الهند زبدة جميع العوالم، وخلاصة ناطقة لجميع أدوار التاريخ، وصورة صادقة للأطوار المترجحة بين الهمجية الأولى والحضارة الحديثة، ولا يتجلى الماضي للسائح كتجليه في بلاد الهند، ولا يحس السائح ما اعتور أجيال البشر من تطور وما بين هذه الأجيال من فروق ومن روابط بأحسن مما في الهند؛ فالسائح يعلم هنالك، فقط ، أن الحاضر منحدر من الماضي، وأنه يحمل في أثنائه بذور المستقبل.
والهند تمثلت لخيال الأمم أرضا لكل عجيب، فكانت عرضة للمغازي الأجنبية منذ القديم، وكان الأجنبي إذا ما دخلها استقر بها، واستغلها استغلالا محليا، فلم يفكر في إخراج خيراتها منها.
ويفتح الإنجليز بلاد الهند الواسعة الزاخرة بالسكان في القرن الثامن عشر بمال الهند وجند الهند، فيسلكون في استعمارها طريق نفع إنجلترا دون الهند؛ فيمتصون بركات الهند ليرسلوها إلى بريطانية، وفي سبيل الهند يحتل البريطان مصر فلا يجلون عنها، وفي سبيل الهند يفصل البريطان السودان عن مصر، وفي سبيل الهند يقتطع البريطان في القرن العشرين جنوب الشام المعروف بفلسطين، فيمعنون في تهويده ممثلين في أهله العرب مأساة أندلسية ثانية، والهند قطر عظيم يسكنه مئات الملايين من الآدميين، والهند قطر عظيم يملكه الإنجليز بألف موظف بريطاني وبجيش بريطاني لا يزيد عدد جنوده على مائة ألف!
وأبحث عما وضع في اللغة العربية عن الهند، فلم أجد سوى مقالات قليلة هزيلة مبثوثة في بعض المجلات العربية، ولم أجد سوى بضعة كتب صغيرة خاطفة لا تسمن ولا تغني من جوع، فيروعني ذلك، فأرى أن أتم هذا النقص بأن أنقل إلى العربية إحدى غرر الكتب المهمة التي ألفت عن الهند.
وينشر العلامة الفيلسوف «غوستاف لوبون» سنة 1884 كتاب «حضارة العرب» الجليل الخالد، ويتخذ في وضعه منهاجا لم يسبقه إليه أحد، ويعرض فيه صورة واضحة لتلك الحضارة العظيمة التي رغب في بعثها، فيبدو فريدا في بابه، فتسير بذكره الركبان، وننقل هذا السفر العظيم إلى العربية وننشره في سنة 1945، ويتقبله العرب بقبول حسن.
وترسل الحكومة الفرنسية العلامة «لوبون» على رأس بعثة آثار إلى بلاد الهند، ويجوب «لوبون» الهند طولا وعرضا فتسفر بعثته إليها عن وضعه سفرا جليلا خالدا آخر، فيسميه «حضارات الهند» وينشره سنة 1887 فيعدل هذا الكتاب «حضارة العرب» ضخامة وروعة وطرافة ويعد توءما له.
ويستعين العلامة «لوبون» في كتاب «حضارات الهند» بالأصول التي اهتدى إليها في كتاب «حضارة العرب» على الخصوص، فيعول، كما ذكر، على محكم الأسانيد، ويعرض تطورات النظم الدينية والاجتماعية وعوامل هذه التطورات، ويبحث في الحوادث التاريخية كما يبحث في الحادثات الطبيعية، ويبعث الأجيال الغابرة بما انتهى إليه من الكتابات والنقوش والرسوم وبعرض صور لبعض آثار تلك البلاد الهائلة التي هي منبت كثير من المدنيات والمعتقدات.
ويسير العلامة «لوبون» في كتابه «حضارات الهند» على طريقة التحليل العلمي، شأنه في كتاب «حضارة العرب»، فيوضح فيه الصلة بين الحاضر والماضي، ويظل مخلصا فيه لسنن النفس والتطور، فينتهي إلى نتائج لم يصل إليها عالم قبله، فيظهر هذا الكتاب للعالم بدعا في درس حضارات الهند درسا شاملا، ويظهر هذا الكتاب خير كتاب عن الهند، إن لم يكن من أحسن الكتب عنها، وذلك في بابه وروحه ومناحيه وقوة التحليل فيه، ووصول «لوبون» فيه إلى ما نشده من الأهداف الاجتماعية والأدبية والدينية والسياسية، إلخ.
ويقع نظري على كتاب «حضارات الهند» هذا، وأقرأه بالفرنسية غير مرة وأسأل: هل أوفق لنقله إلى العربية موطئا موضوعاته الطريفة ومباحثه القاسية الكثيرة الأصول والفروع التي لا عهد لنا بها، ووضعها في قالب عربي خالص! ويهون الأمر لدي، بعد تردد، خدمة للعرب في السياسة والعلم والأدب، فأعزم على ترجمة هذا الكتاب إلى العربية.
وترجمتنا لهذا الكتاب التاريخي الاجتماعي السياسي العظيم حرفية، وراعينا مبدأ حرفية الترجمة من أول الكتاب إلى آخره مع الانسجام وعدم الإبهام وسهولة المنال.
Unknown page