إهداء الكتاب
مقدمة
مقدمة المؤلف
الباب الأول: البيئات
1 - الأرض والأجواء
2 - وصف مناطق الهند العام
3 - النباتات والحيوانات والمعادن
الباب الثاني: العروق
1 - منشأ عروق الهند وتقسيمها
2 - عروق الهند الشمالية أو الهندوستان
3 - عروق الهند الوسطى والهند الجنوبية
4 - الصفات الخلقية والعقلية المشتركة بين عروق الهند المختلفة
الباب الثالث: تاريخ الهند
1 - تاريخ الهند قبل المغازي الأوروبية
2 - صلات الهند القديمة بالغرب
الباب الرابع: تطور حضارات الهند
1 - حضارة العصر الويدي
2 - حضارة العصر البرهمي
3 - حضارة العصر البدهي
4 - حضارة العصر البرهمي الجديد
5 - حضارة العصر الهندي الإسلامي
الباب الخامس: آثار حضارات الهند
1 - آداب الهند ولغاتها
2 - مباني الهند
3 - العلوم والفنون
الباب السادس: الهند الحديثة
1 - مزاج الهندوس النفسي
2 - ديانات الهند الحاضرة
3 - النظم والطبائع والعادات
4 - الإدارة الإنجليزية
إهداء الكتاب
مقدمة
مقدمة المؤلف
الباب الأول: البيئات
1 - الأرض والأجواء
2 - وصف مناطق الهند العام
3 - النباتات والحيوانات والمعادن
الباب الثاني: العروق
1 - منشأ عروق الهند وتقسيمها
2 - عروق الهند الشمالية أو الهندوستان
3 - عروق الهند الوسطى والهند الجنوبية
4 - الصفات الخلقية والعقلية المشتركة بين عروق الهند المختلفة
الباب الثالث: تاريخ الهند
1 - تاريخ الهند قبل المغازي الأوروبية
2 - صلات الهند القديمة بالغرب
الباب الرابع: تطور حضارات الهند
1 - حضارة العصر الويدي
2 - حضارة العصر البرهمي
3 - حضارة العصر البدهي
4 - حضارة العصر البرهمي الجديد
5 - حضارة العصر الهندي الإسلامي
الباب الخامس: آثار حضارات الهند
1 - آداب الهند ولغاتها
2 - مباني الهند
3 - العلوم والفنون
الباب السادس: الهند الحديثة
1 - مزاج الهندوس النفسي
2 - ديانات الهند الحاضرة
3 - النظم والطبائع والعادات
4 - الإدارة الإنجليزية
حضارات الهند
حضارات الهند
تأليف
غوستاف لوبون
ترجمة
عادل زعيتر
إهداء الكتاب
إلى النائب ووزير الأشغال العامة السابق ووزير المالية الحالي مسيو سادي كارنو؛ اعترافا بما شمل به بعثة المؤلف العلمية إلى بلاد الهند من العناية.
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الهند زبدة جميع العوالم، وخلاصة ناطقة لجميع أدوار التاريخ، وصورة صادقة للأطوار المترجحة بين الهمجية الأولى والحضارة الحديثة، ولا يتجلى الماضي للسائح كتجليه في بلاد الهند، ولا يحس السائح ما اعتور أجيال البشر من تطور وما بين هذه الأجيال من فروق ومن روابط بأحسن مما في الهند؛ فالسائح يعلم هنالك، فقط ، أن الحاضر منحدر من الماضي، وأنه يحمل في أثنائه بذور المستقبل.
والهند تمثلت لخيال الأمم أرضا لكل عجيب، فكانت عرضة للمغازي الأجنبية منذ القديم، وكان الأجنبي إذا ما دخلها استقر بها، واستغلها استغلالا محليا، فلم يفكر في إخراج خيراتها منها.
ويفتح الإنجليز بلاد الهند الواسعة الزاخرة بالسكان في القرن الثامن عشر بمال الهند وجند الهند، فيسلكون في استعمارها طريق نفع إنجلترا دون الهند؛ فيمتصون بركات الهند ليرسلوها إلى بريطانية، وفي سبيل الهند يحتل البريطان مصر فلا يجلون عنها، وفي سبيل الهند يفصل البريطان السودان عن مصر، وفي سبيل الهند يقتطع البريطان في القرن العشرين جنوب الشام المعروف بفلسطين، فيمعنون في تهويده ممثلين في أهله العرب مأساة أندلسية ثانية، والهند قطر عظيم يسكنه مئات الملايين من الآدميين، والهند قطر عظيم يملكه الإنجليز بألف موظف بريطاني وبجيش بريطاني لا يزيد عدد جنوده على مائة ألف!
وأبحث عما وضع في اللغة العربية عن الهند، فلم أجد سوى مقالات قليلة هزيلة مبثوثة في بعض المجلات العربية، ولم أجد سوى بضعة كتب صغيرة خاطفة لا تسمن ولا تغني من جوع، فيروعني ذلك، فأرى أن أتم هذا النقص بأن أنقل إلى العربية إحدى غرر الكتب المهمة التي ألفت عن الهند.
وينشر العلامة الفيلسوف «غوستاف لوبون» سنة 1884 كتاب «حضارة العرب» الجليل الخالد، ويتخذ في وضعه منهاجا لم يسبقه إليه أحد، ويعرض فيه صورة واضحة لتلك الحضارة العظيمة التي رغب في بعثها، فيبدو فريدا في بابه، فتسير بذكره الركبان، وننقل هذا السفر العظيم إلى العربية وننشره في سنة 1945، ويتقبله العرب بقبول حسن.
وترسل الحكومة الفرنسية العلامة «لوبون» على رأس بعثة آثار إلى بلاد الهند، ويجوب «لوبون» الهند طولا وعرضا فتسفر بعثته إليها عن وضعه سفرا جليلا خالدا آخر، فيسميه «حضارات الهند» وينشره سنة 1887 فيعدل هذا الكتاب «حضارة العرب» ضخامة وروعة وطرافة ويعد توءما له.
ويستعين العلامة «لوبون» في كتاب «حضارات الهند» بالأصول التي اهتدى إليها في كتاب «حضارة العرب» على الخصوص، فيعول، كما ذكر، على محكم الأسانيد، ويعرض تطورات النظم الدينية والاجتماعية وعوامل هذه التطورات، ويبحث في الحوادث التاريخية كما يبحث في الحادثات الطبيعية، ويبعث الأجيال الغابرة بما انتهى إليه من الكتابات والنقوش والرسوم وبعرض صور لبعض آثار تلك البلاد الهائلة التي هي منبت كثير من المدنيات والمعتقدات.
ويسير العلامة «لوبون» في كتابه «حضارات الهند» على طريقة التحليل العلمي، شأنه في كتاب «حضارة العرب»، فيوضح فيه الصلة بين الحاضر والماضي، ويظل مخلصا فيه لسنن النفس والتطور، فينتهي إلى نتائج لم يصل إليها عالم قبله، فيظهر هذا الكتاب للعالم بدعا في درس حضارات الهند درسا شاملا، ويظهر هذا الكتاب خير كتاب عن الهند، إن لم يكن من أحسن الكتب عنها، وذلك في بابه وروحه ومناحيه وقوة التحليل فيه، ووصول «لوبون» فيه إلى ما نشده من الأهداف الاجتماعية والأدبية والدينية والسياسية، إلخ.
ويقع نظري على كتاب «حضارات الهند» هذا، وأقرأه بالفرنسية غير مرة وأسأل: هل أوفق لنقله إلى العربية موطئا موضوعاته الطريفة ومباحثه القاسية الكثيرة الأصول والفروع التي لا عهد لنا بها، ووضعها في قالب عربي خالص! ويهون الأمر لدي، بعد تردد، خدمة للعرب في السياسة والعلم والأدب، فأعزم على ترجمة هذا الكتاب إلى العربية.
وترجمتنا لهذا الكتاب التاريخي الاجتماعي السياسي العظيم حرفية، وراعينا مبدأ حرفية الترجمة من أول الكتاب إلى آخره مع الانسجام وعدم الإبهام وسهولة المنال.
والكتاب خاص بالهند، ويشتمل على نحو ألف من أسماء الأعلام، وتعودنا كتابة هذه الأعلام منقولة عن مؤلفات الغرب، فنكتب في صحفنا وكتبنا، مثلا، الكلمات: بوذا، وهيمالايا، وبومباي، ودلهي، إلخ. مع أنها تكتب بالحروف العربية في الهند هكذا: بدهة، وهمالية، وبمبي، ودهلي، إلخ، وأردنا أن نكتب أسماء الأعلام التي تشتمل عليها ترجمة هذا السفر كما في الهند، فبذلنا جهودا غير قليلة للحصول على جداول خاصة من الهند وغيرها، فكان ما يجده القارئ في هذه الترجمة من رسم تلك الأسماء مثل ما في الهند.
وقضينا في سبيل ذلك كله أوقاتا شديدة، ولاقينا مصاعب كثيرة يقدرها القارئ، ولم نر أن نضع لهذه الترجمة مقدمة مطولة ما نشرنا في آخر الكتاب فهرسا مفصلا للموضوعات، وما رأينا قيام هذا الفهرس المفصل مقام المقدمة المطولة، وحافظنا على مظهر الكتاب كما في الأصل على قدر الطاقة، فلم نستثن من صوره ورسومه سوى بعض ما نشره المؤلف بقصد تزيين الكتاب، فيقوم ما اخترناه منها، وهو معظمها، مقامه، ويؤدي إلى الغاية التي وضعها المؤلف أمامه، وفي الكتاب خريطتان من تخطيط المؤلف رأينا إبقاءهما على حالهما لاكتسابهما قيمة أثرية مع الزمن.
وإننا نطمع أن تمتاز هذه الترجمة، التي لم نتجوز فيها قط، بالصحة والوضوح والدقة فلا يضيع فيها معنى، ولا يضطرب فيها لفظ، والله الموفق.
عادل زعيتر
نابلس، فلسطين
مقدمة المؤلف
الهند من الأقطار التي شملت نظر العلماء والسياح والمتفننين والشعراء، وأثارت فيهم حب الاطلاع في كل حين، والهند عالم يختلف عن عالمنا بجوه وهوائه وأرضه وسكانه، ولا شبه بين ما تعرفه الهند وما يعرفه الغرب من الأصول الدينية والمبادئ الفلسفية والفنون والآداب والنظم والمعتقدات.
ذلك العالم العجيب هو زبدة جميع العوالم، وخلاصة ناطقة لجميع أدوار التاريخ، وصورة صادقة للأطوار المترجحة بين الهمجية الأولى والحضارة الحديثة.
ظلت تلك الأطوار التي جاوزها البشر دفينة تحت أعفار العصور زمنا طويلا، وحديثا بدأنا نرفع الكفن الكثيف الذي يرقد تحته أجدادنا، وأخذنا نبعث أسس معتقداتنا ومشاعرنا وخيالاتنا.
والعلم لم يستطع، بالحقيقة، أن يثبت الأطوار التي قطعها الغرب؛ ليبلغ ما وصل إليه من المزاج النفسي والنظام الاجتماعي إلا بعد أن ارتاد حملته أقطارا كثيرة ذات أمم متفاوتة في نشوئها وارتقائها.
وفي الأرض بقعة واحدة تكتنف مختلف العروق الممثلة لجميع تطورات الماضي تقريبا، وتلك البقعة هي ذلك القطر الواسع العجيب الذي وقفنا هذا السفر لدرسه؛ ففي ذلك القطر إجمال لتاريخ البشر ما اشتمل على جميع الأجيال، وفيه تبدو جميع الحضارات حية أو ماثلة في عظيم الآثار، وفيه نبصر ما اعتور نظمنا وعاداتنا من متعاقب الصور والأجيال منذ البداءة إلى الزمن الحاضر.
ويكاد يكون مفقودا ما اصطلح على تسميته بحوادث التاريخ التي يظن أنها ضرورية لبعث ماضي الهند، ولا نأسف على ذلك كثيرا، ما أدت أخبار الملاحم والفتوح وأنباء الأسر المالكة التي تملأ كتب التاريخ إلى حجب سير حياة الأمم الحقيقية وإخفائها، وما ود المفكرون أن يعرفوا مجرى الأخيلة والمعتقدات والمشاعر السائدة لأحد الأجيال، وتأثير مختلف العوامل التي أوجبتها.
وفي كتابنا الذي جعلناه مقدمة لتاريخ الحضارات
1
بينا كثرة تلك العوامل، وأن الأمم جاوزت مراحل تطور متماثلة مع تباين تاريخ هذه الأمم الظاهر، وأنه إذا ما رئي أحيانا تباين واضح بين أمتين فلمصاقبتهما أوجه تطور مختلفة على الخصوص.
ونحن، وإن لم يكن لدينا تاريخ للهند بالمعنى الصحيح، نجد في الهند من الآثار الدينية والفنية والأدبية ما يبلغ قدم بعضه نحو ثلاثة آلاف سنة، ولهذه الآثار من الأهمية ما ليس لقصص المؤرخين؛ فبمثل هذه الآثار ننفذ حياة الأمم، فنقوش معبد هندوسي خرب خير من تواريخ الملوك في إخبارنا عن سرائر قدماء الهندوس، وقل مثل هذا عن كتب الأدباء والقصائد والأقاصيص والأساطير الدالة على تلك السرائر.
وفي الآثار الأدبية يجب أن يبحث عن روح الأمم؛ فالشعراء والقاصون إذ كانوا سريعي الانفعال شديدي التأثر فإنهم يعانون تأثير بيئتهم؛ أي تأثير عرقهم وعصرهم، أكثر مما يعانيه العلماء والمفكرون، ويبدون مرآة صادقة بليغة لهما.
أجل، إن الشعراء والقاصين يشوهون ما يصفونه، ويبالغون فيما يعبرون عنه، ولكنه ينطوي تحت ذلك التشويه، وتلك المبالغة معان كثيرة؛ فالشعراء والقاصون يتقمصون روح زمنهم فيألمون ويترنمون بآلام أبناء قومهم ومسارهم وأمانيهم، ويترجمون عن عواطف أممهم وعن عقائد عصرهم ومشاعره، فلا يكون أمر أية حضارة مجهولا ما استوعبت ذاكرة الناس قصائد الشعراء وأقاصيص القاصين.
بيد أن فهم معنى آثار الشعب الأدبية والفنية، ولا سيما آثار الهندوس، يتطلب دراسة هذه الآثار في أماكنها، فبدراسة الحضارات في الأماكن التي ظهرت فيها وكملت نتمكن من الاطلاع على روحها، ونتحرر من الحكم فيها بأفكارنا العصرية، فلن يقدر علماء أوروبا على اكتناه عبقرية أمة آسيوية ووصفها، بتصفح ما في المكتبات من الكتب.
حقا أن الهوة التي تفصل بين أفكار رجل غربي عصري وأفكار رجل شرقي عظيمة جدا، فما في أفكار الغربي من الدقة والإحكام يختلف كثيرا عما في أفكار الشرقي من الإبهام والتموج، ومن العبث أن يطمع الغربي في استنباط ثبات أفكار الشرقيين من عدم تحول عاداتهم، وبلغت أفكار الهندوسي ومعتقداته من الغموض والتذبذب ما تقصر معه لغاتنا اللاتينية «الفقيرة في النعوت مع ما فيها من ضبط» عن الإفصاح عنها في الغالب. •••
اقتصر علماء أوروبا في مباحثهم التاريخية عن الهند على ترجمة الأسانيد السنسكرتية مع أن السنسكرت، لدى الهندوس، لغة ماتت منذ عدة قرون، ويكاد شأنها عندهم يكون مماثلا لشأن اللغة اللاتينية في أوروبا، فتكون معرفتنا لتطور الهند من دراسة كتب الآداب القديمة وحدها متعذرة تعذر معرفتنا لأحوال الناس في القرون الوسطى وفي عصر لويس الرابع عشر من دراسة كتب سيسرون وفيرجيل فقط.
ومن العسير أن نستعين بالكتب وحدها فنطلع على ما في الويدا من الشعر الأغر، وما أثر عن قدماء الحكماء من التأملات الفلسفية، وما لا يحصى من الآلهة، وما يخالف الذوق من الطقوس الصارمة، ففي الهند نفسها يجب البحث عن حضارتها الكبيرة الرفيعة، وآثار عظمتها المحيرة للعقول، فلا يتجلى مفتاح الأسرار المملوءة بها آداب الهندوس إلا في أطلال مدنها القديمة، وفيما هو ماثل بين صرود
2
همالية المتجمدة وسهول الدكن المحرقة من أطلال المدن القديمة ونقوش الزون
3
والقصور الزاهية الهائلة التي لم يردها الرواد إلا حديثا؛ ففي هذه الكتب الحجرية التي لا تعرف الكذب تحفظ أفكار الأمم.
ومنذ عهد قريب فقط فطن إلى أهمية ذلك الطراز في البحث، فبينما يقضي كثير من العلماء أوقاتهم في درس كتب الأدب البرهمي فيسفر ذلك عن وضع ضخم المؤلفات، وبينما يملأ أولئك العلماء في العواصم الأوروبية الكبيرة ما لا يعد من الدفاتر، تجد اتجاها حديثا إلى دراسة آثار الهند ومبانيها في أماكنها.
ولا مراء في أن الحكومة الإنجليزية عينت لجنة خاصة لبلوغ ذلك الغرض، غير أن هذه اللجنة لم تصنع غير حل الكتابات وفك رموزها على الخصوص، ولم تنشر سوى رسوم هندسية لقليل من الآثار بدلا من عرض صور هذه الآثار عرضا يعلم الغربي منه وجود فنون تختلف عن فنونه اختلافا تاما.
وتزيد ضرورة معرفة تلك الآثار معرفة تامة ما أغضى الأوروبيون الفاتحون عن دثورها بفعل الزمن إن لم يقوضوها بمعاولهم، فإذا ما أريد الحكم على ما يصل إليه الأمر في المستقبل بما يقع في هذه الأيام قلنا إنه لا يبقى شيء من تلك العجائب التي أقيمت في قرون كثيرة قبل انقضاء خمسين سنة، وإنني أذكر ما حدث في مدينة كهجورا القديمة مثالا من بين ألوف الأمثلة المماثلة على ذلك الاستخفاف بالآثار، فقد زال في الأربعين سنة الأخيرة نحو ثلث المعابد الستين التي كانت تزين جيد هذه المدينة.
قال الجنرال الإنجليزي كننغهم منذ بضع سنين: «يستحيل على الباحث أن يجوب الهند من غير أن يأسف على ما أصيبت به بقايا مبانيها الأثرية، ولم تصنع الحكومة في قرن بعد الفتح الإنجليزي شيئا تقريبا لحفظها وصيانتها، مع أنها المصدر الوحيد لمعرفة أحوال الهند الغابرة التي لم يدون لها تاريخ، ولا ريب في زوال الكثير منها إلى الأبد ما لم تخلد بتصويرها ووصفها وصفا مبينا.»
فإذا حدث ما توقعه الجنرال كننغهم، وذلك ما نكاد نبصره، أصيبت البشرية بخسر لا يعوض منه؛ فالبشرية إذ سلكت سبيلا جديدا بفعل مبتكرات العلوم، وأضحت بذلك قادرة على التعبير عن أفكارها بسرعة عادت لا تحتمل صوغ هذه الأفكار في قوالب حجرية يتطلب صنعها عدة قرون، فلن نقيم من المباني العجيبة كالتي أقيمت في عصور الجاهلية والإيمان، وليس لدينا ما يحفز إلى إقامة إهرام وكنائس غوطية في زمن البخار والكهرباء.
والحكومة الفرنسية إذ أدركت ما لآثار الهند من القيمة الفنية والتاريخية عهدت إلينا في دراسة هذه الآثار حيث هي، فأسفرت بعثتنا عن وضع خمسة مجلدات مشتملة على أربعمائة صورة موضحة، فاقتبسنا بعضها في هذا السفر.
وقد اعتمدنا على دراسة آثار الهند، فنقيم كتاب «تاريخ حضارات الهند» هذا على أساس متين، فقد زرنا جميع مباني الهند المهمة، ومنها ما هو قائم في البقاع التي لم يردها الباحثون إلا قليلا ، كمنطقة نيبال التي لم يدخلها فرنسي قبلنا، فاستطعنا أن نجلو أمورا كثيرة في تاريخ الهندوس الديني وحضارتهم؛ فمن ذلك أننا أثبتنا بما قمنا به من دراسة المباني أن البدهية، التي أراد علماء أوروبا أن يجعلوا منها ديانة بلا إله مستندين في ذلك إلى كتب المذاهب الفلسفية التي وضعت بعد ظهور بدهة بستمائة سنة، هي أكثر الأديان قولا بتعدد الآلهة، وأوضحنا كيف غابت هذه الديانة عن البلد الذي نشأت فيه غيابا لم يجد العلماء له حلا قبلنا.
واستعنا في هذا الكتاب بالأصول التي اهتدينا إليها في كتبنا السابقة، ولا سيما كتاب «حضارة العرب»، فعولنا على محكم الأسانيد، وعرضنا تطورات النظم الدينية والاجتماعية وعوامل هذه التطورات، وبحثنا في الحوادث التاريخية كما يبحث في الحادثات الطبيعية، ودرسنا المذاهب بحذر؛ فكان لنا بذلك كله نهج خاص.
وبتلك الأصول تمكنا من الوصول إلى ما في مبادئ الهند الفلسفية والدينية والاجتماعية المعقدة من المعاني البعيدة الغور، وإلى إظهار ما للآلهة القديمة الآفلة من الجبروت والتقديس. •••
وللفرنسيين فائدة عملية واضحة من الاطلاع على أحوال الهند الحاضرة، فضلا عن الفوائد التاريخية والفلسفية والفنية التي تجتنى من دراسة ماضيها، فمن المهم أن يعرف في هذا الزمن، الذي يتحدث الناس فيه عن الاستعمار، كيف استطاعت أمة أوربية أن تسيطر بألف موظف وستين ألف جندي على إمبراطورية مؤلفة من 250 مليون شخص، وقد أتيح لي بما اتفق لي من الصلات بأكابر موظفي الإنجليز في أثناء إقامتي بالهند، أن أطلع على دقائق إدارة الهند العجيبة التي لا تعرف أوروبا عنها إلا قليلا.
وهنالك أسباب أهم من تلك على ما يحتمل، تدعو إلى البحث في شئون الهند الحديثة؛ فقد اقتربت الساعة التي يتقابل فيها الشرق والغرب بفعل الكهرباء والبخار، والشرق والغرب ما تعلم من وجود هوى عميقة بينهما في الحياة والتفكير حتى الزمن الحالي، ودنا الغرب وحضارته من دور الخطر في الصراع الهائل الذي سيقع في عالم الصناعة المهلك، لا في ميادين القتال، بين أمم متساوية في كفاءاتها المتوسطة، متفاوتة في احتياجاتها تفاوتا عظيما ، فيحيق الخطر فيه بالغرب، وإن شئت فقل بالحضارة، فما هي نتائج هذا الصراع؟ وإلى أي مدى نداوم على منح أمم الشرق من الأسلحة المادية والثقافية ما ستصوبه إلينا؟ لمثل هذه المسائل من الأهمية ما لا يجوز أن نسكت عنه في هذا الكتاب.
فتاريخ حضارات الهند، إذن، ليس قصصا لماض أدبر إلى الأبد، بل هو تاريخ ينطوي، أيضا، على مجهولات هائلة.
ولم يخل من نقص هذا الكتاب الذي هو بدع في درس حضارات الهند درسا شاملا، وسنبلغ به، مع ذلك، الهدف ما رسمنا صورة ناطقة للأطوار المتتابعة والأجيال المتعاقبة التي اعتورت المجتمع الهندوسي الذي لا تزال حضاراته القديمة قائمة منذ ثلاثة آلاف سنة وما بينا ما يكون لمقادير هذا المجتمع من أثر كبير في مستقبل العالم.
أجل، لقد بعثنا تلك الأجيال الغابرة بما انتهى إلينا من الكتابات والنقوش والرسوم، وبعرض صور لبعض آثار تلك البلاد الهائلة التي هي منبت كثير من المدنيات والمعتقدات مستعينين بالقلم والريشة، ولكن أية ريشة أو أي قلم رصاصي يستطيع أن يخبرنا بجمال تلك البلاد القاصية التي يشعر السائح الأوربي عند دخولها بأنه انتقل إلى عالم جديد عجيب في أرضه وسمائه ونباته وحيوانه؟ وكيف يمكن وصف تلك الديار الساحرة التي أقامت الجبال الشاهقة الجبارة حولها نطاقا أبديا من الثلوج، أو وصف تلك المدن الخامدة الواسعة سعة عواصم أوروبا، والتي توحي معابدها الرائعة وقصورها المهجورة البادية من خلال الخمائل إلى السائح أنه أصبح في مدن الغيلان التي لعنها من في السماء؟ وما هو السبيل إلى عرض ما تؤثر به في النفس تلك المعابد الحافلة بالأسرار، والداخلة أعماق الجبال، والمشتملة على ألوف الأصنام الحجرية التي تظهر للأعين على نور المشاعل فيخيل إلى الناظرين أنها عبيد خرس لرب الأموات؟ يكاد قلم الرسام الماهر ينقل إلينا جلال تلك القصور الرخامية الهائلة المرصعة بالحجارة الكريمة والمشرفة على أسوار من الغرانيت الأحمر كالدم القاني؛ فتبدو صاعدة في سماء لا يحجب زرقها سحاب.
ألا إن الماضي لا يتجلى للسائح كتجليه في بلاد الهند، وإن السائح لا يحس ما اعتور أجيال البشر من تطور، وما بين هذه الأجيال من فروق، ومن روابط بأحسن مما في الهند؛ فالسائح يعلم هنالك، فقط، أن الحاضر منحدر من الماضي، وأنه يحمل في أثنائه بذور المستقبل، وأن خيالاتنا وطبائعنا ومبادئنا انتقلت إلينا بالإرث من غابر الأجيال التي لا نقدر أن نقلل من سلطانها وإن أمكن جهلها، فمن خلال الأجيال القديمة نكتشف، بالحقيقة، أصول نظمنا ومعتقداتنا ونبصر ما لها من السلطان العظيم وأنها تقود كل شيء إلى مصيره الخفي بسلسلة من التطورات البطيئة.
4
هوامش
الباب الأول
البيئات
الفصل الأول
الأرض والأجواء
(1) وصف بلاد الهند العام
يتألف من الهند عالم مستقل في الكون من الناحية الطبيعية، فالطبيعة، كما يظهر، قضت على الهند بعزلة أبدية؛ لما أحاطتها به من جبال هائلة، ومن بحار ذات أمواج مزبدة تلطم سواحلها غير المقراة،
1
ويكفي المرء أن ينظر إلى حدودها؛ ليشعر بنشوء حضارة ثابتة فيها تقريبا، وبهضمها للعناصر الأجنبية التي أغارت عليها، ولا تزال بلاد الهند الأرض المقدسة الحافلة بالأسرار التي حكى عنها شعراؤها الأقدمون، وظلت بلاد الهند الحصن المنيع مع إغراء كنوزها للفاتحين، واقتحام الكثيرين منهم لها في غضون القرون، ومع ما يبدو من سهولة مواصلاتها الحديثة التي زالت بها جميع العوائق، وقربت بها كل المساوف، فلا تجد طريقا مهما يمر من جبال همالية، ولا تجد ميناء سهلا على شواطئها، فبلاد الهند هي، بالحقيقة، أكثر البلاد انغلاقا وأصعبها انفتاحا، ولم يخطر ببال شعب قديم عمرها أن يخرج منها بعد أن استوطنها.
وتلوح بلاد الهند المنعزلة أنها خلاصة العالم بتنوع مناظرها، فللهند كل الأجواء بسبب اتساعها وتفاوت ارتفاع بقاعها الكثيرة، فبينما يكون الحر شديدا إلى الغاية في سواحل ملبار وكورومندل وسهول البنجاب ترى ربيعا ساحرا في رداف الجبال وريحا صرصرا تلطم صرود
2
الشمال العالية وأغطية من الثلوج مشابهة لما في القطبين تستر شواهق همالية، وبينما تجري السيول مسرعة في أوائل يونيو إلى السواحل الجنوبية الغربية فتغمرها وتملأ جداولها ينظر فلاحو أوريسة ووادي السند الذين أعياهم الجفاف إلى سمائهم الصافية الحاقدة ضارعين باحثين في الرمال المحرقة عن أثر الأنهر الكبيرة النافدة.
وتشتمل بلاد الهند ذات المناظر الرائعة والعوارض المختلفة على سهول الغنج الخصيبة القريبة من صحاري تهار الغبر الدكن، وعلى الأودية المنبتة الواقعة بين هضاب الدكن الجرد الجديبة، وعلى ما لا نظير له في الدنيا من الشعاف الهائلة المتصدعة المهيمنة على واحدة كشمير الجميلة المعدودة درة العالم.
ويمكن تفسير تلك الظواهر الطبيعية التي رئي تسميتها بنزوات الطبيعة في الهند بنتوء اليبس وعظم نوفه وبتفاوت توزيع المياه، فقد نجم عن ذينك السببين أن نشأ ألف بلد في بلد واحد، وأن جمعت الأماكن والأجواء في مساوف غير متباعدة بما يزيد عن بضعة كيلو مترات مع انفصال بعض أمثالها عن بعض بألوف الفراسخ في خريطة العالم.
فلذلك نرى أن نعرف، قبل كل شيء، ارتفاعات بلاد الهند، واتجاه مجاريها، وعدد هذه المجاري وقيمتها، وسنضيف إلى ما نعلمه من مسايل بلاد الهند وأنهارها بحثا في توزيع أمطارها ورياحها الموسمية، فلسماء الهند المدرار تقويم خاص ذو نتائج لا تقل أهمية عما يجرى فوق برها.
وبلاد الهند مربعة الأضلاع مقسومة إلى مثلثين متقاربين ذوي قاعدة مشتركة، فقمة المثلث الشمالي هي ذروة جبل ننغا الذي هو من أعظم جبال همالية وقمة المثلث الجنوبي هي دروة جبل كمارى، والخط الذي يعد قاعدة مشتركة لذينك المثلثين هو الوهدة الضيقة العميقة الممتدة من خليج كمبي إلى نهر الغنج فيجري فيها نهر نربدا ونهر سون اللذان يتجه أحدهما إلى الغرب والآخر إلى الشمال الشرقي.
وليس مجريا ذينك النهرين وحدهما ما يحد به ذانك القسمان الطبيعيان لبلاد الهند، بل يفصل بينهما، أيضا، سلسلة جبال وندهيا في شمال تلك الوهدة، وسلسلة جبال سات بورا في جنوبها، فمن ثم تحول ثلاثة حواجز دون غزو الأجنبي للقسم الجنوبي من بلاد الهند برا على الأقل، وسترى أن شواطئ هذا القسم الجنوبي ليست أقل صلاحا للدفاع عن تلك الحواجز الثلاثة.
ويتألف من المثلث الشمالي «الهندوستان الحقيقية»، وورد ذكر هذه الكلمة، التي تعني «بلاد الهندوس»، في أقدم أقاصيص الإغريق.
شكل 1-1: خريطة الهند «تشتمل علي اتساع يعدل 750 فرسخا تقريبا، وفيها ذكر للأمكنة المحتوية على أهم المباني، وتعدل كل درجة عرض نحو 112 كيومترا»، «من تخطيط المؤلف».
أجل، يرى الغربيون أن نهر السند أعار من اسمه البلاد الحافلة بالأسرار الواقعة فيما وراءه فما فتئوا يطمعون فيها، غير أنه لا يسلم بهذا على علاته ما احتمل اشتقاق اسم «الهند» من اسم الإله «إندرا».
والأمر مهما يكن فإن اسم الهند قد أطلق على كثير من البلدان، فمن ذلك أن تمثلت بلاد الهند لخيال الأوربيين أرضا لكل عجيب ومنبعا لكل ثروة، فبحثوا عن طريقها فبدوا ضحية الأوهام في الغالب، فظن «كريستوف كولونب» أنه بلغها بسفنه حينما وصل إلى الدنيا الجديدة، فكان ما نعلمه من تسمية الدنيا الجديدة ببلاد الهند الغربية، ومن ذلك تسمية كثير من جزر آسيا والأوقيانوس بالاسم الذي أطلقه الإغريق على وادي السند.
وأما نحن فنقصد بكلمة الهند في هذا الكتاب شبه الجزيرة التي تحيط بها جبال آسام وهمالية وكارا كورم وهندوكش وسليمان والبحر، ونقصد بكلمة «الهندوستان» المثلث الشمالي من بلاد الهند، ونقصد بكلمة «الدكن» المثلث الجنوبي منها. (2) الهندوستان
يتألف أكبر حد للهندوستان من جبال همالية التي هي أعلى سلسلة في الكرة الأرضية، والتي ينظر الهندوس إلى شعافها المقدسة باحترام فيسمونها «سقف الدنيا»، وتبدو هذه الجبال العظيمة في مجموعها كمصور ضخم مائل يزيد ارتفاع طرفه الأعلى عن ستة آلاف متر، ويبلغ معدل علوه المتوسط أربعة آلاف متر، وتجد بين ذلك السد المنيع الهائل من الشواهق ما يصل ارتفاعه إلى ثمانية آلاف متر أو تسعة آلاف متر.
وأظهر ما يبدو ذلك في القسم الغربي من جبال همالية، ويتسع عرض هذه الجبال فوق منابع الأنهر الكبرى: السند والغنج وجمنة وستلج، ثم تختلط هذه الجبال بهضاب التبت العالية، ثم تفقد منظرها الملتوي فتمتد من هنالك هضاب واسعة كئيبة تزيد ارتفاعا عن أعلى ذرى جبال أوروبا، فما هي بالتابعة جغرافيا للهند ولا للتركستان ولا للتبت، وما هي بالتي ينمو فيها نبات، وما هي بالتي يجد الماء الذي يتجمع فيها أحيانا منفذا أو منحدرا ليسيل منه، وما هي بالتي يصلح هواؤها لتنفس السائح المقدام، فهي «بلاد الموت الكريهة» كما يدعوها به أهالي تلك الأصقاع.
لم تمسح ذرى كارا كورم المرهوبة المشرفة على جبال همالية في أي زمن، فقد يأتي زمن تخلع فيه إحداها ملك الجبال غوري شنكر الرائع الخالع لبركان أند: جمبورازو الذي عد أعلى جبل في العالم زمنا طويلا.
يقوم طود غوري شنكر متوجها إلى القسم الشرقي من جبال همالية، ويتألف من اتجاه شوامخ ديول غيري وغوري شنكر وكنجنجنغها خط مستند إلى ما وراء همالية يعد في مجموعه سلسلة تلك الجبال الحقيقية من غير أن يشتمل على الذرى المهمة، على حين تمتد إلى الشمال وإلى الجنوب سلسلتان أخريان متآزيتان تسمى إحداهما غنغ ديسري المشرفة على التبت، وتسمى الأخرى همالية الدنيا التي هي أقل ضخامة من تلك فتهبط بالتدريج بين روافد نهر الغنج الشمالية.
وتشغل جبال همالية أرضا تزيد مساحتها على مساحة فرنسا، وهي أمنع متراس أقامته الطبيعة بين بلدين أو أمتين، ومن الصعوبة أن تجد رابطة بين أراضي شمال الهند العالية وأودية الجنوب الواسعة العميقة سواء في أمر السكان أو في أمر الطبائع والأخلاق.
شكل 1-2: قرية دنكور في جبال همالية الغربية.
ولا يربط الهند بالصين غير طريقين ناقصين، وهما: طريق سملا، وطريق دارجيلنغ الواقعتان على طرفي جبال همالية، وهذا إلى أنك تصادف بين حين وآخر سائحا أو تاجرا مخاطرا يمر من التبت إلى وادي الغنج واضعا متاعه الخفيف، أحيانا، على ظهر معز أو متن ضائن؛ لعجز أي حيوان آخر عن مجاوزة مسارب وعرة معوجة مخيفة كالتي تبصر في منحدرات تلك الجبال.
وتكون تلك المسارب على حافة نهر في الغالب، بيد أنه ليس لمجاري المياه التي تنبع في جبال همالية جوانب يسهل اجتيابها خطوة بعد خطوة ما هوت هذه المجاري، على العموم، في مضايق مظلمة، ومسايل ممزقة للصخور خارقة لها خرقا بليغا ممتدة بين الصخور القائمة، وما أكثر ما يسمع خريرها من أعماق الهوي والوهاد فتجاب إذ ذاك على جذول
3
الشجر أو بواسطة جبل، ثم يصعد في طنف
4
صخرة يصاب بها المرء من تخيله بالثول
5
والدوار.
لم تسلم بلاد الهند من غزو الفاتحين لها من الشمال مع ذلك، فقد حلم أمراء الغرب المقاحيم، منذ أقدم القرون، بالاستيلاء على هذا القطر الغني الذي جاء في الأساطير أنه يدر الحجارة الكريمة ويخرج النبات العجيب.
وفي الشمال الغربي من النطاق المخيف المنيع الذي ضربته الطبيعة حول بلاد الهند ثغرة نهر كابل؛ فمن ضفاف هذا النهر ولج الإسكندر والمغول والأفغان وغيرهم في شبه جزيرة الهند.
ولا مراء في أن أولئك الفاتحين ساروا على الدرب الذي سلكه قدماء الآريين، ولا تجد طريقا أخرى غير هذا الدرب يسهل على أي جيش أن يمر منها إلى أرض الإله إندرا، ويقوم وراء تلك الثغرة حاجز آخر من جبال سليمان المتصلة بجبال خيبر، فتكفي لوقف غزو الأجنبي مع أنها دون تلك الجبال أهمية بمراحل.
وإذا ما استثنيت ذلك المنفذ، الذي يدافع عنه بموقع بشاور وقلعة أتك في الوقت الحاضر، وجدت جميع حدود بلاد الهند البرية منيعة يتعذر اقتحامها تقريبا.
ويظهر في طرف المنحنى الشرقي الكبير، الذي أكسبته جبال همالية شكل سيف، ثلمة كبيرة جوفها نهر برهما بوترا، فمن هذه الثلمة استطاع أناس من الجنس الأصفر أن يدخلوا بلاد الهند في دور قديم، وذلك بعد جهود عظيمة؛ لما نراه في كل سنة من انغلاق وادي برهما بوترا الأعلى الذي لم يقع ارتياده حتى الآن، وذلك بفعل ما ينجم عن رياح الجنوب الموسمية من الطوفان، فما ينزل على هذه المنطقة من الأمطار الهائلة يؤدي إلى طمس معالم كل طريق مسلوكة، ويحول الأنهار إلى سيول، والسهول إلى مستنقعات وغدران، ويوجب نمو نبات يعوق السير، وانتشار أبخرة وخيمة قاتلة مفسدة للهواء في كل حين، فلا نصادف في الأرض بلادا مجهولة كتلك المنطقة مع قربها من الأمكنة العامرة.
شكل 1-3: منظر في وادي السند «مملكة كشمير».
وتكتنف جبال آسام ضفة نهر برهما بوترا اليسرى، وينحني مجرى هذا النهر عند سفوح جبال كهاسي وجبال غارو التي هي أخرى الحلقات المحيطة بشمال الهند.
ويحيط ذلك النطاق بالسهل الهندي الغنجي الذي تتألف الهندوستان الحقيقية منه، وينخفض هذا السهل رويدا نحو خليج البنغال من جهة ونحو بحر العرب من جهة أخرى، ويقسم وادي السند ووادي الغنج ذلك السهل إلى منطقتين مختلفتين أشد الاختلاف متباينتين منظرا، ويبدو هذا الانقسام بارزا في الجنوب بجبال أراولي التي يرتبط فيها أعالي جبل آبو، ويكاد هذا الانقسام يكون غير باد في الشمال.
ووادي الغنج هو من أكثر بقاع الأرض سكانا وخصبا وغنى، ولا يقال مثل هذا عن وادي السند الذي يشتمل على الصحراء الهندية الكبرى الوحيدة، ويفسر تباين ذينك الواديين باتجاه ذينك النهرين اللذين يجرى أحدهما موازيا لسلسلة الجبال التي يخرجان منها، ويجري الآخر عموديا بالنسبة إلى هذه السلسلة، فكلما سار نهر الغنج نال من جبال همالية التي يحاذيها روافد لا ينضب لها معين بما يسيل إليها من مياه أحواض الثلج فيروي الحقول والمزارع التي يمر منها بوفرة، وكلما ابتعد نهر السند عن الجبال خفت مياهه وقلت روافده؛ لضياع كثير منها في الرمال، وعجزها عن شق مسايل لها، فإذا كانت مقاطعة البنجاب ذات الأنهر الخمسة خصيبة لم تلبث هذه الأنهر الخمسة أن تؤلف نهرا واحدا متوجها وحده إلى الجنوب الغربي تاركا عن يساره أراضي واسعة خالية جديبة كئيبة.
ومن المحتمل أن كان جميع وادي السند في غابر الأزمان مغمورا بالبحر فجعل منه البحر خليجا واسعا، ونرى أن سهول شمال الهند وطبقات الجنوب من أسفل همالية قد تكونت حديثا ما كانت الصخور البلورية والألواح الحجرية في أواسط همالية وما وراءها، وما كانت أقسام همالية المركزية وحدها مؤلفة من الصوان والجلاميد المتحولة.
ويدل ما حول قمم همالية من بقايا نبات البحر، ومن رواسب الملح على مكث مياه البحر بهضاب تلك الجبال زمنا طويلا.
شكل 1-4: منظر في جبل آبو «راجبوتانا».
وتشمل سلاسل الجبال الصغيرة الكثيرة، الممتدة من جبال همالية إلى منطقة البنجاب العليا، النظر بتركيبها ومنظرها، ونذكر منها «سلسلة الملح» التي يشاهد فيها ، عدا رواسب الملح ومختلف المناجم، نماذج لجميع الصخور المترجح تكوينها بين الدور الجيولوجي الأول والدور الجيولوجي الثالث، فنشأ عن لطم أمواج البحر لسفوحها، وشق الأمطار لشعافها منذ القدم تصدعها على شكل عجيب نالت به منظر الأبراج والقلاع التي أتقن الإنسان صنعها، وذلك إلى أنها كانت مستورة بالحصون التي لا تزال أطلالها الرائعة ماثلة على ذرى صخورها الناهضة، فيتمثل بها المتأمل بقايا آطام القرون الوسطى المملوءة بها بلاد الغرب، وذلك إلى أن هذا الشبه واقعيا أكثر منه عاطفيا ما أدى إليه قيام تلك المعاقل الدفاعية في البنجاب وبنديل كهند من استعباد البلاد، وزيادة طغيان الأمراء الإقطاعيين، كما حدث في فرنسا بعد الغزو النورماني.
والأرض في جنوب وادي الغنج ترتفع بهضاب مالوا وبنديل كهند، ثم تبدو سلسلة جبال وندهيا.
وتعد سلسلة جبال وندهيا «حجاب الهند الحاجز»؛ فلهذه السلسلة أهمية كبيرة؛ لفصلها بين حضارتين وجوين وأرضين وعرقين، فبينما يسود العنصر الغازي، أي العرق الآري، السهل الهندي الغنجي يقطن بهضبة الدكن الكبرى، التي لها الوقاية بخندق نربدا العميق وبسلسلتين من الجبال، العرق الدراويدي الفطري الخالص المحافظ على أخلاقه وأوصافه الجثمانية ومعتقداته القديمة الثابتة مع مر القرون. (3) الدكن
تألفت من الدكن جزيرة حين كانت مياه المحيط تغمر، في سالف العصور، معظم السهل الهندي الغنجي فتلطم الأمواج سفوح الجبال المحيطة به، ثم ارتدت هذه الأمواج عن شواطئه الضيقة التي تهيمن عليها الهضبة القديمة من ارتفاع يترجح بين أربعمائة متر وستمائة متر.
وفي الدكن، لذلك، قسمان مختلفان بمنظريهما وإنتاجيهما وبالعروق التي تقيم بهما، فيتألف القسم الأول من الشواطئ الدنيا الواقعة على بحر العرب والمشتملة على:
كونكن الشمالي وكونكن الجنوبي وملبار ومن الشواطئ: كورومندل وسكهر وأوريسة الواقعة على خليج البنغال، ويتألف القسم الثاني من الهضبة الواسعة المائلة من الغرب إلى الشرق، فتحيط بها جبال سات بورا وتوابعها، وسلسلة كهات الفاصلة لها عن المنطقة الساحلية تقريبا.
وتسمى سلسلتا الجبال اللتان تفصلان الدكن عن البحر بكهات الغربية وكهات الشرقية، وتقل سلسلة كهات الشرقية عن سلسلة كهات الغربية ارتفاعا، وإليها يستند أسفل الهضبة، ويتخلل هاتين السلسلتين عدة أنهر تصب مياهها في خليج البنغال تبعا لميل تلك الجهة العام.
وسلسلة كهات الغربية أكثر انتظاما من تلك، وتتألف من حلقات متصلة متوجهة عموديا إلى الساحل.
وبينما تبرز كهات الغربية الوعرة من ناحية البحر شامخة بذراها التي صدعتها أمطار الرياح الموسمية العاصفة تبدو أقل روعة من الهضبة المشرفة عليها، وسلسلة كهات الغربية هذه لا ترتفع عن الشاطئ بأكثر من 1200 متر، وهي ليست غير جلاميد قديمة محافظة على وضعها العام، وتغمر الأمواج هذه الجلاميد حيث يضيق الشاطئ في بعض الأمكنة، ويقطعها بين مسافة وأخرى فجاج
6
تصل بين السهول العليا والمنطقة الساحلية، ويعد بهور كهات أهمها، وهو الذي سمي قديما بمفتاح الدكن.
وتتسع سلسلة كهات الغربية في الجنوب، فكان لها بهذا الاتساع منظر أقل وحشة من ذلك، وكان لقسمها المعروف بنل غيري «الجبال الزرق» من سحر المنظر وحسن الجو ما دعيت معه بسويسرة الدراويدية.
وتنفرج وراء نل غيري «الجبال الزرق» فجوة
7
بال كهات التي هي أهم انخفاض فيها، وتنتهي السلسلة برأس كماري.
وفجوة بال كهات أكبر طريق يصل بين الشاطئين، ويمر من هذه الفجوة في الوقت الحاضر خط حديدي يربط مدينة مدراس بمدينة كالي كت.
وإذا ما عصفت الرياح الموسمية الشمالية الشرقية على خليج البنغال وقفت جبال كهات تلك الرياح، وأمكن السفن أن تمخر في بحر العرب بسلام، ولكن السفن إذا ما أصبحت أمام فجوة بال كهات كانت في بحر مائج، وذلك لأن الإعصار يتغور في هذه الفجوة فيمر منها؛ ليثير أمواج الشاطئ الآخر من شبه جزيرة الهند.
وعد جميع شواطئ الدكن الدنيا انتصارا على البحر في وقت قريب من دورنا، ثم وقف ارتفاع هذه الشواطئ، ودلت المشاهدات الحديثة على حدوث عكس ذلك في بعض جهات الهند، واكتشفت بقايا غابة غاطسة بالقرب من بمبي، ويلوح أن منطقة الجزر المستغدرة
8
الناشئة حديثا في مصب نهر الغنج والمسماة سندربن والبقعة القائمة عليها مدينة كلكتة ستخسفان، ذات يوم، في هوة هائلة تجوفها الأمواج، وينساب التراب نحوها ويتيه فيها المرجاس
9
مع سهولة تعيين حافاتها.
ولا يكون للنبات أثر في هضبة الدكن التي سترتها حجارة البراكين في غابر الأزمان، لو لم ينشأ عن الأمطار الغزيرة التي تغمرها في كل سنة حل لهذه الحجارة البركانية في كثير من الأمكنة، وسحق لها، ثم كسحها وظهور أودية تؤدي كثرة مياهها وحرارة جوها إلى نمو نبات وافر عجيب فيها.
واستطاعت أصقاع الدكن العليا أن تقاوم حملات الغزو المتتابعة، وأن تظل ذات صبغة خاصة بفضل سلسلتي الجبال القائمتين في شمالها وبفضل الخندق العميق الذي حفره نهر سون ونهر نربدا؛ فالحق أن في جنوب جبال وندهيا بقايا قدماء سكان الهند والعنصر الدراويدي ومراكز الدفاع ضد غزو الأجنبي.
ورأس كماري هو أقصى نقطة في بلاد الهند، وتقع جزيرة سيلان بجانبه.
ومع أنه ليس من برنامجنا أن نصف سكان جزيرة سيلان، ولا أن ندرس تاريخها نرى أن نقول بضع كلمات عن جغرافيتها وجغرافية الجزر القريبة من الهند فنختم بذلك بحثنا الإجمالي في أرض الهند الناتئة التي يمكن تسميتها بهيكل الهند العظمي.
تكاد جزيرة سيلان، التي تعدل مساحتها اثنتي عشرة مديرية فرنسية، تتصل بشبه جزيرة الهند، وإلى جزيرة سيلان تمتد متوجهة سلسلة من الجزيرات التي نعد راميشورم ومنار أهمها، فيتركب منتصف سلسلة الجزيرات هذه من صخور وأكثبة يغمرها الماء بضع أقدام فتعرف بجسر راما، وتنفذ ثلاثة معابر فقط هذا السد الطبيعي، وجعل أحد هذه المعابر في الزمن الأخير صالحا لسير السفن الصغيرة.
وفي شمال جسر راما ينقر خليجان شواطئ الهند، ويبدو أحد ذينك الخليجين مأمنا للسفن الفارة من الرياح الموسمية.
وتقسم جزيرة سيلان إلى قسمين: يقع أحدهما في الشمال حيث السهول التي ينمو فيها نبات البلاد الحارة، ويقع الآخر في الجنوب حيث الجبال، وذروة آدم التي يبلغ ارتفاعها 2200 متر هي أشهر ذرى سيلان وإن لم تكن أعلاها، ففيها يتبصر الهندوسي الساذج أثر قدم بدهة المقدسة.
وفي الجنوب الغربي من الهند توشي البحر المحيط مئات الجزر المعروفة بجزر لك ديب وجزر مال ديب. وجزر مال ديب هذه هي التي استوقفت النظر فأوحت إلى العلماء كثيرا من الفرضيات، فرأى العالم الشهير داروين أنها شماريخ
10
جبال غابت عن الأنظار، ونشأت هذه الجزر عن تجمع الحيوانات ذات الشكل النباتي، وتبدو كل واحدة منها على شكل دائرة من الجلاميد محيطة ببحيرة داخلية، وتكتسب تلك الجزائر المختلفة شكل دائرة أيضا، وتبدو في مجموعها ذات وضع عام منسجم. (4) وصف أنهار الهند الكبيرة
لا تكفي المياه التي تجري فوق الهند لإخصاب جميع أراضيها مع أنها أكثر بلاد الأرض ريا، ولا تمد مجاري الهند بالماء إمدادا متماثلا في كل سنة وفصل فضلا عن تفاوت توزيعها، فلا يلبث نهرها الذي يتسع ويعمق في الفصل الماطر أن يضمر ويصبح ضحضاحا في دور الجفاف، وإذا كانت سحب الرياح الموسمية دون العادة زاد تقلصه وقل خصب الحقول التي تستقي منه، وليس بقليل أن تغير أنهار الهند مجاريها فتنقل بذلك أسباب الرخاء والخير من مكان إلى آخر وتؤدي بذلك إلى جدب المكان الذي هجرته وإقفار مدنه وعمران المكان الذي هاجرت إليه وزخور سكانه.
والهندوس، لكي يتلافوا ما قد يطرأ على الأنهار من نقص عظيم ويتداركوا ما قد يصيبهم من خسر كبير، اتخذوا في كل زمن طرقا للري مصنوعة، فأقاموا الأسداد التي تقف المياه وتسلكها في القنوات أو في الأهوار
11
التي احتفرتها يد الإنسان، وأنشئوا الحياض الواسعة التي تسطم
12
واديا بأسره في بعض الأحيان، ونذكر مما صنعته شعوب الهند في هذا المضمار سد كاويري الذي لا يزال قائما مع أنه شيد منذ خمسة عشر قرنا، وأحواض حيدر آباد التي يبلغ وجه أكبرها أربعة آلاف هكتار، وبحيرات مهوبا الكبرى في بنديل كهند.
ولا معدل لمياه الهند عن أحد الاتجاهين: خليج البنغال الذي يتقبل معظمها، وبحر العرب، وإليك أهم أنهر الهند:
وادي الغنج
يرى الهندوس لكل نهر صفة إلهية؛ لما يحمله من البركات، وما ينشره من الخيرات في الأمكنة التي يمر منها، ولكنك لا تجد نهرا قدس مثل نهر الغنج، وإن شئت فقل الغنغا كما يسميه الأهالي، ما عبدوه كإلاهة.
وينبع نهر الغنج، كأكثر روافده، فيما وراء همالية، ثم يجاوز همالية قبل أن يوغل في السهل، ويتألف نهر الغنج من السيلين: ألكنندا وبهاكي رتي المتدفقين من كتل الجليد التي يزيد ارتفاع محالها على أربعة آلاف متر، ويعد الهندوس من الأماكن المقدسة ذينك المصدرين والجبال التي تعلوهما، ويرون فيهما الخطوة الأولى لتاج شيوا، فطوبى للهندوسي الذي يستطيع أن يتسلق درجها مهما أصابه من نصب.
والأوربيون، على الخصوص، هم أول من ارتقى ذلك المعراج فوجدوا أن بهاكي رتي يتدفق من طاقه الجليدي، فلما رأى حجيج الهندوس، الذي كانوا يقفون دون مدخل المراتج
13
حتى أوائل هذا القرن، ذلك الإقدام تشجعوا على الارتقاء إلى ما هو أعلى فهلكوا حين ذهبوا لإتمام مناسكهم عند منابع ذلك النهر المقدس.
ويدعى المكان الذي يختلط فيه السيلان: ألكنندا وبهاكي رتي ب «الملقى الإلهي»، ويقوم هنالك معبد يزوره الهندوس كثيرا، وتجذب معابد هردوار الواقعة دون ذلك، وذلك في شهر مارس وشهر أبريل من كل سنة، مئات الألوف من الحجاج فيخيم حولها هؤلاء الذين قد يبلغ عددهم مليونين أحيانا، ولا يقصدها هؤلاء جميعهم عن تقوى مع ذلك، بل تجد بينهم من يؤمونها سعيا وراء الربح والغنم.
وتنبع جمنة، التي هي من أكبر روافد نهر الغنج، من جبال همالية غير بعيدة من منبعه، وتقدس جمنة كالغنج نفسه تقريبا، وفي مجمعهما قامت الله آباد «مدينة الله».
وأنشئت مدينة بنارس الشهيرة على شكل مدرج في الضفة اليسرى من النهر غير بعيدة من الله آباد، وبنارس هذه هي المدينة المقدسة بالمعنى الصحيح، وهي مركز الهند الديني وعاصمة البرهمية.
وكان من احترام الهندوس لنهر الغنج، أو «لأمهم الغنغا»، أن ثاروا على الإنجليز حينما حفروا قناة دوآب الصالحة للري وسير السفن، فحولوا المياه المقدسة إليها، وهذه القناة التي تسير من هردوار، وتنتهي إلى كان بور هي أعظم قنوات العالم التي من نوعها؛ لما تطلبه حفرها من كسح تراب كالذي تطلبه حفر قناة السويس.
ولم يكن الإنجليز أقل خطلا من الهندوس حينما حاولوا منعهم من إلقاء جثث موتاهم في نهر الغنج، فما فتئ الهندوس يمارسون هذه العادة ما تفلتوا من مراقبة قاهريهم، ويقوم ذلك على ربط الميت برمث
14
صغير ذي مصباح، ثم تركه للأمواج المتقاذفة، فإذا ما أرخى الليل سدوله رئي من بعيد تسكع
15
تلك الأرماث السابحات على وجه المياه الأسحم.
16
وتعظم جمنة قبل أن تنضم إلى الغنج بما تتلقاه في أثناء سيرها من الروافد المهمة التي نذكر منها جمبل وسندها.
ويتجه نهر الغنج إلى الجنوب الشرقي قبل أن يجتمع بجمنة، ثم يسير إلى الشرق فإلى الجنوب، فتتلقى ضفته اليمنى نهر سون، وتتلقى ضفته اليسرى روافد كثيرة جارية من وراء همالية، كغوغرا وغنداك وبهاك متى وكوسى.
شكل 1-5: ضفاف الغنج ببنارس.
وتجاوز تلك الروافد منطقة ترائي المشئومة قبل أن توغل في السهول التي ترويها بمياهها فتهب لها خصبا لا مثيل له، ويطلق اسم ترائي على الأراضي المستنقعة الواقعة في سفوح الجبال، ولا يمكن الإنسان أن يقيم بمنطقة ترائي، ويخاطر الإنسان بنفسه إذا ما جابها.
وتبدو جبال همالية سدا شامخا عظيما فتقف سحب الرياح الموسمية الماطرة فتوجب انصباب وابلها
17
في المنحدرات الجنوبية فينجم عن ذلك رطوبة شديدة في البقعة الدنيا التي تلي تلك المنحدرات فتستر بنبات متعص وتصرى
18
فيها غدر
19
حمئة
20
فيغدو هواؤها وبيئا قاتلا، فإذا عدوت هذا الجزء الضيق المستطيل العاقر الغامر
21
وجدت وادي الغنج أكثر بلاد الدنيا ثمرا ودرا.
ويغير نهر الغنج هيئته بحسب الفصول فتطمو
22
مياهه في فصل الفيض وتطغى فتغمر ما لا حد له من الأراضي فيرتد الزراع أمامها؛ ليحرثوا الحقول البعيدة التي تستنبت بين الفصلين، ثم ليعودوا حين يعود ذلك النهر إلى مجراه تاركا لهم أطيانا خصيبة.
وتحول أضواج
23
الغنج العظيم أوضاعها بسرعة، فيصعب تعيين مجراه وملاقيه بدقة، وتتحول بعد كل فيضان شعابه الكثيرة التي ينصب بها في البحر وما تحيط به هذه الشعاب من الجزر المستغدرة،
24
وبذلك تعود المرافئ، التي ترسو فيها السفن الكبيرة، غير صالحة لإيواء زوارق الصيد، ومدينة كلكتة وحدها هي التي أنفق الإنجليز عليها كثيرا من المال، وقاموا في سبيلها بعظيم الأعمال، التي لا بد من تجديدها ؛ ليجعلوا منها ميناء صالحا لاستيعاب السفن في كل وقت.
وكانت مدينة غور رأس دلتا الغنج فيما مضى، ولم يلبث سكان هذه المدينة التي كانت عاصمة لدولة عظيمة أن هجروها عندما هجرها ذلك النهر فعادت لا تكون اليوم سوى خرائب وأطلال ذات أدغال.
25
وينقسم نهر الغنج إلى عدة شعب عندما يقترب من مصبه، وبدما التي هي من أهم هذه الشعب تسير لتتصل بجمونا التي هي برهما بوترا الحقيقية، وبهاغي رتي، التي هي أكثر تلك الشعب قدسا، جزء من بهاغي رتي التي تمر من كلكتة باسم هوغلى فتصلها بالبحر.
وليست مياه الغنج أغزر ما يصب في خليج البنغال، بل يدفق أغزر المياه في ميغهنا التي هي مصب برهما بترا، وفي ميغهنا تتعذر الملاحة، تقريبا، لشدة جري الماء، ولما تسفر عنه الأكثبة من العوائق والمراتيج
26
التي يرتفع عبابها
27
عدة أمتار، ثم ينهال فتسمع له جلجلة كقصف المدفع.
ويتجمع حول جزائر سندربن بعض الرمال التي يأتي بها نهر الغنج فتقدر بعدة مئات الألوف من الأمتار المكعبة فتزيد هذه الجزائر اتساعا.
ويظهر أن الدلتا تهبط بالتدريج بدلا من أن تتسع على حساب البحر، وأن الهوة التي تفغر فاها أمام مصاب الغنج ستبتلع هذه الدلتا.
وتتقعر هوة، كتلك، أمام مصاب أخي الغنغا: نهر السند العظيم الذي يجري إلى الشاطئ الآخر من شبه جزيرة الهند حاملا مقادير وافرة من الرمال، ولكن هذه الرمال لا تعتم أن تذهب مع الجريانات الناشئة في البحر فوق تلك الهوة.
ويبلغ طول مجرى نهر الغنج 2420 كيلو مترا.
وادي السند
يقل وادي السند عن وادي الغنج ريا وخصبا وانتظاما: وتغمر صحراء تهار التي تفصله عن بقية الهند أكثر من نصفه، ويكون معزولا عن شبه جزيرة الهند لو لم تصله بسهل الغنج أراض زراعية محاذية للمنطقة الجبلية.
تلك الأراضي هي البنجاب، أو «البلد ذو الأنهر الخمسة» الذي مر منه جميع الفاتحين، بعد أن ساروا ونهر كابل فأوغلوا في الهند، وفي البنجاب وحدها تجد المدن الكثيرة الأهل والحقول الغنية غنى الحقول التي يسقيها نهر الغنج .
ويكون وادي السند في الصيف جافا لافحا، ولا تكون مياه روافده كافية لجلب الرخاء أو لبقاء ما هو موجود، وظاهرة هذه الروافد أن تضعف كلما ابتعدت عن منطقة الجبال وأن يبطؤ جريها، ويقل فيضها كلما اقتربت من البحر، وليس بقليل أن يغور بعضها في رمال الصحراء قبل أن يبلغ اليم
28
كسرسوتي، ولا يتم ما بقي منها سيره إلا بعد أن يجتمع بعضه إلى بعض ويصب في السند.
وأسماء الأنهر الخمسة التي تنبع من جبال همالية الغربية فتشتهر البنجاب بها هي: ست لج وجناب وبياس وجهلم وراوي.
وينبع نهر السند ورافده المهم ست لج من السلسلة المركزية العظمى التي يخرج منها نهر الغنج ونهر جمنا أيضا، ولكن السند وست لج تابعان لمنحدر ما وراء همالية الجنوبي، فيطوفان بجميع سلسلة همالية فيجوفان فيها فجاجا عميقة قبل الوثوب على السهل، ومما يحدث أن يقف سيرهما انقضاض الجلاميد فتتجمع مياههما على سمط كبيرة إلى أن تتغلب على الجلاميد فتدفق من فوقها بشدة فتغمر ما تحتها، وتقضي على مدن بأسرها في بعض الأحيان.
ويجري نهر السند من الشرق إلى الغرب مسافة غير قصيرة فيتغشى ننغابربت، ثم يخرج من المنطقة الجبلية بالقرب من هري بور متوجها إلى الجنوب، ثم يتلقى عن اليمين الرافد كابل المهم الذي هو باب للتجارة والمغازي.
ويقوم الحصنان أتك وبيشاور على السند ورافده كابل لحراسة الإمبراطورية الإنجليزية الهندية، ويقطع السند خط حديدي ممتد إلى الحدود.
وسهل وادي السند مستو، فليس فيه من الانحدار ما تتوجه به الأنهار التي ترويه، فتتسكع هذه الأنهار مبدلة مجاريها أمام أي عائق، وتعدل الأنهر الجافة، التي تحول الأراضي الواسعة إلى صحار بعد خصب، الأنهر الجارية كثرة، وتبصر عدة قنوات فارغة لا تلبث أن تمتلئ بسرعة وقت الفيضان فتصل بين روافد نهر السند، وتؤلف بينها شبكة معقدة متقلبة على الدوام.
وليست مصاب نهر السند أقل تقلبا مما تقدم، فهي تنسد بما تحمله من الرمال الكثيرة فتحدث منافذ أخرى، فيؤدي ذلك إلى تعذر الملاحة فيه تقريبا، كما يؤدي إلى استحالة ازدهار أي ميناء في مخارجه، وأما روافده فتكون تارة مجاري واسعة صالحة لسير السفن الكبيرة، وتكون تارة مجاري مبسوطة فيستطيع السياح أن يعبروها خوضا.
وينحرف نهر السند بالتدريج نحو الغرب فضلا عن تقلب أضواجه،
29
ويفترض أن مياهه كانت توزع توزيعا متساويا، وأنه كان يتلقى روافد أكثر مما يتلقى الآن، وأن الصحراء كانت أضيق مما هي عليه اليوم، ودليلنا على ذلك تسمية كتب الهندوس القديمة لتلك المنطقة ببلاد «الأنهر السبعة» لا بلاد «الأنهر الخمسة» كما تسمى في الوقت الحاضر، ومما جاء في تلك الكتب القديمة وصف لأنهر بأنها مجار واسعة مع أنها غير موجودة في زماننا، ومما نصت عليه تلك الكتب أن سرسوتي كان نهرا جليلا متدفقا إلى أن يصب في نهر السند غضبان أسفا على فرار الإلهة، مع أنه يمحي اليوم في رمال الصحراء، وإلى مثل هذا المصير ينتهي كثير من المجاري، وإن لم تغر تماما ما ادخلت في مسيل واقع تحت الأرض، وما ثبت ذلك من الآبار التي تحفر في اتجاهها بعيدة بعض البعد من المكان الذي توارت فيه.
ونهر السند أطول أنهار الهند، ويبلغ طول مجراه 2900 كيلو متر.
وادى نربدا ووادى تابتي
نربدا وتابتي نهران يفصلان هما والجبال التي يمران بينها المنطقتين الكبيرتين: الهندوستان والدكن، وطول مجرى نربدا 1280 كيلو مترا، وطول مجرى تابتي 700 كيلو متر.
وينبع نهر نربدا في جبال أمر كنتك التي هي عقدة جبال الهند الوسطى، ويجري من الشرق إلى الغرب بسرعة نحو البحر، وذلك في مجرى ضيق عميق واقع بين سلسلة جبال سات بورا وسلسلة جبال وندهيا، ولا يصلح للملاحة؛ لما فيه من الشلالات الكثيرة، ويبدو ذا مناظر ساحرة عند مضيق «صخور الرخام الأبيض» غير البعيد من منبعه فتجري المياه منه صافية هنالك فيكتسب معها صباح مساء ألوانا عجيبة بفعل أشعة الشمس.
ويقدس الهندوس نهر نربدا بعد نهر الغنج، ويأتون إليه من الأماكن البعيدة؛ ليغتسلوا في مياهه، وليأخذوا من ضفافه حصيا يتخذونها تمائم وتعاويذ غالية قادرة، وكان من تزاحم الحجيج على ضفافه في كل زمن أن فتح الدكن للمؤثرات الأجنبية بما لا يتم بقوة السلاح.
ويصب نهر نربدا في خليج كمبي غير بعيد من مصب نهر تابتي الأقل أهمية والأكثر فيضا، وتقوم مدينة سورت على مصب نهر تابتي، فتدفع عنها المياه بالأسداد المحكمة.
وتقع ثلاثة أنهر صغيرة في شمال نهر نربدا؛ فتجري من الجبال المحيطة بسهل كجرات فتصب في خليج كمبي، وأهم هذه الأنهر الثلاثة نهر ماهي الذي يبلغ مجراه 530 كيلو مترا، ونهر سابرمتي الذي يمر من مدينة الله آباد الشهيرة فلا يزيد طول مجراه على 300 كيلو متر.
أودية الدكن
لا يصب نهر مهم بين مصب نهر تابتي، ورأس كماري من شواطئ بحر العرب، فقد بلغت جبال كهات الغربية من القرب إلى الساحل، ما لا تكون به المياه المنحدرة منها غير جداول؛ فتتحول هذه الجداول إلى سيول بفعل رياح الجنوب الغربي الموسمية.
ويتكون من ثغرة بال كهات ممر لنهر بوناني الصغير الذي ينبع في شرق الجبال، ويختلط هنالك منحدرا الدكن الكبيران، وينبع بعض روافد كاويري من غرب جبال كهات.
والساحل الذي يقع في جنوب بوناني ذو غدران كثيرة محاذية لشاطئ البحر متصل بعضها ببعض، ويتألف من هذه الغدران قناة صالحة للملاحة، ويفضل ربابنة السفن السير في مياهها الهادئة على السير في البحر المحيط، وتكاد تجارة كوجين وترانكور تتم بها.
أودية الدكن الشرقي
لا أنهار كبيرة في الدكن غير التي تجري شرقا إلى خليج البنغال، ومن هذه الأنهار نهر سبماريكا الذي يرى بعد مصب نهر الغنج، والذي ينحدر من عاليات جوتا ناغبور فيصب في البحر بعد أن يسير 500 كيلو متر.
ونهر مهاندي البالغ طوله 830 كيلو مترا هو أهم الأنهر بعد ذلك، فإذا ما اجتمع هذا النهر بنهر بيترني البالغ طوله 550 كيلو مترا وبرهمني البالغ طوله 650 كيلو مترا تألفت بلا انقطاع في ساحل أوريسة دلتا واسعة تمتد تحت البحر إلى مسافة بعيدة مع زيادة غرينها.
ويتفتت تراب الدكن البركاني بفعل الأمطار ومياه الفيضان، وتحمل الأنهار الرمال والنثار؛ لتودع الساحل إياها فتزيدها تلك الدلتا سمكا.
وتجمعت بالقرب من مصب مهاندي لفافة رمال فاشتملت على بحيرة شلكا التي تصلها قناة بالبحر.
والجفاف أظهر ما يصاب به ساحل أوريسة الذي تجوبه شعاب مهاندي الكثيرة، فكان ما تراه من بؤس سكانه وتوحشهم، فإذا تفلت ساحل أوريسة من هذا الجفاف، أحيانا، فلكي يخربه الفيضان، وساحل أوريسة هذا بلغ من الانخفاض والاستواء ما يغمره به البحر في الغالب فينشأ عنه ما لا يتصوره إنسان من التلف والضرر، وساحل أوريسة هذا أصيب في سنة 1866 بإعصار فخرب قراه وأهلك 1200000 شخص من سكانه، وذلك بعد قحط نجم عن الجفاف فأمات ربعهم.
والجفاف آفة الدكن، والهنود، لكي يدفعوه، يقيمون الأسداد وينشئون الحياض الصالحة لوقف طفاح أمطار الرياح الموسمية المؤدية إلى ضخم الأنهر في بعض أوقات السنة، وذلك كالحواجز التي صنعت في مصاب مهاندي وغوداوري وكرشنا لتحول المياه، عند الفيضان، إلى قنوات الري أو إلى البرك المصنوعة، ويقدس الهندوس تلك الأنهر ويقيمون الشعائر على ضفاف كل واحد منها.
ويقع نهر غوداوري، الذي هو أعظم أنهر الدكن والذي يبلغ طوله 1440 كيلو مترا، تحت نهر مهاندي ثم يليه نهر كرشنا الذي يبلغ طوله 1300 كيلو متر، ثم نهر بنار الذي يبلغ طوله 570 كيلو مترا، ثم نهر كاويري الذي يبلغ طوله 755 كيلو مترا.
شكل 1-6: مضيق صخور الرخام على ضفاف نربدا بالقرب من جبل بور.
ويجري نهر كرشنا في مجرى ضيق فلا يصلح للملاحة، ويفقد مياهه بما يرويه من ضفافه، ولكن أهميته تبدو ما قطع شبه جزيرة الهند من الشرق إلى الغرب، وما فصل منطقتين وفرق بين حضارتين، فليذهب إلى المنطقة الجنوبية منه من يرغب في درس طبائع الشعب الدراويدي ولغته؛ ليبصر أنها أقل فسادا بالعناصر الغريبة مما في أي مكان آخر.
وبلغ كثير من الفاتحين نهر كرشنا مجاوزين جبال وندهيا وجبال نربدا وجبال سات بورا وتوابعها الممتدة إلى مصب نهر الغنج، ولم يعبر الفاتحون كرشنا أو لم يستطيعوا أن يعبروه بكثرة فيختلطوا بالمغلوبين اختلاطا تختلف به سحنات الشعوب الدراويدية القديمة.
وأول ما علمه الغرب عن تلك المنطقة المنقطعة هو ما أتى به التجار الذين قصدوا سواحلها فملئوا الأخيلة بالأقاصيص العجيبة عنها، ولا غرو، فتلك هي بلاد الهند الحقيقية، تلك هي البلاد التي تجمع الشمس حرارة أشعتها في أبازيرها وتوابلها وتجمع أنوارها الوهاجة في حجارتها الكريمة.
شواطئ الهند ومرافئها
ظل الوصول إلى جنوب الهند مقصورا على البحر زمنا طويلا مع صعوبة ذلك، وليس في شواطئ شبه جزيرة الهند الممتدة من مصاب نهر السند إلى مصاب نهر الغنج مكان يسهل بلوغه بحرا أو بقعة صالحة لإنشاء ميناء عليها، ولا نذكر مرافئ بمبي ومدراس وكلكتة البحرية العظيمة ما قامت هذه المرافئ بعزم الإنسان وعمله.
ومع اشتقاق كلمة بمبي من كلمة «الفرضة الصالحة
Bonne Baie »، كما قيل، فإن نزول السياح والسلع إليها لا يتم بغير صعوبة، فإذا كانت هذه الفرضة رائعة فإنها عاطلة من أرصفة، ولا تعد مدراس ملجأ للسفن، فترسو هذه السفن في عرض البحر، وترسل ما فيها من العروض والأمتعة والركاب إلى البر في قوارب أو أطواف
30
لا تسير في اللجج من غير خطر، واليوم تشتمل مدراس على رصيف يبلغ 335 مترا مع خرابه غير مرة فيما مضى، ويفكر القوم في حفر خليج لها، ولم يسهل الاقتراب من كلكتة في أي زمن، وتقوم سلامة مينائها المفتوح وسلامة فرع الغنج الغربي هوغلي الصالح للملاحة على متصل الأعمال.
وإذا عدوت ساحل ملبار الذي يشتمل على بضعة مرافئ صغيرة صالحة لإيواء المراكب وجدت جميع شواطئ الهند خطرة، ولم تر مكانا مناسبا في خليج البنغال، وكلنغابتم، الواقعة بين دلتا مهاندي ودلتا غودافري، وحدها هي الملائمة لبعض الرسو على مسافة ستمائة كيلو متر. (5) الأجواء
بلاد الهند من أشد بلاد الدنيا حرا، واختلاف بلاد الهند في الارتفاع يجعل لكل منها جوا خاصا، فيستطيع السائح أن يقطع فيها درجات متباينة من الحرارة في بضعة أيام.
ومثل هذه الانتقالات يلاحظ في جبال همالية على الخصوص، فبينما يتوج الثلج والجليد ذرى تلك الجبال الرائعة تتمتع منحدراتها بجو معتدل كجو فرنسا وإيطاليا، وتكاد سفوحها تلفح بحرارة دائرة الانقلاب الصيفي.
والحد الذي تثبت الثلوج فوقه من جبال همالية عال، ويترجح ارتفاعه بين 4000 و5000 متر، ولا يسقط الثلج تحت هذا الارتفاع إلا قليلا، وإذا ما سقط ذاب سريعا، وفي القسم الغربي من جبال همالية يمسك واسع الهضاب كتل الجليد، وفي ذلك القسم الغربي يكون لديها من الوقت ما تكون فيه، على حين تنهال كوم الثلج في منحدرات جبال همالية الشرقية الواقفة.
ولا تجد لحقول الجليد التي تشاهد في همالية الغربية وفي كاراكورم مثيلا في غير البقاع القطبية، وتترجح تلك الحقول بين 25 و30 و50 كيلو مترا طولا، وهي مشهورة بما تقده من النثار في أثناء انهيالها، ومما يحدث أحيانا أن يتجمع التراب بين الجلاميد فينبت فيه العشب فيحجب كتل الجليد الكئيبة غطاء أخضر.
وتمتد في جبال همالية الأمامية بقاع يترجح ارتفاعها بين 1000 و3000 متر، فيذكرنا جوها وإنتاجها بأفضل بقاع أوروبا، فإليها يجيء الإنجليز في كل سنة باحثين عن ملاجئ فرارا من قيظ الصيف ببلاد الهند، فيستردون فيها قوتهم التي أوهنها حر السهل، ففيها أقاموا «مدن الصحة» التي تعد سملا ومسوري ودارجي لنغ أهمها.
وإلى سملا ينتقل أكابر الموظفين في بدء فصل الحر، فتصبح مقر الحكومة لبضعة أشهر، فيعتقد المرء أنه أضحى بإنجلترا عند تأملها وتأمل ما فيها من غاب البلوط والزين والأشجار المثمرة المألوفة في الغرب.
وفي الهند نواح كثيرة لها ما لتلك المنطقة من الروعة، وأهمها جبال نل غيري التي تبدو في الجنوب ممتدة من جبال كهات الغربية، ففي تلك الجبال أنشئت، أيضا، مدن للصحة، وتعد أوتاكمند أعظمها شأنا، ولتلك المدن جو أكثر اعتدالا من جو منحدرات همالية ما اتفق لها ربيع دائم وثمرات الصيف، وما غردت الطيور الأوربية والصيقان الشقر والعنادل والبلابل في أدغالها، وإليها جلب الإنجليز عصافير دورية ففرخت وكثرت حول بيوتها.
وإذا استثنيت تلك المناطق وجدت حر بلاد الهند يترجح بين درجة الصفر والدرجة 52 بمقياس سنتغراد.
وظاهرة مقاطعة البنجاب أن تجمع أقصى درجة البرد وأقصى درجة القيظ في الهند، وأن تنقلب الأجواء فيها أكثر مما في غيرها.
وكلما سار الإنسان إلى جنوب الهند بدا له تناقص الفروق بين الصيف والشتاء، فإذا بلغ أقصى الهند رأى استواء الجو في مختلف الفصول.
أجل، إنه يجد هنالك ارتفاعا في الحرارة بسبب درجة العرض، ولكن نسام
31
البحر تلطفها، وهي تترجح بين 26 و28 درجة بمقياس سنتغراد في جميع أيام السنة.
ويميز في الهند ثلاثة فصول وهي: فصل المطر ويدوم من مايو إلى أكتوبر، وفصل البرد ويدوم من نوفمبر إلى آخر فبراير، وفصل الحر ويدوم من أول مارس إلى أول يونية، ويختلف زمن كل فصل بين منطقة وأخرى اختلافا جزئيا، وأصلح فصول الهند على العموم هو الذي يستطيع الأوروبيون أن يسيحوا أو يستقروا فيه من غير سوء، أي الذي يبدأ في أكتوبر وينتهي في أبريل.
