Hasad Falsafi
الحصاد الفلسفي للقرن العشرين : وبحوث فلسفية أخرى
Genres
لقد ظل مفهوم المعرفة التصويرية التي تفترض وجود الذات في مقابل عالم الموضوعات المستقل، ظل سائدا حتى الجيل الثاني من فلاسفة القرن التاسع عشر، على الرغم من نقد هيجل له في الفصل الخاص بالإدراك الحسي في كتابه «ظاهريات الروح». ولذلك كانت تفرقة هوركهيمر الحاسمة بين النظريات النقدية والنظريات التقليدية هي إحدى الصياغات الهامة في القرن العشرين لنقد المعرفة التصويرية وذاتها التأملية وغير التاريخية عند كانط؛ إذ أكد هوركهيمر (الذي يعد رأيه تعبيرا عن رأي أصحاب النظرية النقدية جميعهم) أن كلا من الذات والعالم قد تطورا معا في صيرورة المجتمع كما سنرى بعد قليل بشيء من التفصيل.
ومع تطور الدراسات الاجتماعية التي شهدت طفرة هائلة في غضون القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، ذهب عالم الاجتماع ماكس فيبر (1864-1920م) - وهو أحد منظري العقلانية الحديثة - إلى أن التقدم التقني قد أفرز نوعا من العقلانية العلمية التي لها منهجها ووسائلها، أي إنها بمعنى آخر هي عقلانية المنهج والوسائل من أجل تحقيق غايات، ولكن التقدم العلمي غير مسئول عن تطبيقاته، وبالتالي فإن العقلانية غير مسئولة عن الغايات التي أصبحت فيما بعد لا عقلانية. ولذلك طالب ماكس فيبر بالفصل بين مجالي العلم والسياسة، والنظرية والتطبيق، والوسيلة والغاية، مؤكدا أن أحكام القيمة لا يمكن أن تزعم لنفسها الصدق الموضوعي، كما أنه «لم يثق في أحكام القيمة والسياسة التي تنبع من رومانسية الأمل الثوري .»
15
لذلك طالب بفصل مجالات البحث، «فالبحث العلمي التجريبي يمكن أن يوضح الوسائل الضرورية للوصول إلى غايات معينة، كما يمكنه أن يكشف عن النتائج المترتبة على السياسات المختلفة التي لا يمكن الكشف عنها بطريقة أخرى. كذلك يستطيع البحث الفلسفي أن يكشف عن البناء التصوري للنظم المعيارية المختلفة، وأن يحدد مكانها بالنسبة للقيم الأخرى الممكنة كما يحدد مجالات صلاحيتها، غير أن مثل هذه الدراسات لا يمكنها أن تبين صحة أي إجابات تقدم على المسائل المعيارية.»
16
هكذا استبعد فيبر أحكام القيمة كشروط مسبقة للعلم؛ لأن كل العلوم الطبيعية في رأيه «تحاول الإجابة على هذا السؤال: ماذا ينبغي علينا أن نفعل إذا أردنا أن نسيطر على حياتنا بشكل تقني؟ وسواء أردنا بالفعل أن نسيطر عليها تقنيا، أو كان لهذا الكلام معنى فهو لم يوضع موضع الاختبار والفحص.»
17
إن العالم الذي لا يقصر جهوده على تحديد الوقائع والحقائق، وإنما يسأل نفسه عن قيمتها، يجب أن يعرف على حد قول ماكس فيبر: «إن النبي والداعية لا يتسع لهما منبر واحد.»
18
وإذا كان فيبر قد رأى أن العقلانية هي قانون العلم، فإنه ظل واعيا بحدود هذه العقلانية وأخطارها. وإذا كانت مهمة العقل عنده هي «حساب العلاقة بين الوسائل والغايات، فلن يكون بوسع البشر أن يتنصلوا من مسئولية اختيارهم، وأن قدرا ضخما من المسئولية قد يتجاوز الطاقة الأخلاقية للأفراد، وقد يجرفهم إلى خضم اللاعقلانية.»
Unknown page