وحادث وقع جعلهم أشد خوفا، فقد أرق محمد ليلة أول ما بدأ يشكو وطال أرقه، وحدثته نفسه أن يخرج في ليل تلك الأيام، أيام الصيف الرقيقة النسيم، فيما حول المدينة، وخرج ولم يستصحب معه أحدا إلا مولاه أبا مويهبة. أفتدري إلى أين ذهب؟ ذهب إلى بقيع الغرقد حيث مقابر المسلمين على مقربة من المدينة. فلما وقف بين المقابر قال يخاطب أهلها: «السلام عليكم يأهل المقابر، ليهنئ لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه. أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها، الآخرة شر من الأولى.» حدث أبو مويهبة أن النبي قال له أول ما بلغا بقيع الغرقد: «إني أمرت أن أستغفر لأهل هذا البقيع فانطلق معي.» فلما استغفر لهم وآن له أن يئوب، أقبل على أبي مويهة فقال له: «يا أبا مويهبة، إني قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلود فيها ثم الجنة، فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة.» قال أبو مويهبة: بأبي أنت وأمي! فخذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة. قال محمد: «لا والله يا أبا مويهبة! لقد اخترت لقاء ربي والجنة.»
تحدث أبو مويهبة بما رأى وما سمع؛ لأن النبي بدأ يشكو المرض غداة تلك الليلة التي زار فيها البقيع، فاشتد خوف الناس ولم يتحرك جيش أسامة. صحيح أن هذا الحديث الذي يروى عن أبي مويهبة يلقاه بعض المؤرخين بشيء من الشك، ويذكرون أن مرض محمد لم يكن وحده هو الذي حال دون تحرك الجيش إلى فلسطين، وأن تذمر الكثيرين من تعيين حدث كأسامة على رأس جيش يضم جلة المهاجرين الأولين والأنصار، كان أكبر من مرض محمد في عدم تحرك الجيش أثرا. وقد اعتمد هؤلاء المؤرخون في تدوين رأيهم هذا على وقائع يتلوها القارئ في هذا الفصل. وإذا كنا لا نناقش أصحاب هذا الرأي رأيهم في تفاصيل هذا الذي روى أبو مويهبة، فإننا لا نرى مسوغا لإنكار الحادث من أساسه، وإنكار ذهاب النبي إلى بقيع الغرقد واستغفاره لأهل المقابر من ساكنيه ودقة إدراكه اقتراب ساعته، ساعة الدنو من جوار الله، فالعلم لا ينكر في عصرنا الحاضر مناجاة الأرواح على أنها بعض المظاهر النفسية
. ودقة الإدراك لدنو الأجل يؤتاها الكثيرون حتى ليستطيع أي إنسان أن يقص مما عرف من وقائع ذلك شيئا غير قليل. ثم إن هذه الصلة بين الأحياء والموتى، وهذه الوحدة بين الماضي والمستقبل، وحدة لا يحدها زمان ولا مكان، قد أصبحت مقررة اليوم وإن كنا بطبيعة تكويننا نقصر عن استجلاء صورتها. فإذا كان ذلك بعض ما نرى اليوم وبعض ما يقره العلم، فلا محل لإنكار هذا الحادث الذي روى أبو مويهبة من أساسه، ولا محل لهذا الإنكار بعد الذي ثبت من اتصال محمد النفسي والروحي بعوالم الكون اتصالا يجعله يدرك من أمره أضعاف ما يدرك الموهوبون في هذه الناحية.
