العهد قليلا عن عهودهم، ثم ما هو إلا أن أعد نفسه بكل ما يجعل من الفارس فارسا: الجواد المطهم بطريقة خاصة وعدة القتال، فلم ينقصه شيء من ملحقات الفروسية إلا شيئا واحدا، وهو أنه لم يكن فارسا! وبهذا الإعداد وما صاحبه من عجز انطلق «دون كيخوتة» تضلله الأوهام، فيرى أشباحا ويظنها أعداء فيهجم عليها بسيفه ورمحه، ومن أمثلة ذلك هذه الصورة التي نعرفها عنه لشيوع ذكرها، وأعني محاربته لما قد رآه في طريقه من طواحين الهواء، حاسبا أنها جماعة من الأشرار تتربص للأبرياء بالأذى.

إلى هنا وينتهي السطح البسيط من الرواية، لكن جانب العظمة الأدبية فيها، مما يكشف لك عن الغطاء كبار النقاد، هو طريقتها الرمزية في تصوير عصرها تصويرا يعمق بك حتى تصل إلى الجذور، وعصره - كما ذكرنا - هو الفترة التي لا هي لحقت بزمن القوة في القرون الوسطى، عندما كان الفرسان فرسانا، ولا هي نعمت ببواكير النهضة الأوروبية.

وفي تلك الفترة التي توسطت بين نوع من القوة مضى، ونوع آخر من القوة في سبيله إلى الظهور، عاش «دون كيخوتة» ليس له من مجد ماضيه المتمثل عنده فروسية الفرسان، إلا أشباح من أحلام واهمة، ولا عنده مما سوف تتمخض عنه النهضة الأوروبية بعد قليل بشيء من العلم، فماذا كان يملك على وجه الحقيقة إذن؟ كل ما عنده من ذلك أكداس من جمل وكلمات وحروف طالعها في الكتب التي قرأها عن فرسان العصر الذي سبقه، وهي أكداس لم تستطع - وما كان لها أن تستطيع - صناعة فارس من ركام جسمه الهزيل وعقله المريض، وذلك أهون الشرين، وأما الشر الثاني فهو أن تلك الأكداس المخزونة في حافظته من جمل وكلمات وحروف قد حجبت عنه الرؤية المستقبلية لما هو آت إلى الناس بعد قليل، إنه رجل ليس دم الحياة هو ما يجري في عروقه، بل الذي يجري فيها مداد تشربه من مخزون الجمل والكلمات والحروف التي طالعها، ثم طالعها حتى انتهى به إدمانه لمطالعتها إلى أن تحول كيانه البشري ليصبح مسخا ركب من حروف.

ولا تنحصر هذه الصورة المحزنة لحقيقة «دون كيخوتة» عليه وعلى الفترة التي جعلته الرواية رمزا لها، بل هي صورة تصدق على كل مرحلة تاريخية تتوسط بين عصرين، كل منهما له ضرب من القوة، فعجزت تلك الفترة الانتقالية عن تمثل الماضي في قوته لتصبح امتدادا له، كما عجزت عن تقبل السبل التي تمكنها من الانتقال إلى العصر الجديد.

صورة كهذه أخذت تراود صاحبنا خشية أن يكون فيها ما يصدق على طراز من المثقفين العرب في يومنا هذا، قد يعد أفراده بمئات الألوف، ولو صح هذا لجاز لنا القول بأن عبئا ثقيلا ترزح تحته حركة التقدم، فتبطئ الخطى على نحو ما نرى، فهؤلاء المئات من الألوف هم بمثابة «دون كيخوتة» ضرب وجوده في هذا العدد الضخم، ممن يحيون حياتهم بعروق أفرغت من دمائها لتمتلئ بمداد جمل وكلمات وحروف جمعوها من مطالعات تكررت ألف مرة حتى حفظت حفظا، لتعود فتتدفق كلما حانت فرصة لمقالات تنشر أو أحاديث تذاع، فلا هي جاءتنا بحيويتها التي كانت لها في شباب حياتها، ولا هي طوعت في دلالاتها لتبقى نصوصها مع ربطها بظروف الحياة الجديدة لعلها تتحول في صدور من يتلقونها من كونها «لفظية» لتصبح ذا أثر دفع الناس إلى الحركة مع تيار الحياة في جريانه.

وقد يفوت هؤلاء المئات من الألوف أمر ذو أهمية كبرى في التصور الصحيح «للثقافة» و«المثقف»، فليس لهاتين الكلمتين مدلول واحد بعينه يثبت على مر القرون من حيث الاتفاق العام على طبيعة الموضوعات التي يجب توافرها ليستقيم للثقافة كيانها في العصر المعين، وليمكن الحكم على أفراد الناس في ذلك العصر المعين: أيهم يستحق أن يوصف بهذه الصحة وأيهم لا يستحق، ربما مر عصر من عصور الأمة العربية كان يشترط فيه للمثقف أن يجيد الفروسية مع الإلمام التفصيلي بأجود ما قيل من شعر! ثم تبعه عصر كان من أوجب الضرورات فيه لمن ينعتونه بالثقافة، أن يضيف إلى أي علم آخر يتخصص فيه موضوعين: النحو والمنطق! وتبعه عصر آخر - وذلك في مرحلة الركود - كان المتوقع من المثقف أن يكون حافظا لقدر كبير من فقه الفقهاء، وشعر الشعراء وقواعد اللغة، وهكذا تتغير «شارات» المثقفين مع العصور، فلا عجب أن رأينا جانب الغرابة في شخصية «دون كيخوتة» أنه بمثابة من وضع على صدره شارة عصر كان قد ذهب وانقضى، وأصبح الناس يحيون في ظروف أخرى تستوجب من المثقف شارة أخرى تنم عن طبيعة تلك الظروف، وهذا هو نفسه ما بث القلق في صاحبنا من أن تكون أغلبية غالبة من جماعات المثقفين في حاضر الأمة العربية قد زينت صدورها بشارات عصور ذهب زمانها.