ويصبح الحر مضنيا في الشهرين أبريل ومايو، فيقاسي الأهلون في أثنائهما كبير عناء، فيبلغ الحر في وادي السند وفي سواحل الدكن شدة لا تجد مثلها في بقعة من الدنيا، فيغيض الحر مياه الأنهر ويذوي النبات، فتشخص الأبصار إلى السماء الصافية فيحجب هذه السماء في نهاية الأمر، كبقية الطبيعة، ضباب من الغبار الدقيق الخانق فتبدو الشمس من خلالها قرصا نحسا عاطلا من الشعاع.
هنالك ينفد صبر الناس، فينتظرون الفرج فيرتقبون ما في أفق الجنوب من الرياح الموسمية الماطرة التي تجيء صائلة هائلة للخير حاملة.
الرياح الموسمية
لا تجد حادثة، كالرياح الموسمية، متجبرة في ظاهرها نافعة في نتائجها.
يرى الإنسان سحبا كثيفة تتلبد في السماء في يوم أو يومين، ثم تهتز وتقبل وئيدة
32
غاشية نصف الأفق بغطاء مأتمي على حين يضيء نصف الأفق الآخر بيوت القرى البيض وضفاف الأنهر، ثم لم يلبث الجميع أن يعتم، فهنالك ترتعج
33
البروق وتقصف الرعود وتنزل الصواعق بما يمزق القلب ويخلع الفؤاد، ثم تتشقق الأضوار
34
الطاخية
35
كالظروف والقرب المملوءة فينهمر طوفانها على الأرض، ويملأ مجاري الأنهار الجافة، ويحولها إلى سيول، فتجرع الأراضي المتلظية من مياهه المباركة فتبدو للناظر حياة جديدة آتية من السماء؛ لتسري في عروق العالم فيعود إلى شبابه.
ولم تعتم تلك الزوبعة الأولى أن تهدأ فتنقشع تلك الغيوم المكفهرة عن سماء ضاحكة وعن نبات رطيب نضير يخرج فورا فيعود إلى الأحياء نشاطهم، ويتحول كل شيء في بضعة أيام، ولكن رياح الجنوب الغربي الموسمية لا تنفك تجيء من فوق البحر في خمسة أشهر أو ستة أشهر حاملة الرطوبة والندى خافقة ماطرة بين حين وحين.
ذلك هو فصل المطر، وذلك ما يحدث في السواحل الجنوبية الغربية، ولا يحدث مثله في بقاع الهند الأخرى من كل وجه ومن حيث الزمن والأحوال، وإليك ما قيل في مصدر ذلك الحادث وسيره من النظريات الجديدة:
يهب ببلاد الهند ريحان مختلفتان مقتسمتان لأيام السنة، تخفق إحداهما من الشمال الشرقي فتدوم من نوفمبر إلى مايو، وتخفق الأخرى من الجنوب الغربي فتدوم في الأشهر الستة الأخرى، فأما الريح الأولى فتأتي من آسيا الوسطى غير مارة بغير البرور فلا تحمل قابة،
36
فتدعى بالريح الموسمية الجافة، فتختلط بالرياح التي تهب بين دائرتي الانقلاب من الشرق إلى الغرب، فلا تكون حادثة ذات طابع خاص، وأما الريح الثانية فتجوب البحر الهندي فتحمل أبخرة يسفر تكاثفها عن وابل هاطل، فتدعى بالريح الموسمية الماطرة، فهي وليدة تفاوت توزيع البرور والبحار وقيظ الصيف في أشهره الثلاثة.
تمتد طبقات هواء الهند في آخر الفصل الحار وتنبسط شيئا فشيئا بفعل ارتفاع الحرارة فتتصاعد في الجو فتتحول الهند إلى أتون مستغيث فتهتز حينئذ السحب التي تغشى البحر الهندي وتسير لتملأ ذلك الفراغ الحادث، وتدوم على هذه الحال إلى أن يعود التوازن الذي اختل في الجو، وإذا أصبحت سحب رياح الجنوب الغربي الموسمية فوق شواطئ الهند وقفتها جبال كهات وحملتها على الانصباب في جانبها الغربي، فيؤدي هذا الوابل الهاطل إلى تصدع تلك الجبال وتقطيعها بروجا ومسلات، واكتسابها منظرا ساحرا عجيبا خاصا بها.
وإذا استطاعت تلك السحب أن تنفذ سلسلة كهات كان ذلك وهي أقل قطرا فصبت في جانب هذه السلسلة الشرقي وفي هضاب الدكن مياها دون تلك مرتين أو ثلاث مرات، وهي إذ تعجز عن قطع جبال كهات الشرقية تجري إلى الشمال الشرقي غير حاملة قطرة إلى شاطئ كورومندل.
والرياح الموسمية الشمالية الشرقية هي التي تروي ، بما لا يكفي، منطقة كورومندل بعد أن تحمل بعض السحب من خليج البنغال.
والجفاف بلية منطقة كورومندل في الحقيقة، وليس في الهند مكان يحتاج إلى الحياض المصنوعة كهذه المنطقة، فأنشئ فيها من الحياض الكثيرة ما تبلغ مساحته أحيانا مساحة الأراضي الزراعية التي يرويها.
وحينما تكون الرياح الموسمية الجنوبية الشرقية فوق البنغال تقطع البحر ثانية فتنحرف بفعل جبال بن ماني وآسام فتهب عمودية على شواطئ سندربن كأنها آتية من الجنوب توا، وهي إذ تكون حاملة سحبا كثيفة في هذه المرة تغور
37
في وادي برهما بوترا العليا، فهنالك، حيث جبال آسام وطرف سلسلة همالية الشرقي، تنزل من الأمطار الهائلة ما لا مثيل له في الدنيا، فقدر ارتفاع ما سقط منه في سنة 1861 على جيرابونجي، الذي هو من شوامخ كهاسي، بعشرين مترا، فنجم عن ذلك أن تصدعت شعاف تلك المنطقة كما في جبال كهات.
وتغير الرياح الموسمية بعد ذلك تغييرا تاما، فهي إذ تعجز عن مجاوزة جبال همالية تجري محاذية لهذه الجبال متوجهة إلى الشمال الغربي فتنشر الرطوبة في طريقها، ثم تصل إلى البنجاب الذي ينتظرها ليسح
38
فيه وقرها.
39
ولا يكفهر جو البنجاب إلا في أواخر يونية، وتجوب الرياح الموسمية تلك السبل بصولة متناقصة في عدة شهور، وينال وادي السند وساحل أوريسة أسوأ حصة من مياهها، فإذا ما ساء الحظ فقل مقدار ما يأخذانه من الماء عادة، مع عدم كفايته، أسفر ذلك عن مجاعة أشد من الغزو والوباء، فهلك مئات الألوف من الناس، فليس من العبث، إذن، أن عبد الهندوس الأنهار والآلهة التي توزع على الأرض مياه الخير والبركة، جاء في المهابهارتا: «يأتينا المطر من الآلهة فيهب لنا النبات الذي هو قوام نعمة الإنسان.»
ويرى الإنسان في الدكن الجنوبي المناظر المختلفة التي هي وليدة الري المتفاوت، فالمطر ينزل عليه، بالحقيقة، نزولا غير متساو بسبب الموانع الجبلية وما إليها، فهنا يهطل مدرارا فيخرج نبات بري جامح فتقوم غابة استوائية، وهناك تجد حقولا حقيرة تنبت فيها الخيازر
40
نباتا متفرقا، وهنالك ، حيث التراب البركاني، تبصر الجدب والجفاف.
أجل، إن المجاعات التي تنشأ عن تفاوت نزول الأمطار هي أشد ما تبتلى به بلاد الهند، ولكنها ليست كل ما تصاب به، فلتضف إليها الأعاصير والهيضة
41
والحميات.
ترتفع الأعاصير فتخرب كل شيء يعترض لها، وتثير أمواج البحر أحيانا فتقذفها إلى مسافات بعيدة، ومنشأ الأعاصير هو ما بين ركام الجو من تفاوت، وفي أواخر فصل الحر، على الخصوص، تهب الأعاصير فوق شواطئ كورومندل وسكهر وأوريسة، وما تحدثه الأعاصير من الضرر يذهب بلب الرشيد، ومن ذلك أن غرقت في سنة 1789 منطقة مدابولم القريبة من مصاب غوداوري فهلك ألوف من الناس، فحملت السفينة ليفيفرية مسافة فرسخ في البر، ومن ذلك أن دمرت في سنة 1864 مدينة مجهلي بتم المتوسطة الأهمية الواقعة على ذلك الساحل، ومن ذلك الخراب الذي تعرض له جزر سندربن الرملية التي يتألف منها مصاب نهر الغنج فيتعذر دفعه.
وفي غدران جزر سندربن تلك وبين أبخرتها المنبعثة من التراب الرطيب، وفي غياضها المتعصية الوبيئة بؤرة الهيضة الآسيوية الدائمة مع تقطع تفشيها في بقية بلاد الهند، وفي منطقة ترائي ذات المستنقعات الواقعة في سفوح جبال همالية مصدر حميات الآجام التي لا تقل فتكا عن الهيضة، فليقم بتلك المنطقة أو ليوغل فيها من يرغب في الموت، فالموت، وإن لم يلاقه فيها على الدوام، ينشب أظفاره فيه إذا ما غفل عنه فيندر أن يتفلت منه.
ولا يقال، مع ذلك، إن بلاد الهند الرائعة، التي لا ينضب لها معين، وبيئة في مجموعها، فيمكن الأوربيين أن يستقروا بها من غير أن يخاطروا بأنفسهم ما سلكوا سبيل الرشاد فبدلوا منازلهم فيها، وغيروا ما هم فيه من هوائها وأجوائها بحسب الفصول، وهذا لا يكون لزمن طويل مع ذلك، فقد هدتهم التجارب إلى استحالة اختيارهم لها وطنا ثابتا فتراهم يرسلون أولادهم إلى إنجلترا لينشئوا فيها، ما تألف ممن يبقى منهم في الهند عرق منحط سخيف ضعيف محكوم عليه بالأفول قريبا، وما أحسن قول بعضهم: «يتصف جيل البيض الأول في بلاد الهند بالضعف والسخف، ويتصف جيلهم الثاني فيها بالعجز والكسح ، ولا تسمع عن جيلهم الثالث فيها خبرا.»
والهند إذا أريد وصفها وصفا أساسيا قيل إنها بلاد حارة يقل فيها الاحتياج إلى المساكن والملابس والمآكل، وتكثر فيها الأراضي الخصيبة التي تخرج، بغير عمل، ما يضطر إليه الأهلون من المحاصيل القليلة، ففي أحوال كتلك لا يتطلب الصراع من أجل الحياة كبير جهود، فلا ينمو فيها خلق المبادرة والنشاط والحزم، فكأنه كتب على العروق الخاضعة لمثل تلك الأحوال أن تكون مستعبدة، فهي تظل فريسة للفاتحين، مستعدة للعمل بأوامر الغالبين.
هوامش
الفصل الثاني
وصف مناطق الهند العام
لمناطق الهند حدود طبيعية على العموم، كأن يفصل نهر أو سلسلة جبال بين منطقتين منها مختلفتين عرقا وحكومة وحضارة، والضرورات السياسية تؤدي، في الغالب، إلى تذليل تلك الحواجز وتبديل غيرها بها، ولم ينجم عن الفتح أو الحلف، مع ذلك، تقريب مستمر لنصفي شبه جزيرة الهند؛ «الهندوستان والدكن» اللذين تفصل بينهما جبال وندهيا ما بقيت هذه الجبال حجابا حاجزا، فكان ما تراه من اختلافهما في الأجواء والحاصلات والشعوب والطبائع والعادات.
وأهل الشمال الذين تعودوا الانتقال بين القيظ والقر أعظم بنية وأكثر نشاطا وأشد بأسا من أهل الجنوب، والمراتها الذين يسكنون المناطق الجنوبية يقاسون وحدهم بأولئك، وسكان الدكن الذين يقطنون بقطر شديد الحرارة غير متقلب فلا ينمون جسما وأخلاقا يبدون قصارا أخلياء كسالى، وتختلف جلودهم عن جلود أهل الشمال لونا، ويتدرج لون البشر من الجنوب إلى الشمال على العموم فتراه أسود في الجنوب، نحاسيا فأبيض في الشمال كما عند الراجبوت.
وسنبدأ بالشمال فنصف سحنات سكان كل منطقة وخواصها ومحصولاتها المحلية وصفا إجماليا. (1) همالية الشرقية «نيبال وسكم وبهوتان»
تشتمل همالية الشرقية على دولتين مستقلتين على الرغم من الإنجليز، وهما: نيبال وبهوتان.
شكل 2-1: منظر في بتن «نيبال»، «التقط المؤلف هذا المنظر من طرف الشارع المهم ببتن، وتجد تصويرا للمعبد الكبير، الذي تحجب الفيلة قاعدته، في هذه الصورة، وتصويرا لمختلف مباني هذه المدينة في مكان آخر من هذا السفر.»
ونيبال هي واد طويل واقع بين سلسلتي الجبال المتوازيتين: همالية وما تحت همالية .
وليست سلسلة ما تحت همالية هي الحاجز الوحيد الذي يفصل نيبال من الهند، فإليها نضيف منطقة ترائي المرهوبة التي تحاذيها جنوبا فينشأ عن أوبئتها القاتلة حد طبيعي ثان.
ولنيبال المنعزلة على ذلك الوجه طابع خاص، وبلغ أهل نيبال من الغيرة على استقلالهم ما رضوا به وجود سفير إنجليزي لدى بلاطهم بعد حربين طاحنتين، على أن يكون هذا السفير الأوربي الوحيد الذي يسمح له بدخول نيبال، ولم يؤذن لي في زيارة هذا الصقع العجيب، الذي لم يسطع الرحالة جاكمون أن يدخله مع ما أتاه من جهود عظيمة، إلا بعد مفاوضات رسمية طويلة، فكنت أول فرنسي طاف فيه.
1
ويبدو في نيبال جلال جبال همالية ووحشتها، وتناطح شعافها السماء، فيهيمن على وادي نيبال الطويلة جبل ديول غيري من الغرب وجبل كنجنجنكها أو «جبل الكتل الجليدية اللامعة الخمس» من الشرق، وجبل غوري شنكر أو «ملك الجبال» في الوسط، فتكتسب نيبال بذلك مناظر رائعة لا ترى مثلها في منطقة أخرى، وتشاهد من السهل ذرى تلك الجبال المنيعة ذوات الثلوج، فإذا خاطر المرء بنفسه فتسلق مساربها ارتعد من التباين بين الهوى السود النافذة في بطن الأرض وجدر الصوان الشاهقة وفقر الثلج التي تتدرج إلى السماوات.
وأشهر الشعاب ذوات المهالك التي تصل الهند بالتبت هو شعب نيالو الذي يؤدي إلى بحيرة مانسروور الواقعة في أسفل جبل كيلاس، ففي مجاهل هذا الجبل تكمن، كما يعتقد الهندوس، حيوانات خفية قاذفة من أفواهها المزبدة أنهر الهند الأربعة: سانغ بو «مجرى برهما بوترا الأعلى على ما يحتمل» والسند وست لج والغنغا.
وروافد نهر الغنج الآتية من نهر نيبال كثيرة، وتقطع هذه الروافد حدود نيبال الطبيعية قطعا عموديا، وينبع بعضها من سفح همالية الشمالي فيجوب نيبال، ولا تصلح للملاحة ما صدعت الجبال فجرت بسرعة من نيبال نفسها فأضحت بذلك غير نافعة لسوى نقل الحطب وأعمال الري.
وتقسم تلك الأنهر منطقة نيبال إلى عدة أصقاع يختلف سكان بعضها عن سكان بعض، ويؤدي تفاوت ارتفاع هذه الأصقاع إلى اختلاف سكانها أيضا.
ويتجلى أثر التبت في قسم نيبال الجبلي على الخصوص، وتغير هذا الأثر، مع ذلك، تغيرا محسوسا بما تم من الاختلاط بالعناصر الآرية التي نتكلم عنها في فصل العروق، فنيبال هي منطقة الانتقال بين الهند ومملكة ابن السماء عروقا وعمارة وطبائع وعادات.
وتقع بين نيبال وبهوتان دولة سكم الصغيرة التي يملكها أحد الراجوات، ولا تعدو عاصمته تملنغ قرية، ولا يزيد سكان هذه الدولة على ستين ألفا، وهي ذات طابع تبتي خالص.
وسكم جبلية رطيبة جدا، وتصعب الإقامة بها في أكثر أيام السنة، ومن دولة سكم القديمة سلخ الإنجليز أخصب بقعة، فجعلوا منها مديرية، وجعلوا من مقرها دارجي لنغ مصحا ومصيفا مهما في فصل القيظ، فعد ندا لسملا الواقعة في همالية الغربية، وإن كان دونها لرطوبة جوه، وتبدو مدينة دارجي لنغ سوقا عظيمة يقصدها الهندوس وأهل التبت للمقابضة والمعاوضة.
وتشابه منطقة بهوتان منطقة سكم الفاصلة لها عن نيبال، وتقع على منحدرات الجنوب من منطقة همالية الشرقية، وتقسم إلى ثلاث مناطق زراعية: المنطقة السهلية التي ينبت فيها نبات البلاد الحارة، ومنطقة المنحدرات التي ينبت فيها نبات البلاد المعتدلة، ومنطقة غابات الصنوبر المرتفعة الجليدية، وتروي الرياح الموسمية سفوحها الجنوبية إرواء تاما، ولا يقطن بها غير الجبليين، وتقوم مدينتاها المهمتان على أماكن مرتفعة، وتحاذيها منطقة ترائي. (2) البنغال
يلي سهل البنغال الواسع شواهق سكم وبهوتان من الجنوب، ويرى الناظر إلى هذا السهل من جبال همالية بساطا أخضر من النبات الريان
2
الزاخر حيث تجري أنهار رائعة وروافد وجداول متشبكة، ويرى في أثناء الفيضان من الماء ما يعدل اليبس، ويرى في أثناء الطوفان الذي تسفر عنه الرياح الموسمية الجنوبية رطوبة شديدة.
ومن ينعم النظر في البنغال يقطع بأنها تابعة للبحر أكثر من اتباعها لليابسة، ما كانت مجاري المياه التي على سطحها لا تزيد عن البحيرات والأنهار الواقعة تحتها، وليس بقليل أن يجد فلاحها الذي يقلب الأرض بمعزقه
3
سماطا سائلا على عمق قدم أو قدمين.
وما هو آهل معمور من البنغال يتنازعه الماء الغامر وشعاع الشمس الحار ، ولولا هذا الشعاع ما سلمت في البنغال أرض من الغرق، وينجم عن تناوب الحر والبلل للبنغال قوة إنبات لا تنعت، وأبخرة وخيمة لا تحد، وجوائح
4
لا يحصيها عد، فمن البنغال تثب الهيضة
5
على العالم، وعلى البنغال تسيطر الهيضة والحمى في كل زمن.
والبنغال، مع ما فيها من الآفات والضواري وأنمر الآجام وتماسيح الأنهار، تعد من أكثر البلدان سكانا وأصلحها أطيانا؛ فأراضيها تؤتي أكلها مرتين أو ثلاث مرات في السنة من غير عناء كبير، وهي، لأنها ذات شواطئ، تجد إلى البحر من المنافذ ما تصدر منه حاصلاتها، ويغشى الأرز سهولها الرطبة المطمئنة، ويغشى الشعير والبر
6
والدخن،
7
إلخ، حقولها المرتفعة، وينبت فيها القطن وقصب السكر والتبغ والقنب والخشخاش
8
والعظلم
9
وما إلى ذلك من النبات الغذائي الصناعي بسهولة عجيبة.
وتقوم مدن كثيرة عامرة زاهرة على ضفاف الأنهر التي تشق البنغال، ويظل زهو هذه المدن ما ظلت على هذه الضفاف، فإذا حول النهر مجراه خربت كما حدث لمدينة غور، وأهم مدن البنغال مدينة كلكتة التي هي عاصمة الإمبراطورية الإنجليزية الهندية، والتي هي من أعظم مرافئ شبه جزيرة الهند.
وأهل البنغال مزيج أناسي مختلفين، والمثال الهندوسي في هذا القطر كريه خلقا وخلقا، ويراه الأوروبيون خلاصة جميع العروق التي تسكن شبه جزيرة الهند، ويرجع ذلك إلى أن أكثر سياح الغرب لم يبصروا غيره، ويتصف البنغالي بالقصر والهزال والاسمرار والتكرش، ويهضم البنغالي ما يلقنه، ويبدو البنغالي من الناحية الخلقية خنثا جبانا نذلا مرائيا. (3) أودهة
تقع ولاية أودهة، التي هي من أرغد بقاع الأرض، في شمال البنغال الغربي، بين وادي الغنج وجبال همالية، وتتمتع بجو أطيب من جو البنغال، ويختلف سكانها عن سكان البنغال اختلافا كثيرا، ويقرب عرقهم الجميل البهي القوي من العروق الأوربية قربا كبيرا، ويتصف بالطول وانتظام الوجه وانسجام اللون، ولا إفراط في رطوبة أودهة، وتكفي لإنبات أراضيها نباتا عجيبا، ولا مراء في قيظ صيفها، ولكن قر شتائها يطري الجو فيتقوى أهلوها ويتجدد نشاطهم.
وفي أودهة غابات ساترة لما يلي الجبال من الأراضي غنية بالقنائص، كثة بالأشجار الصالحة لاستخراج العطور الفاخرة ، وفي أودهة سهول هابطة بالتدريج إلى نهر الغنج ذات غلات سنوية تورث وفرتها العجب، وليس بضائر أن يشتمل ترائي على قطعة مهمة من أودهة ما تغلب الإنسان بقوة إرادته ومضاء عزيمته على الطبيعة فاستطاع أن يحيي أجزاء كثيرة من تلك القطعة الخطرة، ويجعلها طيبة صحية.
وفي أساطير الهندوس ذكر لجمال أودهة وخصبها، وفي قصائد الشعراء ترنم بهذه المملكة التي كانت تسمى كوسلة، وبعاصمتها القديمة أجودهيا الخربة في الوقت الحاضر، جاء في ديوان الرماينا:
هنالك قطر واسع اسمه كوسلة واقع على شاطئ سراجو زاهر عظيم الخيرات كثير القطاع وافر الغلات، وهنالك مدينة شهيرة في العالم بأسره أنشأها سيد البشر منو فدعيت بأجودهيا.
وأضحت تلك المدينة الآهلة أودهة الحديثة مؤخرا، وبهذا الاسم يسمى البلد الذي كانت تلك المدينة عاصمة له فكانت واقعة على شواطئ غوغرا.
وغير بلد أودهة، كبقية بلاد الهند، عاصمته غير مرة، فأضحت مدينة لكهنئو عاصمة له بعد أن كانت فيض آباد، ومدينة لكهنئو تلك نالت أهمية كبيرة منذ صارت منطقة أودهة التي هي «فردوس الهند» ملك إنجلترا، وهي تجتذب فريقا كبيرا من الأوروبيين بسبب موقعها الساحر، وهي مركز الأناقة، وهي ذات مبان مؤثرة من بعيد، وإن عددناها نموذجا لانحطاط الفن الهندوسي في العهد الأوروبي. (4) همالية الغربية «كشمير»
وادي كشمير أفضل من قطر أودهة، وأشهر منه في أقاصيص الهند وأساطير العالم، ولا يعدله سوى منطقة نيبال حسن جو وروعة منظر، ويقع بين فروع جبال همالية الغربية الأخيرة وشواهق كاراكورم الأولى، وتهيمن عليه الذرا ذات الثلوج، وتحيط به أسوار من جلاميد تتحدى أقدام الناس بمنحدراتها الوعرة الصعبة الكامدة، وتحتوي سهوله النضرة الأرجة
10
على بحيرات وأهوار
11
بلورية هادئة وقرى ذات مساكن رائعة، ومعابد وقصور ذات حياط
12
بيض.
والمرء حين يسير وضفة نهر ذلك الوادي الوحيد جهيلم «الذي يدعوه الآريون بفيتاستا ويسميه الإغريق بهيداسبس» فيرفع ناظريه يرى ذرى ننغا بربت الهائلة التي يتألف منها حد إمبراطورية الهند المقرن، ويرى ذرى دبسنغ الذي هو جبل الدنيا الثاني البالغ ارتفاعه 8660 مترا، والمرء حين يخفض ناظريه يرى منظرا دون ذلك جلالا، وأكثر من ذلك سحرا وسناء، أي يرى مباني رائعة تبلل أسفلها الرخامي بحيرات زرق هادئة بهيجة محاطة بنبات فاتن ذي اخضرار وأزهار.
وتقع مدينة شرى نغر، التي هي أكبر مدينة في ذلك القسم من همالية، في وسط وادي كشمير وعلى ضفتي نهر جهيلم، ودعيت هذه المدينة ب «بندقية الهند» لما يشقها من القنوات.
وتغطي سقف بيوت مدينة شرى نغر طبقة تراب رقيقة، حيث ينبت الخضر والزهر فتبدو هذه المدينة حديقة واسعة معلقة، وتشاهد حدائق فوق أطواف
13
عائمة في البحيرات فيزرع أهالي شرى نغر الماهرون فيها القثاء والبطيخ فلا تقل غرابة عن تلك.
ويلائم جمال الإنسان في ذلك «الوادي المبارك» جمال الطبيعة فيبدو رجال كشمير أكثر رجال الهند تناسبا وبياضا، وتبدو تقاطيع نسائها الجميلة مشهورة في أسواق نخاسة الشرق.
شكل 2-2: نهر جهيلم يقطعه قارب مهاراجة كشمير.
وظلت صناعة الشالات الكشميرية منبع ثروة لذلك البلد زمنا طويلا، ثم نقصت أهميتها لتقلب الأزياء في أوروبا، ولكن أهالي ذلك البلد وجدوا في صناعة عطور الورد، وصناعة الأدوات المعدنية المرصعة وما إليها ما يشغلهم.
ويتألف من وادي كشمير بقعة ذات طابع خاص في مجموعة الولايات الكشميرية، وتشتمل هذه الولايات، التي اتخذت جمو الواقعة على نهر جناب عاصمة لها، على أودية نهر السند العليا، وعلى روافده، وعلى جميع الهضاب المجاورة للتبت، وتعد لداخ وبالتي من أجزائها سياسيا.
ويستوقف تكوين وادي كشمير النظر كثيرا، فيدل البحث العلمي على أن هذا الوادي كان بحيرة في سالف العصور، وأن انقلابا حدث فأسفر عن انفتاق سلاسل جبال الدنيا وجريان مياه تلك البحيرة، وأساطير الهند مملوة بأخبار ذلك الأمر العجاب الذي حدث قبل ظهور الإنسان في الدنيا. (5) الهند الإسلامية: «البنجاب وراجبوتانا والسند، إلخ»
يشتمل وادي السند على البنجاب وراجبوتانا والكجرات والسند، ويسمى هذا الوادي بالهند الإسلامية لسيطرة الفاتحين المسلمين عليه، ولما احتواه من المباني التي أسفرت عنها الحضارة الإسلامية.
وتضاف إلى ذلك القطر منطقة وادي الغنج الأعلى التي يسميها الإنجليز بالولايات الشمالية الغربية، واتخذ نهر جمنة الذي هو رافد ضفة نهر الغنج اليمنى حدا رسميا بين البنجاب وتلك الولايات الشمالية الغربية.
وتبدو منطقة البنجاب الآهلة العامرة المستطيلة في أسفل همالية أنها تمط سهل الغنج الخصب إلى ما وراء نهر السند فتكون أداة وصل بين واديي الشمال العظيمين اللذين يظلان منفصلين بغيرها.
وفي منطقة البنجاب حقول حسنة الري جيدة الخصب، وسكان كثيرون، ومدن زاهرة شهيرة كالمدن: لاهور وأمرت سر ودهلي، إلخ.
ولكن الإنسان إذا سار إلى الجنوب شاهد انبساط الصحاري الواسعة الكئيبة، واتجاهها إلى بحر العرب، وشاهد بيوتا تتباعد أو تغيب، وتتعذر الزراعة في تلك الصحاري فلا تحتوي على غير مراع ضعيفة هزيلة.
ويتصف جو ذلك القطر باختلاف حرارته بين فصل وآخر، وتزيد تقلبات هذه الحرارة على خمسين درجة، ولا يشاهد هذا في صحراء تهار وحدها، بل يشاهد في مدن الشمال أيضا، فمن هذه المدن أغرا التي تكون من أشد البلاد قيظا فلا يندر أن تصبح ذات قر في الصباح والمساء من أيام الشتاء.
وفي فصل الجفاف تهب في الصحراء رياح لوافح كأنها خارجة من الجحيم، فلا تضع الحيوانات أرجلها على رمالها المحرقة من غير أن تألم، فيستفيد من ذلك أناس راكبون خيلا أو جمالا فيتصيدون ذئابا لعجزها عن الهرب في ذلك السعير.
وتمتد بقعة غربية مستوية من جنوب صحراء تهار وتسمى رن كجة، ويترجح عرضها بين 60 و100 كيلو متر فتكون في الصيف قاسية متماسكة كالمرآة، فإذا حل الشتاء غمرتها طبقة ماء عمقها متر واحد، فلا يفصلها عن البحر تقريبا سوى جزيرة كجة البارزة قليلا، والحاوية بضع قرى ونباتا ضعيفا، فيتموج فوق رن كجة تلك سراب تلو سراب بفعل أشعة الشمس فيمس السائح لغوب،
14
فيهيم فيتعذر - لهذا الهيم وانعكاس النور على الرمل أو على البرك - اجتياب رن كجة تلك نهارا إلا بعد غياب الشمس.
ويقع في جنوب كجة الشرقي وغديرها
15
شبه جزيرة كاتهياوار التي هي جزء من ولاية الكجرات سياسيا.
والكجرات من أمدن بلاد الهند، ومدينة أحمد آباد، التي هي قاعدتها زاهرة ذات جد وعمل وتجارة رابحة، وليست مرافئ كاتهياوار بمجهولة لدى سفن العالم، ويصب في خليج كمبي الذي يبلل شواطئها نهر نربدا ونهر تابتي.
وترتفع جبال أراولي وطود آبو المنفصل منهما في شمال الكجرات وشرق صحراء تهار، ولطود آبو هذا صيت بعيد في جميع بلاد الهند حيث يقدسه الناس، فأنشئت في جوانبه معابد جينية أظهر متفننو الهندوس فيها ما لديهم من الحذق في النحت العظيم الرائع الساحر.
ويسكن الراجبوت الذين هم من أقدم عروق الهند جبال أراولي والبقعة الوعرة التي تهيمن عليها هذه الجبال، وظل الراجبوت مستقلين تقريبا مع غزوات الأجنبي بفضل طبيعة بلدهم ذي الآطام
16
والمعاقل الطبيعية، أي بفضل بلدهم ذي الصخور التي يخيل إلى الناظر من بعيد أنها حصون وأبراج، فإذا أقيمت فوقها قلعة صعب تمييز ما صنعه الإنسان فيها مما شادته يد الطبيعة.
وتقع ولاية بنديل كهند وولاية بها كيل كهند في شرق راجبوتانا، وتحتوي تانك الولايتان الجبليتان على مناجم حديد وفحم حجري، وكانت مدينة كهجورا قاعدة بنديل كهند فأضحت مهجورة مع اشتمالها على معابد معدودة أعجب ما في الهند.
وتصل هضبة مالوا وجبال وندهيا ذلك القسم الهندوستاني بولايات الهند الوسطى العالية. (6) ولايات الهند الوسطى وساحل أوريسة
يعرف بغوندوانا قسم الهند الذي يسميه الإنجليز بالولايات الوسطى، ويتوسط هذا القسم الهندوستان والدكن بحيوانه ونباته وموقعه الجغرافي، وبدا هذا القسم مستورا بآجام موبوءة مهلكة لا تنفذ، وظل إلى القرن الثامن عشر حاجزا لم يقدر الغزاة على مجاوزته إلا بالدور حوله، وبقي إلى ما قبل ثلاثين سنة مجهولا كأفريقيا الوسطى.
وتتألف غوندوانا من سلسلة هضاب يترجح ارتفاعها بين 300 و1100 متر، وتتخللها أودية وفجاج عميقة، وتظهر هضبة أمركن تك، التي هي أعلى تلك الهضاب، عقدة جبلية مهمة ينبع منها ستة أنهار كبيرة نذكر منها سون ومهاندي ونربدا.
ويقطن في قسم من غوندوانا وحوش الغوند الذين سندرس أمرهم في فصل آخر.
ويقع ساحل أوريسة في شرق غوندوانا، وهو بقعة فقيرة قفر معرضة للجدب والفيضان والجوع في الوقت الحاضر، بعد أن كانت مقرا لدولة قوية سنية في غابر الأزمان، كما يشهد بذلك ما تركته تلك الدولة من المعابد البهية، وتعد معابد بهو ونيشور وجكن ناتها من أشهر معابد الهند، لألوف الحجيج الذين يقصدون هذه الأخيرة من جميع أنحاء الهند.
ويمتد ساحل أوريسة إلى الجنوب من شاطئ سكهر، ويرى تحت بحيرة جلكا ممر ضيق يعرف بترموبيل سكهر، فيمر بين الجبال والبحر بعد أن يقطع مدينة برهما بوترا المهمة، فمن هذا الممر اضطر الفاتحون أن يسيروا ليدخلوا الدكن من هذه الناحية، فهذا هو الحد بين اللغات الآرية والدراويدية، فيتكلم الناس بالأورية في الشمال، ويتكلمون بالتليغو في الجنوب. (7) الدكن
كان اسم الدكن يطلق على قسم الهند الجنوبي المقابل للقسم الشمالي المعروف بالهندوستان، واليوم يطلق على منطقة الهضاب عدا الولايات الوسطى والسواحل.
وتلك الهضاب ذات التراب البركاني غير خصيبة، وقليلة السكان على العموم، ويستثنى من ذلك ضفاف الأنهار والأودية ذوات الأطيان السود، والجزء الغربي الذي تحمل الرياح الموسمية الجنوبية إليه سيولا مباركة في كل سنة.
ويقطن في الشمال الغربي من ذلك القطر المراتها الذين كانت لهم دولة قوية محاربة مرهوبة في الهند بأسرها فيما مضى.
قهر المراتها سكان تلك الجهات الأصليين البهيل، واستقروا بعرضي جبال كهات وبالهضاب العالية وبسهول كونكن الغنية، وثار المراتها على الإنجليز غير مرة، ولاقى هؤلاء الأمرين في رد جماحهم، وإذا عدوت المراتها وجدت أهالي الدكن من الدراويد، أو من الذين تغلب عليهم العنصر الدراويدي على الرغم من كل توالد.
ولم يبق سوى دولة ميسور ودولة حيدر آباد من الدول الكبيرة التي استولت على جنوب الهند فاتخذت غولكندا وبيجابور وبيجانغر عواصم لها فكان لها في أخيلة الأوربيين أعجب الذكريات.
وتقع مملكة ميسور على الجانب الشرقي من جبال كهات الغربية، ويستند جنوبها إلى جبال نل غيري، وتفيض سحب الرياح الموسمية عليها بعد أن تصب بصولة في ساحل ملبار، ويستر بعض مملكة ميسور، لذلك، نبات قوي، وتشتمل على غاب عجيبة يكثر فيها شجر الصندل الطيب الشذا الذي يتقن الهنود نقره وترصيعه، وتصدر القطن والحبوب والأبازير إلى الخارج ، وتظهر عاصمتها التي تسمى ميسور أيضا مدينة صحية هيفاء، وإن كان الأوربيون يفضلون عليها أوتاكامند الواقعة في جبال نل غيري، والمعدودة مدينة الصحة في جنوب الهند.
وفي ميسور، في جنوب نهر كرشنا، على الجانب الغربي من جبال كهات، ينبع نهر كاويري الذي هو أهم أنهار جنوب الهند، فيترك منطقة الهضاب فورا من شلال يزيد ارتفاعه على مائة متر، فيبدو في زمن الفيضان من أروع شلالات الدنيا، فيتألف في آخره دلتا واسعة تسمى ضلعها العريضة كولرون فيقدس كما يقدس أكثر أنهار الهند، فأقيمت في الأماكن التي يجري منها؛ «أي في تانجور وتري جنابلي وكنبه كونم ومدورا»، معابد مشهورة تختلف عن معابد الهند الأخرى بأبوابها الهرمية الكبرى المغطاة بألوف التماثيل ذات الأثر الرائع في مجموعها.
ويتكون من أقصى الهند الواقع في جنوب نهر كاويري منطقة جبلية وحشية ذات غابات كثيرة مملوءة بالضواري والأفاعي، وذات أودية غير صحية، وتبذل جهو طيبة في الانتفاع بترابها، وتقام مدن لهو في منحدرات جبالها حيث تلطف الحرارة وتجيء نسام
17
لينة ملائمة للصحة.
وتشتمل دولة نظام الكبيرة، التي هي أوسع دول الهند شبه المستقلة، على جميع القسم الأعلى من الدكن، وعاصمتها حيدر آباد الإسلامية من أكثر مدن الهند وقفا للنظر، فهي تصلح مثالا لما كانت عليه عواصم الشرق، كبغداد، أيام سلطان العرب.
وتقع مدينة غول كوندا، التي غدت قرية حقيرة، بالقرب من حيدر آباد، ويثير اسمها في الخيال صور القصور الرائعة الخرافية ذات الشفوف والوشاء الزاهية والحجارة الكريمة المتألقة، وتسودها القعلة ذات الألغاز التي هي مفتاح تلك المنطقة، فلم يوفق لزيارتها قبلنا غير فئة قليلة من الأوربيين.
ولم تكن عاصمة الدكن السابقة غول كوندا وحدها هي التي آلت إلى الخراب، فليس قليلا خرب العواصم السابقة في الهند، فأكثر هذه العواصم الخربة وقفا للنظر هو بيجابور وبيجانغر اللتان تجد صورا لكثير من مبانيها في هذا الكتاب، وبيجانغر هذه أصبحت ركاما من المعابد والقصور على مساحة تعدل باريس فصار لا يطؤها إنسان، وعاد لا يأوي إليها سوى الضواري، فعلى المرء أن يطوف على نور القمر في تلك المعابد المهجورة وفي مسالك تلك المدينة الميتة المصفوف على جوانبها متشبك العماد والأروقة؛ ليدرك ما في الأشياء الصامتة من بيان بليغ في بعض الأحيان، فبمثل هذه المناظر الماثلة استطعنا أن نخرج من أعفار القرون طيف حضارة بائدة.
هوامش
الفصل الثالث
النباتات والحيوانات والمعادن
(1) النباتات
تشتمل الهند على أنواع النبات والحيوان اشتمالها على مختلف الأجواء، ولا تمتاز الهند بنوع خاص من الحيوان والنبات.
فبينما ترى منحدرات جبال الهند مكسوة أزهارا وأثمارا كالتي تشاهد في أوروبا، تذكرك سهولها بسهول فارس والصين، وتذكرك بقاعها الجافة المحرقة بأفريقيا الوسطى، ويذكرك نبات ترائي وسندربن القوي الأشعث بنبات جزائر الملايو.
وبلاد الهند في مجموعها غنية خصبة كافية لتموين سكانها وإطعامهم عن سعة، وتنشأ مجاعاتها الهائلة التي تخرب بعض بقاعها أحيانا عن افتقارها، في الغالب، إلى طرق منتظمة صالحة لنقل ما يزيد على احتياج بعض مناطقها إلى مناطقها التي تنقص حاصلاتها.
وتنشأ تلك المجاعات، كذلك، عن فقر طبقاتها الدنيا المدقع الذي لا يجد أفرادها معه ما يشترون به قليلا من الأرز أو البر فيهلكون جماعات على حين توسق في السفن مقادير عظيمة من حبوب الهند لتباع في الأسواق الأجنبية.
وتعد الحبوب في الهند أهم ما تنبته الأرض، فيزرع فيها القمح والأرز والذرة والدخن بكثرة، فيكون للأهالي الذين حرم عليهم أكل اللحم طعام بذلك، فما في الهند من حرارة جو وقلة مواش وحظر نحر يحمل الهندوسي على العيش بما تخرج الأرض من قوت.
ومارس سكان الهند الزراعة بحذق ونشاط في كل حين، فلما حاول الأوربيون أن يحسنوها بما أدخلوه إليها من الأساليب الحديثة اعترف، في غير حالة، بأن المناهج القديمة خير من جديدها، وبأن من أصالة الرأي أن يرجع إليها، وذلك إلى ضرورة توسيع رقاع الأراضي الزراعية ما كانت هذه الرقاع لا تعدل غير ثلث مساحة الهند في الوقت الحاضر.
ووادي الغنج أخصب بقاع العالم، لا الهند وحدها على ما يحتمل، فتستره حقول عجيبة لا حد لها، فكلت عينا الفاتح المغولي بابر وارتدت عن تأمل امتدادها إلى ما وراء الأفق امتدادا مطردا، وليس بنادر أن ينتج هذا الوادي ثلاث مرات في السنة الواحدة، والأرز، على الخصوص، هو ما يزرع في ضفاف الغنج بعد الفيضان، وتكثر أيضا زراعة البر والقطن والتبغ والقنب والخشخاش في واديه المنقطع النظير بخصبه الذي لا ينفد.
وفي الهند حيث تروى الأرض جيدا تبدو هذه الأراضي خصبة سخية، وفي الهند حيث تقطع الولايات شبكة من مجاري المياه أو تفيض عليها رياح الجنوب الموسمية تنتج هذه الولايات إنتاج البنغال، وفي الحقول المطمئنة حيث تزيد الرطوبة تزرع بكثرة أنواع الأرز، وفي الحقول المرتفعة حيث تقل الرطوبة يزرع البر.
والأفيون أهم ما تصدره الهند بعد الحبوب التي تمتلئ بها السفن كل يوم فتنقلها إلى بلاد الغرب، ويزرع الأفيون، على الخصوص، في سهل الغنج والبنجاب وراجبوتانا، وتستأثر الحكومة الإنجليزية باحتكاره، وما تستنفده بلاد الصين من مقادير الأفيون العظيمة هو ما تستورده من الإنجليز بعد أن يزرعوه في أتربة الهند، وليست بمجهولة أنباء حنق الإنجليز وغيظهم من ولاة الأمور في مملكة ابن السماء حينما أرادوا وقاية رعاياهم من هذا السم القاتل، فأسفر ذلك عن شهر الإنجليز لتلك الحرب المعروفة «بحرب الأفيون» فأكره الإنجليز الغالبون فيها بلاد الصين على إدخال أفيون الهند إليها كما في الماضي، فيموت في كل سنة عدة ألوف من الآدميين بسبب استعماله.
وزراعة القطن في الهند تلي زراعة الأفيون أهمية، ويصلح بعض الأصقاع من أراضي الدكن العليا لزراعة القطن كثيرا، والقطن الهندي دون القطن الأمريكي حظوة وإن أدت حرب الانفصال إلى إقبال الناس عليه لبضع سنين، فزادت زراعته وتجارته زيادة غير منتظرة، ولا يزال القطن الهندي عامل إصدار مهم بعد غزله أو تحويله إلى نسج، وكان لنسائج الهند القطنية شهرة فنازعها الغرب إياها بآلاته، فصار الغرب يرسل إلى الهند مثل ما ترسله الهند إليه.
وفي الهند يزرع القنب ثم تصدره بوفرة، والحبوب الزيتية مما تنتجه الهند فتبيعه من الخارج.
ولا يبتاع الأوربيون التبغ الهندي؛ لسوء تعبئته، فيستنفده أهل الهند، وتشتهر مدينة تري جنابلي الواقعة في الجنوب بسيغاراتها مع ذلك.
وتجيء الهند بعد الصين في زراعة الشاي، وأسفرت زراعة الشاي في منطقة آسام عن أطيب النتائج، وتتقدم زراعة القهوة منذ أواسط هذا القرن في ربى الجنوب ولا سيما في مملكة ويناد الصغيرة الواقعة في جنوب مملكة ميسور.
والعظلم
1
والتنبل
2
والكينا وتوت القز مما تكثر زراعته في بلاد الهند.
وكانت الهند تشتمل على غابات عجيبة، ومن المؤسف أن نقصت هذه الغابات بما قطعه الأهلون وغزاة الإنجليز من شجرها قبل أن تدبر الحكومة أمرها، والهندوس، في الولايات الوسطى، لا يزالون يتخذون أسلوب إحياء للأراضي محزنا حقا، فهم يبيدون قديم الشجر في قطع من الغاب فيحرقونه ويبذرون الحب بين رماده، فيحصدون زرع سنتين أو ثلاث سنوات، فإذا ما استنفد خصب الأرض المؤقت الذي نشأ عن الرماد أبادوا شجر قطع أخرى، وهكذا.
ونجم عن جشع الإنجليز وغفلتهم استمرارهم على ما بدأ به الأهلون من إبادة شجر الغاب، ولم يروا فائدة الإبقاء على الغاب ووقف تلك الإبادة إلا في الأيام الأخيرة.
ويعد السال والتيك ملكي غاب الهند، والسال يخرج القطران والراتينج،
3
والتيك يتخذ خشبا للبناء، وتحول أغصانه إلى فحم جيد، ويتطلب شجر السال والتيك واسع الأراضي، ولا ينبت بعضه بجانب بعض، ويستر شجر السال منحدرات همالية السفلى الجنوبية، ويوجد في الولايات الوسطى، ويقف عند حد هضاب الدكن ذوات الحجارة البركانية حيث ينبت شجر التيك.
وتدثر أعالي جبال الهند، كما في كل مكان، برداء داجن من شجر الصنوبر والشوح،
4
وتجد تحت هذا النطاق البارد الذي يصلح لتلك الأشجار منحدرات ذات جو معتدل اعتدال جو أوروبا فينبت فيها ما تعرفه غابات الغرب من شجر البلوط والزين
5
والحور، وينبت بجانب هذا الشجر ما يعرفه الغرب أيضا من الأشجار المثمرة، فترى بين أدغال الكشمش
6
شجر التفاح والكمثرى والخوخ والإجاص، وترى بينها الكرمة في بعض الأحيان.
وإذا نزلت من تلك الارتفاعات إلى السهول شاهدت أشجارا ذوات أثمار يانعة وخشبان نافعة وأوراق رائعة، ومن هذه الأشجار نذكر شجر البانيان والمهووا ذا الزهر النافع في زمن المجاعات، والخيزران والصندل ذا الرائحة الذكية، ونذكر، على الخصوص، النخل التي يعد أهل الهند ألف وجه ووجه للانتفاع بجذوعها وليفها وسعفها وعصيرها وثمرها، والولايات الجنوبية أكثر ولايات الهند غرسا للنخيل.
وتنمو نباتات البلاد الحارة نموا عظيما في مناطق الهند الجيدة الري والشديدة القيظ، وتنجم هذه النباتات في منطقة آسام، على الخصوص، بما يزري بجهود الإنسان، فتبلغ نباتات غابها من الكثافة ما لا بد معه من حرقها في فصل الجفاف لتنظيف ترابها، وقد يصل علو شجرها ستين مترا فتصل المعرشات بين هذا الشجر فيتعذر نفوذها، فيتفتح أسفلها عن غريب الأزهار، وفي جبال كهاسي وحدها عد 250 نباتا من الفصيلة السحلبية، ولن تجد في الأرض بقعة ذات نبات فخم أشعث كما تراه هنالك. (2) الحيوانات
لا تجد في الهند نوع حيوان خاص بها، وتختلف حيواناتها اختلاف نباتاتها وجوائها، وتذكرنا حيوانات الهند، على حسب البقاع، بحيوانات الصين وأفريقيا والملايو وأوروبا.
وتكثر في أجزاء جبال همالية التي تلي الذرا المكسوة ثلجا ما يرى في التبت من الوعول والتيوس والدببة والضراء
7
والذئاب، وتكثر في بقاع ترائي وآسام الحارة ذوات الآجام الغامرة ما يأوي إليها من الضواري التي يتعقبها الناس في بقاع الهند الأخرى فيتوالد فيها أمينا، وفي تلك البقاع تجد، أيضا، الفيول تعيش جماعات وتسير حرة، والفيول في الهند تكاد تبيد ما لم يعلن الإنجليز حمايتهم لها ويحرموا صيدها، ويفرضوا امتلاكهم لجميع ما في الهند منها، وفي الهند يصطادون في كل سنة نحو مائة فيل بالكمون والفخاخ، ثم يضيفونها إلى الفيلة المدجنة فتقتبس منها خلق الطاعة والعبودية، وفي الهند يستخدمون الأفيال في أعمال كثيرة، وفي تصيد النمر وفي مواكب الملوك، ففي كل موكب سني تبصر فيولا تتقدم مسرجة بسروج أرجوانية ذهبية حاملة راجوات أو من يراد تكريمهم من مشاهير الضيوف.
وتكاد الآساد تزول من بلاد الهند، فلا تجد منها في غير جزيرة كاتهياوار بالغرب تقريبا حيث تبدو قصيرة عاطلة من اللبد.
شكل 3-1: فيلان يستخدمان في حمل الأثقال.
والنمر هو الحيوان المفترس الذي تجده في جميع أجزاء الهند، ولا سيما بين أدغال الغاب حيث يأوي مطمئنا، والنمر إذا وجد بكثرة في الهند فلأن الناس لا يطاردونه فيها على الدوام، ولأن الناس يحترمونه في بعض البقاع التي تخربها الرتتة
8
فتفترسها النمور، وهذا إلى أن النمر يتصيد عادة ما في الغاب من الحيوانات البرية كالظباء والتيوس والخنازير، وهذا إلى أن النمر لا يهجم على بيوت الناس ليتصيد بعض نعمهم إلا إذا عضه الجوع، ومن النادر أن يفترس النمر إنسانا، فإذا ما حدث ذلك وتذوق طعم لحمه لم يعدل عنه إلى فرائس أخرى فيغدو خطرا إلى الغاية، فيعلن الحرب على الإنسان فيظهر من الختال
9
والمحال
10
ما يكف الإنسان معه عن الكفاح أحيانا فيهجر المكان الذي يأوي إليه النمر بعد أن يكون قد أكل بضع مئات من التعساء المساكين، فيعد النمر، إذ ذاك، حيوانا جديدا، فيسمى «أكال الرجال»، ومما ذكره هنتر أن أكال رجال افترس 108 من الناس في ثلاث سنوات، وأن أكال رجال ثانيا افترس 80 شخصا في سنة واحدة، وأن أكال رجال ثالثا أوجب هجر الناس لثلاث عشرة قرية فحول 650 كيلو مترا مربعا من الأراضي إلى صحراء، وأن أكال رجال رابعا قتل 127 شخصا في سنة 1869 فقطع طريقا عظيمة لعدة أسابيع.
وتمنح الحكومة الإنجليزية جوائز سنية لمن يبيدون تلك الضواري، ولكن الأهالي لا يجرءون على ذلك، تقريبا؛ لما تلقيه هذه الضواري من الرعب في قلوبهم، ولما يعد به الهندوس أكال الرجال ضربا من الآلهة إذا ما افترس بعض الناس.
والهندوس يحترمون الصل،
11
المعروف بالقبرا والذي هو أشد فتكا من النمر، أكثر من احترامهم للنمر، ولا بلد في الدنيا ذا حيات سامة متنوعة كالهند، ومن الحيات ما يخرج من الأرض، ومنها ما يخرج من الماء، وما في ساحل ملبار من الحيات التي تعيش في الماء المالح فذو سم، وما يعيش منها في الماء العذب فغير سام، ويعد الصل من أشد الأفاعي التي تخرج من الأرض خطرا لما تسفر عنه جروحه من الموت الزؤام على الدوام، ومن المتعذر دفاع الإنسان عن نفسه تجاه الأفاعي ما دبت بين الكلأ، وخرجت من شقوق الأرض، وتسلقت المساكن، وتكاثرت بسرعة، مع أن من الممكن تصيد النمر وإنقاذ الهند منه ذات يوم.
والصل حيوان مقدس لدى الهندوس؛ لما يورثهم إياه من الخوف، وهو من صفات وشنو الذاتية فنقش في مختلف المعابد، وهو يلف مطاويه وينتفش متوعدا حديد البصر.
ويقدر العارفون ضحايا النمار والأفاعي من الهنود بعشرين ألفا في كل سنة، والنمار والأفاعي ليست كل ما في الهند من الحيوانات المرهوبة، ففي الهند الفئران وأرجال
12
الجراد وأنواع الحشرات والهوام العظيمة الأضرار.
وتكثر أنواع الذئاب في الهند، وبالفهود وبنات آوى والضباع والكركدن والتماسيح نختم جدول ضواري الهند، ويرى الكركدن في منطقة سندربن على الخصوص، وتكثر التماسيح في الغدران والأنهر وتخرب مجاري المياه.
والهند بلاد فقيرة في المراعي ومن ثم في المواشي، وتكون جمالها وخيلها وبقرها وجواميسها أهلية، وتتصف أفراسها بالقصر، ولا تربى الضأن فيها إلا من أجل لحومها وألبانها، ويكره الهندوس الخنزير، وفي الهند ما في أوروبا من الدواجن، وفي أنهارها أسماك صالحة للأكل، وفي أحواض نل غيري أنواع سمك جديدة أدخلت إليها لتكثر فيها.
وتتكاثر القردة في الهند فتعد نكبة على الفلاحين؛ لإتلافها مزروعاتهم، ولدخولها بيوتهم بوقاحة، وسلبها ما يطيب لها من أموالهم، وما يكنه الهندوس من الاحترام للقرد هنومان يحول دون دفاعهم ضد القردة الثقيلة، والقردة جعلت بعض مدن الهند، كمترا مثلا، غير صالحة لسكنى الأوربيين، وبلغت القردة في بنارس من مضايقة السكان وقلة الحياء في السنوات الأخيرة ما نفيت معه إلى الضفة الأخرى من نهر الغنج.
وتشتهر طيور الهند بجمال ريشها، وتقل المغردة منها، ويحترمها زراع الهند لإبادتها الحشرات، ويراعي سكان المدن الهندية النسور والعقبان؛ لإزالتها المواد الحيوانية العفنة، وإصلاحها الطرق والشوارع بذلك، وتتصف ببغاوات الهند بالحسن والكثرة. (3) المعادن
صورت الهند في أقاصيص السياح المبالغ فيها، وتمثلت لخيالات الغربيين الملتهبة معدنا لا ينفد من الحجارة الثمينة، فلاحت الهند الواسعة مشتملة على مثل ما يتدحرج في مجاري جزيرة سيلان، وما يرصع فدرها
13
البلورية من الياقوت واللازورد والزمرد والعقيق، فيجب حذف كثير من هذه المبالغات بوضع الأمور في نصابها.
أجل، احتوت الهند على مناجم غنية بالألماس، ولكن هذه المناجم نفدت منذ زمن طويل تقريبا، وكانت مناجم سنبل بور الواقعة في وادي مهاندي ووادي كرنول بالجنوب تستغل إلى أوائل هذا القرن، وتخرج مناجم غولكوندا ما لا قيمة له من الحجارة مع إثارة اسمها في الذهن صور ما يعشي الأبصار من أنوار الحجارة الكريمة ومع ما كان يزهى الأمراء به.
وفي جبال أراولي الجمست،
14
وفي ميوار المهو،
15
وفي وادي نربدا البلور، وفي ساحل الكجرات اليصب
16
والعقيق، وفي بعض الأماكن اليشم
17
وما إليه.
وظل استخراج اللؤلؤ مصدر ثروة الهند، فاللؤلؤ يستخرج من مغاوص كمبي ومدورا وتراونكور وسيلان.
ويؤخذ الرخام من مقالع راجبوتانا، ويؤخذ حجر السن من بنديل كهند ووادي جمبل فتزين به المباني الفخمة.
وفي الهند مناجم فحم حجري واسعة واقعة بين الغنج وغوداوري مقسمة إلى أربع شعب، ولا يستحق بعضها أن يستغل، والفحم الذي يستخرج من بعضها الآخر هو دون ما تخرجه مناجم أوروبا جودة، فما يتركه من الثفل بعد حرقه أكثر مما يتركه الفحم الأوربي، وما يقوم به من العمل هو نصف ما يقوم به الفحم الإنجليزي.
وتكون الهند، لافتقارها إلى الفحم الحجري، زراعية أكثر من أن تكون صناعية، فكأن الطبيعة قد أرادت أن تظل الهند بلادا تمد الأمم الأخرى بالأقوات، ولم تلبث صناعات الهند أن أخذت تتوارى عندما أصبحت مصانع الغرب تنافسها بعد فتح قناة السويس.
والحديد كثير في الهند، وأهم مناجمه في سيلم من أعمال ولاية مدراس، والأهالي قد استخرجوه وصنعوا الأدوات منه منذ القديم، وتشابه الآلات الحديدية التي اكتشفت في آثار الهند الناقصة الشكل آثار السلت الحجرية، وتعد أقدم بقايا ما صنعه الإنسان في الهند.
شكل 3-2: منظر في ناسك على ضفاف البحيرة المقدسة.
والهنود كانوا يستخرجون الحديد، إلى وقت قريب، بأكيار
18
وقودها الحطب، ثم تركت هذه الصناعة، ولا يمكن أن يرجع إليها بأن يستعمل الفحم الحجري في نفي
19
الحديد ما كان فحم الهند الحجري ناقصا، وما دحر الحديد الإنجليزي حديد الهند من الأسواق .
وفي الهند مقادير قليلة من النحاس والذهب، فلا طائل في استخراجهما، والملح هو أكثر ما تحتويه، فظلت تصدره إلى العالم بأسره عدة قرون، ففيها تلال مكونة من أكداس الملح، كسلسلة الملح الواقعة في البنجاب على ضفاف نهر السند الأعلى، واليوم تحتكر الحكومة الإنجليزية ملح الهند.
تم وصفنا الإجمالي للهند، ولا معدل لنا عن ذلك ما أردنا البحث في معايش سكانها ونظمهم ومعتقداتهم وطبائعهم وعاداتهم، ولم نأت فيما تقدم بغير بيان موجز عن طبيعة تلك البقاع السخية الصائلة معا، فلا تجد في الأرض، كالهند بلادا تجلت فيها تلك القوى القاهرة النافعة أو الضارة التي هي أم الضرورات المكونة للرجال، والمسيرة إياهم، والموجبة الأولى لما يدون التاريخ سيره من الحضارات.
هوامش
الباب الثاني
العروق
الفصل الأول
منشأ عروق الهند وتقسيمها
(1) كيف تنشأ العروق وكيف تتحول
أرى قبل أن أصف عروق الهند أن أخصص بضع صفحات لتعريف العروق، وبيان ظهورها وتحولها، وذكر الصفات التي تقسم بها.
لم أفتأ أشرح في مؤلفاتي الأخيرة ما يقوله العلم وما أراه في تلك الأمور المهمة، فيكفي أن ألخص هنا ما فصلته في تلك المؤلفات.
تقسم الجماعات البشرية المنتشرة في مختلف أقطار الأرض إلى عروق، ويجب أن تعد كلمة «العرق» بالنسبة إلى الإنسان معادلة لكلمة «الجنس» بالنسبة إلى الحيوان، وتفترق العروق البشرية في أخلاقها افتراق أنواع الحيوان المتقاربة، ومن خواص هذه الأخلاق الأساسية أنها تنتقل بالوراثة انتقالا منتظما ثابتا.
وإذا كانت كلمة «العرق» مرادفة لكلمة «الجنس» فإنها لا تعدل كلمة «الأمة» أبدا، فالأمة، في الغالب، عروق كثيرة جمعت بينها السياسة أو الجغرافية أو غيرها من الأسباب في حكومة واحدة، فالكلمة: الهندوس أو الفرنسيون أو النمسيون، إلخ. تدل على جماعات منتسبة إلى عروق مختلفة أشد الاختلاف مع أنها تقطن في قطر واحد وذات أنظمة سياسية واحدة وذات مصالح مشتركة.
ويشاهد في جميع العروق البشرية، كما يشاهد في مختلف أنواع الحيوان، نوعان من الأخلاق ذوا أهمية متفاوتة، أحدهما هو الأخلاق التي انتقلت عن الأجداد بالوراثة، والنوع الثاني هو الأخلاق التي يكتسبها الإنسان في أثناء حياته القصيرة بفعل البيئة والتربية وما إليهما من مختلف العوامل، فنوع الأخلاق الأول هو تراث العرق الواحد بأسره، أي خلاصة ماض طويل، فالإنسان يأتي به حين ولادته، ولا يستطيع أن يضيف إليه غير القليل في حياته، ولن تقدر الصفات الجديدة التي تنال في كل جيل أن تقاوم عبء الماضي الثقيل الهائل إلا إذا تراكمت مع القرون في اتجاه واحد، وبهذا التراكم المتعاقب الذي هو وليد الانتخاب الطبيعي تتطور الأنواع تطورا بطيئا بعيد الغور.
وبينت في مؤلفاتي التي أشرت إليها آنفا أنه يمكن العروق التي تتالف أمة منها بفعل الأحوال السياسية أن تصهر في عرق واحد مع الزمن، وذكرت أن تلك العروق تنتهي إلى عرق واحد عندما تؤدي البيئة والتوالد والوراثة في غضون القرون إلى اكتسابها صفات جثمانية وأخلاقية وعقلية واحدة.
وفي تلك المؤلفات أثبت أن ذلك الثبات لا يتم إلا بشرطين أساسيين؛ الأول: أن يكون التحول بطيئا وراثيا، والثاني: ألا يكون تفاوت في نسب العروق المتوالدة.
والشرط الثاني على جانب عظيم من الأهمية، فلا تلبث جماعات صغيرة من البيض أن تزول إذا توالدت هي وفريق كبير من الزنوج، فعلى هذا الوجه غاب الفاتحون من غير استثناء عندما اختلطوا بأمم أكثر منهم عددا، كالعرب في مصر؛ فالمصري المعاصر، وإن كان عربيا بلغته ودينه ونظمه، هو، بالحقيقة، من ذرية مصريي العصر الفرعوني كما تدل على ذلك مشابهته لما في المعابد والمقابر المصرية القديمة من الصور المنقوشة.
وما عزي إلى البيئات من التأثير في تحول العروق هو، بالحقيقة، ضعيف إلى الغاية، ولم يبد إلا بتراكم القرون، وإن شئت فقل قبل التاريخ، واليوم بلغ تأثير البيئات من الضعف في تبديل الأخلاق التي ثبت أمرها بالوراثة ما تراه، مثلا، في بني إسرائيل الذين حافظوا على مثالهم الثابت مع وجود أناس منهم في كل بلد.
والأخلاق التي ثبت أمرها بالوراثة هي من الرسوخ ما يهلك به العرق القديم إذا ما انتقل إلى بيئة تفرض عليه أن يتحول تحولا أساسيا، فالتبوء وهم باطل ، ومن هذا أن الإنجليزي لم يقدر على تبوء الهند مع مراعاته جميع قواعد الصحة، فتراه يربي أولاده في أوروبا، فلولا ذلك ما رأيت في الهند أوربيا بعد الجيل الثالث، فلا يفل الوراثة إلا الوراثة، ولن تجد للبيئات مثل هذا السلطان.
وأثر البيئات في العرق، مهما يكن ضعيفا، موجود على كل حال، والوراثة هي التي تمن عليه بالقوة، فإذا كانت العناصر المتقابلة غير متفاوتة، على حسب الشرط الثاني المذكور آنفا، تفاوتا مانعا من امتزاج عرقين انحلت مؤثرات الماضي الثقيلة بفعل المؤثرات الوراثية المعاكسة المساوية لتلك، فلم تجد البيئات، إذ ذاك، ما تكافحه فسارت طليقة وأتت بعملها حرة.
انتهينا إلى النتيجة الأولى القائلة إن جديد العروق يتكون بتوالد مختلف العروق، لا بفعل البيئة وحدها، والآن ترانا أمام مسألة ذات أهمية عملية لما يتوقف على حلها من تعيين مصير إحدى الأمم وهي: ماذا تكون قيمة عرق جديد تكون على هذا الوجه؟ لا ريب في خيره إذا كان مساويا لأرقى العرقين المتوالدين أو أعلى منه، ولا ريب في ضيره لأرقى ذينك العرقين على الأقل عند العكس.
درسنا هذه المسألة الأساسية في مباحثنا السابقة، ولا نذكر هنا غير النتائج، ونحن حين استندنا إلى درس ما نشأ عن التوالد من النتائج في مختلف أقطار الأرض أثبتنا أنه يكون نافعا أو ضارا بحسب الأحوال، فهو يكون نافعا عندما يكون بعض العناصر المتقابلة متما لبعض بدلا من أن تتعاكس، وذلك كما اتفق للعناصر التي تألف الإنجليز من توالدها، وهو يكون ضارا عندما تكون العناصر المتوالدة مختلفة حضارة وماضيا وأخلاقا، وذلك كما أسفر عنه توالد الأسود والأبيض وتوالد الهندوسي والأوروبي.
وسنعود إلى مسألة توالد الهندوس والأوروبيين في الفصل الذي خصصناه للبحث في طوائف الهند، وفيما نجم عن ذلك التوالد من النتائج السيئة، فسنرى أن مثل هذه النتائج السيئة، التي نشأت عن توالد متباين الشعوب، مما عرفه فاتحو الهند القدماء فوضعوا، على الأرجح، نظام الطوائف الذي هو أساس نظم الهند الإجتماعية.
وفي كتاب آخر درسنا أمور التوالد وبحثنا فيما تؤدي إليه من النتائج السياسية والاجتماعية بحسب الأحوال، فأثبتنا أنها أهم العوامل في انحطاط العروق والدول، وذكرنا ما تسفر عنه مصاقبة عرقين عبد أحدهما الآخر، وألمعنا إلى السبب في سهولة احتمال السيطرة الأجنبية عند قليل من التباين بين شعبين كما اتفق للمسلمين في الهند، حيث اعتنق خمسون مليون هندوسي دين النبي، وأشرنا إلى السبب في صعوبة احتمال تلك السيطرة عند شدة التباين بين شعبين كما يحدث للإنجليز الذين مضى على فتحهم لبلاد الهند قرون فلم يستطيعوا حمل رعاياهم على انتحال ديانتهم ولغتهم، والديانة واللغة هما العاملان اللذان يبدأ بهما ادغام إحدى الأمم.
ولا أسهب هنا في بيان القواعد العامة التي تطبق على جميع الأمم، فقد فصلتها، بدرجة الكفاية، في كتابي
1
الذي وضعته؛ ليكون مقدمة لتاريخ الحضارات، فلندع، إذن، ما هو خاص بتكوين العروق، ولنقتصر على بيان الأخلاق التي تتميز بها العروق بإيجاز. (2) مبادئ تقسيم العروق: قيمة المقايسة بين الصفات التشريحية والخلقية والعقلية في ذلك التقسيم
يظهر، أول وهلة، أن أهم الصفات التي تتميز بها العروق البشرية هي الصفات التشريحية، كلون الجلد، ولون الشعر، وشكل الجمجمة مثلا، وذلك لأن الصفات التشريحية هي التي ترى حالا، ولكن الباحث إذا ما أنعم النظر في قيمتها اعترف بأنها لا تصلح لغير التقسيمات الثقيلة، فبلون الجلد والشعر يمكن تقسيم سكان الأرض إلى أربع جماعات أو خمس جماعات على الأكثر، وبشكل الجمجمة يمكن تقسيم كل واحدة من هذه الجماعات إلى زمرتين أو ثلاث زمر، ثم نقف عند هذا الحد، فإذا قسمنا البيض، أي جميع شعوب أوروبا، مثلا، إلى شعوب عريضة الجماجم وشعوب مستطيلة الجماجم، وشعوب شقر وشعوب سمر فإننا لا نصل إلى نتائج تذكر ما اشتملت هذه التقسيمات على أمم مختلفة كالفرنسيين والإنجليز والروس والألمان، إلخ.
فالصفات التشريحية، إذن، غير كافية لتمييز العروق البشرية، وما قلناه عن اختلاف العروق التي تتألف منها أمة، في الغالب، يثبت أن اللغة والديانة والجماعات السياسية ليست أصلح من تلك في تقسيم العروق.
وما عجزت عنه اللغات والأديان والجموع السياسية والصفات التشريحية تستطيعه الصفات الخلقية والعقلية، وهذه الصفات التي هي عنوان مزاج الأمة النفسي ذي العلاقة بتركيب الدماغ الخاص هي من الدقة ما لا نقدر على تقديرها بما لدينا من الوسائل والأدوات.
وليس من المهم، مع ذلك، أن ننفذ، فيما ننشده من التقسيم، إلى سر ذلك التركيب ما استطعنا أن نقدر ما هو عنوانه من الكفاءات الخلقية والعقلية.
وتعين الصفات الخلقية والعقلية تطور الأمة والدور الذي تمثله في التاريخ، فهي، لذلك، على جانب عظيم من الأهمية، فليعول على دراستها من يرغب في معرفة إحدى الأمم أكثر من أن يعول على صفاتها التشريحية.
ولن نستطيع أن نميز الراجبوتي الشجاع من البنغالي الجبان بشكل جمجمتيهما، بل نقدر على ذلك بالبحث في مشاعرهما، فنرى، إذ ذاك، عمق الهوة التي تفصل بينهما، ويمكننا أن نقايس بين جماجم الإنجليز وجماجم الهندوس من غير أن نكتشف بذلك سبب استخذاء 250 مليونا من هؤلاء لبضعة آلاف من أولئك مع أن دراسة صفات تينك الأمتين الخلقية والعقلية يكشف لنا ذلك السبب، وذلك باطلاعنا على شدة نمو خلق الثبات والعزم في إحداهما وضعفه في الأخرى.
والكفاءات العقلية والخلقية هي تراث العرق، وهي بواعث السير الأساسية، وهي ما سميتها في كتاب آخر بصوت الأموات، فالنظم هي وليدة تلك البواعث، ولا عكس، وتلك الكفاءات، وإن كانت مختلفة في أفراد العرق الواحد اختلاف صورهم، يتصف أكثر هؤلاء الأفراد بما يشتركون فيه منها اشتراكا ثابتا ثبات الصفات التشريحية الخاصة بالجنس.
ويدل علم التشريح الحديث على أن أجسام ذوات الحياة مركبة من ملايين الخليات التي تتصف كل واحدة منها بحياة مستقلة متجددة بلا انقطاع، وأن مدة هذه الحياة أقل من مدة حياة الجسم الذي يتركب منها، ويمكن أن يعد أمر العرق مثل ذلك فيقال: إنه مؤلف من ألوف أفراده الذين يتجددون، فلكل من هؤلاء الأفراد حياة خاصة كحياة خلية الجسم الواحد، وللعرق المشتمل عليهم حياة جامعة وأخلاق عامة، فإلى تلك الحياة والأخلاق يجب أن ينظر الباحث في التاريخ.
وحينما يتم وضع علم نفس الأمم المقارن غير الموجود الآن، يمكن الناقد البصير أن يستخلص من الأخلاق الخاصة الأخلاق العامة الصالحة لتصوير المثال الخيالي المتوسط الذي هو عنوان الأمة فيقترب جميع أفرادها منه أو يبتعدون عنه إلى حد ما،
2
فالإنسان ليس ابن أبويه وحدهما، بل هو وارث عرقه أيضا.
ويتألف مثال الأمة المتوسط من اجتماع الأخلاق المشتركة بين أكبر عدد من أفرادها، وتكون الأخلاق المشتركة بين أفراد الأمة كثيرة بنسبة تجانس العناصر التي تتألف منها هذه العناصر، فإذا كانت هذه العناصر متباينة أو قليلة التمازج بدت تلك الأخلاق المشتركة أقل عددا، وإذ كنا نستعير مقايساتنا من التاريخ الطبيعي فإننا نقول: إن الجماعات التي تتألف منها الأمة المتجانسة تقاس بأنواع الجنس الواحد المتماثلة، وإن الجماعات التي تتألف منها الأمة القليلة التمازج تقاس بأنواع الجنس الواحد المختلفة.
ومن ذلك أنك تجد، مثلا، اختلافا كثيرا بين ألف فرنسي وألف إنجليزي في آن واحد، مع أنهم ذوو أخلاق مشتركة يتألف منها مثال فرنسي إنجليزي مشابه للمثال الذي يجده العالم الطبيعي عند وصفه لجنس الكلب أو الفرس، فوصف العالم الطبيعي إذ كان ينطبق على جميع الكلاب والأفراس من حيث أوجه الشبه بينها فإنه لا يشتمل على أوجه الخلاف بينها البتة.
ونحن حين نضع تلك المبادئ الأساسية نصف مختلف عروق الهند، فنتبع في هذا الوصف الوضع الجغرافي لكل واحد من هذه العروق، ونحن بعد أن نصف سكان أقطار الهند نخصص فصلا خاصا للبحث فيما أسفر عنه التوالد وتشابه البيئات والنظم والمعتقدات من الأخلاق المشتركة بين شعوب الهند المختلفة. (3) تكوين عروق الهند: تقسيماتها الأساسية
لم يمض سوى وقت قصير على الزمن الذي كانت الهند تعد فيه بلدا واحدا ذا صفات عامة واحدة، وعرق واحد، وديانة واحدة، وحضارة واحدة، وفنون واحدة ثابتة غير متقلبة منذ قرون.
فرأي فاسد مثل هذا لا يقبل في هذا الأيام، فقد أوضحنا في فصل «البيئات» أن الهند ذات مناظر متنوعة وأجواء متباينة ومعايش مختلفة، فالناس في الهند متغايرون أجناسا ومبادئ وطبائع وأخلاقا وتمدنا تغاير البيئات التي تكتنفهم، فإذا قلنا إن الهند، بتخالفها ، خلاصة الدنيا، فإننا نقول، أيضا، إن سكان الهند خلاصة آدميي أدوار التاريخ المتعاقبة لما نرى فيهم من تفاوت.
يبدو البشر في الهند ذوي أمثلة متباينة، ففي الهند تجد شعوبا بيضا بياض الأوربيين بجانب المتوحشين السود، وفي الهند تستطيع أن تدرس صفحات تطور العالم سائرا من طور الهمجية الأولى البادية في بعض مناطق الهند الوسطى الجبلية إلى طور الحضارة الزاهرة البادية في المدن الزاهية الراقية القائمة على ضفاف الغنج، فإلى دقائق الزمن الحديث التي أدخلها إليها آخر الفاتحين.
يمكن تقسيم ال 250 مليون الشخص الذين ندعوهم في أوروبا بالهندوس إلى أربعة عروق مختلفة وهي: العرق الأسود والعرق الأصفر والعرق التوراني والعرق الآري، ونجم عن توالد هذه العروق الأربعة الكبرى على نسب متفاوتة مع تفاوت البيئات ظهور عروق ثانوية في الهند أكثر عددا وأشد اختلافا من العروق التي تسكن أوروبا جميعها مثلا.
إذن، ليس لكلمة «هندوسي» أي معنى من الناحية الإثنولوجية، هذه الكلمة تطلق، في الهند نفسها، على كل شخص ليس مسلما ولا نصرانيا ولا يهوديا ولا مجوسيا، أي إنها تطلق على أتباع إحدى الطوائف التي أوجدتها الديانة البرهمية فاعترف بها البدهيون فعلا إن لم يكن مبدأ، وكانت هذه الطوائف، التي لا يحصى عددها الآن، أربعا وهي: طائفة البراهمة «الكهنة» وطائفة الأكشترية «المقاتلة» وطائفة الويشية «التجار»، وطائفة الشودرا «الزراع»، ولا تدل هذه الطوائف على أقسام عرق، بل تشير إلى أصلها إشارة مفيدة كما نبين ذلك، فسنرى أن طبقة البراهمة آرية، وأن طبقة الأكشترية راجبوتية، وأن طبقة الويشية تورانية، وأن طبقة الشودرا ممزوجة من التورانيين وسكان البلاد الأصليين.
والسود هم أقدم سكان الهند، ويلوح أنهم مقسومون إلى فرعين منذ أقدم العصور وهما: النيغريتو ذوو القامات القصيرة والشعور الصوفة
3
والتقاطيع المعصورة القاطنون في المناطق الشرقية والمناطق الوسطى، والزنوج ذوو المثال الأسترالي القاطنون في المناطق الجنوبية والمناطق الغربية والذين هم أطول من أولئك وأذكى منهم وأملس شعرا من شعرهم، وترى من أولئك أناسا في بعض أصقاع غوندوانا البائرة الجبلية ، وترى من هؤلاء أناسا في أودية نل غيري، وكان ذانك الفرعان الفطريان المتوحشان، اللذان لا تجد فيهما بصيص رقي، يسكنون غابات الهند وشواطئها قبل التاريخ فدحروا يوما بعد يوم مع تقدم الحضارة فطفقوا ينقرضون بالتدريج.
والهند، كما ذكرنا في فصل سابق، بلد مغلق عسير دخوله، فتفصلها جبال همالية والبحار عن بقية العالم، ويتعذر الاقتراب من شواطئ خليج البنغال بسبب ارتداد أمواجه إلى الوراء، ومن المحتمل أن دفعت الرياح الموسمية زوارق أناس من أفاقي أفريقيا إلى سواحل بحر العرب فوقفت راكبيها جبال كهات الغربية التي كان يحتمي بها أهالي الهضاب العزل، فكان يمكنهم أن يقاوموهم من غير خطر.
والهند، إذ لم يفكر في غزوها من البحر لذلك السبب، لم يدخلها الفاتحون إلا من جبال همالية العظيمة الواقية للهند على طوال واسع، والتي توطؤ في طرفيها فيتسع وادي برهما بوترا في شرقها وادي كابل في غربها طائفين بها.
من ذينك الواديين انقض غزاة آسيا على سهول الهندوستان الخصيبة في غضون القرون، وأكثر هؤلاء الغزاة وأرهبهم جاءوا من الغرب؛ لسهولة سلوك وادي كابل أكثر من وادي برهما بوترا الذي يمر من بقاع مجهولة الأمر قاسية مانعة من سير الإنسان بنباتها الأشعث وجوها الموهن.
ومع ما تراه من اختلاف ذينك الواديين سماهما الإنجليز باسمين غير صحيحين دالين على أهميتهما الجغرافية والأهلية فدعوا الغربي منهما بالباب الآري ودعوا الآخر بالباب التوراني.
