وقالت لنفسها حانقة أنه يريدها خليلة ولا يراها أهلا للزوجية. وقالت بامتعاض وازدراء: عرض جدير بامرأة ساقطة!
وتلقى اللطمة ببروده الطبيعي الموروث عن ست زينب أمه، ورجعت هي إلى بين القصرين مفعمة حنقا على آلها جميعا ... إنهم حقراء، أغنياؤهم وفقراؤهم على السواء؛ يبيعون أنفسهم بلا كرامة، من أجل ذلك تزوج عامر من عفت بنت عبد العظيم، وتزوج حامد من شكيرة رغم قبحها. وعندما ترنو عين شاب من آل المراكيبي أو آل داود إلى بنت من بنات عمرو أو سرور تقوم القيامة وتثور الكرامة. حقراء حقراء ... آل المراكيبي باعوا أنفسهم للملك ضمانا للمصالح، وآل داود انضموا للأحرار الدستوريين متوهمين أنهم يتبعون طريق الأسر الكريمة وأصلهم الحقيقي نابع من التراب، وما كان داود باشا إلا الشقيق الأصغر لعزيز ناظر السبيل! ما من شاب منهم من سنها أو أكثر إلا وطمع في عرضها، ولم يفكر أحدهم في الزواج منها، وأطيبهم جميعا مجذوب من مجاذيب الحسين. على أن فترة الشباب الخضراء لم تخل من فرصة عريقة، أتاحها لها ناظر المدرسة الذي اقترح عليها الاستقالة والزواج منه، ولكنها بقدر ما سعدت باقتراحه لم تتردد في رفضه حفاظا على أمها أن تعيش تحت رحمة أحد من هذه الأسرة الحقيرة التي تعبد المال والجاه وتستبيح في سبيلهما كل جليل. وواصلت حياتها الشاقة القاحلة، تربي بنات الناس وتعدهن للأزواج، منقسمة بين سلوك خيالي فاجر، وواقع متسم بالجدية والتقوى والاحترام. وهامت شجرة الشباب في ربيع تعلوه كآبة الوحدة وآلام الحرمان وعبث الأخيلة المحرومة، ثم مضت أوراقها تتساقط ورقة بعد ورقة، تاركة آثارها في بدانة تتمادى وقسمات تغلظ، وعضلات تترهل، ومرارة تستفحل. وفي أثناء ذلك رحل عمرو وسرور وأحمد ومحمود، وتنكرت أشياء كثيرة، ثم مرضت أمها بداء القلب ولزمت الفراش. وكانت تقول لها: لن أغفر لنفسي ما حل بك.
فتجيبها باسمة متظاهرة بالمرح: لقد اخترت ما يناسبني.
فتتوسل إليها قائلة: تزوجي عند أول فرصة.
فتكذب قائلة: سيحدث ذلك قريبا جدا.
رغم أنها لم تعد تلفت نظر أحد. واحتضرت رشوانة وهي تقدم لها تفاحة للعشاء. وأدركت دنانير الموقف على عدم خبرتها به فهتفت: لا تتركيني وحدي.
ولفظت المرأة أنفاسها الأخيرة وهي تسندها إلى حضنها. وأجهشت في البكاء، وأرسلت الخادم العجوز لإحضار راضية من بيت القاضي. وبرحيل الأم ... عانت وحدة مطلقة في بين القصرين. وباتت مثالا للبدانة والكآبة. ولما قامت ثورة يوليو وجدت فيها انتقاما أيضا من الجبارين والمنحلين والانتهازيين، وعاشرتها بارتياح فاتر، وكان الفتور قد أدرك كل شيء حتى حياتها السرية وعبثها العقيم، وبفضل الراديو ثم التليفزيون اقتحمت أعاصير الثورة وأحداثها وحدتها، ونفخت قبسات من الروح في فتورها، ولكن ذلك عبرها بسرعة، حتى أحيلت على المعاش وأوت إلى ظلمة ظلمات الوحدة. ولم يعد لها من عزاء في هذه الدنيا سوى العبادة وتلاوة القرآن. ومات زعيم وتولى زعيم، وانفجرت أحداث جديدة، ثم جاء الانفتاح، وبدأت تعاني مع الوحدة والكبر الغلاء المتصاعد، وأخذت تعيد حسابها وتتساءل: أكتب علي أن أقاسي متاعب المعيشة من جديد؟! ... وهل حقا يخفي الغد ما هو أسوأ؟!