فلعصرنا هذا ما يميزه بغير شك، بحيث لا يتعذر على المتعقب أن يلتقط الفوارق، التي على أساسها يحكم على فرد ما بأنه متجانس مع عصره هذا، وعلى فرد آخر بأنه قد ارتد إلى ماض ليعيش فيه روحا وفكرا وتصورا للمثل الأعلى، والحق أن ما يميز عصرنا هذا قد كثرت مفرداته وتعددت: فإذا قلت إنه عصر العلم المستعين بالتقنية كنت على صواب، وإذا قلت إنه عصر غزا الفضاء وسار بقدميه على سطح القمر كنت على صواب، وإذا قلت إنه عصر الحاسبات الإلكترونية (الكمبيوتر) أو عصر الإنسان الآلي (الروبوت) كنت على صواب، وإذا قلت إنه عصر السرعة في المواصلات وفي التواصل بالأقمار الصناعية والتلكس والراديو والتليفزيون إلخ كنت على صواب، وإذا قلت إنه عصر «المعلومات» وتنسيقها وتخزينها ثم إقامة الحياة الفكرية والعملية على أساسها كنت على صواب، وغني عن الذكر أن نقول إنه عصر القوة النووية في الحرب وفي السلم على السواء، ولك أن تضيف إلى هذه القائمة ما تراه واردا من ألوان الفن الجديد، والأدب الجديد، والتجمعات الدولية، وزوال الاستعمار زوالا شبه تام، إذا قصد به معناه القديم الذي كان سائدا خلال القرن الماضي والنصف الأول من هذا القرن، وغير ذلك كثير.

لكن صاحبنا عهد في نفسه عادة فكرية لا يستطيع ولا يريد التخلص منها، وهي أنه كلما أراد أن يحدد أخص الخصائص التي تميز عصرا بعينه بحث عن «فلسفته» فإذا وجدها استدل بها على الصفات المميزة المطلوبة، وإذا لم يجدها رجح أن يكون العصر الخالي من رؤية فلسفية تميزه معدوم الوجود إذا قيس وجود الإنسان بدرجة وعيه، وليس هذا تعصبا من صاحبنا لموضوع تخصصه الأكاديمي، كلا بل هو اتجاه مؤسس على حقيقة الحياة الثقافية السوية أينما كانت، إذ يستحيل على مثل هذه الحياة أن تتحقق ما لم يجتمع الرأي على «رؤية» واضحة المعالم تستقطب أبناء العصر، وكيف يكون ذلك؟ إنه يكون بتوحد الهدف الذي يضمره كل أفراد الأمة، بدرجات من الوعي تتفاوت، فقد يضمره أحد الأفراد مبهما، بحيث لا يزيد الأمر عنده على أن يكون «حالة» يحسها كلما خلا لنفسه دون أن يتبين أسبابها، إذ تراه يحس - مثلا - بشيء من القلق ولا يدري ماذا يقلقه على وجه التحديد، أو يشعر ب «العزلة» بالرغم من وجوده وسط جموع الناس، أو يشعر بتفاهة قدره، وهكذا أمثال هذه «الحالات» تغشاه كما تغشى من هو أكبر منه وعيا، لكن هذا الذي وعى يستطيع ما لم يستطعه عامة الناس، وهو أن يدرك العلة التي قد تكون مسئولة عن إيجاد تلك الحالات النفسية الغامضة، فربما كانت العلة حرمان الإنسان العادي من حقوقه الفطرية والاجتماعية لأي سبب من الأسباب، ومع ذلك فهذا الواعي الذي أدرك العلة قد لا يكون ذا قدرة على التعبير عنها تعبيرا يفصح عن عناصرها وكوامنها ومراميها، فإذا قيض الله سبحانه للناس من يستطيع ذلك نشأت الفرصة للتنوير؛ إذ يتاح لمن لم يكن يعلم الحق أن يقرأ أو أن يسمع فيعلم.

ومن هو ذلك الذي غشيته الغاشيات التي لحقت سواه ثم أمكنه أن يقع لها على مصدر نشأتها، كما استطاع بعد ذلك وفوق ذلك أن يصوغ الحقيقة لغة يقرؤها الآخرون فيعلمون ما يكشف لهم غوامض سرائرهم؟ إنه هو الرجل القادر على النفاذ ببصيرته خلال تحليلات يصبها على أهم ما أنتجه المنتجون وما أبدعه المبدعون من أبناء عصره، فينكشف له موضوع الالتقاء الذي يجمع كل ذي شأن وأهميته في أنشطة العلماء ومبدعات الفنانين والأدباء، فضلا عن تيارات الحكم والسياسة والتفاعلات الاجتماعية في أي موقع حدثت.

فأهم ما يعرف به ذلك الضرب من فاعلية العقل، الذي جرى الاصطلاح على أن يسمى ب «الفلسفة»، هو على وجه التخصيص والتحديد محاولة إرجاع هذا الخضم الهائل من معطيات الحياة النظرية والإبداعية والعلمية إلى ينبوع أصلي واحد يخفى على الأعين، لكنه مبثوث في الضمائر يحرك الأفراد والجماعات على نحو ما يتحركون ويفكرون ويبدعون ويقاتلون أو يسالمون، وبعد تشابه الفلاسفة في التنقيب عن الجذور تتفاوت أقدارهم من درجات العظمة، بتفاوت قدراتهم على تشخيص «المبدأ» الذي يجمع بين جناحيه أكبر قدر ممكن من ظواهر الحياة في عصر معين.

