وخرج الرسول من الجعرانة معتمرا إلى مكة. فلما قضى عمرته استخلف عتاب بن أسيد على أم القرى، وخلف معه معاذ بن جبل ليفقه الناس في دينهم ويعلمهم القرآن، وعاد هو والأنصار والمهاجرون قافلين إلى المدينة ليقيم النبي بها ريثما يرزقه الله ابنه إبراهيم، وليطمئن إلى شيء من سكينة الحياة زمنا ثم يتجهز إلى غزوة تبوك بالشام.
الفصل السادس والعشرون
إبراهيم ونساء النبي
(العودة إلى المدينة - بانت سعاد - وفاة زينب - مولد إبراهيم - غيرة نساء النبي من مارية - مظاهرة حفصة وعائشة - حديث المغافير - مارية في دار حفصة - هجرة النبي نساءه شهرا - حديث عمر مع النبي - سورة التحريم) ***
عاد محمد إلى المدينة بعد فتح مكة وبعد انتصاره في حنين وحصاره الطائف، وقد ثبت في نفوس العرب جميعا أن لم يبق لأحد قبل به في شبه الجزيرة كلها، وأن لم يبق للسان أن ينطق بإيذائه أو الطعن عليه. وعاد الأنصار والمهاجرون معه وكلهم مغتبط بفتح الله على نبيه بلد المسجد الحرام، وبما هدى أهل مكة إليه من الإسلام، وبما دان له العرب على اختلاف قبائلهم من الطاعة والإذعان. عادوا جميعا إلى المدينة ليطمئنوا إلى سكينة الحياة، بعد أن ترك محمد وراءه عتاب بن أسيد على أم القرى ومعاذ بن جبل ليفقه الناس دينهم وليعلمهم القرآن.
وقد ترك هذا النصر، الذي لم يعرف له في تاريخ العرب وفي رواياتهم نظير، أثرا بالغا في نفوس العرب جميعا: ترك أثرا في نفوس العظماء والسادة الذين كانوا لا يتوهمون مجيء يوم يدينون فيه لمحمد بطاعة، أو يرتضون دينه لأنفسهم دينا؛ وفي نفوس الشعراء الذين ينطقون بلسان هؤلاء السادة مقابل ما يلقون من عطفهم وتأييدهم، أو مقابل ما يلقون من تأييد القبائل ومؤازرتها؛ وفي نفس تلك القبائل البادية التي لم تكن تعدل بحريتها شيئا، ولا كان يدور بخاطرها أن تنضم تحت لواء غير لوائها الخاص أو تموت دون ذلك في حرب وطعان تفنى خلالها فناء تاما، وماذا يجدي على الشعراء شعرهم، وعلى السادة سيادتهم، وعلى القبائل احتفاظها بذاتيتها، أمام هذه القوة الخارقة للطبيعة، لا تقف قوة أمامها ولا يجرؤ سلطان على اعتراضها؟!
وقد بلغ الأثر في نفوس العرب أن كتب بجير بن زهير إلى أخيه كعب بعد منصرف النبي على الطائف يخبره أن محمدا قتل رجالا بمكة ممن كانوا يهجونه ويؤذونه، وأن من بقي من هؤلاء الشعراء قد هربوا في كل وجه، وينصح إليه أن يطير إلى النبي بالمدينة؛ فإنه لا يقتل أحدا جاءه تائبا، أو ينجو بنفسه إلى حيث شاء من أغوار الأرض. وإنما قص بجير حقا؛ فلم يقتل بمكة أحد بأمر محمد خلا أربعة، منهم شاعر آذى النبي هجاؤه، ومنهم اثنان آذوا زينب ابنته حين أرادت بإذن زوجها أن تهاجر من مكة لتلحق أباها. وأيقن كعب صدق أخيه، وإنه إن لم يأت محمدا ظل حياته طريدا مشردا؛ لذلك أسرع إلى المدينة ونزل عند صديق له قديم. فلما أصبح غدا إلى المسجد واستأمن النبي وأنشده قصيدة:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
متيم إثرها لم يفد مكبول
فعفا النبي عنه وحسن من بعد ذلك إسلامه.
Unknown page