حرف الراء
راضية معاوية القليوبي
بكرية الشيخ معاوية القليوبي وجليلة الطرابيشية، ولدت ونشأت في البيت القديم بسوق الزلط، وتبعتها شهيرة وصديقة وبليغ. وكانت صديقة أجمل الأخوات الثلاث أما راضية فأقواهن شخصية وأحدهن ذكاء، وإلى ذلك فجمالها لا بأس به. كانت طويلة القامة ممشوقة القوام عالية الجبين ذات أنف مستقيم وعينين لوزيتين سوداوين وبشرة قمحية، وكأنها صورة من أمها. وقد عني الشيخ بتربية ذريته تربية دينية فكانت الأكثر استجابة رغم أن حصيلتها من الناحية النظرية لم تجاوز معرفة الصلاة والصوم وحفظ بعض السور الصغيرة ولكن قلبها تشرب حب الله وآل البيت، على ذاك فما تلقنته عن أبيها لا يقاس بعشر معشار ما تلقنته عن أمها من الغيبيات والخوارق وسير الأولياء وكراماتهم وأسرار السحر والعفاريت. والأرواح الساكنة في القطط والطيور والزواحف، والأحلام وتأويلها، وقراءة الطالع، والطب الشعبي وبركات الأديرة والقديسين والقديسات. ورسخ من إيمانها بأمها ما شهدته من ركون أبيها نفسه - العالم الأزهري - إلى وصفاتها الطبية ورقاها وتعاويذها، واحتفاظه بالحجاب الذي أهدته إليه فوق صدره. وكانت راضية عصبية المزاج ، تمارس الحب والكراهية في اليوم الواحد عشرات المرات، وقد شهد مدخل البيت - حيث الفرن والبئر وركن المعيشة اليومية - تسلطها على أختيها، وتحيز الأم لها، مما أثار ضغينتهما عليها. وما كادت تبلغ الرابعة عشرة حتى خطبها عزيز يزيد المصري صديق الشيخ معاوية لابنه عمرو أفندي الموظف بنظارة المعارف. وكان الشيخ في ذلك الوقت معتزلا في بيته عقب خروجه من السجن الذي قضى عليه به بسبب اشتراكه في الثورة العرابية، فتلقى أول فرحة في حياة لم تعد تبشر بخير في ظل الاحتلال. ولكن الحظ لم يمهله فتوفي قبل أن يجهز ابنته، وحمل نيشان العروس إلى بيته في نفس يوم الوفاة، الأمر الذي أغرى جليلة بأن تزغرد وتصوت في لحظتين متعاقبتين وتصير بذلك نادرة في الحي كله. وخلا زفاف راضية من الأفراح المعهودة، وانتقلت إلى البيت الذي أعده عمرو لحياته الزوجية بميدان بيت القاضي، وكان عمرو في العشرين من عمره، طويل القامة متوسط القد، ذا شارب غزير وقسمات واضحة، واستعداد كامل للحياة الزوجية. وسرعان ما ربط الزوجين حب زوجي متين صمد لتقلبات الحياة وتضارب العادات والأمزجة، ومع الحب عرفت راضية أول صداقة مع رشوانة أخت زوجها بخلاف نعمة المراكيبي حماتها، وكأنما حدست ما دار من ورائها عندما ذهبت المرأتان لخطبتها، إذ قالت نعمة لابنتها رشوانة وهما في طريق العودة: أجمل البنات الصغرى!
Unknown page