من أجل هذا حرص صاحبنا دائما على الرجوع إلى ما قاله فلاسفة عصر معين كلما أراد العلم بما يفسر أوجه نشاطه، فماذا عسانا واجدين عند فلاسفة عصرنا هذا مما يعين على تشخيص طبيعته؟ إننا واجدون - أول ما نجد - أن ثمة خلافات إقليمية واضحة في مذاهب الفلاسفة المعاصرين، فلكل إقليم من أقاليم الغرب متجه فكري ينفرد به، ونقول «أقاليم الغرب» لأن الغرب في هذا الزمان هو صانع العصر، وعلى بقية الدنيا أن تتبعه حتى ولو أجريت تعديلات وإضافات هنا وهناك، ففي الشمال الغربي من أوروبا - وبريطانيا بصفة خاصة - اتجه الفكر أساسا نحو تحليل العلوم إلى ما أسموه بالقضايا الأساسية، وهو اتجاه يتطلب منطقا رياضيا من نوع يختلف في دقته اختلافا بعيدا عن المنطق الأرسطي الموروث عن اليونان، والذي كانت له السيادة شبه المطلقة منذ نشأ على يدي أرسطو وإلى النهضة الأوروبية في القرن السادس عشر، وهناك أضيف إليه - مع بقائه على حالته الموروثة تقريبا - منطق يصلح للبحوث العلمية في مجال العلم الطبيعي منذ القرن السابع عشر وعلى يدي «ليبنتز» تعلق الأمل بمنطق رياضي يضمن للفكر العلمي دقته، وبمثل ذلك المنطق الرياضي بعد تطويره وتهذيبه شغل فلاسفة التحليل بالوصول إلى الوحدات الذرية الصغرى التي من مركباتها تتكون العلوم في صورتها المألوفة، وأرجو أن يتنبه القارئ هنا إلى أن هذه الرغبة في تحليل الفكر تحليلا «ذريا» قد جاء تجاوبا مع العلم الذري الجديد في مجال الفيزياء، مما يدل على ذلك التجانس الذي يرجح حدوثه في كل عصر بين فروع العلم والمعرفة والأدب والفن، والشذوذ هو ألا يحدث هذا التجانس الذي يوحد العصر في نظرة مشتركة، فإذا لم يتحقق علمنا بأن خللا ما يدب في بنية الحياة الثقافية.

وفي الغرب الأوروبي يغلب الاهتمام ب «الإنسان» فينصب معظم الفكر الفلسفي على تحليل الوجود الإنساني لمعرفة جوهره الذي يدلنا على حقيقة الإنسان، وبرغم تفرع المذاهب في هذا الاتجاه ففكرة الإرادة وحريتها في اتخاذ الإنسان الفرد لقراره كلما احتاج الموقف إلى قرار حاسم قد كان لها رجحان، على أن اهتمام الغرب الأوروبي بالإنسان قد اتجه بفرع من فروع الفكر الفلسفي إلى تعقب الحاضر الثقافي في حياة شعب بعينه إلى جذورها الأسطورية الأولى؛ إذ وجد أن الحاضر الثقافي لا يأتي من عدم، بل هو امتداد لا يخلو من أصداء الماضي السحيق، ومن هذه الرابطة الوثيقة بين حاضره وماضيه تكمن الخصوصية الثقافية للشعب المعين.

ولا نترك الجانب الغربي من أوروبا - بما فيه وسط القارة - دون أن نذكر صيحة كان لها دويها وأثرها الباقي، وذلك أيضا فيما يتصل بحقيقة الإنسان، فبعد أن كانت الفكرة الشائعة المتوارثة عن سقراط في قولته: أيها الإنسان اعرف نفسك، والمتوارثة كذلك من ديكارت حين جعل سنده الأول متمثلا فيما يراه من نفسه رؤية مباشرة لا سبيل إلى دحضها وعبر عن ذلك بقوله: «أنا أفكر إذن أنا موجود.» أقول إنه بعد أن كانت الفكرة الشائعة المتوارثة هي أن الفرد الإنساني وحدة مستقلة بذاتها، لدرجة أن فيلسوفا هو «ليبتز» قد صور الفرد برجا مغلقا على نفسه وليس له نوافذ يطل منها على الآخرين، نودي برؤية جديدة أقرب إلى الصواب، وصاحبها الأول هو «هوسرل» أقامها على أساس أن «الوعي الذي هو جزء لا يتجزأ من فطرة الإنسان» يتضمن في صلبه توجها بالانتباه نحو الخارج أعني خارج الإنسان، فقد كان محالا على الإنسان أن يعرف نفسه بنفسه كما أراد له سقراط، إذ لا بد له من «الآخر» وسيلة يعرف نفسه عن طريقها، وكان محالا كذلك على ديكارت أن يؤكد وجود نفسه من مجرد رؤيته الباطنية لنفسه وهي تفكر؛ لأن عملية التفكير لا تكتمل في جوف صاحبها ، بل تتطلب «خارجا» فيه آخرون وفيه أشياء هي التي يتعلق بها ذلك التفكير، ومعنى ذلك هو أن فردية الفرد ليست مطلقة، بل هي فردية موصولة بالعالم يحتويها.

وفي الشرق الأوروبي اتجه الميل نحو رؤية الإنسان الفرد من حيث هو جزء في مجموع، وكأن فرديته لا تعني شيئا، لأنه إذا كان أي فرد كأي فرد آخر، والمهم هو البناء الشامل الذي يقام على هؤلاء الأفراد، فقد ضاعت خصوصية الفردية، على أن ذلك البناء الشامل نفسه قد جاءت به حتمية تاريخية نتجت عن عوامل متفاعلة متصارعة في اقتصاديات الإنتاج.

وفي أمريكا الشمالية نزع الفكر نحو رؤية مستقبلية؛ فصحة فكرة صحيحة لا تستمد من أصول ماضية، بل تستند إلى ما عساه ينتج عنها من منافع يتقدم بها الإنسان في غده.

وقد يخيل إلينا للوهلة الأولى، أن هذا الخلاف في اتجاه الفكر بين إقليم وسائر الأقاليم، والتي منها يتكون ما أطلقنا عليه اسم «الغرب»، لا يجعل لعصرنا الحاضر - متمثلا في دول الغرب لأنها صناعته - ومن وحدة الفكر ما يجعل منه عصرا له خصائصه المتميزة، لكننا إذا أمعنا النظر في تلك الاتجاهات الإقليمية رأيناها جوانب متكاملة في كيان واحد، وكان كل إقليم قد اختص بالنظر في جانب تاركا بقية الجوانب لسواه، فإذا أردنا معرفة عصرنا متكاملا وجب أن نبحث خلف تلك المتفرقات عما يوحدها، فليس اهتمام الشمال الغربي من أوروبا بالوحدات الذرية التي منها يتألف العلم متنافيا مع اهتمام الغرب الأوروبي بالإنسان وما يكفل له إنسانيته، على أن باب الحقيقة الإنسانية يبقى مفتوحا للنظر فيما إذا كانت الأولوية المنطقية في الحياة الإنسانية للفرد على مجتمعه أم للمجتمع على أفراده، ثم لا تتنافى هذه الاتجاهات الأوربية مع اللفتة الأمريكية نحو المستقبل كلما أردنا المفاضلة بين فكرة وأضدادها، وإذا كان هذا هكذا، فعند أية نقطة تتلاقى هذه الخطوط الفكرية كلها؟ إنها تتلاقى عند ضرورة توجيه الاهتمام نحو «الإنسان » في حياته التي يحياها ليصبح غاية في ذاتها وليس مجرد وسيلة لهدف سواه، وتلك هي روح هذا العصر.

