44
بل هي تسلك هذه المذاهب جميعا في نظامها على أنها بعض سنن الكون والحياة. ولئن لم يتسع المقام هنا لبسط هذه الصورة لأحاولن مع ذلك إيجازها بكل ما أستطيع من دقة ووضوح . وأحسب الذين يتلون ما أكتب يوافقونني على أن سمو الفكرة وانفساح مداها وعمقها قد بلغ الغاية من كل ما نعرف من نظريات حتى اليوم، وأنها تفسح الطريق إلى ما قد يسمو إليه الفكر الإنساني من بعد.
وأريد قبل أن أبدأ هذا الإيضاح الوجيز أن أثبت هنا ملاحظتين أرجو ألا ينساهما في هذا المقام أحد: أولاهما أنني لا أقصد من ذلك إلى معارضة نظرية مسيحية. فما جاء به عيسى قد أقره الإسلام كما ذكرت غير مرة في غضون هذا الكتاب. وإنما جاء الإسلام جامعا ومتوجا للنبوات والرسالات التي سبقته. ولقد أثبتت الأناجيل قول المسيح لأصحابه: «ما جئت لأنقض الناموس ولكن جئت لأكمله.» كذلك أثبت القرآن إيمان المسلمين بإبراهيم وموسى وعيسى والنبيين من قبل. وإنما جاء الإسلام مكملا لما أرسلهم الله به، مصححا لما حدث من تحريف أتباعهم الكلم عن مواضعه. والثانية أن المذهب الفلسفي الإسلامي الذي استنبطته من القرآن قد سبقني إليه غيري، ولكن على نحو غير النحو الذي أقرره اليوم؛ وإنما اهتديت في هذا النحو بهدي القرآن، ونهجت فيه نهج الطريقة العلمية الحديثة، فإن وفقني الله للصواب فله جل شأنه الفضل والمنة. وإن جفاني التوفيق في شيء منه كان من أكبر التحدث بنعمة الله أن يهديني أولو العلم إلى ما جفاني التوفيق فيه.
وأول ما يقرره القرآن أن لله في الكون سننا ثابتة لا تحويل لها ولا تبديل. والكون ليس أرضنا وما عليها وكفى، ولا هو محصور فيما يقع عليه حسنا من كواكب وأفلاك، وإنما الكون مجموع ما خلق الله من محسوس وغير محسوس، حاضر وغيب. وحسبك أن تتصور هذا لتدرك حقا أننا لم نؤت من العلم إلا قليلا. فهذا الأثير بيننا وبين الكواكب، وهذه الكهربا التي تملأ الأثير وتملأ أرضنا، وهذه الأبعاد الشاسعة التي تفصل بيننا وبين الشمس وما هو أبعد من الشمس من أفلاك، وما وراء الأفلاك التي تبعد عن الشمس بألوف السنين الضوئية، ثم ما وراء ذلك من لا نهايات لا سبيل لخيالنا أن يحيط بها وعند الله علمها - هذا كله يجري على سنة ثابتة لا تتغير. وما نعرفه من هذا كله معرفة علمية - على حد تعبيرنا اليوم - قليل يختلط فيه الخيال بالواقع، ثم يتضاءل الواقع إلى جانب الخيال حتى يبلغ غاية الضآلة، ثم يبقى هذا الواقع مع ذلك غاية ما نعلم وما نقيم عليه أقيستنا وما نقرر على ضوئه ما نسميه سنن الكون والحياة. ولو أننا أردنا أن نطلق للخيال عنانه لنتصور ضآلة هذا الذي نعرف لانفسح أمامنا مجال الأمثال بما يضيق عنه هذا المقام. افترض مثلا أن أهل المريخ أقاموا عندهم «مذيعا» قوته مائة مليون كيلوات ليسمعونا - أهل الأرض - ما يدور عندهم وليرونا إياه من طريق «التليفزيون» أترانا بعد ذلك نستطيع أن نمسك علينا عقولنا؟ والمريخ ليس أبعد الكواكب عنا ولا أشدها ازورارا عن الاتصال بنا.