وأصبح محمد في الغداة ومر بعائشة، فوجدها تشكو صداعا في رأسها وتقول: وا رأساه. فقال لها وقد بدأ يحس ألم المرض: بل أنا والله يا عائشة وا رأساه. لكن شكوه لم يكن قد اشتد إلى الحد الذي يلزمه الفراش، أو يحول بينه وبين ما عود أهله وأزواجه من تلطف ومفاكهة. وكررت عائشة الشكوى من صداعها حين سمعته يشكو؛ فقال لها: وما ضرك لو مت قبلي فقمت عليك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك؟! وأثارت هذه الدعابة غيرة الأنوثة في نفس عائشة الشابة كما أثارت عندها حب الحياة والحرص عليها، فأجابت: «ليكن ذلك حظ غيري. والله لكأني بك لو قد فعلت ذلك لقد رجعت إلى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك.» وتبسم النبي وإن لم يمكنه الألم من متابعة الدعابة، فلما سكن عنه الألم بعض الشيء قام يطوف بأزواجه كما عودهن. لكن الألم جعل يعاوده وتزداد به شدته. حتى إذا كان في بيت ميمونة لم يطق مغالبته، ورأى نفسه في حاجة إلى التمريض. هنالك دعا نساءه إليه في بيت ميمونة واستأذنهن، بعد أن رأين حاله، أن يمرض في بيت عائشة. وأذن له أزواجه في الانتقال؛ فخرج عاصبا رأسه، يعتمد في مسيرته على علي بن أبي طالب وعلى عمه العباس، وقدماه لا تكادان تحملانه حتى دخل بيت عائشة.
وزادت به الحمى في الأيام الأولى من مرضه، حتى لكان يشعر كأن به منها لهبا. لكن ذلك لم يكن يمنعه ساعة تنزل الحمى من أن يمشي إلى المسجد ليصلي بالناس. وظل على هذا عدة أيام، لا يزيد على الصلاة ولا يقوى على محادثة أصحابه ولا خطابهم، وإن لم يحل ذلك دون أن يصل الهمس إلى أذنه بما يقول الناس إنه أمر غلاما حدثا على جلة المهاجرين والأنصار لغزو الشام. ومع أنه كان يزداد وجعه كل يوم شدة، لقد شعر من هذا الهمس بضرورة التحدث إلى الناس حتى يعهد إليهم؛ فقال لأزواجه وأهله: «هريقوا علي سبع قرب من آبار شتى حتى أخرج إلى الناس فأعهد إليهم.» وجيء بالماء من آبار مختلفة، وأقعده أزواجه في مخضب
1
لحفصة، وصببن عليه ماء القرب السبع حتى طفق يقول: حسبكم حسبكم. ولبس ثيابه وعصب رأسه وخرج إلى المسجد وجلس على المنبر، فحمد الله ثم صلى على أصحاب أحد واستغفر لهم وأكثر من الصلاة عليهم، ثم قال: «أيها الناس أنفذوا بعث أسامة. فلعمري لئن قلتم في إمارته لقد قلتم في إمارة أبيه من قبله.
وإنه لخليق للإمارة وإن كان أبوه لخليقا لها.» وسكت محمد هنيهة خيم الصمت على الناس أثناءها. ثم عاد إلى الحديث فقال : «إن عبدا من عباد الله خيره الله بين الدنيا والآخرة وبين ما عنده فاختار ما عند الله.» وسكت محمد من جديد والناس كأنما على رءوسهم الطير. لكن أبا بكر أدرك أن النبي إنما يعني بهذه العبارة الأخيرة نفسه، فلم يستطع لرقة وجدانه وعظيم صداقته للنبي أن يمسك عن البكاء، فأجهش وقال: بل نحن نفديك بأنفسنا وأبنائنا! وخشي محمد أن تمتد عدوى التأثر من أبي بكر إلى الناس، فأشار إليه قائلا: على رسلك يا أبا بكر. ثم أمر أن تقفل جميع الأبواب المؤدية إلى المسجد إلا باب أبي بكر، فلما أقفلت قال: «إني لا أعلم أحدا كان أفضل في الصحبة عندي يدا منه. وإني لو كنت متخذا من العباد خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن صحبة وإخاء إيمان حتى يجمع الله بيننا عنده.» ونزل محمد عن المنبر يريد أن يعود بعد ذلك إلى بيت عائشة، على أنه لم يلبث أن التفت إلى الناس وقال: «يا معشر المهاجرين استوصوا بالأنصار خيرا، فإن الناس يزيدون والأنصار على هيئتها لا تزيد. وإنهم كانوا عيبتي
2
التي أويت إليها، فأحسنوا إلى محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم.»
Unknown page