وعلى هذه الخلفية نطرح سؤالنا: أفي هذه الغاية التي يتغياها عصرنا بمختلف مذاهبه ووجهات نظره، ما لا يصلح أن يتبناه العربي المعاصر، شريطة ألا يهدر شيئا من جوهر هويته الثقافية التاريخية؟ ولنتذكر ما قد أسلفنا ذكره مفصلا عن الشخصية العربية ومقوماتها: فأولا هي شخصية تؤمن بأن هذا الواقع الذي نقضي حياتنا في ربوعه، نراه بالبصر ونلمسه بالحواس، لا بد أن يكون له «وراء»، فهذه حقيقة توحي إليه بما لانهائية الصحراء التي هي بيته الكبير كما تؤكدها له رسالات السماء فيما نزل من ديانات، ثم هي شخصية يتعاون في بنائها عنصرا «العقل» و«الوجدان» بدرجة متوازنة، حتى لا يكاد يكون لأحدهما رجحان على الآخر، ولئن كان هذان العنصران هما شرط العملية الإدراكية في أي إنسان وكل إنسان، إلا أنها في معظم الأقوام الآخرين يغلب أن يرجح فيها عنصر على الآخر، فالشرق الأقصى في جملته، وكما نراه في ثقافته التقليدية، كان أميل إلى إدراك الحقيقة بوجدانه الفني أو الصوفي، واليونان القديمة ومن بعدها أوروبا بسائر أجزائها، كانت أميل إلى رؤية الحقيقة بمنطق العقل، وأما العربي فقد أوضحنا فيما أسلفناه عنه، أنه متعادل الكفتين على وجه التقريب: وكان من الأدلة التي سقناها برهانا على ذلك أن العرب الأولين - في التاريخ الإسلامي - نقلوا عن اليونان معظم نتاجهم العقلي من فلسفة وعلم، كما نقلوا تصوف فارس والهند، ولا نعرف من أمم الشرق القديم أمة أخرى جمعت في ثقافتها هذين العنصرين معا بالدرجة التي حققتها في هذا الصدد أمتنا العربية، مما حدا بنا أن نتردد في جعلها «شرقا» مع الشرق أو «غربا» مع الغرب؛ لأنها «شرق-غرب» معا.

فلنحمل في أذهاننا هذا التصور عن طبيعة العربي، فهو - إذا شئنا عبارة موجزة يسهل حفظها - عالم شاعر متدين، «وقد اخترنا الشعر وليس التصوف، إشارة إلى الحياة الوجدانية العربية لغلبة الشعر في حياته»، فهو عالم يعمل عقله في التحليل والتعليل واستدلال النتائج كما رأيناه في علوم اللغة والفقه، والحديث والكلام والنقد الأدبي، فضلا عن علوم الرياضة وبعض علوم الطبيعة، وهو وجداني يلقي ببعض زمامه إلى قلبه وما ينبض به، كما رأيناه متدينا وشاعرا ومتصوفا، وقد تسهل مقارنة العربي كما صورناه بهذه العبارة الموجزة بابن الغرب في عصرنا، كما صوره «ليفس» وكان أستاذا للأدب في كيمبرج وناقدا ذا وزن في الحياة الأدبية في بلاده، إذ قال عن الغرب في هذا العصر إنه «منطقي تقني منفعي»، أما «المنطق» فواضح في نزعته العلمية، وأما «التقنيات» فهي في صناعاته، وأما النفعية ففي موقفه الأخلاقي نحو المقبول والمرفوض، وإننا لنعيد سؤالنا مرة أخرى: هل يتعذر على العربي أن يجد مكانه في عصره هذا دون أن يهدر ذرة واحدة من كيانه؟

ضع بين يديك الصورتين في إيجازهما الذي افترضناه: فالعربي متدين عالم شاعر والغربي العصري عالم تفني منفعي، فماذا يضير العربي أن يأخذ من العصر منطق العلم الذي هو بالفعل من مقوماته؟ وماذا يضيره أن يدخل بصناعاته مرحلة التقنيات كما هو مدخلها بالفعل في حياته العملية ولا يبقى إلا أن يسهم في ابتكارها؟ وأما الجانب المنفعي في أخلاقيات الغرب فليستبدل بها أخلاقياته الدينية والتي ذكرنا لك فيما أسلفناه أننا نأخذ أخلاقياتنا من الوحي الديني، حتى ولو لم تكن المنفعة المرجوة متحققة في هذه الدنيا فهي متحققة في الحياة الآخرة.

بهذه النتيجة انتهى صاحبنا عن إيمان بوجوب الدعوة إلى هوية عربية أصيلة تتبنى إضافة الحداثة، كما هي متمثلة في صورة العلم الجديد، تقنياته مشاركة في ابتكاره وليس اكتفاء بشرائه من أصحابه.

نهاية الطريق «3»

لم تكن أعوام الستينيات قد انتهت، حين اكتملت الرؤية عند صاحبنا، وهي رؤية كانت له بمثابة زهرة اعتملت لإخراجها شجرة حياته منذ جاوز المراهقة ليدخل مرحلة الشباب، فليس في ذلك الامتداد الزمني الطويل مرحلة واحدة خلت من جهد مبذول في تحصيل المعرفة وإرهاف الحس النقدي وتهذيب الذوق المدرك، وأعني القدرة على تقويم الأشياء والأفكار بنوع من الوجد المباشر، وبالتالي فلم يكن في ذلك الامتداد الزمني الطويل مرحلة خلت من الموقف يتخذه صاحبنا في مواجهة الحياة والجانب الثقافي منها بوجه خاص، على أن تلك المواقف التي تعاقبت مع تعاقب المراحل العمرية، لم تتناقض سابقها مع لاحقها، بقدر ما كانت تنمو وتنضج، فهي في كل مرحلة لاحقة تضيف وتحذف وتعدل من مضمون الموقف في المرحلة التي سبقت، لكن تبقى وجدانية واضحة في الروح والشخصية والاتجاه، وإننا لنقرأ أول موضوع خطه قلمه سنة 1927 (أو 1928)، وكان صاحب القلم لم يزل طالبا، وكان الموضوع محاولة لتحليل شخصية الخليفة أبي بكر الصديق، بقصد الوصول إلى ذلك الجوهر في شخصيته، الذي جمع صفتين تبدوان كالنقيضين، وهما أنه كان ما كان من حزم صارم، ثم كان في الوقت نفسه من رقة الطبع ما بلغ به في عذوبة الخلق حدها الأقصى، نقرأ لصاحبنا هذا الذي جرى به قلمه أول ما جرى ليكتبه شيئا تنشره مطبعة، ثم نقرأ أي شيء مما يكتبه في آخر مراحله هذه، فنكاد لا نجد فرقا في طريقة التفكير وأسلوب العرض.