وهذا الكون الذي لم نؤت من علمه إلا قليلا يؤثر كل ما فيه في وجود أرضنا وما عليها. فلو أن واحدا من هذه الأفلاك اختلف بقدر من الله مداره، لتغيرت سنة الكون، ولتغيرت لذلك حياتنا القصيرة الضئيلة المتأثرة، بكل ما حولنا، وبأتفه ما حولنا. وهي أكثر تأثرا وخضوعا بطبيعة الكون لعظائم ما في الكون وجلائله. وهي في تأثرها ذاك قد تسلك سبيل الخير وقد تنحرف عنها. وهي في سلوكها هذه السبيل وفي انحرافها عنها لا تندفع في هذه أو تلك من الناحيتين بحكم ما يؤثر فيها من عوامل الحياة وحده، بل بحكم استعدادها كذلك لتلقي آثار الحياة، وسلطانها على ذاتها في تلقي هذه الآثار. ورب عامل معين أثر في نفوس كثيرين آثارا مختلفة، فاندفعت كل واحدة منها إلى ناحية، كانت إحداها الفيصل بين الخير والشر، ثم كانت سائرها درجات نحو الخير ودرجات نحو الشر.
فما في الحياة من خير أو شر إنما هو أثر لما يقع بين عوامل الحياة والنفس الإنسانية من تفاعل؛ ومن ثم كان الخير والشر بعض ما في الكون من آثار سنته الثابتة، وكانا لذلك من مستلزمات وجوده، كما أن السالب والموجب من مستلزمات وجود الكهربا ، وكما أن وجود بعض المكروبات من مستلزمات الحياة لجسم الإنسان.
وليس شيء شرا لذاته ولا خيرا لذاته، بل للغاية التي يوجه إليها، وللأثر الذي يترتب عليه. فما يكون شرا أحيانا يكون ضرورة ملحة وخيرا محضا أحيانا أخرى. ومن المدمرات التي تستعمل في الحروب لإهلاك ملايين بني الإنسان وتخريب أبدع ما أقام الإنسان من الآثار ما له أيام السلم أكبر الفائدة. فلولا الديناميت لتعذر شق الأنفاق ومد السكك الحديدية خلالها؛ ولتعذر الكشف عن المناجم التي تحتوي أثمن الكنوز وأنفس الأحجار والمعادن. والغازات الخانقة التي يلقي المحاربون قذائفها على الوادعين من أبناء الأمة التي تحاربهم، والتي تعتبر لذلك عارا وشنارا على الإنسانية ومظهرا من مظاهر وحشيتها وجبنها؛ هذه الغازات تصلح في السلم لأغراض نافعة أعظم النفع، منقذة للإنسانية من كثير من الأمراض المعدية وأهوالها. فمن هذه الغازات ما تنقى به المياه من المكروبات الضارة كغاز الكلور، ومنها ما يصلح في حياة السفن إذ يقتل بعضه الجرذان فيها، ويدل بعضه على مواطن الغازات الأخرى التي تعرض حياة الملاحين للخطر.
وقديما خيل إلى الناس أن من الحشرات والطيور والحيوان ما لا فائدة البتة من وجوده، ثم تبين لهم بعد البحث والدرس ما لهذه الحشرات والطيور والحيوان من فائدة للإنسان، حتى لقد صدرت في ممالك مختلفة قوانين تحمي هذه الخلائق من القتل أو الصيد تقديرا لخيرها للإنسانية. والذين درسوا هذه الخلائق قد لاحظوا أنها أشد حرصا على مسالمة الحياة المحيطة بها في حدود الاحتفاظ بوجودها كي تقوم بقسطها من الخير الذي فطرت على القيام به، وأنها لا تؤذي إلا دفاعا عن نفسها حين يهاجمها مهاجم أو يغريها مغر بالأذى.
وأعمالنا - نحن بني الإنسان - ليست خيرا كذلك لذاتها ولا شرا لذاتها، بل للغاية التي توجه إليها والأثر الذي يترتب عليها. أليس القتل إثما محرما؟! ولكن الله مع ذلك إذ يحرم القتل يقول:
ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق . والقتل بالحق لا إثم فيه.
Unknown page