لم يكن الباب التوراني «وادي برهما بوترا» ممرا للتورانيين بالمعنى الحرفي، بل بالمعنى العام، فاسم «التورانيين»، الذي يدل على شعوب التركستان أو توران ومن إليهم، أطلق على العرق الأصفر بأسره في بعض الأحيان، فكان أول من دخلوا باب الهند التوراني قبل التاريخ، فبدوا أول عنصر أجنبي في الهند، أناس صفر جرد زور،
4
ولم يغمر طوفان التورانيين الحقيقيين ذوي الشعر الأملس واللحى الكثة والعيون الأفقية سهول الهند إلا بعد ذلك بزمن طويل، وذلك من الباب الآري.
وقبل أن نتكلم عن أولئك التورانيين، نرى أن نبحث فيما آل إليه العرق الأصفر في الهند وما تركه فيها من أثر.
ابتعد غزاة الهند الأولون عن وادي برهما بوترا، متوجهين إلى الجنوب فوجدوا أنفسهم أمام منطقة الجبال الوسطى الشاهقة المعروفة اليوم بجبال غوندوانا، فكانت هذه المنطقة ملجأ للأهالي السود الذين لم يستطيعوا لأولئك الغزاة ردا، والذين هم مدينون فيما نالوه من الوقاية للجو الخطر القاتل للأجنبي أكثر مما لطبيعة الأرض القفر الكثيرة المصاعب.
وانقلب الغزو الأصفر إلى اتجاهين بعد أن وقف على ذلك الوجه: أحدهما نحو وادي الغنج، والآخر نحو الجنوب سائرا مع شواطئ خليج البنغال.
وأول ما أسفر عنه توالد غزاة آسيا وسود الهند ظهور قدماء الدراويد الذين يعدون سكان الهند الأصليين لتغلب العنصر الفطري، ثم جاء غزاة آخرون فدحروا هؤلاء إلى الجبال فانتشروا في جنوب شبه جزيرة الهند، ثم توالدوا هم وقدماء الدراويد، لا هم والزنوج رأسا، فأسفر هذا التوالد عن ظهور الدراويد أو التمول الذين يبتعدون عن المثال الأصلي أكثر مما تقدم.
وإذا نظرت إلى أثر الغزو الأصفر في عروق الهند رأيته يتجلى في الشمال حيث وادي برهما بوترا الذي ازدحم عليه في قرون كثيرة ما خرج من آسيا الشرقية من الجموع لا ريب، وينتسب إلى العرق الأصفر الخالص مليونا النفس اللذان يسكنان ولاية آسام، ومنطقة البنغال، وإن كان يسكنها مزيج من الآدميين تجد فيها أثر الغزوات الأولى التي اجتاحت بغير عائق سهولها الخصبة، وكلما تدرجت إلى الجنوب سائرا على سواحل البنغال وجدت العرق الأصفر يغرق في طبقات السود القديمة، ويمكن تبين العرق الأصفر في الشمال، حيث يسكن السانتهال مثلا، أحسن من تبينه في المناطق الجبلية الوسطى حيث ظل الكوند والملير والغوند قريبين من المثال الأول، وحيث تجد، على ما يحتمل، حفدة قدماء النيغريتو الأصليين.
ثم تبلغ جنوب الهند الممتد من غوداوري إلى رأس كماري فترى الشعوب الدراويدية التي يعد التمول والتيلغو أهمها، والتي هي نتيجة توالد الأمم الصفر والأمم السود وما امتزج بها بعد زمن طويل من شتى العناصر، ولا سيما العنصر التوراني.
ونحن قبل أن نتكلم عن المغازي التورانية التي جاءت من غرب الهند ، ولننتهي إلى العروق الصفر، نذكر أن سكان هضاب همالية العليا والأودية الواقعة بين هذه الجبال وكاراكورم، خلا وادي كشمير، هم من أهل التبت القريبين من جيرانهم سكان الصين الغربية، ولكننا لا نعنى هنا كثيرا بما أسفر عنه غزو عنيف مفاجئ من النتائج، وإنما نقول: إن هذه الأودية والهضاب جزء من التبت أكثر من أن تكون جزءا من الهند من الناحية الجغرافية، وإن الشعوب التي تقطن فيها هي من أرومة التبت، وتعتنق الدين الذي يعتنقه أهل التبت، وتتصف بما يتصف به أهل التبت من الطبائع والأخلاق، وإنه يسكن لداخ ودارستان وبالتي وبهوتان وجزءا من نيبال تبتيون ذوو وجنات ناتئة وأجفان مزمومة.
ومع أنه يتعذر تعيين الزمن الذي نفذت فيه المغازي من الباب التوراني إلى الهند، ومع أننا لم نر غزوة تمت من هذه الطريق منذ بدء الأزمنة التاريخية نعرف مفصلا تاريخ كثير من الغزوات التي جاءت من آسيا الغربية مجاوزة الباب الآري، وهذا إلى أن أقدم هذه الغزوات ظل مجهولا في مجاهل الزمن، ولم يعرف إلا من نتائجه الإثنولوجية كما عرفت نتائج مغازي الشعوب الصفر.
والتورانيون أشد الغزاة تحويلا لعروق الهند من الناحية الجثمانية، والآريون هم الذين تركوا أقوى الأثر في عروق الهند من الناحية المدنية، فمن التورانيين أخذ سكان الهند نسب أجسامهم وتقاطيع وجوههم، وعن الآريين أخذ سكان الهند لغتهم ودينهم وسجيتهم وطبائعهم، وفي الهند تبصر 170000000 هندوسي يتكلمون باللغات الآرية مع أنك لا تجد من هذه الملايين غير فريق قليل يتصل بالعرق الأبيض الخالص اتصال دم.
والتورانيون أول من قصدوا الهند، فأقاموا في البداءة بجميع وادي السند وبقسم من وادي الغنج، وكانوا كلما زاد عددهم بمن ينضم إليهم من العصب الجديدة أوغلوا في داخل الهند فدخلوا الدكن في آخر الأمر، فاندحر أمامهم الأهلون، كما اندحروا أمام الشعوب الصفر فيما مضى، فاضطر هؤلاء الأهلون الذين عجزوا عن الدفاع إلى الاعتصام بمناطق الدكن الوسطى الجبلية ذوات الغاب والآجام.
ففي تلك الجبال الوسطى يجب، كما قلنا، البحث عن حفدة قدماء السكان، أي قدماء الدراويد أو الزنوج الخلص، وأكثر هؤلاء الشعوب القديمة عددا وأعظمهم أهمية هم الذين يعرفون بالكول، ويقطن الكول في جهوتاناغبور الواقعة في وادي مهاندي الأعلى، ويقسمون إلى عدة أقوام تهندوا، مع بقاء نحو مليون شخص منهم غير مقتبسين شيئا من عادات الدراويد، الذين يسكنون الأودية والسهول، ومعتقداتهم.
ومن لفظ «الكول» الدال على أهم الشعوب الأصلية اشتق التعبيران «الجماعة الكولية واللغة الكولية» الدالان على أكثر سكان المنطقة الجبلية القاطعة شبه جزيرة الهند من خليج كمبي إلى نهر الغنج وعلى لهجاتهم، وفي اتجاه الشرق من هذه المنطقة، على الخصوص، تبدو بكثرة الشعوب الفطرية التي لم تتوالد هي والشعوب الأخرى، ويعيش في اتجاه منابع برهمني الواقعة في شمال وادي مهاندي «أصحاب الأجمة» الذين يعرفون بالدوانغ، فيقولون إنهم أقدم البشر فيبدون وحوشا من كل وجه.
ونحن، إذ نشير إلى اللغة الكولية، نقول: إن اللغات في الهند لا تعين العروق، فالشعب الذي يتكلم باللغة الكولية الخالصة فيسمى بسانتهال لم يكن من سكان الهند الأصلين ما أشبع من العنصر الأصفر، ولا يبحث في الجنوب، حيث تسود اللغات الدراويدية، عن حفدة العرق الآسيوي الشرقي الذي أدخل هذه اللغات إلى الهند، ولا يخرج عن هذا المعنى قولنا إن الشعوب الهندية التي يمكنها أن تعتز بانتسابها إلى أجداد آريين هي أقل الهنود عددا مع شيوع اللغات الآرية أكثر من سواها في الهند.
وحينما دخل العرق الأبيض، الذي نسميه بالعرق الآري، الهند اضطر إلى مقاتلة الدول المنظمة القوية التي أقامها التورانيون، لا الشعوب المتوحشة العزل الهيابة، فقهر ما هو قائم منها في وادي السند، فاستقر بهذا الوادي زمنا طويلا قبل أن يوغل في غرب الهند وجنوبها.
وما كان الآريون ليجاوزوا المنطقة التي تحميها جبال وندهيا قبل الميلاد بخمسة عشر قرنا، وكان استعباد تورانيي الشمال أول ما صنعوه فجعلوا منهم طبقة الويشية «التجار» التي تجيء بعد طبقة البراهمة «الكهنة» وطبقة الأكشترية «المقاتلة»، ولم يجعلوا بعدهم سوى طبقة الشودرا «الزراع» المؤلفة من سكان الهند الأصليين.
حل القرن الخامس عشر قبل الميلاد، فقام الآريون بغزوهم الأكبر الذي اتخذ موضوعا للراماينا «إيلياذة الهندوس»، فأوغلوا في الدكن بقيادة زعيمهم راما، فوصلوا، بعد ألف مفخرة، إلى نهاية شبه جزيرة الهند، فحملوا الناس، ومنهم أهل سيلان، على انتحال شرائعهم.
ومما جاء في أساطير الراماينا أن الآريين حاربوا الغيلان فاستعانوا بالقردة، فقلبوا عروش عبدة الأفاعي ملوك الناغا الأقوياء الأشداء رأسا على عقب، فنرى أن أولئك الناغا هم الفاتحون التورانيون الأولون الذين شادوا في جنوب الهند دولا زاهرة، فعبدوا، هم ورعاياهم قدماء الدراويد، الأفاعي، وأن أولئك القردة الذين أعانوا راما هم أهل البلاد السود.
وكان ذلك الغزو الآري لجنوب الهند حملة عسكرية أكثر من أن يكون استيلاء ما ظل عاطلا من أثر في البلاد المحتلة.
ثم حل القرن الرابع قبل الميلاد، فكانت الهند عرضة لغزو جديد قام به الراجبوت الذين هم آريون على الأرجح، فهؤلاء الراجبوت، «أو أبناء الملوك كما يدل عليهم اسمهم»، الذين هم قوم جسر محاربون أكفاء متماثلون، عرفوا بالأكشترية «المقاتلة» فأقاموا بالمنطقة الممتدة من شرق نهر السند إلى ما وراء آراولي الذي لا يزال يسمى براجبوتانا.
رأينا آنفا أن الغزوات التي جاءت من الباب التوراني الواقع في شمال الهند الشرقي أسفرت عن سيطرة العرق الأصفر الذي توالد هو والزنوج فأكره هذا العرق بعد زمن طويل على الاحتكاك بالتورانيين في وادي الغنج وجنوب الدكن، فبمثل هذا نلخص نتائج المغازي التي أتت من الباب الآري فنقول: إنها أدت إلى استيلاء العروق التورانية على غرب الهند وعلى شمال الهند الغربي، وإن هذه العروق التورانية لم تلبث أن خضعت لصفوة من الآريين فنجمت عن ذلك نتائج خلقية تختلف عن النتائج الجثمانية والمادية اختلافا تاما كما بينا ذلك.
وإذا سرنا من الشمال إلى المنطقة الغربية، كما صنعنا ذلك بشأن المنطقة الشرقية، فكنا في البنجاب وجدنا الجات والغوجر والسك، الذين هم من الشعوب التورانية على ما يظهر، يؤلفون ثلاثة أخماس الأهالي، وأن بقية هؤلاء يقتربون بلون جلودهم من الآريين، وإذا نزلنا إلى ما تحت ذلك رأينا الراجبوت الذين ينتسبون إلى الفصيلة الآرية، وإن لم يكونوا من خلصها، ورأينا أن أهل الكجرات مزيج من مختلف العروق وإن كان العرق التوراني هو الغالب في هذا المزيج، ثم رأينا أن العنصر الآري يقف عند الهضاب التي يشتمل عليها وادي الغنج في الجنوب وعند جبال وندهيا التي تصل إليها، ثم لا نجد للعنصر الآري أثرا تحت هذه المنطقة مع هيمنة نظم الآريين ومعتقداتهم في الغالب، ونجد فيما وراء بمبي، وعلى جانبي جبال كهات، بضعة ملايين من الشجعان المقاتلين الذين هم من أصل توراني فيبلغون عدة ملايين فيسمون بالمراتها، وكلما أقبلنا إلى الوسط أو نزلنا إلى الجنوب وجدنا الحضارة الآرية والسحنة التورانية تذوب في الشعب الدراويدي، ونشأ عن امتزاج تلك العناصر على نسب مختلفة ظهور البهيل الذين دحرهم الراجبوت إلى الجبال فغدوا عنوان قدماء الدراويد الذين أثر التورانيون فيهم قليلا، فكانت منهم قبائل محافظة على تقاطيعها الأولى، فأقاموا بوندهيا الغربية، فبلغ عددهم نحو ثلاثة ملايين، وظهور المهار المتصلين بالجات التورانيين فسكنوا سلسلة جبال آراولي الشمالية فبلغ عددهم 600000 شخص، وظهور المينا المقيمين بمملكة جيبور في وادي الغنج الأعلى فبلغ عددهم نحو 300000 شخص، وظهور الراموسي والدهانغ المقيمين بسفوح جبالي كهات الغربية فتبصر فيهم أثر العنصر الدراويدي كما تشهد بذلك جلودهم الدكن وأنوفهم الفطس ووجناتهم الناتئة.
وبدأت غزوات الشعوب الإسلامية للهند في القرن الحادي عشر من الميلاد، فهذه الشعوب إذ كانت منتسبة إلى أصول شديدة الاختلاف من عرب وفرس وأفغان ومغول زاد اختلاط العروق السائدة لشمال الهند تعقيدا، ونجم عن سلطان المسلمين تغيير عظيم في الطبائع والعادات والمعتقدات والحضارة بوادي السند ووادي الغنج، وإن لم يؤد ذلك إلى ظور عرق جديد من الناحية الإثنوغرافية؛ لعدم تمازج المسلمين وقدماء السكان تمازجا وافرا كافيا.
ونحن، بعد أن أتينا بتلك الخلاصة الخاطفة فقسمنا سكان الهند إلى أربع جماعات كبيرة: «الكولية والدراويدية والتورانية الآرية والتبتية»، نبحث في العروق الثانوية ذوات السحنات المختلفة، ثم نفصل مظاهرها وأصولها وعاداتها ودياناتها والأدوار التي مثلتها في مختلف القرون، فإذا ما أتممنا ذلك أمكننا أن ندرس ما يشمل أكثرية الشعب الهندوسي من العادات والطبائع والأخلاق والنظم والحضارات .
هوامش
الفصل الثاني
عروق الهند الشمالية أو الهندوستان
(1) سكان همالية
تعد هضاب همالية الغربية العليا وأكثر الأودية التي تهيمن عليها من التبت، لا من الهند من الناحية الجغرافية، وتعد من أجزاء الهند من الناحية الإثنولوجية.
وتجمعت الشعوب الصغيرة التي تسكن تلك المناطق المنيعة، وبعضها قديم جدا، على شكل جماعات، وجاءت تلك الشعوب من التبت في الغالب ومن الهند في بعض الأحيان، ولكن لا كفاتحة ما كان من طبيعة تلك البلاد الجبلية أن تجعل كل غزو مسلح أمرا مستحيلا، فتفلت أهل تلك البلاد من نير الأجانب حتى الآن، وحافظوا على استقلالهم على العموم.
ويتوارى المثال التبتي شيئا فشيئا في أودية همالية الجنوبية حيث يتصل سكان الجبال بسكان السهول فتتهند الديانة والطبائع، ويمارس السيادة طبقة أريستوقراطية راجبوتية يصدر عنها الراجوات.
همالية الغربية «لداخ، بالتي، دردستان»
يسكن البقاع الجبلية التي يجري فيها ست لج والسند وشيوك من الشرق إلى الغرب، وذلك قبل الانتهاء إلى منفذ في سلسلة همالية الغربية، شعوب تبتية صغيرة ذوات وجوه واسعة وعيون مزورة
1
وشعور سود سندرية
2
ولحى زعرة
3
وأخلاق لينة حسنة نشيطة مرحة، ولا تدين هذه الشعوب بديانة واحدة، فبينما ترى سكان لداخ أو التبت الأوسط بدهيين مطيعين لكهنتهم ترى سكان بالتي أو التبت الأصغر مسلمين مطيعين لأئمتهم.
ويقول أهل لداخ بتعدد الأزواج من الذكور، وينشأ انتحالهم لهذه العادة عن فقرهم، ففي لداخ يجتمع خمسة إخوة أو ستة أخوة، في الغالب؛ ليعولوا امرأة، ويؤلفوا أسرة، وأما البالتيون، وإن لم يكونوا أغنياء، فلم يتخذوا هذه العادة؛ لتحريم الإسلام إياها، وينزح أناس كثرون منهم، عن بؤس، إلى سهل الغنج فيكونون عمالا مأجورين لدى الإنجليز، فإذا ما جمعوا مالا قليلا عادوا إلى جبالهم ومساقط رءوسهم؛ ليقضوا فيها بقية أعمارهم، وإذا ما أثروا تزوج الواحد منهم غير زوجة.
والمنطقة التي يبدأ نهر السند بالجري من شمالها إلى جنوبها مجولا حول شوامخ ننغا بربت تعرف بدردستان، ويسكن هذه المنطقة أناس يختلفون عن أولئك، فما يتصفون به من القامات العالية والوجوه البيضية الناضرة يدل على أصلهم الآري، وهم، مع إسلامهم يقولون بنظام الطوائف، ومن أكثر الطوائف احتراما عندهم طائفة الصين التي ورد ذكرها في شرائع منو وفي المهابهارتا، فظن بعض علماء أوروبا، على غير حق، أنها تدل على نسب بين أهل دردستان وأهل الصين، ومن الدرديين يتألف أشراف دردستان الذين يستعبدون سكان البلاد الفطريين أو الدوم القاطنين في الأصقاع الممتدة إلى البنجاب والقسم الشمالي من راجبوتانا، والمتصفين باسوداد جلودهم كجلود همج الهند الوسطى والمعدودين أنجاسا عند البراهمة والمسلمين، وما عند الدرديين من عادات وثنية شاهد على قدمهم، وفي بلادهم أنصاب كثيرة تشابه أنصاب بريتاني، ويتصف الدرديون وسادتهم بالخلق الحر وحب الفخر، ولم يتم قط إخضاع ياغستان التي تقيم بها إحدى قبائلهم فيسميها الإنجليز «البلد المتمرد».
ويرى بين لهجات دردستان ولغات الأفغان وجه قرابة.
وادي كشمير
جميع البلاد التي ذكرناها من أعمال راجه كشمير، فإذا نزلنا إلى منطقة كشمير الأصلية، أي إلى الوادي البالغ طوله ثلاثين فرسخا، والبالغ عرضه عشرة فراسخ، والمشهور في العالم كله بجمال مناظره، ووفرة نباته، وجدنا عرقا يختلف عن عروق المناطق المحيطة به، فيجب أن يطلق اسم الكشامرة على سكان هذا الوادي، لا على مختلف القبائل المجاورة له.
ويشتهر الكشامرة من الناحية الجثمانية بين أهم سكان الهند وأكثر الناس بياضا، وتشتهر نسوتهم بالجمال.
فللكشامرة جلود ناعمة ملونة قليلا، وأنوف قنو، ولحى وشعور كثة، وقامات مربوعة، وأجسام ضليعة.
وتدل سيماهم على الاعتداء أكثر من أن تدل على الشجاعة، وهم على جانب عظيم من الاستعداد الفني، فهم الذين يصنعون الشالات المشهورة في العالم بأسره والآنية النحاسية المزينة بالميناء، فلم توفق أوروبا لتقليدها حتى الآن.
شكل 2-1: زعيم ناغي «من جبل آسام».
ويمكن عد سكان وادي كشمير، أو طوائفهم العليا على الأقل، وذلك من الناحية الإثنوغرافية، حفدة لآريين، كانت تجري في عروقهم دماء تبتية قليلة.
ويدين الكشامرة بالإسلام منذ الفتح الإسلامي مع محافظتهم على نظام الطبقات، ويتكلمون بلغة ممزوجة من الفارسية والسنسكرتية.
قبائل أقطار همالية الدنيا
لندع مناطق همالية العليا المغلقة جانبا، ولنمر من الفلوج
4
الضيقة المؤدية إلى سهول البنجاب الواسعة؛ لنرى زمرا صغيرة كثيرة نتدرج بها من التبتي القاطن في الهضاب البائرة إلى الهندوسي المقيم بالبنجاب الخصيبة، أي من البدهي إلى المسلم أو عابد وشنو.
وليس من المفيد ذكر قبائل تلك المنطقة مفصلا ما اختلطت جميع العروق والعبادات في الشيباليين والبهاريين والغاديين والكولو والغوجر، وبينما يتوارى العنصر الأصفر من هؤلاء نكتشف فيهم أثر العنصر الأسود أحيانا، وتتألف طبقتهم الأريستوقراطية من الراجبوت على العموم.
وأكثر تلك الشعوب الصغيرة من الرعاة، وبعض تلك الشعوب من البدويين، ويقول بعضها بتعدد الأزواج من الذكور، ودين الكثير منها مزيج من الإسلام والبرهمية، ولا يزال بعضها يعبد الأصنام القديمة ويعبد الأفاعي.
ويتصف جو هذه المنطقة وعروقها ولهجاتها بطابع التحول، وفيها تمتد سلسلة شيوالك، وهي تقع بين منحدرات همالية المهيمنة الجليدية في الغالب وسهول وادي السند المحرقة.
نيبال
تشابه المنطقة المسماة «نيبال» منطقة كشمير باشتقاق اسمها من واد ضيق صغير، وبأنها مركز للقوة والحضارة في البلاد، ويحيط الوادي بعاصمتها كهات ماندو القائمة في القسم الشرقي منها، ويبلغ طول مملكة نيبال 700 كيلو متر ويبلغ عرضها 125 كيلو مترا، وتقع مملكة نيبال بين سلسلة همالية الأساسية وطلائع الجبال المسيطرة على سهل الغنج، والتي تبدو منطقة ترائي على حرفها.
ويسكن منطقة نيبال قبائل مختلفة في أصولها ولهجاتها، فبعض هذه القبائل من أصل تبتي، وبعضها نتيجة توالد أناس من التبت أو من السكان الأصليين وأناس أتوا من جميع أجزاء الهندوستان، ومن هؤلاء المهاجرين أناس من الراجبوت، أي من أشرف شعوب الهند، وأناس متوحشون مشابهون لكول جهوتاناغبور وولاية أوريسة، والأهالي الذين يعرفون بالغوركها هم وليدو الامتزاجات الأولى، والأهالي الذين هم وليدو الامتزاجات الأخرى هم من قبائل نيبال المجاورة لسكم.
وتنتسب أكثرية الأهالي الذين يقيمون بوادي نيبال، أي بالمنطقة الضيقة التي تحيط بها الجبال، وتشتمل على كبريات مدن مملكة نيبال، إلى فرعين مختلفين: فرع النيوار الذي هو وليد العرق الأقدم، والذي ظل سيد نيبال إلى نهاية القرن الأخير، وفرع الغوركها الذي استولى على نيبال في نهاية القرن الأخير.
وبقي الغوركها من قبائل نيبال المحاربة قبل أن يصبحوا سادة وادي نيبال، ويزعمون أنهم من حفدة الراجبوت الذين هاجروا إلى نيبال فرارا من الفتح الإسلامي، وهم، مع كونهم من أصل هندوسي، لم أر إلا الأقلين منهم لم يحملوا أثرا ظاهرا من الدم التبتي، على أن اسم «غوركها» لا يدل على عرق معين، بل يدل في نيبال على أناس من كل طبقة وأصل غادروا ولاية غوركها النببالية؛ ليفتحوا بقية نيبال.
ويقسم الغوركها إلى عدة طوائف، وأسمى هذه الطوائف هي طائفة الأكشترية التي هي وليدة تزوج الراجبوت بنساء القبيلة الفطرية المعروفة بكهوس.
ويعد الغوركها نواة أهالي نيبال المحاربين، ثم انضم إلى هذه النواة قبائل محاربة أخرى نذكر منها المغر والغورنغ، إلخ. الذين يتجلى المثال المغولي فيهم أكثر مما يتجلى في الغوركها.
ويهاجر الكثيرون من قبائل نيبال المحاربة؛ ليستخدموا في الجيوش الإنجليزية، فيسمون فيها باسم الغوركها العام مع عدم صواب هذه التسمية.
وإلى غزاة الغوركها يعود الفضل في خضوع نيبال لسيد واحد كما ذكرنا آنفا، والغوركها قوم عسكريون، وليس الغوركها أهلا لغير ما يمت إلى الأمور العسكرية بصلة، فتراهم يزدرون الصناعة والزراعة والتجارة، ولا تجد فيهم أثرا للذوق الفني، وهم نقيض النيوار في القابليات.
والبرهمية هي ديانة الغوركها، ولغة الغوركها المعروفة بالبربتية هي لهجة سنسكرتية ممزوجة بكلمات تبتية، وتكتب لغة الغوركها بالحروف السنسكرتية.
ويتألف من النيوار الذين خضعوا للغوركها جمهور الوادي، والراجوات الذين هم من عرقهم هم الذين ملكوهم عدة قرون فامتلأت مدن نيبال في عهدهم بالمباني العجيبة.
والنيوار، وإن كانوا كالغوركها نتيجة توالد الهندوس والتبتيين، بدا أثر أهل التبت أظهر من أثر الهندوس فيهم، فلما أتيح لي أن أدخل وادي نيبال كان بين حاشيتي خادم رافقني في زيارتي لمختلف أقطار الهند من غير أن يعلم شيئا عنها، فسألني، حينما وطئت أقدامنا أول قرية نيبالية واقعة على الحدود، عن وصولنا إلى بلاد الصين ظانا أن نيبال من الصين؛ لما رآه من مشابهة سكانها للصينيين الذين شاهدهم معي في بمبي.
ويتكلم النيوار باللغة النيوارية المختلفة عن البربتية التي هي لغة الغوركها، وإن كانت ممزوجة مثلها من السنسكرتية والتبتية، واللغة النيوارية وحدها هي لغة نيبال التي لها آداب.
والنيوار عاطلون مما اتصف به الغوركها من الروح العسكرية، وتجد عندهم، مع ذلك، ما ليس عند هؤلاء من الأهليات الزراعية والصناعية والفنية العظيمة، وبفضلهم أقيم ما يملأ الوادي من المعابد الطريفة المزينة بالنقوش العجيبة فنشرنا لها عدة صور في هذا الكتاب، وبلغوا من إتقان حفر الخشب درجة لم تفقهم معها أوروبا كما أرى، ومن دواعي الأسف أنهم لم يلاقوا من الغوركها، الذين هم سادتهم في الوقت الحاضر، ما يشجعهم، فترى متفننيهم يزولون بالتدريج فلا تجد منهم اليوم أكثر من اثني عشر رجلا قادرا على حفر الخشب أو الحجر بمهارة، فالحق أن فن البناء في نيبال دخل دور الانحطاط، وما تشاهده فيها من الآثار المهمة صنع قبل الفتح الغوركهائي.
وتجد ثلث النيوار من أتباع شيوا وتجد ثلثيهم من البدهيين، وتجد هؤلاء وأولئك من القائلين بنظام الطوائف.
بهوتان وسكم
تقع دويلتا بهوتان وسكم المستقلتان في شرق نيبال، أي في منطقة همالية، ويعد سكانها من فصيلة الآدميين الذين يقطنون في الهضاب العليا، ويعدون، كذلك، من التبتيين فيشتق اسم «بهوتان» من كلمة «بود» التي تعدل كلمة «التبتي».
ويرى الإنجليز أن أهل سكم أرقى من سكان بهوتان بمرح أخلاقهم، ولا تبصر في الهند شعبا أنيسا مثل أهل سكم، ويمارس هؤلاء الذين هم من شباه البرابرة بعض فنون اللهو والتسلية، ويزمرون بما يأخذ بمجامع القلوب، ومن محاسن لغتهم عطلها من تعابير القذع والشتم، فدل ذلك على لطفهم ودماثتهم.
وأهل سكم من القائلين بتعدد الأزواج من الذكور على العموم، ويدينون بالبدهية، وتكثر في سفوح جبالهم أديار الكهنة، وتبنى هذه الأديار من مواقع رائعة، وتسيطر على مناظر ساحرة.
وسكان بهوتان أقل مرحا من جيرانهم أهل سكم، ونجم ذلك عن البؤس الشديد الذي ألقتهم فيه حكومتهم المستبدة المرهقة، فالذي يود منهم أن يملك نتيجة عمله يترك بلده ليخدم الإنجليز. ويشابه دينهم ولهجاتهم دين أهل سكم ولهجاتهم، ويقولون مثل هؤلاء بتعدد الأزواج من الذكور، ويملكهم الكاهن الأكبر وقائم مقام دون الكاهن سلطانا وإن كان يدعى بالملك.
ولا تتجلى في أهل سكم وأهل بهوتان سحنات أهل التبت الخالصة إلا في الأودية العليا، فإذا ما نزلت إلى السهل أبصرت اختلاطهم بأهل البنغال اختلاطا، وتزل معه الملامح والعادات الأولى. (2) سكان آسام
آسام، كما نعلم، جزء من وادي برهما بوترا تابع لإمبراطورية الهند الإنجليزية خلا شبكة مصبه المعقدة التابعة للبنغال، والتي تختلط فيها مياه هذا النهر بمياه الغنج.
ويتوارى مجرى برهما بوترا الأعلى في البقاع غير المرودة
5
التي يحجزها عن الحضارة جو هائل فظلت الملجأ الأخير للهمجية في ذلك القسم من العالم، ومما ذكرناه، في الفصل الذي وصفنا فيه أقطار الهند، أنه لا ينزل في أي قسم من العالم القديم مطر ثجاج
6
كالذي تنزله رياح الجنوب الموسمية إلى آسام، فما ينشأ عن هذا المطر من الرطوبة المرهوبة الموجبة للنبات الأشعث والعفونة القاتلة يحمي استقلال سكان آسام العليا المتوحشين، بيد أن صولات الطبيعة هذه مشئومة على هؤلاء، فهم إذا كانوا يتقهقرون يوما فيوما إلى أشد أراضيهم وباء وأقلها صلاحا للزراعة ينقص عددهم بلا انقطاع فيزولون أمام حضارة تمنعهم جبلتم الدنيا من ملاءمتها على الدوام.
شكل 2-2: جماعة من الكول «همالية»، «وادي بياس الأعلى».
وجميع تلك القبائل «الآبور والمشمي والسنغبور» المقيمة بضفاف برهما بوترا والقبائل «الناغا والغارو والكهاسيا» المقيمة بالجبال الواقعة على الضفة اليسرى من ذلك النهر ذات مثال واحد تقريبا وهي فروع لعرق واحد.
ويصعب تعيين هذا العرق، ويلوح لنا، مع ذلك، أنه أقرب إلى الفصيلة المغولية منه إلى الفصيلة الملايوية، فما تراه فيه من ملامح الوجوه وانخفاض الأنوف وغلظ الشفاه وازورار
7
العيون واسوداد الشعور السندرية
8
واللحى المعر
9
يدل على قرباه من العرق الأصفر، وما تراه فيه من الجلود السود يذكرنا بالعرق الملايوي.
والحق أن العنصر التبتي المغولي هو الغالب فيه، ومن الطبيعي أن تجده باديا في جوار الثغرة الشمالية الشرقية التي فاضت منها طوفانات العرق الأصفر إلى تلك البقاع في عدة قرون، وهذا إلى أنك تجد في الأقسام الجبلية أناسا يشابهون مثال الشان في بن ماني، أي مثال الآسيويين الشرقيين الخلص كالذين يسكنون سيام والهند الصينية، فاحتمل أن يكون أولئك قد أتوا منهما.
ولجماعة الكهاسيا الصغيرة المقيمة بحوانب جبال كهاسي ظاهرة عجيبة تجد مثلها في الباسك الساكنين جبال البيرنة الأوربية، وذلك أنهم يتكلمون بلغة لا يمكن ربطها بأية فصيلة من اللغات المعروفة، فهذه اللغة ذات المقطع الواحد تبدو مطوقة غريبة بين مختلف اللغات الهندية التي يسهل تصنيفها.
وأشد الشعوب التي ذكرناها توحشا هم الآبور والغارو، فأما الآبور: فإنهم يعيشون عراة، ولا يمنعهم هذا من أن يحبوا الحلي ويزينوا نساءهم بنطق وأطواق تصل
10
لأقل حركة، ولا يعرف الآبور الزراعة، ويأكلون الفواكه واللحم، وليس عندهم من السلاح غير النبال والرماح والسيوف، ويدينون بأغلظ ضروب الوثنية، ويعدون عنوان الأجيال الفطرية الأولى. وأما الغارو: وهم قوم جبليون، فلا يزوالون يضحون بالقرابين البشرية، وتجد لهؤلاء الوحوش، مع ذلك، بعض المزايا كالصدق مع الأصدقاء والأعداء، والوفاء بالوعود، وازدراء ما يرونه في البنغاليين، المقيمين بالسهول الواقعة تحتهم، من الغدر والختر
11
والخنث
12
والخبث، وليس بعيدا الزمن الذي كانوا ينزلون فيه إلى تلك السهول؛ ليقبضوا على بعض البنغاليين فيذبحوهم حول ما يكرمونه من جثث الموتى. واحترام الغارو للموتى يستوقف النظر كثيرا؛ فالغارو، إذ يرون أن حرق الجثث هو ما يكرم به الموتى، وأن هذا الحرق يتعذر في فصل الأمطار، يحفظون جثث موتاهم في العسل في أثناء ذلك الفصل إلى أن يحل فصل الجفاف فيحرقوها فيه.
والناغا، الذين يدل اسمهم على «الأفاعي»، يذكروننا بسادة الهند الجنوبية الأقدمين الوارد ذكرهم في الراماينا بأنهم عباد الأفاعي، ومن المحتمل أن كان بينهم وبين قدماء الدراويد قربى ما بدو سودا، ويبدون قوما محاربين متمتعين بالاستقلال الكامل.
والكهاسيا هم الشعب المتوحش الوحيد الذي يتصل بصلة التجارة بالبلاد المجاورة، ويزرع أراضيه الجبلية، ويبلغ درجة ضعيفة من الحضارة، ويقيم الكهاسيا بقرى كبيرة، ويبدون ملاحا صلاحا ذوي أفراح وأنغام محكمة عند الشرقيين، ويعلك الكهاسيا عشبة تحمر أسنانهم ويعتذرون عن ذلك ب «أن البنغاليين والكلاب ذوو أسنان بيض»، ومن أغرب عاداتهم أن يرموا بيضات؛ ليكون لهم من انتشار صفارها الفأل أو الطيرة،
13
وترى طرق قراهم مملوءة بقشور البيض، ولا يأكل الكهاسيا ما ينتجه دجاجهم من البيض؛ لما في البيض من مصادر ثمينة لمعرفة الغيب.
وتدين بالوثنية جميع القبائل الوحشية التي ذكرنا طبائعها وعاداتها ذكرا خاطفا، والنكاح عند هذه القبائل من أقل النظم حرمة، ولنسائها حق السيطرة على الأسر، وحق نقل الأموال وتحويلها، وحق الاعتراف ببنوة الأبناء، ولهن شأن كبير في الحكومة أحيانا.
شكل 2-3: تيمور لنك «كما جاء في مخطوط هندي قديم»، «مكتبة فيرمان ديدو».
ولا يزال الغارو محافظين على بعض العادات القديمة التي سنفصلها حين البحث في بعض شعوب الهند، ويقسم الغارو إلى قبائل صغيرة تدعى بالمهار أو الأمومات، وكانت تمارس السلطة في كل واحدة من الأمومات امرأة فيما مضى، فيمارسها اليوم رئيس «لشكر» منتخب من بين أكثر من يملكون عبيدا، على أن توافق النساء على نصبه، ويستشيرهن في غير مسألة. والفتاة هي التي تخطب الفتى في المهار تبعا للعادات القديمة، وفي الغالب يغصب رجال المهار الخطيب غصبا مصنوعا ما كانت الزوجة القادمة ملك المهار، ولا يرث الابن في المهار إلا بعد عمته وأبناء عمته، ويكثر الطلاق في المهار فيظل الأولاد فيها ملصقين بأمهم، ولا يعرف الأولاد أباهم في الغالب، أو يعيشون قريبين منه مع عدهم إياه أجنبيا.
وتلك العادات المنحطة، التي ستزول بزوال العروق الطريدة الضعيفة التي تمارسها، والتي لا تزال بادية في جبال آسام، تتوارى وتمحي عند النزول إلى السهل حيث يكون القوم هندوسيين مختلفين، مثالا ولسانا ودينا وأخلاقا، عن البنغاليين الذين يمتزجون بهم شيئا فشيئا.
ونحن حين نربط أهالي بقاع آسام الدنيا بأهالي وادي الغنج نصف هؤلاء الأهالي فندخل الهند الحقيقية بهم. (3) سكان وادي الغنج
لا تجد في الخلاصة التي ذكرنا فيها مختلف عروق همالية وآسام العليا ذكرا خاطفا ما يمكن تسميته بالهندوسي ولو بوجه عام أو مبهم.
ونحن حين ندخل وادي الغنج نجد أنفسنا في صميم بلاد الهندوس ؛ أي بلاد الشعوب البرهمية التي يجري في عروقها دماء قدماء الدراويد ودماء تورانية ودماء آرية على نسب متفاوتة غير منتظمة.
شكل 2-4: الملك المغولي أكبر «كما جاء في مخطوط هندي قديم»، «مكتبة فيرمان ديدو».
والسهل الواسع الذي يشقه نهر الغنج وروافده هو من أكثر بقاع العالم خصبا وسكانا؛ ففي هذا السهل تجد 140000000 شخص يخرجون من ترابه بسهولة منابع أنعمهم ومعايشهم، وليس في تضاعف هؤلاء الآدميين وتكاثفهم بما قد لا تراه في بقعة من الدنيا ما يجعل تلك الأراضي العجيبة غير كافية لاحتياجاتهم.
والفاتحون الذين تزاحموا على الهند من شمال غربها ومن شمال شرقها انتشروا في تلك المنطقة المدهشة، فنبصر في وادي الغنج مختلف العناصر التي تجدها في تركيب عروق شبه جزيرة الهند الكثيرة، فتشاهد اختلاط هذه العناصر في وادي الغنج أشد مما في أية بقعة أخرى، وهذه العناصر إذا كان من شأنها أن تسفر عن مثال واحد أو قومية واحدة فإنك قد تجد هذا المثال في أرياف ضفاف الغنج، ويتجلى هذا المثال في فلاح «شودري» بهار أو أودهة الذي انتقل إليه من أجداده قدماء الدراويد اسمرار جلده، والذي انتقل إليه من غزاة توران الأولين جرد
14
وجهه العريض وأكثر ملامحه ودقة أعضائه، والذي انتقل إليه من الآريين زهوه وفخره وتوقد ذهنه وخياله الديني والاجتماعي.
والحق أن العرق القاطن في وادي الغنج مؤلف من ثلاثة عناصر أساسية، والذي يمنع هذا العرق من أن يكون خالصا هو اختلاط هذه العناصر فيه اختلاطا غير متسق،
15
فإذا كان العنصر الآري سائدا للغرب في أودهة فإن العنصر الأصفر هو السائد للشرق في البنغال، وتقع بين هاتين الولايتين ولابة بهار التي تختلف عنهما وضعا ومنظرا وسكانا، وكلما صعدت من مصب الغنج إلى منبعه وجدت المثال الهندوسي يشرف خلقا وخلقا.
وأسوأ ما تتجلى تلك الاختلاطات في البنغالي، فيبدو البنغالي صغيرا هزيلا أسمر الجلد قصير الأنف واسع الفم أسود الشعر أمعر
16
اللحية، ويتصف بذكاء كاف لهضم ما يعلمه، ويشتهر بالمداهنة والمداجاة والفتور والنذالة .
وجلود أهل بهار سمر، ويقتربون من المثال الأوربي بملامحهم، ولا أثر فيهم مما في البنغاليين من الخداع والدناءة.
ويظهر أهل أودهة شعبا راقيا، ويجد المرء فيهم المثال الآري شائعا؛ لما يراه فهم من استدارة الوجه المنير، وانسجام الملامح، وارتفاع القوام، والاعتزاز بالنسب.
ويتألف ثمن سكان أودهة من البراهمة، أي من حفدة قدماء الآريين، ويكثر الأكشترية «المقاتلة» أو الراجبوت في أودهة، ويملك هؤلاء أراضي واسعة فيها، ويفتخر زراعها بانتسابهم إلى عرق الإله كرشنا.
شكل 2-5: الملك المغولي شاهجهان يستقبل «كما جاء في مخطوط هندي قديم»، «مكتبة فيرمان ديدو».
وتعرف الولايات الثلاث التي ذكرناها آنفا نظام الطوائف كما في بقية الهند، ولكن أحقر طائفة في أودهة تحتقر أعلى طائفة في البنغال، فترى الصعلوك السائل في أرباض
17
بنارس يترفع عن الأكل من مائدة البرهمي في كلكتة، وترى هذا البرهمي يعد من الأحلام أن يتزوج ابنته فلاح غليظ من ضفاف غوغرا.
ويتجلى تأثير الإسلام في وادي الغنج على عكس التأثير الآري، فهو يزيد من الغرب إلى الشرق ومن منبع هذا النهر إلى مصبه، ويتألف من المسلمين عشر أهل أودهة وسبع أهل بهار وثلث أهل البنغال، بيد أن الهندوس الذين اعتنقوا الإسلام لم ينفصلوا عن إخوانهم من البراهمة بسبب إسلامهم، فهم يفترقون مثل هؤلاء إلى طوائف، وتجمع أهم الشعائر الدينية بين أتباع تينك الديانتين في الغالب.
وتبصر، مما تقدم، عناصر متقاربة في وادي الغنج يرجى صهر كل منها في شعب متجانس يوما ما؛ لما بين أقصى مثلها من حلقات متصل بعضها ببعض اتصالا يكاد يكون غير محسوس، فبينما تجد في أقسام الهند الأخرى شعوبا مختلفة أشد الاختلاف مع تجاورها، ترى في وادي الغنج عناصر كثيرة منسبكة تقريبا، فترى البنغاليين يعدون أنفسهم فيه من جنس واحد، وترى مثال طبقاته العليا واحدا مشابها لمثال الطبقات العليا في الهند الصينية، وترى طبقاته الدنيا تبتعد عن العرق الأصفر، وترتبط في العروق الفطرية الأولى، وفي قدماء الدراويد والكول.
قبائل وادي الغنج الأدنى المتوحشة: السانتهال والملير، إلخ
يوجد بين الشعب المتجانس الذي وصفناه آنفا جماعات متفرقة من شباه الوحوش ، ولا يعد أكثر هؤلاء من سكان وادي الغنج تماما من الناحية الإثنوغرافية والناحية الجغرافية، وسندرس أمرهم حينما نبحث في شئون إخوانهم من سكان الولايات الوسطى، وما نقوله هنا هو في أمر بعض تلك الجماعات التي لا يجوز الإغضاء عنها الآن ما ظلت من سكان وادي الغنج، وما تكلمنا في هذا المطلب عن هؤلاء السكان.
والملجأ الأخير للهمج الذين أقاموا بشبه جزيرة الهند فيما مضى هو، كما ذكرنا، جبال الهند الوسطى الواقعة في جنوب نهر نربدا ونهر سون والفاصلة بين الهند الشمالية والدكن، فأمام فقر هذه المنطقة وقسوة منظرها وخطر جوها تقهقر الفاتحون، وتهبط منحدراتها الأولى العاصية غير المرودة
18
إلى ضفاف الغنج حيث ينحني هذا النهر العظيم ليتوجه إلى الجنوب، وتعين الضلع التي تحدد مجرى هذا النهر شواهق راج محل المشرفة على الجبال الوسطى، فهنالك، في وسط الهند المتمدنة بين بهار والبنغال، نجد في حال شبه وحشية وشبه طليقة الملير والسانتهال، وهنالك، نحو الجنوب، في جوانب جهوتاناغبور، نجد في حال شبه وحشية وشبه طليقة الأوراون والمندا والكول، أي أكثر شعوب آسيا فطرة على ما يحتمل.
فلندع الآن جانبا أمر هذه القبائل الفطرية الثلاث الأخيرة التي سنتكلم عنها بعد قليل، ولنذكر شيئا عن السانتهال والملير كما يأتي: يقطن الملير أقسام جبال راج محل العليا، ويعرفون بالبهاريين أو الجبليين، ويمكن عدهم مزيجا من سود الدراويد ومن الأهالي الصفر، ولم يتأثروا بالآريين قط، ويجهلون معنى الطائفة، ويشابهون دراويد جنوب الهند كثيرا، ويتصفون بأنسهم ودماثتهم وصدقهم الذي هو مضرب الأمثال، فمن أقوالهم المفضلة: «البين
19
ولا المين.»
20
ويسكن الملير أكواخا كبيرة مصنوعة من سيقان الخيزران المزينة بإتقان ومؤثثة بمتاع ذي أفنان، ويعبد الملير النجوم وقوى الطبيعة والملائكة الذين يقطنون، على زعمهم، في الأجواء، ويبني الملير بيتا كبيرا عاما لشباب كل قرية، حيث يمارسون ضروب الرياضة والبأس، ويقيمون في بعض الأحيان، فلجأ الإنجليز إلى الحيلة؛ لقهر الملير أكثر مما إلى القوة فوجدوا أن النقود والوعود خير من السلاح في إخضاع الملير.
والسانتهال أكثر من الملير عددا وأعظم أهمية، ويسكن السانتهال منحدرات الجبال والسفوح التي يقطن الملير في أعالي جبالها، وللغة السانتهال طابع خاص ما بدت أم جميع اللغات الكولية، والسانتهال أشد الفطريين تأثرا بالعنصر الأصفر، والسانتهال نتيجة اختلاط الصفر بالسود.
والسانتهال خفاف لطاف مكرمون للأضياف، فترى أمام أكواخهم الهيف «صفة الغريب» حيث يجد المسافر حسن القرى.
والأسرة السانتهالية متينة التركيب، ويختار الأزواج عند السانتهال بعضهم بعضا طوعا على أن يكون الزوجان من عشيرتين مختلفتين، ويقول السانتهال بمبدأ تعدد الزوجات في حالة عقم المرأة فقط، ويندر الطلاق بينهم.
والسانتهال يكنون احتراما كبيرا لنسائهم فيحلونهن
21
ويظهرون ما يروقهن ويتملقونهن بالعناية بأنفسهم وتزيين أشخاصهم، وديانة السانتهال وشعائرهم بسيطة إلى الغاية، فهم يعبدون الشمس والأجداد، ورب الأسرة السانتهالية كاهنها، ورب الأسرة هذا إذا ما احتضر علم ابنه البكر، وهو على فراش الموت، الأدعية التي تلين بها الآلهة والطقوس التي تجلب البركات من السماء.
والسانتهال يحرقون موتاهم، والسانتهال يحفظون، مع ذلك، عظاما من موتاهم ليرموها في مياه نهر دامودر المقدسة، والسانتهال يحافظون على شرفهم وأعراضهم كثيرا، فيعد ارتكاب المنكر أعظم جرم عندهم، فمن يقترفه يعاقب هو وعشيرته بالطرد من حظيرة القوم.
والسانتهال زراع ماهرون، وللسانتهال أذواق البدويين، فإذا ما استنفدوا خصب أرض تركوها وأحيوا غيرها، ولكن المدى الذي يقدرون على التيهان فيه يقل شيئا فشيئا بسبب تكاثرهم السريع وتطاول الإنجليز، وما أصاب السانتهال من زيادة بؤس حملهم، منذ بضع سنين، على المثول بين يدي حكومة كلكتة ظانين أنها تتدبر أمرهم، فلما وصلوا إلى مكان مناسب أطلق الرصاص عليهم إطلاقا منظما، واليوم يهجر سانتهال كثيرون جبالهم؛ ليبحثوا عن عمل لهم في السهل، واليوم ينزح بعضهم من وطنهم إلى ما هو أبعد من السهل.
ومن الفطريين نرى السانتهال والملير وحدهم يعيشون أمة في وادي الغنج، وفي وادي الغنج تجد أهالي منثورين هنا وهنالك يعرفون بال «قلي» فيستخدمون أجراء وعمالا وموظفين صغارا في دواوين الحكومة.
ونذكر، قبل أن نترك وادي الغنج، أن جميع مدنه المهمة، خلا كلكتة، قائمة في النصف الغربي منه، وأن قسمه الشرقي المشتمل على البنغال هو أرض حرث وزرع، وأن سكان هذا القسم مبعثرون في أكواخ ظريفة محجبة بالأشجار غير متجمعة في مراكز كبيرة كالتي ترى على ضفاف الغنج العليا. (4) سكان البنجاب
يحتوي وادي السند، الذي سندرس أمر سكانه، على ثلاثة أقسام: البنجاب في الشمال والسند في الجنوب وراجبوتانا في الشرق، ويقطن في هذه الأقسام الثلاثة أمم مختلفة.
والبنجاب الذي كان الطريق الكبرى لجميع ما عرضت له الهند من المغازي ذو سكان مختلطين غير مصهورين بدرجة انصهار سكان وادي الغنج، فتبدو فيه العناصر الآرية والتورانية والمسلمة متخالفة، ولا تجد فيه أثرا للعنصر الدراويدي أو العنصر الأصلي، والإسلام هو الدين الذي يسود البنجاب، وللإسلام أثر بليغ في براهمة هندوس البنجاب الذين يظهرون بإيمانهم الفاتر سبة لدى إخوانهم في بقية الهند.
وأصل سكان البنجاب توراني، وهو مؤلف من الجات على الخصوص، فعلى هذا الأصل الواسع تنضدت طبقة آرية تعدل نصفه وأقلية مسلمة ضعيفة.
ومن المحتمل أن كان الجات سادة البلاد حين الغزو الآري، مع أن الجنرال كننغهم يرى، في كتابه «تخطيط آثار الهند» الذي يعد حجة في الموضوع، أن الجات من العنصر الهندي الشيثي، وأنهم أتوا الهند بعد الفتح الإسكندري، فالذي لا ريب فيه أن هؤلاء التورانيين الفطريين أو الهنود الشيثيين امتزجوا قليلا بمن دحروهم إلى الجبال من الدراويد، وبمن خضعوا لهم مؤخرا من الآريين؛ فنجم عن المصاهرات القليلة التي تمت بين تلك العروق أمثلة مختلفة بين الجات، فترى فيهم أناسا شديدي الإسمرار، وترى بينهم أناسا منيرين كالراجبوت.
ولنقل، قبل البحث في أمر الجات ذوي الشأن المهم في الهند، بضع كلمات عن آريي البنجاب الذين كان لهم نفوذ بالغ، وفوز لغوي واضح مع قلة عددهم.
من الطبيعي أن يكون المثال الآري الخالص في شمال البنجاب الغربي حيث المنفذ المسمى بالباب الهندي الآري، ويتجلى هذا المثال في الأفغان الإيرانيين الذين يعرفون باسهم البتهان، فيشابهون كثيرا أهل دردستان وأهل كافرستان، ويظهرون ذوي صلة بسكان وادي كشمير، فهم ذوو لون صاف وأنوف قنو ووجوه بيضية وشعور شقر أو خمرية
22
وعيون بلج
23
وما إلى ذلك من الأوصاف النادر وجودها مجتمعة في أناس من أهل الهند حيث الشعور السود والعيون الدكن.
24
ويستقر بجانب جبال همالية الأوان والغكر الذين أريد نسبهم إلى الإغريق، فعلى ما في هذا من شك فإن الذي لا مراء فيه هو أن أولئك من العرق الآري الخالص، وينتسب الدغرا وبعض القبائل الأخرى إلى العرق الفاتح أيضا، فإذا ما نزلت إلى الجنوب وجدت أناسا كثيرين من الراجبوت، ويقيم معظم الراجبوت بالمنطقة المستطيلة المسماة بمنطقة الراجبوت، وسنصف أمر الراجبوت في مطلب آخر، فلندعهم الآن جانبا.
ويقطن في قسم همالية المشرف على البنجاب وفي الأودية المنحدرة إلى البنجاب جماعات من التبت وصفناها فيما تقدم فنكتفي بالإلماع إليها هنا، والآن نصل إلى الجات الذين هم أهم شعوب البنجاب ووادي السند.
فعلى ما في الجات من بعض المثل المتباعدة التي هي وليدة امتزاجات نادرة نرى الجات يتصفون بالطول وتناسب الأعضاء وذكاء المنظر والاسمرار واتساع الأنوف وارتفاع طرفها وقناها
25
أحيانا وصغر العينين وأفقيتها ونتوء الوجنات واسوداد الشعور وكثفاتها ودقة اللحى وشعوثتها، ونرى نسوة الجات يتصفن بطول القدود مع حسن المنظر وبالبخترة مع الاتزان الناشئ عن ثقل الخلاخل، ويلبس هؤلاء النسوة سراويل ذوات ثني ويدثرن بدثر أنيقة تشتمل على رءوسهن وأكتافهن وتحجب أحيانا وجوههن.
ويقسم الجات إلى ثلاث جماعات دينية: المسلمين المسيطرين على القسم الأدنى من وادي السند والسك أو أتباع نانك المقيمين بالبنجاب وأتباع البرهمية المستقرين بمنطقة راجبوتانا والمنتسبين إلى طائفة الويشية.
وبينما كان الجات يملكون جميع الهند الغربية أغارت عليهم قبائل الآريين المحاربة، فبادر الجات إلى الخضوع، على ما يحتمل، فعاملهم الآريون الغالبون بالحسنى، فأحدثوا لهم طائفة جديدة عرفت بطائفة الويشية التي لا تزال مشتملة، بوجه عام، على أبناء الطبقة الوسطى ولا سيما التجار، مع حصر قدماء الأهالي في طائفة الشودرا المحتقرة.
ولا ريب في أن ذلك كان نتيجة اتفاق أو تراض قاض بجعل سلطان الآريين فوق تورانيي غرب الهند، ولا نزال نجد لهذا الاتفاق أثرا في بعض حفلات التتويج حيث يتسلم الأمير الراجبوتي الصولجان من رعاياه الجات.
وحدث في أواخر القرن الخامس عشر نوع من الإصلاح الديني فظهر مذهب السك الذين غدوا شعبا بعد أن كانوا جماعة من الأشياع والمريدين، وبيان الأمر أن نبيهم نانك حاول أن يجمع الإسلام والديانات الهندوسية في دين واحد، وأن يصهر العروق بإزالة ما بين الطوائف من الفروق، وبإعلانه المساواة بين الناس، فصار جميع الذين اعتنقوا تعاليمه من السك أو من «المريدين»، وهؤلاء كلهم كانوا من الجات تقريبا، فانضم الآريون إليهم فرفعوا بذلك مستوى الجات، ثم أضحى السك شعبا حربيا؛ فنمت أجسامهم بفضل تمارينهم العسكرية، فلم يلبثوا أن تألف منهم عرق باهر يتصف مثاله بالبأس والكيس ونبل الملامح وقوة البيان وانسجام القامة، فالمحارب السكي هو من أمثلة جمال النوع الإنساني حقا.
وزعيمهم الثاني غووندسنغ هو الذي حبب إليهم النظام العسكري، فإذا كان نانك قد هداهم إلى معتقد روحي عال قائل بإله واحد فإن غووندسنغ من عليهم بالفولاذ رمزا ماديا، ما صنع من هذا المعدن دروع مسردة وسيوف مهندة، فعلى السكي المحارب أن يحمل تميمة من فولاذ ولو نزع منه سلاحه.
وكان السك يطيعون زعيما منتخبا منهم، وكانوا يجتمعون في مجالس شعبية للتشاور في الشئون المهمة، ولم يلبث السك أن بدوا قوما أولي بأس شديد فاضطر ملوك المغول والإنجليز من بعدهم إلى مراعاة جوانبهم، فلما كانت أوائل هذا القرن أقام السك في البنجاب دولة مرهوبة، فعامل الإنجليز زعيمهم ملك لاهور المسمى رنجيت سنغ معاملة الند للند، وأجلس زعيمهم هذا على عرش الأفغان ملكا اختاره بنفسه، واليوم عاد السك يكونون، كما في الماضي، طائفة دينية عاصمتها الروحية مدينة أمرتسر المهمة.
وحب التعليم نام عند السك، فلهم جمعيات علمية مهمة نذكر منها جمعية لاهور المشتملة على علماء فطاحل، وما في السك من الروح العسكرية التي لم يخب
26
أوارها
27
جعل منهم ومن الغوركها أحسن الجنود في الجيش الإنجليزي، ومن وقفوا أنفسهم منهم على أمور الزراعة فأكثر الهنود صبرا وعملا، وتقع جميع أراضي وادي السند الصالحة للزراعة بأيديهم، وفيهم يتجلى أرقى زمر الهند الزراعية.
ومن الجات أناس كثيرون حبسوا أنفسهم على التجارة فيمارسونها ببراعة، ويعرف هؤلاء التجار بالملتانيين، نسبة إلى مدينة ملتان التجارية الواقعة بين البنجاب والسند، وليس هؤلاء بمعروفين في الهند وحدها، بل اشتهروا في جميع مدن آسيا الوسطى؛ حيث يسيحون للتجارة على مقياس واسع، ولإذاعة أهم الأخبار وإشاعة أنباء الحرب.
وفي الهند، في البنجاب كما في ضفاف الغنج وفي الدكن، ترى الصيارفة والمرابين والماليين من المارواريين، أي من جات ماروار الواقعة في جنوب البنجاب والتي هي جزء من راجبوتانا، وكلمة «المارواري» في الهند مترادفة هي وكلمة «اليهودي» في البلدان الأخرى، فهؤلاء المرابون الذين يدينون لآجال مختلفة يغتنون على حساب فقراء الهندوس المرهقين بضروب الضرائب، فترى الناس يخشون أولئك ويحقدون عليهم في كل مكان، ولا أجد، لوصفهم، أحسن من أن أقتطف بضع جمل من كتاب طريف دبجه حديثا يراع أحد هندوسي برودة السيد ملباري عن أهالي كجرات، ففي كجرات كما في جميع أقسام الهند يظهر المارواري بمظهر صاحب الأمر والنهي، فإذا ما أثرى تزوج وعاد إلى مسقط رأسه ليقضي فيه بقية حياته. قال السيد ملباري:
لا يقوم المارواري بعمل لا يدر عليه ربحا مائة في المائة، ويحب المارواري الإدانة لآجال بعيدة، والمارواري يدين ويدين إلى أن يصبح المدين قبضته، فإذا ما أفلس هذا المدين حمله على السرقة، فبذلك يحط المارواري ضحاياه كما يخرب بيوتهم، وليس نصف عواهر بمبي إلا من أخوات هؤلاء الضحايا وأزواجهم اللائي عرفن المارواري فاشترين منه بضعة أرطال من السكر لآجال، فأسفر ذلك عن سقوطهن خلقا وخلقا، والمارواري، مع كونه من أتباع وشنو، لا يحترم آلهته، ويفضل دينارا حاملا صورة الملكة على أكثر هذه الآلهة حرمة.
ولا يتعاطى جميع الجات الزراعة والتجارة والمراباة، فبعض الجات ظل من شباه البرابرة والبدويين، ومن الممكن أن يلصق بالجات زراع البنجاب وتجارهم المعروفون ببنجار الهند الذين هم إخوان النور بأوروبا كما يظهر، ويزاول أولئك ما يزاول نور أوروبا من المهن، ويتصفون مثلهم بالجمال الفطري، ويتجولون من بلد إلى بلد ومن كوخ إلى كوخ وينزلون، إذا ما حلوا بمكان، في عرباتهم، ويعرضون للبيع صغير المتاع، ويغنون ويرقصون، ويقصون الأقاصيص. (5) سكان الهند وراجبوتانا
إذا ما نزل المرء من البنجاب إلى مجرى السند بلغ السند حيث يكثر الجات والمسلمون والسك والجينيون، ويتألف عنصر السكان الآخر الأساسي من البلوجيين الذين هم شعب جبلي مشابه للشعب المقيم ببلوجستان المجاورة للسند، فالبلوجيون هؤلاء من المسلمين السنيين، ويقسمون إلى عدة قبائل، فإحدى هذه القبائل تدعي بأنها من العرب ويتجلى فيها المثال السامي، وقبيلة أخرى منها لا يندر وجود ذوي شعور شقر فيها، وقبيلة ثالثة منها تعد نتيجة توالد أناس من البلوجيين والجات.
وتتكلم الشعوب التي تسكن وادي السند، على العموم، بلغات من أصل سنسكرتي، وأهم هذه اللغات هي: البنجابية والسندية والماروارية، فلا تجد فروقا كبيرة بينها.
وراجبوتانا هي القطر الواسع الممتد من السند إلى مداخل أغرا ومن جنوب البنجاب إلى ممالك مراتها الممتدة من برودة إلى غواليار، وتشتمل صحراء تهار الكبرى على النصف الغربي من راجبوتانا حيث تغدو وتروح قبائل من شباه الوحوش، ويشق النصف الشرقي من راجبوتانا عدة مجار تنبسط بين أوديتها هضاب وتقوم عليها جبال، وسلسلة آراولي هي أهم هذه الجبال، ومن جنوب سلسلة آراولي هذه ينفصل إلى الجنوب الغربي شاهق آبو الجليل.
وما في راجبوتانا من شذوذ أرض، كالذي ذكرنا، حال دون امتزاج عروقها مثلما وقع في وادي الغنج ووادي السند المبسوطين، فقد ظلت هذه العروق مختلفة اختلاف الأودية والهضاب والجبال، ففي ضفاف الأنهر تتجمع أكواخ الجات التورانيين والزراع، وعلى الهضاب تقوم صياصي
28
الراجبوت الآريين المحاربين، وعلى المنحدرات العالية وفي الغابات الوعرة يدافع البهيل عن العادات القديمة والحريات الوحشية.
وأطلق اسم الراجبوت على القطر الذي كانوا سادته، والراجبوت لا يزالون يبدون فيه شعبا مهما من الناحية العرقية، والراجبوت منتشرون، مع ذلك، في شمال الهند خلصا أو متوالدين هم وسواهم.
والراجبوت وإن كان التاريخ غير مصدق لما جاء في أساطيرهم حول قدم أصلهم، هم عنوان أجمل عروق الهند وأصفاها، فالراجبوت ذوو قدود هيف عالية وجلود سمر نيرة وعيون نجل
29
شهل
30
وأنوف قنو ومناشق لطيفة ذات رج وشعور سود كثة متجعدة ولحى طويلة جثيلة،
31
والراجبوت يطلقون في الغالب شعور الوجنتين والعارضين بإفراط ثم يجمعونها في أعلى الرأس ليعقدوها هي وبقية الشعور، وتتصف نسوة الراجبوت بالحسن الرائع على العموم.
وبين الراجبوت تجد أقدم طبقة للأشراف في العالم، فراجه أودي بور وحده هو الأمير الذي يمكنه أن يفتخر بأنه سليل أجداد يملكون منذ أكثر من ألف سنة.
ونجهل تاريخ قدماء الراجبوت جهلنا لتاريخ ممالك الهند القديمة الأخرى، بيد أن ما ورد في أساطير الهندوس من مفاخر أبطالهم وقتالهم المرهوب للمسلمين، وما عانوه من حصار مخيف ولا سيما حصار جتور الذي حرق النساء في أثنائه أنفسهن بالألوف حذر الأسر والذي فضل الحماة في أثنائه أن يقتلوا جميعهم على التسليم، يثبت قيمتهم التالدة،
32
وللراجبوت أن يزهوا بشجاعتهم إزاء جموع الهندوس ذوي الجبن على العموم.
والمسلمون حينما استولوا على الهند وجدوا الراجبوت مقيمين بجميع مدن الشمال وبسهل الغنج إلى منطقة البنغال الحاضرة، فكان الراجبوت يملكون لاهور ودلهي وقنوج وأجودهيا، إلخ، وكانت المنطقة التي يملكونها ممتدة في الشمال من نهر السند ونهر ست لج إلى نهر جمنة بالقرب من أغرا، وفي الجنوب إلى جبال وندهيا، أي كانت شاملة لجميع شمال الهند الغربي.
فأما دحر الراجبوت من البقاع الخصبة التجئوا إلى منطقة راجبوتانا الحاضرة التي هي أمنع من تلك وأسهل منها دفاعا.
شكل 2-6: مسلم من دهلي يصنع وشاحا.
وتقسم أملاكهم إلى تسع عشرة دويلة يملك الراجبوت منها ست عشرة، ويقوم بشئونها رؤساؤهم، ودويلة أودي بور هي أهمها.
والراجبوت حاربوا المسلمين بنجاح إلى القرن الرابع عشر، وهم لم يصبحوا مهددين بجد إلا بعد أن خسروا عاصمتهم جتور، وهم لم يندمجوا، مع ذلك، في الدولة المغولية إلا في عهد الملك أكبر، ولم يكن هذا الاندماج، مع ذلك، إلا صورة، لا حقيقة، ما حافظوا على استقلالهم الناقص، فالملك أكبر ترك لهم، بالحقيقة، نظمهم منعما على زعمائهم بمراتب عالية في جيوشه متزوجا ببنات منهم، ثم سار خلفاؤه على سنته في ذلك.
ودستور دويلات الراجبوت القديم وحده هو الذي كتب له البقاء مع تقلبات السياسة في غضون القرون، وعادات الراجبوت وحدها هي التي لم تتحول بالمؤثرات الأجنبية، فنحن، إذ نبحث في هذا الدستور وهذه العادات في فصل آخر، نرسم حضارة قسم كبير من الهند حوالي القرن العاشر من الميلاد، فمن العبث إذن، أن نفصل هنا أمور ذلك الشعب الشامل للنظر.
وتشتمل منطقة راجبوتانا، خلا أولئك الراجبوت والجات الذين تكلمنا عنهم آنفا، على شعوب من شباه الوحوش جديرة بالدرس كما يأتي:
شباه الوحوش من سكان راجبوتانا: البهيل والمينا، إلخ
يعد البهيل الذين يقيمون براجبوتانا وبالبقاع المجاورة لها من أقدم عروق الهند، ومن البهيل نزع التورانيون شمال غرب الهند، فاقتسم هذان الشعبان وادي السند زمنا طويلا، ولم يكن دحر البهيل إلى الجبال إلا نتيجة الغزو الراجبوتي الآري الذي وقع في القرون الأولى من الميلاد، كما يرى بعض المؤرخين، ولم يقهر البهيل الغلاظ المتوحشون من غير مقاومة مع ذلك، والبهيل ألقوا الرعب، عدة قرون، في قلوب الراجبوت بانقضاضهم عليهم من ملاجئهم العالية، ولا يزال ملوك الراجبوت يحافظون منذ القديم على مظهر التولية من بهيلي كرمز احترام للبهيل الذين كانوا سادة البلاد الأقدمين، وذلك بأن يجرح البهيلي الهمجي إبهامه وأن يلطخ بما يسيل من دمه جبين الأمير الجديد.
وعلى ما يدل عليه هذا الرمز من اتفاق ذينك الشعبين يمقت البهيل الهندوس، والبهيل يغتنمون، على الدوام، فرصة محاربة الإنجليز للراجبوت فيوجهون إلى هؤلاء سلاحهم، والبهيل عرضوا في سنة 1857، حين اشتعلت ثورة السباهي، خدمهم على الحكومة البريطانية.
وليس البهيل عرقا خالصا، فمن البهيل الذين يترجح عددهم بين مليونين وثلاثة ملايين لا تجد سوى مليون واحد ظل صافيا تقريبا، وترى البهيل يفتخرون بصفاء عروقهم مع أن العكس هو الأجدر ما بدا البهيل الذين تجري في شرايينهم دماء تورانية أنبل من خلصهم، وهنا نلصق بالبهيل شعبين مقيمين براجبوتانا، وهما: المينا والمهاير، فنقول: إذا كان العنصر الأصلي غالبا في البهيل فإن العنصر التوراني مساو للعنصر البهيلي في المهاير غالب في المينا.
والمنطقة التي استقر بها البهيل بعد أن طرد بعضهم من راجبوتانا هي منطقة جبلية كثيرة الغاب ممتدة من شمال جبال كهات الغربية إلى جنوب جبال آراولي، ومن خليج كمبي إلى الجزء الأوسط من وادي نربدا ووادي تابتي، وفي جبال وندهيا وسات بورا، على الخصوص، مأواهم، وفي هذا المأوى بدوا مستقلين إلى الآن، وعديدهم كثير في جبال كجرات وفي وادي ماهي النهر الصغير الذي يسيل إلى خليج كمبي.
والبهيل سود قباح شوه فطس ذوو عيون صغيرة زور
33
ووجنات ناتئة قليلا وقامات مربوعة مع خفة وقوة، والبهيل عراة ولا يضعون سوى فوط حول الكلى ومرس حول شعورهم السود الملس الطويلة، ويتألف سلاحهم الابتدائي البسيط من حراب ومزاريق ورماح وأقواس وسهام يرمونها بمهارة فيقابلون بها حتى الأنمار، ويعيشون من صيد البر والبحر، ويسمون مجاري المياه برب اليتوع فيدوخ السمك بذلك فيسهل إمساكه.
ويعرف البهيل النظام القبلي السياسي الفطري كما يعرفه الراجبوت، وتقوم القبيلة من الوجهة النظرية على وجود جد واحد لجميع أفرادها، ويندر، حتى عند الآريين، دخول بيضة
34
القبيلة، ما لم تقض ضرورة الجوار أو ضرورة الدفاع بأن يدخل القبيلة غرباء الولاء، وكلما سهل الأمر غدا النظام القبلي مرنا متحولا إلى النظام الشعبي، وأبواب القبيلة مفتوحة عند البهيل بعض الفتح، فإذا ما أتى توراني أو راجبوتي من أهل السهل منكرا فأطل
35
دمه التجأ إلى البهيل في الجبال فتقبلوه بقبول حسن، ما كان معنى كلمة البهيل «الأطلة».
36
شكل 2-7: جنود من الراجبوت.
والزواج بين أفراد القبيلة الواحدة محرم عند البهيل، وعلى الغريب الذي يود الزواج أن تتبناه إحدى القبائل، فإذا تم له ذلك سهل عليه أن يتزوج فتاة من قبيلة أخرى، والفتاة إذا ما سبيت
37
لم يفكر المستبون في تزويجها بأحدهم قبل أن تعد واحدة من إحدى القبائل التي لا يجوز لها أن تتزوج بواحد منها، فمثل هذا اليسر الممزوج بالعسر يثبت في وقت واحد ميل البهيل إلى تكوين أنفسهم، مثل جيرانهم الأكثر منهم تمدنا، ودرجة عروقهم
38
في البداوة الفطرية.
ونكاح البهيل يتم ببساطة؛ فالعروسان يتواريان بضعة أيام في الغاب ثم يعودان فيعربان عن اقترانهما، ويندر وقوع الطلاق عند البهيل.
ويعرف البهيل الذين يسكنون قرى محصنة بالبال، ويعرف ساكنو هذه القرى بالبلاري عند أهل السهل، والبلاري، فضلا عن البهيل والمهاير والمينا، ليسوا من الأنجاس عند الهندوس مع أنهم لا ينتسبون إلى طائفة.
ودين البهيل فطري فطرة أخلاقهم وعاداتهم، فالبهيل يعبدون الشجر ويضعون في أسفله ألواحا صغيرة؛ لتكون هياكل تخضب بالدم أو بمغرة
39
رمزا إلى الحياة، ويكن البهيل احتراما عظيما للإله القرد هنومان، وهذا ما يستوقف النظر ما كان ذلك القرد الوهمي رفيق البطل الآري راما فأعانه على فتح الهند ونزعها من أهلها الأصليين.
ونعد من سكان راجبوتانا شباه الوحوش المهاير والمينا الذين تكلمنا عنهم آنفا، فهؤلاء هم الحلقتان اللتان يتصل بهما البهيل المتوحشون بالجات المتمدنين، ويقيم المهاير والمينا بجبال آراولي الواقعة في راجبوتانا، ويبلغ عددهم مئات الألوف، وينشئون، كالبهيل، قرى منيعة، ويحافظ أكثرهم على عاداتهم في النهب والسلب مع حثالة الجات والراجبوت فيؤدي هذا الاختلاط إلى تحسين مثالهم الذي يقترب عند المينا من مثال الجات.
ويسير المهاير والمينا إلى الحضارة قدما، فقد أخذوا يحرثون الأرض ويعتنقون البرهمية، ولكنهم لا يمارسون شعائر هذه الديانة إلا باعتدال، فتراهم يقدسون الشجر والهياكل الحجرية والحديد كإخوانهم البهيل، وهم يتكلمون بلغة هندية مع أن بهيل الوسط يتكلمون بلغة مشابهة للغة الغوند. (6) سكان الكجرات وشبه جزيرة كاتهياوار
تمتد الكجرات إلى جنوب راجبوتانا، وتشتمل على قسم من اليابسة غني خصيب حافل بالمدن الزاهرة كالمدن: برودة وسورت وأحمد آباد، وعلى قسم ساحلي جبلي، وعلى شبه جزيرة كاتهياوار التي يفصلها خليج كمبي عن ذلك القسم.
شكل 2-8: بندت هندوسي من أودي بور.
ويسكن الكجرات، التي يبللها البحر ويقصدها التجار من جميع أنحاء الدنيا، خليط من الآدميين؛ ففي الكجرات تجد زمرا من البراهمة المراتها والراجبوت والجات، وتجد فيها الجينيين، وتجد فيها أناسا من السنيين والشيعة والمجوس والدراويد والكول.
ولا تزال الجبال الواقعة في شبه جزيرة كاتهياوار ملجأ لشعوب متوحشة، على حين ترى هندوسا من أتباع المذهب الجيني يسكنون مدنها وشواطئها، وهذا المذهب المشابه للبدهية هو أكثر مذاهب الهند حبا لإقامة المعابد للآلهة، فتبصر شبه الجزيرة تلك حافلة بنماذج رائعة لفن البناء الهندوسي، فتشاهد فوق جبل شترونجيا الواقع في القسم الجنوبي الشرقي مدينة مؤلفة من معابد للعبادة لا من منازل للإقامة، فإذا قضى المؤمنون مناسكهم تحت قبابها الجبلية وبين أعمدتها المزينة بأنواع النقوش اللطيفة نزلوا إلى مدينة بالي تانا الواقعة في سفح ذلك الجبل المقدس.
وأكثر الناس في الكجرات من أتباع طريقة وشنوية ذات طقوس عجيبة، فتقوم هذه الطريقة على تقديس هؤلاء المؤمنين لثلاثين كاهنا كبيرا يدعون بالمهاراجوات تقديسا مطلقا مع قيامهم بأمور معايشهم، فعلى الكاتب الهندوسي وناشر صحيفة «الإيندين سبكتتر» السيد ملباري أحيل القارئ ليعلم طراز حياة هؤلاء الكهنة وسذاجة مريديهم، قال السيد ملباري:
إن المهاراجة هو الكاهن الذي يؤله، أي الذي يتجسد فيه وشنوكرشنا فيقف عليه كل وشنوي تقي جسمه وروحه وملكه وأهله وتوابعه.
شكل 2-9: أناس من المينا «قبييلة شبه متوحشة في راجبوتانا».
وإليك بعض ما يجبيه المهاراجة من عباده الأتقياء: خمس روبيات «نحو عشرة فرنكات» للتشرف برؤيته، و20 روبية للمسه، و35 روبية لغسل رجليه، و60 روبية للجلوس بجانبه، و50-500 روبية للثواء بغرفته، و13 روبية ليتفضل فيضربه بسوطه، 19 روبية لشربه من غسالته أو غسالة ثيابه القذرة، و100-200 روبية من النساء اللائي يقضين معه روح اللذة.
وأبدى ذلك الكاتب الهندي حول «قضاء روح اللذة» تعجبه من إغضاء رجال غيارى ونساء محصنات العيون عن أعز المشاعر، وأرى، مع ذلك، أنه ليس في الأمر ما لا يمكن إيضاحه مع وقفه للنظر، فقد ظل الإيمان الديني أقوى العوامل في توجيه النفوس على الدوام، فهذا الإيمان يعلم الإنسان أن يحتمل كل شيء وأن يقتحم كل شيء، وبالإيمان استقبل الشهداء ضاحكين لهب النار وبالإيمان أقام الفاتحون أعظم الدول.
هوامش
الفصل الثالث
عروق الهند الوسطى والهند الجنوبية
لقد سرنا في وصف العروق مع التقسيمات الجغرافية التي أوضحنا أمرها في فصل «البيئات »، فذكرنا صفات شعوب الهندوستان الأساسية فانتهينا إلى شعوب الدكن الواسع الشامل للمنطقة الممتدة من نهر نربدا ونهر سون إلى رأس كماري.
وفي الدكن سندرس قبل كل شيء أمر المراتها الذين نستطيع أن نصلهم وحدهم بالغزاة رأسا، ثم نبحث في العروق الدراويدية القديمة التي تختلف عن السكان الذين وصفناهم آنفا، ثم نختم الفصل بدرس أحوال الوحوش المقيمين بالجبال الوسطى، والذين يعرف أكثرهم بالكول، فدرجة هؤلاء هي الدنيا بين عروق الهند، وهي أقدم ممثلي الجنس البشري في تلك الديار. (1) المراتها
يشتق اسم المراتها من كلمة مهاراشترا التي تعني «المملكة الكبرى»، فهذا الاسم والعرق الذي يدل عليه قديمان في الهند إلى الغاية، فلا نستطيع أن نعين بالضبط حدود مهاراشترا القديمة ولا أصل الشعب الذي كان يسكنها، ففي القرن السابع عشر فقط ظهر المراتها على مسرح التاريخ فمثلوا دورا مهما ففتحوا قسما كبيرا من الهند فأقاموا دولة أهلية.