لا لم يكن ما اختلفت به مراحل عمره كذلك الذي يختلف به آخرون من يمين إلى يسار أو من يسار إلى يمين، وإننا إذ نقول ذلك فلسنا نريد حرمان أحد من أن يغير وجهة نظره مع تغير خبرته، ولكن الذي أردناه هو أن نقرر واقعا عن مراحل الحياة التي اجتازها صاحبنا منذ بدأ شبابه الباكر وإلى يومه هذا، وذلك الواقع هو أنه بدأ متطلعا إلى حياة ثقافية تزود صاحبها بالقوة في هذا العالم المتنافس المتقاتل، ثم انتهى في يومه هذا إلى الأمنية نفسها، على أن تلك القوة المتشددة، كما رآها أول حياته، وكما يراها الآن وهو في آخر تلك الحياة، لن يحققها إلا زاد من علم العصر وفنه وأدبه، وأما ما لم يستقر عليه رأي صاحبنا، وما أخذ يغير فيه ويبدل على تعاقب المراحل فهو موقفنا من الماضي، فليس لكائن حي أيا كان نوعه - ودع عنك الإنسان - مندوحة عن الصلة بماضيه، ولكن كيف؟ وكم؟ ذلك هو موضع النظر عندما يتغير الرأي حينا بعد حين.

فنحن - إذن - حين نقول في مستهل هذا الحديث: إن أعوام الستينيات لم تكن قد بلغت ختامها، حين اكتملت لصاحبنا رؤيته، فلسنا نعني أنه قد لبث - منذ بدأ حياته الواعية من الناحية الثقافية - ما يزيد على ستين عاما، يحيا في فراغ، لا رأي له ولا موقف، بل نعني أن آخر الأطوار في مراحل حياته المتطورة قد انتهى به إلى رؤية عرف بها كيف نجري ماضينا في حاضرنا، وبأي نسبة نجريه، وأما جانب العصرية الثقافية وأهميته وضروريته فهو راسخ رسوخ الصخر، لا ندخل عليه تغيرا إلا أن نزيده قوة ورسوخا.

وبهذه الرؤية المكتملة بدأت معه أعوام السبعينيات، وشاءت الأقدار التي تعرف كيف تمشي خطاها لتبلغ ما أرادت أن تبلغه، أن صاحبنا لم يكد يعود من العمل بجامعة الكويت، ليستأنف عمله بجامعة القاهرة، حتى جاءته الدعوة من جريدة الأهرام ليشارك أسرتها الأدبية في جهودها، فسنحت له فرصة نادرة، ليضع رؤيته المتكاملة فيما يكتبه، بل إنه لم يكتب منذ تلك الحين إلا ما يتعلق من قريب بتلك الرؤية التي جاءت أحداث السبعينيات لتزيدها رجحانا، فقد شهد ذلك العقد من السنين حربنا الظافرة مع إسرائيل سنة 1973، ومن موقع القوة المنتصرة عقدنا معاهدة السلام مع إسرائيل في أواخر العقد، وما هو وجه الرجحان الذي اكتسبته وجهة النظر التي اصطنعها صاحبنا لنفسه، بسبب تلك الأحداث؟ وجواب ذلك هو حقيقة، تاريخية واقعة، لم تلتفت إليها أنظارنا بالوعي الكافي، وهي أن إسرائيل حين ألقت عصاها بأرض فلسطين، واعتزمت أن تستقر بها النوى فإن ذلك يعني، فيما يعنيه، أننا تغافلنا عن مدى الهوة التي تفصلنا عن عصرنا هذا، حتى هجم علينا غازيا مستعمرا أول الأمر، ثم مستوطنا في قلب أرضنا في صورة إسرائيل؛ لأن هذه الدولة الناشئة قد جاءت وقوة العصر، التي هي قوة علمه، تسري في أوصالها، وأصبحت المواجهة المتحدية بين حياتنا في تراخيها وحياة العصر الحاضر في شيطنته أمام أعيننا، عرفناها سلبا من هزيمتنا سنة 1967، ثم عرفناها إيجابا حين انتصرنا سنة 1973، ففي الحالة الأولى جهلنا فأسأنا التقدير، وفي الحالة الثانية علمنا فأصبنا الهدف.

