Hasad Falsafi
الحصاد الفلسفي للقرن العشرين : وبحوث فلسفية أخرى
Genres
ويرى هوركهيمر أن مهمة العقل الآن هي نقد ما يسمى بالعقل، أي أن تواجه النظرية النقدية العقل بالعقل نفسه؛ وذلك بأن يضع نفسه في خدمة الكل أو المجموع الاجتماعي القائم. إنها - أي النظرية النقدية - «تعارض العقل الذي تهيمن عليه أية سلطة خارجية، كما تعارض العقل الذي يصر في صراعه من أجل البقاء على أن يخضع الآخر، وينكر عليه حريته، وذلك حتى تستعيد النظرية النقدية المفهوم أو التصور المثالي للعقل الذي يهتم بإلغاء الظلم الاجتماعي.»
43
ويأتي هربرت ماركوز (1898-1979م) ليقدم نظرية نقدية موجهة بشكل أساسي ضد المجتمع الصناعي - ذي البعد الواحد - في النظام الرأسمالي. وهو يحدد دور العقل فيها بتفتيت بنية هذا المجتمع ومؤسساته السياسية، ثم يوكل إليه أيضا مهمة تغيير واقع المجتمع بالثورة عليه، والبحث عن قوى جديدة لم تنخرط بعد في تروس الآلة الصناعية. وعلى الرغم من وجود قدرات عقلية في المجتمع الرأسمالي، إلا أن النظام السياسي يتسم بأنه لا عقلاني؛ ولذلك يتم توظيف العقل في الحضارة الصناعية لإخفاء هذه اللاعقلانية. كما تؤدي لا عقلانية العقل إلى إنتاجية متزايدة، فتقوم أجهزة الإعلام عن طريق الإيحاء بخلق احتياجات جديدة للبشر من أجل زيادة الإنتاج، أو على الأقل من أجل المحافظة على معدله. لم تعد الاحتياجات البشرية تنشأ من داخل الفرد، بل صارت تنشأ لأسباب تقنية واقتصادية، فالنظام الرأسمالي يقوم بتلبية الاحتياجات اللاعقلية للبشر من أجل زيادة العمل والإنتاج، وليس من أجل تحقيق سعادتهم. ولكن كيف تحولت العقلانية التقنية إلى لا عقلانية؟ لقد أمنت التقنية مستوى معيشة الفرد وراحته، ولكنها فرضت عليه من القيود ما سلبه حريته، مما جعل العقل لا يحقق غرضه الأصيل في توفير حياة إنسانية متطورة بشكل حر، بل فرضت الحضارة اللاعقلانية حصارا حول الوعي والوجود المغترب. «إن عقلانية المجتمع المعاصر وتقدمه وتطوره هي في مبدئها لا عقلانية»،
44
وأصبحت الحضارة نظاما ليس هدفه التغيير العقلي - الذي يعني تغيير النظام نفسه - بل هدفه تعقيل اللاحرية التي تجعل من استعباد الإنسان شيئا لا مفر منه. هكذا سيطر العقل الأداتي على الحياة الإنسانية؛ فالمنهج العلمي الذي مد سيطرته على الطبيعة، نجح الآن في السيطرة على الإنسان نفسه. وإذا كان عقل التنوير قد انتقد السيطرة وسعى لإلغائها، فقد سمح بالعقل التقني الذي أفرز «المجتمع الشمولي العقلاني»، وقد نجح هذا العقل في ترسيخ الخضوع للتسلط بشكل لا يمكن ملاحظته، بحيث تحولت التقنية إلى أيديولوجيا؛ لأن القيود التي تفرضها تظهر على أنها خاضعة للعقل الذي رتب ونظم كل شيء على نحو أفضل عن طريق تلبية وإشباع الحاجات والرغبات المادية بشكل أفضل مما كان في السابق. وبذلك يتم تسكين الرغبة في التحرر، ويتقبل البشر هذا الكبت بدون احتجاج، ويتأسس هذا الرضا في وعيهم وتصورهم؛ إذ وجدوا سعادتهم في السلع التي يستهلكونها، بينما هي تستهلكهم. «إن التكنولوجيا المعاصرة تضفي صيغة عقلانية على ما يعانيه الإنسان من نقص في الحرية، وتقيم البرهان على أنه يستحيل تقنيا أن يكون الإنسان سيد نفسه، وأن يختار أسلوب حياته ... إن الإنسان بات خاضعا لجهاز تقني يزيد من رغد الحياة ورفاهيتها كما يزيد من إنتاجية العمل.»
45
وإذا كانت السيطرة في الماضي «يفرضها أفراد وضعوا أنفسهم فوق قمة تراتبية، فإنها تفرض اليوم من النظام الكلي نفسه؛ ففي ظل هذا النظام توجد مجموعات لها سلطة إدارية تجد مصلحتها في حفظ النظام، ولكن هؤلاء ليس لديهم الشجاعة أن يعلنوا أن الاحتياجات التي يحققها زائفة، وأن النظام المسيطر يعمل على خلق احتياجات جديدة، وخلق وسائل جديدة لتلبية هذه الاحتياجات.»
46
إن العقل الكمي الخاضع للقياس الذي يفصل ما هو كائن عما ينبغي أن يكون، ويقدم نفسه باعتباره متحررا من القيمة، هو نفسه العقل الذي لا يفهم الواقع المعاصر؛ فنزعة الفعالية في العلوم الطبيعية، والنزعة السلوكية في العلوم الاجتماعية، لم يرتفعا فوق الوضع القائم، ونجد على سبيل المثال أن «علم الاجتماع التجريبي يبحث الظواهر الاجتماعية بمعزل تام عن سياقها الاجتماعي التاريخي الذي نشأت فيه؛ ولذلك تأتي قياساته غامضة وغير دقيقة؛ لأن السياق الاجتماعي هو الذي يحدد الواقع وبدونه لن يكون الواقع مفهوما، وقد أدى هذا - في رأي لاندمان - إلى أن المجتمع الحديث يمارس التسلط، ويبرع في جعله غير مرئي وغير محسوس، فنشأ بطبيعة الحال علم اجتماع غير قادر على التعرف على التسلط، بل أصبح عاملا مساعدا على حفظ النظام، وباعثا على الطمأنينة.»
47
Unknown page