واليوم يتجمع المراتها، وعددهم نحو عشرة ملايين، في شمال الدكن الغربي بين جبال كهات الغربية وجبال سات بورا، ويقيمون بالمنطقة الجبلية المحتوية على منابع نهر غوداوري ونهر كرشنا ومجاريهما العليا، ويعتنقون منذ القديم الديانة البرهمية فيقسمون إلى طوائف، وهذه الطوائف دون سمياتها في الشعوب الأخرى مرتبة، ولا يعد الهندوس المراتها في مجموعهم إلا من طائفة الشودرا، وفي هذا دليل على أن المراتها أبناء عرق غلب في غابر القرون وأذل، ومثال المراتها توراني من بعض الوجوه، شأن الشعوب المتوالدة؛ فالمراتها وسيطو القامات صفر الجلود بارزو الوجنات قليلا صغيرو العيون مرتفعو طرف الأنوف واسعو المناشق، وتتصف نسوتهم بالتماع جلودهن وشعورهن السود الطويلة الكثة.
ويؤلف المراتها جامعة بلديات مستقلة يدير شئون كل واحدة منها رئيس منتخب يدعى بتيل، ويتألف من نواب البلديات مجلس وطني يسمى بنجايت، وبلغ المراتها من الارتباط في نظمهم القديمة ما حمل ملكهم لقب بتيل بعد أن أقاموا مملكة وما ظلت السلطة العليا قبضة ذلك المجلس الوطني.
ونذكر بجانب مراتها كهات الغربية أولئك ممالك مراتها الهند الوسطى، فلا يقيم بهذه الممالك أناس من عرق أولئك في الحقيقة، بل تملكهم، فقط، أسر من أولئك لا تزال محافظة على نفوذ قدماء الفاتحين وسلطانهم، ومملكة غواليار هي أهم هذه الممالك الممتدة مئات الكيلو مترات بين نهر جمنة وجبال وندهيا في راجبوتانا وبنديل كهند وكجرات، وينتسب مهاراجة غواليار إلى أسرة سندهيا الشهيرة التي استطاعت أن تقيم دولة زاهرة على أنقاض الدولة المغولية، وأن تقاوم الغزو الإنجليزي ببسالة، وأن تحافظ على عرشها حين تداعي العروش الأخرى في كل ناحية.
وأسرة سندهيا من أصل وضيع، فهي سليلة راناجي سندهيا الذي كان سنة 1725 يقوم في قصر بيشوابونا بحمل الخفاف فعظم أمره بالحيلة والدهاء، ثم أضحى ولداه مادهوجي ودولت راو بطلي استقلال الهند، فقاما بجهود جبارة لجمع كلمة أهل البلاد ضد غزاة الإنجليز.
والأفاق شيواجي هو الذي أسس دولة المراتها، وجعل من تلك البلديات الزراعية الصغيرة المجهولة الأمر أمة محاربة مرهوبة في القرن السابع عشر، والأفاق شيواجي هذا هو الذي ألف عصابات ذوات بأس شديد؛ فسارت هذه العصابات من الدكن، وألقت الرعب حتى في المدن الواقعة على مصب الغنج، وهدمت الدولة المغولية، ولا تجد اليوم شبها بينها وبين حفدتها خلا راجوات غواليار وإندور المحافظين على بعض ما كان لأجدادهم من نفوذ. (2) صفات العروق الدراويدية العامة
يبدو الدراويد، الذين نبحث في أمورهم الآن، نتيجة توالد سكان الهند الفطريين الأصليين والغزاة الصفر الذين أتوا من شمال وادي برهما بوترا الشرقي، ثم من توالد جميع هؤلاء والغزاة التورانيين الذين جاءوا من الشمال الغربي، ويقسم الدراويد، بحسب النسبة التي تغلب بها عنصرهم الأساسي، إلى فرعين: الدراويد الأصليين الذين هم نتيجة التوالد الأول، والدراويد المولدين الذين هم نتيجة توالد أولئك والتورانيين.
وإذا نظرت إلى القطر الهندي الواقع جنوب غوداوري وجدته دراويدي الطابع، ولا يزال حفدة الدراويد الأصليين يرون في المناطق الجبلية التي التجأ إليها أجدادهم بالتدريج فرارا من تأثير المغازي الأجنبية.
وعلى ما بين الدراويد الأصليين والدراويد المولدين من تفاوت تبصر فيهم كلهم صفات عامة كاسمرار جلودهم وضعف شعورهم واسودادها وملاستها وضخامة أنوفهم واتساع مناشقهم وسفول قاماتهم وشكل جماجمهم التي هي دون المستطيلة، وتبصر فيهم عبادات فطرية واعتقادات خرافية وطبقات طائفية، وما إلى هذه الأمور التي عرفوها قبل غزو الآريين لبلاد الهند على ما يحتمل، ولما قاتلهم الآريون كان عندهم قليل من التمدن كما دلت عليه أقاصيص الراماينا، فكانوا على علم بصناعة المعادن والخزف وإنشاء السفن وحبك النسج وفن الكتابة.
ولا علاقة للغاتهم بالسنسكرت، وقد درسها علماء أوروبا قبل اكتشاف السنسكرت، ولتلك اللغات عدة لهجات، وتقسم إلى أربعة فروع أساسية لكل واحد منها نحو خاص وآداب خاصة، وهذه الفروع الأربعة هي: فرع الكنري ويتكلمون به بالغرب في جبال كهات الغربية وكوكن وملبار، وفرع المليالم ويتكلمون به في ساحل ملبار على الخصوص، وفرع التيلغو ويتكلمون به بالشرق في وادي غوداوري ووادي كرشنا، وفرع التمول ويتكلمون به بالجنوب في ساحل كوروميندل ورأس كماري وقسم من جزيرة سيلان.
وتجد بين الدراويد الذين يقطنون في جنوب الهند من وادي غوداوري إلى رأس كماري أناسا من الهمج مقيمين، على العموم، بالمناطق الوعرة التي دحرتهم المغازي المتتابعة إليها، فهؤلاء هم عنوان السكان الأصليين الخلص أو الذين توالدوا هم والصفر قليلا.
فإذا طرحت هؤلاء جانبا رأيت في هضبة الدكن الواقعة في جنوب نهر غوداوري طبقات كثيفة من العرق الدراويدي يبلغ عدد أفرادها خمسين مليونا.
ولا يقسم أولئك الدراويد إلا من ناحية اللغة مع بعدهم من التجانس المطلق، وجميع الدراويد يسايرون تقدم الحضارة منذ زمن طويل ويدينون بدين البراهمة، ويبدون من طائفة الشودرا. والهمج، على العكس، يعدهم الهندوس نفاية البشر ومنبوذي الطوائف وطريدي العدل وأطلة الدم.
والتمول المقيمون بشرق الهند الدراويدية وبوسطها أمدن الدراويد، وبين التمول تقوم المدينتان مدراس وبون دي جيري، وفي مدراس تطبع كتب التمول بلا انقطاع، وما في لغة التمول من الكلمات الكثيرة والتراكيب الوافرة يجعلها ذات آداب، ويتكلم بهذه اللغة 15000000 شخص، ويتم لها الغلب على الكنرى والتيلغو الدراويديتين، وللتمول كتب وضعت منذ ألف سنة.
وأمة التمول ذات نجدة وشهامة وإقدام واستعداد للتقدم، وعليها يتوقف مصير الهند الجنوبية على ما يحتمل.
ويعيش التيلغو في ساحل كوروميندل سائرين إلى الجنوب، والتيلغو دون التمول مدنية ولهم ما لهؤلاء من العدد.
شكل 3-1: حاجان هندوسيان في جوار مدراس.
والمليالم، ويتكلمون بإحدى اللهجات الدراويدية الأربع المذكورة آنفا، يسكنون ساحل ملبار، والهندوس الذين هم فريق منهم هم، على عكس التمول، هاربون من التمدن ومتمسكون بعاداتهم القديمة.
وتقع كرناتك أو «الأرض السوداء» في وسط الدكن، وتشتمل على مملكة ميسور وعلى جزء من مملكة نظام، ففي تلك المنطقة يتكلم الناس بلغة الكنري التي هي ثالثة اللغات الدراويدية الأدبية، والوسط هو «البلد الأسود» الحقيقي حيث يتجمع التراب الأسود المتفتت من الحجارة البركانية، بفعل سيول الرياح الموسمية وفيضانات الأنهر، والصالح لزراعة القطن.
ونحن، بعد أن درسنا صفات شعوب الدراويد، نبحث في الجماعات المتفرقة التي هي بقية الأهالي الفطريين الخلص كما قلنا. (3) سكان كوكن
يقصد بكلمة كوكن جميع الساحل الممتد من خليج كمبي إلى جنوب غوا حيث يبدأ ساحل ملبار، ويطلق اسم كوكن أحيانا على منطقتين: شمالية وجنوبية، وإلى ذلك البلد المتوجه إلى بحار الغرب وصل منذ زمن طويل تجار وأفاقون من أوروبا وآسيا وأفريقيا، فكان ما نرى من اختلاط سكانه، ولا تجد فيه جماعة ذات مثال جثماني خاص يستحق الذكر، وهذا إلى إنك تشاهد في جوانب جبال كهات بعض القبائل الوحشية التي تسكن الغاب فيتصف أفرادها بخفة ينملون
1
بها في الشجر كالقردة، فينتفعون بها في استغلال النخل التي هي هنالك مصدر ثروة فيكون لهم بها ما يأكلون وما يلبسون وما يسكنون بما يعصرون منها وما يحتطبون وما يجتنون
2
وما يغزلون وما يخصفون، وإلى أصحاب الأيك
3
أولئك حاول تيبو صاحب أن يدخل عادة لبس الثياب ذات يوم، فوزع عليهم بزوزا
4
فتأملوها مذعورين من غير أن يروا استعمالها، فخر أحد زعمائهم باكيا ساجدا على قدمي ذلك السلطان وهو يقول: «مولاي! دعنا نقتد بآبائنا كما تقتدي بآبائك.»
ونساء التير يسترن ما تحت السرر، ومن السبة عندهن أن يخفين صدورهن، فلم تستطع حواضن الإنجليز اللائي يتخذنهن مراضع أن يحملنهن على ترك العري كما عجز تيبو صاحب من قبلهن عن إلباس أولئك الهمج من زراع النخيل ثيابا. (4) سكان شواطئ ملبار «الناير، إلخ »
لشعوب الهند المختلفة نظم وعادات نتمثل بها ما جاوزته الأمم المتمدنة من المراحل والأطوار قبل أن تصل إلى حالها الحاضرة، فنحن، حين نجوب شبه جزيرة الهند، نبصر جميع أدوار الحياة التي مر أجدادنا منها.
والناير القاطنون في ساحل ملبار يزاولون بعض تلك النظم الفطرية التي عاد الغرب لا يعرفها في غير الكتب، فاليوم يستطيع الباحث أن يبحث عند الناير في نظام الأمومة كما كان في فجر التاريخ.
دلت المباحث الحديثة التي عرضناها في كتابنا «الإنسان والمجتمعات ومصدرهما وتاريخهما» على أن نظام الأمومة أول نظام ظهر بعد الدور الذي كانت تعد فيه جميع نساء القبيلة وجميع أولادهن ملك جميع رجال القبيلة، فنظام الأمومة ذلك هو أصل الأسرة، وما كانت الأسرة لتنشأ بغيره، ونظام الأسرة ذلك يجعل الأم زعيمة أولادها، ويمنحهم حق وراثة اسمها وأموالها، فحلت المصالح الفردية القوية بذلك محل المصالح القبلية الضعيفة.
وفي أوائل القرن السابع عشر من الميلاد زار فرانسوا بيرار ساحل ملبار فوصف الناير بما يقرب من حالهم في أيامنا، فذكر أنهم قوم محاربون مقاديم ذوو عادات تذكر الإنسان بفرسان الدور الإقطاعي الأوربي في القرون الوسطى لما وجده فيهم من حب الفخر وشدة البأس والحرص على الاستقلال وخلق الكرم وحفظ الكرامة واحترام النساء.
وكان الناير في القرن السادس عشر من الميلاد أناسا أغنياء أقوياء يملكون مدنا مهمة، فقال ذلك السائح: «يبدو زامورن «تمولي» في كالي كت من أعظم أمراء الهند وأغناهم، فهو يقدر أن يجهز 150000 جندي من الناير، ويعد جميع ملوك الناير المقيمون بذلك الساحل من أتباعه فيطيعونه خلا ملك كوجين.»
والناير من الناحية الجثمانية عرق ذو مسحة من الجمال، فهم ذوو قامات ناهضة وهيئات مليحة وأطراف لطيفة وجلود سمر لامعة.
وتعني كلمة الناير «السادة»، ولا عجب، فالناير تتألف منهم طائفة أريستوقراطية مسيطرة على ساحل الملبار، والناير، وإن خضعوا ذات حين للبراهمة، لم يلبثوا أن رفعوا نير هؤلاء عنهم، ولم يتركوا لهم غير نفوذ روحي ، والبراهمة هؤلاء ليسوا من أصل آري، فلم يعدوا مساوين لبراهمة شمال الهند الآريين ، والناير أنفسهم، وإن كانوا يزعمون أنهم من طبقة الأكشترية، لا يراهم الهندوس إلا من طبقة الشودرا، والناير يتكبرون على الأهلين الذين يحيطون بهم ويتعاظمون على التير الخاضعين لهم مع أن جلود هؤلاء أصفى من جلودهم، والناير يعتلون الموبلا الذين هم عرب مسلمون مخضرمون، والموبلا هؤلاء على جانب عظيم من الشجاعة مع ذلك، فتراهم لا ينفكون، في الغالب، عن مقاتلة سادتهم قتالا لا هوادة فيه ولا رحمة.
وأكثر الأقوام الذين بلغوا شأوا في التقدم جاوزوا نظام الأمومة الذي نراه في الناير، فلا تجد هذا النظام عند غير القليل من الأهلين كالكهاسيا القاطنين في ولاية آسام فتكلمنا عنهم في فصل آخر، وكالناير الذين نتكلم عنهم في هذا المطلب.
ولا تجد في القبائل العريقة في الفطرة أثرا للنكاح، فنسوة إحدى هذه القبائل ملك جميع رجالها، فإذا تطورت هذه القبيلة قليلا أخذت بنظام الأمومة، شأن الناير، فغدت النسوة ملك قليل من الرجال وعهد إليهن في إدارة الأسرة.
والزواج عند الناير قائم على مبدأ تعدد الأزواج من الذكور، ومن المحتمل ألا يكون بدء المظاهر التي تسبقه أقدم من الزمن الذي صارت السيادة فيه إلى البراهمة.
أجل، إن الزواج عند الناير قائم على مبدأ الاقتصار على زوجة واحدة، ولكن أمد هذا الزواج قصير فلا يزيد على بضعة أيام، فالخطيب يجعل في عنق الفتاة قلادة على ألا تنزعها منه، ويدوم زواجها به ما قبلت هذه القلادة وحافظت عليها، فإذا مضت أيام سرح مع جائزة فاسحا في المجال لأزواج آخرين كثيرين.
ولن تصبح الفتاة النايرية ملك القبيلة بأسرها كما هو أمر القبائل العريقة في الفطرة، بل ملك عدد من أفرادها، ولن يزيد عدد أزواج الفتاة عند الناير عن أحد عشر رجلا، والفتاة النايرية هي التي تختار أزواجها ليعملوا على دوام الأسرة، والفتاة النايرية، وهي تقيم مع إخوتها، تقبل أزواجها الكثيرين بالنوبة على أثر اقترانها بخطيبها الأول، والأزواج هؤلاء يغرزون خناجرهم في باب الزوجة؛ ليعلم حضورهم ، وليذكر ما لهم من حقوق المتعة ما ظلوا ذوي حظوة.
ومن الطبيعي ألا ينسب الأولاد الذين هم نتيجة تلك الاقترانات المؤقتة إلا إلى أمهاتهم، وأن يسموا بأسمائهن ما جهل آباؤهم على العموم.
فالمرأة النايرية هي ربة الأسرة الحقيقية، وتمارس سلطان هذه الأسرة بمعونة ابنتها البكر، ولا يعيش معها من الذكور إلا إخوتها وأولادها، فما يكنه الأولاد الذين تنشئهم أمهم وأخوالهم لأخوالهم هؤلاء من الحب يعدل الذي يكنه الأولاد لأبيهم في الأمم الأخرى، والأبناء إذ كانوا لا يتركون أخواتهم تقريبا، فإنهم يحملون لهن من الود ما لا يحملون لزوجاتهم ما كان زواجهم بهؤلاء لا يدوم أكثر من أيام.
ويسهل إدراك السر في تمثيل المرأة، التي تربي أولادها على ذلك الوجه فيرثونها، دورا أساسيا في الأسرة، وفي تلك الأسرة يلي الأولاد درجة الخال والإخوة الذين يعيشون معها منذ عهد الطفولة، ولا يكون للزوج غير شأن ضعيف ما قام عمله على السكن المؤقت مع الزوجة وصولا إلى دوام الأسرة، وليس للمرأة من هم سوى اختيار أقوى الرجال وأجملهم لنفسها، وللمرأة حق مطلق في الاقتران بمن يروقونها، على ألا يكونوا من طائفة أدنى من طائفتها حذر العار والفضيحة.
ومما لا مرية فيه أن يكون بين أولئك المولدين أناس من البراهمة؛ لما لهم من التقديس وقديم النفوذ، فالبراهمة هؤلاء ينتقلون من بيت إلى بيت حاملين بذورا من الدم الغالي ما يرتفع به مستوى العرق الذي يقترنون به.
وللرجال مثل حرية النساء عند الناير، فلنا أن نقول: إن الناير يمارسون نظام تعدد الزوجات ونظام تعدد الأزواج معا، وفقراؤهم، فقط، هم الذين يعملون بنظام تعدد الأزواج من الذكور، فترى كثيرا من الإخوة أو غيرهم يتفقون على التمتع بالمرأة الواحدة، وذلك إلى أن نظام تعدد الأزواج من الذكور شائع في عدة مناطق من الهند، لا سيما في مناطق أقصى الشمال القريبة من التبت وفي أقصى الجنوب حيث القبائل القريبة المجاورة لمدورا، وكان للملكة بكالي كت، في غابر الأزمان، عشرة أزواج مختارون من البراهمة خلا زوجها الملك.
ويظهر أن تعدد الأزواج من الذكور ذلك، وهو مما لا يلائم مبادئنا العصرية، عريق في القدم، فقد ورد في كتاب مهابهارتا أن الإخوة الخمسة المعروفين بباندوا تزوجوا دروبدي الحسناء «ذات العينين اللتين هما كالسدر».
وإذا مات أحد الناير ورثه أولاد أخته الكبرى، لا أولاده، وينتقل إرث الأمم من بنت إلى بنت، كما كان حال السلطة الملكية في تراون كور، والإخوة يستغلون أملاك الأم من غير أن يتملكوا منها شيئا.
ويلائم نظام الأمومة عند الناير مزاجهم النفسي وطرق معايشهم ما حافظوا عليه منذ قرون مع اتصالهم بالمسلمين والنصارى المقيمين بساحل ملبار منذ زمن طويل، ولم يسطع الفتح البرهمي أن يقضي عليه. (5) سكان نل غيري
يسكن طود
5
نل غيري أقوام متوحشون مختلف بعضهم عن بعض بسحناتهم، ونتوصل بالبحث في طبائعهم وعاداتهم إلى تمثل الحال في القرون الخالية، ويقسم هؤلاء الأقوام إلى خمس قبائل مختلفة: التودا والبداغا والكوتا والكورومبا والإيرولا.
ويسكن التودا قمة الطود، وهم أسنى من جميع أولئك، وهم معدودون من الرعاة ويتكلمون بلغة كنرية، ويفترض أن يكونوا قد جاءوا من كنرا منذ ثمانية قرون، ولا يزيد عددهم على ألف.
والبداغا هم مهاجرون أتوا من ميسور حوالي القرن السادس عشر، ولا يختلفون عن سكان السهل إلا بأنهم دون هؤلاء حضارة، وهم أكثر سكان ذلك الطود عددا فيبلغ عددهم نحو 25000، وهم قوم زراع، ويتكلمون مثل أولئك بالكنرية.
وتجد تحت ذينك القبيلين المعروفي الأصل الكوتا والكورومبا والإيرولا الذين لا يزيد عددهم على 3000، فهؤلاء هم، لا ريب، من بقايا الأهالي الأصليين، وإلى أجدادهم يعزى صنع الأنصاب المشابهة لأنصابنا القديمة، ويتكلمون بلهجات دراويدية قريبة من لهجات سكان السهل المتصلين بهم، والكوتا عنوان العنصر الصناعي في الطود، ويمثل الإيرولا الذين يقيمون بالغاب في أسفل الطود أدنى مثل النوع البشري.
والآن نبحث في سحنات هؤلاء الأقوام الذين أشرنا إلى أصولهم وفي طبائعهم وعاداتهم.
شكل 3-2: تودي «نل غيري»، «استعيرت هذه الصورة والصورتان التاليتان من مجموعة بريكس.»
التودا
التودا هم، كما ذكرنا، أسنى سكان نل غيري، وهم يتصفون بطول قاماتهم وكثافة شعورهم السود وكثاثة لحاهم الجعدة وغلظ شفاههم، واستقامة أنوفهم على العموم، وقناها في الغالب ، ورشاقة خطاهم، ولا نستطيع أن نلصقهم بالهمج لدعتهم وطلاقة وجوههم ومرحهم ولطفهم وسلامة سرائرهم وعاداتهم السلمية وحسن الذوق في ملابسهم وصفاء سحناتهم، ونعدهم عنوان الهمجي المثالي، وإن شئت فقل عنوان إنسان الطبيعة الذي راق وصفه روسو ومن على مذهبه في القرن الثامن عشر.
وتجيء كلمة تودا بمعنى الرعاة، ولا يعنى التودا بغير رعاية مواشيهم، وما في نل غيري من المراعي الصالحة يقيت أطيب القطاع، والألبان أهم ما يتغذى به التودا، وبلغ احترام التودا للأنعام درجة العبادة، والبقرة عند التودا هي الحيوان المقدس كما هو أمر البداغا، والزريبة هي كنيسة التودا، ويدعى كاهنهم بالبلال أو اللبان الأكبر، ويرى التودا أن حلاب البقر وصنع الزبد والجبن من أقدس الأعمال الدالة على جلال خلق من يتعاطاها، ويعتقد التودا أن الإلاهة العليا هي بقرة مشهورة النسب، والحبر الأعظم لدى التودا هو أقدم الرعاة في فن تربية الحيوانات والعناية بها.
والبقرة، وهي حيوان التودا المقدس، تشترك في جميع طقوسهم وترأس جميع حوادثهم المهمة، فإذا ولد تودي جعل في حرز القطاع، وإذا مات تودي عرض أمام جثته بقر عشيرته وذبحت اثنتان منها لتتبعاه في ملكوت الأرواح، ويحمل عجل اسمه بساوا خطايا التودا في بعض أيام السنة فيطرد بالعصي إلى الغاب فيكون لهؤلاء القوم بذلك تزكية وتطهير، وفي هذه العادة من المشابهة لأمر تيس العبريين ما لا يخفى على المتأمل.
ويعبد التودا أرواح الأموات، خلا عبادتهم للبقر، شأن الشعوب الفطرية، فإذا قعص
6
أحدهم خيل إليهم أن روحه تعود عطشى للانتقام حائمة حول ما قتل به من السلاح فيكون هذا السلاح المضرج محل احترام لديهم فيحفظونه بين ذخائرهم ومماخضهم وآنية زبدهم وقوالب جبنهم.
ومن خرافات أهل نل غيري الطريفة أن يروا بين الكورومبا، أصحاب الأدغال الغلاظ المتعودين الأبخرة الوبيئة والهالكين في الأمكنة العذية،
7
سحرة ذوي قوة لا حد لها، فإذا أصابت مصيبة أسرة تودية أو إذا اجتاح وباء سوائم بداغا استدعوا، على عجل، كورومباويا وابتهلوا إليه أن يقف الشر الذي أحدثه، فلبى ضراعتهم وأخذ يكثر من الحركات والالتواء ، ثم ارتمى على الأرض زاعقا صارخا.
ويحترم التودا الشجر، أيضا، احتراما دينيا، وبيان الأمر أن نكاحهم، وهو فطري، لا يكون شرعيا إلا إذا بلغ حمل الفتاة، من غير عائق، الشهر السابع للمرة الأولى، فيذهب الزوجان، إذ ذاك، إلى الغابة كي يقضيا ليلة تحت شجرة جميلة من أشجارها جاعلين إياها حامية للطفل القادم، فإذا ولد هذا الطفل أخذ أبوه ورقا منها وثناه على شكل قدح وصب فيه ماء قليلا ثم بللت شفاه الأبوين والطفل به فتم بهذا تأليف الأسرة حقا.
وتسبق بعض المظاهر النكاح مع ذلك، فعندما يختار الفتى فتاة من عشيرته يؤدي إلى حميه القادم نقودا، فيضع حموه هذا رجله على رأسه ويعده ابنا له، ثم يؤتى بالخطيبة إلى بيتها الجديد لابسة ثيابا فاخرة على صوت الأغاني، فتسجد أمام زوجها فيضع هو والأقارب أرجلهم على رأسها، ثم ترسل لتبحث عن جرة ماء فإذا فعلت هذا الأمر اليسير قامت بشئون المنزل خادمة.
والنكاح الذي يقع على ذلك الوجه يدخل دور التجربة، ولا يعترف به إلا في الشهر السابع من الحبل الأول حين تميس
8
الفتاة في وليمة فاخرة عارضة أمام الجميع تغير قدها فيربط زوجها بعنقها شريطا يدعى بتالي الناير.
شكل 3-3: كوتاوي «نل غيري».
والتودا من القائلين بتعدد الزوجات وتعدد الأزواج معا، وذلك بأن يتزوج رهط من الإخوة رهطا من الأخوات، فيكون لكل زوجة أزواج إخوة ويكون لكل زوج زوجات أخوات، فالفتى يكون بذلك قد تزوج مع زوجته أخوات زوجته كلما بلغن مكتفيا بما تعهد بدفعه إلى كبراهن من المال، ويكون لإخوته حق مشاركته في زوجاته الأخوات على أن يدفعوا نصيبا مما اتفق على تأديته.
والانتحار بسبب الحب ليس من النادر، على ما يظهر، عند أولئك الأقوام الفطريين، ولا سيما عند البداغا، مع ما في نكاحهم وطلاقهم من يسر، أقول هذا وأنا أرى ضرورة وضعه على محك النقد.
والأولاد يوزعون بحسب العمر على أزواج أمهم، فأكبرهم يكون من نصيب الزوج الرسمي، ويكون الولد الثاني من نصيب عمه الأكبر، ويكون الولد الثالث من نصيب عمه الثاني، وهكذا.
وتنزع هذه العادات الفطرية إلى الأفول عند التودا، فالغني منهم يشتري لنفسه زوجة، فأضحى أمر تعدد الأزواج من الذكور مقصورا على طبقاتهم الدنيا.
والأولاد عند وفاة والدهم يقتسمون تركته بالتساوي مع احتفاظ أصغرهم ببيت أبيه على أن يسكن فيه نساء الأسرة ويعولهن.
شكل 3-4: رهط من الإيرولا «نل غيري».
9
ولا يعرف التودا من مبدأ التملك غير ما يحتفظ به المرء لنفسه من بيت ومتاع، فالأراضي عندهم مشاعة، وهم لا يزرعونها، بل تكون مراعي لمواشيهم ما أعرض التودي عن الفلاحة.
ولا يعرف التودا من أمور الصيد شيئا، ولا يحملون سلاحا لذلك، ولا يفكرون في الهجوم ولا في الدفاع، ويكتفون بصنع أبواب أكواخهم واطئة جدا درءا لما قد يعرضون له من الغزو.
والتودا، كالبداغا، يسكنون القرى، مع أن الكوتا والكورومبا يقيمون بخصاص
10
حقيرة، ويقطن الإيرولا في الكنس
11
والأحجار
12
وتحت الأشجار كالأيائل والظباء.
البداغا
لا تجد في البداغا ما تجده في التودا من حسن المنظر والأخلاق والكياسة والنبل، فالبداغا أقصر قامة من التودا وأشد سواد جلود منهم، والبداغا ذوو شعور قليلة ولحى معرة
13
وأنوف مفلطحة
14
وشفاه غليظة، ويتصف البداغا بالمراوغة والقسوة والشح وتعاطي الأفيون، ويبدون أكثر الشعوب الخمسة التي تسكن نل غيري عددا، ويقومون بزراعة تلك المنطقة الغنية من غير أن يمنعهم ذلك من أن يكونوا رعاة، وللبداغا عقائد مشابهة لعقائد التودا، ويرتبطون في مجموع عباداتهم في دين البراهمة مع ذلك، ويقدس البداغا لنغا، ويعبدون شيوا في صورة ثور، وفي نكاح البداغا ما في نكاح التودا من يسر العقد، وفيه ما في نكاح هؤلاء من التعقيد في عدد الزوجات والأزواج، ويتماثل ذانك الشعبان في الطقوس تقريبا، ويختلفان، مع ذلك، فيما يدخلان إليها، في الغالب، من مظاهر السرور والألم، ويشوب تهانئهما شهيق وزفير، ويتخلل رقصهما نياحة ونحيب، ويقومون بجنائزهم مع سكر وعربدة.
الكورومبا والكوتا والإيرولا
تختلف هذه القبائل الثلاث عن القبائل المذكورة آنفا من الناحية الإثنولوجية، ونتمثل بها قدماء السكان الأصليين، وتتصف بالضعف وبسواد الجلود وازبئرار
15
اللحى وخشونتها وصوف الشعور وبرمها وغلظ الشفاه واستواء الصدور وطول الذرعان وقصر السيقان، ووجد بعض السياح شبها عظيما بين هذه القبائل وسكان أستراليا الأصليين.
ويسكن الكورومبا أكواخا كبيرة في سفح الطود، حيث يجتمع عدة أسر، ويخاف البداغا والتودا من الكورومبا المساكين ويزدرونهم في وقت واحد، وقد يغمى على نسوة البداغا والتودا ذعرا عندما يباغتهن أناس من الكورومبا، ويعد الكورومبا من السحرة؛ لما في جيرانهم من السذاجة وسرعة التصديق، فيوسعون ضربا أكثر من أن ينالوا نشبا.
16
ويزاول الكورومبا مهنا كثيرة قليلة الإنتاج كالعرافة والسحر والغناء مع الطواف، ويمدح أهل السهل الكورومبا أجراء، ويعرف الكورومبا شيئا من الفلاحة، ويثيرون الأرض بعصي مذربة.
17
وليس الكوتا بأرقى من الكورومبا كثيرا، ويعيشون مثلهم عيش بؤس، ويعرفون عدة مهن، وتتألف منهم طبقة العمال بين أهالي الجبل، ولا يغتني الكوتا بسبب اتضاع حرفهم، ويتضورون جوعا على الدوام، فلا يشبعون إلا في رأس كل سنة، فيخلطون ما استطاعوا جمعه من القوت فيلتهمون في ثمان وأربعين ساعة ما تحتمله معدهم منه.
ويجيء الإيرولا في أدنى تلك الدرجات، ويعيشون في آجام نل غيري، ويتصفون بجلودهم السود وأذرعهم الطويلة وسوقهم النحيلة وشعورهم الخشنة المنتفشة وظهورهم الحدبة، ويتنفسون من هواء منطقة ترائي الوخيم النحس الذي مرنوه
18
فأصبح ضروريا طيبا لديهم، فإذا ما غادروا ملاجئهم العفنة حينا وتنشقوا نسام
19
التلال والسهول الصافية وهنوا وماتوا.
والمتوحشون المحيطون بالإيرولا يزدرونهم زاعمين أنهم يعيشون مع الأنمار، وأن أولادهم يشبون في حيص بيص بين صغار السباع.
وللإيرولا فضيلة واحدة، وهي سلامة الطوية، فمن المحتمل أنهم لم يبلغوا من الذكاء ما يقدرون به على الكذب، فما يقولونه من كلام مجرد أصدق مما يقوله البراهمة مع اليمين المؤكدة.
شكل 3-5: أمثلة من أهل الكجرات.
وصناعة الخيزران هي كل ما يعرفه الإيرولا من المهن، ويتألف غذاؤهم، على الخصوص، من الجذور والفواكه والحبوب البرية. (6) سكان جنوب الهند الوحوش
تشتمل جبال أنامالا القائمة في جنوب جبال نل غيري على قبائل وحشية مماثلة لتلك مع استثناء التودا كما ذكرنا آنفا.
والكادر هم سكان جبال أنامالا الذين يمارسون الصيد، ويزعم الكادر أنهم أمراء الجبال، ويرون من السبة أن يزرعوا الأراضي، وترك أمر الزراعة إلى الملسار، ويقوم الباليار بالرعي والتجارة، ويرخي الباليار هؤلاء شعورهم الكثيفة النافرة فتصل إلى كلاهم فيكتسبون بذلك منظرا وحشيا، ويرى علماء وصف الإنسان إلصاق هذه العروق بزنوج جزائر الملايو.
ولا تزال توجد جماعات وحشية من سلالة قدماء الدراويد في جنوب الهند، فهي تشابه الشعوب التي وصفناها فيما تقدم بمنظرها وعاداتها وأعمالها وديانتها الوثنية وعبادة الأرواح، وإليك قولا موجزا عن هذه الجماعات:
الجنار:
ويقيمون بأقصى جنوب الهند وبجنوب تراون كور ورأس كماري، ويبلغ عددهم 500000، ويدين من هؤلاء مائة ألف فقط بالنصرانية، ويعبد الباقون أرواح الأموات، ويرى الناظر إلى مداخل قراهم أهراما صغيرة يضعون عليها نذورا من فواكه وحبوب وأزهار؛ لتجلب إليهم حماية الملائكة، ويتعاطى الجنار زراعة النخيل وحدها، وتقوم النخيل بجميع احتياجاتهم على ما في استغلالها من عسر ونصب، ويتكلم الجنار بلغة التمول كجيرانهم الإيلاوا الذين لا يختلفون عنهم في شيء.
الكانيكهار:
ويسكنون أعالي جبال أليغري التي تمط إلى الجنوب طود أناملا، وينشئون مساكنهم الخفيفة بين أغصان الأشجار حفظا لهم من الضواري، ويجهلون نظام التملك، وأموالهم مشاعة، وقد انتقلوا، مع ذلك، من نظام تعدد الأزواج من الذكور إلى نظام الاقتصار على زوجة واحدة الذي لا تجده عند همج الهند إلا قليلا.
النياديش:
ويسكن بعضهم حول كالي كت، ويقيم بعضهم الآخر بجوار بحيرة بولي كت، ويبدون أشد وحوش جنوب الهند بؤسا، ولم يزالوا، إلى وقت قريب جدا، يوقدون النار بدلك غصنين يابسين أحدهما بالآخر.
الكولر:
ويسكنون مناطق كوئم بتور ومدورا الجبلية، ولم يقلعوا عن العادات المضرجة إلا منذ زمن قصير، فكان الواحد منهم، إذا أراد أن يجلب النحس والتعس إلى عدوه يذهب بأحد أولاده ليذبحه على عتبته. (7) سكان الولايات الوسطى أوغوندوانا
فرغنا من وصفنا المختصر لعروق جنوب الهند، فنرى أن نصعد في شمال الدكن وننظر إلى جبال غوندوانا الواقعة في وسط الهند والتي لم ترتد حتى اليوم، فتشتمل على حفدة قدماء السكان حافظة لهم من مغازي الأجنبي بهضابها المنيعة وفجاجها العميقة.
ويقصد بغوندوانا المنطقة الجبلية التي هي أعلى مناطق الهند، وتفصل غوندوانا منطقة الهند الغنجية أو الهندوستان عن الهند الجنوبية أي الدكن، وتبدو غوندوانا ممسكة، بجوها وحيوانها ونباتها، ذينك القطرين المعترضة بينهما، وعند سفوح غوندوانا وقفت المغازي المتوالية فلم تستطع اجتيابها بغير الدور حولها، ومن شعاف
20
غوندوانا تتصبب إلى جميع الجهات: إلى الغنج وإلى خليج البنغال وإلى بحر عمان، أنهار وروافد تخلط منابعها في أعاليها الحافلة بالأسرار.
ولا تنطبق كلمة «المنيعة» تلك على الأمر الواقع منذ عشرين سنة، ولكن مدة قصيرة كهذه وما تم في أثنائها من المعجزات بفعل مبتكرات العلم الحديث ليس مما يحسب عندما نبحث في عروق الهند وفي الحال التي انتهت إليها تبعا لسنة النشوء وتأثير مختلف البيئات.
حقا أن عادة القرابين البشرية، مثلا، غابت من غير ناحية بأمر الإنجليز، وحقا أن احتياجات الشرطي الإنجليزي أحلت نسائج مانجستر القطنية محل الأضغاث
21
التي ظلت لباس فريق من الأهالي منذ قرون، وحقا أن الخط الحديدي الذي يصل بمبي بكلكتة يسير موازيا لنهر نربدا الذي يحد الولايات الوسطى في الشمال، وحقا أن خطا حديديا آخر يمر من ناغبور ويقطع منطقة الغوند، وحقا أن من المحتمل ألا يبقى بعد نصف قرن شيء من الطبائع والعادات والمعتقدات التي دامت في وسط الهند ألوف السنين، بيد أن ساعة زوال هذه الأمور، التي دنا وقت إبطالها، لم تدق بعد، فيمكن، والحالة هذه، درس أحوال أهل غوندوانا الفطرية كما هي اليوم في البقاع الكثيرة الغاب الوبيلة، ما دام أهل السهول والهضاب يتهندون بسرعة.
ويبلغ الغوند، الذين اشتق اسم غوندوانا من اسمهم، عدة ملايين، غير أنه لم يبق منهم سوى مليون ونصف مليون في طور الوحشية المطلقة.
ولا تجد في منطقة غوندوانا التي غزتها الحضارة أثرا للهمجية في غير قسمها الجنوبي الشرقي المتجه إلى منابع رافدي غوداوري: برنهيتا وإندراوتي، وفي غير قسمها المتجه إلى الشمال الشرقي حيث جبال أمركن تك والجبال التي بجانب مجرى نهر نربدا الأعلى.
تسمع عن تلك الأصقاع التي لم ترد
22
حتى الآن ما نجده في كتب الآريين من الأساطير حول جبال الهند الوسطى، فيصفها هندوس السهول بأنها غابات مملوءة بالدوح
23
المظلة لأبخرة وبيئة قاتلة، وبأنه يسكنها حيوانات مفترسة ذوات قامات عظيمة وقرود كريهة محاكية للإنسان، فبمثل هذا تصور قدماء غزاة الهند الهضاب الواسعة التي دحروا إليها سكان البلاد الأصليين المغلوبين من غير أن يجرءوا على دخولها.
والمراتها هم أول من اقتحموا غوندوانا، وكان ذلك في القرن الثامن عشر، فبسطوا سلطانهم غير الفعال عليها، وفي زماننا أسفرت جهود الإنجليز عن فتح أبوابها، وعن تعقب الهمجية الفطرية في ملاجئها المخيفة.
ويرد الآدميون، الذين التجئوا إلى غوندوانا والذين يدحرون إليها بين حين وآخر، إلى ثلاث جماعات أساسية: البهيل والكول والغوند، وهؤلاء الغوند هم الأكثر عددا والأقدم إقامة، فأطلقوا اسمهم على ذلك القطر.
والبهيل:
وهم من الدراويد، قد درسنا أمرهم في فصل آخر، ولا يسكن غوندوانا غير 20000 شخص منهم مع ذلك، ومقر البهيل الدراويد الحقيقي هو في الشمال والغرب مع ذلك.
والكول:
وقد عادوا لا يكونون من الدراويد، لا يسكن غوندوانا منهم غير 40000 تقريبا، وينتشرون، على الخصوص، في جهوتاناغبور وفي ساحل أوريسة وفي البنغال حيث لاقيناهم، ومن قبائلهم القاطنة في غوندوانا الكوركو المقيمون بأودية مهاديو والكوند الذين لا يجوز خلطهم بالغوند.
ونحن، إذ نخصص مطلبا آخر للبحث في أمر الكول المقيمين بجهوتاناغبور وفي أمر سكانها الآخرين، ندرس الآن حال الغوند الذين هم أساس سكان غوندوانا، والذين هم أهم سكان الهند الأصليين أوصافا وعددا.
إذا لم يكن الغوند عرقا أصليا من عروق الهند فإنهم يصفون، على الأقل، بين قدماء الدراويد الذين هم أقرب الناس إلى المثال الزنجي الفطري، وللغوند أدنى درجة في سلم العروق لشنعهم وقصرهم وسوادهم، وللغوند، مع ذلك، أعضاء عضلة قوية، والغوند يختلفون بهذا عن بعض وحوش نل غيري ذوي المظهر الناقص الضعيف وعن الهندوسي ذي المنظر القضيف،
24
ووجوه الغوند مستوية، وأنوفهم قصيرة، وشفاههم غليظة، وعيونهم صغيرة أفقية، وشعورهم سود خشنة لامعة مسدلة خصلا وضفائر على جوانب وجوههم، وتتألف ثيابهم من ربط يجعلونها حول كلاهم ومن ربط أخرى يجعلونها حول رءوسهم، وتتألف ثياب نسائهم من نسج ساترة لأوراكهن صاعدة إلى عواتقهن شاملة لأنصافهن الفوقانية، ولا يزال يرى أناس من زمر غوندية متفرقة يقتصرون على نطق من ورق الشجر كما في غابر الأزمان، وفي الغالب تهب ريح الشمال الشرقي على تلك الهضاب بشدة فلا تكفي ثياب الغوند لرد عادية هواء المساء والصباح فيوقدون نيرانا عظيمة ليتدفئوا حولها، ومما يستحي الغوند منه أن يضيفوا شيئا إلى تلك الثياب التقليدية، فالغوند على النقيض منا في النظر إلى عوامل الأدب والحشمة.
وأسلحة الغوند بسيطة جدا، ولا يعرف الكثيرون منهم القوس ولا السهم، وبالفئوس التي يحملونها على الدوام يصمون
25
الصيد، ويصرعون العدو، ويقطعون النبات المعرش الذي يعوق سيرهم في الغاب، ويجندلون ما يطاردونه من الأنمر في عرائنها.
وإذا كان الغوند يزدرون التسربل والتسلح فإنهم يزينون أجسامهم ووجوههم بالحلي الثقيلة وبضروب الوشم الفني، وتحب نساؤهم الأساور والخرصان
26
المصنوعة من الحديد فيثقلن بها ذرعانهن وسيقانهن، ويزوقن خدودهن وأفخاذهن بنقوش وتصاوير، وهن دون رجالهن قبح منظر ويكن على قليل من الملاحة في بعض الأحيان.
ويعرف الغوند فلح الأرض، ولكن بغير إتقان، شأنهم في كل صناعة، فإذا ما اختار الغوند أرضا صالحة قطعوا أشجارها الساترة لها، وأشجار الغاب «السال والمهووا والبانيان» في منطقة الغوند تطغى وتنتشر في كل مكان بالقوة التي تنمو بها أشجار البلاد الحارة، ثم حرقوها في محالها ثم بذروا الحبوب فيها، وفي الغالب يضع الغوند الحبوب أكداسا أكداسا في مكان مرتفع من الحقل تاركين للريح والمطر أمر نثرها عليه، ثم يقيم الغوند بعرش منتظرين وقت الحصاد.
والغوند يستغلون الأرض مرتين أو ثلاث مرات، فإذا فقدت خصبها بحثوا عن أرض أخرى ليحيوها ويزرعوها ناقلين إليها مساكنهم مبدلين أماكن إقامتهم مرة في كل سنتين أو ثلاث سنين.
ولو اقتصرت معايش الغوند على ما تنتجه أراضيهم؛ لوقعوا في بؤس شديد ما دامت آلاتهم الزراعية ناقصة وفنون فلاحتهم ضعيفة، ولكن منطقتهم الغنية تمن عليهم من مصادر العيش الشيء الوافر، فما أكثر ما أنقذوا من المجاعة بفضل ما عندهم من أثمار أشجار المنغة والسال والبانيان والعناب وأزهار المهووا، ومن هذه الأزهار النافعة يستخرج الغوند عصيرا متخمرا يسكرون منه في الأعياد فضلا عن استفادتهم من موادها الغذائية، ويغتذي الغوند أيضا بما في غابهم من الطرائد التي تفرخ بكثرة وبالأسماك التي توجد في مجاريهم بوفرة.
والغوند ليسوا بمحاربين مع أنهم غير جبناء، والغوند، على ما ليس فيهم ما في البهيل من غرائز الشر والاعتداء والتخريب، هم، مثل هؤلاء، لصوص، ومن أتيح لهم من الغوند أن يعيشوا في السهل حيث الحضارة لم يروا من غير الطبيعي أن يسرقوا ما يقع تحت أيديهم من أموال الهندوس أو الإنجليز النازلين بين ظهرانيهم، ويمقت الغوند الكذب مع ذلك، ويمتازون بهذا الخلق، كما يمتاز جميع وحوش الهند، من الهندوس الذين أضحى زورهم مضرب الأمثال.
والغوند في منازلهم محبون للقرى ذوو دعة، والغوند ليسوا قساة ما لم تثر حميتهم الدينية أو ما لم يهيجوا بعد أن يسكروا، فهم ينقضون إذ ذاك على قربانهم ليمزقوه بأسنانهم وأظافرهم إربا إربا، وقلما يكون مثل هذا القربان من البشر في أيامنا الحاضرة، ومن المحتمل أن يبقى أثر للقرابين البشرية في بلاد الغوند ما تفلتت آجام منيعة وهضاب وعرة وأودية وبيئة من رقابة الشرطي الإنجليزي، ولا تغيب الطقوس المضرجة إلا حيث يتصل الغوند بالأوربيين.
وفي الزمن الحالي استبدلت مجادير
27
الصفصاف أو دمى التراب أو الأزهار أو الأثمار بالعجول أو المعز أو الفراريج كقرابين إلى الآلهة، وعادت المذابح القائمة في إطار من حجر في أسفل الأشجار المقدسة لا تحمر بغير طلاء رمزا إلى ما كان يراق فيها من الدم.
وإلى العفاريت والأرواح الشريرة، على الخصوص، يقدم الغوند النذور الرمزية أو القرابين، فالإيمان بالأرواح الشريرة أمر عام بين سكان بلاد الهند الأصليين، ومما يعتقده هؤلاء السكان أن الجن يطوفون في الليل حول القرى بقصد الإضرار، فيجب أن يجدوا في المذبح ماء ليطفئوا غليلهم، وفواكه ليقتلوا جوعهم، ودما ليشفوا حرقتهم أو لونا أحمر مشئوما ليتم به خداعهم، وأوتادا مغروزة في الأرض ليضعوا عليها أقدامهم الخفية ما حظر عليهم مس الأرض وما طافوا مغاضبين بغير ذلك.
والأرواح التي تخافها شعوب الهند الفطرية فتعبدها هي أرواح الموتى، ولا سيما التي نزعت من الأجسام بخاتمة فاجعة، فإذا مات واحد منها قعصا،
28
ولو طوعا، افترض أن روحه التي نكل بها تعود لتطوف في الأماكن التي خرجت فيها، وعزي إليها من فعل الشر ما يجب دفعه بالتعزيم
29
وتقريب القرابين، وأرواح النسوة اللائي يتوفين في النفاس أصعب الأرواح مراسا.
30
وإذا مات غريب بين الغوند أقاموا له عبادة خاصة كما يقيمون للقريب، ومن هذا أن قائد المائة بول مات مثخنا بالجراح في قتال قام به ليصل إلى مدراس بجوب غوندانا، فهال ذلك السكان الذين خر بينهم قتيلا لاعتقادهم أن روحه الغاضبة الساخطة ستختلف إلى منازلهم، فأقاموا له هياكل وقدموا ما يستميلونه به من الأدعية والقرابين.
وليست أرواح الموتى وحدها هي ما يعبده الغوند، فكل شيء إله عندهم، فقوى الطبيعة وآفاتها، مثلا، مما يعبدونه، فهم يرون أن على رأس كل آفة عفريت لا بد من إجادة عبادته إذا أريد درء ما يحمله من الشرور، وهم يرون تقديس الهيضة
31
والجدري وحمى الآجام والضرع إليها بغية دفع عواديها.
والإله الذي يحتل، مع الشمس النافعة أو الضارة والأرض الخصيبة أو الجديبة، أسمى مقام بين آلهة الهند الوسطى هو الإله القادر على كل شيء الذي تصفر الوجوه حين يذكر، وتجف
32
القلوب حين يزمجر، أكال البشر، الإله النمر.
والنمر عندما يتذوق لحم الإنسان فيروقه فيلقي الرعب في إحدى البقاع، تنصب له الهياكل، ثم يختلط العفريت الذي يغريه ويحرضه بأرواح ضحاياه فتشتد عزيمته بعددها فيكون لها من الحماسة مثل ما له ما أضيف غضبها إلى غضبه، فيصبح أمر تسكينها ضربة لازب، فيجلب في الغالب كاهن ذو شهرة من قبيلة البايغاس على العموم، فيقرأ هذا الكاهن العزائم داعيا إليه تلك الأرواح المتقمصة للنمر والدافعة له على الصولة والشره فيصيب الكاهن نوع من الذهول والوله بفعل الرقية والدروشة، فيخيل إليه أن ضراوة النمر قد انتقلت إليه، فينقض على جدي حي يقدم إليه فيخنقه بأسنانه ويمزق لحمه ويدس رأسه في جوفه الداخن، ثم يرفعه فيرى القوم وجهه المضرج بالدم فيرفعون أصواتهم مستبشرين مسرورين.
وتؤله شعوب الهند الفطرية، ولا سيما الغوند، الأفاعي «القبرا على الخصوص» مثلما تؤله تلك الآفات، فيدعها كثير من أبناء هذه الشعوب التعساء تلدغهم من غير أن يقتلوها، وعبادة الدراويد للأفاعي أسفرت عن تسمية الآريين لهم بالناغا.
وفي الهند، حيث يقوم بعض الأديان بجانب بعض من غير اصطراع، وحيث يقتبس بعضها من بعض عقائد ورموزا وطقوسا، لا يقتصر اعتقاد الأرواح وتقديس الأفاعي والأنمار على الأقوام الفطريين، بل سرت عدوى بعض ذلك إلى البراهمة، وقليل من ذلك إلى المسلمين، فأضحى الصل
33
من خصائص عظيم الأرباب عند الهندوس، فتتخذ مطاويه الرائعة أداة زينة في المباني، وينتصب رأسه ذو الحدقتين الشاخصتين متوعدا بجانب رأس وشنو.
ولا عهد للغوند بنظام الطوائف، ويقسمون إلى قبائل متزاوجة، فمن سفاح ذوي القرابة أن يقترن رجل بامرأة من قبيلته، ويؤدي قران مثل هذا إلى القتل أحيانا، وعادة خطف الخاطب للفتاة خطفا صوريا أو حقيقيا شائعة شيوعا منظما عند أولئك القوم، وفي الغالب يدافع عن الزوجة من يرافقها مع ضحك تجاه أصحاب الزوج، فيتم الغلب لهؤلاء الأصحاب بحكم الطبيعة فيسيرون بالأسيرة حاملين إياها على أكتافهم فاكهين، ومما يحدث عند سكان الهند الوسطى الفطريين، أحيانا، أن يتكرر الخطف بعد الزواج، وذلك وقتما تغادر الفتاة بيت زوجها إلى بيت أبيها بعد يومين أو ثلاثة أيام من ذلك باكية بكاء مصنوعا معربة عن عزمها على عدم تركه.
والغوندي، على العموم، يشتري لابنه امرأة قبل أن يبلغ سن الزواج بها، فيختارها قوية ضليعة ليتخذها، في الغالب، خادمة وخليلة، إلى أن يلح الزوج الحقيقي في طلبها، فإذا عدوت هذه العادة وجدت الغوندي من المقتصرين على زوجة واحدة، والزوجة عند الغوند، إذ تكون، على الدوام، أكبر من بعلها سنا فإنها تتمتع بنفوذ عظيم في أمور المنزل.
ونظام الغوند السياسي بسيط جدا، فيدير شئون كل عشيرة منهم رئيس خاضع، على العموم، لما يقضي به شيوخها المجتمعون، ولكل رجل غوندي صوت في الحكومة، ويكون الرئيس في الغالب سليل الراجبوت، ويسرح بعض ممثلي الراجبوت عند كل حرب بين الغوند الذين لا ينشبون أن ينالوا عندهم شيئا من النفوذ.
شكل 3-6: راقصة من جنوب الهند. (8) سكان أمركن تك وجهوتاناغبور وأوريسة، إلخ
يقوم في شمال جبال الهند الوسطى الشرقي طود أمركن تك، فهذا الطود هو أعلى تلك الجبال، ويعد عقدة، تلك المنطقة الجبلية، وهو أقلها رودا،
34
وغابه أشد من غابها امتناعا، وآجامه أكثر من آجامها ضواري، وحميات أوديته أعظم من حميات أوديتها خطرا، وسكانه أظهر من سكانها همجية واقترابا من الحيوان واحتمالا للجو القاتل والطعام الجشيب.
35
شكل 3-7: ثلاثة وحوش من جهوتا ناغبور.
ويقف كل وصف عند الحد الذي وقف عنده الغزاة المتمدنون، فما قيل عن معايش أهل تلك المنطقة الوحشية ليس إلا فرضيات، فهندوس السهل يشبهونهم بالقرود ويخشونهم كأنهم من الجن الأشرار، ومن الأساطير ما هو خاص بغاب تلك المنطقة البعيدة الغور وفجاجها الكئيبة التي لا تخلو من حفدة أقدم عروق الهند البائسين.
ويتألف من جهوتاناغبور منطقة متوسطة بين هضبة الولايات الوسطى والسهول المجاورة لمصب نهر الغنج، وتشمل تلك المنطقة، المائلة إلى الجنوب الشرقي والمتوجهة إلى خليج البنغال، على وادي مهاندي ووادي برهمني الأعليين، وتجري من منحدراتها الشمالية الغربية روافد سون، ويعد معظمها من ولاية البنغال.
وجهوتاناغبور منطقة انتقال من الناحية الإثنولوجية والناحية الجغرافية، فالمرء إذا ما نزل من أعاليها وتوجه إلى أودهة، حيث يعيش أجمل العروق الآرية بالهند كما ذكرنا، وجد بالتتابع أمثلة جميع ما في الهند من العروق المترجحة بين قباح وثنيي الزنوج وشمخ البراهمة.
ويسكن جهوتاناغبور قبائل من سكان البلاد الأصليين على الخصوص، فهذه القبائل، وإن ظلت وحشية في الجبال، تتهند في السهول بالتدريج، وهنا ننبه القارئ إلى أن ما نصفها به ينطبق على حالها الفطرية الأولى قد تشاهد اليوم في أقاصي تلك المنطقة وفي أراضيها المنيعة قياسا على ما فعلناه في أمر الغوند.
ونحن، حين نضيف إلى جهوتاناغبور سلسلة جبال وندهيا ومعظم شبه جزيرة الكجرات تبدو لنا بلاد ممتدة من بحر إلى بحر قاطعة لوسط الهند، فهذه البلاد المستطلية هي مقر العروق الكولية التي تعد ثالثة الجماعات الهندية فتأتي بعد الجماعة التورانية الآرية، أو الهندوس البراهمة، التي هي الأولى منها والجماعة الدراويدية التي هي ثانيتها.
واختلاف اللغات بين تلك العروق، ولا سيما بين الدراويد والكول، هو سبب ذلك التقسيم الثلاثي ما كان الدراويد والكول من الشعوب الفطرية التي توالدت هي والغزاة بعض التوالد وما تماثل الدراويد والكول طبائع وصورا، ويشابه الكول البهيل الذين يقطنون معهم في الأراضي التي تغشى جبال وندهيا، بيد أن الكول المقيمين بجهوتاناغبور يقتربون من البهيل ذوي المثال المغولي مع أن دم الراجبوت يجري في شرايين الكول المقيمين بالكجرات، وقد تكلمنا في فصل سابق عن هؤلاء الكول القاطنين في المنطقة الغربية، والذين يعدهم البراهمة من الشودرا فيستخدمون في المدن للقيام بأشق الأعمال، فأطلق اسم الواحد منهم «القلي» في المستعمرات الإنجليزية وأمريكا على العمال والعتالة والمكارين.
ويعد الكول الشرقيون من زمرة المنبوذين لا من طبقة الشودرا، ولم يخرج أكثرهم من دور الهمجية الأولى، وعن هؤلاء قلنا إنهم يذكروننا بالمثال المغولي، فهم، بالحقيقة، ذوو وجوه مثلثة الأضلاع ولحى معرة
36
وعيون صغيرة مزمومة أفقية وشفاه غليظة ووجنات ناتئة وأنوف قصيرة وألوان مترجحة بين الصفرة والسواد وقامات قصيرة مربوعة ضليعة، ويتكلمون بلهجات مفرعة من اللغة الكولية التي يتميزون بها من شعوب الهند الفطرية الأخرى، ويجاوز الكول منطقتهم المستطيلة إلى وادي الغنج حيث لاقيناهم.
ويسكن السانتهال والملير الجبال الواقعة بين بهار والبنغال، فيعدون من الأرومة الكولية بالحقيقة، ومما قلناه إن لغة السانتهال تمثل دور اللغة الأم بين اللهجات الكولية كما هو شأن السنسكرت في اللغات الهندية الأوربية.
وكان الكول جميعهم يسمون باسم سوارا العام الذي ورد ذكره في كتب الهندوس غير مرة، ورأى بعض العلماء أن هذا الاسم مشتق من الكلمة الشيثية «سغاري» التي تعني «الفأس»، والواقع يؤيد هذا الرأي ما كانت الفأس سلاح الكول والغوند المفضلة، وما ظلت، في بعض الأحيان، عدتهم الوحيدة، فالحق أنك لا ترى شخصا من أهل جهوتاناغبور أو أهل غوندوانا الأصليين لا يحمل بيده فأسا إذا ما ابتعد قليلا عن منزله، ولا غرو، فلا غنية له عن هذه الآلة في فتح طريق له وسط الآجام وفي الهجوم على الأنمار.
وبعض القبائل الكثيرة التي تسكن جهوتاناغبور وساحل أوريسة في الشرق ما هو كولي خالص وبعضها ما هو ممزوج بالعنصر الدراويدي الحديث والقديم، وبين هذه القبائل فروق غير واضحة تماما؛ لعدم وجود أمثلة بينة لها على الدوام، وتدعى تانك الجماعتان بالأوراؤن والمندا، فأما المندا فيشابهون المغول كثيرا، وأما الأوراؤن فمن الزنوج الذين يبدو مثالهم أقرب إلى القرود منه إلى البشر.
ومن أهم الأهالي الذين يسكنون وادي برهمني ووادي مهاندي الأدنيين وقسما من ساحل أوريسة نذكر الكوند الذين يجب التفريق بينهم وبين الغوند المقيمين بغوندوانا، وعلى ما بين تلك الشعوب من صلة كما بين جميع الفطريين يتألف منها جماعتان مختلفتان.
وتلك الشعوب، إذ كانت ذوات عادات متماثلة يدنون بها من إخوانهم سكان الولايات الوسطى الذين وصفناهم آنفا، نوجز أمرها بما يأتي: تقوم ديانتها، كما تقوم ديانة الغوند، على عبادة الشمس والأرض وقوى الطبيعة والخوف من أرواح الموتى وتقديس الضواري والآفات التي يعرضون لها، على الدوام، تقديسا ممزوجا بالهول، وترى في الأعاصير والمجاعات والأوبئة والجفاف مظاهر لقوى هائجة يجب التوسل إليها بقراءة العزائم وتسكينها واستعطافها بالقرابين، فعدت الدموع ودماء الضحايا البشرية طويل زمن ندى سحريا لا بد للأرض منه لكي يتسع صدرها فتصح خصيبة، واليوم يزول هذا الاعتقاد بالتدريج، وصارت الأنعام، أيضا، لا تذبح، فتستبدل بها في المذابح صور خزفية وفواكه وأزهار، ويستبدل بدمائها دهن أحمر ترش به الحجارة المصفوفة على شكل دائرة أو الأهرام الصغيرة التي تعلوها أو الأوتاد المثبتة في الأرض.
ولما حاول الإنجليز أن يحملوا، بالإقناع والتهديد، الكول السذج على نبذ عادة تقريب القرابين البشرية رضي هؤلاء بذلك على أن يحتمل الأوربيون تبعة هذا الإلحاد تجاه الآلهة، ولا شيء أفظع من القيام بمثل هذه الشعائر، فكان الجمهور يقطع الضحية إربا إربا عند ذبح الكاهن المقرب لها اتباعا للاعتقاد القائل إن كل قطعة من اللحم الخافق تميمة قادرة، فمن يأخذها فيدفنها في ناحية من حقله وهي دامية سخينة ينل البركات من السماء لأمد بعيد، فبهذا الثمن يزول غضب الإلاهة تاري أي الأرض الساخطة.
وكان يتخطف صبية من الغرباء والأيتام ويؤتى بهم إلى الكول ليربوا فيكونوا ضحايا المستقبل، وكان يقوم بذلك الاصطياد قهارمة
37
فيبيعون ما يتصيدون بثمن عال، فإذا لم يجد هؤلاء القهارمة ما يصطادونه اشتروا صبية من آبائهم الفقراء أو الطمعاء ليشروهم بربح فيثرون بذلك لعدم المكس، فكلما كانت الضحية غالية كانت مقبولة لدى الأرض والشمس والجن الذين يثيرون أمواج البحر فيلقونها في الحقول زوابع وعواصف.
ويدير شئون كل قبيلة من الكول رئيس خاضع، على الدوام، للأهالي المجتمعين، وتسفر هذه الاجتماعات، في الغالب، عن دعوة منطقة بأسرها، لا قرية واحدة، إلى العمل بأحد الأمور، وتشعر الشعوب الكولية بأنها أمة واحدة، ويذكر الكول أنهم كانوا سادة الأرض، وفي أساطيرهم، كما في الشواهد الغريبة، ما يدل على أنهم كانوا أمة ذات حكومة منظمة، ومن قبائلهم قبيلة البهومية التي يعني اسمها «أبناء الأرض»، أو أهل البلاد الأصليين، ويعلم الكول أنهم حفدة أمة قديمة إلى الغاية، وليس الكول من البأس ما يقدرون به على القتال فتراهم لا يبالون بالحيل وصولا إلى الإثراء على حساب من يسرقونهم، فالكول جميعهم لصوص أجرئاء
38
فخر بما يقترفون من اللص، فيقولون: «لا نعمل غير استرداد ما نملكه فسرق منا فيما سلف»، ومن التناقض العجيب أن يصبح هؤلاء السراق، حينما يحملهم الفقر على الخدمة عند سادة الهند في الزمن الحالي، من أحسن موظفي الشرطة وأحزمهم، ومن أيقظ النطراء وأقدرهم على خفر المزارع، ومما يحدث أن يجمع هؤلاء بين حرس الحقول والمواشي في النهار وسرقتها في الليل بجد وحذر ولباقة، فإذا ما اكتشف الأمر لم يبق لإقامة البينة وسماع الشهود ضدهم ضرورة، فهم يعترفون بما اجترحوه من فورهم حين الاستنطاق فيستذنبون.
والكول شديدو القرى، فيبذلون أرواحهم دون الضيف إذا حاق به خطر، والكول كثيرو الفخر ذوو مزاج حر، والكول، إذ يحملون على دفع الضرائب إلى الإنجليز، يحملونها إليهم بانتظام حيث يكونون عند حدودهم، وذلك حذر تدنيس الجباة لحرمة منازلهم في غابهم.
ويحب الكول الحرب لهوا وتقربا إلى الآلهة، فهم يفتئلون
39
قبل أن يوقدوا نارها، فإذا رأوا أن السماء تأمر بالحرب وسفك الدماء أرسلوا رسلا إلى القبيلة المجاورة لدعوتها إلى القتال في أحد الميادين، والقتال يدوم طويلا ما لم يفتئلوا ثانية فيروا وقف الحرب، ولا يشوب المتحاربين حقد ولا وغر
40
فينامون في الغالب معا ويأكلون معا في الهدن التي تتخلل القتال، ويشهد النساء الطعان فيهتفن عند إصابة الأهداف ويصفقن عند باهر الأعمال ويجمعن الجرحى ويضمدن جروحهم ويبكين القتلى وينظرن، كما كانت نساء سابين تنظر في القرون القديمة، آباءهن وإخوتهن في أحد المعسكرين وأزواجهن في المعسكر الآخر، فالأنكحة عند الكول لا تكون إلا بين مختلف العشائر.
والفتى من أولئك القوم يشتري له أبواه المرأة التي يرغب في الزواج بها، وهو، إذ كان لا يملك لنفسه شيئا، لا يقدر على تأليف أسرة مستقلة عن أبويه، فيبقى تحت وصايتهما زمنا طويلا، وللمرأة من أولئك القوم حق الطلاق، فتتزوج، في بعض الأحيان، أربعة أزواج أو خمسة أزواج بالتتابع، فيجب على كل زوج لاحق من هؤلاء أن يرد إلى الزوج السابق ما دفعه، فيسعى الزوج اللاحق إلى التخلص مما عليه.
إذن، يمارس أولئك القوم مبدأ تعدد الأزواج من الذكور ممارسة مقنعة، وتنشأ هذه العادة عن الفقر وعن ارتفاع المهور، وقتل الأولاد عند أولئك القوم أمر شائع، فالأسرة الواحدة منهم لا تحتفظ، في الغالب، بغير ابنة أو ابنتين، وأما البنات الأخرى فيوضعن، حين ولادتهن، في آنية من فخار ويدفن، فيسفر ذلك عن زيادة مهور النساء لقلة عددهن.
ومعايش سكان جهوتاناغبور ضنك، فأراضيها فقيرة وفلاحتها رديئة، وأسوأ منها أراضي أوريسة، حيث يغتمر الطوفان غلاتها الهزيلة في بعض الأحيان فيعقب الطاعون ذلك، ثم يسفر الجدب الذي يجيء بعد ذلك عن موت الألوف من السكان جوعا، وليس للإنسان في بلد بائس كهذا البلد أن يختار نوع الطعام، فترى الكول يأكلون من كل لحم مع مقت براهمة الهندوس لذلك.
ولم يكن ساحل أوريسة منطقة بائسة في كل زمن كما هو اليوم، فقد كان يقوم فيه دولة زاهرة أيام هارون الرشيد وشارلمان، وفي أساطير الهندوس ما يؤيد ذلك، وما اشتمل عليه من المعابد العجيبة الخربة، كمعابد بهو ونيشور، يثبت، بأقوى من ذلك، أن هذا الساحل غير المقراء
41
كان مقرا لحضارة قوية، ومما لا ريب فيه أن الكوند الوحوش لم يكونوا المبدعين لذلك الفن المعماري الرائع التالد.
وتغشى ساحل أوريسة معابد أكثر من أن تغشاه مدن، وساحل أوريسة هذا، الذي يتساوى البراهمة والهمج في تقديسه؛ إذ يقع بين الهند الآرية والهند الدراويدية، شاهد على اختلاط كثير من العروق والأديان فيه، وعلى نظر المؤمنين إليه نظر إجلال واحترام، وعلى حجهم له من كل صوب وحدب مهما كان نوع الإله الذي يعبدونه.
ذلك ما يبهر الهمجي الذي لم يسجد لغير أوثان فيدعو كالي ووشنو وشيوة فينتقل ما يدور في خلده من الهواجس إلى بني قومه فيتساوون هم والآخرون في بعض المعابد حينا فيغدو المنبوذ أخا لأشهر البراهمة، فلا ترى فرقا بين الأبيض والأسود وبين الآري والدراويدي وبين الهمجي والمتمدن، فيخيل إليك امتزاج مختلف العناصر التي يتألف منها سكان شبه جزيرة الهند لوقت قصير.
بحثنا في تلك العناصر بحثا خاطفا، فنختم دراستنا بذكر شعب الأوريا المهم القاطن في المنطقة الساحلية الممتدة من شاطئ أوريسة إلى مصب نهر الغنج، فهذا الشعب المتوسط، الذي هو شعب شبه همجي ذو لغة خاصة وغير ذي مثال واضح، أخذ نصيبا من العروق الكثيرة التي يعيش بينها.
شكل 3-8: امرأة هندوسية من جنوب الهند تهرس الأرز.
نطمع أن يكون القارئ قد اطلع، بالخلاصة الخاطفة غير الكاملة التي سردناها فيما تقدم، على ما بين عروق الهند من الفروق التي لا حد لها، وعلى ما بين هذه الفروق من المساوف العظيمة، ونحن بعد أن بينا اختلاف أوصاف تلك العروق وأخلاقها وعاداتها ومعتقداتها، وبعد أن ذكرنا أن أمثلة البشر ودرجات الحضارة التي جاوزها منذ فجر تاريخه إلى يومنا هذا لا تزال قائمة بادية في الهند نرى أن نركب بعد أن حللنا فبنحث فيما بين هذه العروق من الأخلاق المشتركة، وفي ميل هذه العروق إلى الوحدة التي قد يصلون إليها شيئا فشيئا بالتوالد والخضوع لبعض النظم الكبيرة العامة، ونحن بعد أن درسنا ما يفصل بعض عروق الهند عن بعض ندرس ما تتقارب به هذه العروق وما تلتقي فيه من النقاط.
هوامش
الفصل الرابع
الصفات الخلقية والعقلية المشتركة بين عروق الهند المختلفة
(1) ما نشأ عن أحوال البيئة والحياة في الهند من تماثل بين شعوب الهندوس
ظهر من الفصول التي خصصناها للبحث في عروق الهند اتساع الفروق بين تلك العروق، فالحق أن شبه جزيرة الهند الواسعة فسيفساء عظيمة مؤلفة من شعوب مختلفة إلى الغاية، ففي الهند تجد الوحش الفطري والرجل المتمدن وما بينهما من آدميي مختلف الدرجات.
وقد رأينا أن المثل الجثمانية لهذه العروق متباينة جدا، وأن كلمة الهندوس تشتمل على أناس مختلفي الألوان مترجحين بين الزنجي الأسود والرجل الأبيض، وأن تلك المثل تترجح بين الجمال الباهر وأقصى البشاعة.
وما لهذه العروق من الصفات الخلقية والعقلية ليس بأقل من تلك الفروق الجثمانية اختلافا، فترى هوة عميقة بين الراجبوتي المشهور بشجاعته النادرة والبنغالي المعروف بجبانته الفاضحة، وترى مثل تلك الهوة بين جبليي راج محل الذين لا يعرفون الكذب وبعض الهندوس الذين يكذبون على الدوام.
ومن الصواب، إذن، أن نستنتج، أول وهلة، فقدان أي صفة مشتركة بين عروق ذلك مدى تباينها، بيد أننا سنرى عما قليل أن هذا زعم خاطئ، فقد نجم عن البيئات المادية والأدبية الواحدة أخلاق عامة تجمع بين تلك العروق في أسرة كما يجمع العالم الطبيعي مخلوقات متباينة أشد التباين، كالفيل والفأر، في فصيلة واحدة.
فلندع الفروق التي عرضناها بدرجة الكفاية، ولنبحث في الصفات المشتركة بين عروق الهند المختلفة، فنرى، إذ ذاك، أن الهندوسي ينال بهذه الصفات معنى معينا، ولا يظن القارئ، مع ذلك، أنه يكون لهذا المدلول من القيمة المقررة ما لكلمة «الفرنسي أو الإنجليزي أو الألماني»، فلم يقع تمازج مختلف العناصر بدرجة الكفاية، ونحن، لكي نوضح رأينا بأحسن من ذلك، نتمثل أمر فرنسا في العصر الكارولوفينجي وقيمة كلمة «الفرنسي» الدالة فيه على خليط من القوط والفرنج والغوليين والرومان بدأ يمتزج فيكتسب بعض الصفات المشتركة.
ونرى، قبل أن ندرس الصفات المشتركة لأكثرية الهندوس فنشير إلى الأسباب التي أوجدتها، أن نأتي بتقسيمات قليلة أساسية للعروق الكثيرة التي وصفناها فيما تقدم على انفراد، فبعد أن نصنع هذا على طريقة التحليل نبدأ بالدرس على طريقة التركيب.
يؤدي البحث الخاطف إلى إمكان تكتيل جميع تلك العروق في ثلاثة تقسيمات أساسية كبيرة، فأما التقسيم الأول فيشتمل على العروق التي لم تنل بصيصا من أية حضارة فتجلت فيها آثار سكان الهند الفطريين الأصليين، فليس هؤلاء السكان الفطريون القاطنون في الجبال أو في المناطق المنعزلة إلا أقلية ضعيفة، وهم من شدة الاختلاف عن بقية سكان شبه جزيرة الهند ما لا يحتشدون بها معهم، فلهذا لا نفكر في أمرهم هنا.
وأما التقسيم الثاني فيشتمل على الهندوس الحقيقيين الذين هم، كما نعلم، نتيجة توالد عروق بيض أو صفر مع السكان السود الأصليين، فهؤلاء الهندوس إذ كانوا على شيء من التمازج في غضون القرون فإنهم مجموع من الزمر المتباينة بنسبة العناصر التي تتركب كل واحدة منها، وهذا مع القول إن البيئات المادية والأدبية الواحدة التي خضعت تلك الزمر لأحكامها منذ زمن طويل والمعتقدات الواحدة التي اعتنقتها قد وسمتها بعدد من الصفات المشتركة، وإنه على تلك الزمر التي تتألف منها أكثرية الهند الساحقة تنطبق هذه الصفات المشتركة التي نرى أن نبحث فيها.
وأما التقسيم الثالث فيشتمل على السكان المسلمين الذين هم نتيجة توالد العرب والأفغان والفرس والتركمان والمغول وغيرهم من الذين غزوا الهند في مختلف الأدوار فانتهوا إلى فتحها، وكان يصعب خلط هؤلاء المسلمين بزمر التقسيم المذكور آنفا لو ظلوا خلصا بعيدين من كل توالد، بيد أنك لا تجد بين الملايين الخمسين الذين يدينون بالإسلام في الهند سوى أناس قليلين لا تجري في شرايينهم دماء هندوسية، فهؤلاء المسلمون، وإن كانوا يختلفون عن زمر ذلك التقسيم الثاني في غير ناحية، أكثر تأثرا بهذه الزمر من تأثيرهم فيها، فإذا كان جميع الصفات العامة التي نذكرها فيما يأتي لا ينطبق على المسلمين فإن كثيرا من هذه الصفات مشترك بينهم وبين تلك الزمر مع ذلك.
إن المؤثرات التي أسفرت عن صفات مشتركة هي مادية وأدبية معا.
ويمكن تلخيص المؤثرات المادية في بضع كلمات: فمن هذه المؤثرات نذكر الجو الحار الذي لا يعد الإنسان إلى الأعمال القاسية، بل يسهل عليه أمر زراعة الأرض الذي وقف أكثر السكان به نفوسهم عليه من جهة، ويؤدي إلى اعتمادهم على النظام النباتي في أمر الغذاء من جهة أخرى، فالهندوسي يكاد لا يغتطي، ويقتصر في طعامه على قليل من النبات ويرتوي بماء صاف، ويعيش عن سعة ببضعة دوانق مياومة، فارتفاع درجة الحرارة في بلد الهندوسي، إذ يؤدي إلى زهد الهندوسي في الطعام واللباس، لا يجد الهندوسي به الحافز الحاجي الذي يزيل به كسله الطبيعي.
ونشأ عن تأثير البيئات المادية المتماثلة وتكرر الأعمال الواحدة طرق للمعايش متشابهة بحكم الضرورة، ثم ثبت أمر هذه المعايش المتشابهة بمؤثرات أدبية واحدة أهمها نظام الطوائف والنظام السياسي والمعتقدات الدينية.
ونظام الطوائف هو حجر الزاوية لجميع نظم الهند الاجتماعية منذ ألفي سنة، وبلغ نظام الطوائف من الأهمية ما وقفنا به مطلبا خاصا من هذا الكتاب على البحث فيه، فسنرى في هذا المطلب ما هي الأسباب الإثنولوجية التي أوجبته في غابر الأزمان، وما هي الأسباب التي حلت محل تلك بالتدريج فدام بها مع تتابع القرون، وسنرى كيف أسفر ذلك النظام عن تقسيم الهند إلى ألوف من الجمهوريات الصغيرة غير مبال بعضها بشئون بعض، أو معاد بعضها لبعض، ومنفصل بعضها عن بعض في المشاعر انفصالا يتعذر معه أن تكون ذوات مآرب مشتركة، وسنرى كيف أن طائفة الهندوسي، لا الهند، هي وطن الهندوسي الحقيقي، وكيف أن طائفة الهندوسي قد أحاطته بشبكة من التقاليد والعادات إحاطة ثبت أمرها بالوراثة فأضحى خروجه منها صعبا إلى الغاية.
وأدى النظام السياسي، الذي هو ثاني المؤثرات المذكورة آنفا، وذلك في غضون القرون، إلى مثل ما أدى إليه نظام الطوائف في تكوين روح الهندوسي، ويمكن تعريف نظام الهند السياسي السائد منذ زمن طويل بأنه يتألف من جماعات صغيرة تعرف بالطوائف، وأن هذه الطوائف متجمعة على شكل جمهوريات صغيرة تعرف بالقرى الخاضعة لسيد واحد ذي سلطان مطلق، وعلى ما اعتور اسم السيد من تبدل لم يتغير ذلك النظام الذي بلغ من الديمومة ما وهنت به روح المقاومة في الهندوسي فتعود الهندوسي مع القرون أن يطيع سلطة سيد إطاعة تامة، سائرا وفق المعتقدات الدينية.