وجدير بنا في هذا الموضع من سياق الحديث، أن نشير إلى مفارقة في حياتنا تلفت النظر وتثير السؤال، وهي أننا قد ننظر إلى أنفسنا من زاوية معينة، فإذا هي إما قد نالت حظا موفورا من أسباب الحضارة العصرية مما كانت له انعكاساته الواضحة على حياتنا الثقافية الراهنة، فالتعليم قد اتسعت دوائره من أسفل درجاته إلى أعلاها، فالأمية تنحسر، والجامعات تعد اليوم بالعشرات، وانتشر على أرضنا مئات الألوف ممن تخرجوا في تلك الجامعات، في كل فرع من فروع العلم، فنهضوا بتعمير بلادنا على أحدث ما عرفته حضارة اليوم، وأقاموا من المنشآت الهندسية وغير الهندسية ما جعلنا - من الناحية العلمية - نواكب العصر في تقدمه، وقد أدخلنا في حياتنا من النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية بصفة عامة ما تطور به مظهر حياتنا تطورا ملحوظا، ودخلت أجهزة العصر كل بيت، حتى لقد أصبحنا نتندر بأن يقتني الفلاح البسيط في القرى والكفور والنجوع أنواعا من هذه الأجهزة، كالتليفزيون، والفيديو، والراديو، والثلاجة وغيرها، تغيرت بها حياته تغيرا لم نكن نتوقع حدوثه بهذه السرعة، وننظر في حياتنا العلمية والفنية والأدبية فنرى العلماء، الذين نفخر بهم، قد انتشروا في سائر أقطار العالم المتقدم نفسه، ومنهم من بقي في وطنه شعلة تضيء حتى يبلغ ضياؤها أحيانا أبصار الدنيا، ومن مواطنينا من أبدعوا أدبا ومن أبدعوا فنا ترددت أصداؤه على نطاق واسع، وهكذا نستطيع أن ننظر إلى أمتنا من هذه الناحية، فنرى فيها ما يبعث على الرضى، لكن غير زاوية النظر، وابحث عن القدرة الابتكارية فلن تجد ما يستحق إلا قليلا من ذلك الرضى، فحياتنا الحضارية والثقافية معظمها منقولة إما من موروثنا عن السلف، وإما مما أنتجه الغرب في عصره الحديث، أو في مرحلة ماضية من تاريخه منذ عصر اليونان، وإننا لندعي الفخر بما ليس لنا الحق فيه، برغم دخوله في حياتنا العملية وانتفاعنا به، لكن هذا الجانب شيء، وعظمة الابتكار الأصيل شيء آخر، وعلى هذا الضوء عد بالنظر إلى حياتنا الحضارية والثقافية مرة أخرى تجد ما يثير القلق من حيث القصور في إبداعنا شيئا يأخذه عنا الآخرون، وتجاهلنا للفرق البعيد بين المبتكر من جهة، والناقلين عنه ابتكاره من جهة أخرى، هو الذي أحدث لنا تلك المفارقة، بحيث اختلط علينا الأمر، فلا ندري أنعد من الأمم التي تقدمت بمعايير هذا العصر، أم نعد من الأمم التي تخلفت؟

وسواء أرأينا في صاحبنا أنه أخطأ الرأي، أم رأينا في رأيه الصواب فهو ممن يجعلون القدرة الابتكارية معيار الحكم في تقدم الأمم أو تخلفها، على أن نفهم «الابتكار» فهما قائما على تأثيره في تشكيل الحياة العامة تشكيلا يعمل على رؤية مستقبلية يتقدم بها الإنسان نحو ما هو أسمى وأقوى وأعلم وأصح بدنا ونفسا، وإلا فقد يمسك الطفل بقلم يجريه على الورق كما اتفق فينتج له من ذلك «تشكيل» مبتكر لا سابق له، ولن يكون له لاحق، فإذا جعلنا القدرة الابتكارية البناءة والدافعة إلى الأمام، معيار الحكم على حياتنا في هذا العصر الذي نعيش فيه، تعذر أن نجد ما نفاخر به، ولعلنا نحس بذلك في أعماق قلوبنا فتأخذنا العزة بالإثم ونهاجم أصحاب الحضارة الجديدة ومبدعيها، متهمين إياهم ب «المادية» التي لا تهتدي بالدين ولا تنضبط بالأخلاق، مما ينشأ عنه خداع للنفس، وعجز عن السير مع السائرين.

وعملا بالحكمة القائلة إن من يضيء شمعة خير ممن يلعن الظلام دون أن يعمل على تبديده، بدأ صاحبنا يكتب من المنبر العالي الذي أتاحته له الظروف، وأعني منبر جريدة الأهرام، وواصل الكتابة حتى هذه الساعة، وكان أول ما كتبه في هذه المرحلة الأخيرة، مؤشرا واضحا على خط تفكيره، فكانت مقالته الأولى بعنوان «ليس إيمان الدراويش» وكانت الثانية بعنوان «من الكلامولوجيا إلى التكنولوجيا» ثم توالت الصيحات على هذا الغرار، وإذا تأملنا هذين العنوانين وحدهما وجدنا فيهما ما يدل على وجهة نظر كاملة شاملة، فنحن كلما أدركنا قصورنا الحضاري الثقافي - بمعيار الابتكار - لجأنا إلى حيلة دفاعية، توهمنا بأنه إذا كان قد فاتنا اللحاق بموكب الحضارة القائمة على العلم والصناعة في صورتهما الحديثة ، فنحن ننعم بإيمان ديني لا ينعم بمثله بناة تلك الحضارة، وهو ادعاء ينقض نفسه بنفسه؛ لأننا لو كنا حقا قد تشربنا الدين الذي نؤمن به، لوجب علينا بحكم هذا الدين نفسه أن نسبق الدنيا في إقامة هذه الحضارة القائمة على كشوف العلم وما ينبني عليها؛ لأن الإسلام دين يحض على العلم بأي معنى فهمنا كلمة «علم»، فإذا كان العلم الذي بنيت عليه حضارة عصرنا هو - أساسا - العلم بقوانين الطبيعة، فذلك هو ما دعانا إليه القرآن الكريم كلما دعانا إلى تدبر خلق الله، فخلق الله هو هذا الكون بشتى كائناته وظواهره، وتدبر هذه الكائنات والظواهر لا يعني النظر إليها نظرة المتفرج، بل يعني تعمقها ما وسعنا أن نتعمقها إلى أن «نعلم» شيئا عن أسس سلوكها، أو عن قوانين انتظامها! وذلك هو صميم النشاط العلمي وما ينطوي عليه، فإذا أمرنا بآيات من الكتاب الكريم أن ننظر إلى الإبل كيف خلقت، أو إلى السحب كيف تتجمع لتنزل ماءها إلى أرضن فتحييها بما تنبته من نبات، فأين ينتهي بنا النظر إلى حيوان أو إلى نبات إلا أن ينتهي بمعرفة تتفاوت درجاتها تبعا لقدراتنا، إلى أن تصل إلى درجة «العلم» بالحيوان أو «العلم» بالنبات، وقل هذا عن كل كائن أو ظاهرة مما يجب علينا بحكم الدين أن نتناوله بالنظر، لكن ما هكذا نفعل ونفهم، وتشيع بيننا الفكرة بأن قراءة آيات الكتاب الكريم وحفظها وترتيلها يكفي ليكتمل لنا إيمان بالدين، فجاءت المقالة الأولى «ليس إيمان الدراويش» لتلفت الأنظار إلى الإيمان الديني بمعناه الذي يحض على البحث العلمي في ظواهر الكون، كل بقدر موهبته، فإذا انحصرت موهبه البحث العلمي المنتج في قلة من القادرين كانت هذه الفئة القليلة بمثابة من يؤدي عنا فريضة العلم بطبائع الأشياء.

