ودخل محمد بيت عائشة. لكن المجهود الذي أنفقه يومئذ وهو في مرضه قد كان من شأنه أن زاد وطأة المرض شدة. وأي مجهود بالنسبة لمريض تساوره الحمى يخرج بعد أن تصب عليه سبع قرب من الماء، ويخرج تثقله أكبر الشواغل: جيش أسامة، ومصير الأنصار من بعده، ومصير هذه الأمة العربية التي ربط الدين الجديد بأقوى الأواصر وأمت الروابط بينها. لذلك حاول أن يقوم في غده ليصلي بالناس كما عودهم، فإذا هو لا يقدر. إذ ذاك قال: مروا أبا بكر فليصل بالناس. وكانت عائشة تحرص على أن يؤدي النبي الصلاة لما في ذلك من مظهر الصحة، فقالت: إن أبا بكر رجل رقيق ضعيف الصوت كثير البكاء إذا قرأ القرآن. قال محمد: مروه فليصل بالناس، فكررت عائشة قولها، فصاح محمد بها والمرض يهزه: إنكن صواحب يوسف! مروه فليصل بالناس. وصلى أبو بكر بالناس كأمر النبي. وإنه لغائب يوما إذ دعا بلال إلى الصلاة ونادى عمر أن يصلي بالناس مكان أبي بكر. وكان عمر جهير الصوت؛ فلما كبر في المسجد سمعه محمد من بيت عائشة فقال: «فأين أبو بكر؟ يأبى الله ذلك والمسلمون.» ومن هنا ظن بعضهم أن النبي استخلف أبا بكر من بعده أن كانت الصلاة بالناس أول مظهر للقيام مقام رسول الله.
وبلغت به شدة المرض حدا آلمه؛ ذلك أن الحمى زادت به حتى لقد كانت عليه قطيفة، فإذا وضع أزواجه وعواده أيديهم من فوقها شعروا بحر هذا الحمى المضنية. وكانت ابنته فاطمة تعوده كل يوم، وكان يحبها ذلك الحب الذي يمتلئ به وجود الرجل للابنة الواحدة الباقية له من كل عقبه. لذلك كانت إذا دخلت على النبي قام إليها وقبلها وأجلسها في مجلسه. فلما بلغ منه المرض هذا المبلغ دخلت عليه فقبلته؛ فقال: مرحبا بابنتي، ثم أجلسها إلى جانبه وأسر إليها حديثا فبكت، ثم أسر إليها حديثا آخر فضحكت. فسألتها عائشة في ذلك؛ فقالت: ما كنت لأفشي سر رسول الله
صلى الله عليه وسلم . فلما مات ذكرت أنه أسر إليها أنه سيقبض في مرضه هذا فبكت، ثم أسر أنها أول أهله يلحقه، فضحكت، وكانوا لاشتداد الحمى به يضعون إلى جواره إناء به ماء بارد، فما يزال يضع يده فيه ويمسح بها على وجهه. وكانت الحمى تصل به حتى يغشى عليه أحيانا ثم يفيق وهو يعاني منها أشد الكرب؛ حتى قالت فاطمة يوما وقد حز الألم في نفسها لشدة ألم أبيها: واكرب أبتاه! فقال: لا كرب على أبيك بعد اليوم. يريد أنه سينتقل من هذا العالم عالم الأسى والألم.
وحاول أصحابه يوما تهوين الألم على نفسه، فذكروا له نصائحه ألا يشكو المريض. فأجابهم إن ما به أكثر مما يكون في مثل هذه الحال برجلين منهم. وفيما هو في الشدة وفي البيت رجال قال: «إيتوني بدواة وصحيفة أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده أبدا.» قال بعض الحاضرين: إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قد غلبه الوجع، وعندكم القرآن، وحسبنا كتاب الله. ويذكرون أن عمر هو الذي قال هذه المقالة. واختلف الحضور، منهم من يقول: قربوا يكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده. ومنهم من يأبى ذلك مكتفيا بكتاب الله، فلما رأى محمد خصومتهم قال: قوموا! ما ينبغي أن يكون بين يدي النبي خلاف. وما فتئ ابن عباس بعدها يرى أنهم أضاعوا شيئا كثيرا بأن لم يسارعوا إلى كتابة ما أراد النبي إملاءه. أما عمر فظل ورأيه، أن قال الله في كتابه الكريم:
ما فرطنا في الكتاب من شيء .
3
وتناقل الناس ما بلغ من اشتداد المرض بالنبي، حتى هبط أسامة وهبط الناس معه من الجرف إلى المدينة. ودخل أسامة على النبي في بيت عائشة، فإذا هو قد أصمت
4
Unknown page