ونذكر التعاليم الدينية، التي هي ثالثة المؤثرات، مما أوجب اتصاف الهندوس بأخلاق متماثلة، ولا يستطيع الأوربي أن يدرك تأثير الدين العظيم في الهندوس إلا إذا حققه بنفسه، فأكثر الأوربيين تدينا يفرق بين المقدس والمدنس تفريقا لا يفهمه الهندوسي الذي يعتقد أن الآلهة تنظر في أدق شئونه وأن تعاليم الدين تهيمن على جميع أعماله، فالدين، بالحقيقة، كل حياته إن لم يكن جزءا منها، فما السعي والأكل والنوم عند الهندوسي إلا أعمال دينية، وكل شيء ما خلا أوامر الدين باطل لديه، والدين هو الذي يوجهه، ولم يرض بلقاح الجدري، مثلا، إلا بعد أن اكتسب شكلا دينيا، ونحن، حين البحث في تكوين أديان الهند، نثبت مقدار الفراغ الذي تملؤه الأديان في حياة الهندوس، ومقدار عد الهندوس لكل سلطة عنوان قدرة إلهية، وهنا، كما في أمور كثيرة أخرى، نتمثل الهوة العظيمة التي تفصل الشرق عن الغرب في كل أمر، والتي لم تفتأ تزيد اتساعا.
والباحث وقتما يدقق في تسليم الهندوسي وإذعانه المطلق لأوامر الآلهة فيعلم أن هذه الأوامر سيطرت عليه قرونا كثيرة، وأن تعاليم منو الدينية هي صاحبة السلطان في الهند منذ ألفي سنة يدرك درجة انسكاب أذهان الهندوس التي احتملت نيرا واحدا تلك المدة في قالب واحد.
ولنبحث، بعد أن أوضحنا تأثير تلك العوامل الكبيرة، في الأخلاق العامة التي نشأت عنها. (2) الصفات الخلقية والعقلية المشتركة بين أكثر الهندوس
لا تجد في أمة خضعت منذ عدة قرون لمعايش وأحوال مادية وأدبية، كالتي ذكرناها آنفا، ما تجده في الأحرار من شدة البأس ومتانة الخلق، فلو كان عند الهندوس مثل ذلك، أو أقل من ذلك؛ لخلعوا نير الأجنبي عنهم منذ زمن طويل، فلا عجب إذا رأينا في الهندوس من النقائص ما يرى عادة في الأمم التي رئمت
1
حكم الأجنبي قرونا كثيرة، فالهندوسي، على العموم، خوار
2
هياب مكار ولاج
3
ملاق
4
إلى أبعد حد، وتدل أوضاعه على الخداع والإلحاف،
5
وهو بعيد من المبادئ الوطنية، وما عرض له من البغي والطغيان أحقابا
6
جعله يرى الخضوع لسيد على أن يحترم هذا السيد شرائع طائفته وعقائده الدينية، فالهندوسي ينقاد سلفا لجميع أوامر سيده ويعد نفسه سعيدا إذا ما نال حفنة أرز يمسك بها رمقه.
شكل 4-1: كارلي. مدخل معبد مصنوع تحت الأرض في القرن الثاني قبل الميلاد.
والهندوس قوم لينون صابرون مسلمون، وأشد نقائصهم وقفا لنظر الأوربي هي، خلا ما تقدم، البلادة والغفلة والخمول.
والخمول أظهر أخلاق الهندوس، وبالخمول نفسر خضوع 250 مليون هندوسي لسلطان 60000 إنجليزي من غير أن يرفعوا عقيرتهم،
7
مع أنه يسهل عليهم أن يبيدوا هؤلاء الإنجليز في يوم واحد إذا قاموا قومة رجل كما يسهل على رجل
8
من الجراد أن تهلك بر حقل، وليس هذا مما يصدر عن الهندوس، وما اضطراب فصائل من السباهي الساخطين في سنة 1857 إلا فورة محلية عارضة لم يكترث لها معظم القوم.
وسنرى أن مستوى الهندوس العقلي المتوسط ليس دون مستوى سادتهم الأوربيين العقلي المتوسط، بيد أن الهندوس أقل من هؤلاء الأوربيين أخلاقا بمراحل، وفي هذا بيان لسبب انقياد الهندوس للغربيين، والأخلاق؛ «أي الثبات والعزم»، هي، كما نعلم من التاريخ ومن دراسة الناس، تمثل دورا في حياة الأفراد والأمم غير الذي يقوم به الذكاء، فبالأخلاق، على الخصوص، أكثر مما بالذكاء، تؤسس الديانات وتشاد الدول؛ ففي صراع يقع بين شعبين يتألف أحدهم من أناس أذكياء متعلمين متصفين بالحذر الذي هو وليد الذكاء قائلين ببطلان كل مثل عال غير مستعدين للتضحية بأنفسهم في سبيل المثل العليا، ويتألف الآخر من أناس محدودي الذكاء عند لا يتأخرون عن بذل أرواحهم انتصارا للدين يتم النصر لهؤلاء على أولئك لا ريب، فهذا ما قلته غير مرة في غير كتاب، ففيه مفتاح كثير من حوادث التاريخ التي يظل إدراك أمرها متعذرا بدونه، فإذا كان الرومان قد قهروا الإغريق، وإذا كانت قبائل العرب التي هي من شباه البرابرة قد خرجت من جزيرتها ففتحت العالم الإغريقي الروماني، وإذا كان المسلمون قد ملكوا الهند، ثم جاء إنجليز قليلون فدوخوها، لم يتفق ذلك كله لهؤلاء الفاتحين جميعهم إلا بفضل ما اتصفوا به من شدة العزم أكثر من اتصافهم بقوة الذكاء، فالعزيمة هي أقوى ما في البشر من القوى.
ويضاف إلى الخمول الذي هو أظهر صفات الهندوس عدم اكتراثهم الدال على الإذعان والتسليم بالقدر فيغضي الهندوسي هادئا عن كل ما لا يمس تعاليم طائفته ومعتقداته الدينية، فيحتمل أقسى ضروب الجبروت عادا إياها أمرا مقدرا لا مفر منه.
وليست شجاعة الهندوسي مثل شجاعة الأوربيين، فالهندوسي يزدري الحياة ولا يهزه الموت، ولا يحاول اجتنابه؛ لما يجده من عدم استحقاقه لذلك، ولما يراه من أن كل عمل للفرار منه لا يجدي نفعا.
وعدم اكتراث الهندوسي لأكثر ما في هذه الدنيا يؤدي إلى عدم التأثير فيه بمثل العوامل التي يؤثر بها في الأوربي، فكيف يؤثر في أناس لا يبالون بالحياة ولا بالموت ولا يشعرون بشين من فرض أية عقوبة تنص عليها قوانيننا، ولا سيما السجن، ولا يطلبون في كل يوم غير وجبة أرز يسدون خلتهم بها؟ فالهندوس إذا ما نالوا مثل هذه الوجبة لم تجد ما يخرجهم من بلادتهم، فعد العامل الهندوسي أي مبلغ من المال مقابل عمل يقوم به في وقت معين ونل منه أي عهد بذلك لم ينجز ما عاهدك عليه، فالغد عند الهندوسي مستقبل بعيد مشكوك في أمره كثيرا، فلا يدور في خلده أن يفكر فيه، فالأوربي الذي اختبر الهندوس قليلا يعلم جيدا أنه يجب عليه، إذا أراد أن يعتمد على حماليهم، مثلا ، ليكونوا حاضرين في الزمن المقرر، أن يحملهم على النوم ليلا أمام بابه.
ويجب على الباحث أن يدرس أحوال الهندوس عن كثب؛ ليعلم جهلهم بعض مشاعرنا البسيطة التي انتقلت إلينا بالوراثة كالدقة والضبط، ومن ذلك أن الهندوس في بدء إدخال الخطوط الحديدية إلى بلادهم كانوا يصلون إلى محطاتها بعد ساعتين أو ثلاث ساعات من الوقت المقرر لذهاب القطر، فلما علموا بالتجربة أن القطر تمضي من غير أن تنتظرهم صاروا اليوم يفدون إلى المحطات قبل الميعاد بساعتين أو ثلاث ساعات، فمن ثم ترى أن خلق عدم الضبط فيهم لم يتغير، بل بدل دليله على حسب تعبير علماء الجبر.
وقد عاملت هندوسا من جميع الطبقات ومنهم خريجوا الجامعات الأوروبية، فلم يحدث أن أتاني واحد منهم مرة واحدة في الوقت المعين، مع أنني لم أجد في الهند إنجليزيا واحدا يخلف الميعاد.
ونحن، بعد أن درسنا أخلاق الهندوس العامة، نرى، للوصول إلى حكم صائب، أن نبحث في صلاتهم بالأوربيين وفي علاقات بعضهم ببعض.
يألم الأوربيون ذوو الصلات بالهندوس من مداجاة هؤلاء وعدم صدقهم، وهم ينسون أن هذه النقائص من مقتضيات علاقات العبد بسيده، فصلات الهندوس بعضهم ببعض هي على خلاف ذلك، وإذا ما اتخذنا احترام المرء لطبائع بلده وعاداتها وشرائعها وما ينطوي عليه هذا المرء من التقوى وروح التسامح مقياسا أمكننا أن نقول: إن عوام الهندوس أفضل من عوام الأوربيين، وإننا كلما صعدنا في السلم الاجتماعية بدا لنا العكس فرأينا فقدان الأخلاق في الهندوس الذين تخرجوا على الطريقة الأوربية، فثبت لنا بذلك فساد النظرية القائلة إن التعليم يرفع مستوى أخلاق الناس، وعلمنا بذلك أن التربية التي تلائم احتياجات أمة فتصلح لها تأتي بنتائج سيئة عند تطبيقها على أمة أخرى سلكت طريقا أخرى في التطور.
وتقتصر تقوى الهندوسي على أبناء طائفته، ولا تنس أن هذا من مقتضيات أوامر دينه القائلة إن العمل يكون ذنبا على حسب أهمية المجني عليه، فمع أن شريعة منو تعد شتم البرهمي جناية تنص على أن أكبر جناية على الشودري من اللمم .
9
ولا أرى أفضل من قول الأستاذ الإنجليزي مستر مونير وليامز الخبير بأحوال سكان الهند في أخلاق الجمهور الهندوسي، قال هذا الأستاذ:
لم أر في أية ناحية من أوروبا شعبا، كالهندوس، متدينا متما لواجباته خاضعا لأولياء الأمور محترما، مع خفض جناح، للسن والعلم مطيعا لأبويه، أجل، إن للهندوس نقائص ومعايب، ولكن ذلك دون ما في الأوربيين، وإني لأشك في أن يكون أسوأ الهندوس ذا مساوئ وشوائب كما في طبقات الأوربيين التي تقابل طبقته.
ذكرنا صفات الهندوس الخلقية المشتركة على العموم، فنرى الآن أن نقدر مستوى أهلياتهم العقلية، ويتطلب هذا التقدير مقياسا فنتخذ الأوربيين مثالا.
ولكي تكون المقابلة ممكنة يجب أن تتناول عناصر متماثلة يقاس بعضها ببعض؛ فنقابل بين هندوس الطبقات الوسطى بأوربيي الطبقات الوسطى، ونقابل بين هندوس الطبقات العليا وأوربيي الطبقات العليا.
أشك في تأدية المقايسة بين طبقات كلا الفريقين الوسطى إلى تفوق يذكر للأوربيين مهما بولغ في التدقيق، نعم، إن الهندوسي دون الأوربي مبادرة وأبطأ منه عملا، ولكنه يستطيع أن يقوم بمثل ما يقوم به الأوربي من غير عناء وبآلات أقل من آلات الأوربي، فيصنع كأحسن عامل أوربي أنواع المصنوعات الخشبية والحجرية والمعدنية، وما يؤدي إليه التخصص من إضعاف مستوى الأوربي لم يؤثر في الهندوسي بعد، والهندوس مثل الأوربيين، إن لم يفوقوهم، في القيام ببعض الفنون كفن العمارة.
والهندوس مساوون للأوربيين في أكثر الأعمال التي تستلزم غير أهليات عقلية متوسطة، فتجد بين الهندوس محامين وأطباء ومهندسين يعدلون من هم في المستوى المتوسط بيننا؛ فالهندوسي يستطيع كالأوربي أن يرسم صورة بناء وأن يسوق قاطرة وأن يدير جهاز برق، وتجد الهندوس في الإدارات الإنجليزية بالهند يقومون بأكثر وظائف البريد والمصارف والمالية والخطوط الحديدية، إلخ.
ويبدو قصور الهندوس وعجزهم عند الصعود في أعلى درجات المقياس العقلي حيث قوة المبادرة وروح الإبداع والقدرة على التأليف بين الأفكار الكثيرة وتفريق ما ائتلف منها وما اختلف، فالهندوسي يتعذر عليه أن يدير مشروعا صناعيا عظيما وأن يقود الرجال وأن يقوم بالمباحث العلمية وأن يأتي بالاكتشافات وما إلى ذلك كله من الأعمال التي تتطلب استقلالا وحرية سير، فالهندوسي، وإن سهل عليه أن يدير قاطرة أو جهاز برق، يستحيل عليه اختراعهما، وتقريبا للذهن نقول: إننا إذا جمعنا اتفاقا ألف أوربي وجدنا بينهم 995 على الأقل لا يفوقون ألف هندوسي يجمعون اتفاقا أيضا، وإن الذي لا نجده في الهندوس هؤلاء هو واحد أو أكثر من ذوي المواهب العالية والأهليات النادرة.
شكل 4-2: أجنتا. منظر عام لمداخل قسم من الأديار والمعابد التي نحتت تحت الأرض في منحدر الجبل بأجنتا بين القرن الثاني قبل الميلاد والقرن السابع بعد الميلاد.
هذه مسألة مهمة قد فصلتها في كتاب آخر فذكرت أن الفروق بين العرق العالي والعرق المتأخر لا تقوم على تفاوت في مستوى كلا ذينك العرقين العقلي المتوسط، بل تقوم على عطل العرق المتأخر من رجال قادرين على مجاوزة ذلك المستوى، وهذا أمر أساسي يمكن الاستدلال عليه في العوامل النفسية، وهذا أمر أساسي قد سعيت في استنتاجه من العوامل التشريحية أيضا، فقد أثبت، بما قمت به من المباحث في عدة جماجم من عروق مختلفة، أن العروق العالية تحتوي على الدوام ما لا تجده في العروق المتأخرة من الجماجم الكبيرة الواسعة.
ولنترك تلك المبادئ الفلسفية العامة، ولنعين ما يختلف به هندوسي الطبقات العليا عن أوربي الطبقات العليا، لنبصر أن ذلك الهندوسي يفترق عن ذلك الأوربي، على الخصوص، في عطله من روح الضبط والدقة وروح النقد وخلق المبادرة وأصالة الرأي وقوة البرهان وفي سعة خياله وفي عجزه عن رؤية الأمور كما هي عليه، وما إلى ذلك من النقائص التي لا يطفو عليها قدرته على الإدغام وما فيه من المنطق الذي لا يعدو به حد استنباط عدة نتائج من الأمر الواحد فلا يستطيع أن يقابل بين المتشابهات والمختلفات التي تستخرج من مقايسة شتى الأمور.
عطل الهندوسي من روح الضبط واضح، فالأمور تتموج عنده، كالضباب، من غير ضابط، فتبدو له كما لو كانت من خلال عدسات كالمرايا المشوهة التي يعرفها علماء الفيزياء، فترى نظمه الدينية وأقاصيصه التاريخية وقصائده القومية مبهمة متناقضة، ولهذا التناقض وعدم الضبط تجد أديان الهندوسي، ولا سيما البدهية، غامضة لدى علماء أوروبا الذين تعودوا دقة المنطق فلا يكون للكلمات عندهم سوى معان صريحة معينة، ولذلك يلوح الإلحاد والشرك للأوربي، مثلا، أمرين تفصل أحدهما عن الآخر هوة عميقة مع أنهما لا يبدوان للهندوسي إلا أمرين يمكن التوفيق بينهما فتقرأ في كتبه فرضهما عليه.
وأمور كفقدان الضبط وتموج الفكر، وإن كانت تحتمل في الإلهيات والأشعار والقصائد الدينية، تضحي ثقيلة غير سائغة عند تطبيقها عل الموضوعات التي لا بد لها من الضبط، وأمور كتلك حالت دون مجاوزة الهندوس أدنى المراحل في العلوم الصحيحة، أجل، قد هضم الهندوس ما علمهم إياه العرب فيما مضى وما يعلمهم إياه الأوربيون في الزمن الحاضر، ولكنهم لم ينتهوا إلى اكتشاف واحد في ميدان المعرفة.
ومن آية عدم الضبط ذلك أنك لا تجد بين ألوف الكتب التي وضعها الهندوس في ثلاثة آلاف سنة من سنوات الحضارة كتابا واحدا يشتمل على تواريخ صحيحة، فاضطر العلم الحديث إلى اتخاذ بعض الطرق المصنوعة كي يعين تعيينا تقريبيا الأزمنة التي ظهر فيها أشهر ملوكهم، ولا تسأل عن أنبائهم التاريخية، ففيها يتجلى لك استعداد الهندوس، عن حسن نية، لرؤية الأمور على غير ما هي عليه ورواية ما يشاهدونه محرفا مبدلا.
وإذا أردنا إجمال ما ورد في هذا الفصل عن الأخلاق المشتركة بين أكثرية الهندوس قلنا إن عوامهم ليسوا دون عوام الأوربيين، وإنه ليس عندهم ما عند الأوربيين من أصحاب النفوس العالية، وإن معظمهم عاطل من النشاط والثبات والإرادة، وإنهم مقسومون إلى عدة طوائف مؤلفة من ألوف الزمر التي ترى لكل واحدة منها جنسية خاصة ذات مصالح تختلف عن مصالح الأخرى، وإن أحوالا كهذه تفسر الدور الذي مثلته الهند على مسرح العالم والذي ستمثله، فالهند، إذ كانت أمة منذ الأزل كتب عليها أن تخضع لسادة من الأجانب على الدوام.
تم البحث في البيئات والعروق التي هي عوامل حضارة إحدى الأمم الأساسية، وقد تجد عوامل أخرى في تطور هذه الحضارة، ولكنها تستند إلى البيئات والعروق على الدوام، ونحن، إذ فرغنا من بحثنا التمهيدي، ندرس الحضارات التي أينعت في الهند والتطورات التي اعتورتها في غضون الأجيال.
هوامش
الباب الثالث
تاريخ الهند
الفصل الأول
تاريخ الهند قبل المغازي الأوروبية
(1) مصادر تاريخ الهند
ليس للهند القديمة تاريخ، وليس في كتبها وثائق عن ماضيها، ولا تقوم مبانيها مقام الكتب ما دامت لا تزيد في القدم عن ثلاثة قرون قبل الميلاد، ولولا ما في قليل من الكتب الدينية من أكداس الأساطير التي يستشف منها بعض الحوادث التاريخية؛ لظل ماضي الهند مجهولا جهل ماضي جزيرة الأطلنتيد التي محيت بانقلاب جيولوجي فجاء ذكرها في الأساطير القديمة التي خلدها أفلاطون.
وأقدم المصادر التي يرجع إليها في تبين أثر للماضي المفقود أشعار ويدا الدينية التي كتبت في أدوار مختلفة، والتي تصل في القدم إلى ما قبل القرن الخامس عشر من التاريخ الميلادي تقريبا، ثم تأتي القصائد الحماسية المعروفة بمهابهارتا وراماينا وشريعة منو الدينية والاجتماعية.
وليست آداب الهندوس في عصرنا بأغنى منها في العصر الذي قبله، والمصادر الوحيدة التي يمكن مراجعتها في هذا الأمر هي المجموعات التي ألفها البورانا، ووضعت في أدوار مختلفة لا تجاوز القرن الثامن بعد الميلاد، وملئت بالخرافات العجيبة، وعطلت من أي تاريخ عطلا لا يستطيع العلم الحديث أن يستنبط معه كبير شيء، فالحق أن دور الهند التاريخي لم يبدأ إلا بعد المغازي الإسلامية في القرن الحادي عشر بفضل مؤرخي المسلمين.
ونضيف إلى تلك المصادر الناقصة أقاصيص السياح الذين زاروا الهند في القرون القديمة، وهذه الأقاصيص قليلة جدا، وليس لدينا مما هو خاص بما قبل المسيح سوى مختارات من أحدوثة ميغاستين السفير اليوناني لدى بلاط مغدها قبل الميلاد بنحو ثلاثمائة سنة، ولم ينته إلينا عن الثلاثة عشر قرنا التي انقضت بين ذلك الزمن القديم والمغازي الإسلامية غير قصتين للحاجين الصينيين فاهيان وهيوين سانغ اللذين زار أولهما الهند في القرن الخامس وزارها الآخر في القرن السابع، وذلك خلا ما ورد في كتب المؤلفين من شذور، وتعد قصة ثاني ذينك الحاجين، على الخصوص، أهم الوثائق التي وصلت إلينا عن الهند قبل الغزوات الإسلامية.
شكل 1-1: أجنتا. محراب معبد منحوت تحت الأرض، «يبلغ ارتفاع التمثال الكبير مترا واحدا و60 سنتيميترا.»
وما في كتب التاريخ من نقص كبير عن الهند يسفر عن أهمية الآثار الماثلة كالمباني والتماثيل والنصمات،
1
وأقدم هذه الآثار الأعمدة التي نقش أشوكا عليها مراسيمه قبل الميلاد ب 250 سنة، ثم يليها في القدم نقوش المباني العظيمة كبهارت وسانجي وغيرهما من التي أقيمت في القرن الأول من الميلاد أو قبله بقرنين أو أكثر، فمن ينعم النظر فيها يظفر بفوائد كبيرة عن طبائع الشعوب التي أقامتها وعاداتها ومعتقداتها وفنونها ويعلم درجة تمدنها.
وإلى تلك الآثار التي لا يكاد أقدمها يرجع إلى ما قبل ثلاثة قرون قبل الميلاد تضاف المعابد المصنوعة تحت الأرض والتماثيل والنقود التي تلقي ضوءا على تاريخ البقعة التي أنشئت فيها، ومن ذلك أن كشفنا من بقايا التماثيل والمباني تأثير الإغريق العميق في بعض المناطق بعد الإسكندر بعدة قرون، أي بعد طرد الإغريق من الهند بزمن طويل، ومن ذلك أن نقوش المعابد تكشف لنا عن منشأ ما انتاب الهند القديمة من المعتقدات وتطور هذه المعتقدات.
وللدين أثر بالغ في الهندوس على الدوام كما في أمم الشرق، وبلغ الدين من الشأن العظيم في الهند ما نقدر أن نتخذ به تطورات المعتقدات أساسا لتقسيم تاريخي.
ويشتمل ذلك التقسيم الواسع، الذي لم تحدد فيه الأدوار لتداخلها أو لوجودها معا، على الأعصر الآتية: العصر الويدي، العصر البرهمي، العصر البدهي، العصر البرهمي الحديث أو عصر النهضة البرهمية، العصر الإسلامي، العصر الأوربي. (2) العصر الويدي
ترجع أوائل العصر الويدي إلى ما قبل القرن الخامس عشر قبل الميلاد، وآيتها غزو الآريين للهند.
ويعد العصر الويدي عصر تاريخ الهند الخرافي، فكل ما نعرفه عنه من علم قليل هو ما تكشف عنه الكتب الدينية المعروف بالويدا، والتي أصيب في تسمية أهمها رغ ويدا بتوراة آريي شمال الهند الغربي.
عاش قدماء الآريين الذين استوطنوا ما بين جبال همالية وجبال وندهيا في البداءة رعاة أعرابا، ومن المفروض أن قاموا بغزوهم شيئا فشيئا، ويظهر أن أقدم كتبهم وضع قبل الميلاد بخمسة عشر قرنا حين كانوا لا يعرفون نظام الطوائف وحين كانوا يعبدون قوى الطبيعة غير مقيمين لها معبدا ولا هيكلا، وإلى الشعوب التي ملكوها جلبوا لغة وديانة جديدتين ولم يأتوها بفن عمارة، فهؤلاء الآريون الفطريون، وإن كانوا قادرين على وضع الكتب، لم يكونوا عارفين بشيد المباني الحجرية، ولا شيء يدل في أقدم كتبهم على أنهم أنشئوا معابد وقصورا.
وسنعود إلى العصر الويدي في الفصل الذي خصصناه لدرس الحضارة الآرية بالهند، فلا نرى أن نسهب في بيانه الآن كما أننا لا نسهب في بيان العصر البرهمي الذي ختم به ذلك العصر فنعود إلى دراسة حضارته، وهذا إلى أن وثائق هذين العصرين التاريخية الصحيحة مفقودة، وما انتهى إلينا من قصائد العصر البرهمي التي أيدتها أحدوثة ميغاستين يثبت أن الهند أخذت في العصر البرهمي تغطى بالمدن والمعابد والقصور، وإن لم يصل إلينا أي طلل لمبانيه. (3) العصر البدهي
يرجع ظهور البدهية في الهند إلى الأساطير أكثر مما إلى التاريخ، فلا نعرف عن عصرها الأول غير ما ورد في الكتب البدهية من الأحاديث الخيالية، ثم أخذ صريح الحوادث يبدو والإبهام ينجلي بعد مغازي الإسكندر، ولا سيما حين أضحت البدهية دينا رسميا قبل المسيح بنحو 250 سنة، ثم عاد الغموض بعد زمن قليل مع الأسف، وبقي على ما كان عليه عدة قرون.
وقع غزو الإسكندر في سنة 327 قبل الميلاد، فلما أتم الإسكندر فتح بلاد فارس عزم على فتح الهند لكي يصبح سيد آسيا.
وما كان من انقسام منطقة البنجاب إلى عدة دويلات مستقلة متنافسة يسر للإسكندر بدء فتحه للهند، والإسكندر حضر إلى الهند على رأس جيش مؤلف من 120000 مقاتل، وكانت نواة هذا الجيش من الإغريق وسياجه من الفرس، وكان لديه أدلاء من الهنود، وكان على اتفاق مع رؤساء لسكان البلاد الأصليين ولا سيما مع ملك تاكشيلا الواقعة بين نهر السند ونهر جهيلم الذي كان يعرف بنهر هيداسبس.
زحف الإسكندر من بقطريان إلى مدينة كابل ثم سار إلى الهند فعبر نهر السند فاعترض له بورس ملك ما بين هيداسبس وجناب فهزم هذا الملك، ثم حالفه تاركا له مملكته؛ فخضع له إذ ذاك عدة ملوك ولا سيما ملك كشمير.
ثم زحف الإسكندر بعد عدة وقائع ضد رؤساء من الأهالي إلى نهر هيفاس «المعروف اليوم بنهر بياس»، فلم يوافقه جيشه على السير إلى ما وراءه، فأقام على ضفافه اثني عشر هيكلا تذكاريا؛ لتكون علائم على نهاية الغزو، فلما عاد إلى ضفاف هيداسبس أنشأ أسطولا فنزل به إلى حيث يصب في نهر السند، ولم يفتأ الإسكندر يحارب إلى وصل إلى بتيالة الواقعة على مصب نهر السند فأرسل أسطوله إلى الخليج الفارسي بقيادة نيارك وسار على الشاطئ، ثم قسم جيشه إلى فيلقين فأعاد أحدهما من طريق كرمان إلى بلاد فارس بقيادة كراتر ورجع بالآخر من طريق جدروزيا «السند»، ثم وصل ذلك الأسطول إلى الخليج الفارسي، وتلاقى الإسكندر وكراتر فأقيمت الأعياد ابتهاجا بالعودة من الغزو.
ولو نظرنا إلى غزوة الإسكندر من ناحية الفتح لقلنا إنها غير ذات نتائج لتلاشي الحاميات الإغريقية التي تركها في الهند في بضع سنين، بيد أنه كان لتلك الحملة نتائج طيبة لوصلها أوروبا بالهند لأول مرة.
اغتنم الملك الهندوسي جندر غبتا «المعروف لدى الإغريق بساندرو كوطوس» فرصة رجوع الإسكندر، وكان ابنا لأحد زعماء البنجاب الذين شتت الإسكندر شملهم، فوسع رقعة مملكته في شمال الهند بالتدريج، منكلا بالحاميات الإغريقية جاعلا باتلي بوترا «بتنة الجديدة» عاصمة لمملكة مغدها، ولم يلبث أن ذاع صيته فأرسل نيكاتور السلوقي، الذي ملك بعد وفاة الإسكندر سورية وبلاد بابل والولايات الواقعة بين نهر الفرات ونهر السند، حوالي سنة 300 قبل الميلاد، سفيرا إلى بلاطه اسمه ميغاستين، فأقام هذا السفير الإغريقي زمنا طويلا بباتلي بوترا، فمن القصة التي ألفها هذا السفير فانتهى إلينا جزء منها اطلعنا، لأول مرة، اطلاعا صحيحا على طبائع الهندوس وعاداتهم في ذلك الزمن.
ولم تقتصر علاقات الإغريق بالهندوس على غزوة الإسكندر ولا على سفارة ميغاستين، فاليوم نعلم، مع سكوت المؤرخين، وذلك من النقود وبقايا المباني التي انتهت إلينا، أن خلفاء الدولة الإغريقية البقطريانية التي أقامها نيكاتور السلوقي فتحوا البنجاب وشادوا عدة ممالك ووصلوا إلى مترا، وأن أفاقا اسمه ميناندر أسس سنة 126 قبل الميلاد مملكة بين نهر جمنة ومصب نهر نربدا.
والنقوش والنصمات
2
والنقود هي كل ما انتهى إلينا من تلك الممالك الإغريقية في الهند، فمنها نعلم أن هذه الممالك زالت أمام مغازي الشيث حوالي الميلاد، وأن هذه المغازي بدأت في القرن الذي جاء قبل الميلاد، وأن الشيث استولوا على شمال الهند الغربي فأقاموا مملكة اشتملت على بقطريان وضفاف السند والبنجاب وقسم من راجبوتانا، وأن أجل هذه المملكة كان قصيرا ما احتمل طرد الشيث من الهند في أوائل القرن الأول من الميلاد.
ولندع جانبا هذا الجزء الغامض من تاريخ الهند الذي بعثته المباحث الحديثة ولنأت إلى جندر غبتا وخلفائه.
يدعى حفيد جندر غبتا بأشوكا الشهير الذي تقلد الملك سنة 250 قبل الميلاد تقريبا، ومما جاء في بعض الأساطير البدهية أن أشوكا هذا قتل إخوته المائة الذين ولدوا لأبيه من ست عشرة زوجة، فأمن بذلك أمر منافستهم له، فبسط ملكه على جميع شمال الهند، وتتضح حدود مملكته من الكتابات التي لا تزال موجودة، فمنها نرى أنها قامت بين أفغانستان والبنغال وهمالية ونربدا، وأنها تاخمت مملكة الإغريق في بقطريان من الغرب.
وبدئ تاريخ الهند المعماري بالملك أشوكا، ولا يزال كثير من العمد التي رفعها لتنقش عليها مراسيمه قائما، وأشهر هذه الآثار، كالموجودة في بهارت وسانجي وبدهة غيا ذات النقوش البارزة المعتبرة في تاريخ البدهية، صنع في أيام ملكه أو بعدها بزمن قليل، ولم ينته إلينا شيء من القصور التي أنشأها، ونفترض، مع ذلك، أنها جميلة جدا، فقد روى الحاج فاهيان، الذي رأى أطلالها وأطلال برج قصره في باتلي بوترا، أنها من الأعاجيب التي يعجز عن صنعها إنسان.
وأشوكا ذلك هو الذي جعل من البدهية دين الهند الرسمي، وكان على جانب عظيم من الحمية الدينية فأرسل مبشرين إلى كل ناحية، حتى سيلان، حتى مصر بالقرب من بطليموس فيلادلفيا.
ودام ملك آل مورية الذين كان أشوكا أهم رجالهم نحو قرن ونصف قرن، أي بين سنة 325 وسنة 188 قبل الميلاد، فبعد أن أديل منهم انقسمت الدولة التي شادها أشوكا إلى عدة دويلات ذوات ملوك مستقلين، واستطاعت مملكة مغدها أن تدوم، مع ذلك، إلى القرن السادس من الميلاد مقتصرة على البقعة التي تعرف في عصرنا ببهار، وتجد في القوائم التي وضعها البورانا أسماء ملوك مغدها لمدة ألف سنة، ولكن هذه القوائم غير موثوق بها.
والوثائق الوحيدة التي انتهت إلينا عن الهند بعد عهد أشوكا حتى الغزو الإسلامي هي المباني وأساطير البورانا، فهذه الوثائق وما يضاف إليها من أحاديث الحاجين الصينيين هي كل ما نستطيع أن نتمثل به حضارة الهند في ذلك الدور الطويل.
ولم يظهر في أثناء ذلك الظلام الدامس الذي دام اثني عشر قرنا غير قليل من الرجال ذوي الخطر فخلدت أحاديث الهند ذكراهم، وأشهر أولئك هو الرجل الأساطيري وكرماديته الذي كان ملكا لمالوا ومقيما بأوجين بالقرب من نربدا، ففي تلك الأحاديث أنه بسط ملكه على بلاد الهند إلى أقصى جنوب الدكن، وعلى ما في تاريخه من روح الأساطير نرى أنه مثل دورا مهما، فأرخ الهندوس سنة جلوسه فافترضوا أنها سنة 57 قبل الميلاد، فاتخذوها مبدأ للتاريخ المعروف بسموا.
ومن دواعي الأسف أن خلت تواريخ الهندوس من الضبط، شأن الهندوس في كل أمر، فمن البحث الدقيق في المباني والكتابات الحجرية يثبت لنا أن وكرماديته كان يملك بعد التاريخ المدون في الكتب بستمائة سنة.
وإلى هذا البطل تعزو الأساطير طرد الشيث من الهند، والشيث كانوا قد أوغلوا بين إغريق بقطريان قبل الميلاد بقرنين فأخضعوهم، ثم انتحل أحد ملوكهم كنشكا البدهية فأقام قبيل الميلاد دولة اشتملت على أفغانستان والبنجاب وراجبوتانا، ولا نعلم عن تاريخ الشيث في الهند غير أنهم نشروا الفن الإغريقي فيها، كما يشهد بذلك بعض التماثيل بمترا.
ونذكر من معاصري وكرماديته، وذلك بحسب الكتابات التي فسرها كننغهم، الراجه هرشاوردهان الذي دام ملكه من سنة 607 إلى سنة 648 فقص علينا الحاج الصيني هوين سانغ الذي زار الهند سنة 634 أنه من أقوى ملوك شمال الهند، وكانت مدينة قنوج التي هي من أقدم مدن الهند عاصمته، وهذه المدينة ظلت مقرا لآل غبتا مدة طويلة، ويفترض أنها من مهود
3
الحضارة الآرية، فذكرها بطليموس سنة 140 بعد الميلاد باسم قنوجيا، وكانت المملكة التي اتخذتها عاصمة لها في زمن هيوين سانغ تمتد من كشمير إلى آسام ومن نيبال إلى نربدا.
وتقع قنوج في غرب أغرا، وتبعد من نهر الغنج بضع كيلو مترات، وأجمعت الأنباء على مدح جلالها، وأعجب السلطان محمود الغزنوي بها أيما إعجاب وقتما هجم عليها سنة 1016 من الميلاد فرآها حينما دنا منها، على رواية فرشتة، «مدينة تناطح السماء بحصونها ومبانيها جديرة بأن تفتخر بأنها لا نظير لها.»
ولم يبق من هذه العاصمة القديمة التي كان طولها خمس كيلو مترات، على قول هيوين سانغ، حجر ينبئنا بتاريخها، وبلغ خراب مبانيها التي كانت قائمة قبل الغزو الإسلامي مبلغا لم يقدر كننغهم معه أن يجد طللا منها على ما قام به من بحث واستقصاء، وكل ما استطاع كننغهم أن يلاحظه من قديم في مدينة قنوج القديمة هو كتابة يرجع تاريخها إلى سنة 1136 ميلادية، أي إلى ما بعد الفتح الإسلامي بزمن طويل، وما تراه فيها من المباني فجميعه أقيم في العصر الإسلامي وإن بني بعضه من أنقاض المباني الهندوسية القديمة.
وقنوج هي من كبريات العواصم القديمة التي لا نعرف تاريخها إلا من بعض الروايات المبهمة وبعض الكتابات، ولا يجوز أن يعزى إلى خيال الأدباء وحده ما وصفت به عظمة هذه العواصم بعد أن شاهدنا بقايا بعضها الذي نجا من التخريب كمدينة كهجورا مثلا.
كانت قنوج وكهجورا ومهوبا وغيرها من المدن المشهورة، التي لم يبق منها سوى الاسم أو الأطلال، عواصم لدول قوية، وأشهر هذه العواصم ما كان يملكها ملوك من العرق الراجبوتي الذي لا نزال نرى منه أسرا مالكة فحافظ على نظمه وعاداته إن لم يصن استقلاله، ومن المحزن أن بدأنا نعلم تاريخ الراجبوت بعد أن أخذوا يتصادمون هم والمسلمون ، أجل، استطاع المسلمون أن يخربوا عواصمهم وأن يدحروهم إلى مناطق راجبوتانا الجبلية الوعرة، غير أنهم لم يخضعوا لهم إلا ظاهرا.
ذلك العصر الذي دام من زمن خلفاء أشوكا إلى زمن النهضة البرهمية فإلى المغازي الإسلامية هو، إذن، كالعصر الذي جاء قبله غموضا، فلولا ما بقي من مبانيه لجهلنا أمره تقريبا. (4) العصر البرهمي الجديد
ليس لدينا وثائق تاريخية عن عصر النهضة البرهمية أو العصر البرهمي الجديد، فالنقود والمباني هي المصادر الوحيدة التي يرجع إليها في تنوره.
ومن المحتمل أن شرع نفوذ البرهمية القديمة، الذي لم يغب تماما، يبدو أيام آل كبتا الذين بسطوا سلطانهم على شمال الهند في القرن الخامس من الميلاد، ففي نقود ملوك قنوج ودهلي ومهوبا ذكر للعودة إلى المعتقدات القديمة، وفي القرن الخامس والقرن السادس لم ينفك نجم البدهية عن الأفول، فلما حل القرن السادس ندر شيد مبان بدهية، ولما حل القرن الثامن غابت البدهية عن الوجود تقريبا، وسندرس في فصل آت سر هذا الغياب مستندين في ذلك إلى المباحث التي قمنا بها في الهند.
وأخذ يظهر مذهب جديد اسمه الجينية حينما بدأ ذلك الماضي المظلم ينجلي، ولكن معظم الهند قد شطر بين ديانة وشنو وديانة شيوا، ولم يعد حد النظر محافظة البرهمية الجديدة على الآلهة القديمة، فما بين هذه الديانة الجديدة والديانة القديمة من فرق عظيم جدا؛ فالبرهمية الجديدة هي، بالحقيقة، مزيج من قديم المذاهب الويدية والمعتقدات البدهية ومختلف الخرافات الأجنبية.
ولم يقطع عصر البرهمية الجديدة التي خلفت البدهية في الهند في القرن السابع أو القرن الثامن من الميلاد بفعل الغزوات الإسلامية، فالهند، وإن خضعت لأتباع النبي وكثير من الهندوس وإن رضوا بالإسلام دينا كما يدل عليه وجود خمسين مليون مسلم في الهند، حافظ معظم أهاليها على دينهم القديم، ولا يزالون يزاولون شعائره حتى الآن. (5) العصر الإسلامي
مارس المسلمون في الهند مثل النفوذ العميق الذي مارسوه في جميع أقطار العالم التي فتحوها، ولا أمة، كالمسلمين، تم لها من النفوذ البالغ ما تم للمسلمين كما أثبتناه في كتابنا «تاريخ حضارة العرب»، ولا تستثن الرومان من ذلك، ففي مدة سلطان المسلمين الذي دام في الهند سبعة قرون غير فريق كبير من الشعب الهندوسي دينه ولغته وفنونه تغييرا عظيما، وظل هذا التغيير باديا بعد زوال ملكهم، فعلى ما تعلمه من عدم تأثير الغزو الإغريقي للهند وعلى ما تراه من تفه النفوذ الإنجليزي في الهند تجد فيها خمسين مليونا من الهندوس يدينون بدين محمد.
ترجع غزوات المسلمين الأولى للهند إلى القرن السابع، ولم تكن هذه الغزوات سوى غارات موفقة، ولكنها لم تسفر عن استقرار دائم، وفي أوائل القرن الحادي عشر فقط بدأ غزو المسلمين الجد للهند بقيادة محمود الغزنوي.
محمود الغزنوي هذا من سلالة أفاق تركي أنشأ إمارة مستقلة في مدينة غزنة الجبلية الواقعة في جنوب كابل الأفغانية، فلما زحف إلى الهند كان شمالها الغربي مقسوما بين أمراء كثيرين من الراجبوت معترفين لراجه دهلي بالغلب والتفوق، وكان راجه قنوج الذي هو سليل راما يملك إمارة أودهة وإمارة وادي الغنج، وكان آل بال يملكون البنغال وبهار، وكان خلفاء وكرماديتة يملكون ملوا، وكان جنوب الهند يشتمل على الممالك الهندوسية الثلاث التي سنتكلم عنها في مكان آخر: جيرا وجولا وبنديا.
لم يوطد محمود الغزنوي سلطانه بسهولة، فقد قاومه الراجبوت، ولا سيما ملك لاهور أشد مقاومة، وما لاقاه من المصاعب الكبيرة غير التي لاقها الإسكندر، فلم تقل الحملات التي قام بها بين سنة 1001 وسنة 1026 لإخضاع شمال الهند عن سبع عشرة حملة، ووصل في غزوه إلى الكجرات حيث انتهب معبد سومنات، ولكنه لم يحتفظ بغير البنجاب، فظل الراجبوت مستقلين تقريبا، ثم سار خلفاؤه على سنته في التوسع فهاجر الراجبوت إلى منطقة راجبوتانا الجبلية الصعبة حيث أسسوا دولا لم تخضع بالحقيقة لأحد ولا للمغول، وهي لا تزال ملك كثير من الأسر الراجبوتية المالكة.
وما تم على يد محمود الغزنوي من فتح فذو طابع ديني سياسي، فمحمود الغزنوي كان مسلما متين العقيدة تواقا إلى رفع شأن الشريعة النبوية، فأعلن في كل مكان أنه ناشر لدين العرب وحضارتهم، فأنعم خليفة بغداد عليه بلقب يمين الدولة.
وكانت الهند تتمتع، حين أوغل محمود الغزنوي فيها، بما لا عهد لها بمثله من الوفر واليسر، وما لا يزال قائما فيها من المباني والآثار يثبت أن وصف أدباء الشرق لها بعيد من المبالغة، وما كان يقع بين ملوكها المحليين من الحروب لا يؤدي إلا إلى تبديل مواضع خزائنها وكنوزها من غير أن تخرج منها، مع أن ما عرضت له منذ قرن من امتصاصها المنظم قد نهكها تماما.
وليس مما لا طائل فيه أن نسهب في ذلك الأمر لنطلع على سر غنى المباني التي نصفها في هذا السفر، فلم يجد مؤرخو الشرق، حتى محمود الغزنوي نفسه، من التعابير ما يعربون به عن إعجابهم بها.
شكل 1-2: بهارت. نقوش بناء هندوسي أقيم في القرن الثاني قبل الميلاد تقريبا.
فلما فتح محمود الغزنوي مدينة مترا سنة 1019 بهرته أبهتها فكتب يقول:
تحتوي مدينة مترا العجيبة على أكثر من ألف من المباني المتينة متانة أهل الإيمان، والمصنوع أكثرها من الرخام، وإذا عد المال الذي أنفق على إنشاء هذه المباني بلغ ألوف الألوف من الدنانير فضلا عن أنه لا يقام مثل هذه المدينة في أقل من قرنين، ووجد جنودي في معابد المشركين خمسة أصنام من الذهب ذوات عيون من ياقوت أحمر تساوي قيمته خمسين ألف دينار، ووجدوا فيها صنما آخر مزخرفا بما زنته أربعمائة مثقال من الياقوت الأزرق، ووجدوا فيها، فضلا عن ذلك، نحو مائة صنم من الفضة يعدل وزنها حمل مائة بعير.
رأى محمود الغزنوي مثل تلك العجائب في جميع المدن التي دخلها، ولا سيما في قنوج التي كان لها أن تباهي بأنها فريدة بمبانيها كما روى فرشتة الذي ذكرناه آنفا، فوجد في أثناء الحملة التي قام بها سنة 1024 لهدم معبد سومنات بالكجرات على الخصوص، معبدا عجيبا ذا ستة وخمسين سارية مصفحة بصفائح من ذهب ومرصعة بالحجارة الكريمة، وذا ألوف من التماثيل المصنوعة من الذهب والفضة والمحيطة بهيكله، وذا صنم ضخم قائم في وسطه مشتمل في جوانبه على مقدار كبير من الحجارة الكريمة، وذا حشم مؤلفين من ألفي برهمي وخمسمائة راقصة وثلاثمائة موسيقي، ويقدر ما غنمه المسلمون من الكنوز في تلك الأثناء بنحو 250 مليون فرنك أي بمبلغ عظيم جدا في ذلك الزمن.
ولم يقل دهش خلفاء محمود الغزنوي عنه تجاه الثروات والعجائب التي لاقوها في كل مكان بالهند، فقد هدم محمود الغوري أصنام ألف معبد ببنارس وحمل أربعة آلاف بعير من الغنائم التي استولى عليها، وبلغ ما حمله جنود المسلمين في حملتهم الأولى التي قاموا بها في الدكن من الذهب الكثير ما تركوا معه الأدوات الفضية لثقل نقلها، فلم تكن أواني المعابد وبيوت الأغنياء مصنوعة إلا من الذهب الخالص، ولم يكن الناس ليتداولوا غير النقود الذهبية على عكس ما يقع في أيامنا.
ودام سلطان آل محمود الغزنوي الأفغان في غزنة ولاهور من سنة 996 إلى سنة 1186 حين طردهم محمود الغوري رأس أسرة الأفغان الثانية، فسلك محمود الغوري هذا في فتوحه مسلكا بسيطا كتب له التوفيق به كما كتب لخلفائه، ومنهم الإنجليز، من بعده، فقام ذلك على التدخل فيما كان يقع بين الأمراء المحليين من نزاع وعلى الاستفادة من تنافسهم بإضعافهم، ثم بالاستيلاء على ممالكهم، فهو بعد أن توسط حليفا في نزاع كان يفرق بين ملوك دهلي وقنوج جمع مملكتيهم وألف منهما دولة واسعة يحدها بنارس من الشرق وغواليار وكجرات من الجنوب جاعلا مدينة دهلي مقرا للحكومة.
مات محمود الغوري فأعلن أحد ولاته قطب الدين استقلاله فأضحى قطب الدين هذا رأس الأسرة الأفغانية المعروفة بأسرة الملوك المماليك التي دام سلطانها من سنة 1206 إلى سنة 1290، وإلى قطب الدين هذا يعزى إنشاء «منارة قطب» بدهلي.
والملك ألتمش هو أشهر ملوك هذه الأسرة، ويعد مزاره الفخم من أشهر مباني دهلي، ودام عهده من سنة 1211 إلى سنة 1236 فحارب في أثنائه عدة مرات ضد غارات المغول وفتن القبائل المحلية.
أديل من الأسرة الغورية فقامت مقامها أسرة أخرى يعد علاء الدين من أشهر ملوكها «1294-1313»، لما اتسع به مدى الفتوح الإسلامية في عهده، ولما كان له من الذوق في الفن المعماري مثل ما كان لأسلافه كما يشهد بذلك الباب المنقوش الذي يحمل اسمه بدهلي.
شكل 1-3: سانجي. منظر معبد مقبب، «من المحتمل أن يكون هذا المعبد قد أنشئ بين القرن الثالث قبل الميلاد، وقد أنشئ السياج المحيط به والأبواب الكبيرة المؤدية إليه في القرن الأول من الميلاد»، «يبلغ ارتفاع القبة نحو 17 مترا ويبلغ قطرها 34 مترا.»
ومن سوء حظ هذه الأسرة الجديدة أن تفاقم خطر المغول الذين جندوا في جيشها الملكي شيئا فشيئا، فلم يلبث زعيم هؤلاء المرتزقة أن أسس أسرة أفغانية مالكة خامسة «1320-1414» اشتهر منها فيروز وطوغلق، وامتاز ملوكها بالطابع الذي وسموا به فن العمارة.
وفي سنة 1398، أيام ثاني ذينك الملكين، أغار تيمور لنك على الهند فسلب دهلي فجاب الهند كإعصار فعاد إلى بلاده.
وكان الولاة يحاولون الاستقلال أيام انهماك ملوك دهلي في الحروب فوفق أكثرهم له فشادوا عدة ممالك، فتنافست عواصمها في البهاء، وزينت أجيادها بقلائد من المباني التي لا يزال عدد كبير منها قائما.
سادت الفوضى بعد غارة تيمور لنك، فحاول الولاة الذين استقلوا بالولايات الإسلامية أن يصبحوا أصحاب دهلي، فتمكن اللودي، حكام لاهور، من الاستيلاء عليها في سنة 1450 فأسسوا أسرة أفغانية مالكة سابعة دام سلطانها إلى سنة 1517.
ففي تلك السنة سلك حاكم لاهور الجديد تلك السنة فأراد الاستقلال، فرأى إبراهيم لودي أن يحمله على الخضوع فاستغاث بملك كابل المغولي بابر الذي هو من حفدة تيمور لنك وجنكيز خان، فأبصر بابر هذا أن فرصة فتح الهند سنحت، فلاح له اهتبالها فزحف إليها بجيش مؤلف من 12000 رجل فغلب جيش لودي المؤلف من 100000 رجل فاستولى على دهلي وعلى جميع شمال الهند.
بابر ذلك هو مؤسس آل الملك المغولي بالهند، وهو الذي استطاع أن يدوخها، ثم مات في أغرا سنة 1530 بعد أن أصبحت أفغانستان وهندوستان قبضته.
حافظ جنوب الهند على استقلاله في معظم الدور الإسلامي الأول الذي لخصناه آنفا، وذلك خلا القسم المتوسط المجاور لنربدا الذي استولت عليه الدول الإسلامية المستقلة، ولم تخضع الهند بأسرها لسلطان واحد إلا في الدور الأخير من الدولة المغولية، وذلك لوقت قصير جدا، ففي شمال الهند ووسطها، إذن، مارس بابر وخلفاؤه ملكهم.
اضطر همايون «1530-1556»، ابن مؤسس الدولة المغولية بالهند، إلى الجهاد طويلا، فأكره على الجلاء عن أغرا إلى السند حيث تزوج امراة فارسية فرزق منها في سنة 1542 ابنه الذي اشتهر بالملك أكبر فيما بعد، ثم ثبت دعائم مملكته فاسترد ما خسره فمات بالقرب من دهلي حيث لا يزال ضريحه ماثلا.
وفي زمن خليفة همايون، الملك أكبر «1556-1605»، تجلت عظمة الدولة المغولية بالهند، فقد حاول هذا الملك إدغام الهندوس بالمسلمين فتزوج أميرات هندوسيات، واتخذ وزراء له من المسلمين والهندوس معا، وأراد مزج فني عمارة كلتا الأمتين، ونستطيع أن نتبين مقاصده من المباني التي شادها وإن سكت التاريخ عنها، ويعد عهده الذي دام خمسين سنة من أنضر العهود الجديرة بأطيب الذكر، ونرى النظم التي انتحلها من أكثر النظم ملاءمة للشعوب التي ملكها، وكتب لكثير من هذه النظم البقاء بعده، وقلدها الإنجليز في الغالب.
وأكبر، إذ كان مرتابا وكان يعد الهندوس والمسلمين من المتعصبين، احترم ديانتيهم، وشجع بإنصاف إقامة معابد لجميع الأديان، وخيل إليه أن يصهر الأديان في دين واحد فحبط ما سعى إليه.
والملك جهانكير «1605-1628» من النوابغ أيضا، وإن كان دون أبيه أكبر أهمية، وهو، إذ كان مرتابا كأبيه متحليا مثله بخلق التسامح، سار على سياسته فتزوج نساء مسلمات هندوسيات، فعامل هاتين الأمتين بإنصاف، وكان للنصارى الذين بلغ عددهم ستين شخصا في عاصمته نصيب من رعايته.
ولم يكن ابنه شاهجهان الذي خلفه سنة 1628 فدام سلطانه إلى سنة 1658 متسامحا مثله، فقد حذف من فن العمارة ما استطاع حذفه من المؤثرات الهندوسية كما يدل على ذلك ما شاده من المباني.
وفي سنة 1637 استقر شاهجهان بدهلي، وأنشأ فيها القصر الفخم الذي لم يسمح الإنجليز بغير بقاء جزء منه، فيعد، مع ذلك، من أجمل مباني الدنيا.
وفي عهد شاهجهان أقيمت أشهر مباني المغول فنذكر منها تاج محل ومسجد اللؤلؤ بأغرا والقصر والمسجد الكبير بدهلي، إلخ.
وخلف أورنغ زيب أباه شاهجهان في سنة 1658 فدام ملكه إلى سنة 1707، فكان يقيم بأغرا تارة وبدهلي تارة أخرى، وفاق أباه قلة تسامح تجاه الهندوس، وأدى بتعصبه إلى سقوط الدولة المغولية بالهند، وذلك أنه قضى على مملكة بيجابور ومملكة غول كوندا الإسلاميتين في الدكن فقضى على الحاجز الأخير القائم أمام أعدائه الذين كان المراتها أهمهم، فأعد بذلك انحلال دولته العظمى، فنحن لو عددنا أهمية الدولة بنسبة اتساعها لقلنا إن الدولة المغولية بالهند بلغت الأوج في عهد أورنغ زيب، غير أنه كان ينطوي تحت هذا الاتساع بذور الانحطاط التي لم تلبث أن محقتها، فهي لم تعش، بالحقيقة، بعد الملك الذي رفع شأنها.
دام العصر الإسلامي الذي أجملنا تاريخه بما تقدم نحو سبعمائة سنة، ولم تكن وحدة الهند في معظم هذا العصر الطويل الذي امتد إلى زمن أورنغ زيب في غير الظاهر، فقد أقام ولاة المسلمين ممالك مستقلة كمملكة غور ومملكة غولكوندا ومملكة بيجابور وغيرها من الممالك التي لا نرى البحث في أمورها؛ فالحق أن الهند لم تصبح قبضة سيد واحد إلا في أيام أورنغ زيب، وذلك لوقت قصير.
شكل 1-4: سانجي. منظر باب بعيد قليلا من المعبد المقبب «يبلغ مجموع ارتفاعه خمسة أمتار و25 سنتيمترا.»
لم تدم تلك الدولة الموحدة زمنا طويلا، فكان موت أورنغ زيب نذير انهيارها، فلم يكد أورنغ زيب يتوفى حتى وقعت الهند في الفوضى العميقة، فأخذ المراتها والأفغان والسك والجات والراجبوت وأمراء مسلمون يتلهون بالنهاب وباقتطاع ممالك مستقلة من الجثة الضخمة، فلم يبق لخلفاء أورنغ زيب الضعفاء سوى سلطة اسمية، واسترد الدكن استقلاله، فأنشأ الوزير نظام فيه دولة لا تزال قائمة باسمه حتى الآن، واتخذ مدينة حيدر آباد عاصمة لها.
وفي سنة 1739 أغار شاه الفرس نادر على دهلي فغصب جميع ما جمعه المغول من الكنوز، فآب بغنائم تقدر بأكثر من مليار فرنك، وفي سنة 1747 استولى الأفغان على لاهور والبنجاب، واغتنم المراتها الفوضى فنزعوا من الدولة أجمل ولاياتها.
ولم يكن زوال ملك المغول كله وليد يوم واحد، فقد ظل جالسا على عرش دهلي حفدة أولئك الملوك 150 سنة أخرى، بيد أن سلطانهم أصبح اسميا بالتدريج، فكانت خاتمة أمرهم أن أضحوا موظفين لدى الإنجليز، ولما أسر آخرهم في سنة 1857 كان سلطانه أقل من ظل في المدينة التي كانت مقرا لآبائه.
ونعد غزوات المراتها من أقوى الأسباب في سقوطها دولة المغول بعد موت أورنغ زيب وتقسيمها إلى عدة ممالك، ونكاد نسدل على هذه الغزوات ثوبا من النسيان لو كانت غارات انتهاب كالتي قام بها الفرس والأفغان، لا مغازي فتح، فقد كان المراتها يجمعون الهند بأسرها تحت سيادتهم لو تم لهم النصر، فترى الهند نفسها إذ ذاك قبضة الهندوس لأول مرة منذ قرون كثيرة، فيتطلب الفتح الأوربي حينئذ جهودا غير التي اقتضاها.
وكان المراتها يسكنون المنطقة المعروفة قديما بمهاراشترا والواقعة في الشمال الغربي من الدكن وفي جنوب ولاية بمبي الحاضرة مبتدئة من جبال ساتبور، وتجوب تلك المنطقة الجبلية فروع من جبال كهات وجبال وندهيا فكان يقيم بها أناس جبليون لم يخضعوا للمسلمين إلا ظاهرا.
بدا المراتها أعداء أشداء للدولة المغولية في سنوات أورنغ زيب الأخيرة، فما أظهره هذا الملك من قلة التسامح حملهم على شق العصا، فجمع الأفاق شيواجي المولود في جواربونا جيشا من الأتباع، بعد أن قضى عمرا في قطع السابلة، فاستطاع أن يقتطع مملكته التي لم تشتمل على غير جزء من مملكة بيجابور في بدء الأمر فلم يلبث أن وسع رقعتها في معظم جنوب الهند، فمات أورنغ زيب قبل أن يقهره مع ما قام به من الحروب الطاحنة.
ومملكة بيجابور الإسلامية هي الحاجز المهم الذي كان يقي الدولة المغولية من المراتها، بيد أن أورنغ زيب هدم هذه المملكة فاستطاع المراتها أن يقوموا بالمغازي والغارات أحرارا في كل مكان.
فتح المراتها، بعد موت أورنغ زيب، أكثر الولايات الهندية بالتتابع، ومثل أمراء المراتها المتحدون دورا عظيما في نصف قرن، وإنهم لجادون في تدويخ الهند بأسرها إذ وقفتهم مغازي الأفغان الذين كسروهم سنة 1760 في معركة باني بت الشهيرة حيث قتل 200000 رجل كما روي.
ومن نتائج غزوات الأفغان وتنافس أمراء المراتها وما اضطر إليه هؤلاء من محاربة أمراء المسلمين المستقلين أن دب الضعف فيهم، فاغتنم الإنجليز ذلك فاستطاعوا أن يقهروهم، والإنجليز وجدوا بين أولئك من قاتلوهم بعنف مع ذلك، ولم يتم الإنجليز إخضاعهم إلا بعد أربع حروب انتهت في أوائل هذا القرن، ولا يزال بعض أمراء المراتها مالكين لإندور وغواليار على الخصوص، ولكنهم لا يتمتعون بشيء من السلطان السياسي على ما عندهم من جيوش كثيرة. (6) تاريخ جنوب الهند
جنوب الهند منطقة لا يرتبط تاريخها في تاريخ شمال الهند إلا عرضا، ونحن إذ لم نسطع أن نطبق عليه تقسيماتنا العامة نرى أن ندرسه في مطلب مستقل.
قسم القدماء الهند إلى المنطقتين الكبيرتين: الهند الشمالية أو الهندوستان والهند الجنوبية أو الدكن، واتخذ وادي نربدا في الغرب والجبال المجاورة لكتك على خليج البنغال فواصل لتينك المنطقتين، واليوم لا يطلقون اسم الدكن إلا على الهضبة الوسطى التي يحدها نهر نربدا وجبال وندهيا شمالا ووادي كرشنا جنوبا وجبال كهات الغربية غربا وجبال كتك وجبال كهات الشرقية شرقا.
وإذا عدوت المسلمين وقليلا من الآدميين القاطنين ببعض البقاع المعينة وجدت سكان الدكن القديمة من ذوي الجلود السمر الذين هم نتيجة توالد العروق السود الفطرية والغزاة الصفر الذين أتوا من التبت لا ريب والمغول الذين أتوا من الغرب، وهذا التوالد المكرر قد تم في عصور أقدم من عصرنا كثيرا، واليوم يبدو سكان جنوب الهند، وإن شئت فقل الدراويد، من أكثر عروق الهند تجانسا، فهم يدينون منذ اثني عشر قرنا بديانة واحدة، ويتخذون فنونا واحدة، ويتكلمون بلغات تكاد تكون واحدة.
ويظهر أنه لم يكن للبدهية أثر كبير في سكان جنوب الهند، وهذا الأثر، عند افتراض وجوده، قد زال بسرعة، فلا ترى بعد نهر كرشنا بناء بدهيا.
وللجينية أثر أكبر من أثر البدهية هنالك، فلا تزال تجد لها أشياعا حول كانجي ورم وفي ميسور، وللإسلام أتباع غير قليلين هنالك أيضا، ولكن البرهمية ظلت ديانة الأكثرين من سكان جنوب الهند، ويقسم هؤلاء بين المذهبين: وشنو وشيوا، غير أن معابدهم متماثلة غير مختلفة في سوى الرموز، فنرى لذلك، أن نضع، من الناحية المعمارية، أكثر مباني جنوب الهند في فصل واحد بدلا من أن نصنفها بحسب المدن والممالك كما نضطر إليه في أمر مباني شمال الهند ووسطها.
وتاريخ جنوب الهند، إلى دور المغازي الإسلامية، أي إلى القرن الثالث عشر من الميلاد، أشد غموضا من تاريخ شمال الهند، فلا تجد فيه آثارا أدبية ككتب الويدا ومهابهارتا، إلخ، ولا يجاوز ما ألف من الكتب بلغة التمول أو اللغات الدراويدية الأخرى القرن الثامن بعد الميلاد قدما، ولا يجاوز ما أقيم من المباني الحجرية وما نقش من الكتابات الحجرية القرن الخامس بعد الميلاد قدما.
ونستنتج من تقاويم الملوك وفتوحهم التي أشير إليها في الكتابات الحجرية، وورود أسماء لممالك جنوب الهند في مراسيم أشوكا قبل الميلاد بثلاثة قرون، وذكر أسماء بعض المدن في كتب قدماء المؤلفين، وجود ممالك في جنوب الهند قبل الميلاد بخمسة قرون أو بستة قرون وإن كنا لا نستطيع قول شيء عن حضارتها، ومما لا مراء فيه، مع ذلك، أن جنوب الهند لم يتمدن إلا بعد شمالها بزمن طويل.
ويمكن تلخيص ما نعرفه عن ممالك جنوب الهند قبل المغازي الإسلامية بما يأتي: كان جنوب الهند مقسوما، قبل الميلاد، إلى ثلاث ممالك كبيرة، مملكة بنديا ومملكة جولا ومملكة جيرا، وذلك بحسب أساطير الهندوس التي جاءت الكتابات الحجرية مصدقة لها، وكانت مملكة بنديا تلك تقع في أقصى جنوب الهند، وورد ذكرها في المهابهارتا وفي مراسيم أشوكا وأحاديث ميغاستين، ويرى، على العموم، أنها كانت موجودة في القرن الخامس قبل الميلاد تقريبا وإن لم ينته إلينا شيء من تاريخها، واتخذت مدينة مدورا عاصمة لها، ومما لا شك فيه أن كان لسكان مدينة مدورا هذه علاقات بالرومان كما تدل عليه النقود الرومانية التي وجدت بالقرب منها.
ثم استولى بيت جولا المالك على مملكة بنديا حوالي القرن الحادي عشر من الميلاد فظل أمرها اسميا إلى منتصف القرن السادس عشر تقريبا، فلما حلت سنة 1559 استولى عليها راجه بيجانغر، وشيد في عهد الملك تيرومل «1623-1659» ما في مدورا من المباني.
وكانت مملكة جولا تقع في شمال مملكة بنديا وشرقها فتمتد من وادي كولرون ووادي كاويري إلى مستوى مدراس، ومن اسمها اشتق جول مندلم الذي جعله الأوربيون كوروميندل.
ومن المحتمل أن تكون هذه المملكة قد قامت في الزمن الذي قامت فيه مملكة بنديا، فقد ذكرت في مراسيم أشوكا وإن جهلنا تاريخها مثلما نجهل تاريخ بنديا، ونعلم، مع ذلك، أن ملوك جولا كانوا، كما جاء في الكتابات الحجرية، في عظيم يسر ورخاء بين القرن العاشر والقرن الثاني عشر من الميلاد، فقهروا جنوب الهند، وامتد سلطانهم إلى سيلان التي كانوا قد استولوا عليها في سنة 250 قبل ظهور المسيح على حسب ما جاء في التواريخ السنغالية، وبلغت فتوحهم البنغال ومملكة أودهة في الشمال، فكانوا مالكين في القرن الحادي عشر لأقوى ما عرفه جنوب الهند من الممالك، بيد أن نفوذهم لم يدم طويلا، فقد كان آفلا قبل الغزو الإسلامي الذي وقع سنة 1310.
ويظهر أن عاصمة مملكة جولا في القرن الثاني عشر من الميلاد كانت مدينة أورايور القريبة من تري جنابلي فنقلت إلى مدينة كنبهه كونم في القرن الثالث فإلى مدينة تانجور في القرن العاشر.
شكل 1-5: سانجي. منظر الباب الكبير الشمالي «يبلغ مجموع ارتفاعه نحو تسعة أمتار و60 سنتيمترا.»
وكان الجيرا يملكون ناحية الغرب من مملكة جولا، وناحية الشمال من مملكة بنديا، وجزءا كبيرا من ولاية ميسور الحاضرة، وكانت مملكتهم قائمة قبل الميلاد، فقد ورد ذكرها في مراسيم أشوكا أيضا، وكانت هذه المملكة على جانب عظيم من القوة في القرن الرابع والقرن الخامس من الميلاد كما تشهد بذلك تقاويم الفتوح المنقوشة قديما على الحجارة، وبلغت فتوح ملوكهم مدى بعيدا في الشمال فافتخر ملكهم كوغني راجه الثالث في إحدى الكتابات بوصول جيوشه إلى نهر نربدا، وتم هذا الفتح حوالي القرن الثامن من الميلاد، فاستدل عليه من معبد قائم على الطراز الدراويدي في إيلورا.
وكانت مدينة تلاكاد، الواقعة على نهر كاويري والبعيدة اثني عشر فرسخا من شرق ميسور، عاصمة جيرا.
ويضاف إلى تلك الممالك الثلاث مملكة جالوكيا التي مثلت دورا مهما في فن العمارة على الأقل، وكان ظهور هذه المملكة بعد تلك بزمن طويل، فقد قامت في القرن السادس من الميلاد، ثم غاب نجمها بعد ستة قرون، وتقسم أسر جالوكيا المالكة إلى بيت جالوكيا الشرق وبيت جالوكيا الغرب على حسب ما كان ملوكهم يقسمون الدكن.
وكان سلطان ذينك الفرعين مبسوطا، فوق تلك الممالك الثلاث، على أملاك واسعة مشتملة على مملكة ميسور الحاضرة وجزء كبير من مملكة نظام الحالية، وكانا يزعمان أنهما من العرق الراجبوتي فجاء طراز مبانيهما الذي هو مزيج من طراز الهند الشمالية وطراز الهند الجنوبية مؤيدا لزعمها.
وما تركه جالوكيا من المباني قليل، ومن المحتمل أن يكون ذلك قد نجم عن اتخاذ المسلمين لما كان يملكه جالوكيا من المدن، كبيجابور وكل برغه، إلخ، مقرا لدولهم الكبرى فيما بعد، ولتلك المباني بعض الأهمية مع ذلك، فقد رأى بعض المؤلفين أنها عنوان طراز سموه بالطراز الجالوكياوي.
وفي ولاية ميسور بلغ ذلك الطراز غايته بين سنة 1000 وسنة 1300 من الميلاد، فتجد أجمل نماذجه في هلابيد وبيلور، ومن المحتمل ألا تكون قد أنشئت قبل القرن الثاني عشر من الميلاد، ويذكرنا ما فيها من فيض الزخرف بالمباني الجينية، وليس ما يسترها من النقوش التي تمثل الآلهة الهندوسية شيوا وباروتي ووشنو، إلخ، بأرقى من نقوش المعابد الدراويدية، ونعدها مرحلة انتقال بين طراز شمال الهند وطراز جنوبها أكثر من أن تكون عنوان طراز جديد.
وطفق جنوب الهند يعرض للمغازي الإسلامية منذ القرن الثالث عشر من الميلاد، وجاهد المسلمون عدة قرون لفتح أقسام الدكن المختلفة، ولم يوفقوا لتدويخ جميعه إلا لوقت قصير، وفي الدكن أقاموا ممالك قوية وإن لم تكن من الشوكة بما يقاس ببأسهم في شمال الهند، وذلك كما يبدو لنا، عند سكوت التاريخ، من قلة تأثيرهم الديني واللغوي، والفني فيه، ولم يصبح فن العمارة إسلاميا، مع ذلك، إلا في المدن التي ظلت بأيديهم زمنا طويلا، أجل، شاد ملوك من الهندوس، كأحد ملوك مدورا، قصورا على الطراز الإسلامي، ولكن تأثير هذا الطراز ظل في المعابد الهندوسية كالعدم تقريبا.
وقعت مغازي المسلمين الأولى للدكن سنة 1306 في عهد علاء الدين، فبلغ الجيش الإسلامي شاطئ ملبار في سنة 1310، وخربت هلابيد وميسور في سنة 1310، وكان لورنغل مثل نصيبهما في سنة 1323، ولسرعان ما تم فتح شمال الدكن فقام بأمور حكومته، بعض الوقت، ولاة مسلمون تابعون لملوك دهلي متخذون دولت آباد مقرا لهم.
لم يلبث أولئك الولاة أن نشدوا الاستقلال لأنفسهم فكان أول بيت إسلامي مالك مستقل بيت ملوك بهمني الذي دام سلطانه من سنة 1347 إلى سنة 1526 فاستطاع في أثناء ذلك أن يضم إليه ساحل أوريسة بعض الزمن، ولم تعتم هذه المملكة أن قسمت إلى خمس ممالك إسلامية مستقلة متحاربة على الدوام، وهذه الممالك هي: مملكة بيجابور «1489-1689» ومملكة أحمد نغر «1490-1637» ومملكة غول كوندا «1512-1687» ومملكة برار «1484-1574» ومملكة بيدر «1489-1599»، فما كان من اقتتال هذه الممالك منعها من التوسع في جنوب الهند فسهل على جنوب الهند أن يحافظ على استقلاله.
شكل 1-6: خريطة الهند الإسلامية في عهد الملك أكبر «القرن السادس عشر من الميلاد»، «خططها المؤلف».
والواقع أن جنوب الهند كان مقسوما إلى منطقتين مختلفتين في القرن الخامس عشر وفي النصف الأول من القرن السادس عشر، فأما المنطقة الأولى فكانت واقعة شمال نهر كرشنا تابعة للمسلمين، وأما المنطقة الثانية فكانت واقعة جنوب ذلك النهر تابعة لراجوات من الهندوس معدودين من عمال راجه بيجانغر، وما في بيجانغر هذه من المباني الرائعة، الخربة الآن، شاهد على ازدهار دولتهم فيما مضى.
وفي سنة 1564 فقط وفق ملوك الدكن المسلمون المتحدون لتقويض سلطان الهندوس في جنوب الهند وتخريب بيجانغر، ولم يكن تدويخ جنوب الهند هذا إلا ناقصا مع ذلك، فقد قامت فيه عدة دويلات، كدويلة تانجو ودويلة مدورا وغيرهما من الدويلات التي حافظت على استقلالها بين الفتن إلى أن نزعه المراتها ثم الإنجليز.
استقر المراتها بتانجور سنة 1674، واستولى المسلمون على مدورا سنة 1736، ثم استفاد الإنجليز الذين ثبت أمرهم بمدراس سنة 1736 من تلك المنازعات ففتحوا جنوب الهند بالتدريج، وما أصاب مسلمي ميسور من الهزيمة سنة 1799 في زمن تيبو صاحب أسفر عن تسلم الإنجليز لزمام السلطة العليا في جنوب الهند وعن بسط سيادتهم عليه بأسره، وسنرى، عما قليل، كيف تم لهم هذا الفتح وما هي العوامل التي جعلته ممكنا.
هوامش
الفصل الثاني
صلات الهند القديمة بالغرب
تاريخ الغزوات الأوربية - كيف فتحت الهند (1) صلات الهند بأوروبا في القرون القديمة والقرون الوسطى
كانت أوروبا والهند تتبادلان سلعهما منذ أقدم القرون، ولكن بطرق عرضية، وذانك العالمان، وإن كانا يتقايضان، لم يتعارفا، وتلك الصلات كانت تتم إما بطريق آسية الوسطى بعد أن تجوب السلع الهندية بلاد التتر وبلاد فارس وإما بطريق مصر بعد أن تقطع هذه السلع البحر الأحمر مارة من الخليج الفارسي وسواحل بلاد العرب، والعرب وحدهم كانوا واسطة هذه المقايضات، وظل سكان اليمن الذين كانوا يعرفون بأهل سبأ محتكرين لها زمنا طويلا، وكان تجار مصر، بعد وفاة الإسكندر ب 150 سنة، ينالون سلع الهند بواسطة هؤلاء العرب.
وطرق اتصال العرب بالهند كانت ثلاثا، كانت إحداها برية والأخريان بحريتين، فأما الطريق البرية فكانت تصل بواسطة القوافل أعظم مراكز الشرق كسمرقند ودمشق وبغداد وغيرها بالهند مارة ببلاد الفرس وكشمير، وأما الطريق البحرية فكانت أكثر استطراقا، فكان التجار الذين يسلكونها يأتون إلى موانئ الخليج الفارسي حيث يتسلمون سلع الهند لينقلوها إلى البحر الأحمر محاذين سواحل بلاد العرب، ومن البحر الأحمر كانت تلك السلع تنقل إلى الإسكندرية حيث كان الفينيقيون ثم التجار الأوربيون من جنوه وبيزه والبندقية يأخذونها ليوزعوها بين مرافئ البحر المتوسط، فكانت مصر، بذلك، خط وصل بين الشرق والغرب، وكانت تلك التجارة مصدر ثروتها المهم.
صلات الفرس بالهند كانت أولى الصلات لا ريب، فنعلم مما ذكره هيرودتس الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد أن دارا بن هستسب «أراد أن يعرف البحر الذي يصب فيه نهر السند» فأرسل بعثة بقيادة سيلاكس فسارت هذه البعثة من جوار أتك الواقعة على ضفاف نهر السند مع هذا النهر إلى البحر، ثم أبحرت إلى الغرب فوصلت إلى البحر الأحمر بعد سفر دام ثلاثين شهرا «فبعد أن تمت هذه الرحلة البحرية أخضع دارا الهنود وبسط سيادته على ذلك البحر.»
ولم يكن الهنود الذين حكى عنهم هيردوتس فكانوا يدفعون إلى دارا الأتاوى،
1
كما تشهد به الكتابات المسمارية، إلا من الهمج المجاورين لنهر السند، فنعلم مما رواه هيرودتس أن من عاداتهم أكل أقربائهم وأصدقائهم إذا مرضوا «وعد نسائهم من الأنعام»، ومن المحتمل أن دامت تلك الصلات في عهد خلفاء دارا، ودليلنا على ذلك وجود أفيال في جيش ملك الفرس دارا قزمان حينما غلبه الإسكندر سنة 330 قبل الميلاد.
ولم يغد أمر الهند معروفا بعض المعرفة إلا بعد غزو الإسكندر سنة 327 قبل الميلاد، وكاد هذا البطل المقدوني لا يمسها، فلم يوغل فيما هو أبعد من نهر السند، ولم يبق أحد من جنوده في الهند بعد عشر سنين من حملته، فأسفرت هذه الحملة عن لفت الأنظار إلى الهند بعد أن كان أمرها مجهولا تقريبا.
غادر الإسكندر بلاد الهند، فلم تلبث الممالك التابعة له والمرزبات
2
التي أقامها أن رفعت راية العصيان، ففترت العلاقات التي تربط الهند بدولته العظمى بعد موته بالتدريج، فبدت الهند طليقة من الفاتحين الأجانب بعد عشر سنوات.
على أن صلات الإغريق بالهند دامت بواسطة ممالك بقطريان الإغريقية كما يثبت ذلك خبر الوفد الذي أرسله مؤسس المملكة السورية السلوقي بزعامة ميغاستين إلى باتلي بوترا «بتنه» حوالي سنة 300 قبل الميلاد، وهذه هي الرحلة الأولى التي نفذ الأوربيون فيها قلب الهند فكانت أحدوثة ميغاستين التي انتهت إلينا المصدر الوحيد عن أحوال الهند في ذلك العصر.
ومما لا شك فيه أن الهدف المقصود من الوفد هو أن يحول عن مصر إلى تدمر ودمشق وأنطاكية مجرى التجارة الذي كان يسلكه العرب فيؤدي إلى اغتناء البطالمة كما أدى إلى إثراء خلفاء القاهرة فيما بعد، فنشأ عن ذلك انتظام العلاقات بين بقطريان وشمال الهند الغربي انتظاما نستدل عليه من المؤثرات في مباني شمال الهند الغربي.
أضحت مصر ولاية رومانية سنة 30 قبل الميلاد فاعتقد أغسطس، كما كان الناس يعتقدون، أن بلاد العرب هي مصدر التوابل والأبازير مع أن العرب كانوا يأتون بها من الهند، فوجه إلى بلاد العرب حملة لم يكتب لها فوز، وفي زمن القيصر كلوديوس، أي في القرن الأول من الميلاد، دفعت ريح سفينة إلى سيلان اتفاقا فعلم بذلك أن من الممكن الوصول إلى الهند من سواء البحر العظيم بفعل بعض الرياح بدلا من محاذاة السواحل كما كان يسار قبل ذلك، فصار تجار من الرومان يقومون بهذه الرحلة من مصر في سبعين يوما على رواية بلين فيبلغون منغلور الواقعة بين غوءا وكاليكت، وفي ذلك الحين ألف تاجر إسكندري كتابا سماه «رحلة في بحر أريثرة»
3
فنجد فيه بعض المعارف الجغرافية.
وما عرفه القدماء عن الهند في القرن الثاني من الميلاد نعلمه من كتاب بطليموس في الجغرافية، وما في هذا الكتاب من المعارف فسطحي مقصور على وصف الساحل.