وجاءت المقالة الثانية «من الكلامولوجيا إلى التكنولوجيا» صيحة تضاف إلى الصيحة الأولى، فليس ثمة من شك في أن النقلة الحضارية التي وضعت الناس في عصرهم هذا هي في حقيقتها نقلة من حضارة سادتها براعة «الكلمة» إلى حضارة أخرى أرادت أن تجعل من «الآلة» (أو الجهاز) موضع براعتها، ولسنا نسوق هذا الكلام على سبيل المفاضلة بين ما هو أعلى وما هو أدنى، كلا وألف مرة كلا، بل إن الأمر أمر تعاقب في أطوار التاريخ، بحيث تأتي المرحلة اللاحقة لتضيف - وليس لتمحو - إلى المرحلة السابقة، وقد كانت الأولوية فيما مضى لما يبنى على كلمات أو يشبه الكلمات من رموز، فبالكلمات تصاغ مبادئ الأخلاق، بل وبالكلمات نزلت رسالات الأديان وحيا من السماء، وبالكلمات تكلم الإنسان، فكان هذا «النطق» أبرز فاصل ميزه من سائر الحيوان، فالنطق بالكلمات مرتبة في صيغ هو «تفكير» أو «عاطفة» أو كائنة ما كانت عناصر الفطرة البشرية، والعلوم الرياضية كلها قائمة على رموز، كالأعداد أو أحرف الهجاء والأشكال التي نراها في علم الهندسة، وأرجو ألا يفوتك هنا أن عصور التاريخ - قبل عصرنا الحديث - لم تكد تعرف من «العلم» إلا ما هو متصل بالفكر الرياضي بكلماته ورموزه وأشكاله، وأما العلم الطبيعي القائم على أجهزة وآلات، على نحو ما نراه اليوم، فهو صنيعة عصرنا بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان، وذلك لا يعني - كما هو واضح - أننا قد ألقينا في اليم بالكلمات والرموز وما يبنى عليهما، فما زلنا نتبادل الأحاديث، ونكتب على الورق، وننشئ الأدب، ونخطب في المحافل، وأما الذي استحدث إضافة إلى هذا كله، فهو العلم في صورته التكنولوجية الجديدة، فإذا أرادت أمة أن تدخل عصرها هذا فباب الدخول لن ينفتح بالكلمات وحدها، بل لا بد له من ابتكار التقنيات (التكنولوجيا) التي يقيم بها الإنسان حياته العلمية كلما بحث في ظواهر الكون ليكشف عن سرها، فيسخرها لخدمته.

إنه لو كان لعصرنا ملمح واحد يميزه من كل ما سبقه من عصور فربما كان ذلك هو إصراره على غزو الطبيعة، وهو ضرب من الغزو اختلف به عن شهوات الغزو التي شهدها تاريخ الإنسان، فقد كان الغازي يستهدف بغزوته إنسانا مثله، إما من مواطنيه بأن يملك رقابهم عبيدا أو كالعبيد، وإما أن يجاوز حدود وطنه ليغزو أرضا أخرى وأهلها، وقد يكون شيئا من شهوات الماضي ما زال عالقا بأهداف الحياة في زماننا، لكن السائد الغالب على خيال القادرين اليوم، هو أن تتحول شهوة الغزو نحو الطبيعة فيحكمها قبل أن تحكمه، وذلك هو منحى العلم الحديث وتقنياته، وانظر إلى الصواريخ الجبارة التي تشق أجواز السماء، إنها لم تقف عند حدود القمر تنزل إلى ترابه، تأتي بعينات من صخوره ومعادنه بل جاوزت ذلك لتوغل كوكب المريخ وكوكب الزهرة بل وربما خرج صاروخ منها إلى ما وراء المجموعة الشمسية بأسرها، وأرجوك أن تتذكر رحلة قام بها كرستوفر كولمبس، فعبر المحيط الأطلنطي - وكان يطلق عليه فيما قبل بحر الظلمات - ووصل إلى أرض ظنها جزر الهند، وإذا بها قارة جديدة لم يكن للناس في العالم القديم علم بها، هي القارة التي نعرفها اليوم باسم «أمريكا» أقول: تذكر تلك الرحلة الواحدة كيف تسلسلت نتائجها حتى وصلت إلى ما نحن فيه اليوم من حضارة جديدة تقوم على علم جديد، يمكن القول بأنها حضارة ابتكرها من هاجروا إلى أمريكا من أهل العالم القديم، وقد أشعلت في رءوسهم ظروف المهجر الفسيح الغني بموارده روح الابتكار والمغامرة والأمل في مستقبل يتغير فيه وجه الحياة، فكان ما كان وأصبحت هذه الصفات من صميم روح العصر، وإذا كانت هذه كلها نتائج رحلة بحرية فوق كوكبنا، فماذا عسى أن ينتج لنا من رحلات الغزو الكوني الجديد؟ إلا أن ذلك غيب لا يعلمه إلا علام الغيوب.

