Hasad Falsafi
الحصاد الفلسفي للقرن العشرين : وبحوث فلسفية أخرى
Genres
31
وقد عارض هوسرل بهذا الفلسفة الكانطية التي تنكر معرفة الماهيات. واستطاع أن يؤسس فلسفة جديدة في الفكر الغربي في القرن العشرين، يمكن القول بأنها فلسفة البدايات الأولى التي لا تفترض مسبقا معرفة قبلية بالأشياء، بل تقوم بتجربة الأشياء في الشعور كظواهر محضة. الفينومينولوجيا - إذن - هي علم دراسة الظواهر أو المعطيات التي تتكشف في الوعي، وجعل هوسرل مهمته إيجاد المنهج الفلسفي الذي يستطيع رؤية الماهيات أو حقيقة الموضوعات العينية.
والماهيات ليست ماثلة أمام الذهن أو الوعي، ولكن بلوغها لن يكون إلا من خلال مراحل متدرجة هي مراحل المنهج الفينومينولوجي الذي ليس استنباطيا ولا تجريبيا، بل هو منهج استبطاني ليس بالطريقة السيكولوجية، وإنما يتم من خلال عمليات ثلاث تبدأ بالاستغناء عن كل المعلومات السابقة عن الشيء، وبالتوقف عن الحكم، ووضع بعض عناصر المعطى - وهي العناصر التي لا تهتم بها الذات، بحيث لا يبقى لها إلا ما هو معطى من الموضوع - بين قوسين واستبعادها من التأمل، أي تقويس العالم، والانصراف بالوعي إلى الماهية الخالصة، وهذا ما يسميه هوسرل بالرد الترنسندنتالي، ولكن الوعي لا يكون إلا وعيا بشيء ما، أي أن للوعي طابعا قصديا، ونشاطاته نشاطات قصدية. والقصدية هي الفكرة الأساسية في فلسفة الظاهريات. ويتجاوز الوعي الصفات العارضة وينفذ إلى الماهية، وهو ما يسميه هوسرل بالرد الماهوي، بمعنى الوصول إلى ماهية الشيء، ثم البحث عن معنى أو دلالة الظاهرة. بمعنى آخر يمكن أن نقول إنه تتم عملية حفر للوعي أو - إذا استعنا بتعبير فوكو - أركيولوجيا الوعي.
مهمة الفيلسوف الفينومينولوجي إذن هي بحث الظاهرة الماثلة أمام الوعي أو الشعور الذي يتوجه إليها، ويقصدها «بأفعاله القصدية، وغدت رؤية الماهيات وتحليلات المعنى هي أدواته في البحث.»
32
ولعل ما أسفر عنه هذا المنهج هو نوع جديد من المثالية، أطلق عليه المثالية الذاتية المتعالية. إن الحقيقة الوحيدة والمطلقة في هذا المنهج هي الذاتية المتعالية التي يعتمد عليها كل وجود آخر في العالم، بحيث يمكن أن نقول إنها ذروة الذاتية بعد ديكارت، بل هي تعميق للذاتية والارتفاع بها. فإذا ما اندثر كل شيء في العالم سيبقى الوعي صانع الماهيات والحقائق. وربما لهذا السبب أيضا تعرضت فلسفة الظاهريات للنقد كشكل من أشكال المثالية الذاتية، فهي كفلسفة للباطن قد أكدت «عجز كل الفلسفات المثالية الذاتية عن التأثير في حركة الواقع التاريخي والاجتماعي»،
33
ولكنها من ناحية أخرى كانت شهادة بإفلاس العقل الغربي، وعودة إلى الشعور الفردي الحي؛ فقد أيقظت الوعي بالأشياء والعالم والتجربة الحية. وبرؤية الماهيات من خلال الوعي أو الشعور تصبح الحقائق حية.
إن أثر الفينومينولوجيا على الفلسفات الأخرى يؤكد الجانب الإيجابي منها، فهي كمنهج - أكثر منها فلسفة - تعد منهجا خصبا أثر على العديد من فلسفات العصر، وطبق تطبيقات مثمرة في مجالات مختلفة؛ لقد أعطى هوسرل إشارة البدء من جديد لعلوم كثيرة منها «علم النفس، دراسة العقل، والمنطق، وفلسفة الرياضيات، والقانون، والعلوم الاجتماعية، وفلسفة الفن والأخلاق وفلسفة الدين.»
34
Unknown page