وقلت الصلات بالهند في دور انحطاط الدولة الرومانية، ثم قطعت تماما حينما فتح العرب العالم القديم بقيادة خلفاء محمد، وظلت مقطوعة عن العالم النصراني أكثر من ألف سنة، فمن أراد الاطلاع على حال الهند في القرون الوسطى فليطالع ما جاء في كتب سياح العرب من الأنباء، ومن هؤلاء السياح نذكر المسعودي الذي زارها في أواسط القرن العاشر وابن بطوطة الذي طاف فيها سنة 1330، إلخ.
وزار الهند، قبل سياح العرب، حجاج من الصينيين البدهيين، وما رواه هيوين سانغ عن الهند في القرن السابع من الميلاد فأهم ما انتهى إلينا عن الهند في ذلك الدور.
وأول من وفق من الأوربيين لدخول الهند رجلان من البندقية، أحدهما: ماركو بولو الذي زارها في القرن الثالث عشر من الميلاد، والآخر، وهو من أبناء بلده، زارها في القرن الخامس عشر من الميلاد بعد أن نزل من الفرات والخليج الفارسي فوصل إلى كمبي «كهمبات».
وحركت عجائب الهند الخرافية عوامل الطمع في الشعوب الأوربية في القرون الوسطى، فصار كل واحد منها يبحث عن طريق للوصول إليها غير الطريق التي منعهم المسلمون منها، وليس بمجهول أن كريستوف كولونب وجد أمريكا في طريقه إلى الهند، فاعتقد، حين وطئ جزر الأنتيل أنه نزل إلى الجزر القريبة من شواطئ الهند، فمات هذا الملاح الكبير قبل أن يعرف خطأه.
والبرتغاليون هم الذين وجدوا الطريق المنشودة فكان لاكتشافها أهم النتائج، ففي سنة 1498 جاوز فاسكودوغاما رأس أفريقيا الجنوبي متوجها إلى الهند فبلغ كاليكت الواقعة على شاطئ ملبار من جنوب الهند.
والبرتغاليون، حين وفقوا لهذا الاكتشاف الكبير، وصلوا أوروبا بالهند رأسا فقضوا بذلك على تجارة مصر التي ظلت مستودع السلع الهندية عدة قرون، ولم تنقطع علاقات أوروبا بالهند منذ ذلك الحين فانقض كل أفاق أوربي عليها بغية استغلالها، ومنذ أوائل هذا القرن فقط كشف أمر اللغة السنسكرتية، وتوالت البعثات العلمية على الهند بانتظام فكشف عن الهند ذلك الغطاء الذي كان يحجبها عن أوروبا فكانت تعد مكانا لكل عجيب. (2) إقامة الأوربيين الأولى بالهند
وصل فاسكودوغاما إلى سواحل الهند حيث يقيم زعيم صغير اسمه زامورن الكاليكتي، فاستولى ألبوكرك على غوءا فاتخذها عاصمة منطقة الهند البرتغالية، ولم يفتأ البرتغاليون يبسطون سلطانهم فدان لهم قسم كبير من الساحل الغربي الممتد من ملبار إلى جزيرة كاتهياوار.
والبرتغاليون، وإن عرفوا أن يفتحوا، جهلوا المحافظة على ما فتحوا، فلم يلبثوا أن تواروا أمام أوربيين آخرين حينما أتوهم لينافسوا.
والهولنديون أول من بدءوا بمنافستهم، فكانت حملتهم الأولى في سنة 1596، فلم ينقض نصف قرن حتى طردوهم، والهولنديون لو لم يزحزحهم الإنجليز عن مكانهم؛ لأقاموا في الهند إمبراطورية عظيمة، ولكن موارد هولندا إذ كانت ضعيفة في أوروبا لم تقدر هولندا على مقاتلتهم باستمرار فتخلت عن مكانها لهم.
وفي سنة 1600، أي في عهد الملكة إليزابث، ألفت أول شركة إنجليزية للتجارة في الهند فبدت وضيعة في أوائل الأمر، وبدا وكلاؤها الذين بعثوا إلى بلاط المغول خضعا، وفي سنة 1608، حين ظهر هوكينز الإنجليزي سفيرا لملك إنجلترا جيمس الأول ولشركة الهند الإنجليزية لدى بلاط الملك جهانكير المغولي قال له وزراء هذا الملك إن ملك إنجلترا ليس غير سيد جزيرة صغيرة يسكنها صيادون بائسون، فلما مضت سنتان ونصف على إقامته هنالك من غير أن يظفر بطائل عند الملك المغولي ضرع إليه أن يعطيه كتابا إلى مولاه فقال له الوزير الأول: إن مما لا يناسب قدر ملك مغولي أن يكتب إلى أمير صغير كملك إنجلترا.
بيد أن تلك الشركة الإنجليزية لم تقنط، فنالت، بالدسائس، براءة من الملك المغولي سمح لها فيها بأن تتاجر في سورت، فاتسعت دائرة أعمالها بالتدريج فكان لها في أقل من ستين سنة فروعا في كل مكان تقريبا، فاشترت في سنة 1661 مدينة بمبي من البرتغال، ثم استقرت في سنة 1677 بمدراس، ثم عينت في سنة 1681 قائدا لكتائب بالهند، ثم أرادت في سنة 1686 أن تقاتل كتائب الملك المغولي بالبنغال فهزمت.
قام الإنجليز مقام البرتغاليين والهولنديين شيئا فشيئا، ولكنهم لم يعتموا أن قابلوا أعداء آخرين طامعين في فتح الهند وجها لوجه، فرأوا أن يزيلوهم من طريقهم أيضا، فهؤلاء المنافسون الجدد هم الفرنسيون الذين أخذوا يثبتون أقدامهم في الهند وإن أتوها متأخرين، فقد أنشئوا في سنة 1664 شركة فرنسية للتجارة في الهند تحت رعاية كولبر.
لم تفكر دولة أوربية ثانية في بسط سلطانها، ولو قليلا، على جزء من داخل الهند ما ظلت دولة المغول قائمة، مكتفية بما لها من المؤسسات في سواحلها، ولكن أبواب المطامع فتحت بوفاة أورنغ زيب الذي كان موته نذير انهيار سلطان المغول، فلما تم انحلال الدولة المغولية العظمى قامت على أنقاضها عدة ممالك، فصار من الممكنات إقامة إمبراطورية جديدة في الهند بالتدخل فيما يقع بين أمرائها الكثيرين من المنازعات الداخلية، وفي الهند كان الفرنسيون والإنجليز وحدهم ثابتي الأساس قادرين على وراثة تلك التركة التي يتنازعها كثير من الخصوم، فلسرعان ما اصطرعوا. (3) الصراع الفرنسي الإنجليزي في الهند
أول نزاع بين الفرنسيين والإنجليز كان في جنوب الهند، ففي جنوب الهند كانت الفوضى عظيمة، فكان معظم الدكن ملكا لمملكة حيدر آباد المستقلة، وكان أمير أركت يدير كرناتك بالنيابة عن حيدر آباد، وكان أقصى الجنوب مقسوما بين الممالك الهندوسية: ترى جنابلي وميسور وتانجور، وكان الفرنسيون يملكون بونديجيري ومتاجر غير ذات قيمة في ماهي وكاري كل وجندر نغر، وكان الإنجليز يملكون مدراس وبمبي ومرافئ كثيرة على الشاطئ، وكان المراتها يشنون الغارات على كل مكان.
وقعت الحرب بين فرنسا وإنجلترا في أوروبا سنة 1740 فعن لدوبليكس الذي عين سنة 1741 حاكما عاما للممتلكات الفرنسية في الهند أن يطرد الإنجليز من الهند وأن يحولها إلى إمبراطورية فرنسية، فوفق سنة 1746 لإجلاء الإنجليز عن أكثر مراكزهم، ولا سيما عن مدراس بعد وقائع كثيرة، فلم يلبث أن أصبح سيد ساحل الهند الشرقي بأسره، وهو إذ رأى أنه لا يقدر أن ينال من حكومته رجالا ولا أموالا عقد عزيمته على عدم مطالبتها بأي مدد، وعلى فتح أعظم إمبراطوريات العالم، وطرد جميع الإنجليز بمئات الأوربيين الذين هم كل من بقوا عنده مستعينا بنائبه بوسى.
واغتنم دوبليكس فرصة وفاة نظام حيدر آباد فأجلس أحد أنصاره على عرشه، وتمكن من نصب أمير موال على أركت، ودوبليكس ذلك عين، في مقابل ما ساعد به كثيرا من الأمراء، أميرا على جميع البقاع الواقعة جنوب نهر كرشنا، أي على بلاد تعدل فرنسا مساحة، ويزيد دخلها عن خمسة عشر مليون فرنك، وهكذا استفحل أمر دوبليكس وعظم نفوذه من غير أن يكلف فرنسا شيئا، فلما رأى الإنجليز أنهم كادوا يجلون عن جميع ما يملكون في الهند تذرعوا بحوك الدسائس في قصر فرساي، فاستطاعوا، بوسائل لا يزال أمرها سرا غامضا، أن يحملوا لويس الخامس عشر على استدعاء دوبليكس وعلى ترك جميع ما فتحه، فكان هذا أخزى عهد قطعه ملك فرنسي.
يئس دوبليكس فعاد إلى فرنسا ليموت فيها بائسا، ومن المؤسف أن أطاع أمر استدعائه بعد أن أصبح، بالحقيقة، أمير عدة ولايات واعترف ملك المغول بإمارته وعاد لا يخشى ضياعها، فلو خالف أمر مولاه ذلك لأسدى إلى فرنسا خدمة لا تقدر بثمن ما دامت تلك المعاهدة الشائنة لم تحل دون محاربة إنجلترا ثانية في سنة 1757، ولم يكن مجديا عزم فرنسا، إذ ذاك، على تجديد ما صنعه دوبليكس بعد أن أقصي عن الهند هذا الرجل العظيم، فخلفه الأسيف لاللي الذي جهز بوسائل لم ينل دوبليكس مثلها في أي زمن، فلم تنفعه هذه الوسائل ما عطل من دهاء كدهاء دوبليكس ضروري لتمام النصر له، فقد غلب في كل مكان؛ فخسر في سنة 1761 حتى بونديجيري فعاد إلى فرنسا فحكم عليه بالقتل، فقتل مع أن الإنصاف يقضي بقتل أولئك الذين استدعوا دوبليكس فأضاعوا على فرنسا إمبراطورية الهند.
تخلص الإنجليز من مزاحمة الفرنسيين، فخلا لهم الجو، فاتسعت فتوحهم بتدخلهم الدائم فيما كان يقع بين الأمراء المحليين من منازعات، وبتسليط بعض هؤلاء الأمراء على بعض، فكانت هزيمة ملك ميسور الأخير تيبو صاحب في سرنغابتم في أواخر القرن السابق، وكانت محارباتهم الطويلة للمراتها في أوائل هذا القرن الصفحات الأخيرة المهمة لفتحهم الهند، ثم ضمت إليهم بالتدريج الممالك الهندية التي لم يستولوا عليها بعد متذرعين للوصول إلى هذا بأية ذريعة، وعاد الأمراء، الذين لم تنزع أملاكهم لما قاموا به من الخدم، لا يمارسون سلطة سياسية، وأضحوا معدودين من أتباع إنجلترا، ومملكة نيبال وحدها هي التي حافظت على استقلالها التام إلى أيامنا. (4) كيف فتحت الهند
ليس من مقاصدنا أن نفصل في هذا الكتاب الوقائع التي قام بها الإنجليز لفتحهم الهند، ولكن من المفيد أن نشير إلى المبادئ العامة التي سار الإنجليز عليها، وتلك المبادئ قد اهتدى إليها دوبليكس الذي هو من أكبر دهاة التاريخ، فأنصفه الإنجليز فأقروا بأن اتخاذهم لأساليبه أدى إلى فتحهم الهند التي لم يحلموا بتدويخها في أي زمن، فاسمع ما قاله المؤرخ الإنجليزي الكبير ماكولي:
دوبليكس هو أول من أدرك إمكان إقامة إمبراطورية أوربية في الهند على أنقاض المملكة المغولية، فقد وضع هذا الداهية ذو النظر الثاقب خطة ذلك حين كان أمهر موظفي الشركة الإنجليزية لا يفكرون في غير تنظيم قوائم الأوساق
4
وحساباتها، ولم يقتصر دوبليكس على انتحال غرض، فقد قدر ببصره الحديد الوسائل المؤدية إلى بلوغ ذلك الغرض، فرأى أن جميع ما يمكن أمراء الهند أن يحشدوه من الجيوش في ميدان القتال لا يقدر على مقاومة فئة قليلة من الجنود المدربين الذين يقادون بحسب فن الغرب الحربي، ورأى أيضا أن أهالي الهند يمكنهم أن يتحولوا إلى كتائب يباهي بقيادتها مريشال سكس أو فردريك الكبير إذا كان على رأسهم زعماء أوربيون، ورأى أيضا أن أفضل ما يستطيع أن يتمسك به أفاق أوربي ليصل إلى الحكم في الهند هو أن يوجه الأحوال والأهواء، وأن يتكلم بلسان إحدى اللعب الفخمة التي تحمل ألقاب الملوك أو الأمراء، فكان دوبليكس أول من طبقوا فنون الحرب والسياسة التي سار عليها الإنجليز بعد سنوات قليلة موفقين.
شكل 2-1: بدهه غيا. المعبد الكبير «يبلغ ارتفاعه 52 مترا»، «تدل صورة هذا المعبد التي التقطها المؤلف على حاله الحاضرة بعد ترميمه وإصلاحه، وقد أنشئ قبيل الميلاد، ونرجح أن يكون سياجه الذي يرى بعض أنقاضه في هذه الصورة قد أقيم في زمن أشوكا، في القرن الثالث قبل الميلاد.»
ثم كرر الفيلسوف الإنجليزي ستيوارت ميل ما قاله ماكولي تقريبا عندما بحث في أسباب فتح الإنجليز للهند فقال:
إن الاكتشافين المهمين اللذين انتهى الفرنسيون إليهما لفتح الهند هما: ضعف جيوش الأهالي تجاه الكتائب الأوربية المدربة، وسهولة تدريب من يستخدمهم الأوربيون من الأهالي على النظام الأوربي الحربي.
وإلى ذينك السببين يعزو الإنجليزي المفضال الأستاذ سيلي فتح الهند، فبعد أن ذكرهما في كتاب نشره حديثا لم ير أن ذلك الفتح نشأ عن بسطة الإنجليز في الخلق والخلق كما يتشدق به بعض هؤلاء، وعلى ما أراه من عدم القسوة على الإنجليز، خلافا للأستاذ سيلي الشديد في حكمه على أبناء قومه، أضيف إلى السببين المذكورين آنفا عناد الإنجليز وعزمهم الذي لا ينثني، ففي هذين الخلقين سر سيادتهم وبقاء سلطانهم.
وليس ذانك الاكتشافان وحدهما ما أسفرت عنه عبقرية دوبليكس، فالإنجليز مدينون له، أيضا، باكتشاف ثالث طبقوه، فقد قام هذا الاكتشاف، الذي هو مثل ذينك الاكتشافين أهمية، على إمكان تدويخ مستعمرة بأموال أهاليها المغلوبين ورجالهم، ومن الغريب أن يعجز الفرنسيون عن العمل بهذا المبدأ الذي اهتدى إليه واحد منهم، فقد أثبت مثال تونكن ومثال الجزائر وغيرهما من الأمثلة درجة عجز المكتشفين لأحد المبادئ عن تطبيق هذا المبدأ في بعض الأحيان.
والإنجليز، حين اتخذوا مبادئ دوبليكس نبراسا لهم، توصلوا إلى فتح الهند برجال الهندوس وأموالهم، وإن شئت فقل بجنود غير جنودهم ونقود غير نقودهم،
5
فالحق أن الهند دانت للإنجليز بجيوش مؤلفة من الهندوس وبأموال أدتها حكومات من الهندوس.
وقد يعجب الإنسان، أول وهلة، من قهر تلك الملايين الكثيرة بسهولة، مع أنه يجب أن تكون جيوش الفاتحين مؤلفة من جنود كثيرين، لا من بضعة آلاف من الجنود، ولكن عجبه يبطل إذا قرأ فصول هذا الكتاب السابقة، ففيها يرى أن كلمة «الهند» ليست سوى تعبير جغرافي، وأن الهند بلاد شعوب مختلفة أشد الاختلاف، وأنها لا تحتوي على ما تعرفه أوروبا من معنى «الأمة الواحدة»، أي وحدة العرق واللغة والمشاعر المؤدية إلى وحدة المصالح، وأنها لا تشتمل على قومية هندية كالقومية الفرنسية أو القومية الألمانية أو القومية الطليانية، إلخ، وأن بعض شعوب الهند المختلفة أجنبي عن بعض، وأن نظام الطوائف الذي يفرق بين مختلف طبقات العرق الواحد، كما سنرى ذلك، يوجب نظر أي هندوسي إلى أكثرية أبناء قومه الساحقة كغرباء مثل الأوربيين كما يعد الراجبوتي سكان جنوب الهند من الغرباء.
ولا نطيل البحث في فقدان الشعور القومي في الهند فقدانا لا يدركه الأوربيون الذين لم يطوفوا فيها، قال الأستاذ الإنجليزي سيلي: «تغيب إمبراطورياتنا الهندية عن الوجود عندما يبدأ الشعور القومي ينمو فيها، وعندما يشعر الناس فيها بأن من العار مساعدتنا على دوام سلطاننا ولو لم يبتغوا طرد الأجنبي منها بالفعل، ما دام ثلثا الحاميات مؤلفين من السكان الأصليين.»
ولما لا تراه من الشعور القومي في الهند تجد سلطان الإنجليز قويا فيها، وتجد ما يحدث فيها من الفتن غير ذي خطر، ومن ذلك أن ثورة السباهي التي اشتعلت سنة 1857 كانت وليدة شكاوى عسكرية خاصة، فلم تكترث لها شعوب الهندوس فأطفأتها كتائب هندوسية مخلصة تقودها فئة قليلة من الإنجليز «ككتائب الغوركها وفرق البنجاب ومشاة السك.»
وإذا عدوت المغازي الأجنبية التي قد يقوم بها أوربيون وجدت أن أكبر خطر على سيادة الإنجليز في الهند بزوغ شعور قومي فيها وإن كنا نرى بعد ذلك في الوقت الحاضر، والإنجليز أنفسهم، هم الذين يتعهدون، بما يسلكونه من أساليب التربية التي ندرس نتائجها في فصل آخر، نمو ذلك الشعور ويعدون بذلك انهيار إمبراطوريتهم العظمى.
هوامش
الباب الرابع
تطور حضارات الهند
الفصل الأول
حضارة العصر الويدي
وصف للمجتمع الهندوسي قبل الميلاد بألف سنة (1) عناصر بعث حضارات الهند: التقسيم إلى أعصر
ذكرنا في فصل سابق أنه ليس لدينا كتاب تاريخ بين آثار الهند القديمة، وأن أدوار ما يقرب من ألف سنة تبقى مجهولة تماما لو لم يلق عدد قليل من المباني والكتابات وكتب القدماء نورا ضئيلا عليها.
وما عندنا من الوثائق التي نبعث بها حضارة الهند، في دور يقرب من أربعة آلاف سنة سكن الهند في أثنائها شعوب بلغت درجات متفاوتة من الحضارة، وإن كان غير كاف، يزيد عما يقتضيه رسم تاريخ هذا الدور، فما انتهى إلينا من الكتب الدينية ككتب الويدا، ومن الحماسيات كالراماينا والمهابهارتا، ومن الشرائع القديمة كشرائع منو، يكفي لتمثل الأحوال الاجتماعية في الأزمنة التي وضع فيها، وما وصل إلينا عن الهند القديمة من مئات الأقاصيص والأمثال والأساطير يدلنا على شعور الأمم التي أبدعتها وأفكارها ونظرها إلى الأمور، وما بلغنا من المباني وأحاديث الشهود، القليلة مع الأسف، كأحاديث السفير اليوناني ميغاستين والحاجين الصينيين فاهيان وهيوين سانغ، يتم تلك المصادر إتماما نافعا.
ومن يبحث في تاريخ حضارة الشعوب الأوربية ير التطور التدريجي من صفات هذه الحضارة، ومن يبحث في حضارة الأمم الشرقية، كالصينيين والهندوس على الخصوص، يبد له مثل ذلك التطور أمرا غامضا وإن تعذر إنكاره، وذلك التطور، وإن لم يبصره الباحث، نشأ خفاؤه عن قلة معرفتنا لماضي تلك الأمم وعن عدم مجاوزة تلك الأمم للطور الذي يكون التطور فيه بطيئا، فلو وقفت حضارة الغرب في أواخر القرون الوسطى فجأة غير تاركة لنا سوى وثائق ناقصة نقص التي نحكم بها في أمر الشرق الأقصى لاعتقدنا، عند عدم التدقيق التام، أن الغرب لم يتطور، مع أن أسس حضارة الغرب وضعت في ذلك الزمن الطويل فقامت على هذه الأسس بعدئذ بسرعة.
جاوزت شعوب الشرق طور الهمجية الأولى كما جاوزنا، وارتقت إلى دور يشابه دور قروننا الوسطى كما ارتقينا، ولكنها إذ قيدت نفسها بسلسلة من العادات والتقاليد والمعتقدات أقوى مما يقيدنا لم تسطع أن تتخلص منها كما استطعنا، فلم تخرج من ذلك الدور كما خرجنا، فظلت في الدور التمهيدي الذي لا يتم تطور إحدى الأمم فيه بسرعة.
ونعد نير معتقدات الشعوب الشرقية من أهم الأسباب المختلفة التي يفسر بها بطؤ تطورها كالبيئة المادية وطرق المعايش والمزاج النفسي والعروق، إلخ، ونير كهذا قد ثقلت وطأته علينا في أحد الأزمان لا ريب، بيد أن معتقدات الغرب لم تعد حد التعاليم الدينية مع أن معتقدات الشرق نسيج من الشرائع الدينية والاجتماعية، فالشرائع الدينية إذ عدت ثابتة غير متحولة على الدوام وجب عد الشرائع الاجتماعية المشتملة عليها ثابتة غير متحولة أيضا، فكان ما تراه من بطؤ تطورها، وهنا نقول إننا حينما درسنا في كتاب آخر «تاريخ حضارة العرب» ذكرنا أن القرآن الذي هو دستور ديني واجتماعي كأكثر دساتير الشرق، وإن أنعم على العرب بالوحدة التي بدوا بها أمة واحدة ذات مشاعر واحدة ومعتقدات واحدة ومقاصد واحدة، أدى، فيما بعد، إلى انحطاط الحضارة العظيمة التي نشأت على أساسه.
1
المعتقدات الدينية في الهند هي أساس جميع النظم الاجتماعية، فما في الهند من نظم اجتماعية ليس، بالحقيقة، إلا نظما دينية، ونحن، حين نرى الدور المهم الذي مثله الدين في جميع شعوب الهند على الدوام، نعد تطورات الدين عنصرا أساسيا في تقسيم ما لحضارتها من الوجوه، وتكون هذه التطورات غير محسومة عند النظر إليها بين قرن وقرن، وتبدو كبيرة عند النظر إليها في أدوار تحتوي عدة قرون على الدوام، وذلك كما نضطر إلى أن نفعله لعدم كفاية الوثائق، ولا يقاس تاريخ يؤلف عن حضارات الهند بكتاب جغرافي يشتمل، مثلا، على ما لأحد البلاد من الطرق المترجحة بين مسارب الغاب وشوارع المدن وطرق القرى، بل بكتاب يضعه سائح ينظر إلى إحدى البقاع من فوق جبل فيصورها تصويرا عاما مقتصرا على الإشارة إلى مدنها بإيجاز على أن يفصل أمرها بعدئذ إذا تيسر له أن يجوب إحدى المدن التي أشار إليها مختصرا.
فلنتخذ المعتقدات الدينية، إذن، أساسا للتقسيم، ولننظر إلى الأعصر الستة الآتية في دراسة حضارات الهند وهي: العصر الويدي والعصر البرهمي والعصر البدهي وعصر البرهمية الجديدة والعصر الإسلامي والعصر الحديث الذي جعلناه موضوع بحث منفصل في هذا السفر، ولا يقل العصر الحديث عن تلك العصور أهمية، فبه تتجلى نتائج اصطدام حضارتين يفصل إحداهما عن الأخرى مثل هوة ما بين القرون الوسطى والأزمنة الحديثة. (2) مصادر بعث الحضارة الآرية
نرى أن نتفادى من التكرارات فنبسط في هذا الفصل وفي الفصول الآتية حضارة كل عصر بسطا عاما على أن نعرض في فصول خاصة آثار كل عصر من تلك الأعصر، كالآداب والمباني، إلخ.
تتجلى الحضارة الآرية في شمال الهند الغربي في عصر يرجع في القدم إلى خمسة عشر قرنا قبل الميلاد، ولم ينته إلينا منها أي أثر حجري، كما أننا لم نجد ما يدل على إنتاجها مثل هذا الأثر، وكل ما ورثه العالم منها هو دائرة المعارف الدينية الواسعة المعروفة بالويدا، وتحتوي هذه الدائرة على أسفار كتبت في أزمنة مختلفة، ويعد السفر المسمى بالرغ ويدا أهمها، ويرى مكس موللر أن سفر الرغ ويدا هذا وضع قبل المسيح بألف سنة على الأقل، وفسر هذا السفر تفسيرا ملائما فأخبرنا عن لغة الشعوب التي ألفته وديانتها وأحوالها الاجتماعية ومزاجها النفسي.
شكل 1-1: مارتند. أطلال المعبد القديم الذي أقيم في كشمير على الطراز الإغريقي الهندوسي «في القرن السادس من الميلاد على ما يحتمل.»
ولما يمض قرن على معرفة أوروبا لتلك الأسفار، وقضى مترجموها من العجب ما لا يقل عن نصبهم في سكب أفكار واضعيها المترددة في قالب لغوي واضح، ولا أرى أن أحكم هنا في ذلك الأثر الأدبي العظيم الذي لا يلقي في روع من يقرؤه بإنصاف سوى قليل عجب بالحقيقة، فهو يعترف، لا ريب، بأن من العبث أن يبحث فيه، خلافا لما صنع حتى الآن، عن «أثر الرعاة الفطريين الذين يقدسون للآلهة حين يسرحون
2
أنعامهم »، وليس مما يحتاج إلى نظر ثاقب أن يقطع بعجز الرعاة عن وضع أشعار كالتي نراها في الويدا، فكل شيء في الويدا مصنوع، وهو من وضع أدباء نبهاء ولاهوتيين أذكياء، فمتى نفذ مبدأ التطور في العلوم التاريخية سهل الاعتراف بأن آثارا كالويدا تفترض سابق إعداد في قرون فلا تصدر عن أدمغة أناس فطريين كما أن كنيسة غوطية لا تصدر عن أدمغة أناس فطريين معاصرين للماموث
3
أو لوعل الشمال، فلا نبحث في الويدا، إذن، عن الحضارة الفطرية، بل عن حضارة أمة ذات ماض تليد. (3) أصل الآريين
تطلق كلمة «الآريين» على شعب، ذي جلود بيض وشعور سود ولغة ضائعة معروفة بالأرياك «فاشتقت منها اللغة المعروفة بالسنسكرت»، هبط قبل الميلاد بأكثر من خمسة عشر قرنا إلى شمال الهند الغربي مارا من معابر كابل، وكان الآريون قبائل شبه بدوية شبه حضرية تعرف الزراعة وتتصف، ككثير من الأعراب، باتقاد الخيال، وتشابه بطرق معايشها قدماء الفرس الذين حكى عنهم هيرودتس.
وتقدم الآريون رويدا رويدا من نهر السند إلى نهر الغنج، ثم تقدموا من نهر الغنج إلى نهر برهما بوترا، فأخضعوا في أثناء ذلك ذوي الجلود السود والشعور السباط
4
كما أخضعوا التورانيين الذين سبقوهم إلى الهند، فتدرج الآريون من البداوة إلى الحضارة.
لا يزال أصل أولئك الغزاة الآريين، الذين مثلوا، لا ريب، دورا مهما في تاريخ الهند خافيا، ويرى، على العموم، أن الآريين الفطريين كانوا يقطنون قبل الميلاد بألفي سنة في بقعة من التركستان مجاورة لمجرى نهر أكسوس،
5
ثم سلكوا طريقين للهجرة، إحداهما الطريق المؤدية إلى أوروبا والأخرى الطريق المؤدية إلى إيران، فالآريون الذين سلكوا طريق إيران أقاموا ببلاد فارس وبقطريان والصغد، ثم داوم حفدتهم على سيرهم إلى الجنوب فجاوزوا جبال هندوكش ودخلوا الهند، فإذا صحت هذه النظرية كان الأوربيون والهندوس فرعي دوحة آسيوية بدوية واحدة.
بيد أن تلك النظرية ليست غير فرضية قائمة، فقط، على تشابه أصول اللغات الأوربية «اللاتينية واليونانية والألمانية، إلخ» والفارسية والسنسكرتية.
حقا أن هنالك قرابة لغوية بين الهندوس والأوربيين، ولكننا نعلم اليوم أن تشابه اللغات لا يعني، دائما، قرابة العروق، فإذا عدوت هذه القرابة اللغوية لم تجد ما يؤيد تحدر الأوربيين من أصل آسيوي، ما أمكن افتراض العكس بأن يقال إن الآسيويين أتوا من أوروبا.
هذا ما افترضه حديثا علماء من الألمان مستندين إلى وجود أناس شقر قليلين في شمال الهند الغربي، وأرى أن فرضية علماء الألمان هذه ضعيفة كتلك ما عد هؤلاء الشقر القليلون بقية كثير من الغزاة الذين أتوا منذ ثلاثة آلاف سنة فاتحين لتلك البقعة من كل جهة، لا من أوروبا وحدها، فإذا كان في العالم بقعة يندر وجود الشقر فيها فهي بلاد الهند لا ريب؛ فلقد طفت في جميع نواحيها فلم أصادف فيها إنسانا أشقر، وهذا إلى قولي إن الشقر الآريين لا بد من أن يكونوا قد وجدوا فعرفهم منو فعدهم من شعب متأخر فحظر زواج رجال الطوائف العليا بنسوتهم «ذوات الشعور الشقر».
لم يبق سوى الرجوع إلى الافتراض القائل إن الآريين من أصل آسيوي بعد دحض الافتراض القائل إن الآريين من أصل أوربي، فقد رئي نزولهم الأساسي بمختلف البقاع الممتدة من نهر أكسوس إلى بحيرة بال كاش، أي ببقعة من بلاد المغول كان العرق الأصفر يملكها منذ أكثر من ألفي سنة قبل الميلاد على حسب ما جاء في أقاصيص الصينيين، فأرى، أيضا، وجوب استبعاد هذا الافتراض القائل إن بلاد المغول هي مهد الآريين، ما لم نرض بزعم ويلر الواهي القائل إن الآريين من المغول.
ولا أحاول هنا أن آتي بافتراض جديد في أصل الآريين، بل أذكر أن المحتمل أكثر من سواه، على ما يظهر، هو أن الآريين كانوا سكان إيران الأصليين، وأن المجاورين منهم للهند هم الذين دخلوها على دفعات متتابعة لا ريب، كما استولى أجدادهم على أوروبا من قبلهم، وأن تأثيرهم في دماء الشعوب المقهورة كان ضعيفا إلى الغاية كما يبدو لي خلافا للرأي السائد.
ولا أعتقد وجود شعب في الدنيا يستطيع أن يزعم اليوم أنه من سلالة الآريين، وسبب ذلك أنه افترض ضيق بلد الآريين الأول وأن ما فتحه الآريون من البلاد، ولا سيما الهند واسع آهل بأمم كثيرة، فوقع ما أثبته البحث من أن شعبين متفاوتين في العدد إذا تقابلا لم يلبث أكثرهما عددا أن يبتلع أقلهما عددا ابتلاعا يمحي به مثال هذا الأخير بعد بضعة أجيال، ووقع مثل ما حدث في مصر التي ليس القوم فيها من سلالة العرب الفاتحين، بل من سلالة مصريي عهد الفراعنة، كما تشهد بذلك سحناتهم المشابهة لسحنات قدماء المصريين التي خلدتها نقوش المعابد، وذلك مع اعتناق المصريين لدين العرب وانتحالهم لغة العرب وفق ما ذكرت في فصل سابق.
شكل 1-2: نقش إغريقي بدهي بالقرب من بيشاور «صنع قبل القرن الخامس من الميلاد بزمن قليل على ما يحتمل.»
وجب أن يكون شأن الآريين في أوروبا قد تماثل هو وشأنهم في الهند، فيكونوا قد أدخلوا إلى الأمم المغلوبة حضارتهم ولغتهم، لا دمهم، وهم إذا لم يتواروا في الهند بسرعة كما توارى العرب في مصر فلأن نظام الطوائف الشديد حال دون امتزاجهم في الهند بالتورانيين المقهورين زمنا طويلا أو أنهم امتزجوا بهؤلاء شيئا فشيئا، ولكن هذا الامتزاج مهما كان بطؤه أدى إلى اختفاء الفاتحين بتعاقب القرون، فلم تجد في الهند أثرا للآريين منذ زمن طويل، ونحن إذا سايرنا رخصة اللغة والعادة فقلنا إن الشعب الفلاني آري فإننا نقصد بذلك أن هذا الشعب من البيض، وأنه يدنو من مثال الأوربيين من غير أن يساويهم بياضا.
ونحن، وإن لم يكن لدينا علم قاطع بأصل الآريين، نعرف وجودهم من آثارهم الأدبية أو من آثار حفدتهم الذين دخلوا الهند فيما مضى، وفيما تقدم ألمعنا إلى حقيقة تلك الآثار، فبقي علينا أن نبحث في أحوال واضعيها الاجتماعية ودرجة حضارتهم، وهذا ما نفعله كما يأتي: (4) الأسرة عند الآريين
كانت الأسرة والعرق في العصر الويدي أساسي المجتمع الآري، فلم يفرق بين الآريية أية زمرة كالقبيلة أو العشيرة أو الحكومة، والعرق عند الآريين هو الذي كان يعلو الأسرة، ولم يوجد شيء عندهم دون الأسرة، فالفرد الآري لم يعد مستقلا عن أجداده ولا عن حفدته، فالوحدة، لدى الآريين، لم تقم على الفرد، بل قامت على الأب والأم والأبناء والأجداد وعلى الذراري التي تخرج من أصلاب هؤلاء فتحافظ على ذكراهم واسمهم بتعاقب الأجيال.
ولم تكن الديانة عند الآريين سوى عبادة العرق والأسرة، وكانت آلهة الآريين تختلط بالأجداد، وكان النكاح والولادة لديهم من الأعمال المقدسة، وكانوا يرون أن انتقال الحياة من الأب إلى الابن بواسطة الأم هو انتقال خفي لإله النار أغني الذي هو أصل الإلقاح وسيد الكون ومبدعه من خلال أحشاء البشر لتخليد الوجود الأزلي.
ومن أعظم المصائب عند الآريين أن يتزوج الواحد منهم أجنبية أو أن يموت غير ذي ولد، فإفساد نقاوة العرق لدى الآريين كانت تتضمن قطعا أبديا للنسب الإلهي الذي يصل الآري بأغني، فيؤدي ذلك إلى تصام هذا الإله عن صلوات ذلك الذي أوجب جريانه، وهو إله كل حياة نقية في عروق شعبه الذي يكون قد اتصل بعناصر غليظة جبلت منها العروق الدنيا، فالزواج بالأجنبيات، إذن، هو عند الآريين، جناية يستحق مقترفوها اللعنة الدائمة.
وليس بأقل فظاعة من ذلك أن يموت الآري بلا عقب، فالولد، عند الآريين، يخلد الأجداد بما يقوم به من عباداتهم، وبما يقرب من القرابين إليهم، فإذا قطعت تلك العبادة وهذه القرابين تلاشت أرواح الآباء وفنيت وزالت الأسرة إلى الأبد.
والبنات الآريات إذا ما تزوجن انتحلن آلهة أسر أزواجهن فعبدن أجدادهم، وصرن غير صالحات لتخليد آبائهن، فالرجل الآري الذي يموت غير ذي ابن يهلك من غير أن يبعث فيما وراء القبر، ويجر خلفه، بذلك، أجيالا كثيرة من الأجداد إلى بوار لا يمكن تلافيه.
وترى في الرغ ويدا نصا على قرابة الإله أغني، وعلى شأنه في خلق الأسرة، وعلى نقاوة العرق وأهميته، وعلى ضرورة ولادة أعقاب قادرين على تقريب القرابين، جاء في الرغ ويدا:
أغني هو رب الخلود، هو رب الغنى، فهو الذي ينعم بالأسرة القوية، فيا إلهنا القادر! لا تؤاخذنا، نحن عبادك، بما تراه فينا من عدم العقب ومن العطل من الجمال وفقدان القرابين.
أيشملنا العطوف أغني بأفضاله؟ أنأمل منه سعة سرمدية؟! فيا أغني لسنا من أصلاب عرق أجنبي ولا من عرق كافر، فلا تسلك غير السبيل المؤدية إلينا.
فلو لم يكن الإله أغني من دم كدمنا؛ لكان من العبث بحثه عن خضوعنا وقرابيننا، فله علينا حق المأوى فحنفظه له، فليدخل علينا هذا الإله القادر الظافر الجدير بأن يسجد له.
والأسرة الموحدة المباركة الوافرة هي عند الآريين مصدر كل سعادة دنيوية وأبدية، فلا شيء لديهم يعدل مسارها، فهم لا يفتئون يتغنون بها، وهم إذا ما أرادوا تصوير مجد الآلهة أو يمنها لم يتمثل لهم غير جمال الزوجة ووفائها وقوة الأب الكاهن وجلاله وظرف الأولاد وانقيادهم، فهم يرون في هذه الأمور كل نعيم، وتملأ هذه الأمور جوانحهم، فتجد فيها سر أغانيهم الدينية الكثيرة المفصلة حولها ومنها تجتلى أحوالهم.
ولا شيء يفوق أهمية تقديم كل أسرة قرابين إلى أرواح أجدادها، وقد قلنا إن تقديم هذه القرابين إذا ما انقطع تلاشت أرواح الموتى وانطفأت الأسرة إلى الأبد، والأب هو الذي كان يقوم بتقريب القرابين، وكان للأم، كما أن عليها، أن تساعده على ذلك فتقاسمه المجد، فالأم كانت تجمع على ضوء القمر الأزهار من سفوح الجبال فتستخرج منها بدقة وبتخمير بطيء الشراب المقدس المعروف بالسوما، فكان الأب ينضح الضحية بهذا الشراب، والنار إذ كانت تزيد اشتعالا بشراب السوما الروحاني بعد أن تكاد تنطفئ، وكان أغني يبدو بذلك أشد قوة وأسطع نورا، عبد الآريون هذا الشراب كما عبدوا النار فأبدعوا له مدائح وصلوات، فمما جاء في الرغ ويدا:
عظموا بتليد الأناشيد ذلك الإله النقي الذي يبدو لكم بالأعمال المقدسة الممجدة للآلهة.
هو ينصب على ممصل
6
من صوف ليصفى، هو سند العالم، هو ملاك صلاة الفجر الذي يسبح الحكماء بحمده.
يستقر السوما الذي هو عين الزكاء ومنبع السعادة بآنية القربان، ويبدو ناثرا للدعاء نثر الثور للقاح في النعم.
7
وكانت لحوم القرابين تعد نافعة لتغذية الأجداد، وكان الإله أغني يحملها إليهم، ولم تكن النار لتحرقها إلا لتجعلها صالحة للتقديم إلى الآكلين من الطعام الإلهي ، وكان عدم تقريب القرابين إلى الأجداد عند الآريين كترك المرء والديه يموتان جوعا في زماننا، وما أكثر ما كانت الأسرة تأكل جالسة هي وعشيرتها من مائدة واحدة حول الموقد الداخن.
والأم إذ كانت تقاسم الأب شرف تقديم القربان وما يتطلبه هذا التقديم من عمل نفترض مساواتها له، ويتضح من كتب الويدا أن المرأة ابنة كانت أم خطيبة أم زوجة أم والدة لم تعد تلك المخلوقة المنحطة الفاقدة الشعور خلافا لاحتقار المشترع منو لها فيما بعد، فكتب الويدا تحدث عنها وعن شأنها باحترام على الدوام، جاء في كتب الويدا:
تعالي، أيتها الزوجة الحسناء، تعالي يا منية الآلهة، تعالي أيتها المرأة ذات القلب الحنون واللحظ العذب والصالحة لزوجها ولأنعامها والمعدة لولادة الأبطال!
إن امتياز المرأة هو مقاسمتها لزوجها شرف تقريب القربان.
ونضيف إلى ذلك الامتياز نظم المرأة للنشائد، ففي الرغ ويدا أناشيد كثيرة ممضاة بأسماء نساء.
ويظهر أن الاقتصار على زوجة واحدة كان مبدأ آريي ويدا على العموم، ونحن إذا ما نظرنا إلى الأمر بما نراه بعد ذلك وجدنا الأمراء والأغنياء منهم كانوا يتزوجون عدة زوجات، والذي حفز الآريين إلى انتحال مبدأ تعدد الزوجات هو احتياجهم الملح إلى الأولاد الذكور، فالرجل الذي لا تلد له زوجته الأولى إلا إناثا كان يتزوج امرأة أخرى بحكم الضرورة.
وكان للفتاة أن تختار زوجها، وكان للفتاة أن ترفض تكليل المبارز الغالب في المبارزة عند وجود غير خاطب واحد لها كما يحدث أحيانا، وإن كانت موافقتها على المبارزة ضربة لازب، وفي كتب الويدا وصف دقيق للغرام الناشئ ولأولى العلاقات بين الفتيان والفتيات، والآريون، إذ لم يروا سعادة في الدنيا والآخرة خارج الأسرة، كانت تدفعهم أسباب دينية ومصالح دنيوية، أي كل ما يمكن أن يؤثر في الروح البشرية، إلى الاهتمام بكل ما يمت إلى النكاح بصلة.
شكل 1-3: أودي غيري «أوريسة». مقدم دير راني نور البدهي المنحوت في منحدر جبل «في القرن الثاني قبل الميلاد».
وكانت طقوس الزواج تتسم بذلك الطابع الديني البادي في جميع شئون الأسرة، فتظهر رائعة بالصلوات والقرابين والنذور وتظهر ذات بهجة بسناء الأزياء وكثرة الحضور وضروب اللهو والطرب كما ورد في أنشودة طويلة من أناشيد الرغ ويدا، فالمرء حين يقرأ أنشودة «أعراس سورية» يخيل إليه أنه يشاهد عيدا قديما من أعياد الأسرة كما لو ذهب راجعا ألوف السنين في مجرى الأجيال، ويلوح له أنه يسمع نصيحة الكاهن وما يكلم به الفتى خطيبته.
ويضاف إلى صفة الأب الرائعة في تقريب القرابين سلطانه المطلق، فيطيعه أبناؤه إطاعته للأجداد، لا إطاعة العبيد للأسياد، فإذا ما طعن الأبوان في السن وعجزا عن العمل غذاهما أبناؤهم ما يغذون الأجداد بالقرابين، ولم تقطع هذه الفروض المتقابلة قط، وكل ما كان الآري ينشده هو أن يشيخ بين أولاده وحفدته، وما كان ليخاف الكبر ما بدأ يتذوق فيه شيئا من طعم سعادة الأجداد الأبدية الهادئة. (5) نظم الآريين السياسية والاجتماعية
لم يوجد للنظم السياسية ولنظام الطوائف وللنظام الحكومي أثر في أوائل العصر الويدي حينما كان الآريون يقيمون بسهول الهند الواسعة ذات الأنهار السبعة، وإن شئت فقل حينما كانوا يقيمون، قبل دخولهم وادي الغنج، بالمنطقة التي تروى بمياه نهر السند وروافده.
وقد رأينا أن الأسرة هي أساس مجتمع الآريين، وأن هذا المجتمع كان يؤلف من العرق بأسره من غير وظائف وطبقات، فرب الأسرة كان يجمع في شخصه صفة المقرب والزارع والمحارب، أي جميع الوظائف التي إذا ما فصل بعضها عن بعض نشأ نظام الطوائف، ولم يكن للثراء الذي هو مصدر التفاوت الاجتماعي وجود في ذلك الحين، أجل، كان الأبطال يبدون زعماء وقت الجهاد، وكان أشجعهم يسير رئيس أصحابه، ولكن أرضا إذا ما استولي عليها فوجب إحياؤها بالفأس والنار لتصلح للزراعة بمشقة تساوى الجميع في القيام بذلك.
شكل 1-4: أودي غيري. نقوش قديمة منحوتة على صخر دالة على موكب صيد ملكي، وذلك في الدير السابق ذي الحجرات المنقورة في منحدر الجبل، «وتلك النقوش هي من أقدم ما تشتمل عليه الهند ومن أهم نماذج الفن الهندوسي.»
وكانت تنشأ قرية على الأرض الجديدة، وكانت المساكن الابتدائية المصنوعة من التراب وسوق الخيزران تؤاوي الأسر إليها على انفصال بعد أن كان بعضها يختلط ببعض في الحقول، ثم ودت كل أسرة أن تنال قطعة من الأرض فبدا مبدأ التقسيم، فلم يبق مشاعا بين الجميع سوى مراعي المواشي.
ولم يسفر إنشاء الآريين للقرية وتقسيمهم للحقول والأنعام عن نشوء زمرة سياسية أو اجتماعية بعد؛ فالأسرة الكبيرة ظلت مدار الوحدة، فكان أرباب الأسرة الشيوخ يجتمعون لتوطيد النظام فيها وتقرير المسائل المهمة من غير أن ينتحلوا سلطانا بالمعنى المعروف، ولم يلبث أن أقيم حصن ثخين مربع الزوايا على مكان مرتفع قريب من القرية مشرف عليها؛ ليقيم به الزعيم المنصور الذي وسع الأرض فنيط به أمر المحافظة عليها.
ولم تجد رابطة بين قرية وقرية، ولم تجد سلطة عالية تفرض سيادتها على الزعماء، فمصادفات الحروب كانت تؤلف بين هؤلاء الزعماء فينقادون، أحيانا، لقائد واحد من غير أن يعني ذلك عده ملكا، فالآريون لم يقولوا بمبدأ الملكية إلا بعد استقرارهم بوادي الغنج، وذلك مع عد الملك قائد حرب فقط كما جاء في الويدا، فلا ترى في العصر الويدي ملكا ذا وزراء يجبي الضرائب بانتظام، ويملك شعبا بأسره.
وإذا وجد للآريين ملك في الهند فبالاسم فقط، فما كانت القرية الآرية في الهند إلا جمهورية صغيرة متماسكة منظمة، وما كان الزعيم المقيم بحصنه والمعروف بالراجه إلا سيدا ذا سلطان، فهذا هو النظام السياسي الذي كتب له الفوز في الهند بتعاقب الأجيال، وهذا هو النظام الثابت الأساس الذي احترمه الفاتحون على الدوام مهما كان جنسهم.
ومن ثم ترى بذور دستور لا يزال باقيا منذ عدة قرون في مجتمع ناقص التكوين، ومن ثم ترى بذور نظام الطوائف الذي نشأ مذبذبا مبهما حين حاولت الطبقات أن تتميز في البداءة فاشتد أمره بعدئذ بفعل المؤثرات الإثنولوجية فأدى إلى حفر هوى بين العروق يتعذر اقتحامها.
ويمكنك أن تبصر في الويدا مسافة ضيقة بين الكهان والمحاربين لم تعتم أن اتسعت لأسباب سندرسها فيما يأتي: لم يقف توزيع الأعمال عند ذلك الحد، فبينما كان المقرب يقضي أوقاته في القيام بالطقوس المقدسة ووضع النشائد، وبينما كان المحارب يقضي أوقاته في الغارات والرياضات العنيفة كان من الصواب أن يسأل: ماذا يكون مصير الحقول وأمر استغلالها إذا لم يوجد من يحرثها؟ فلذلك كان لا بد من ظهور طبقة أخرى: طبقة الزراع.
بدت في إحدى أناشيد الرغ ويدا الأخيرة طبقات ثلاث مختلفة دعيت بالبراهمة والأكشترية والويشية فدلت بعد زمن على طوائف حقيقية ذات مدلولات مطلقة عميقة.
شكل 1-5: بهو ونيشور «أوريسة». نقوش معبد براشورا ميشوار الخارجية «أنشئ في القرن السادس من الميلاد.»
وفي أنشودة أقدم من تلك تقرأ العبارة الآتية ذات المغزى الدالة على تقسيم الطبقات:
ابتهل إلى إندرا الكبار والصغار وأبناء الطبقة المتوسطة والسائر والقاعد والحارس لمنزله والمحارب وجميع طالبي الفيض والبركة.
وتم ظهور الطائفة الرابعة، أي طائفة الشودرا بعد حين، فجعلت شاملة للشعوب المغلوبة، وذلك عندما دخلت دائرة الحضارة الآرية في آخر الأمر، وكلما وقع فتح لم يعترف بسيادة الأجنبي سكان البلاد الأصليون المجاهدون جهرا أو المهاجرون إلى الجبال للمحافظة على استقلالهم الفطري.
من أجل هؤلاء أوجد الغالبون طائفة رابعة، فتحولت الطبقات التي كان أمرها مبهما غير واضح، فكان بعضها يشترك مع بعض في الولائم وكان بعضها يتصل مع بعض بصلات النسب، إلى طوائف مختلفة أشد الاختلاف.
وأهم تلك التقسيمات هو الذي حدث قبل غيره ففرق به بين الكهنة والمحاربين، فلم يلبث البراهمة الذين هم وسائط بين الناس والآلهة أن صاروا يزيدون مزاعمهم فعدوا أنفسهم من العالين وحملوا غيرهم على اعتقاد ذلك.
وما بين المحاربين والزراع من فرق لم يعتم أن بدا واضحا، وقد قام على اختلاف في الثراء أكثر مما في الوظائف.
وكان القائد الذي يعود مثقلا بالغنائم يستر بخرصان
8
ذهبية وثياب زاهية وأسلحة لامعة، فيصبح راجه؛ «أي ساطعا»، وللراجوات، وإن شئت فقل للأكشترية، شأن كبير في كتب الويدا؛ فكان الشعراء الذين ينظمون الأناشيد يأملون منهم المجد والعطايا فكان من الطبيعي أن يشيدوا بذكر بأسهم وكرمهم أو التنويه ببخلهم وإمساكهم.
ولم يكن بين الطبقات حاجز في ذلك الحين، فالطبقات كان بعضها يختلط ببعض؛ لتقريب القرابين، وإقامة الولائم، وما إلى ذلك من الأمور التي لا تكون عند وجود طوائف حقيقية.
وشعوب البلاد الأصلية، إذ لم تقهر بعد، كان الآريون يعدونها أسرى حرب، وكل يدل على استعباد الآريين لهؤلاء الأسرى، جاء في الويدا:
نضرع إليك يا سوما أن تهب لنا الغنى بالذهب والخيل والبقر والناس.
شكل 1-6: بهو ونيشور. المعبد الكبير «يبلغ ارتفاعه نحو 52 مترا، وأقيم في القرن السابع من الميلاد.»
ولم يكن أمر وراثة الوظائف التي هي إحدى علامات النظام الطائفي قاطعا عند آريي العصر الويدي وإن ذر قرنه
9
بينهم، فهنالك أسر كانت تنتقل إليها الأغاني المقدسة ووظائف التضحية كابرا عن كابر، وبهذا يفسر حفظ كتب الويدا حفظا عجيبا.
وكان الأولاد، على العموم، يرثون أبويهم في الأعيان، وفي الأناشيد المقدسة ذكر غالب لعادة إيصاء الإنسان بثروته لأبنائه.
ذلك هو مجتمع آريي العصر الويدي الذي كانت تنضج فيه، مع القرون، بذور النظم التي ثبت أمرها في الهند فيما بعد فظلت فيها سائدة لا تبديل لها. (6) الحياة عند الآريين
يمكننا أن نتمثل الآريين في أدق شئون حياتهم اليومية حينما ندرس كتب الويدا: كان شعراؤهم يبحثون مختارين عن صورهم في الأشياء المألوفة البسيطة التي تبدو لنا غليظة لاختيارها بوحي ديني رفيع كوحيهم، بيد أن بساطة الموضوعات هذه التي تجد مثلها في قصائد أكثر الشعراء الفطريين لا تحط من قدر انسجام أناشيدهم، فالشاعر الآري كان يرفع شأن أكثر الأفكار ابتذالا وأن يستخرج من النظائر العادية أروع النتائج، والعرق الآري إذ كان ذا خيال متقد مولعا بتساوق الكلمات كان يترنح من أناشيده التي انتهى إلينا منها عدد كبير وضعه مئات الأدباء، ومن هذه الأناشيد نستطيع أن نقدر غنى الأدب السنسكرتي في العصر الويدي.
ويظهر أن فن الشعر هو الفن الوحيد الذي نجح فيه الآريون، فكل شيء يدل على أنهم كانوا يجهلون فن العمارة، وقد تتخيل لهم، مع ذلك، بعض الآلات الموسيقية الابتدائية، وأنهم كانوا يصنعون من المعادن والخشب بعض الأدوات صنعا فنيا وإن لم يحدثونا عن الصور الملونة أو المنقوشة.
شكل 1-7: بهو ونيشور. معبد راجاراني «أقيم في القرن العاشر من الميلاد.»
والمهن التي كانوا يزاولونها كثيرة، ويظهر أنهم كانوا على شيء من الحذق في بعضها، فما وصفوا به ثيابهم الزاهية وخواتمهم وخرصانهم وأسورتهم وأرياشهم الذهبية ومراكبهم الحربية وزينة خيلهم وأسلحتهم اللامعة ودروعهم وسيوفهم وأغمادهم يثبت أنه كان عندهم حوكة
10
وصواغ ونجارون وصانعو أسلحة وعمال قادرون على التصرف في الخشب تصرفا دقيقا فيصنعون منها أكوابا مقدسة ليصب فيها شراب السوما، وليس قليلا ما ذكروه من الأدوات المنزلية كالملاعق والمراجل المصنوعة، كأسلحتهم، من الحديد على ما يحتمل.
وكانت نسجهم تصنع من الصوف أو الكتان مع خيوط من الذهب في بعض الأحيان، والنساء هن اللائي كن يغزلن والعمال هم الذين كانوا يحبكون بالمكوك.
وكان الآريون ينتعلون أحذية فيربطونها بكعابهم كما تدل عليه الآية التي حكت عن الإله إندرا فقالت إنه دائم السير والحركة «فلا يفك حذاءه أبدا.»
والآريون كانوا يبدون أفخر النفائس في عددهم الحربية، فكانت مراكبهم مزينة بصفائح معدنية، وكانت تحمل على عجال مدورة ذات محاور.
11
وكانت الحصن تقرن بالمراكب وتساق بالأعنة واللجم والسياط.
وكان المحاربون يتقلدون أسلحة مصقولة ساطعة، ويركبون مراكب ويلبسون أساور من ذهب تصلصل حينما يهزون أسلحتهم، وكانت أسلحتهم تؤلف من سيوف وأقواس وسهام توضع في كنائن
12
وتنتهي بقوار
13
من حديد، وكانوا يضعون على جباههم ريشا من ذهب، وكانت الأعلام تخفق فوق صفوف الجيش.
وكانت الزراعة والحرب وما إليهما من المهن أهم ما يعنى به الآريون.
والآريون إذ سكنوا وادي السند غير ذي الزرع في بعض الأحيان بسبب الجفاف علموا كيف يرقبون الفصول ويرصدون قدوم الأمطار ذات البركات، فكانوا يعدون سحب الرياح الموسمية أبقارا سماوية ترعى في سهول الفلك ويسوسها راع إلهي فتدر من ثديها الثقال السعادة والرخاء على الأرض.
وكان الآريون يثيرون الأرض بمحاريث يجرها بقر، ويعودون إلى منازلهم في فصل الرياح الموسمية على مراكب يجرها بقر.
وكانت المواشي من أهم منابع الثروة عند الآريين، وكان الأريون يمجدون البقرة التي تدر باللبن المغذي فيعنون بتربيتها ويحترمونها ويكادون يعبدونها.
وكان اللبن والسمن أساسي الغذاء عند الآريين، وكان الآريون يريقون منهما للآلهة، وكان الموقد يبلل بالسمن الذائب فيزيد النار سعيرا والإله أغني نورا، وفي الويدا مدح للعسل في كل زمن، فلتضف الفطائر والحلاوى إلى تلك الأغذية المفضلة التي كانت تقدم إلى الآلهة.
وكان الآريون يأكلون اللحم أيضا، وكانوا ماهرين في الصيد فيصمون الفرائس بالسهام أو يصطادونها بالحبائل والأشراك، وكانوا يصطادون السمك بالشباك.
وكان الآريون على علم من الملاحة، فلم يجرءوا في البداءة على غير السير في أنهر سبتا سندهو التي بدت لهم طرقا طبيعية للمواصلات، ثم اتسع نطاق تجارتهم فصارت سفنهم تجري في البحر حاملة سلعا على ألا تبعد من الشواطئ المجاورة لمصاب نهر السند.
وكان للآريين علم بالطب، غير أن ثقتهم بالأدوية التي يقول بها الطب كانت دون ثقتهم بالرقى والعزائم التي كان الكهنة يزعمون شفاء المرضى بها.
وكلما سار الآريون في ميدان الحضارة اتسع نطاق توزيع الأعمال عندهم، ففي أناشيد الدور الأخير تبصر زيادة المهن، فتجد لكل عمل عاملا، فترى فيها وصفا حتى لحلاق القرية.
وبدأ التفاوت بين الثروات يزيد في ذلك المجتمع الذي كان أمره يتعقد، فأخذ يمارس أمور التجارة، فبدا وصف أبهة الأغنياء وآلام الفقراء عنيفا، فصار الفقر الكريه يجسم ويضرع إلى الآلهة أن تبعده، والجفاف هو الذي كان يؤدي إلى الفقر في الغالب فيفر أمام سيول الموسم الماطر، جاء في الويدا:
توجه، أيها الفقر ذو العين الموعوكة والسير الثقيل، إلى الجبل السماوي حيث تجد محسنا منعما، فبأمواج السحاب ندفعك.
يضر الفقر المدحور من هذا العالم ومن العالم الآخر بالبذور، فيا برهس بتي أبعد هذا الشر.
ونشأت عن تفاوت الثروات هذا فضيلة جديدة، أي الإحسان، فتأمر أسفار الويدا به كثيرا فيقول الكهنة:
الإحسان الإلهي الناصر جزء من القربان.
الرجل المحسن هو الرجل الطيب نحو البائس الجائع، فإذا دخل بيته وجد سعادة في القربان ووجد أصحابا بين الآخرين .
وانهماك الآريين بالميسر من أسباب الفقر الشديد المفاجئ وتدهور الثروات عندهم، فقد بلغ ولعهم بالميسر، ولا سيما بالنرد، ما كانوا يخسرون به، أحيانا، في يوم واحد جميع كنوزهم وبيوتهم وحقولهم وأولادهم وأزواجهم وحريتهم، وفي الويدا وصف قائم لما يجر إليه ذلك الولوع من المصائب، ومن ذلك الوصف الآتي الذي جاء في أنشودة رائعة منها:
يصل المقامر إلى مجلس الميسر فيقول في نفسه متحمسا: «سأكسب!» فيستحوذ النرد على روحه فيسلم إليه كل ما يملك.
والنرد، كسائس الفيل المجهز بكلاب يضغطه به، يلهب المقامر بالرغبة والحسرة، ويأتي بالنصر، ويوزع الغنيمة، ويوجب سعادة الفتيان، ويورثهم اليأس، ويغويهم بستر من عسل.
والنرد لا يؤثر فيه غضب ولا وعيد، وله يعنو
14
الملوك.
والنرد إذ يتدحرج على الأرض ويهز في الهواء يبدو عاطلا من الذرعان فيهيمن على من لهم ذرعان، والنرد فحم سماوي يسقط على الأرض، فيجمد القلوب ويشعلها.
زوجة المقامر تحزن حين تهجر، وأم المقامر تغتم حين تجهل مصير ابنها، والمقامر يرتجف حين يتعقبه الدائن فيعن له أن يسرق فلا يدخل بيته إلا ليلا.
شكل 1-8: بهو ونيشور. مشكاة منقورة في معبد بكهواتي «القرن التاسع من الميلاد»، «تدل هذه الصورة على دقائق التزيين في داخل معابد بهو ونيشور، وهي من رسم الهنود فنجدها في كتاب بابورا جندرالا ميتره.»
ولم تكن ملاهي الآريين كلها ذات خطر، فبينها ما كان يسوده الطهر، كتمثيل اللعب على المسارح الخشبية التي أشير إليها في الويدا.
والآريون، كجميع الفطريين، كانوا يوقدون النار بدلك حطبتين إحداهما بالأخرى، وكانت تانك الحطبتان، اللتان يظهر من دلك إحداهما بالأخرى إله النار أغني، تسميان بالأرني، جاء في الويدا:
هذا هو زمن هز الأرني وولادة أغني، فجئ بملكة الشعب «أرني» ولنعمل على إنتاج ابنها.
فالإله الذي بيده الخير هو في قطعتي الأرني، فهو فيهما كالجنين في بطن أمه.
والآريون كانوا يدفنون موتاهم على العموم، وفي الويدا غير نص على المآتم، وفي النص الآتي تصوير شعري لوداع حي لميت:
اذهب تجد الأرض الأم الكريمة الرءوم الفتاة الواسعة العطوف، كالبساط ، على من قدس للآلهة بعطاياه.
فيا أيتها الأرض! انهضي ولا تؤذي عظامه، وكوني سلاما عليه رءوفا به، ويا أيتها الأرض زمليه كما تزمل الأم طفلها بذيل ثوبها.
فلتنهض الأرض له، ولأجمع هذا التراب لكيلا تؤذى عظامه، وليحرس الأجداد قبره، وليحفر يما هنا منزله.
ألا إن الأيام عندي كالسهام التي تذهب بالريش.
فأين تجد ما هو أشد وقعا على النفس من سرعة الحياة التي تذهب بها الأيام كما تذهب السهام بالأرياش؟ (7) مبادئ الآريين اللاهوتية والدينية
مبادئ الآريين الدينية على شيء من الإبهام والغموض، فلم تكن أمور أي إله معينة تعيينا قاطعا عندهم، فكان للمشاعر والخيالات الشخصية شأن كبير في تكييفها، وليس قليلا ما تجده من ذلك في الويدا، فمن ينظر في الرغ ويدا يعلم طورا بعد طور أن ديانة الآريين كانت ديانة توحيد خالص وديانة وحدة وجود راقية وديانة شرك غليظ.
حقا إن قواعد المنطق التي أثبتت التربية أمرها في أدمغتنا الأوربية بتعاقب القرون جعلت لتلك الكلمات المجردة فيها معاني صريحة محكمة لا يوفق بينها مع فصلها بهوى عميقة بين ما تدل عليه من المعتقدات، بيد أنه ليس لهذه المبادئ المجردة معان مقررة في أدمغة الفطريين التي لا يكون فيها للأفكار والعقائد واللغات غير معان مذبذبة متقلبة على الدوام، ولم يكن للتناقض مكان في دماغ الآري ذي الفكر المتقلب بسرعة تقلب السحب التي كان يراها في الفلك، فالإله الذي يرد ذكره في الأنشودة يبدو الأهم ما حدث عنه، فلم تكد تقلب الصفحة حتى تجد إلها آخر يغلبه، والإنسان يرى أحيانا أن الشعراء الذين وضعوا الأناشيد أرادوا الجدل بذلك، مع أنهم - كأكثر الشعراء - لم يكترثوا لموضوعات الأناشيد إلا قليلا لا ريب، فكانوا يضحون مختارين بالرأي في سبيل خيال أو وصف.
إذن، تبدو الأناشيد الآرية متموجة بين أشد المبادئ الدينية اختلافا، فتجد فيها عبادة قوى الطبيعة، وتجد فيها وحدة الوجود، وتجد فيها الشرك، وتجد فيها التوحيد.
ولا شيء أصعب من وضع تقسيم لآلهة الآريين ووضع سلسلة لها.
وأكثر الآلهة أو الرموز المذبذبة ذات الصفات والمقامات غير المستقرة على الدوام، فتجد الأساطير الويدية مملوءة بها، هي ما يأتي: إله النار أغني والشراب المختمر سوما الذي يحثه، فأغني هو موجب الآلهة وهو موجب العوالم وهو موجب الحياة الكونية، وسوما يخلد الآلهة ويهب للناس القوة والنشاط، وسوما أوجب مثله، السماء والأرض، إندرا ووشنو، وسوما حين اتحد بأغني صور السماء والكواكب.
وملك السماء إندرا هو من أكثر الآلهة ذكرا لدى الآريين، فهذا الإله محارب واقف على مركبة حرب كأنه زعيم عشيرة آرية.
ويجتمع حول الإله إندرا آلهة لا يحصيها عد فتقاسمه سلطانه وتغلبه في الغالب، ومنها الآلهة التي تعرف بالماروت، أي آلهة الزوابع والأعاصير والبروق وتوزيع الأمطار، والتي هي أولاد رودرا الذي هو أجمل إله والذي يرسل الصواعق ويحمي الأنعام ويشفي المرضى، ومن تلك الآلهة الذي يعرف ببرهسبتي الذي ينظم الكون، ومنها الإله ورونا الذي ينظر إلى أعمال الناس والذي هو ملك السماء كالإله إندرا، والذي يصوره بعض الأناشيد خاضعا للإله إندرا هذا، ويصوره بعضها سائدا له، ويصوره بعض آخر منها متحدا به.
ثم يجيء الإله سوريه، الشمس، وشنو الذي يجوب الفضاء بثلاث خطوات، والذي قفز ذات يوم إلى الصف الأول من الآلهة بعد أن كان ذكره خاملا في الويدا.
ويضاف إلى تلك الآلهة، الكثيرة التي لا فائدة من عدها جميعها، أشخاص مجردة كبوراندهي «الرخاء» وأراماتي «الإحسان» ومرتيو «الموت»، إلخ.
وتمثل الآريين للآلهة يختلف عن تمثل الأوربي لها اختلافا عظيما، فلا نرى علما يستطيع أن يحيي أفكارا ميتة عبر عنها بلغة شعب ميت، فما في لغاتنا العصرية من كلمات بينة محكمة لا يعرب به عن آراء أولئك.
ولا يمكننا أن نبصر معنى الأمور الخاصة بزمان زال إلى الأبد إلا بالبحث العميق في آثاره الأدبية، فمع أن قصائد المهابهارتا والراماينا أحدث من النشائد الويدية الأولى تبدو آثارها آرية بالحقيقة، فمن يقرأها يسهل عليه أن يتبين الفروق بين ما دار حول الآلهة عند الآريين من الأفكار وما يدور حولها عندنا، فسلطان الآلهة وإن مجد ذلك في تلك القصائد، في الغالب، لم تخرج هذه الآلهة ظافرة في كل مرة من اصطراعها هي والإنس أو الجن، والأدب الهندوسي حافل بمئات الأقاصيص التي هي من هذا الطراز، ومن ذلك أن راونا، ملك الجن المعروفين بالركشسا افتخر، وهو يخاطب أحد الزهاد، بقهره للإله العظيم إندرا والإله يما، ومن ذلك ما ورد في صفحة أخرى من أن ابن الإنسان لكشامنا أخا راما قال للحسناء سيتا معزيا إياها عن غياب زوجها الذي افترضت وقوعه في مكمن:
من المستحيل أن تغلب الأسرا وجميع الآلهة، حتى الإله إندرا، أخي.
ومن ذلك أيضا ما ورد في رواية شكن تلا التي نظمها الشاعر كالي داسا في القرن السادس من الميلاد، على ما يحتمل، من أن «ملك الآلهة» إندرا أرسل رسولا إلى الملك دشاينتا، الذي هو رجل، ليرجو منه أن يعينه على قهر العفاريت الذين «يشعر بعجزه عن دحرهم»، فوافق ذلك الملك الرجل على ما طلب منه فانتصر على أولئك العفاريت الذين لم يسطع «ملك الآلهة» أن يغلبهم.
ظهر مما تقدم أن من الصعب حصر المعتقدات المذبذبة المتحولة التي تستنبط من الويدا في دوائر من التعاريف معينة، وهذه المعتقدات تشابه تلك الموجودات المتقلبة غير المحددة التي كان علماء الطبيعة يعدونها من الحيوانات تارة ومن النباتات تارة أخرى، ونحن، مع محاولتنا القيام بهذا العمل الجديب نستخرج، تقريبا، الأمور الآتية من مجموع المعتقدات التي جاءت في الويدا: (1)
عبادة قوى الطبيعة. (2)
تشخص هذه القوى بأسماء الآلهة. (3)
اعتقاد خلود الروح. (4)
عبادة الأجداد. (5)
الميل إلى إخضاع الطبيعة والناس والآلهة لإله واحد أقوى منها، وهو الإله إندرا على العموم. (6)
هيولية الدين الثابتة التي ينحصر بها أمر الدين في تبادل الإنسان والآلهة للهبات، وذلك بأن يقرب الإنسان قرابينه، ويقدم فواكهه، وأن تمنح الآلهة الكثر واليسر والمطر المبارك والصحة والكنوز.
شكل 1-9: جكن ناتهه «ساحل أوريسة». مدخل المعبد الكبير «القرن الثاني عشر من الميلاد».
والآن نبحث في هذه المسائل مستندين إلى بعض النصوص: يملأ تأليه قوى الطبيعة وعبادتها الرغ ويدا.
وتفرض عبادة كتلك على شعب جاهل فتى ساذج هلوع
15
في قطر، كالهند، ذي عظمة رائعة وجمال عال وذي يسر لم تسمع به أذن مرة، وذي عسر مرهوب مرة أخرى، ففي الهند عدت الشمس والرياح والأنهار والجبال والنباتات قوى قادرة، وبدا سير الشمس للآريين سرا محيرا للعقول، وشملت لطائف الفجر وعذوبة الشفق وتعاقب الفصول أنظارهم، فملأ شعراؤهم حظيرة قدسهم بآلهة وصفوها.
ولكن القوم في وادي السند حيث يكون الحر والجفاف هائلين كانوا يضرعون ببليغ القول، في الغالب، إلى إله الريح وايو وإلى أعوانه ورسله الماروت وإلى البقرات السماوية التي هي سحب تحمل المطر.
فإليك بعض الأنشودة التي تتغنى بالشمس، فتعد مثالا حسنا للشعر الويدي:
يقيم الإله ساوتري بالنجم الساطع الذي يبزغ
16
فينير العوالم كلها، فالشمس تحيي بأشعتها السماء والأرض والهواء.
يجيء بالشمس جيادها الحمر، فيصل الفجر العظيم الجميل الذي ينعش الجميع بضيائه، فتأتي الإلاهة على مركبة فخمة فتوقظ الإنسان ليقوم بعمل نافع.
كيف تطلع الشمس التي لا دليل لها وكيف تغيب الشمس التي لا رابط لها من غير أن تسقط؟ ومن يعرف القدرة التي تمسكها؟ هي صاحبة ريتا، هي حافظة القبة الخضراء وعمادها.
والنار التي تعرف بأغني من أهم الآلهة الويدية، ولا يفوق النار سوى الخالق الأعلى الإله إندرا، فالنار موجودة في كل مكان، وتسري النار في كل مكان، تسري في شرايين الأحياء وفي جوف الأرض وفي عروق النبات وفي أشعة الشمس، والنار تتجلى إذا ما ألهب الكاهن الحطب، جاء في الويدا:
حينما أرى هذا الكائن المنير في قلبي تدوي أذناي وتختلج عيناي وتتيه نفسي في ارتياب، فماذا أقول؟ وفيم أفكر؟
فيا أغني! مجدتك جميع الآلهة واجفة
17
ما تواريت في الظلام.
والمعتقدات حول اليوم الآخر مبهمة متقلبة في الويدا، ففي الويدا يعود الشخص بعد موته إلى العناصر، ويغشى روحه جسم جديد، فمن ثم ترى بداءة المذهب التناسخي،
18
وفي الويدا تجد الاعتقاد القائل بخلود الروح، وبأن الروح أسمى من الجسم، وأنها أساس شخص الإنسان، جاء في الويدا:
لتذهب عين الميت إلى الشمس ولتذهب روحه إلى وايو، ولترد إلى السماء والأرض ما أنت مدين به لهما، ولتعط الماء والنبات ما في بدنك من الأجزاء التي لهما.
وفي الكيان جزء خالد، وهذا الجزء هو ما يجب أن تدفئه بأشعتك وتلهبه بنيرانك يا أغني، وانقل، يا جاتا ويدا، ذلك الموجود السعيد، الذي برأته، إلى عالم الأتقياء الأبرار.
وروحك حين تزور هنالك بقعة الموت ندعوها إلى منزلك هنا، إلى الحياة.
وروحك حين تزور هنالك السماء والأرض ندعوها إلى منزلك هنا، إلى الحياة.
وروحك حين تزور هنالك الشمس والفجر ندعوها إلى منزلك هنا، إلى الحياة. إلخ.
ونشأت عبادة الأجداد عن ذلك الإيمان بخلود الروح، ورأينا في مكان آخر أن الأجداد الموتى، عند الآريين، لا يدومون ولا يسعدون في المثوى الأبدي ما لم تدم أسرتهم في الدنيا فتقدم إليهم القرابين وتصلي من أجلهم، وفي الويدا:
يا أغني! تعال مع هؤلاء الأجداد القدماء الأتقياء العظماء، تعال مع ألوف عباد الآلهة هؤلاء الذين يركبون وإياها مركبا واحدا، ويشربون هم والإله إندرا الشراب، ويأكلون وإياه القربان، ويذهبون للجلوس بالقرب من الدار.
وتجد في الويدا بذرة الإيمان بإله علي خالق كل فان وكل دائم مهيمن على الناس والأجداد والآلهة، ويخيل لواضع أنشودة كل إله فيها أن هذا الإله هو أهم الآلهة أو الإله الواحد، ومما حدث في الويدا أن عدت الآلهة، في بعض الأحيان، إلها واحدا ذا أسماء متنوعة، وفي الويدا:
أن الروح الإلهية التي تسير في السماء تسمى إندرا ومترا وورونا وأغني، فالحكماء هم الذين يطلقون على الموجود الواحد عدة أسماء فيقولون هذا أغني «النار» ويما «الموت»، إلخ.
ومن هنالك ترى أن للموجود الواحد خواص مبهمة فيدعى تارة بالنار وتارة بالموت أو ما إلى ذلك من المجردات الأخرى، وفي العبارة الآتية تجد ما هو أدق من ذلك:
ذلك الذي هو أبونا، ذلك الذي هو سبب كل كائن، ذلك الذي هو محيط بكل موجود عليم بكل عالم، فالإله الواحد هو موجب الآلهة الأخرى، وكل ما في الكون يقر بسلطانه.
بيد أنك تجد، أحيانا، ما يكسو ذلك القول المؤكد ثوبا من الالتباس مصدره شعور الإنسان بعجزه عن معرفة أصل الأشياء ومصيرها، ففي الويدا:
تعلمون خالق كل شيء، هو ذلك الذي ترونه أمامكم، ولكن كل شيء عندنا مستور بغطاء من ثلج، فأحكامنا غامضة، والناس يمضون مقربين للقرابين ومرتلين للأناشيد.
وكان ينبت في تلك الأدمغة الفطرية مذهب الارتياب الذي نما بعدئذ في كتب الهند نموا عظيما، ودليلنا على ذلك النص الآتي الذي ورد في الرغ ويدا فاستشهد به مكس موللر في كتابه «أصل الأديان ونشوءها»:
من يدري، من يقول من أين أتى هذا الكون؟ فالآلهة ظهرت بعد ظهوره، فمن يستطيع أن يخبرنا بمصدره؟
من أين أتى هذا الكون؟ هل هو من صنع خالق أم لا؟ يعلم ذلك من ينظر من فوق الفلك، وقد لا يعلم.
ويظهر أن الجمهور كان لا يبالي كثيرا بمثل هذه الأفكار التي كانت تساور بعض المفكرين، فالذي كان يهم الجمهور هو أن يتساوم هو والآلهة تساوما عمليا فيقدم إليها القرابين والأدعية والنشائد في مقابل أسر عزيزة وكنوز وافرة وقطاع كبيرة وانتصارات مؤزرة، ففي الويدا غير شاهد على ذلك، والشواهد فيها من نمط واحد، ففيها أن أي إله يضرع إليه يتملق بوعده بسيول من شراب السوما وأنهار من عسل ولبن وبالصلوات والأدعية والتسابيح، وبتقريب القرابين أحيانا، على أن يحمي الأسر ويقي من الأمراض وينزل على الحقول المطر ويجعل البقر كثيرة النسل والدر.
وقلما كان يخلط بتلك الأمور الغليظة الصادرة عن الحرص والطمع روح التوبة والندم على ما فرط من الذنوب والرغبة في إصلاح الحال.
ولا تكاد تجد في الويدا مبدأ الذنب، فالآري كان لا يبغي الكمال، ويعزو ما يقترفه إلى ضعف الطبيعة البشرية، جاء في إحدى تلك الأناشيد:
يا بتريس! لا تؤاخذنا بذنوبنا، فهي نتيجة ضعف طبيعتنا البشرية.
وما عند الآريين من مبادئ الأخلاق فقليل النمو قليل الصرامة، فيكاد ينحصر ما تأمر به الويدا في إيتاء الصدقات والرفق بالحيوانات والوفاء للأصدقاء.
نختم بحثنا المجمل الذي رسمنا خطوطه بإخلاص فاعتمدنا فيه على الويدا، فحاولنا فيه إظهار حضارة الآريين وشأنهم، فنقول، من غير أن نعترف لهم بالصفات العالية التي أريد وصفهم بها حينما كشف أمرهم ولا بما عزي إليهم من الشأن في تكوين العروق، ولا بما قصد نسبته إليهم من كل أمر رفيع في الغرب: إنك لا تبصر حضارة تساوت هي وحضارتهم في النشوء فاستطاعت أن تتخلص مثها من بقايا الهمجية الأولى، وإنك إذا قايست بين الشعب الآري والشعوب اليهودي الذي مثل دورا كبيرا في العالم وجدت ذلك أعلى من هذا، ففي تاريخ بني إسرائيل ترى ما لا ترى له أثرا في كتب الآريين من الأكاذيب وكفران النعمة والجبن والنذالة والتجبر والبهيمية وسفك الدماء والخرافية الضارية.