ولعل من أخطر ما يغيب عنا إدراكه إدراكا واضحا، أن تلك الوثبة العلمية القوية الجبارة تعود إلى الإنسان وهو يقهر الطبيعة على هذه الصورة القادرة الظافرة - برغم كل نتائجها السلبية - بضرب من الحرية لم يكن معهودا ولا مألوفا، فلقد مرت عصور لم تكن الحرية فيها تعني أكثر من الجانب المقابل للرق، فالإنسان عندئذ إما أن يكون من فئة الأحرار وإما أن يكون من فئة الرقيق يشترى في الأسواق ويباع، ثم اتسع المعنى ليشمل حرية الإرادة في اختيارها للفعل، وهي حرية كان يقابلها مذهب الجبرية الذي ينفي أن تكون للإنسان القدرة على الاختيار إذ هو مجبر على أن يسير وفق ما قدر له بمشيئة إلهية، لكن «الحرية» شأنها في ذلك شأن الأفكار الكبرى أخذت تتسع في معانيها مع النمو الحضاري، فنشأت الحرية بمعناها السياسي، وبمعانيها في الأدب والفن والاقتصاد والتعليم وغير ذلك، ثم نشأت الحرية بمعانيها الاجتماعية في العلاقة بين صاحب العمل والعامل، أو قل بصفة عامة بين الأفراد والفئات في تعاملهم بعض مع بعض في مجتمع واحد، لكن هذه المعاني كلها لا تشمل هذا الضرب الجديد من الحرية بصورة واضحة ومباشرة، وأعني تلك الحرية التي يكسبها الإنسان في أي مجال «يعلم» الإنسان ما يعلمه، وبقدر علمه في ذلك المجال تكون قدرته على تسخيره لصالحه، فمن يزداد علما بظاهرة الضوء يمكنه استخدام الضوء، فيعرف كيف ينقل الصورة الضوئية عبر مسافات بعيدة، كالذي يحدث في الإرسال التليفزيوني، والأمثلة على تزايد قدرة الإنسان بتزايد علمه بطبائع الأشياء أكثر من أن يغيب أمرها عن أي قارئ، ومع ذلك فنحن بحاجة إلى تذكيره بأن شعوب العالم الثالث بعد أن نالت حريتها السياسية من مستعمريها لم تصبح حرة، وظلت في قبضة هؤلاء المستعمرين أنفسهم، وذلك في مجال «العلم» والصناعة وكل ما يتصل بهذا المجال، ففي هذا لا تزال شعوب العالم الثالث تعتمد في ضرورات حياتها إلى علم ينعم به عليها هؤلاء المستعمرون، فإن شاءوا أمدوهم بآلات المصانع، وأسلحة الحرب ووسائل المواصلات وأجهزة الاتصال إلخ إلخ، وإن شاءوا أمسكوا عن العطاء فهم وحدهم الأحرار حقا بما يعلمون وما يصنعون، ونحن الأتباع حقا بما نعجز عن علمه وصناعته.

وتتصل بالحرية التي يتيحها للإنسان مقدار «علمه» بقوانين الظواهر الطبيعية - بل وكذلك علمه بالطبيعة البشرية وقوانينها كما يستخرجها علم النفس وغيره من مجموعة العلوم الإنسانية - حرية أخرى لم يتنبه إليها أحد تقريبا بما يستحق من عناية واهتمام، إلا في عصرنا هذا، لا أقول «الحديث» بل «الأحدث»، أعني ما ينتج عن إحاطة الإنسان ب «المعلومات» الوافية الخاصة بالموضوع الذي يحدث أن يكون مطروحا ليتخذ فيه القرار الأصوب، فها هنا كذلك يكون الإنسان أكثر حرية في قراراته وتصرفاته فيما يعرض له من مشكلات حياته، بمقدار ما يبني قراره وسلوكه على «معلومات» صحيحة (المعلومات شيء غير العلم)، نعم كان جمع المعلومات عن الموضوع الذي يتطلب قرارا ليس بجديد كل الجدة، فطبيعي حتى بالنسبة إلى إنسان العصر الحجري أن يجمع ما استطاع من معلومات يسترشد بها، قبل خروجه للصيد أو للقتال أو غير ذلك من شئون حياته، لكن مدى تصور الإنسان في الإحاطة بما يجب ان يحاط به كان أكبر من أن يجد الإنسان بين يديه ما يسعفه ويرشده فما هو مقبل على عمله، وأما في عصرنا هذا، عصر الحاسبات الإلكترونية، حيث يمكن تعبئة «المعلومات» بملايين الملايين، ثم استرجاع ما هو مطلوب منها في عشر معشار الثانية، فالأمر قد اختلف اختلافا يبيح لنا أن نقول إنه بمثابة البعد الجديد يضاف إلى غيره من الأبعاد التي تميز هذا العصر، ويبرر اقتراح من اقترح أن يسمي عصرنا هذا بعصر المعلومات، والحق أن المقارنة بين شعوب واعية وشعوب ينقصها الوعي في مرحلتنا الزمنية الراهنة تبين في جلاء أن الفرق بين الحالتين هو فرق بين جمهور «يعرف» وجمهور «لا يعرف»، وهل يحق لنا أن نعجب لماذا تكثر الحكومات الدكتاتورية وتتضاءل الحريات برغم دوران اسمها على الألسنة والأقلام، وكأنها قائمة بالفعل في أقطار العالم الثالث؟ إنه لا عجب، فبينما يتعذر على مستبد أن يخدع جمهورا «يعرف» بما قد تجمع له من «معلومات» ترى ذلك أمرا أهون من الهين في جمهور قلت معلوماته حتى بات «لا يعرف» ما يضيء له ظلام الطريق.

ولا يقتصر فساد الموازين نتيجة لافتقار الجمهور إلى معلومات يستنير بها، على مجال الحكم والسياسة، بل إن الضرر ليتسع حتى يكاد يشمل الحياة العلمية والثقافية بأسرها، فعندنا وعند أمثالنا ممن ضحلت معلوماتهم الصحيحة فقل وعيهم بنفس المقدار، تكثر عملقة الأقزام، إذ ليس على القزم الطموح برغم جهله وقصوره إلا أن يستخدم وسائل الإعلام لصالحه، فما أسرع ما يتحول في خيال الجماهير، وفي وهم الحاكمين، إلى عملاق حتى يستطيع أن يكون عالما بغير علم، أديبا بلا أدب، أي شيء بغير شيء، وتتصل بعملقة الأقزام عملية أخرى قد تستوجبها الظروف فيلجأ إليها القزم الطموح، وهي عملية يجوز تسميتها - كما أسماها صاحبنا ذات يوم فيما كتب - «قرصنة في بحر الثقافة» وكذلك يفعل قراصنة الثقافة في حياتنا، فليس المهم عند أحدهم أن يقوم هو بالعمل، بل المهم هو أن يضع عليه اسمه اغتصابا، ولو كان في حياتنا وعي نقدي لأتاحوا للرأي العام أن يميز الطيب من الخبيث.

همومنا الحضارية والثقافية كثيرة وكذلك منجزاتنا وأمجادنا كثيرة، فكيف السبيل إلى جمع عناصر القوة في كياننا ورؤانا، مع التخلص من عوامل الضعف في ذلك الكيان وهذه الرؤى لينشأ لنا العربي العصري الجديد؟ هذا هو السؤال الذي حاول صاحبنا بكل حياته الفكرية أن يجد له الجواب.

Unknown page