وشبيه بهذا اللون من الإحسان الأدبي برا ببعض الحاجات، مقدمة كتبها لكتاب اسمه «الفاروق عمر بن الخطاب» ألفه مؤلفه وهو مدرس في إحدى مدارس الحكومة، وسعى به إليه ليكتب له المقدمة، وقرأ الرافعي الكتاب، فلم يجد فيه ما يحفزه إلى إجابة هذا الرجاء، فرد الكتاب إلى صاحبه معتذرا، ولكن المؤلف عاد يرجوه ويستشفع إليه، ويبسط له من حاله ويصف حاجته ... وأثرت كلماته وما وصف من حاله في نفس الرافعي، فأجابه إلى ما طلب، وكتب كلمة بعنوان «عمر»، لم يعرض فيها للكتاب، ولا لموضوعه، ولا لمؤلفه، ولكنها كلمة وجد فيها المؤلف طلبته ليصدر بها الكتاب وعليه اسم الرافعي ... ... فهذه الكلمات الثلاث: فلسفة القصة، وديوان الأعشاب، وعمر - وللرافعي كثير من أمثالها - هي حسنات أدبية أنشأها على أنها لون من ألوان البر والمعونة، على مثال ما يتصدق ذوو المال بالمال! •••
وكانت أولى مقالات الرافعي بعدما دعاه صاحب الرسالة إلى العمل معه، مقالة «لا تجني الصحافة على الأدب ولكن على فنيته».
3
وتوالت مقالات الرافعي بعد ذلك في الرسالة، فنشر في الأسبوع التالي مقالة «الإشراق الإلهي وفلسفة الإسلام»، وأحسبه اختار هذا الموضوع - على انقطاع الصلة بينه وبين الموضوع السابق - احتفاء بالمولد النبوي؛ إذ كان هذا موسمه.
ثم نشر «موت أم» وهي صورة حية نابضة لصبية فقدوا أمهم وما يزال أكبرهم في الثامنة، وهي صورة حقيقية مرت أمام عينيه فانفعلت بها نفسه، أما هذه الأم فهي زوج صديقنا الأستاذ حسنين مخلوف، وأما هؤلاء الصبية فبنوها، اهتصرها الموت في ريعانها فمضت وخلفت وراءها أربعة، فبكاها الرافعي بكاء الوالد، وما أعلم أنه مشى في جنازة قبل جنازتها، ودفنت في مقبرة آل الرافعي بطنطا، ولما عاد الرافعي من الجنازة ليعزي صديقه في داره، دعا بولده ليمسح على رأسه ويسري عنه، فكان بينه وبين عيني الطفل حديث طويل، فما غادر مجلسه إلا ورأسه يفيض بشتى المعاني، وقلبه يختلج بفيض غامر من الألم، وعيناه تترقرق فيهما الدموع!
وروح إلى داره فجلس إلى مكتبه يفكر ... ومضى يوم ثم أرسل يدعوني إليه فأملى علي «موت أم!»
وكان الأسبوع التالي موعد امتحان الشهادة الابتدائية، فكانت مقالته: «حديث قطين » وإنها لتتحدث بنفسها عن شيء من مناسبتها، وإن فيها إلى ذلك لشيئا من خلق الرافعي لم يكن يعرفه إلا الخاصة من أصحابه، ذلك هو طبيعة الرضا بما هو كائن، فقد كان ذلك من ألزم صفاته له، فكان دائما باسما منبسط الوجه، يقنع نفسه في كل يوم بأنه في أسعد أيامه، فمن ذلك كان يحاول أن يجعل من كل ألم يناله لذة يشعر بها نفسه، ومن كل فادحة تنزل به خيرا يترقبه ويهيئ له، ولعل أحدا لا يعرف أن الرافعي لم يكن يرى في تلك العلة التي ذهبت بسمعه وهو لم يزل غلاما، إلا نعمة هيأته لهذا النبوغ العقلي الذي أملى به في تاريخ الأدب فصلا لم يكتب مثله في العربية منذ قرون! ولا شيء غير الإيمان بحكمة القدر وقانون التعويض يجعل الإنسان أقوى على مكافحة أحداث الزمن فلا تأخذ منه النوازل بقدر ما تعطيه ... وذلك بعض إيمان الرافعي!
هذا الخلق هو المحور الذي كان يدور حوله الحديث الذي اصطنعه الرافعي على لسان القطين، وهو الذي حمله من بعد على إنشاء مقالتي: «سمو الفقر» في العددين التاليين من الرسالة، والشيء يذكر بالشيء، فلولا ما جاء في امتحان الشهادة الابتدائية لذلك العام، ما أنشأ الرافعي حديث قطين، ولولا ما ألهمه حديث القطين من المعاني في فلسفة الرضا ما أنشأ مقالتي: «سمو الفقر» ففي هذه المقالات الثلاث موضوع واحد اختلف عنوانه واتحدت غايته وكانت مناسبته ما قدمت ...
وقد يسأل بعض القراء: ولكن ما وجه عناية الرافعي بنقد سؤال توجهه وزارة المعارف إلى تلاميذها في امتحان الشهادة الابتدائية، وليس الرافعي من أهل «البيداجوجيا»، وليست المناسبة من الخطر بحيث تحمل مثله على الاهتمام!
وأقول لهذا السائل الحفي: إن عبد الرحمن الرافعي - وهو أصغر بنيه وأحبهم إليه - كان يؤدي في ذلك العام امتحان الشهادة الابتدائية؛
Unknown page