شكل 1-10: جكن ناتهه. داخل معبد غورشاباري «القرن الثاني عشر على ما يحتمل.»
وغير ذلك يكون تقديرنا عند المقايسة بين ذينك العرقين في الأسلوب الشعري، فليس الرغ ويدا بأجمل من سفر أيوب.
ونعترف عند النظر إلى المناحي الفلسفية المدونة بصورة استثنائية في كتابي كلا العرقين بأن الشوق إلى معرفة الحقيقة والمجهول وغير المحدود وبأن مشاعر البؤس البشري وبأن وهي حطام الدنيا أظهر بيانا وأكثر نصا في التوراة مما في الويدا.
وإذا نظرت إلى الأمر من ناحية الحياة وجدت، على العموم، أن التوراة أكثر من الويدا تشاؤما، وتبدو الويدا أكثر من التوراة تفاؤلا، فالآري متفائل بطبيعته، ويسهل أن تجده راضيا بما قسم له، فإذا علمت أن الآريين أرباب الأسر يغتبطون بأبنائهم ومواشيهم ورياحهم الموسمية فلا يطلبون من السماء الصافية أكثر من هذه الأشياء صعب عليك أن تصدق أنهم أجدادنا، نحن الغربيين ذوي الحاجات التي لا تقف عند حد فيصعب قضاؤها، نحن الغربيين الذين لا نعيش إلا بين المآرب الأزلية والرغائب الأبدية.
هوامش
الفصل الثاني
حضارة العصر البرهمي
وصف للمجتمع الهندوسي قبل الميلاد بثلاثة قرون أو أربعة قرون (1) الوثائق التي يستعان بها في بعث المجتمع الهندوسي كما كان قبل الميلاد بنحو ثلاثة قرون
كان وادي السند مقرا للحضارة الآرية التي وصفناها في الفصل السابق، وكان وادي الغنج محل نشوء الحضارة البرهمية التام.
استمر فاتحو الهند على زحفهم إلى الشرق في الدور الذي دام نحو ألف سنة ففصل بين دوري هذه الحضارة البارزين، فأضحوا سادة جميع الهندوستان ، أي جميع القطر الواقع بين بحر عمان وخليج البنغال، وبين جبال همالية وجبال وندهيا، وخضع سكان هذا القطر الواسع الغني القدماء لقاهريهم نهائيا، وكفوا عن مقاتلتهم راضين بنيرهم مختلطين بهم، ورأى الآريون أن يجتنبوا هذا الاختلاط الذي بدا في الصميم فصار يؤدي إلى انصهار بعض العروق في بعض بعد أن كان سطحيا، فوضعوا، وضع المتم، نظام الطوائف الذي ذكرنا ظهوره الأول في العصر الويدي.
بلغت الحضارة البرهمية ذروتها قبل الميلاد بثلاثة قرون أو أربعة قرون، ففي ذلك الزمن، لا ريب، ألفت مجموعة شرائع منو «مانوا، دهرما، شاسترا» التي صارت دستور الهند المدني والسياسي.
وظن في بدء الأمر أن تلك المجموعة أقدم من ذلك بزمن طويل، فرجعها جونس إلى القرن الثامن قبل الميلاد ورجعها آخرون إلى القرن الخامس قبل الميلاد، ثم أبدي حديثا رأي أقوم من ذلك كما يظهر، فلم يرجعها إلى ما قبل القرن الثاني أو الثالث قبل الميلاد.
إن مانوا دهرما شاسترا أوثق مصدر لدينا عن العصر البرهمي، وهو يعدل الرغ ويدا عن العصر الويدي، وما وصفناه في أمر الويدا نصنع مثله في أمر شرائع منو فنستنبط من هذه الشرائع الأساسية جميع الشواهد التي نتمثل بها، بالضبط، ما تشير إليه من الأزمنة.
وليست الكتب المقدسة وحدها هي التي نستجلي بها العصر البرهمي مع ذلك، فقد أخذ التاريخ، أيضا، يلقي بصيصا، ولو ضعيفا، على الهند القديمة بعد غزوة الإسكندر.
أجل، إن غزوة الإسكندر لم تسفر عن كبير معرفة للغربيين، غير أنهم أبصروا بها القطر الحافل بالأسرار الواقع فيما وراء نهر السند فوجهوا إليه بعدئذ أفكارهم وأنظارهم في الغالب، فعن لنيكاتور السلوقي، الذي هو أحد الأمراء المقتسمين لدولة الإسكندر المقدوني، أن يتم ما بدأ به هذا الفاتح راجيا أن يكون أوفر حظا منه فخاب أمله، فقد كان لدى ملوك الهند الشمالية من الحرس والجيوش الكثيرة ما لم يجرؤ معه على مقاتلتها مخاطرا.
بيد أن ذلك الأمير فتح بقطريان فأصبح جارا لأولئك الملوك فعرض عليهم أن يتفاوض هو وإياهم، فحالفه جندرا غوبتا «المعروف لدى الإغريق بساندروكوتوس» الذي كان من أعظمهم سلطانا، فتزوج هذا الملك الهندوسي بابنته مضيفا إياها إلى نسائه، مما عد خارقا للعادة عند الإغريق والهندوس على السواء، فذهبت هذه الأميرة الفتاة إلى عاصمة زوجها باتلي بوترا الواقعة على ضفاف الغنج وغير البعيدة من رأس الدلتا لتلحق به، فرافقها إليه السفير ميغاستين، فقضى هذا السفير أوقات فراغه في وصف ما كان غريبا عليه من طبائع الشعوب التي أصبح بين أظهرها.
ومن المؤسف أن رحلة ميغاستين الكاملة المفصلة، كما يظهر، لم تصل إلينا، واليوم تعد مزورة المجموعة التي عزاها أنيوس الفيتربي في القرون الوسطى إلى ذلك السفير السلوقي على أنها صحيحة، غير أن مؤرخي الإغريق واللاتين وجغرافييهم المعاصرين لهذا السفير والذين ظهروا بعده قد استشهدوا برحلته في الغالب فاقتطفو منها فصولا كاملة، فتجد أسترابون، مثلا، يستند إليها كثيرا في الجزء الذي درس فيه جغرافية الهند، فنشأ عن ذلك أن انتهت إلينا منها قطع واسعة بعض الاتساع، تعد، بالإضافة إلى شرائع منو، الأساس الذي نعتمد عليه في بعث الهند البرهمية.
حقا أن رحلة ميغاستين وشرائع منو هي الوثائق الوحيدة التي تستنبط منها معارف، على شيء من الصحة، عن العصر البرهمي، وأما القصائد الحماسية الكبرى، كالراماينا والمهابهارتا، فمحشوة بالأساطير مهذبة عدة مرات لا ريب، فلا تصلح لمعرفة الزمن الذي وضعت فيه ولا لتعيين ما أشارت إليه من الحوادث بالضبط، وإن كانت آثارا أدبية خالصة يرجع إليها أحيانا بتحفظ كبير. (2) تقسيم المجتمع الهندوسي إلى طوائف
حقوق كل واحدة من هذه الطوائف وواجباتها
رأينا في أواخر العصر الويدي تقسيم الوظائف وتطورها لتكون إرثية، وذكرنا أن ذلك يوجب نظام الطوائف وإن كان لا يؤدي وحده إلى ظهور هذا النظام.
كانت ضرورة المحافظة على نقاوة العرق واحترام الأنساب وبقاء الأسر القديمة مما يشغل بال آريي العصر الويدي، فصار التفكير في ذلك هم مشترعي الآريين عندما دان للآريين الفاتحين شمال الهند فتفرق هؤلاء القليلو العدد بين سكانه المغلوبين الكثيرين.
وكانت الحقائق الإثنولوجية، التي هدت إليها التجارب فوضعت في نصوص من الحكم، بديهية عند الآريين، فالآريون كانوا يعلمون، لا ريب، أن الغزاة لا يلبثون أن يفنوا في الشعب المقهور إذا امتزجوا به فلا يبقى لهم أثر بعد بضعة أجيال، وكانوا يعلمون، أيضا، أن تزاوج رجل وامرأة من عرقين متفاوتين يؤدي في الغالب إلى ولادة أولاد متوسطين خلقا منحطين خلقا.
فاسمع ما جاء في شريعة منو:
لم يلبث كل بلد يولد فيه أولاد من عرق متوالد مفسد لصفاء الطبقات أن تقوض دعائمه وينحط سكانه.
وأسرة الرجل مهما تكن شريفة ممتازة لا بد لهذا الرجل، إذا كان وليد طبقات مختلطة، من أن ينتقل إليه بالإرث شيء من سجية أبويه وسوء خلقهما.
وما في الرجل من فقدان المشاعر النبيلة وغلظة الكلام والجلف وإهمال الواجبات فموروث عن أم جديرة بالاحتقار.
والآريون قد تعلموا تلك المبادئ على حسابهم الخاص لا ريب، فلما راعهم، على الأرجح، هبوط عرقهم أقاموا الحواجز الواقية الشديدة التي لا تزال باقية.
ولا يدل على ما في شرائع منو من التعاليم على سلامة العرق الآري قبلها، وإن دلت على تقدير الآريين لضرورة سلامة عرقهم، فتوالد الآريين وغيرهم قد حدث حتما، فلم يعتم المثال الآري أن تغير، فلا تجد شريعة قادرة على مقاومة بعض الضرورات الفيزيولوجية.
ومما يؤيد هذه النظرية ما في المباني القديمة من النقوش، فتدل نقوش ذلك العصر، كنقوش بهارت مثلا، على مثال نجده في القرون الآتية وفي مناطق الهند البعيد بعضها من بعض بعدا كبيرا، كسانجي وبهاجا على الخصوص، فلا نرى بينه وبين المثال القفقاسي وجه شبه، فهو ذو وجه عريض صفيح يثبت تغلب العنصر التوراني، والآريون الخلص إذا ما وجدوا في ذلك الحين كانوا أقلية صغيرة منتسبة إلى طائفة البراهمة وحدها لا ريب.
ويدل درس المجتمع في ذلك العصر على تطوره خلقا وخلقا، فقد أضيف ثقل نظام الطوائف الذي وضع لإنقاذ ما بقي من النقاوة والفخر إلى نير التقاليد الشديد الذي حصرت فيه الحضارة الهندوسية فلا تخرج منه أبدا، فغدت الآلهة هيولانية، وحلت تعاليم منو الجافة محل الشعر الآري الرائع، نعم، إن الخيال لم يقيد تماما، بيد أنه أضحى أشعث ثقيلا منتجا للأساطير المطولة التي لا حد لها بدلا من أدعية الويدا البليغة أو نشائدها الساطعة.
والطوائف التي ورد ذكرها في شريعة منو أربع: طائفة البراهمة «الكهنة» وطائفة الأكشترية «المقاتلة» وطائفة الويشية «الزراع والمرابين والتجار» وطائفة الشودرا «سفلة الناس ليس لهم مهنة خاصة فلم يعترف لهم بعمل غير خدمة الآخرين.»
وعلى الرجل أن يتزوج بامرأة من طائفته أو من طائفة أدنى منها، ولكن الرجل الذي يتزوج بواحدة من الشودرا يصبح مفضوحا مهتوك الستر، ويطرد من طائفته، ويصيبه خزي في الدنيا والآخرة، فلا يتزوج نساء الشودرا إلا رجال من الشودرا.
ويمكن البرهمي أن يتزوج امرأة من الأكشترية أو من الويشية، ولا عكس، فمن معتقدات الآريين أن الأب الذي هو من طائفة أعلى من طائفة زوجته يستطيع أن ينقل بعض صفاته إلى ابنه، وأن الأب الذي هو أدنى من طائفة زوجته ينزل هذه الزوجة وأولاده منها إلى مستواه، فينظر في عدم الكفاءة الحقيقية في الزواج إلى زواج المرأة من حيث الذراري.
شكل 2-1: كهجورا. معبد شيوا. «القرن العاشر من الميلاد»، «ارتفاعه نحو 25 مترا.»
وإليك واجبات كل واحدة من الطوائف ومبادئ النكاح كما جاءت في شريعة منو بادئا بالرمز البرهمي المشهور القائل إن كل طائفة خرجت من جزء من جسم برهمة:
أراد الرب المولى تكاثر الجنس البشري فخلق من فمه وذراعه وفخذه ورجله البراهمة والأكشترية والويشية والشودرا، وأراد دوام هذا الجنس فجعل لكل واحدة من هذه الطبقات أعمالا خاصة.
فعهد إلى البراهمة في درس أسفار الويدا وتعليمها وتقريب القربان وإدارة ضحايا الآخرين والعطاء والأخذ.
وفرض على الأكشترية حماية الشعب وممارسة الإحسان والتضحية وتلاوة الكتب المقدسة وعدم الانهماك في الشهوات.
وخص الويشية بتربية المواشي وإيتاء الزكاة والتضحية ودراسة الكتب المقدسة والتجارة والربا والحرث.
وأوجب على الشودرا عملا واحدا فقط، وهو خدمة تلك الطبقات من غير أن يحطوا من قدرها.
وليعرف أمر الرجل الذي ينتسب إلى طبقة دنيئة، والذي ولد من أم حقيرة فلم يظهر أمره جيدا فيخيل إلى الناظر إليه أنه رجل شرف وما هو بذلك.
يمكن المرء الذي يولد من أب شريف وأم حقيرة أن يكون شريفا بخصائله، ولكن الذي يولد من أم شريفة وأب حقير يعد حقيرا كما هو حكم القدر.
لا ينجل الرجل الشودري الذي يتزوج امرأة من طبقة الكهان غير ولد أدنى منه، كما أن كل واحد من هؤلاء المولدين الأدنياء يتزوج بواحدة من بنات الطبقات الأربع الخالصة لا ينجل إلا ولدا أدنى منه.
نار جهنم هي دار البرهمي الذي يتزوج امرأة من الشودرا، لا من طبقته، فإذا ولد له ولد منها طرد من طبقة البراهمة.
كان تفوق رجال البراهمة على بقية الشعب عظيما، وما كانوا يتمتعون به من السلطان والحقوق والاحترام يجعلهم من شباه الآلهة أكثر من أن يكونوا من البشر، وقد نالوا هذا المقام الممتاز بعنصرهم الطيب وبما لصلواتهم من التأثير المزعوم في عزائم الآلهة وبما اكتسبوه من العلم في جميع أيامهم.
وكان البراهمة يقومون ببعض الواجبات، في الحقيقة، في مقابل ما يتمتعون به من الامتيازات، وبيان الأمر: أن حياة البرهمي كانت تقسم إلى أربعة أدوار: دور المراهقة وفيه يتخرج البرهمي على أساتذة مخصوصين في دراسة الكتب المقدسة والاطلاع على أسرار الدين، ودور الفتوة وفيه يتزوج البرهمي فيصبح أبا ورب أسرة ما كانت وظائفه وراثية وما كان واجبه الأول أن يكون ذا ولد، ودور الكهولة وفيه يقضي البرهمي أيامه معتزلا متبتلا زاهدا، ودور الشيبة وفيه يصبح البرهمي كاملا متصلا بالآلهة رأسا متأملا متأهبا للموت.
ويجب أن يكون هذه الحياة، التي قسمت على هذا الوجه إلى هذه الأدوار الأربعة «المراهقة والفتوة والكهولة والشيبة»، لكل هندوسي ولد مرتين أي لكل هندوسي مقبول، ويعد جميع رجال الطوائف الثلاث الأولى من الذين ولدوا مرتين، فالواحد منهم إذا خرج من دور المراهقة وضع حول عنقه حبل رمزي في احتفال؛ ليكون علامة على الولادة الروحية وعلى أنه ابن برهمة، غير أن البراهمة وحدهم هم الذين يمارسون بدقة الوظائف الأربع: وظيفة المرشح للرهبانية ووظيفة رب الأسرة ووظيفة الناسك ووظيفة القانت.
وفي حالة الفقر يؤذن للبرهمي في القيام ببعض الوظائف، وبالتجارة أيضا، ولكن فقراء البراهمة يعيشون، على العموم، من جود الأكشترية وكرمهم، فإيتاء الهبات للبراهمة هو أفضل عمل يقوم به هندوسي، جاء في شريعة منو:
يؤجر الواهب مرة على هبة المال لغير البرهمي، ويؤجر مرتين على هبته لرجل يزعم أنه برهمي، ويؤجر مائة ألف مرة على هبته لبرهمي متبحر في كتب الويدا، ويؤجر أجرا لا حد له على هبته لبرهمي متبتل إلى علم اللاهوت.
وإليك أهم ما جاء في شريعة منو من النصوص على حقوق البراهمة:
إذا ولد البرهمي وضع في الصف الأول من صفوف هذه الدنيا، والبرهمي إذ كان السيد الحاكم لكل مخلوق وجب عليه أن يحافظ على كنز الشرائع المدنية والدينية.
والبرهمي محل لاحترام الجميع والآلهة بسبب نسبه وحده، وأحكامه حجة في العالم، والكتاب المقدس هو الذي يمنحه هذا الامتياز.
كل ما في هذا العالم ملك البرهمي، وللبرهمي حق في كل موجود بسبب البكرية والنسب.
والبرهمي إذا ما افتقر حق له أن يمتلك الشودري الذي هو عبد له من غير أن يجازيه الملك على ما فعل، فالعبد وما يملك لسيده.
ولن يدنس البرهمي صاحب الرغ ويدا بذنب ولو قتل أهل العوالم الثلاثة وتناول طعاما من أسفل رجل.
ولا ينبغي للملك أن يجبي خراجا من برهمي عالم بالكتاب المقدس ولو مات الملك محتاجا، ولا يجوز له أن يصبر على جوع برهمي في ولاياته.
وليجتنب الملك قتل برهمي ولو اقترف جميع الجرائم، وليطرده، إذا رأى، من مملكته على أن يترك له جميع أمواله وألا يصيبه بأذى.
والبرهمي المحصن إذا ما زنى قص شعر رأسه قصا شائنا، على حين يقتل الزناة المحصنون من أبناء الطبقات الأخرى.
ومن حقوق البراهمة أن يكونوا مشيرين للملك، فعلى الملك ألا يقطع أمرا مهما قبل أن يستشير أكثرهم دراية، فكان يجتمع بانتظام مجلس يدعى بالمجلس الكبير للبحث في أهم الشئون.
وشاهد ميغاستين ما كان يتمتع به البراهمة من ضروب العز والشرف، وحدث عن فلسفتهم معجبا فقال: إنها قريبة من فلسفة سقراط وفيثاغور.
وكان الأكشترية «المقاتلة» يقومون بأمور الحرب وحدها فلا يمارسون حرفة أو مهنة أخرى، وكان وقت السلم لهم وقت بطالة، وكان يجب عليهم أن يستعدوا للحرب على الدوام، وأن يلبوا أول نداء ما قامت رسالتهم على حماية الشعب وما أركن الويشي «الزارع» إلى مرابطتهم في الثغور فحرث حقله مطمئنا.
وكان الأكشترية والبراهمة «الكهنة» عمادي المجتمع المتم أحدهما للآخر، وإن كان الأكشترية دون البراهمة بدرجات، جاء في شريعة منو:
لا فلاح للأكشترية بغير البراهمة، ولا ارتقاء للبراهمة بغير الأكشترية، فتانك الطائفتان إذا ما اتحدتا كتب لهما الفوز في الدارين.
يجب أن يعد البرهمي أبا للأكشتري ولو كان عمر البرهمي عشر سنوات وعمر الأكشتري مائة سنة، ويجب أن يحترم الأكشتري البرهمي على هذا الأساس.
ومن ثم ترى الفرق بين تينك الطائفتين الأوليين، وهذا الفرق ليس بالذي يذكر إذا ما قيس بالهوة التي تفصلهما عن بقية الشعب، ويبدو الأكشتري ندا للبرهمي من بعض الوجوه كما يستشف من ذلك النص الدال على الصلة الوثيقة بينهما، ويبدو ما لا يتصوره العقل من الوهاد العميقة بينهما وبين الويشية، ولا نقول الشودري الذي يكاد يكون غير موجود في المجتمع.
شكل 2-2: كهجورا. رسم معبد كهنداريا. «كما خططه الجنرال كننغهم»، «القرن العاشر من الميلاد.»
وكانت طبقة الويشية تشتمل على الزراع والتجار والمرتهنين، وكان هؤلاء يعدون من الذين يولدون مرتين، وإن كان قبولهم يتم بعد الأكشترية بمدة، كما أن قبول الأكشترية هؤلاء كان يتأخر عن قبول البراهمة.
وما كان الويشي ليهبط إلى درجة الأجراء مهما رأيت من اتضاع مهنته، فكان للويشي منزله وأسرته التي هو ربها المحترم، ولا شيء كان يجلب العار لدى الهندوسي البرهمي كإيجار المرء نفسه من الآخرين، فالخدمة من شأن الدواب والشودرا.
وإليك بعض نصوص وردت في شرائع منو عن الويشية:
يجب على الويشي بعد أن يقلد الحبل المقدس ويتزوج امرأة من طائفته أن يعنى جادا بمهنته ويربي المواشي على الدوام.
وليعلم جيدا كيف يبذر الحبوب، وليفرق بين الأرض الجيدة والأرض الرديئة، وليطلع على نظام الأوزان والمكاييل اطلاعا تاما.
وليعرف أجر الخدم ولغات الناس وما تحفظ به السلع وكل ما يمت إلى البيع والشراء بصلة.
ولا ريب في سريان قطرات من الدم الآري في عروق الويشية وإن كان دم الويشية كثير الاختلاط بغيره، وأما الشودرا فهم سكان البلاد الأصليون الأدنياء الذين لا يحالفهم الإنسان من غير أن يهبط من مرتبته، وهم نفاية الخلق وأحقر من البهائم، وليس في هذا ما يصعب إدراكه عند النظر إليه من الوجهة البرهمية، فليس في الكلب أو الحصان أي خطر على مستقبل العرق الآري، مع أن الشودرا كانوا يهددون، على الدوام، قاهريهم بغمرهم وابتلاعهم، فلو لم يقص المغلوبون منذ الساعة الأولى لأدى غزوهم السلمي إلى زوال أي أثر من العرق القديم الذي يفتخر البراهمة بالانتساب إليه، ولو انقطع القراح
1
عن السيل في قناته الصوانية لامتصته حمأة
2
مستنقع واسع.
ويمكن القارئ أن يطلع على درجة الذل العظيم التي كان يعيش فيها الشودري المنكود الحظ من النصوص الآتية الواردة في شرائع منو:
يجب على الشودري أن يمتثل امتثالا مطلقا أوامر البراهمة سادة الدار العارفين بالكتب المقدسة والمشتهرين بالفضائل، فترجى له السعادة بعد موته «ببعث أسنى».
خدمة الشودري للبراهمة هي أفضل عمل يحمد عليه، ولا أجر للشودري على عمل آخر يقوم به.
ولا يجوز للشودري أن يجمع ثروات زائدة، ولو كان على ذلك من القادرين، فالشودري إذا جمع مالا آذى البراهمة بقحته.
ويجب نفي ابن الطبقة الدنيا الذي تحدثه نفسه بأن يساوي رجلا من طبقة أعلى من طبقته وأن يوسم تحت الورك.
وتقطع يده إذا علا من هو أعلى منه بيده أو عصاه، وتقطع رجله إذا رفسه برجله حين الغضب.
وإذا ما دعاه باسمه أو باسم طائفته متشتما أدخل إلى فمه خنجر محمى مثلوث النصل طوله عشرة قراريط.
ويأمر الملك بصب زيت حار في فمه وفي أذنيه إذا بلغ من الوقاحة ما يبدي به رأيا للبراهمة في أمور وظائفهم.
شكل 2-3: كهجورا. باب المعبد السابق «أخذت هذه الصورة من داخل المعبد.»
ومن يك ذا علاقات برجل منبوذ أسقط في نهاية سنة، ولا يكون هذا السقوط، فقط، بأن يقرب معه أو يقرأ معه الكتاب المقدس أو يحالف مما يؤدي إلى السقوط حالا، بل ينجم أيضا عن الذهاب معه في مركبة واحدة أو الجلوس معه على متكأ واحد أو الأكل معه حول خوان واحد. (3) المدن والمباني
أقام الهندوس في العصر البرهمي مباني فخمة ومدنا زاهية على ضفاف الغنج، فكانوا بذلك على عكس آريي العصر الويدي الذين لم ينشئوا غير قرى حقيرة.
وأطلال ما شاده الهندوس في العصر البرهمي قيلة جدا، ويثبت ما بقي منها، كنقوش بهارت وأعمدة أشوكا، أن الهندوس كانوا ماهرين في فن العمارة.
ومن المحتمل أن أنشئت أبنية الهند الأولى من الخشب والآجر، وأن المباني الحجرية لم تكن غير نسخة عنها، وليس ما قام به ميغاستين من الوصف وحده هو الذي أستند إليه في هذا، بل أستند، أيضا، إلى مشاهداتي في نيبال التي حافظت على طبائع الهند القديمة، فقد وجدت فيها أعمدة حجرية غير قليلة اقتبست نقوشها من نقوش الأعمدة الخشبية اقتباسا تاما.
والأمر مهما يكن فإن الذي لا ريب فيه هو أن الهندوس كانوا مالكين لمدن مهمة في زمن ميغاستين، فما وصف به هذا السفير اليوناني مدينة بالي بوترا الكبرى من القول يدلنا على اتساعها وقوتها وعظمتها.
قامت تلك المدينة، كما روى ميغاستين، على ضفاف الغنج وكانت مسطحة مستطيلة جدا وكان يحيط بها سور، وكان يوجد في أسفل هذا السور خندق عريض، وأثار عجب ميغاستين قصر الملك فيها وأسواقها وحوانيتها المملوءة بالسلع الثمينة والمواكب الزاهية التي كانت تجوب شوارعها.
ولم يكن وصف ذلك السفير كل ما لدينا من الوثائق لتمثل إحدى المدن الهندوسية في القرن الثالث قبل الميلاد، فإليك وصفا أكثر تفصيلا مما ورد في رحلة ذلك السفير، جاء في شعر الراماينا الحماسي الذي وضع في زمن أقدم من تاريخها لا ريب:
هي بقعة واسعة دسمة باسمة وافرة الغنى مملوءة بالحبوب والمواشي واقعة على ضفاف سراجو مسماة كوسلا، هنالك كانت مدينة مشهورة في جميع العالم أنشأها سيد البشر منو، فكانت تدعى بأجودهيا.
يا لجمال تلك المدينة ويا لسعادة تلك البلدة التي كان عرضها ثلاثة أودجنا، وكان طول سورها الرائع اثني عشر أودجنا!
كان لتلك المدينة أبواب يفصل بعضها عن بعض مساوف متساوية، وكان يقطعها شوارع كبيرة عريضة، وكان يسطع من هذه الشوارع الشارع الملكي حيث ترشاش الماء يسكن ثائر الغبار.
وكان تجار كثيرون يترددون إلى أسواقها، وكان كثير الحلي يزخرف حوانيتها، وكانت منيعة، وكان كبير البيوت يغطي أرضها، وكانت مزينة بالغياض والحدائق العامة، وكانت تحيط بها الخنادق العميقة التي يتعذر اقتحامها، وكانت دور صناعتها طافحة بأنواع الأسلحة، وكانت الأقواس البديعة تتوج أبوابها فيحرسها النبالة على الدوام.
وكان الملك المنصور العالي الشأن دشرتها يملك تلك المدينة كما يملك الإله إندرا مدينة الخالدين أمراوتي.
وكانت البنود الخافقة ترفرف فوق حنايا مداخلها المنقوشة، وكانت تتمتع بكل ما ينتجه مختلف الفنون والمهن، وكانت زاخرة بالمراكب والخيل والفيلة والعدد والمقامع وآلات الحرب، وكانت طرقها ذوات الأبواب المتينة، وأسواقها الحسنة التوزيع على أبعاد محسوبة حسابا دقيقا تعج بالباعة والسعاة والسياح، وكانت ألوف الجموع تغدو وتعدو فيها، وكانت تحليها العيون الساطعة والبساتين العامة ورداه المجالس وضخم المباني الموزعة توزيعا كاملا، وكانت تبدو محطة لمراكب الآلهة الحية في هذه الدنيا؛ لما فيها من هياكل هذه الآلهة. (4) الحكومة والإدارة
كان نظام الحكم في العصر البرهمي ملكيا مطلقا، فكان الملك يطاع كإله، فإذا ما ارتقى الملك العرش، ولو بعد جناية يقترفها، نظر إليه ممثلا لمشيئة قدسية وقدرة إلهية، جاء في شريعة منو:
يجب ألا يستخف بالملك ولو كان طفلا، وذلك بأن يقال: إنه إنسان، فالألوهية تتجسم في صورة الملك البشرية.
ويظهر أن حكومة ذلك العصر كانت ذات حنو أبوي فلم تبد شديدة على الرعية، وكان البراهمة على رأسها تقريبا بسبب مركزهم الطائفي، فكان على الملك أن يعمل برأيهم وأن يجزل لهم العطايا، وكان لصلواتهم من النفوذ ما كانوا يعدون به قادرين على جعل أيام حكمه سعيدة مجيدة أو على صب ضروب الغضب وجميع اللعنات السماوية على رأسه.
ومن الأكشترية كان ينصب الملك، وللملك على الأكشترية، وقد كانوا رفقاءه في الجيش، احترام الجنود لقائدهم.
إذن، كل سلطان الملك المطلق يتجلى على الويشية، ولم يعد رجال هذه الطائفة إلا من مساقيه ومزارعيه، فكانوا يزرعون الأرض ويتاجرون لأجله، وإن شئت فقل لأجل الدولة، فالضرائب، وإن كانت تجبى للملك، كان على الملك أن ينظم الجيش ويرعاه وأن يقوم بكل ما ينفع الرعية من الأعمال.
وكان في الولايات وفي المدن وفي أحقر القرى مفتشون لمراقبة إنتاج الأراضي وقيم السلع والأثمان التي تباع بها كي تجبى ضرائب الملك منها بعد أن تعين.
ويلوح لنا أن نوع الإدارة ذلك مزعج جائر، بيد أن احتماله كان سهلا على الهندوس كما يظهر، وهم الذين شبههم ميغاستين بالأولاد السهلي الانقياد فقال إنهم أكثر شعوب العالم دماثة وتسليما، شأنهم في الزمن الحاضر.
شكل 2-4: كهجورا. دقائق نقوش معبد كهنداريا.
والملوك، مع ما كانوا يتمتعون به من السلطان المطلق، لم يكونوا قادرين على إساءة استعمال مقامهم، فهم، إذ كانوا منزوين في قصورهم ملزمين، مع انتظام في العيش، بتطبيق شرائع منو والعمل بتعاليمها الكثيرة في واجبات الملك، كان همهم الكبير مصروفا، على ما يظهر، إلى الخلاص من الخنجر والسم، فعلى ما كان يحف منصبهم من الأخطار كان محل رغبة وطمع، والقاتل الموفق الذي يخلف الملك إذ كان يعد موجودا إلهيا فور قبضه على التاج والصولجان وإذ كان لا يخشى سوى الإخفاق وجب على الملك أن يتذرع بالحذر وحده لإنقاذ حياته، والحذر ما توصيه به شريعة منو أيضا، فترى أن تؤلف حاشية الملك من أناس ضعاف ذوي حياء يخشون حوك الدسائس حوله والائتمار به، وأن يغير الملك مكان نومه في الغالب، وألا يسكر لاحتمال قتل إحدى زوجاته إياه في أثناء سكره، طمعا في الزواج بخلفه.
ولم يكن من حق إنسان، مع ذلك، أن يسكن داخل القصر غير الملك وأزواجه، فكان على حرس الملك أن يقيموا بخارجه.
وكنت ترى بين حين وحين موكبا رائعا مشتملا على الملك وزوجاته مؤلفا من فيول مجهزة بأفخر جهاز ومن نساء مسلحات ومن نبالة وحرس سائرا بأبهة من الشوارع إلى الصيد بين حبال ممدودة على الجانبين وقفا لمحبي الاستطلاع.
وكنت ترى الملك حينما يذهب ليقرب القرابين الرسمية أو ليحكم بين الرعية أو ليقود الكتائب.
وفي شرائع منو أن الملك الحكيم الرشيد هو الذي يظل متأهبا للحرب على ألا يخوض غمارها إلا إذا كان موقنا بأن النصر يكون حليفه، فعلى الملك الذي يود النصر ألا يمتشق الحسام قبل المفاوضات وبث العيون والأرصاد وبذر عوامل الشقاق بين الأعداء، جاء في شرائع منو:
ليجتذب الملك من يستطيعون أن يساعدوه على بلوغ مآربه، كأقرباء الأمير العدو الطامعين في عرشه أو وزراء هذا الأمير الساخطين، وليعلم جميع ما يصنعه الأعداء، فإذا ما آنس من السماء عطفا حارب، غير هياب، ليفتح بلادا.
ولم يكن التجسس نافعا ضد الأعداء وحدهم، بل كان يعد أداة حكومية صالحة، فبالعيون كان الملك يكتشف الائتمار به، وبهم كان يعلم مدى نزاهة مفتشيه وإخلاصهم، وبهم كان يراقب الغلال والأسواق درءا لكل غش وتدليس في جباية الخراج.
وكان الخراج يزيد وينقص بحسب جودة المواسم ورداءتها، فكان يزاد في الجدب وينقص في الخصب، فاسمع ما جاء في شريعة منو حول هذه التحولات:
يمكن إبلاغ الضريبة المفروضة على التجار في زمن العسر إلى ثمن الغلات، وإلى ربعها، وإلى واحد من عشرين من الربح النقدي بعد أن تكون في زمن اليسر واحدا من اثني عشر من الغلات وواحدا من خمسين من الربح النقدي، ويجب على الشودرا والعمال والمحترفين أن يؤدوا عمل يوم واحد في الشهر من غير أن يؤتوا ضريبة.
وليأخذ الملك سدس الدخل السنوي من اللحم والعسل والسمن والرب والعقار
3
والشجر والعطر والزهر والجذر والتمر.
ومن ثم تبصر أن الشودرا ليس لهم ثروة غير العمل فلا يؤدون إلى بيت المال ضريبة سوى عمل يوم واحد في الشهر.
وكانت المراقبة العامة في البلاد محكمة التنظيم، فكان لكل قرية وكل مدينة مفتشها الذي يرفع تقريره إلى المفتش الأعلى لمجموعة من المدن، ثم يرفع هذا المفتش تقريره إلى مفتش الولاية، ثم يرفع مفتشو الولايات النتائج رأسا إلى وزراء الملك الذين كانوا يختارون من أعلم البراهمة.
وكان للجيش أيضا مفتشون من مراتب مختلفة على حسب أهميتهم. (5) إقامة العدل، الشرائع والعادات
الأصل هو أن يقيم الملك العدل، ولكن الملك إذ كان يتعذر عليه، بحكم الطبيعة، أن ينظر في جميع الدعاوى كان ينيب عنه البراهمة في ذلك. قال منو:
على الملك الذي يود أن ينظر في الخصومات أن يذهب إلى مجلس القضاء متواضعا هو وأناس من البراهمة والمشيرين المحنكين.
فالملك إذا لم يفعل ذلك وجب عليه أن ينيب عنه برهميا مثقفا.
وليدقق هذا البرهمي في القضايا المعروضة للفصل فيها مستعينا بثلاثة مساعدين.
وليختر الملك لتفسير الشريعة، إذا أراد، رجلا من طبقة الكهنوت فلا يستند هذا الرجل في القيام بالواجبات وبالدلالة عليه إلى غير نسبه، أو ليختر رجلا يبدو من البراهمة وإلا فمن الأكشترية أو الويشية، ولكن ليتجنب اختيار مفسر لها من الطبقة السفلى.
ولم يوجد قانون شامل لجميع مشاكل الحياة الاجتماعية، فترى من قول منو الآتي أن للعادة حكم القانون على العموم:
يجب على الملك الصالح أن يدرس قوانين الطبقات والولايات الخاصة، وأن يدرس نظم شركات التجار وعادات الأسر، وأن يجعل لها قوة القانون إذا لم تكن تلك القوانين والنظم والعادات مخالفة لتعاليم الكتب المنزلة.
والخصومات بين الناس كانت قليلة، فكان الهندوس يمقتون الدعاوى خلافا لما يشاهد في أيامنا، وكانت الجنح والجنايات تفصل بعد عناية كبيرة واحتفال عظيم.
والعيون هم الذين كانوا يكتشفون الجرائم في الغالب، فكان التجسس شاملا للعدل والسياسة، والبغايا، على الخصوص، هن اللائي كن يقمن بأعمال التجسس، وكان الغريب إذا ما وصل إلى البلد يحاط، من غير أن يشعر، بجواسيس لا يتركونه.
وكانت تعد شهادة الزور من الكبائر فيعاقب مقترفها بعقوبة رادعة في هذه الدنيا إذا ما اكتشفت وبأشد الجزاء في الآخرة على كل حال، جاء في شريعة منو:
يجب على كل عاقل ألا يحلف زورا ولو من أجل أمر تافه، فالبوار في الدنيا والآخرة للشاهد الكاذب.
ويعد لشاهد الزور من النكال ما يعد لقاتل البرهمي أو لقاتل المرأة أو لقاتل الصبي أو للذي يؤذي الصديق أو للذي يتلف المال.
سيهوي في نار جهنم رأسا على عقب المجرم الذي يشهد الزور عند سؤاله من قبل القضاء.
وكان يرى في أمر الشهادة، كما في محاكمنا، ألا يكون الشاهد قريبا للمتهم أو ذا علاقة أخرى به، وكان يزكى قبل سماع شهادته، قال منو:
يجب أن يختار الشهود للقضايا في جميع الطبقات، من أناس موثوق بهم عالمين بواجباتهم خالين من الغرض، ويجب أن يرد من لم يكونوا من هؤلاء.
لا يجوز أن تقبل شهادة من لهم مغنم، ولا شهادة الأصدقاء، ولا شهادة الأجراء، ولا شهادة الأعداء، ولا شهادة من اشتهروا بسوء النية، ولا شهادة المجرمين.
وكان لا يشدد في أمر الشهود إذا كان الجرم كبيرا وأمسك المجرم متلبسا به وكان إثباته سهلا، جاء في شريعة منو:
لا يفرض تقصي أمر الشهود في جرائم الغصب والسرقة والزناء والشتائم وسوء المعاملة.
تثبت تلك النصوص وغيرها، مما لا نرى سرده في هذا الكتاب، درجة حرص براهمة الهندوس على إحقاق الحق بتدقيق ووضوح.
وتجد بين تلك التحفظات الحكيمة الدقيقة التي وضعت لإظهار الحق عادات خرافية شاملة للنظر قريبة من أحكام الرب في قرون الغرب الوسطى، جاء في شريعة منو:
ليحلف القاضي البرهمي بصدقه، وليحلف الأكشتري بخيوله أو فيوله أو سلاحه، وليحلف الويشي ببقره وحبوبه وذهبه، وليحلف الشودري بكل الجرائم.
أو ليأمر القاضي، بحسب أهمية المعضلة، من يريد امتحانه بأن يمسك النار بيده أو يغطس في الماء أو يمس رأس زوجته ورأس كل واحد من أولاده على انفراد.
فالذي لا يحرقه اللهب أو لا يطفو فوق الماء فلا يناله أذى يعد صادقا في يمينه.
ومن يتصفح السفر الثامن والسفر التاسع من شرائع منو يجدهما مملوءين بما يجب عمله في تحري الآثام والجرائم وبالعقوبات التي تفرض على المذنبين.
وتوجه تلك الأحكام رأسا إلى الملك الذي هو قاضي المملكة الأعلى والمسئول عن جميع ما يقترف فيها من الجرائم الصغيرة والكبيرة.
ومما ذكرناه أن للملك سدس الدخل، ومن ينعم النظر في الآيتين الآتيتين يطلع على ما كان من التضامن بين الملك وشعبه مادة ومعنى:
سدس ثواب طيب الأعمال للملك الذي يحمي رعيته، وسدس جزاء سيئ الأعمال يقع على الملك الذي لا يسهر على مصالح رعيته.
وسدس ثواب ما يقدم إلى الآلهة من القراءات الصالحة والقرابين والهبات والتسابيح للملك الذي يجير رعيته.
ومما قلناه أن هندوس ذلك العصر كانوا يرغبون عن رفع الدعاوى، فقد أوصوا بأن يحلوا مسائلهم صلحا وأن يلجئوا، عند الاقتضاء، إلى بعض التدابير القسرية، قبل أن يطرقوا أبواب القضاء:
يمكن الدائن أن يتخذ جميع الوسائل المألوفة لإكراه المدين على رد ما استدانه.
وعلى الملك ألا يعزر دائنا أكره مدينه على رد ما استدانه.
والمقصود من عبارة «اتخاذ جميع الوسائل المألوفة لاسترداد ما استدانه المدين» هو اتخاذ طرق الإرغاب والإرهاب وتوسيط الأصحاب نحو المدين وتعقبه في كل مكان وفي بيته والقبض على زوجته وأولاده، ووقف هؤلاء في بيت الدائن، والالتجاء إلى الجلد في نهاية الأمر.
ولم تكن أبواب اليسر موصدة دون المدين، فكان يمكنه أن يوفي ما عليه من الدين بأن يعمل مقدارا فمقدارا، وإذا ما عقد مقايضة أو مصالحة أو مبايعة أمكنه الرجوع عنها في خلال عشرة أيام، فذلك العقد لا يصبح باتا لا ينقض إلا بعد انقضاء عشرة أيام.
شكل 2-5: كهجورا. دقائق معبد لكشمن جي «القرن العاشر»، «يبلغ عرض هذا القسم المصور نحو 13 مترا.»
والشريعة عينت مقدار الربا، وكان هذا المقدار يختلف باختلاف الطوائف، فما كان يؤديه البرهمي من الربا أقل مما يؤديه الأكشتري، وما كان يؤديه هذا أقل مما يؤديه الويشي.
ومما تقدم تبصر أن كل شيء كان يميل إلى المرونة والرفق في علاقات بعض الأفراد ببعض، فكان هؤلاء القوم الصابرون الهادئون يكرهون أعمال العنف، وكان أول ما يجب على الملك أن يصنعه هو أن يمنع القهر ويجازي الغاصب بشدة.
يجب على الملك الذي يطمع في سيادة العالم وفي السعادة الثابتة الأبدية ألا يغفل طرفة عين عن مجازاة الذي يقترف أعمال العنف كالحرق وقطع السابلة.
وليعد الذي يقترف أعمال العنف مجرما أكثر من اللماز
4
الهماز
5
الثلاب
6
الضراب السراق.
وما الملك الصابر على مقترف أعمال العنف إلا بالذي يلقي نفسه في الهاوية فلا ينال غير بغض الناس.
وكانت أهمية الجرائم التي تقترف والعقوبات التي تفرض تختلف باختلاف طائفة المجني عليه، لا باختلاف الضرر، فما كانت العقوبات التي تفرض على البرهمي من الشدة كالتي تفرض على أبناء الطوائف الثلاث الأخرى.
فإذا اقترف برهمي معروف بكرم النحيزة
7
جناية غرم، وإذا كان ذلك عمدا نفي من البلاد وأذن له في أخذ أثاثه وأسرته.
بيد أن من يقترف من أبناء الطبقات الأخرى تلك الجناية غير متعمد يخسر أمواله وينفى من البلاد، ومن يقترفها عمدا يقتل.
وتقول العقوبات المنصوص عليها في شريعة منو بمصادرة الأموال أو النفي أو القتل عند اقتراف الجنايات الكبرى كالقتل أو زنا الأزواج، وبالغرامة أو قطع العضو أو السجن عند السرقة.
وعد خطف البنات وغصب الفتيات وزناء الأزواج من الجنايات الكبرى؛ لما يؤدي إليه ذلك من تمازج الطوائف الذي حرمته شرائع منو، وسنعود إلى هذا الموضوع في المطلب الذي خصصناه للبحث في أحوال النساء.
وإنني أختم قولي الإجمالي في النظام القضائي بكلمة عن المواريث فأقول: إن الأولاد كانوا يقتسمون ميراث أبيهم بالتساوي حين وفاته، ومما كان يحدث أن يخصص الأب ابنه البكر ذا المزايا الحميدة بجميع التركة فيقوم مقامه بعد موته، وكان إخوة الميت وأبواه يرثونه عندما يتوفى بلا ولد، وكان الملك والبراهمة يرثونه إذا مات بلا وارث. (6) الجيش وفن التعبئة
كان جيش براهمة الهندوس يؤلف من طبقة الأكشترية، وكان مما يخالف الشريعة أن يتعاطى أكشتري غير مهنة الجندية، والشريعة كانت لا تأذن للأكشتري في اتخاذ مهنة أخرى إلا عند أقصى الضرورة، والأكشتري كان يعيش جنديا حتى في زمن السلم.
ومما رواه ميغاستين وجود معسكر جامع لجميع المقاتلين مقدرا عددهم بأربعمائة ألف، فكان هؤلاء يقضون أيامهم في تمرين قوتهم وحذقهم في اللعب والشرب والنوم، وكان الملك يعرضهم بين حين وحين.
وأعجب ميغاستين بانتظام ذلك المعسكر المحتوي على أربعمائة ألف مقاتل وبأمانة الهندوس، فروى أنه لم يسمع من الأخبار السيئة عنه سوى سرقة جندي منه لبعض ما عند جندي آخر.
وكان المقاتلون يتجمعون عند أول نداء، فما كان عليهم أن يعدوا عدة ولا أن يجهزوا حصانا أو مركبة، فكان الملك يقوم بجميع ذلك، والملك كان يخصص معظم الضرائب لهذا الغرض كما رأينا، وكانت قوة الجيش وأبهته تتجليان فيما فيه من المراكب والفيول والخيول، فكان يركب كل فيل أربعة رجال وثلاثة نبالة وسائق، وكان يركب كل مركبة ثلاثة رجال ونبالان وسائق.
قوة الجيش في الفيل على الخصوص، فلا شيء يعدل الفيل، فتعد أعضاء الفيل وحدها أسلحة ثمانية، وفي الحصان تتجلى قوة الجيش أيضا، فالحصان حصن متحرك، فالملك الذي يملك خيولا أكثر من عدوه يكون النصر حليفه في ميدان الوغى.
لا بد لمن يقاتل في السهول من المراكب والخيول، ولا بد لمن يقاتل في أماكن المياه من السفن والفيول، ولا بد لمن يقاتل في الأدغال من الأقواس والنبال، ولا بد لمن يقاتل في الميدان من السيوف والتروس وما إليها من الأسلحة.
لم نقتطف ذلك القول من شريعة منو، بل أخذناه من مختارات الأقاصيص التي جمعت بعد زمن فعرفت بالهتوبديشا؛ لما رأيناه فيه من دقائق الطبائع الحربية الموافقة لعادات العصر البرهمي.
شكل 2-6: كهجورا. دقائق نقوش في معبد موزردهارا.
ومن تلك المجموعة نقتبس العبارة الآتية التي تشير إلى حرب الاستيلاء أكثر من أن تشير إلى إحدى الحملات العادية ما ذكر فيها النساء، وما يرافق الجيش من كل ثمين:
يجب أن يكون القائد العام وأشجع الجنود في مقدمة الجيش، وأن يكون النساء والأمير والمال وكل ثمين في القلب، وأن يكون الخيل والمراكب والفيول والمشاة في الميمنة والميسرة.
ويجب على القائد المساعد أن يكون في المؤخرة، وأن يشد عزيمة كل تعب، ويجب على الملك، ويحف به وزراءه وأعوانه، أن يقود الفيلق المهم من الجيش.
وإذا نظرنا إلى أمر الجيش من حيث فن التعبئة أبصرنا التواصي الثلاث الآتية التي اقتطفنا أولاها من الهتوبديشا واقتطفنا الأخريين من شرائع منو فرأينا أنها تأمر باتباع تلك السنة:
يجب على من يرغب في النصر المؤزر أن يناوش جيش العدو فيبيده بالتدريج، فمن السهل قهر العدو إذا ما أتعب زمنا طويلا.
وإذا أحاط بالعدو وجب عليه توطيد معسكره، وتخريب أملاك العدو، وإتلاف ما فيها من الكلأ والقوت والماء والوقود.
وليهدم أحواض العدو وحصونه وخنادقه، ولينازله نهارا وليباغته ليلا.
وإذا وجدت في كتب الهندوس نصوص على ضروب الخدائع الحربية والحيل السياسية وجدت فيها أيضا تعاليم تشع رحمة، ففيها، مثلا، نهي عن استعمال الأسلحة الغادرة التي تحدث جروحا بليغة خطرة كالسهام السامة، وفيها نهي عن الإجهاز على عدو عاجز عن الدفاع كأن يكون قد سقط صريعا، أو أن يكون مبارزا لمجاهد آخر، فإليك ما جاء في شريعة منو:
لا يجوز لمحارب أن يقاتل أعداءه بأسلحة غادرة كالعصي ذوات الخناجر المثلوثة النصل أو النبال ذات الأسنان أو السهام السامة أو الحراب الملتهبة.
ولا يجوز لمحارب أن يضرب عدوا ماشيا إذا كان هو راكبا مركبة، ولا رجلا مخنثا، ولا متكتفا طالبا الرحمة، ولا من يفك شعره، ولا من هو جالس، ولا من يقول: أنا أسيرك.
وأوصى منو بأن يعامل الأعداء المغلوبون بكرم على أن هذا من حسن السياسة فقال:
لا تزيد موارد الملك ووسائله إلا إذا جعل الملك صديقا من الضعيف الذي قد يقوى ذات يوم، ولو نال الملك كنوزا واكتسب أملاكا.
والنصر إذا تم للملك أمكنه أن يأخذ معانم كثيرة على أن يعطى البراهمة قسما وافرا منها، ومن مصالح الملك، مع ذلك، ألا يرهق الشعوب التي أصبح سيدها عسرا، قال منو:
اغتصاب الأشياء الثمينة المؤدي إلى الحقد أو منح الأشياء الثمينة المؤدي إلى تألف القلوب قد يكون محمودا أو مذموما بحسب الأحوال.
شكل 2-7: كهجورا . تماثيل في أساس محراب معبد الإلاهة باراوتي «القرن العاشر من الميلاد.»
وإليك وصية بأن يحترم الغالب قوانين المغلوبين وديانتهم احتراما يذكرنا بالسياسة الرشيدة التي سار عليها الرومان، أمهر مالكي رقاب الشعوب:
يجب على المالك الفاتح أن يمجد آلهة الشعب المغلوب وأصحاب الفضيلة من كهانه، وليسبغ عليه النعم، وليزل مخاوفه بمراسيم خاصة، وليحترم قوانينه كما هي، ولينعم على أميره وأعوان أميره بالجواهر.
وكانت الحرب تعد أمرا خطيرا سيئا، فعلى ولي الأمر ألا يلجأ إليها إلا بعد أن يبذل ما في طاقته من الوسائل السلمية لاجتنابها، قال منو:
يجب على الملك أن يبذل جميع جهوده في حمل أعدائه على الخضوع فلا يقصر في مفاوضتهم ولا في تقديم الهدايا إليهم، ولا في نشر بذور الشقاق بينهم، وليفعل ذلك دفعة واحدة أو على انفراد متجنبا القتال.
والملك إذ كان لا يعلم تماما من سيخرج من الحرب منصورا ومن سيخرج منها مقهورا وجب أن يبعد شبحها ما استطاع.
فإذا لم يستطع أن يتخذ واحدة من تلك الوصايا الثلاث وجب عليه أن يحارب ببسالة ليغلب العدو. (7) الزراعة والتجارة
الويشية هم الذين كانوا يمارسون الزراعة والتجارة، بيد أن أبناء هذه الطائفة كانوا لا يتعاطونها لحسابهم الخاص وإن استطاعوا أن يتملكوا وأن يغتنوا، فالملك هو مولاهم، وهو مالك الأراضي الحقيقي، وكان الزارع المهمل يجازى لإضراره حقوق الملك، فضلا عن افتقاره، قال منو:
يغرم الزارع الذي تتلف مواشيه حقله أو الذي لا يبذر الحب في الوقت غير الملائم بغرامة تعدل ثمن حصة الملك من الغلة عشر مرات ما حدث هذا بإهماله، أو بنصف هذه الغرامة إذا نشأ الإهمال عن أجرائه من غير أن يعلم.
وكان الملك ينظم بدقة أمور البيع والشراء وأثمان السلع وقيمة العيارات والمكاييل وشئون الاستيراد والإصدار، جاء في شريعة منو:
يجب على الملك أن يضع مراسيم لتنظيم أمور البيع والشراء بعد أن ينظر إلى المسافة التي تجلب بها السلع الأجنبية، وإلى المسافة التي تصدر بها السلع المحلية، وإلى مدة خزنها، وإلى ما يمكن أن يربح منها وما ينفق عليها.
ولينظم الملك، بواسطة الخبراء، أثمان السلع المتقلبة في كل خمسة أيام أو خمسة عشر يوما.
وليعين الملك قيم المعادن الغالية، وليحدد العيارات والمكاييل، وليفحصها في كل ستة أشهر مرة.
وأكثر العيارات والمكاييل استعمالا ما كان مصنوعا من الذهب والنحاس والفضة، وكانت تفرض أقسى العقوبات على من يغش في أمر الضريبة أو نوع السلعة، فمن شريعة منو:
يغرم من يخادع في أمر الضرائب أو من يبيع ويشتري في غير الأوان أو من يزور في قيم السلع ثمانية أمثال القيمة.
ويجب ألا تباع سلعة مخلوطة بغيرها على أنها غير مخلوطة، ولا أن تباع سلعة رديئة على أنها جيدة، ولا أن تباع سلعة أخف من المتفق عليها، ولا أن تباع سلعة غير محرزة، ولا أن تباع سلعة مع إخفاء عيوبها.
ولم يكن اتصال الرقابة وجور المفتشين الملكيين الدائم والضرائب الثقيلة على الزارع والتاجر وما إلى ذلك من القيود الشديدة؛ ليثير ذلك الشعب الجاهل الهادئ الذي حنا النير الديني ظهره فضلا عن الاستعباد الإداري، وما كان لذلك الشعب أن يتوجع من هذا، فقد كان يرى المقابل فيما يتمتع به من السلام الذي هو أطيب الأموال.
وكان معظم ما يجبى ينفق، بالحقيقة، على شئون الحرب، وكان الويشي غير مكلف بأية خدمة عسكرية ما انطوت هذه الخدمة على نبل كثير عليه، وما كان يحرث حقله آمنا مطمئنا على حين يدافع الأكشترية عن الثغور، فإذا ما أتت المواسم جيدة حاز الويشي الغنى، وإذا ما أتت رديئة فكان عسر رجا العون من بيت المال ما بدا الملك مولاه وأباه الذي لا يرضى بهلاكه، وكان للويشي أعياده الريفية، وكان ربا لأسرته فيتمتع بما يتمتع به أرباب الأسر من الهناء المنزلي، وكان الويشي ممن يولدون مرتين، فكان له بهذا حق قيادة الشودرا، وما كان له أن يقوم بالأعمال الدنيئة.
وما كان الأجراء قليلين لديه، ففي شريعة منو سبعة أنواع للأجراء الذين كانوا بالحقيقة، أرقاء فلا يستطيعون أن يتملكوا، جاء في شريعة منو:
للأجراء سبعة أنواع وهي: أسير الراية أو أسير المعركة، والأجير بشرط الإعالة، وابن الأمة في بيت السيد، والمملوك المشترى أو الموهوب ، والعبد الموروث، والمسترق عقوبة، والعاجز عن دفع الغرامة.
ولا يملك الولد والزوجة والرقيق شيئا، فكل ما يحرزونه ملك لمعيلهم.
وعلى ما تراه من تكاليف شريعة منو الكثيرة الوثيقة لا تخلو هذه الشريعة من رحمة، فما كان عاجزا عن العمل كانت تعفيه من الضريبة، فقد جاء فيها:
لا يجوز للملك أن يفرض ضريبة على الأعمى والأبله والأكسح وابن السبعين ومن يساعد المتبتلين إلى الكتاب المقدس.
وكان الصانع الفقير لا يطالب بغير عمل يوم في الشهر ضريبة.
والمرء يحار حين يقرأ بين نصوص تلك الشريعة، الواضحة العادلة إجمالا، إباحة الربا الفاحش الذي كان يترجح، بحسب الأحوال وفي الغالب، بين 20 و24 و400 و500 في المائة، جاء في شريعة منو:
ليقبض الدائن الراهن في كل شهر واحدا من ثمانين في المائة أو واحدا وربعا زيادة على رأس ماله.
وليقبض، عند عدم الرهن، اثنين في المائة في كل شهر، ذاكرا أهل الخير والصلاح، فهو إذا ما قبض اثنين في المائة لا يعد مقترفا لذنب الربح غير الشرعي.
وليقبض، فقط، في كل شهر اثنين في المائة من البرهمي وثلاثة في المائة من الأكشتري وأربعة في المائة من الويشي وخمسة في المائة من الشودري، وذلك بحسب الترتيب الطائفي.
شكل 2-8: كهجورا. عمود في معبد شيوا القائم في معقل كالنجر بشمال كهجورا الشرقي «يبلغ ارتفاعه ستة أمتار و90 سنتيمترا.»
ولا يجوز أن يزيد الربا عن رأس المال إذا قبض مع رأس المال من غير مشاهرة ولا مياومة، وليصبح رأس المال مع الربا خمسة أضعافه عند إدانة الحبوب والفواكه والصوف والسبيب
8
والدواب لترد بأعيان من ذات القيمة.
ولا نستطيع أن نتمثل جيدا الطبقة الصناعية والتجارية في الهند في العصر البرهمي إلا بنقل بعض عبارات وردت في شريعة منو عن واجباتها، جاء في شريعة منو:
يجب على الويشي، بعد أن يتقلد الحبل المقدس ويتزوج بامرأة من طبقته، أن يقوم كادحا، بمهنته وبتربية المواشي.
فالحق أن رب المخلوقات فوض أمر الحيوانات النافعة، بعد خلقها، إلى الويشي ليقوم بتربيتها، كما وضع الجنس البشري تحت وصاية البراهمة والأكشترية .
ولا يتبع ويشي هواه فيقول: «عدت راغبا عن تربية المواشي»، فإذا تشاغل عنها وجب ألا يقوم آخر مقامه فيها.
وليكن على علم بتقلب أثمان الجواهر واللآلئ والمرجان والحديد والنسج والعطور والتوابل.
وليعرف كيف تبذر الحبوب، وليفرق بين الأراضي الجيدة والأراضي الرديئة، وليطلع جيدا على نظام المكاييل والعيارات.
وليقف على خبيث السلع وطيبها ومحاسن البلدان ومساوئها وما يحتمل من الربح والخسران عند البيع وما تزيد به المواشي من الوسائل.
وليلم بأجور الأجراء وبلغات الناس وبطرق حفظ السلع وبكل ما يمت إلى البيع والشراء بصلة.
وليبذل جهود في إنماء ثروته حلالا، وليعن بإطعام ما عنده من الخلائق الحية. (8) أحوال النساء
لم تكن المرأة في العصر البرهمي، كما كانت في العصر الويدي، العروس المدللة التي تنال الحظوة لديها برفيع الأعمال، ولا ربة المنزل الفخور المحترمة التي تقاسم زوجها شرف تقريب القربان، فقد اتضع شأنها فيه، وبدا في شريعة منو كما يأتي:
واجبات النساء هي أن يلدن ويربين أولادهن ويدبرن أمور منازلهن.
وتكون المرأة، بحسب شريعة منو، تحت وصاية دائمة وتقضي حياتها مطيعة.
فيجب على الحفيدات والفتيات والعجائز ألا يصنعن شيئا كما يشأن ولو في بيوتهن.
وتكون المرأة تحت رعاية أبيها في صباها، وتحت رعاية زوجها في فتوتها، وتحت رعاية أبنائها في شيبتها، فلا ينبغي لها أن تسير كما تريد.
والمجتمع الهندوسي إذا قام على نظام الطوائف الجديد القائل بالتفريق بين الطوائف تفريقا مطلقا وبعدم اختلاط بعضها ببعض فإن المرأة التي تخف وتطيش فتخالف هذا النظام تفقد حريتها، وقد أسيء الظن بقلبها ومشاعرها، ووجد أن كل قانون لا يحول دون هواها، وأنها لا تأبه للمراسيم السياسية في تنظيم وحي فؤادها فلم تترك لحدتها، جاء في شريعة منو:
يجب على الأزواج، مهما بلغوا من خور العزيمة، أن يراقبوا سلوك نسائهم، وأن يعدوا هذا الأمر شريعة سائدة لجميع الطبقات.
فالحق أن الزوج يصون ذريته وتقاليده وأسرته ونفسه وحقه إذا ما صان زوجته.
ويجب على المرأة الفاضلة أن تقدس لزوجها على الدوام كإله، وإن كان فاسد السيرة عاطلا من الصفات الحميدة منهمكا في ضروب العشق والغرام.
والمرأة إذا لم تكن وفية لزوجها غدت عرضة للخزي في الدنيا، وبعثت بعد موتها في بطن ابن آوى أو أصيبت بعده بالجذام والسل.
ولا جرم يعدل زناء الأزواج، ففي شريعة منو:
يؤدي زناء الأزواج إلى اختلاط الطبقات، وهذا الاختلاط يؤدي إلى انتهاك الواجبات وهلاك النوع البشري وخراب الكون.
والعقوبات التي تفرض على المرأة الزانية وشريكها في الذنب هائلة، وتبدو هذه الشدة عندما تكون الزوجة من طبقة رفيعة على الخصوص، جاء في شريعة منو:
إذا كانت المرأة الفخور بأسرتها وصفاتها غير وفية لزوجها فخانته وجب على الملك أن يدع الكلاب تفترسها في مكان عام.
وليحكم على الزاني بها بالحرق على سرير من حديد محمى على أن يزيد منفذو الحكم النار سعيرا بالحطب إلى أن يحرق الداعر.
وودت شريعة منو، التي قدرت ضعف المرأة الشديد وتقلب سجيتها فتكلمت عنها برحمة مع الازدراء، أن تتساوق معها فحملت نتائج الخطيئة ذلك الذي لم يعرف أن يصونها وذلك الذي أغواها فقالت:
إذا حدث أن اغترب الزوج في بلد أجنبي وجب عليه ألا يحرم زوجته وسائل العيش قبل أن يغيب، فالمرأة التي يعضها البؤس قد تأتي المنكر ولو كانت صالحة.
ولينف الملك من يغوون نساء الآخرين بعد أن تقطع بعض أعضائهم.
وما فرضته شريعة منو على الزوج من الوفاء لزوجته والعناية بها ليس بأقل مما فرضته على الزوجة، وهذه الشريعة قد رأت أن سعادة العرق في الحال والمستقبل قائمة على اتحاد الجنسين بالزواج، فأوصت الرجل أن يختار زوجة صالحة له فلا يستطيع أن يتركها بعدئذ إلا إذا أبغضته أو كانت عاقرا أو كانت لا تضع غير إناث.
شكل 2-9: جبل آبو. داخل معبد ويملا شاه «القرن الحادي عشر.»
بيد أن الزوجة الطيبة المتحلية بالأخلاق الصالحة لا تحل زوجة أخرى محلها إلا برضاها ولو كانت مريضة، ولا يجوز أن يزدريها أبدا.
ويجب على الزوج أن يدخل السعادة إلى قلب زوجته قبل كل شيء، فمما يقوض دعائم المنزل أن تعامل المرأة بعنف أو ألا تكون موضع احترام ممن يحيطون بها، جاء في شريعة منو:
رضى الآلهة باحترام النساء، ولن يكون للعمل الصالح ثواب إذا ما احتقرت النساء.
والسعادة كل السعادة في الأسرة التي يتحاب فيها الزوجان.
يجب أن يحبو الزوجات آباؤهن وإخوتهن وأزواجهن، وإخوة أزواجهن بضروب الاحترام والعطايا إذا رغبوا في الفلاح.
ويجب ألا يقل احترام الأولاد وإطاعتهم لأمهم عن احترامهم لأبيهم وإطاعتهم إن لم يزد، فقد جاء في شريعة منو:
ليصنع الفتى ما يروق أبويه ومعلمه ويرضيهم على الدوام وفي كل حال، فإذا فعل ذلك قام بأعمال التقوى ونال ثوابا.
والمعلم أجدر بالاحترام من عشرة مربين، والأب أجدر بالاحترام من مائة معلم، والأم أجدر بالاحترام من ألف أب.
ولم يكن النكاح تجارة، فليس لوالد الفتاة أن يعطى مالا ولا أن يعطى حطاما، وإنما كان يفرض عليه أن يبحث عن أخلاق الخطيب، قال منو:
يجب على والد البنت ألا ينال مالا عندما يزوجها ولو كان شودريا؛ لما يدل عليه ذلك من بيعها المضمر.
وأحرى بالبنت الصالحة للزواج أن تقبع في بيت أبيها إلى أن تحضرها الوفاة من أن يزوجها أبوها بزوج عاطل من الأخلاق الحسنة.
شكل 2-10: جبل آبو. قبة المحراب في معبد ويملا شاه «مصنوعة من الرخام المنقوش.»
والخلاصة أن شرعية منو، إذا بدت كثيرة الارتياب في فضائل النساء ومتانة أخلاقهن، وإذا كانت لم تحدث عنهن بمثل ما جاء في الرغ ويدا من القول الشعري والكلام العذب، وإذا كانت لم تمنحهن مقاما كالذي كان لهن عند قدماء الآريين، جعلت لهن، مع ذلك، مكانا مهما في المنزل والمجتمع، فالأسرة التي تؤلف على حسب شريعة منو متينة وتكون حقوق أفرادها وواجباتهم متبادلة، جاء في تلك الشريعة:
أهم واجب على الزوجين أن يفي أحدهما للآخر وفاء متبادلا إلى آخر العمر.
وما على الزوجين من التحاب فقد أظهر لكم.
شكل 2-11: جبل آبو. معبد ورج بال تيج بال الجيني «القرن الثاني عشر من الميلاد.»
وليس في شرائع منو ذكر لعادة حرق الأرملة على موقد زوجها التي لم تزل عن بلاد الهند إلا في أيامنا، وتلك العادة أخذت تشيع في ذلك الزمن مع ذلك، فقد روى خبرها مؤرخو الفتح المقدوني من اليونان. (9) معتقدات الهندوس الدينية قبل الميلاد بثلاثة قرون أو أربعة قرون
ظهرت البدهية في الهند في العصر البرهمي، وكاد يكون لها شأن فيه، فقد حدث ميغاستين عن رهبان بدهيين وعن مذاهبهم الحديثة التي كانت حديث القوم في زمانه وعن معارضة البراهمة لها، غير أن البدهية لم يستفحل أمرها فتصبح دين الهند الرسمي إلا بعده قليلا، أي في عهد آشوكا الذي ظهر قبل الميلاد بقرنين ونصف قرن كما نرى ذلك في فصل آت، وأما الآن فإننا نبحث في الديانة البرهمية قبل المسيح ببضعة قرون.
ظل دين القوم، من الناحية النظرية على الأقل، كما هو منصوص عليه في كتب الويدا، فقد بقيت هذه الأسفار الكتب المقدسة المعتبرة التي يحتج بنصوصها على الدوام، بيد أن المعتقدات تطورات تطورا شاملا مع بقاء الآلهة القديمة، فترى من جهة ظهور نظريات فيما بعد الطبيعة جديدة حول مقادير الإنسان ومصاير الكون وأسبابه، وترى من جهة أخرى تحول الدستور الكهنوتي إلى دستور شديد إلى الغاية، وبلغ أمر الطقوس وتقريب القرابين من الأهمية ما نقول معه إن قدرته السحرية غدت تفوق قدرة الآلهة، وإقامة الشعائر هي التي تهم قبل كل شيء، ولن تجد ديانة ذات شعائر جافة معقدة كتلك، وكأن ريحا صرصرا قد هبت في العالم الويدي القديم فأتت إلى الأبد على الآلهة العجيبة التي وصفتها كتب الويدا بالقول الرائع والخيال الساطع، فصرت لا تبصر في الشرق ذلك الفجر العذب اللطيف، بل ترى كوكب النهار فوق مركب النصر، وصرت لا تشعر بالرياح الطيبة تسوق البقرات الإلهية إلى المراعي السماوية فتدر ثديها بما يغمر الأرض من المطر السخي، حقا لقد غابت هذه الأساطير وما كانت تثيره في النفوس من الخيالات.
ولا ندرس في هذا المطلب بالتفصيل علم اللاهوت البرهمي القديم الزاخر بدقائق الشعائر وتقريب القرابين، وإن كنا نعود إلى ذلك، مع تعديل، في الفصل الذي خصصناه للبحث في ديانات الهند الحديثة، وكل ما نفعله الآن هو أننا نشير إلى أكثر المناحي الفلسفية انتشارا في ذلك الحين، وهي ما نراها مجملة بوضوح في كتاب منو الذي لم يفعل غير تكرار ما يقوله البراهمة والأوبانشد بإسهاب.
شكل 2-12: غواليار. معبد تيلي مندر «أنشئ في القرن العاشر من الميلاد على ما يحتمل»، «يبلغ ارتفاعه نحو 34 مترا.»
ولم تكن الآلهة الغامضة الأمر في الرغ ويدا، فتجلت مؤخرا في شخصي شيوا ووشنو، إلا أشد غموضا مما كانت عليه في العصر الويدي، فليست هذه الآلهة غير مظاهر مجردة فاترة للإله الأعلى برهما الذي يبث الحياة في كل موجود، وليس الإله برهما، مع ذلك، الرب الأسمى الخالق لكل شيء ولكل موجود والمهيمن على العزائم الذي بصرت به كتب الويدا، فهذا الإله ليس مستقلا فضلا عن عدم تدبيره للكون، فهو إذ كان موزعا في جميع المخلوقات المترجحة بين أطيبها وأخبثها يشاطرها مصايرها وينال نصيبا من آثامها وآلامها وبعثها وتحولها البطيء وارتقائها العسير، قال منو:
تستقر الروح العليا في أرقى المخلوقات وأسفلها.
فمن جوهر تلك الروح العليا يخرج، كالشرر، ما لا يحصى من أصول الحياة فتوجب هذه الأصول الصادرة حركة جميع المراتب على الدوام.
فلهذا المذهب، القائل بتجلي الروح العليا في جميع المخلوقات، يجب على الإنسان أن يحترم كيان هذه المخلوقات ولو كانت من الحيوانات الضارة أو الحشرات الواهية.
والإنسان، حين يعرف تجلي الروح العليا في روحه الخاصة وفي جميع المخلوقات، يبدو هو إياه تجاه جميعها فيثاب بأن يفنى في برهما، أي بأحسن مصير.
وإذا عجز البرهمي عن تكفير ما اقترفه من قتل حية أو مخلوق آخر فليتب، فبالتوبة تمحى الذنوب.
وليتب، أيضا، إذا قتل ألف حيوان صغير ذي عظام أو قتل من غير ذوات العظام ما يملأ مركبا، كما يتوب عندما يقتل شودريا.
وليست الروح بمنفصلة عن الله، فالروح في كل حي جزء من الكائن الأعلى، وتتألف الروح العليا من مجموع أرواح الآلهة والناس والحيوانات، والله، المتعدد وغير الشخصي معا، هو مصدر كل عمل وكل حياة وكل تبدل.
ألا إن الروح هي مجمع الآلهة، وإن الروح العليا هي مقر الكون، وإن الروح هي مصدر أعمال ذوات الحياة.
وليس رب الكون الأعلى بالذي يتصوره الخيال؛ فهو غير الهيولاني القاهر الذي يسري في الكون فيهب له الحياة كأغني إله الآريين القديم، وهو النور القوي الموجود في كل مكان، وهو الذي يقدس البرهمي له مرتجفا فيشعر بسريانه في عروقه، جاء في شريعة منو:
شكل 2-13: غواليار. معبد ساس بهاو الكبير «القرن الحادي عشر»، «يبلغ ارتفاعه الآن نحو 21 مترا، وقد كان 30 مترا قبل أن يهدم أعلاه على الأرجح.»
يجب على الإنسان أن يعلم أن الموجود الأعظم هو رب الكون الأعلى، وأنه أدق من الذرة وأنه أسطع من الإبريز
9
وأنه لا تدركه الأبصار إلا في المنام على وجه مجرد.
فبعض الناس يعبده في عنصر النار، وبعضهم يعبده في شخص سيد المخلوقات منو، وبعضهم يعبده في إندرا، وبعضهم يعبده في عنصر الهواء الخالص، وبعضهم يعبده في برهما الأزلي.
ذلك هو الله الذي يحيط بجميع المخلوقات بجسم مؤلف من العناصر الخمسة فتنمو هذه المخلوقات بعد أن تولد ثم تنحل فيتم ذلك كله بحركة تشابه دوران العجلة.
والخلاصة أن ذلك هو مذهب وحدة الوجود، ولكن ذلك ليس بمذهب وحدة الوجود الهيولانية الساطعة الظاهرة التي عرفها الآريون، وليس بقوى الطبيعة التي أضحت آلهة مع محافظتها على ثيابها المؤلفة من السحب والأشعة وعلى شذا عطورها وعلى هديرها ودويها، بل هو مذهب وحدة الوجود الأكثر تجردا وقولا بالقضاء والقدر، هو مذهب وحدة الوجود الذي يحجب الله فلا يبديه رائع الكلام ولا ساطع الألوان، هو مذهب وحدة الوجود الذي يجعل الله أسيرا في العناصر، هو مذهب وحدة الوجود الذي يقيم عزة الله ومجده على تجريده من الصورة والظاهر والإرادة والحياة، فيشابهه من يتطهرون من الذنب، أو يفنون فيه.
وعلى الإنسان، قبل أن يصل إلى ذلك النعيم الدائم ، أن يحتمل أذى الحياة زمنا لا يتصور طوله المرهوب سوى خيال الهندوسي الخصيب، فمدى حياة الإنسان ليس بالشيء الذي يذكر إذا ما قيس بذلك الزمن الطويل، فالولد الذي يولد لا بد من أن يكون قد جاوز عدة أطوار قبل أن يولد، والأشيب الذي يموت لا بد من أن يولد ويعود أشيب عدة مرات في عدة أجسام.
وتجد في شريعة منو تفصيلا واضحا لمذهب تناسخ الأرواح الذي هو أساس جميع مذاهب الهند الدينية ومنها البدهية، وتجد فيه، أيضا، تفصيلا لمذهب الكرما الذي يرى أن عمل الإنسان في هذه الحياة الدنيا يعين الحال التي يولد بها مرة أخرى فعم أمره، كذلك، جميع المذاهب الدينية التي انتشرت في الهند فيما بعد.
والحياة التي تعقب الحياة الأولى تكون طيبة أو خبيثة بحسب حسن الحياة الأولى أو خبثها، فالروح تتقمص إما برهميا أو قديسا أو إلها، وإما جندالا
10
أو بقرة أو خنزيرا أو حية، جاء في شريعة منو:
إذا عملت الروح الصالحات على الدوام وقليلا من السيئات فتقمصت جسما من العناصر الخمسة تمتعت بأطايب النعم.
وإذا عملت الروح السيئات على الدوام وقليلا من الصالحات جردت بعد الموت من جسمها ونزعت من العناصر الخمسة وتقمصت جسما آخر مؤلفا من أجزاء دقيقة من العناصر وعذبها يما عذابا شديدا، والروح، بعد أن تقاسي هذا العذاب الأليم كما يقضي به قاضي النهار وتطهر، تتقمص جسما من العناصر الخمسة، أي تكتسي ببدن.
فعلى الإنسان أن يعلم بنفسه أن نوع التناسخ يكون على حسب ما يعمل من الصالحات والسيئات فيوجه نفسه إلى الفضيلة على الدوام.
ويلبث أكابر المجرمين في جهنم أحقابا، ثم يقضى عليهم بأن يجاوزوا المراحل الآتية تكفيرا عن خطيئاتهم.
فيتقمص قاتل البرهمي، بحسب أهمية جرمه، جسم كلب وخنزير وحمار وجمل وثور وتيس وكبش ووحش وعصفور وجندالا.
والبرهمي الذي يسرق ذهبا يتقمص ألف مرة أجسام العناكب
11
والأفاعي والحرابي
12
وحيوانات الغدران والعفاريت الأشرار.
وفي شريعة منو يتوقف مصير الإنسان على جميع أعماله في الحياة الدنيا فيدخل في وزنها الهائل كبير هذه الأعمال وصغيرها، لا كما في النصرانية التي تقول بمحاسبة الإنسان في اليوم الآخر على العمل الفلاني أو العمل الفلاني أو الوضع الأخير فقط مع النظر إلى التوبة في الساعة الأخيرة، جاء في شريعة منو:
الإنسان مجزي بأي عمل يأتيه بقلبه أو لسانه أو جسمه إن خيرا فخير وإن شرا فشر، وعلى ما يصنعه الإنسان يتوقف حاله فيكون طيبا أو متوسطا أو سيئا.
وتلك العقيدة هي مصدر خضوع الهندوسي لنظام مرهوب لا يترك له خيار القيام بأي عمل مهما صغر ولا قضاء أي احتياج جثماني مهما ضؤل.
فأقل إهمال منه يذهب بثمرته التي تعهد أمرها بمشقة، فلا يأمل تلافي ما فرط منه من اللمم
13
إلا بإقامة شعائر التطهير، وما قيمة أحكام القضاة في مخالفة الإنسان للشريعة؟ وما قيمة العطل من وجود شاهد على تعدي أمرها؟ فشعور المذنب الورع يصور له نتائج ما صنع، فيرضى طائعا بما تفرضه الشريعة عليه من العقوبات الشديدة.
