ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب . والجلاد الذي يقتل مجرما حكم عليه بالقتل، والرجل الذي يقتل نفسا دفاعا عن نفسه، والجندي الذي يقتل دفاعا عن وطنه ، والمؤمن الذي يقتل حتى لا يفتنه أحد عن دينه، هؤلاء جميعا لا يرتكبون إثما ولا معصية حين يقتلون. هم إنما يؤدون لله حقا فرضه الله عليهم ولهم عنه جزاء المحسنين. وما يقال في القتل يقال كذلك في غيره من الأعمال المتداولة بين الخير والشر. فالعالم الذي يكتشف بعض المدمرات للدفاع عن وطنه أو لما تفيد هذه المدمرات العالم حين السلم، وصانع الأسلحة وكل عامل وكل إنسان على الأرض، إنما يعمل الخير أو يرتكب المعصية حسب الوجهة التي يولي وجهه شطرها والأثر الذي يترتب على عمله.
هذه إرادة الله وهي سنته في الكون، ولما كان الله قد خلق الناس بعضهم فوق بعض درجات في الاستعداد لإدراك هذه السنة، فجعل منهم من يحصرون كل نشاطهم في البقعة التي ينشئون فيها وهي تثميرها والقيام عليها، ووهب آخرين موهبة الصناعة، وجعل لغير هؤلاء وأولئك من المواهب في الأعمال والفنون والعلوم ما لا يتيسر لهم معه الاهتداء إلى هذه السنة، ولما كانت معرفتها أساسية للإنسان كي يهتدي في الحياة، فقد وهب لأفراد موهبة النبوة واصطفى آخرين لرسالاته ليبينوا لنا الخير والشر، ووهب لآخرين مواهب العلم والمنطق ليكونوا ورثة الأنبياء فيهدونا إلى ما يجب علينا أن نعمله وما يجب علينا أن نتجنبه، وركب فينا قوى العقل والعاطفة لندرك ما يلقى إلينا من التعاليم، فنروض أنفسنا برياضتها كي نحسن التوجه في الحياة إلى الخير وكي نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر. فإذا التبس الأمر مع ذلك على بعض الناس فارتكبوا المعصية فجزتهم الجماعة عن معصيتهم، احتفاظا بكيانها أن تجني هذه المعصية عليه، لم يكن ذلك سدا بينهم وبين التوبة والأوبة إلى الحق. فمن ارتكب الخطيئة أو الإثم بجهالة ثم حاسب نفسه وغير ما بها وعاد إلى الله طائعا منيبا، غفر الله له ما تقدم من ذنبه وتاب عليه. ومن ثم كان للخاطئ والآثم أن يستفيد من عبر الأيام وأن يطهر قلبه، وأن يرجع إلى طريق الحق تائبا فيقبل الله منه؛ إنه هو التواب الرحيم.
هذا التصوير للحياة، يوفق ما بين مذاهب فلسفية شتى يحسب أصحابها أن لا سبيل إلى التوفيق بينها، فهو صريح في أن الوجود إرادة
إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون . والكون يمثل ما يقع عليه الحس وما ينقطع الحس دونه. وللكون سنن ثابتة نستطيع في حدود علمنا الواقعي أن نقف منها على ما يهدينا العقل إليه، وما يزداد بازدياد مجهودنا للكشف عنه. والخير قوام الكون. ولكن الشر يغالبه فيه ويكاد يتغلب عليه أحيانا. ومغالبة الخير للشر هي هذا التطور المنشئ الذي خطا بالكون وبالإنسانية خطوات واسعة حتى بلغت من طريقها إلى الكمال ما بلغته اليوم.
وأنت ترى أن هذا التصوير ينطوي على فكرة التقدم إلى الكمال كخير ما عرف التفكير الفلسفي تصويرا من نوعه. يدلك على ذلك، فضلا عما سبق تصوير القرآن للتطور الروحي في الحياة منذ خلق الله الأرض ومن عليها. فقد خلق الله السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش. أفهذه الأيام الستة من أيامنا على الأرض أم هي أيام يصح فيها قوله تعالى:
وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون ؟
45
ليس هذا محل بحثنا وإن وجدت فيه نظرية التطور - وإنه بعض سنة الله في الكون - مجالا للقول فسيحا. وخلق الله آدم وحواء وقال للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى. ولم يرد إبليس عن إبائه أن علم الله آدم الأسماء كلها. قال تعالى:
ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين * فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين * وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين * فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين * قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين * قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين * قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون * يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون * يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون .
46
Unknown page