قبة المسجد النبوي مع الرواقات القديمة.
جانب من داخل أحد الرواقات الحديثة بالمسجد النبوي.
إحدى المنارات الحديثة بالمسجد النبوي.
وكان من هذا الأثر كذلك أن بدأت القبائل تقبل على النبي تقدم الطاعة بين يديه: قدم وفد من طيئ وعلى رأسهم سيدهم زيد الخيل، فلما انتهوا إليه أحسن استقبالهم، وتحدث إليه زيد؛ فقال النبي له: ما ذكر لي رجل من العرب بفضل ثم جاءني إلا رأيته دون ما يقال فيه إلا زيد الخيل فإنه ليبلغ كل ما فيه. ودعاه «زيد الخير» بديلا من «زيد الخيل.» وأسلمت طيئ وزيد على رأسها.
وكان عدي بن حاتم الطائي نصرانيا، وكان من أشد العرب كراهية لمحمد. فلما رأى أمره وأمر المسلمين في شبه الجزيرة، تحمل في إبله بأهله وولده ولحق بأهل دينه من النصارى بالشام، وإنما فر عدي حين أوفد النبي علي بن أبي طالب ليهدم صنم طيئ، وهدم علي الصنم واحتمل الغنائم والأسرى ومن بينهم ابنة حاتم أخت عدي التي حبست في حظيرة بباب المسجد كانت السبايا تحبس فيها. ومر بها النبي فقامت إليه وقالت: يا رسول الله هلك الوالد وغاب الرافد، فامنن علي من الله عليك. وأعرض عنها النبي حين علم أن رافدها عدي بن حاتم الفار من الله ورسوله. لكنها راجعته، وذكر هو ما كان لأبيها في الجاهلية من كرم أعلى به ذكر العرب، فأمر بتسريحها وكساها كسوة حسنة وأعطاها نفقتها وحملها مع أول ركب قاصد إلى الشام. فلما لقيت أخاها وذكرت له ما أكرمها به محمد عاد إليه فألقى بنفسه إلى صفوف المسلمين.
وكذلك جعل السادة وجعلت القبائل تفد إلى محمد ، بعد فتح مكة وبعد انتصار حنين وحصار الطائف، تدين له بالرسالة وبالإسلام، وهو في مقامه ذاك بالمدينة مطمئن إلى نصر الله وإلى شيء من سكينة الحياة.
لكن سكينة حياته لم تكن يومئذ صفوا؛ فقد كانت زينب ابنته إذ ذاك مريضة مرضا خشي منه عليها. وهي منذ آذاها الحويرث وهبار حين خروجها من مكة أذى أفزعها فأجهضها، قد ظلت مهدمة العافية، وانتهى المرض بوفاتها. وبموتها لم يبق لمحمد من عقبه إلا فاطمة، بعد أن ماتت أم كلثوم كما ماتت رقية قبل زينب، وحزن محمد لفقدها وذكر لها رقة شمائلها وجميل وفائها لزوجها أبي العاص بن الربيع حين بعثت تفتديه من أبيها وقد أسره ببدر، وتفتديه مع ما كان من إسلامها وشركه، ومع ما كان من محاربته أباها حربا لو انتصرت قريش فيها لما أبقت لمحمد على حياة. ذكر محمد رقة شمائلها وجميل وفائها، وذكر ما لاقت من ألم المرض طوال أيامها منذ عادت من مكة إلى حين وفاتها. وكان محمد يشارك كل ذي ألم في ألمه، وكل ذي مصاب في مصابه، وكان يذهب إلى أطراف المدينة وإلى ضواحيها يعود المريض، ويواسي البائس، ويأسو جراح الكليم. فإذا أصابه المقدار في ابنته بعد ما أصابه من قبل في أختيها وكما أصابه قبل رسالته في أخويها، فلا جرم أن يحزن ويشتد به جوى الحزن، وإن وجد من بر الله ورفقه به ما يعزيه كيما يسلو.
ولم يطل انتظار التأساء؛ فقد رزقه الله من مارية القبطية غلاما دعاه إبراهيم تيمنا باسم إبراهيم جد النبي الحنيف المسلم. وكانت مارية إلى يومئذ ومنذ أهداها المقوقس إلى النبي في مرتبة السراري، فلم يكن لها من أجل ذلك منزل بجوار المسجد كما كان لأزواج النبي أمهات المؤمنين؛ بل أنزلها محمد بالعالية من ضواحي المدينة، في المحل الذي يقال له الآن مشربة أم إبراهيم، بمنزل تحيط به كروم؛ وكان يختلف إليها فيه كما يزور الرجل ملك يمينه. وكان قد اختارها حين أهداها المقوقس إليه مع أختها سيرين، وجعل سيرين لحسان بن ثابت. ولم يكن محمد يرجو أن يعقب بعد أن ظلت أزواجه جميعا من بعد وفاة خديجة ومنهن الفتاة الفتية، ومنهن النصف التي أعقبت من قبل لم تبشر إحداهن بخصب عشرة أعوام متتابعة. فلما حملت مارية ثم ولدت إبراهيم، وقد تخطى هو إلى الستين، فاضت بالمسرة نفسه، وامتلأ هذا القلب الإنساني الكبير أنسا وغبطة، وارتفعت مارية بهذا الميلاد في عينه إلى مكانة سمت بها عن مقام مواليه إلى مقام أزواجه، وزادتها إلى ذلك عنده حظوة ومنه قربا.
كان طبيعيا أن يدس ذلك في نفوس سائر أزواجه غيرة تزايدت أضعافا بأنها أم إبراهيم وبأنهن جميعا لا ولد لهن. ولم تكن نظرة النبي إلى هذا الطفل إلا تزيد هذه الغيرة كل يوم في نفوسهن اشتعالا. فهو قد أكرم سلمى زوج أبي رافع قابلة مارية أيما إكرام. وهو قد تصدق يوم ولد بوزن شعره ورقا على كل واحد من المساكين. وهو قد دفعه لترضعه أم سيف وجعل في حيازتها سبعا من الماعز ترضعه لبنها. وهو كان يمر كل يوم بدار مارية ليراه وليزداد أنسا بابتسامة الطفل البريئة الطاهرة، ومسرة بنموه وجماله. أي شيء أشد من هذا كله إثارة للغيرة في نفوس أزواج لم يلدن؟! وإلى أي حد تدفع الغيرة أولئك الأزواج؟
حمل النبي إبراهيم يوما بين ذراعيه إلى عائشة وهو فياض بالبشر، ودعاها لترى ما بين إبراهيم وبينه من عظيم الشبه. فنظرت عائشة إلى الطفل وقالت إنها لا ترى بينهما شبها. ولما رأت النبي فرحا بنمو الطفل لاحظت في غضب أن كل طفل ينال من اللبن ما يناله إبراهيم يكون مثله أو خيرا منه نموا. وكذلك كان مولد إبراهيم سببا أثار في زوجات النبي امتعاضا لم يقف أثره عند هذه الإجابات الجافية بل تعداها إلى أكثر منها. وترك في تاريخ محمد وفي تاريخ الإسلام من الأثر ما نزل به الوحي وقدسه كتاب الله الكريم.
Unknown page