فقالت رشوانة: العروس مناسبة جدا، وعلى خيرة الله.
فقالت نعمة بارتياب: أخاف أن تكون أطول من عمرو.
فقالت رشوانة بيقين: كلا، عمرو أطول يا نينة.
على أي حال حدست راضية بشفافيتها تحفظ نعمة حيالها وتوثبت من أول يوم للدفاع أو الهجوم إن اقتضى الأمر، ولكن الله سلم دائما فلم يقع بينهما ما يصلح للقيل والقال. وأقبل رجال الأسرة ونساؤها للتعارف والتوادد؛ سرور شقيق زوجها، وعزيز حموها، والدكتور داود، وحرمه سنية هانم الوراق وابنهما عبد العظيم، ومحمود عطا المراكيبي، ونازلي هانم وأحمد عطا المراكيبي، وفوزية هانم. اعتقدت أنها ستعرف نساء على شاكلتها أو لعلها تتفوق عليهن كما تفوقت على شقيقتيها، ولكنها وجدت نفسها حيال هوانم من طبقة عالية. ربما هون من وطأة الفوارق دماثة أخلاقهن وما طبعن عليه من أدب فائق، ولتقارب العقلية رغم تفاوت المظهر والمنظر. واشتد الإحساس بالفوارق أكثر عندما ردت الزيارات بصحبة عمرو، فرأت بيت الدكتور بالسيدة، ثم تاهت في سراي ميدان خيرت بأبهتها الأسطورية. هناك فقط تنبهت إلى أن جهازها لا شيء، لا شيء ألبتة، وكم توهمت أن فراشها ذا العمد الأربعة والسلم الخشبي، ومرآة حجرة الاستقبال ذات الحواف المرشوقة بالورد الاصطناعي والكنبة الإسطمبولية الطويلة، كم توهمت أن ذلك الأثاث من التحف المبهرات، وانكسرت نفسها، وقالت لأمها بنبرة المعترف: سأحدثك عما رأيت.
وأصغت جليلة إليها صامتة، ثم تساءلت باستهانة: هل يوجد بينهم بطل من أبطال عرابي باشا كالشيخ معاوية؟
وسرعان ما استردت راضية ثقتها بنفسها، وراحت تحدث الهوانم عن تراثها من الغيبيات والكرامات. ولكن العلاقة الجديدة تعطرت بماء الورد بفضل أخلاق الهوانم، ونشأت مودة حقيقية بين الجميع، وكان لأطوار راضية الغريبة فضل في ذلك بما تميزت به من إثارة لا تقاوم. واحتدم صراع بين الزوجين على السيادة، فقد أراد عمرو أن تنطوي زوجة في البيت، فلا تعبر عتبته إلا بصحبته، ورأت هي أن علمها الغيبي يطالبها بزيارات دورية لآل البيت وأضرحة الأولياء. وحذرته من أن يقف عثرة في ذلك السبيل. وكان عمرو من أتباع الطريقة الدمرداشية ويؤمن بأفكار راضية وتراثها ويخشى عواقب التمادي والمغالاة، فأذن لها بالحركة مستوهبا من ورائها خيرا وبركة، مطمئنا إلى خلقها، راضيا بمهارتها الفائقة في إدارة بيته وتفانيها في توفير أسباب الفرحة له. وسارت الأمور سيرا حسنا، وما من نزاع بينهما دام أكثر من ساعات، فكانت إذا غضب حلمت، وإذا انفجرت عصبيتها تغاضى وتسامح. وتوطدت مكانتها بين فروع الأسرة الباسقة حتى قبل أن تتوثق بالمصاهرة، فشاركت سنية الوراق في الخطبة لعبد العظيم، كما شاركت نعمة المراكيبي في الخطبة لسرور أفندي، وأنجبت مع الأيام صدرية وعامر ومطرية وسميرة وحبيبة وحامد وختمت بقاسم. ولم تكف يوما عن بث رسالتها التراثية في ذريتها أسوة بفروع الأسرة والجيران ، حتى تبلورت شخصيتها في الحي كله كسيدة الأسرار الغيبية، وأضافت إليها الفخر ببطولة أبيها الذي بفضله جعلت من عرابي وثورته أسطورة ذات كرامات وخوارق تداخلت في كرامات البدوي وأبي العباس وأبي السعود والشعراني وامتزجت بعنترة ودياب وإناث الجن وذكورهم والسحر والتمائم والأحجبة والبخور والرقى. ولم تتردد عن مصارحة داود باشا قائلة: طبك هذا لا جدوى منه ولا خير فيه.
أو تقول له: يوجد طبيب واحد لا شريك له هو الله عز وجل.
وكان الباشا يحب حديثها ويجاريها على قد عقلها، ويداعبها أحيانا فيقول: ولكنك يا ست أم عامر تجعلين مع الله آلهة أخرى من الأولياء والعفاريت.
فتقول بإيمان: أبدا ... إرادته وراء كل شيء ... لولاه ما أمكن سيدي النقشبندي أن يوجد في مكة وبغداد والقاهرة في وقت واحد!
وكان يجمعها وعمرو تصورات متقاربة فوجدا دائما الحديث المشترك والتفاهم الدائم. وقد شاهدت ثورة 1919 من مشربية بيتها العتيق، وسجلت في قاموسها الخالد وليا جديدا، اسمه سعد زغلول.
Unknown page