Hasad Falsafi
الحصاد الفلسفي للقرن العشرين : وبحوث فلسفية أخرى
Genres
فكيف يتكبر الإنسان، ويترفع على من لا يعتمد عليه في وجوده وبقائه! هذا الشعور بالإجلال والاتضاع أمام البيئة الطبيعية هو الذي يملي علينا أن نسلك حيالها السلوك الملائم، ألا وهو الاحترام.
ربما تصور البعض أن النظام الأخلاقي المتمركز حول البيئة يتضمن التزامات مختلفة عما يتضمنه النظام الأخلاقي المتمركز حول الإنسان، بينما لا يوجد في حقيقة الأمر تعارض أساسي كما رأينا في موقف تيلور المتمثل في إيمانه بضرورة تناسق أو انسجام الأخلاق البيئية مع الأخلاق الإنسانية. ولعل هذا الموقف أن يكون مشابها إلى حد كبير للموقف الأخلاقي الكانطي الذي طالما اتهم بأنه معاد للقيم الخاصة بالبيئة. وحجة القائلين بذلك «إن كانط يعلي من قيمة الكائن الإنساني العاقل، بينما ينكر على الكائنات غير العاقلة أي اعتبار أخلاقي.»
30
ولقد أثير هذا الاتهام بحجة أن كانط يقصر المواقف الأخلاقية على البشر باعتبارهم الفاعلين الأخلاقيين أو القادرين على الفعل الأخلاقي مما يترتب عليه أن يقتصر على الكائنات القادرة على أداء الواجب، وتستثنى منه الكائنات غير العاقلة.
ويحاول أحد الباحثين الرد على هذا الاتهام بقوله إن المهتمين بأخلاق البيئة لم يتدبروا هذا الأمر بشكل كاف؛ لأنهم «فهموا من الواجبات المباشرة أنها متضايفة مع الحقوق، ومن ثم يكون الاعتراض على الأخلاق الكانطية هو أنها تنفي عن الكائنات غير العاقلة أي حقوق طالما أنها عاجزة عن القيام بأي واجبات.»
31
وحقيقة الأمر أن الاتهامات الموجهة إلى الأخلاق الكانطية المتمركزة حول الإنسان أثارت تساؤلات هامة عن معنى الموقف أو الاعتبار الأخلاقي نفسه، فلم تركز الأخلاق الكانطية على من يقع عليهم الفعل الأخلاقي في مقابل الفاعل الأخلاقي العاقل.
ولكن هل يعني عدم وجود التزام أخلاقي نحو الكائنات غير العاقلة - مثل الحيوانات على سبيل المثال - هل يعني هذا أن نؤذيها أو نظلمها؟ الواقع أن كانط لم يقصد ذلك على الإطلاق؛ لأنه كما يقول في محاضراته في الأخلاق: «إن واجباتنا تجاه الحيوانات هي مجرد واجبات غير مباشرة تجاه الإنسانية»، ثم يستطرد بذكر هذا المثال: «إذا ضرب رجل كلبا بالرصاص، فإنه لم يخطئ في واجبه نحو الكلب؛ لأن الكلب لا يستطيع أن يحكم، ولكن فعله (أي القتل) غير إنساني، ويدمر في نفسه أو ذاته تلك الإنسانية التي من واجبه أن يبديها نحو البشر.»
32
وهناك من يستشهد بهذه العبارة لإثبات تحيز الأخلاق عند كانط، وتمركزها حول الإنسان. ومما لا شك فيه أن هذا الرأي صحيح إلى حد كبير؛ فالأخلاق الكانطية هي ذروة المركزية الإنسانية التي يعارضها هذا البحث، حتى لو انتهت عنده بما يوحي بأنها إرهاصات بأخلاق بيئية، فهذا ما لم يقصده كانط صراحة أو بشكل مباشر (على الإطلاق). وإيمانه بأن واجباتنا تجاه الحيوانات هي واجبات غير مباشرة تجاه الإنسانية لم يكن إلا من منطلق هذه المركزية الإنسانية التي لم يحاول إخفاءها أو الالتفاف حولها. فالأخلاق الكانطية هي بلورة لأفكار عصر التنوير بأكمله، وإن كان هذا الموقف لم يمنعه من الوقوف من الطبيعة موقف التواضع والاحترام، وإذا كان هذا هو الموقف الذي نسعى إليه في تأسيس أخلاق بيئية، فلا نزعم أن كانط كان معنيا بتأسيس تلك الأخلاق التي ننشدها؛ لأنه لسبب بسيط لم تكن في زمنه مشكلة للإنسان مع بيئته؛ إذ لم تظهر بوادر هذه الأمة إلا في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين إلى أن تفجرت في العقود الأخيرة منه. وأيا كان الرأي في الأخلاق الكانطية تجاه الكائنات غير العاقلة، فلا يمكننا أن نتغافل عن شعور كانط بالرهبة والإجلال أمام الطبيعة، وليس أدل على ذلك من العبارة المحفورة على قبره،
Unknown page