ويظهر أن التوفيق بين حزب الأشراف وبين حزب الوكيل كان أصعب من التوفيق بين النار والماء؛ لأن جماعة النبلاء كانوا يريدون تأسيس حكومة قوية تكون سلطتها محصورة في يد الإمبراطور مباشرة، وأن لا يكون للوكيل أدنى علاقة بها؛ فهاج هذا التطرف والتشدد غضب أنصار الوكيل، فأشاروا عليه بإعلان الحرب الوطنية على الحزب الإمبراطوري، ولكن جيشه لم يوشك أن يحشد حتى هزمته إحدى القبائل المحازبة للإمبراطور على مقربة من بيرو «طوكيو»، فلجأ إليها، فقر قرار الحزب الإمبراطوري على تجريد جيش عرمرم لأخذ طوكيو، ولما علم الوكيل كيكي بذلك تنازل مرة ثانية عن سلطته بمحض إرادته.
هذا مع العلم بأن أغلب الملتزمين برجالهم كانوا طوع أمره؛ لو أنه أراد الحرب لجرد جيشا أعظم وأقوى عددا وعددا من جيش الإمبراطور. وقد حدث أن العشائر المحازبة للوكيل حشدت جيشا لمحاربة الإمبراطور دفاعا عن حقوقها ومنافعها، التي أصبحت مهددة بعد تنازل الشيجون كيكي، وقد أظهروا في الحرب من الشجاعة والشهامة والإخلاص ما يمدحون عليه، ولما أن هزموا في جنوب اليابان ساروا إلى شمالها، وأسسوا في هوكايدو جمهورية يابانية، ولكنهم هزموا مرة ثانية وردوا إلى حظيرة الطاعة بعد العصيان.
ومن بين الذين قادوا جيوش ذلك الحزب الجمهوري الفيكونت هباشي، سفير اليابان في بلاط سان جيمس بإنكلترا، وكان من زعماء حزب الشيجون، وقد حارب إلى أن لم يبق في القوس منزع، فسلم بعد حصار طويل إلى جنود الإمبراطور، وبعد ذلك سادت السكينة على البلاد، وحقن البعض دماء البعض بعد طول عهد العداوة والشحناء.
هذا هو ملخص الثورة اليابانية، ولا بد من ختام ذلك الملخص بوصف تأثير تلك الثورة على سياسة البلاد؛ فالقارئ يذكر أن منشأ تلك الحركة الفكرية كان بعض الأجانب والسعي في وقاية البلاد من شرهم، فكانت الحكومة اليابانية الجديدة قائمة على كراهية الأجنبي، والتفاني في حماية البلاد مما يصيبها منه، ومع ذلك فإن الأحوال تغيرت في الحال، وانقلب بغض الأجانب حيال عداوتهم صداقة، وأسرعت الحكومة الجديدة في إدخال المدنية الغربية إلى بلاد الشمس المشرقة بأسرع ما يمكنها؛ فاطمأن الشعب الياباني كله إلى تلك السياسة، وعضدوا الحكومة في سائر أعمالها، واستبدلوا حب الجديد بحب القديم، وأقبلوا اليوم على ما كانوا منه بالأمس نافرين.
ولذلك التغير سببان؛ الأول: أن الأمة لم تثر ضد الأجانب، إنما ثارت ضد حكومة الشيجون التي اتخذت التعصب ضد الغرباء آلة لمحاربة الوكلاء؛ ليكون ذلك لأعمالها مبررا، ولسياستها مزكيا، والثاني: أن اليابانيين استبانوا عظمة المدنية الغربية، ووقفوا على أخلاق أهل أوروبا وأمريكا، وفطنوا إلى أن الوكلاء لم يمنعوهم عن الاختلاط إلا رغبة في تأييد سلطتهم، والاستبداد بالأمر في بلاد اليابان. وما زال التقدم سائرا على قدم وساق حتى كانت سنة 23 بالتاريخ الميجي الياباني، فتنازل الإمبراطور منسوهيتو عن السلطة المطلقة، ومنح أمته دستورا يشبه الدستور الإنكليزي، ووضع في رأس الوزارة المركيز إيتو الذي كان من عشيرة شيوسكي، وهي من أنصار أبيه.
وقد شهد العالم منذ سنتين ما أظهرته اليابان من الشجاعة والثبات في ميادين الحرب والطعان، فهزمت دولة ضخمة لم يسمع بمثل ضخامتها في تاريخ بني الإنسان، وبعد أن عقد الصلح بين الدولتين، واستتب الأمر في الشرق الأقصى لأمة الشمس المشرقة، خطبت إنكلترا سلطانة البحار ودها، وعقدت معها معاهدتها المشهورة، ثم تنازل الإمبراطور منسوهيتو في هذا العام لنجله الأكبر؛ فقد قام هذا الميكادو الجليل بعملين عظيمين؛ الأول: أنه تنازل عن سلطته الاستبدادية، وهذا عمل كان يجدر بقيصر الإمبراطورية الروسية، والثاني: أنه تنازل عن الملك لابنه مع أنه لا يزال قادرا على التمتع به.
مقدمة ثانية
إن رأس الآداب النفسية لدى اليابانيين فضيلة الإيثار، وهي أن يقدم الإنسان نفع غيره على نفسه؛ فلا يستطيع أحدهم أن يدعي لنفسه الأخلاق الفاضلة والخلال السامية إلا إذا كان منكرا لذاته؛ لأن الأثرة مجلبة الرذائل، ومزرعة النقائص، كما أن الإيثار هو تاج الفضائل، ومنبت الكمالات؛ لأنه يستلزم التواضع وبغض الشهرة لذاتها، ويستدعي الخضوع للشرائع وللقوانين الوضعية. وهذا لا يكون إلا لمن كانت العفة والقناعة من صفاته.
والناظر في أخلاق أهل الشرق بأسرهم يوشك أن يستقصي تلك الحسنات فيها، إنما طمستها أحوال عرضت على الشعوب الشرقية فأصابتها بجمود عرضي، لو دام طويلا ولم يجد من يقتلع جذوره بالحكمة والتعقل يصير جوهريا، وحينئذ يصعب تحويل هاتيك الأمم عما يكون قد لصق بها من المعايب المذمومة.
وبين يدي القارئ كتاب نقلناه من اليابانية اسمه بلغته «أونادايجاكو» أو «التعليم الراقي للإناث»، ألفه منذ قرنين الأخلاقي الياباني «كايبارايكن»، وقصد به أن يكون ما تضمنه من الحكم والآداب والإرشاد خاصا بالنسوة. وقد كان المؤلف أونادايجاكو متمكنا من آداب اللغة الصينية تمكنه من لغته الأصلية، وهذا الذي دعاه ودعا غيره إلى النسيج على منوال كتاب الصين، والسير على دربهم. وهذه كانت عادة اليابانيين في عهد أونادايجاكو؛ أي منذ مائتي سنة.
Unknown page