Hasad Falsafi
الحصاد الفلسفي للقرن العشرين : وبحوث فلسفية أخرى
Genres
كما عند أفلاطون أو المسيحية.»
9
ويرى نيتشه أن مشكلتنا هي أننا ما زلنا نؤمن بقيم مطلقة وغير مشروطة للحقيقة، وذلك بغير أن نتحقق منها، وأن «ما نحتاجه هو الشك المطلق في كل المفاهيم الموروثة.»
10
يهاجم نيتشه التأريخ الحديث الذي يقف أمام ما يسميه «حقائق» موقفا رافضا للتقييم سواء كان هذا التقييم بإقرارها أو برفضها. ويتساءل في كتابه «جينالوجيا الأخلاق»: «هل يعلن التأريخ الحديث موقفا أكثر تأكيدا للحياة والمثل؟ إن زعمه الأمثل هذه الأيام أنه مرآة: يرفض كل غائية، ولا يرغب في إثبات أي شيء.»
11
ويرجع نيتشه هذا الموقف السلبي - في رأيه - لأصحاب النزعة التاريخية إلى نموذج الزهد الذي ساد كل الفلسفات السابقة التي نظرت إلى الله كحاكم أسمى ننشده ونحتكم إليه، والذي يطالبنا نيتشه بالتخلي عنه؛ ولذلك تبحث المقالة الثالثة من «جينالوجيا الأخلاق» عن تحرير الإنسان وإرادته من ذلك النموذج، ولا يتم هذا إلا بالبحث في أصول الأخلاق لنكتشف في النهاية أننا نفقد الثقة به (أي بالنموذج)، وينفض الإنسان عن نفسه الخوف ليكتسب الشجاعة: «وبصرف النظر عن المثل الأعلى للزهد
ascetic ideal ، فإن الجنس البشري لم يكن له معنى، وجوده على الأرض بلا هدف: لماذا الإنسان على الإطلاق؟ كان سؤالا بلا إجابة، إرادة الإنسان والأرض كانت محتجبة وراء القدر الإنساني الأعظم ... ما يعنيه المثل الأعلى للزهد هو أن شيئا ما مفتقد، أن الإنسان كان محاطا بفراغ مخيف، لا يعرف كيف يبرر ويؤكد نفسه، وأنه يعاني من مشكلة أن يجد لنفسه معنى، ولكن مشكلته ليست في المعاناة نفسها، ولكن في عدم وجود إجابة عن صرخته المتسائلة: لماذا أعاني؟»
12
وقد عمقت المسيحية في رأي نيتشه من معاناة الإنسان عندما أنزلت اللعنة على الجنس البشري من منظور فكرة الذنب والخطيئة الأولى، وجعلتهما عمق جوهرها لتدمير الحياة. فأصبح الزهد وما يصاحبه من معاناة نوعا من العقاب والتطهير معا، وكان أيضا هو الذي «قدم للإنسان المعنى، بل كان هو المعنى الوحيد الذي قدم حتى الآن أي معنى هو أفضل من لا شيء على الإطلاق، فيه فسرت المعاناة، وبد الفراغ الهائل وكأنه امتلأ ... معاناة مدمرة من منظور الذنب، مع كل هذا تم إنقاذ الإنسان، امتلك المعنى، ولكن لم يعد بالإمكان أن نخفي عن أنفسنا أن الإرادة التي أخذت وجهتها من المثل الأعلى للزهد: هي هذه الكراهية للبشر ... هذا الفزع من الحواس، من العقل نفسه، الخوف من السعادة والجمال، هذا التوق إلى الهروب بعيدا عن كل ظهور وتغير وصيرورة والموت والتمني والتوق نفسه - كل هذا يعني - أنها إرادة اللاشيء
Unknown page