ومن يطالع ما في شرائع منو من الأوامر الشديدة يتبين ثقل النير الذي كان مفروضا على الهندوس وأثره في أدق شئون حياتهم في العصر الذي نحاول بعث تاريخه، ويتمثل الفرق بينه وبين أدب آريي العصر الويدي السمح اليسير، فالحق أن الزمن تغير وأضحى شعب الأجيال القديمة الحر السعيد قطيعا من الرعايا الخوف الذين يتجلى فيهم الذعر والألم إذا ما ساروا على الدوام.
ذلك أمر المجتمع البرهمي القديم، ونجد مبادئه الأساسية في المجتمع البرهمي الجديد، حتى في الهند الحديثة، بيد أنك ترى شدة تلك المبادئ قد خفت بفعل البدهية السمحاء.
وبلغت البرهمية القديمة من شدة التوتر حول النفوس ما كانت تتقصف به تحت الضغط فتنتظر المنقذ، وكانت وطأة النير تثقل على الناس في أدق أعمالهم فتنسحق قلوبهم فلا يرون بخيالهم سوى رجس الحياة وقبحها، فيبدو لهم كل شيء سيئا إلا الفناء، وما وصف «دانتي» به العذاب في رواية «جهنم» هو وحده يمثل لنا رأي قدماء البراهمة في ضروب العذاب الذي يبدأ في الدنيا فيتدرج شدة في أحقاب لا يتصورها خيال إلى أن يغدو الإنسان جديرا بالفناء في الكون، وإن شئت فقل في العدم، ومن طبيعة الأمور أن ينبثق فجر الأمل في تلك الأمم المثقلة من خلال الضغط المشتد عليها، ومثل هذا ما حدث بعد زمن قليل في العالم الروماني حين ظهر المسيح وإن اختلفت الأسباب.
ظهر في الهند، أيضا، المنقذ الذي جاء بما كانت النفوس الظمئة تنتظره من القول العذب، فكان لهذا القول صدى بعيد المدى في أرجاء آسيا، فوجدت به ملايين البشر - الذين حنا كواهلهم نير الطوائف وأثخنتهم قيود الدين الثقيلة وأولهتهم أنواع العذاب الأبدي المنتظر الذي لا مفر منه - ريحا طيبة مملوءة حنانا ورحمة وإحسانا.
كان بدهة شا كيه موني ذلك المنقذ، وكانت البدهية تلك البشرى الطيبة.
هوامش
الفصل الثالث
حضارة العصر البدهي
(1) الوثائق التي يستعان بها في تمثل المجتمع الهندوسي حول القرن الرابع أو القرن الخامس قبل الميلاد
دام العصر البدهي من القرن الثالث قبل ظهور المسيح إلى القرن السابع بعد ظهوره، فينطوي هذا العصر على مدة ألف سنة تقريبا، ويتطور الدين في السنوات الألف هذه، وتغطى الهند في أثنائها بالمباني العجيبة، ويؤدي ما سمح الدهر ببقائه من أطلال هذه المباني وما اكتشف حديثا من الكتابات الدينية إلى الوقوف على نشوء الحضارة الهندوسية في ذلك العصر، غير أن حوادث ذلك العصر التاريخية ظلت دفينة تحت طبقة من الظلام الدامس.
والعالم الذي كان يود، منذ نصف قرن، أن يكتب فصلا بعنوان فصلنا هذا لم يجد من المعارف ما يملأ به سطرا واحدا، وكادت أوروبا تكون وقتئذ جاهلة كل شيء عن شأن البدهية وحقيقة أمرها مع أنها الشريعة العليا لنصف مليار من البشر.
وليست كثيرة الوثائق التي تؤدي إلى نبش بضعة أسطر عن تاريخ تلك السنوات الألف من تحت أعفار القرون، ومن هذه الوثائق نذكر، في الصف الأول، المباني الفخمة التي نعلم منها مبتكرات الفنون وعظمة الملوك، ومن أقدم هذه الوثائق وأكثرها قيمة نذكر، كمصادر معارف، الأعمدة التي ملأ الملك آشوكا ولاياته الواسعة بها فنقش عليها قبل الميلاد بثلاثة قرون أحكام شريعة جديدة لدى الهندوس.
ومن الوثائق التي يستعان بها في ذلك نذكر، أيضا، مجموعة مخطوطات نيبال الكثيرة الخاصة بالديانة البدهية تقريبا، وتعد «زهرة الشرع القويم» و«لليتا وشتار» أهم ما نقل إلى اللغات الأوربية منها، ونضيف إليهما «تواريخ ملوك مغدها» التي هي، بالحقيقة، أقاصيص خرافية لا تمت إلى التاريخ الصحيح بصلة، كما نضيف إليهما رحلة الحاج الصيني فاهيان الذي زار الهند في القرن الخامس ورحلة الحاج الصيني هيوين سانغ الذي زارها في القرن السابع من الميلاد. (2) القصة البدهية
من ينعم النظر في الوثائق الأولى المذكورة آنفا، أي في كتابات آشوكا التي نقشت قبل الميلاد بقرنين ونصف قرن يعلم وجود تحول عميق في العالم البرهمي القديم، وبيان الأمر: أن من مطالعة شرائع منو يثبت لنا استخذاء أجيال كثيرة من البشر لنير ديني دقيق شديد، ومن مطالعتها يبدو لنا مقدار الضيق الذي كان مستحوذا على كثير من الآدميين الذين كان أقل ذنب قلبي أو حسي يأتيه الواحد منهم يؤدي إلى أفظع تكفير، والذين لم يكن بينهم اشتراك في احتمال البأساء فكان بعضهم ينظر إلى بعض من فوق الحواجز الطائفية، فإذا تناول الواحد منهم، بحسب الأحوال، كأس ماء من آخر أو قال له قولا لينا ممزوجا بأطيب التمنيات عد مقترفا جرما لا يمحي إلا بالتوبة والتكفير الطويل، فبينما كان القوم على ذلك أتتهم ريح طيبة فيها حنان وإحسان فسقطت القيود وتفتحت القلوب وصار وجه الأرض يتبدل، فقد صاح مصلح كبير مجلجل
1
فكان شرع عطف وكان شرع محبة شامل لجميع الخلق مؤلف لما بين الطوائف.
لم نعرف حياة المصلح الشهير الذي يقدس اسمه وذكراه خمسمائة مليون من البشر إلا من الشعر الأساطيري، فمن خلال هذه الأساطير، إذن، نستطيع أن نستنبط تلك الحياة، وتعد «لليتا وشتار» التي وضعت في نيبال في أوائل التاريخ الميلادي، على ما يحتمل، أقدم هذه الأساطير، فإليها نستند في رسم حياة بدهة.
شكل 3-1: غواليار. داخل معبد ساس بهو الكبير.
وهاجم النقاد المعاصرون تاريخ بدهة الأساطير بشدة، فلم يروا أن يرسموا دور الأسطورة البدهية الافتراضي ولا أن يثبتوا أن شا كيه موني انتفع بالتقاليد القديمة التي أخذت من أسطورة وشنو وأسطورة كرشنا، فالحق أن معظم تاريخ بدهة هو، كما أشار إليه مسيو سينار، مقتبس من الأساطير القديمة، وأن من الممكن عد ديانته خلاصة عقائد وطقوس كانت موجودة قبله.
وليس من المهم أن نعرف حياة بدهة الحقيقية، فإذا استثنيت محمدا لم تجدنا مطلعين على حياة مؤسس ديانة اطلاعا صحيحا على ما يحتمل، فلم تؤلف سيرهم، على العموم، إلا بعد وفاتهم بزمن طويل، وكل ما نرى معرفته، مع ذلك، هو أن ملايين كثيرة من البشر يقدسون بدهة منذ أكثر من ألفي سنة، سواء أكان رجلا حقيقيا أم وهميا.
لم تظهر ديانة بدهة على مسرح التاريخ إلا في القرن الثالث قبل الميلاد، مع أن بدهة ولد قبل ظهور المسيح بخمسة قرون في كبيلا وستو الواقعة في جنوب نيبال، وتجد أوجه شبه شاملة للنظر بين حوادث حياته الخرافية وبعض أقاصيص الأناجيل، فبدهة، كعيسى، ولد من أم عذراء، وأخبر بولادته إخبارا معجزا، وبدهة الذي سمي، حين ولد، بغوتما فلقب بشا كيه موني كان ينتسب إلى أسرة مالكة كما انتسب عيسى إلى آل داود، وتجد، مع ذلك، اختلافا في طفولة ذينك المصلحين وشبابهما، فمع أن غوتما ربي وارثا لعرش كان ابن مريم يشاطر يوسف النجار عمله، فإذا عدوت هذا الاختلاف رأيت تماثلا عجيبا من كل وجه بين صيام عيسى في البرية حيث حاول الشيطان أن يغويه ثلاث مرات وصيام شا كيه موني في الآجام حيث حاول الشيطان أن يغويه ثلاث مرات أيضا، ويذكرنا ما حدث لهذا الحكيم الهندوسي مع المرأة التي طلب منها أن تسقيه بما حدث لعيسى مع السامرية وما قاله لها.
شكل 3-2: غواليار. معبد ساس بهو الصغير «القرن الحادي عشر من الميلاد»، «أخذت هذه الصورة من المحراب.»
وتزيد أوجه الشبه تلك أهمية عند الوقوف على تشابه تينك الديانتين موضوعا فضلا عن الشكل، فكلتاهما أمرتا بالإحسان والمساواة والزهد، وكلتاهما ناطتا الخطيئة بالنيات كما تناط بالأعمال ، وكلتاهما ابتدعتا الرهبانية، وكلتاهما اعتنقهما ملايين من البشر بروح واحدة ووسائل واحدة، فصلح الغرب بالنصرانية وصلح الشرق بالبدهية، وكلتاهما عنوان أمل إنساني واحد ولم تكونا سوى وجهين لحادث مهم واحد في تاريخ أدب العالم، وليس مما نبالي به كثيرا أن تكون إحداهما مدينة للأخرى أو أن تكون كل واحدة منهما قد نشأت نشوءا ذاتيا غريزيا مستقلا عن نشوء الأخرى، فلا ندرس هذا الأمر في هذا الكتاب.
ذاق غوتما منذ أن كان طفلا في قصر أبيه كل ما يمكن أن يجود به الجاه والثراء والجمال والصحة والفتوة من أطايب النعم، فلما بلغ سن الرجولة تزوج بفتاة حسناء كان يعبدها فوضعت له ذكرا، ففي ذلك الحين الذي بلغ فيه أوج السعادة اتفقت له ذات يوم ثلاث مصادفات متتابعات فقررت مصيره وهي: أنه لقي شيخا حنت الأيام ظهره فلا يكاد يمشي من السقم، وأنه لقي رجلا مصابا بالطاعون الفظيع فيتلوى من الألم، ولقي ميتا شاحبا مشوها فيكفنه والداه المحزونان.
فقال غوتما في نفسه: لم الهرم؟ لم المرض؟ لم الموت؟
شكل 3-3: غواليار. منظر قصر مان مندر العام «القرن الخامس عشر»، «يبلغ ارتفاعه نحو ثلاثين مترا ويبلغ طوله نحو مائة متر.»
وقال في نفسه أيضا: إنني غني قوي سعيد عزيز، وما لدي من الثروة والقوة لا يمنع، مع ذلك، رأسي من الشيب ووجهي من التكرش وأعضائي من التلوي والألم، ولن يحول دون ذلك أحبائي الذين سيبكون فوق قبري، وكيف أفرح بكنوزي وصحتي وزوجتي الفتاة الحسناء وولدي وأنا عارف بما ينتظرني؟ أجل، عندي من السعادة أقصى ما يطمع فيه رجل، ولكن ما هو عيش أولئك الذين هم عاملون، أولئك الذين هم بائسون، أولئك الذين هم مستضعفون، أولئك الذين هم جائعون؟
أسفرت هذه التأملات عن وصوله إلى النتيجة القائلة إن العالم ليس إلا مجموعة آلام فسأل:
من أين يأتي الألم؟ ما هو سببه؟ كيف يكافح؟
هنالك عزم بدهة على اكتشاف مصادر الألم الملازم لكل موجود ومداواته، فرأى أنه لا يستطيع أن يكون سعيدا ما علم أن لسعادته نهاية، وأن ما يتمتع به من سعادة زائلة أمر شاذ، فترك زوجته العزيزة وولده الطفل وأباه الشائب وقصره وأجراءه وكنوزه ولبس ثوبا حقيرا وحمل بيده كشكولا وصار يجوب القرى ماشيا عائشا من الصدقات مفكرا في الحقيقة مقلبا لجميع وجوهها مداوما على تأملاته.
بيد أنه لم يصل بتلك التأملات إلى الحل المنشود فأراد اعتزال العالم فأوغل في الأدغال البعيدة مفكرا سابحا في بحر من الرؤى ليل نهار.
مرت السنون، وكانت كلما مرت رأى شا كيه موني بعده من الغاية الغامضة التي يسعى إليها، ورأى أن من العبث ما عرض روحه وبدنه له من ابتلاء قاس، وأن من العبث ما قام به من الصيام إلى أن فقد وعيه وكاد يقضي نحبه، وأن من العبث أن ينهمك في فهم الطبيعة ومصير الأمور فهما مجردا، فهو لم يصل، بعد، إلى درجة بدهة، إلى الدرجة التي يصبح فيها المخلوق الذي يعلو البشر فيقدر على إنارة الناس وكشف الكروب عنهم.
شكل 3-4: مدخل قصر غواليار.
وإن بدهة ليجهد نفسه في الوصول إلى العلم الأسمى إذا ابتلي بأمير العفاريت وروح الشر مارا، فقد أراد هذا الجني أن يبطل عمله وأن يدخله إلى زمرة المذنبين.
رأى بدهة من الرؤى، التي وصفت في «لليتا وشتار» ما أزعج نفسه، وبيان الأمر:
أن كتائب من الجن الأشرار أخذت، في سكون البرية، تدور حوله وهي تقول له همسا، بالمناوبة، قول الشك المأثور: «ما فائدة ذلك؟» الذي يبعد أصلب الناس عودا من الهدف ويلقيه في هوة من اليأس، وبينما كان يهزم برصين الكلام جيش العفاريت المؤلف من غيلان ذوي أجسام نارية دكن سود وعيون مشوهة غائرة كالآبار ملتهبة مقلوعة أو شافنة
2
وغيلان
3
متوجين بأكاليل من أصابع بشرية وغيلان لا رأس لهم وغيلان لهم مائة ألف رأس؛ إذ بنور رائع حافل بالأسرار يعم الغابة التي بدت ندية كما لو بللها القطر، إذ بامتحان يبتلى به ذلك الحكيم فيرى نفسه، وهو غارق في تأملاته، محاطا بجحفل من بنات الجن أبسرا الساحرات، إذ بصور رائعة تتموج بين الأغصان فيندمج بعضها في بعض على شكل زمر شهوانية، إذ بنساء متطرفات أو معتدلات لابسات أزهى ثياب أو عاريات باهرات يرمي بعضهن من تحت أهدابهن الطويلة بسهام أحداقهن المغرية ويرفع بعض منهن لحاظهن الحادة فيحدقن به لطيفات محاولات إغواءه بعبارات الحب وأوضاع الفسق وبما لم تسمع به أذن من وعود اللذات.
قالت بنات العفاريت الساحرات لذلك الحكيم: «تعال، يا صاحب الوجه الذي يحاكي القمر، وانظر إلينا نحن ذوات الوجوه التي تشابه الزهر النضر والأصوات العذبة التي تنفذ القلوب، والأسنان البيض التي تحكي الثلج والفضة، أتجد لنا مثيلا حتى في مقر الآلهة؟ أترى مثلنا في منازل الإنسان نحن اللائي ترغب فيهن آلهة الدرجة الأولى على الدوام؟»
ولكن شا كيه موني صبر على هذا الامتحان الساحر فأجابهن، كما جاء في الأسطورة التي نلخصها بما يأتي:
أرى البدن الدنس الرجس النجس المملوء دودا والسريع الالتهاب والزوال والمدثر بالالآم، فسأنال المجد الخالد الذي تقوم عليه سعادة العالم الثابت والمتحرك فيقدسه الحكماء.
فسمع شا كيه موني القول العذب الآتي: لقد أبدين سحور الشهوة الأربعة والستين وأطنن نطقهن وخرصانهن
4
وخلاخلهن وخلعن ثيابهن ثملات ضاحكات، فبماذا أسأن إليك أنت الذي يحتقرهن؟
غير أن شا كيه موني قاوم المحنة بشجاعة فقال: الخطيئة موجودة في كل مخلوق، ويعلم أمرها من خلع عنه نير أهوائه، ولا أعرف الشهوات إلا كالسيوف والسهام والحراب والموسى المدهون بالعسل ورأس الأفعى والأخدود
5
الناري.
وفي الأسطورة أن شا كيه موني «لم ينظر إلى تلك المخلوقات عاشقا ولا ساخطا، فلأن ترجف
6
الجبال وتسجر
7
البحار وتكور
8
الشمس والقمر أقرب من أن تفتن النساء ذلك الذي رأى بنور بصيرته خطيئات العوالم الثلاثة.»
هنالك أرى كبير العفاريت، كما صنع الشيطان مع المسيح، بدهة المستقبل ممالك الدنيا ومجدها واعدا إياه بالنجاح والنصر والسلطان إذا ما عدل عن طلب الحكمة.
قال العفريت: «أنا رب الشهوة في العالم كله، وأنا المسير والمذل للآلهة وجمع الأرباب والإنسان والحيوان، فقم أيها الذي يقيم بملكي وسمع صوتك.»
فقال شا كيه موني: «إذا كنت رب الشهوة فلست رب عالم المرئيات، انظر إلي ترني صاحب الشريعة، وإذا كنت رب الشهوة فلا تسلك سبيل الضلال، سأنال النهى وأنفك راغم وأنت ناظر.»
شكل 3-5: جتور. برج النصر «القرن الخامس عشر»، «ارتفاعه نحو 36 مترا.»
كف جيش العفاريت المرهوب عن الكفاح مغاضبا متواريا في الظلام، فبذلك تم النصر لشا كيه موني، فبرد وابل من الزهور جبينه فسمع صوتا من السماء يقول له: تمنح الآلهة تيجانا من اللآلئ وتعطي رايات وأعلاما وتمطر أزهارا وتنشر من الصندل ذرا وتقول على أنغام الموسيقى: أيها البطل! غلبت كتائب العدو بعد أن أحاطت بشجرتك.
أيها البطل! اليوم تنال، على أحسن أريكة، النهى الخالي من شائبة الشهوة، واليوم تظفر بملك بدهة بعد أن قهرت برفق حزب الشيطان.
وأريد بالشجرة المذكورة آنفا تلك التي كان يلجأ إليه شا كيه موني في أثناء عزلته، وكانت تلك الشجرة مغروسة في المكان الذي يعرف اليوم ببدهة غيا والواقع أمام المعبد الذي نشرنا صورته في هذا الكتاب، ولا يزال القوم يقدسون ذلك المكان كما يقدس اليوم زيتون جثسيماني الذي سال تحته عرق المسيح الدامي، أجل، تحولت تلك الأغصان، التي كانت تقي بدهة حين تأمله، إلى غبار منذ زمن طويل، ولكن تقوى المؤمنين حلت، على الدوام، محل تلك الشجرة وقتما هلكت.
جاوز ذلك الحكيم تلك المحنة صاحبا للنهى الأسمى فانتهى إلى حل ما كان يساوره من المعضلات الهائلة، جاء في «لليتا وشتار»:
جمع إذ ذاك أفكاره خالصة كاملة نيرة منزهة عن الرجس خالية من الفساد مرنة مهيأة لما أعدت له ثابتة محافظة على العهد مستعدة لتلقي الحكمة الربانية.
فرأى بالعين الإلهية الخالصة التي هي أرقى من العين البشرية بمراحل أن الخلائق ترتحل وتبعث من طبقة طيبة أو من طبقة حقيرة وفي طريق قويم أو طريق رديء عاجزة أو ناهضة مجزية بأعمالها.
وتمثل له مدى البؤس البشري من جديد فعن له أن يكتشف، في هذه المرة، سببه والوسائل التي يزول بها زوالا تاما.
وهو إذ أنعم النظر في سلاسل العلل والمعلولات رأى أن الشهوة أو الرغبة هي أم الشرور وأن الوهم على رأسها، فالشهوة تستحوذ على الإنسان منذ ولادته وتقضم قلبه كالثعبان ذي السبعة الرءوس الدائم الحياة الذي لا تروى له غلة أبدا، وكيف تروى غلة هذا الثعبان؟ ليست الفرائس التي ترمى له، أي المجد والسلطان والعز وثمل المشاعر وملاذ الروح والفتوة والجمال والحب إلا أعراضا زائلة وأوهاما خادعة، والإنسان وإن طمع فيها لم تكن إلا طيفا باطلا، وإذ إن كل شيء في الكون يتحول بلا انقطاع، وإذ إن كل شيء في الكون يهلك ويتجدد، وإذ إن كل شيء في الكون في يومنا غيره بالأمس فهل تجد غير الأوهام التي هي وليدة الرغبة وهدفها؟ ألا نحسن صنعا إذا ما قتلنا الرغبة في أنفسنا وبددنا بذلك الأوهام فالآلام؟
هكذا اتضح لبدهة نور الدين، المجهول سابقا، فيتسع، على الدوام، بإعمال الفكر فيصدر عنه الرأي والرؤيا والعلم والفهم والذكر والمعرفة.
وهكذا علمت، أيها المتدينون، ما هو الألم وما هو مداه وما هي الوسائل التي يزال بها، وعلمت أيضا، ما هو بؤس الشهوة وبؤس الحياة وبؤس الجهل وبؤس النظر وكيف تغلب هذه الأبؤس وتزول فلا يبقى لها أثر، وعلمت، أيضا، ما هو الوهم وما هو مداه وكيف يبدد ويزول فلا يبقى له أثر.
إذن، قام مذهب شا كيه موني، الذي أراد أن ينشره بين الناس حينما نهض من تحت شجرة الحكمة وعاد إلى إخوانه، على إبطال الرغبة والتجرد من أمور الدنيا وتبديد الوهم كأمل عال، والدخول في ملكوت نروانا حيث يغيب الشعور والفكر.
ولو اقتصر ما جاء به شا كيه موني على البراهين الفلسفية التي عزتها القصة إليه ما خرج اسمه من تحت طبقة الظلمات حيث يرقد كثير من أجيال البشر، فالبراهين الفلسفية لا تحرك الجموع، والجموع يؤثر فيها صوت المشاعر وحده، فمن يرد أن ينفذ قلوب الناس فليشاطرهم آمالهم وآلامهم وليهز مشاعرهم، وذلك كما أصاب أحد الشعراء في قوله: «مهما بلغ ما نعبده من الشدة وجدنا فيه ما يقاسمنا آلامنا، امرأة كان أو إلها.»
شكل 3-6: ناغدها «بالقرب من أوديبور»، أطلال معابد قديمة في الآجام.
في ذلك ترى سر النفوذ البالغ الذي اتفق لبدهة الذي كان ابن ملك فأصبح ، كما ود، سائلا ليقاسم الجموع بؤسها، وليعلمها كيف تتخلص منه، فعرف كيف يحرك أفئدتها، وبدهة، كعيسى، أدرك آلام البشر وقاسمهم إياها وعلمهم قيمة المحبة والأمل، فلم يزل سيدهم.
أجملنا حياة بدهة على حسب ما جاءت في القصة، وسنتكلم عن ديانته كما فهمها أتباعه وتوطدت فيما بعد، وكما تبدو في الكتب التي انتهت إلينا، لا كما جاء بها لأول مرة حينما غادر شجرة الحكمة. (3) الديانة البدهية
لم تأت البدهية العالم بدين جديد في الحقيقة، بل جاءت بأدب جديد، وليس فيها سوى عقيدة واحدة قائمة على توكيد أمر الوهم والعدم.
حقا أن البدهية لم تكبكب شيئا ولم تكافح أمرا من الناحية العملية، فقد أبقت على البرهمية وعلى آلهتها وطوائفها، مع القول إن الآلهة والعفاريت والبراهمة والشودرا ليست إلا صورا مؤقتة متحولة بلا انقطاع إلى أن تفنى فيه تعالى بعد أن تكون بدهة، أي أن تصير صاحبة العقل المطلق فترى بنور البصيرة سلسلة الموجودات السابقة وغاية الحياة وارتباط العلل والمعلولات، ثم تدخل في سلام نروانا الأعلى الأبدي.
ذلك هو الهدف الذي تسير إليه النباتات والحيوانات والآلهة والناس وجميع المخلوقات الحية بعد ما لا يحصى له عد من التناسخات والتقمصات.
والطبيعة الأزلية إذ وجدت في كل زمن وكانت جوهر كل شيء عدت عدما لا أساس له، وإن شئت فقل خلاء لا حد له، والخلاء هذا قد تجلى، ذات مرة، على صورة بفعل الرغبة فصار ذا إحساس وضمير وإرادة، أي ذا حياة، وأخذ يتطور تطورا متسلسلا، والسبب الأعلى بعد أن تجسد على هذا الوجه غدا قادرا على القيام ببعض الأعمال الطيبة أو السيئة، وأضحى عاجزا عن الاهتداء ثانية إلى جوهره الهادئ إلا بثواب أعماله، وفي الكرما تقدير لانتقال السبب الأعلى من الأسفل إلى الأسمى نتيجة لجميع أعماله وجميع أقواله وجميع أفكاره في أثناء كل حياة من حيواته، فيصل إلى درجة الإنسان، فإلى درجة المتدين، فإلى درجة بودهي ستوا، فإلى درجة بدهة، ثم يهبط إلى الهوة الصامتة الهادئة التي أخرجته الرغبة منها، وترافقه الرغبة وما تجره في موكبها من الآلام ما دام حيا، فهدف البدهي الصحيح، إذن، هو أن يميت الرغبة في نفسه لينال الراحة العليا.
وتأتي الأعمال الصالحة التي تسير إلى تلك الغاية بجانب ذلك الجهد الدائم المؤثر، ولكل عمل ثمرته، ومن الأعمال النيات والأقوال والأفكار.
وتجد روح البرهمية في مذهب الكرما القائل إن أعمال كل واحد تعين الصور التي يبعث بها فيما بعد، بيد أن الأدب في البدهية أرقى مما في البرهمية، فالبدهية تعنى بالحياة الباطنية وبجميع الأعمال التي تصنع كل يوم في ضمير الإنسان، فبدهة، كما في الإنجيل، يعد الإنسان قاتلا إذا أراد سوءا بإنسان آخر، ويعد مجرم شهوة كل من يبتغي ثمرة محرمة، ولا يقول بدهة إن التوبة تكفر الذنوب، فهو يرى أن التوبة، مقصودة كانت أو غير مقصودة، لا تستطيع أن تمنع صدور المعلول عن العلة ولا العمل عن نتائجه، وأكثر ما يبدو الفرق الأساسي بين البرهمية والبدهية هو فيما تقول به البدهية من روح المحبة القوية التي تحيي هذا الأدب الجديد في تواضعها وحلمها ولطفها وتسامحها العام.
ويكتب نجاح كبير، لا ريب، لإصلاح ديني يرفع البائسين الذين أثقل نظام الطوائف كواهلهم، ويجعلهم من الناحية النظرية، إن لم يكن من الناحية السياسية، مساوين بطبيعتهم ومستقبلهم لسادتهم المتكبرين، ويحمل القول العذب والمبادئ الرحيمة إلى مجتمع حناه حكم حديدي، ويظهر أسباب الألم في منابعه، ويعلم وسائل إزالته شعبا أرخاه جو شديد وأخافه كابوس دين صارم بما لا يعرف الرحمة من الوسائل المفاجئة.
شكل 3-7: ناغدها. قسم من معبد بانكا «أقيم في القرن العاشر من الميلاد على ما يحتمل.»
ذلك الإصلاح الديني هو وليد احتياجات جلية فظهر لقضاء هذه الاحتياجات، فلا يبحثن العلماء في براهين أئمته الدقيقة وما استنبطوه من النتائج الفلسفية عن أسباب انتصار البدهية وما بين أدبها ومذهبها من التناقض.
مذهب البدهية دون مؤخرا، ولم يستمع الشعب إليه قط، وكل ما سمعه الشعب هو نداء الأمل والمحبة الذي رددت سماؤه صداه فلباه بروحه من فوره.
ومن الأسباب التي أدت إلى انتشار البدهية ما هو مادي أيضا، فقد كان يتألف من قسم الهند الشمالي المعروف بالهندوستان دولة واحدة قبل الميلاد بقرنين ونصف قرن، وكان أشوكا ملك هذه الدولة، وكان اعتناق الملك لدين يكفي لازدهار هذا الدين وانتشاره.
ذلك ما اتفق للنصرانية في الدولة الرومانية حينما انتحلها قسطنطين، فأصاب كثير من المؤلفين في تسمية أشوكا بقسطنطين الهند البدهي.
وما انتهى إلينا من الوثائق الثمينة التي تركها أشوكا، أي الكتابات المنقوشة على أعمدة وصخور في جميع أجزاء دولته الواسعة، يثبت حميته في نصر تلك المبادئ الجديدة، ويثبت أن ما في هذه المبادئ من الناحية الشعبية السائغة ومن الأدب الكريم وروح المحبة أوجب اعتناق الجهال والحكماء والمنبوذين والبراهمة لهما على السواء.
تجد جذور الفلسفة البدهية في المذاهب القديمة المعاصرة للبرهمية الأولى، ولم يبد نموها إلا بعد طويل زمن، ولم يك أثر في بدء الأمر للكنيسة البدهية وما اشتملت عليه بعد حين من المحافل الدينية ومبدأ الاعتراف وذخائر الأولياء وبدهة المؤله، ولم تك أسطورة بدهة آنئذ شائعة، وما كاد أشوكا يذكر اسم ذلك المصلح الكبير إلا مرة أو مرتين، والثورة الوحيدة التي قد يرجع تاريخ حدوثها إلى عهد هذا الملك، أي الثورة الأساسية التي أعان على وقوعها بما أوتي من قوة، هي تطور الأخلاق، والوجه الجديد الذي بدت به واجبات بعض الناس نحو بعض، وزعزعة النير البرهمي الثقيل، وبزوغ دور المحبة العميقة، والحلم الذي جدد العالم الآسيوي الهرم من الأساس.
وأضحت البدهية بالتدريج دينا منظما ثابت الآساس ذا آلهة وشعائر وعبادات وفلسفة، ومن سوء حظ انتصار البدهية النهائي أن عطلت من آلهة فتركت الميدان للآلهة البرهمية كي تعبدها الجماهير وإن لم توص بها، ومن العبث أن وضعت البدهية الآلهة دون الولي أو دون الرجل الذي يصل إلى درجة بدهة، فنشأ عن ذلك أن هصرت الآلهة البدهية واستغرقتها وصهرتها مع البرهمية.
بذلك نفسر السبب في غياب البدهية عن بلاد الهند إلى الأبد مع أن بلاد الهند مهدها، والبدهية هي التي قالت بديانة الهند ورضيت أن تدغم فيها، والبدهية وصلت إلى بقية آسيا مع موكب من الآلهة البرهمية التي لاءمت الخيال وأعانت على انتصارها.
ولا يمكن ديانة كالبدهية أن تكب آلهة سيطرت على الهند أحقابا كبا أبديا، والبدهية هي التي أرادت وضع تلك الآلهة في مرتبة ثانوية من غير أن تجيء بما يقوم مقامها.
ولم تلبث فرق البدهية أن كثرت كما كثرت فرق البرهمية من قبل، وبينما كان يقوم في معابد بدهة إله حددته القصة بالتدريج جعلته بعض الفرق حالا عالية يصير إليها جميع المخلوقات بعد أن تستعد هذه المخلوقات في ألوف من البعوث التي تتم في عصور لا حد لها، وهذه المخلوقات تستطيع، إذ ذاك، أن تكون عامل نجاة لأهل الكون الآخرين، ثم تقيم بنعيم نروانا السرمدي حيث الخاتمة السعيدة المثلى.
وترى الفرق الجديدة أن بدهة شا كيه موني وحده لم يكن رسول الحق في العالم، فسيظهر بدهة ثان وثالث حاملين أنوارا جديدة وقوى جديدة مرشدين إلى أقصر طرق لبلوغ الكمال، بيد أنه لا بد من مرور أحقاب لا تحصى بين ظهور بدهة وبدهة لما يتطلبه تكوين بدهة من زمن طويل لا يتصوره سوى الهندوس ذوي الخيال الخصب الذي لا يقف عند حد، فلا عهد لتصوراتنا الغربية المتواضعة بمثله.
شكل 3-8: أومكارجي. أعمدة معبد سدسوهرا «القرن الثاني عشر على ما يحتمل.»
والزهد أحسن وسيلة لنيل حال بدهة، ومن هنا جاء النظام الرهباني الذي لم يعتم أن ملأ الهند بالأديار، وأقوى طريقة يتخذها الإنسان ليكون بدهة هو أن يقتل في نفسه الرغبة التي هي علة الحياة والألم، وهذا ما تهدي إليه الحقائق الكبرى الأربع التي هي أساس الشريعة البدهية، والتي تخاطب رجال الرهبان، لا الجمهور، لما يتطلبه إدراكها والعمل بها من التقدم في سبيل الكمال، جاء في لليتا وشتار ما يأتي:
أيها الراهب! إليك الحقائق الأربع المكرمة: الألم ومصدر الألم وردع الألم وسبيل ردع الألم.
فما هو الألم؟ الألم هو الولادة والهرم والمرض والموت وفراق الحبيب والاجتماع بالبغيض، والألم هو أن ترغب في شيء وألا تنال ما ترغب فيه، والألم، أيضا ، هو أن ترغب في شيء فتجد في طلبه فلا تناله، والألم، بالاختصار، إذ كان موضوع الأمور الخمسة التي تتقبلها الحواس ألما فإن هذا هو الألم.
وما هو مصدر الألم؟ مصدر الألم هو الرغبة التي تتجدد بلا انقطاع، هو الذي يذهب مع هوى اللذة، هو الذي يسر هنا وهنالك.
وما هو ردع الألم؟ ردع الألم هو التسكين من غير أن يبقى منه شيء، هو الرغبة التي تتجدد بلا انقطاع، هو الذي يذهب مع هوى اللذة ويسر هنا وهنالك، هو الذي يحصل ويقضى.
وما هو سبيل ردع الألم؟ سبيل ردع الألم هو الصراط المقدس المؤلف من ثمانية أجزاء كالبصر الكامل المؤدي إلى ردع الألم.
تلك هي الحقائق المكرمة الأربع أيها الرهبان!
وهنالك سبب آخر، غير الرغبة في قتل الألم والوصول إلى حال بدهة المجيدة فإلى السكينة التامة، أوجب اختيار كثير من المريدين لحياة العزلة في الأديار، وهو تجلي المساواة في الأديار فعلا بعد أن أعلنتها البدهية مبدأ، ففي الأديار يساوي الشودرا والباريا والجاندالا البرهمي، ويأكلون معه إذا ما كانوا أعضاء محفل واحد، وكان للنساء، أيضا، أديارهن حيث يظهرن غير ضعيفات ولا خاضعات لما أمر به منو من الوصاية الدائمة.
وكانت الحياة شاقة في تلك الأديار المنحوتة في الجبال فأنشأتها الهند في ألف سنة فنقضي العجب من طرازها في الزمن الحاضر، وكان لا بد لمن يود العيش فيها أن يوجب على نفسه الفقر والطهر، وأن يتبتل إلى الحياة الجديدة بهجر المرأة والمال والولد، وكان على الراهب ألا يملك شيئا وأن يعيش من الصدقات على ألا يطلبها وألا يأخذ من أيدي المحسنين أكثر من أكلة، وأن يعلم الناس السلام والحق، وأن ينشئ مشافي وملاجئ للفقراء والمسافرين، وأن يجد في منع الحروب ويأمر بالتسامح العظيم تجاه جميع الأديان عادا إياها أوجها ناقصة للحقيقة الواحدة، وأن يربي الأولاد ويحملهم على احترام الوالدين متمثلا نص الكتب البدهية على «أن الولد لا يكافئ والديه ولو حمل أمه على إحدى كتفيه وأباه على كتفه الأخرى مائة سنة.»
والبدهية أتت العالم الآسيوي الهرم بروح المحبة وبما لم يعرفه هذا العالم من الأدب العالي، وقول العالم الفاضل المتدين مكس موللر جاء مصدقا لما قاله المبشرون فورد فيه: «دعا إلى الأخلاق الفاضلة، قبل ظهور المسيح، أناس اعتقدوا أن الآلهة أشباح باطلة فلم يقيموا هيكلا حتى للرب غير المعروف.»
وتؤيد الجملة الأخيرة من هذا القول آراء الأوربيين الخاطئة في البدهية، وسأثبت عما قليل أنك لا تجد ديانة، كالبدهية، ذات أرباب متعددين مستندا في ذلك إلى المباني، ومن الصحيح إشارة تلك العبارة إلى سمو الأدب البدهي، فلا تجد، بالحقيقة، ديانة، أنقى من البدهية أدبا ولا أعذب منها قولا ولا أكثر منها رحما، فبدهة بحث عن الوسائل التي ينقذ بها الناس من مصيرهم القاسي فلبى الناس دعوته، وهو ابن الملك الذي غدا سائلا ليشاطر الجماهير بؤسها ويعلمها المحبة، فكان من أعظم من عرفتهم الدنيا أخذا بمجامع القلوب، وهو الذي اعتنق الناس دينه الحامل لاسمه حيث غرس، وهو الذي اكتسب دينه الناس بما تحلى به دعاته من الحلم والمحبة وإنكار الذات، وهو الذي ألان دينه الطبائع في آسيا وحول البرابرة السفاكين إلى رجال هادئين، ومن هؤلاء نذكر أجلاف المغول الذين أقاموا أهراما من رءوس البشر فأصبحوا بتأثيره قوما مهذبين مثقفين.
وغاية القول أن البدهية تشتمل على أرقى المعارف الدينية التي عرفها العالم لو لم تحن الكواهل للاستعباد أكثر من أي دين.
ومما تقدم ترى أن البدهية تختلف عن البرهمية بسمو الأدب وروح التسامح والمحبة أولا، وبالمكان الواسع الذي جعلته للإنسان في الكون فلم تعطه ديانة أخرى مثله ثانيا، فالطبيعة إذ إنها تتغير بلا انقطاع وتبدع صورا سائرة إلى الكمال مؤدية بالتدريج إلى ظهور الإنسان الذي يستطيع أن يصبح بفضله وعزمه أكثر من إله، أي أن يصبح بدهة الكائن الكامل الذي هو الأصل والغاية، والجمع والصفر، والعظم والعدم، ومعنى الكون، فإنها، كالكون، سلسلة أحوال زائلة وشعور واهم ، والكائن ذلك، إذ إنه عظيم مبهم، فإن من عدم الصواب أن يحدده من ليس عنده إقدام لاهوتيي الهندوس وهيامهم باختراع الصور الجسيمة والأعداد الضخمة.
ولم يبصر أتباع بدهة، الذين يعدون بالملايين بتعاقب القرون فكانت أكثريتهم الساحقة من الدهماء والجهلاء والصغراء والوضعاء، تلك التأملات الهائلة التي تقلب دماغ الأوربي، فكان هؤلاء يدخلون معابده مفتخرين بالسجود مع البراهمة المتكبرين أمام صورته المقدسة وعبادة ذخائره والاحتفال بأعياده الرائعة تكريما لإنائه الخاص بالصدقات، وكانوا لا يعرفون عنه سوى المحبة العذبة ذاكرين، ناعمي البال، أن أحد أصحابه
9
سأل أحقر امرأة أن تسقيه فقالت، وهي تعلم أن ابن الطائفة يفضل الموت على تناول قطرة ماء من يدها: «مولاي! إنني جندالية.»
فأجابها برفق: «لا أسأل عن أنك جندالية أو غير جندالية، وإنما أقول إنني ظمآن، فأطلب منك أن تسقيني.»
ذلك أمر بسيط في الظاهر، ولكنه معجزة المحبة عند الهندوسي وآية بعث لدى جموع من الخلائق البشرية.
تلك هي البدهية، وليس بضائرها أن تغرق فلسفتها بعد زمن في بحر من المجردات القريبة من الهوس وأن تغرق عباداتها في طقوس البرهمية ورموزها ما كانت ديانة محسنة مصلحة قوية مؤثرة تأثيرا لا يعدله شيء في تاريخ الإنسان. (4) البدهية كما جاءت في المباني
استحوذ على الناس بأوروبا عجب عظيم حينما علموا أمر البدهية من كتبها الفلسفية التي وضعت بعد ظهورها بستة قرون، فترجمت منذ سنوات قليلة إلى اللغات الأوربية، فرأوا أن أتباعها البالغ عددهم خمسمائة مليون نفس لا يعرفون إلها عادين العالم وهما باطلا لا يقابل آمال الناس إلا بالعدم.
شكل 3-9: بندرابن. معبد غوبندو «القرن السادس عشر من الميلاد»، «يبلغ ارتفاع المقدم 14 مترا.»
ومن الطبيعي أن كنت لا أعرف عن البدهية، قبل زيارتي للهند، غير ما ورد في الكتب التي أشرت إليها آنفا فأتكلم عنها في فصل آخر، وكنت أشك، مع ذلك، في إمكان اعتناق الملايين من شباه البرابرة لإلحادات فلسفية فاترة، فكان يلوح لي أن مما يناقض سنن التاريخ أن تظهر ديانة قائمة على مبادئ كتلك المبادئ بغتة في العالم وأن تغيب هذه الديانة عن البلد الذي ظهرت فيه فور قيامها تقريبا، فكنت أرجو أن تؤدي دراستي للمباني البدهية، التي أهمل أمرها من بحث من علماء أوروبا في الديانة البدهية، إلى إلقاء ضياء جديد على تاريخ هذه الديانة، فلم يخب رجائي، فثبت لي من النظر في النقوش التي تستر وجه المباني القديمة في الهند أن الديانة البدهية التي مارسها الهندوس في ألف سنة تختلف عن الذي نتعلمه من الوثائق المكتوبة.
وفي المباني، لا في الكتب، يجب دراسة تاريخ البدهية، فما تخبرنا به المباني غير ما نجده في الكتب الأوربية، فهذه المباني تثبت أن البدهية التي أراد العلماء المعاصرون أن يجعلوا منها ديانة إلحاد هي أكثر الديانات قولا بتعدد الأرباب.
أجل، إن المصلح الأكبر بدهة لم يظهر في المباني البدهية الأولى التي أقيمت منذ نحو ألفي سنة، كسياجات بهارات وسانجي وبدهة غيا وغيرها، إلا رمزا، فكانت تعبد آثار قدميه وصورة الشجرة التي بلغ تحتها درجة الحكمة العليا، غير أنه لم يعتم أن أصبح إلها ماثلا في جميع المعابد، وقد بدا وحيدا في أول الأمر كما يرى في أقدم معابد أجنتا، ثم اختلط بالتدريج بالآلهة البرهمية: إندرا وكالي وسرسوتي، إلخ. كما يرى في معابد إيلورا، ثم غرق بين ما كان يهيمن عليه من الآلهة الكثيرة فعاد بعد بضعة قرون لا يعد إلا جسدا لوشنو، فهنالك أفلت البدهية عن الهند.
وتطلب حدوث ذلك الأفول أو التحول الذي أشرنا إليه في بضعة أسطر مدة ألف سنة، وأنشئت المباني الكثيرة التي تنطق بتاريخه بين القرن الثالث قبل المسيح والقرن السابع بعده، وظل بدهة يعبد في أثناء هذا الدور الطويل كإله قادر على كل شيء، وفي الأساطير تصوير له وهو يمنح أتباعه النعم، وفي رحلة العالم البدهي الحاج هيوين سانغ الصيني الذي زار الهند في القرن السابع خبر بأن بدهة ظهر أمامه في غار مقدس بما اتفق له من اتصال طويل في الهند.
فالأساطير والمباني صريحة إذن، فلو استند البحث في البدهية إليها لبدت على غير الصورة التي صورت بها في الزمن الحاضر، ومن المؤسف أن أهمل علماء أوروبا دراسة مباني الهند حتى الآن، فلم يزوروا الهند، فاقتصرت دراستهم للبدهية على الكتب، ومن المؤسف أن عولوا على كتب المذاهب الفلسفية التي وضعت بعد وفاة بدهة بخمسمائة سنة فكانت بعيدة من الديانة الحقيقية.
على أنه لا جديد في التأملات الفلسفية البدهية التي أثارت عجب الأوربيين كثيرا، فقد وجدت، منذ عرفت كتب الهند بأحسن مما في الماضي، في كتب المذاهب الفلسفية التي ازدهرت في العصر البرهمي، ففي كتب الحكمة التي عرفت بأوبانشاد التي وضعت في مختلف الأدوار فوجد منها نحو مائتين وخمسين ترى الزندقة وازدراء الوجود والأدب المستقل عن المعتقدات الدينية والمبدأ القائل إن العالم باطل، إلخ، وترى في بعض تلك الكتب ما في الكتب البدهية الفلسفية من المذاهب، وكان واضعوها من العاملين بمذهب الكرما الذي هو أساس البدهية وأساس جميع فرق الهند الدينية وأساس شريعة منو فيقول: إن الناس مجزيون بأعمالهم في البعوث القادمة، وإن غاية هذه البعوث هي الفناء في أصل الأشياء العام، في برهما الذي حكى عنه منو فيقرب من نروانا عند البدهيين، فالروح تنجو، إذ ذاك فقط، من البعوث.
والإنسان، لكي ينتهي إلى ذلك الفناء النهائي، يجب عليه، كما يقول البدهيون والبراهمة، أن يقمع الرغبة وأن يزهد في متاع الدنيا وأن يعيش عيش النساك المتأملين.
فمن ثم ترى أن نظريات العصر البدهي الفلسفية مطابقة لنظريات العصر البرهمي الذي جاء قبله، وهي قد نمت مؤازية للدين الذي يعلمه الكهان ويمارسه الجمهور وإن اختلفت عنه أشد الاختلاف، فعدها كالبدهية نفسها من الخطأ العظيم كخلط نظريات الأوبانشاد بالبرهمية، والبدهية إذ لم تعرف في أوروبا إلا بتأملات بعض أتباعها الفلسفية عدت هذه التأملات البدهية نفسها.
ومن السهل أن ندرك أن دينا يبلغ عدد أتباعه خمسمائة مليون لا يقوم على المبادئ الفلسفية الفاترة، ويعذر بعض العلماء إذا أخطئوا فقالوا غير ذلك ما أفنوا أعمارهم في دراسة الكتب، لا دراسة الرجال، وإذا مرت ثلاثة آلاف سنة وتبدل مركز الحضارة ونسيت كتبنا ولغاتنا كان من المحتمل، حينئذ، أن يكتشف بعض الأساتذة اللغة الإنجليزية فيترجموا أول ما يعثرون عليه من الكتب، ككتاب الأصول الأولى لسبنسر وكتاب أصل الأنواع لداروين، فيدعوا أن خلاصة المذاهب التي كانت تمارسها الأمم النصرانية في القرن التاسع عشر من الميلاد.
وعلى الباحث ألا يجهد نفسه في البحث عن هندوس؛ ليفترض أنهم استطاعوا ممارسة دين بلا آلهة، فكيف تجد هندوسيا لا يعبد آلهة والعالم عنده زاخر بها؟ فالهندوسي، بالحقيقة، يصلي للنمر الذي يفترس أنعامه، ولجسر الخط الحديدي الذي يصنعه الأوربي، وللأوربي نفسه عند الاقتضاء.
شكل 3-10: بندرابن. معبد مدن موهن «أنشئ في القرن السابع عشر»، «يبلغ ارتفاع البرج 21 مترا و40 سنتيمترا.»
حقا، قد يحفظ الهندوسي على ظهر القلب كتابا من كتب بدهيي الجنوب، كالذي ألف حديثا تحت إشراف لجنة من الأوربيين، يعلمه أنه لا خالق للعالم وأن كل ما فيه وهم، ولكن هذا لا يمنعه من أن يشعر باحتياجه إلى عبادة بدهة الأعظم وجميع مجمع الآلهة الذي يملكه بدهة هذا، وحقا يشتمل كتاب «لليتا وشتار»، الذي هو أقدم الكتب البدهية والذي يرجع إلى نحو ألف وثمانمائة سنة، أي إلى زمن حل بعد ظهور بدهة بنحو ستمائة سنة، على مباحث في الأوهام وبطلان أمور هذا العالم، ولكن من ذا الذي علمه بدهة هذا؟ علم أولا، الآلهة الكثيرة التي تجد لها ذكرا في كل صفحة من ذلك الكتاب والتي حضرت ولادته وعلى رأسها الإله برهما فألهته فأخذت ترافقه فعبدته في نهاية الأمر.
أجل، إن ذلك الكتاب محشو بالمتناقضات، غير أن هذه المتناقضات لم تكن لتبدو للهندوسي، ففكر الهندوسي قد صهر في قالب غير الذي صهرت فيه أفكارنا.
لا عهد للهندوسي بالمنطق الأوربي، ولا تجد كتابا من كتبه، التي تترجح بين ديواني راماينا ومهابهارتا الحماسيين من جهة والكتب الفلسفية التي أشرنا إليها آنفا من جهة أخرى، غير زاخر بالمتناقضات، فالمنطق، وإن وجد في هذه الكتب، ليس سوى منطق نسوي يفرط، أحيانا، في استخراج النتائج إفراطا لا يعبأ معه بالمتناقضات.
إذن، يجب على من يريد أن يعلم أمر البدهية ألا يغفل عما لا غنية لديانات الهند عنه من الآلهة، وذلك عند النظر إلى التأملات الفلسفية التي تنضدت فوق البدهية، فلم يحاول بدهة، خلافا للخطأ الشائع، أن يزعزع الآلهة البرهمية، كما أنه لم يحاول أن يمس نظام الطوائف، فلم يكن أي مصلح من القوة ما يستطيع أن يدك به ركن نظام الهند الإجتماعي ذلك.
وما تقدم يدل بسهولة على أن البدهية لم تكن غير تطور بسيط للبرهمية؛ وذلك لمحافظتها على جميع آلهتها، ولأنها لم تغير سوى أدبها، ومما لا ريب فيه أن البدهية اختلفت عن البرهمية قليلا بعد مرور عدة قرون، ومن المشكوك فيه أن تكون قد عدت دينا جديدا في البداءة، ولا شيء يدل على أن أشوكا اعتنق دينا جديدا، ولا تكاد تجد غير ذكر أو ذكرين لبدهة في مراسيم هذا الملك التي ملأ الهند بها فانتهى إلينا عدد كبير منها، ففي هذه المراسيم أوصى بالتسامح تجاه جميع المذاهب الدينية التي كانت البدهية واحدة منها، والتي بدت جديرة بالتكريم لما اشتملت عليه من روح مؤسسها، ابن الملك الشهير، المملوءة محبة.
شكل 3-11: مترا. برج ساتي بوري «القرن السادس عشر»، «يبلغ ارتفاعه 17 مترا.»
وسنثبت، بعد قليل، أن البدهية غابت عن الهند بسبب اندماجها في البرهمية القديمة مقدارا فمقدارا، وفي خارج الهند من البلاد، كبرمانية وكمبوج، التي استقرت البدهية بها، رافقتها الآلهة البرهمية، ولكن هذه الآلهة إذ كانت مما لم تعرفه تلك البلاد العاطلة من البراهمة ذوي المآرب في تفوقها حافظ بدهة فيها على ما خسره في الهند من النفوذ البالغ، ومن الجدل الكبير ما دار حول مباني أنغكور الشهيرة؛ ليعرف هل هي بدهية أو برهمية لاختلاط ما يشاهد فيها من الرموز البدهية والشيوية، وما كانت هذه المجادلات لتحدث لو درس العلماء مباني الهند، ولا سيما مباني نيبال، قبل أن ينعموا النظر في مباني كمبوج فمنها، كانوا يتبينون اختلاط المذهبين كما أنهم كانوا يتبينونه في البلد المجاور برمانية، فمما اطلع عليه الموظف الإنجليزي السابق في برمانية مستر ويلر أن البرمان، الذين هم بدهيون كما هو معلوم، يعبدون، أيضا الآلهة الويدية ولا سيما إندرا وبرهما وأن بلاط ملك برمانية يحتوي على براهمة، ومما اطلع عليه ذلك الموظف الإنجليزي، أيضا، أن خانات المغول بآسيا يعبدون الآلهة الويدية في جوار جبل آلتائي.
شكل 3-12: أوديبور. قصر مهارانا «القرن السابع عشر»، «دقائق الجبهة المشرفة على الساحة الكبرى.»
وترى مما عرضناه أنه لا أثر للهوة العميقة التي افترض وجودها بين البدهية والبرهمية افتراضا نشأ عن اطلاع العلماء على البدهية من قراءة الكتب، وما بيته هؤلاء العلماء من رأي هو الذي حال دون تبين ما بينهما من ارتباط، ومما حدث أن البحاثة الأوربي هوغسن الذي عاش في الهند أشار إلى بعض الصور الشيوية التي تشاهد في معابد الهند البدهية فأجهد نفسه في تفسير سبب وجودها فيها فقال إنه لا يوافق ثانية على امتزاج تينك الديانتين اللتين تنفصل إحداهما عن الأخرى انفصال السماء عن الأرض، وهو غسن هذا كان مقيما إنجليزيا بنيبال، وما كان عليه إلا أن يحدق إلى ما حوله ليرى درجة اختلاط الآلهة البدهية بالآلهة البرهمية في معابد ذلك البلد، بيد أن العلماء بلغوا في ذلك الحين من اعتقاد اختلاف تينك الديانتين مبلغا لا يرون معه وجود شيء مشترك بينهما.
ويزيد هذا المثل، الناطق بوجود رأي مبيت حاجب للحقيقة، غرابة عند النظر إلى الرسالة الإنجليزية التي عنوانها «بحث في الشبه بين كثير من الرموز البدهية والشيوية»، فذكر كاتبها، متعجبا، أن كثيرا من كتاب الهند أنفسهم يخلطون ما في المعابد القديمة من الصور البرهمية بالصور البدهية مستندا في ذلك إلى كثير من الأمثلة،
10
مع أن عجب ذلك الكاتب الإنجليزي كان يزول لو أوضح بمثل ما أوضحنا به سبب امتزاج البدهية بالبرهمية. (5) تواري البدهية عن الهند
لا يجهل أحد أن البدهية التي يدين بها اليوم خمسمائة مليون من الآدميين، أي ثلث البشر، توارت تقريبا عن الهند حوالي القرنين السابع والثامن من الميلاد بعد أن كانت الهند مهدا لها فانتشرت في بقية آسيا فغمرت الصين وبلاد التتر الروسية وبرمانية، إلخ، وهي إذا كتب لها بقاء في الهند فليكون ذلك في أقصى حديها فقط، أي في نيبال شمالا وفي سيلان جنوبا.
وترى كتب الهندوس صامتة صمتا تاما عن تواري البدهية عن الهند، وعزي ذلك حتى الآن إلى ما افترض حدوثه من الاضطهادات الشديدة، وإذا سلمنا جدلا بأنه يمكن التوفيق بين مبدأ تسامح الهندوس ومبدأ الاضطهادات الدينية وبأن الاضطهادات تقوض دعائم الدين بدلا من تسهيل انتشاره خلافا لما تؤكد حوادث التاريخ أمره وما إلى هذا من الافتراضات التي لا تصدق وجدنا أنفسنا تجاه المعضلة الآتية وهي: لماذا عزم فجأة أمراء الهند - التي كانت مقسومة إلى مائة إمارة صغيرة - على الكفر بدين مارسه أجدادهم عدة قرون وحملوا رعاياهم على اعتناق دين آخر؟
أخذت أبصر سبب تحول البدهية فور بحثي في مباني الهند، ثم اتضح لي ذلك السبب حين زيارتي لنيبال، فعلمت، إذ ذاك، درجة الأغاليط في الأسباب التي ذكرت إلى يومنا لتفسير ذلك، وبيان الأمر أنني درست أكثر مباني الهند المهمة بإنعام نظر فانتهيت إلى النتيجة القائلة: إن البدهية غابت عن الهند؛ لأنها صهرت بالتدريج في الديانة التي خرجت منها.
والحق أن ذلك التطور تم ببطء، ولكن الذي جعل الباحثين يرون وقوعه بغتة هو عطل الهند من تاريخ، ومن ثم وجود فواصل خمسة قرون أو ستة قرون يتعذر معها وصل ما بين تحولاتها، فترانا إزاء ذلك في حال كحال علماء الأرض السابقين الذين كانوا يرون تحولات طبقات الأرض وسكانها العظيمة، لا ما بينها من الأدوار المتوسطة، فيعزون ذلك إلى الانقلابات العنيفة، ثم تقدم العلم فأثبت لهم أن هذه الانقلابات وليدة تطورات غير محسوسة.
تخبرنا دراسة ما في مباني الهند من النقوش البارزة والتماثيل بتاريخ تطور البدهية، وتوضح لنا كيف أن مؤسس هذه الديانة الذي استخف بجميع الآلهة أصبح إلها، وكيف أنه أخذ يظهر في جميع المعابد بعد أن كنت لا ترى له صورة في واحد منها، وكيف اختلط بالآلهة البرهمية القديمة مقدارا فمقدارا، وكيف أنه تحول إلى إله تابع ، وكيف أن تلك الآلهة دحرته في نهاية الأمر.
وكان لا بد لي من الرجوع إلى القرن السابع من الميلاد أو اكتشاف بلد يتجلى فيه الطور الذي كانت عليه الهند في القرن السابع المذكور؛ لإثبات نظريتي في ذلك التحول وفي تواري البدهية عن الهند، فوجدت أحد مهود البدهية نيبال البلد الذي قاومت البدهية فيه عوامل التطور التي هددته في كل مكان حين صاقبت البدهية البرهمية القديمة، فتجلى فيه الطور الذي اختلطت فيه البدهية بالبرهمية من غير أن تذوب فيها، وفي معابد نيبال بلغت الآلهة الهندوسية والآلهة البدهية من الاختلاط ما يتعذر معه، في الغالب، تبين الدين الذي يقول بها، وهذا ما عرفه علماء الإنجليز الذين درسوا شئون نيبال من غير أن يستطيعوا تفسيره، وما رئي أنه من الألغاز عند عدم تفسيره بدراسة مباني الهند القديمة ظهر لي أنه ليس من الألغاز عند إنعام النظر فيها، فقد ثبت لدي أن اختلاط تلك الآلهة في الهند حدث في كل مكان من الهند في زمان ما، وزال عني العجب من عزو علماء الهندوس قديم المعابد إلى إحدى الديانتين تارة وإلى الديانة الثانية تارة أخرى.
وبمثل ذلك نفسر ما يبدو غريبا في الظاهر، وهو أمر إقامة معابد بدهية وجينية وبرهمية بعضها بجانب بعض في أدوار واحدة، فإذا رجعنا البصر إلى الطور الذي يوشك أن تتمازج فيه ديانتان سهل علينا أن نتمثل ملكا يوزع الهبات، غير محاب، بين معابدهما كما كان يوزعهما أحد الملوك في القرون الوسطى بين كنائس مختلف القديسين.
ولم ينته إلينا سوى ما قصه الحاج الصيني هيوين سانغ الذي زار الهند في ذلك الدور، فروى أن ملكا هندوسيا وزع العطايا بين البدهيين في اليوم الأول من عيد ووزعها بين البرهمية في اليوم الثاني منه، فذلك الدور الذي كانت فيه تانك الديانتان متوائمتين هو الدور الذي سبق انصهارهما في ديانة واحدة، ومن السهل أن نتبين الصورة التي تم فيها هذا الادغام من البحث في الديانة السائدة لنيبال في الوقت الحاضر.
تاريخ دخول البدهية نيبال قديم جدا، والقصة تقول إن بدهة نفسه جاءه، والأمر مهما يكن فإن أقدم المخطوطات البدهية وجدت في أديار نيبال القديمة، وفي القصة أن أشوكا الذي كان ملك مغدها في القرن الثالث قبل الميلاد حج نيبال ليزور معبد شم بهوناتهه ومعبد بشوبتي، إلخ، وفي القصة، أيضا، أن الملك أشوكا هذا هو مؤسس مدينة بتن التي تعرف باسمها النيواري لليتا بتن فيفترض أن أصل هذا الاسم محرف من بتلي بترا التي كانت عاصمة أشوكا في الهند، وغير قليلة المعابد المخروطة الشكل التي عزيت إليه منذ القديم.
غدا نيبال، إذن، مهدا من مهود البدهية، ولا تزال هذه الديانة سائدة له منذ ألفي سنة، وإذا حالت عزلة نيبال دون أفول البدهية عنه، كما أفلت في بقية بلاد الهند، فإنها لم تحل دون تحولها فيه تحولا مشابها للذي غابت به عن بلاد الهند تبعا للمبدأ القائل: إن العلل نفسها تسفر عن النتائج نفسها، ونيبال لما كان عليه من الأحوال الخاصة أخذت البدهية تغيب عنه ببطء، ولهذا البطء نستطيع أن نتصور ماذا كانت عليه البدهية في الهند في القرنين السابع والثامن من الميلاد مع تواري النظم الرهبانية القديمة عنه، ومع عودة الكهنوتية فيه إلى النظام الإرثي ومع رجوع الآلهة القديمة فيه إلى سلطانها السابق.
شكل 3-13: أوديبور. المقبرة الملكية.
اليوم تبدو البدهية والبرهمية في نيبال ديانتين مختلفتين اسما كما بدتا في الهند في القرن السابع من الميلاد، واليوم تبدو تانك الديانتان في نيبال متسامحتين كتسامحهما الذي رأينا وجوده في بقية بلاد الهند قبيل أفول البدهية عنها للأسباب المعروضة آنفا، وبلغ هذا التسامح الذي يفسر بتشابه تينك الديانتين من القوة ما كان به لأتباعهما معابد وآلهة وأعياد مشتركة كما سنرى ذلك.
تفرض البدهية، في نيبال، على أتباعها عبادة ثالوث عال، بدلا من أن تسير مع المذاهب البدهية الفلسفية فترى العالم مؤلفا من هيولى أزلية قادرة على التكوين، وتعد هذه الهيولى آلهة الكون الوحيدة، ويشتمل ذلك الثالوث على ممثل الروح آدي بودهة الذي هو الأصل وعلى ممثل المادة دهرما وعلى ممثل المرئيات سنغها الذي هو نتيجة اتحاد الروح والمادة، ورمز هذا الثالوث، الذي يشابه الثالوث البرهمي المؤلف من برهما ووشنوا وشيوا، هو مثلث ذو نقطة في مركزه، وهذا المركز هو رمز آدي بودهة الذي عد العلة الأولى في آخر الأمر.
وتجيء تحت ذلك الثالوث الأعلى الآلهة البرهمية القديمة: وشنو وشيوا وغنيشا ولكشمي وغيره من الآلهة التي برأها الكائن الأعلى لتسيطر على العالم، وعلى ما تراه من هبوط هذه الآلهة من المرتبة التي قالت بها الديانة البرهمية وظلت من رفعة المقام ما بدت به أهلا ليعبدها البشر بأسره.
ولا تختلف مبادئ بدهيي نيبال في الروح البشرية عن المبادئ البرهمية القديمة بصورة محسوسة، وعدت هذه الروح، كأرواح جميع الحيوانات، صادرة عن العلة الأولى آدى بودهة راجعة إليه بعد عدة تناسخات، والرجوع إلى العلة الأولى بعد هذه التناسخات، أي الفناء في آدي بودهة، هو الهدف الأسمى الذي يؤجر به المؤمنون، ويتوقف عدد هذه التناسخات وطبيعة هذه التناسخات على سلوك الإنسان في حياته، وتعين أعماله مصيره.
وعد مؤسس البدهية نفسه، كإخوانه الذين افترض ظهورهم قبله حاملين لاسم بدهة، وليا صفت جبلته بحيوات سابقة فأوشك أن يصل إلى الفناء الأسمى.
وأنشئ أكثر معابد نيبال أهمية، ولا سيما معبد شمم بهوناتهه، تقديسا لآدي بودهة، ومثل الثالوث البدهي «بدهة ودهرما وسنغها» في تماثيل جالسة على زهرة سدر، وفي هذه التماثيل بدا بدهة ذا ذراعين وبدا سنغها ودهرما ذوي أربع أذرع، ومن ذلك الثالوث بدت دهرما وحدها، إلاهة المادة، على شكل امرأة.
ويجيء بعد الثالوث البدهي، كموضوعات للعبادة، صور مؤسس البدهية وأسلافه من الآلهة والبشر، ثم تجيء آلهة الهندوس: مهانكال مثال شيوا، وكالي زوجة شيوا، وإندرا ملك السماء، وغرودا الإله ذو الرأس العصفوري، وغنيشا الإله ذو الرأس الفيلي، وآلهة الحكمة، إلخ، وهذا الإله الأخير هو من أعظم الآلهة احتراما وتجد صورته في مداخل جميع المعابد، وبعبادة هذا الإله البرهمي الخالص تباشر جميع الشعائر البدهية.
شكل 3-14: أحمد آباد. مقدم المسجد الكبير «القرن الخامس عشر من الميلاد»، «ارتفاع الجبهة : 13 مترا و50 سنتيمترا»، «أنشئت مباني أحمد آباد المهمة المرسومة في هذه الصورة وفي الصورة الآتية في العصر الإسلامي على الطراز الهندي المعروف بالجيني، وهي لا تختلف عنه إلا بما أضيف إليها من الأقواس والدقائق الثانوية وبخلوها من التماثيل.»
وانتحل بدهيو نيبال الرمز الهندوسي مع تحريف مدلوله، فهم قد عدوه الرمز السدري الذي تجلى به آدي بودهة على صورة لهيب بدلا من عده رمزا إلى قدرة شيوا على الإبداع.
وقد بدل شكلا مع ذلك، فنقشت أربعة وجوه لبدهة على جوانبه، كما علته زخارف بدهية.
ومما قلناه ترى درجة اختلاط بدهية نيبال بالبرهمية، ولهذه البدهية أثر في البرهمية كذلك، فيمثل بدهة في المعابد التي أنشئت تمجيدا لشيوا، ويقصد أتباع كلتا الديانتين كثيرا من المعابد ذوات الآلهة المشتركة.
وما تشاهده من امتزاج تينك الديانتين في المعابد تجد مثله في الأساطير التي تكثر في نيبال، وتجد مثل هذا الامتزاج في الأعياد الدينية التي يتعذر تمييز البدهي من البرهمي فيها، ويزور الحجيج معابد تينك الديانتين، على السواء، زيارة المؤمن المطمئن.
تلك هي حال البدهية في نيبال في الوقت الحاضر، ويمكن الناقد البصير أن يبصر منذ الآن انصهارها في البرهمية قبل انقضاء قرنين أو ثلاثة قرون مستندا إلى ما ذكرناه، وقد يعزو السائح، الذي يجهل في المستقبل دور التطور الذي تجاوزه الآن كما جهل المؤرخون المعاصرون تطور البدهية السابق في الهند، أفول البدهية عن نيبال إلى شدة الاضطهاد مستشهدين بأطلال المعابد التي تستره إذ ذاك.
بيد أن السائح الذي أتخيل ظهوره في المستقبل إذا لم يقتصر على درس بقعة واحدة من بقاع الهند فصبر فجاب جميع أرجائها نفذت مبادئ التطور الديني نفسه فصانته عن مثل ذلك الخطأ، فمن أجل هذا نرى أن تقصي الهند أفضل من مزاولة كتب التاريخ بمراحل، فالهند هي البلد الوحيد الذي يمكن الباحث أن يبصر فيه عند انتقاله من مكان إلى آخر سلسلة التطور التي جاوزها البشر منذ عصور ما قبل التاريخ إلى الوقت الحاضر، فبذلك الدرس الحي يطلع الباحث على التطورات السابقة التي اتفقت للنظم والمعتقدات فلا تنص الكتب في الغالب إلا على أقصى وجوهها. (6) المذاهب الفلسفية في البدهية
نشأت مذاهب فلسفية مؤازية للبدهية مشابهة للتي ظهرت في العصر البرهمي، وليس في هذه المذاهب ما هو مبتكر كما ألمعنا إلى ذلك، وبعض كتبها إذ ترجم إلى اللغات الأوربية وظن أن البدهية نفسها بين أضاميم ما ترجم من هذه الكتب نرى من المفيد أن نلخص روح تلك المذاهب تلخيصا خاطفا.
قامت تلك المذاهب على القول ببطلان ما في السماء والأرض، فالموجودات ليست إلا مظاهر وحوادث صائرة إلى الفناء، وهي تشابه الزبد الذي يعلو الماء طرفة عين.
فلا رجال ولا نساء ولا خلق ولا حياة ولا نفس، فلا حقيقة لهذه الأشياء، فهي وليدة الخيال، هي مشابهة للوهم، مشابهة للرؤيا، مشابهة لكل ما هو مختلق، مشابهة لخيال القمر في الماء.
ولا يعرف هذا المذهب الفلسفي، الذي لا عهد للأوربيين بمثل تطرفه، إلها خالصا ولا إلها أقدم من العالم، فالطبيعة، بحسب هذا المذهب، هي سلسلة لا حد لها «أولا وآخرا» من الموالد والهلكات والتراكيب والانحلالات الدائمة والعلل المتحولة التي هي معلولات والمعلولات المتحولة التي هي علل والحوادث التي لا أول ولا آخر لها.
شكل 3-15: أحمد آباد. مسجد الملكة في ميرزابور «القرن الخامس عشر من الميلاد»، «دقائق الزخرف»، «يبلغ ارتفاع قسم المئذنة البادي ستة أمتار و30 سنتيمترا.»
وفلاسفة البدهية، بعد أن أنكروا مبدأ التكوين، أنكروا مبدأ القضاء والقدر السائد لجميع الأديان اليونانية، فلم يروا وجود قدر مسيطر على المخلوقات، فمصير كل مخلوق عندهم منوط بسيره، والناموس الأدبي هو الذي يربط الحوادث بعضها ببعض، والأعمال وحدها، أو نتائج هذه الأعمال، هي الخالدة، والمخلوق يمكنه بالفضل أن يصل، بعد سلسلة من الموالد، إلى نعمة العدم فلا يبالي بالدموع ولا بالآلام فيفنى في نروانا فلا تبقى ضرورة إلى تقمصه صورا أخرى.
شكل 3-16: أحمد آباد. مسجد الملكة في سارنغ بور «القرن الخامس عشر من الميلاد»، «يبلغ ارتفاع قسم المئذنة الظاهر في هذه الصورة خمسة أمتار و65 سنتيمترا.»
وفي كتب الفسلفة البدهية سلسلة من التأملات التي تثبت بطلان الأشياء، فالبدهي؛ بعد أن يعلو منطقة الصورة والصلابة والخلفة ينتهي بتأمله إلى منطقة اللانهاية في الفضاء، والبدهي بعد أن يعلو منطقة اللانهاية في الفضاء ينتهي إلى منطقة اللانهاية في الذكاء، والبدهي بعد أن يعلو منطقة اللانهاية في الذكاء ينتهي إلى منطقة العطل من الموجودات، والبدهي بعد أن يجاوز منطقة العطل من الموجودات ينتهي إلى منطقة العطل من الخيالات وعدم الخيالات، والبدهي بعد أن يجاوز منطقة العطل من الخيالات وعدم الخيالات ينتهي إلى منطقة الانقطاع عن الخيالات والإدراكات، فهنالك يصبح محايدا تجاه الأفكار، محايدا تجاه إدراك الخيالات فيعود غير ذي خيال، أي غير مؤكد عدم الوجود لما يدل عليه هذا التوكيد من الوجود، فإذا ما بلغ هذه المرحلة الخالية التي ارتفع إليها «أضحى اسم بدهة كلمة وأضحى بدهة نفسه وهما أو طيفا.»
وهذه المزاعم الفلسفية التي لا أماري في بعد غورها تسوق واضعيها، في بعض الأحيان، إلى السفسطة، والتوكيد أول ما يجيب به فلاسفة البدهية عن جميع الأسئلة، ثم يجيبون عنها منكرين، ثم يجيبون عنها غير مؤكدين وغير منكرين، ومن ذلك أنهم يجيبون عن السؤال: «هل يوجد بدهة أو لا يوجد بعد الموت؟» بقولهم: «يوجد بدهة بعد الموت، ولا يوجد بدهة بعد الموت، ويعود بدهة غير موجود بعد الموت ما دام غير موجود بعد الموت.»
وبين الأوربيين من يرون، مثل حواريي شا كيه موني أن العالم سيصبح بدهيا، وليس فيما يرون ما يتعذر وقوعه، فاستنبطوا من تأملات فلاسفة البدهية كتاب ديانة ذا مسحة عصرية فوافق عليه كاهن شري بدا الأكبر بجزيرة سيلان، ولا أقول مؤكدا إن هذا الكاهن الأكبر الذي استصوبه قد ألم به، وإنما يخيل إلي أنه يوافق على كتاب ديانة آخر مستنبط من الكتب البدهية مناقض لذلك الكتاب.
وذلك الكتاب الصغير إذ اشتمل، بأسلوب واضح، على ما يمكن استنباطه من رسائل الفلسفة البدهية وكان مما رضي به مذهب بدهي مهم معروف ببدهية الجنوب فإننا نقتطف منه العبارات الأساسية الآتية:
57:
ما هو النور الذي يبدد جهلنا ويزيل جميع همومنا؟ هو أن تعرف ما سماه بدهة بالحقائق الأربع الكريمة.
58:
ما هي هذه الحقائق الأربع الكريمة؟ هي: (أ) بؤس الوجود. (ب) علة البؤس أي إرواء الغلة التي لا تروي لتجددها. (ج) هدم الرغبة. (د) وسائل هدم الرغبة.
65:
إلى أي شيء نصل عند إحراز النجاة؟ نصل إلى نروانا.
66:
وما هي نروانا؟ هي حال يقف عند حدها كل تحول فتكون السكينة فيها كاملة ما عطلت من الرغائب والأوهام والآلام وكل ما يجعل الإنسان هيولانيا، والإنسان، لكي يبلغ نروانا لا بد له من أن يبعث باستمرار، فإذا ما بلغها انقطع بعثه.
69:
وهل لحسناتنا أو سيئاتنا فعل في الصورة التي نبعث عليها؟ أجل، فالحكم العام هو أننا نبعث في حال حسنة عندما تثقل حسناتنا وأننا نبعث في حال سيئة عندما تثقل سيئاتنا.
122:
وبأي شيء يختلف كهنة البدهية عن كهنة الأديان الأخرى؟ كهنة الأديان الأخرى يزعمون أنهم وسائط بين الله والناس؛ ليعينوا الناس على نيل الغفران، وكهنة البدهية لا يعترفون بالقدرة الإلهية، فلا يأملون شيئا منها، ويجب عليهم، مع ذلك، أن يقضوا حياتهم على مذهب بدهة وأن يهدوا الآخرين إلى الصراط المستقيم، ويرى البدهيون أن الله ظل عظيم قذف به خيال الجهال في الفضاء.
128:
وبأي شيء تختلف البدهية اختلافا جوهريا عن الذي يسمى دينا بالمعنى الصحيح؟ بدهية الجنوب تعلم الصلاح من غير إيمان بالله، وتقول بدوام الوجود من غير الذي يسمى الروح، وبالسعادة من غير سماء ذاتية، وبالسلامة من غير رسول منقذ، وبالنجاة من غير طقوس وصلوات وتوبة ووسطاء من الكهنة أو القديسين، وإن شئت فقل بفرط الصلاح في هذه الحياة وفي هذه الدنيا.
135:
أفتقول البدهية بخلود الروح؟ يعد مذهب الجنوب «الروح» كلمة يعرب بها الجاهل عن رأي خاطئ، فإذا كانت الأشياء عرضة للتغير وكان الإنسان شيئا وجب أن يتغير كل جزء منه، فلا دوام مع التغير، ولا خلود مع التحول.
شكل 3-17: أحمد آباد. مسجد محافظ خان «أقيم في القرن الخامس عشر من الميلاد»، «يبلغ ارتفاع قسم المئذنة الظاهر في هذه الصورة 12 مترا وسبعين سنتيمترا.»
136:
إذا طرح المبدأ القائل بالروح البشرية جانبا، فما الذي يوحي إلى الإنسان بدوام وجوده؟ الرغبة في الحياة التي لا تروى لها غلة، فالموجود ذو الرغبة الذي يصنع ما يكافأ به أو يعاقب عليه في المستقبل يتناسخ بتأثير كرما.
137:
وما الذي يبعث؟ هو تكتل سكندا أو شخص جديد صادر عن تنضد الشخص الميت تنضدا أدبيا.
شكل 3-18: أحمد آباد. المحراب الرخامي المنقوش في المسجد السابق «يبلغ مجموع ارتفاع القسم المنقوش نحو ثلاثة أمتار.»
144:
وهل تكتل سكندا الجديد هذا أو هذا الشخص الجديد هو الموجود السابق نفسه؟ نعم، من جهة، ولا، من جهة أخرى، ففي أثناء حياتنا الحاضرة تتبدل سكندا تبدلا تاما، فمع أن ابن الأربعين فلانا هو الشخص نفسه أيام كان ابن الثامنة عشرة، يعد غيره لما اعتوره جسمه وذكاءه وأخلاقه من التغير، ويجزى وهو شيخ، مع ذلك، بما عمل من الصالحات وما اجترح من السيئات وهو شاب، والشخص الجديد الذي يولد إذ يولد متقمصا الشخص السابق مع تبدل قليل في الصورة أو يولد بتكتل سكندا فإنه يحتمل نتائج أعماله في حياته الأولى.
وإنني حين أختم تلك المختارات أقول مكررا: إن البدهية التي قامت في الهند في العصر البدهي فأفصحت عنها المباني تختلف عن المذاهب الفلسفية المذكورة آنفا، وإن قرابة هذه من البدهية دون قرابة النصرانية من الوثنية اليونانية الرومانية، وإن البدهية الصحيحة هي أكثر أديان الهند إشراكا ما أضافت آلهة جديدة إلى الآلهة البرهمية، وإن البدهية التي تنطق بها المباني هي ديانة، وإن البدهية المذكورة في الكتب التي وضعت بعد ظهور بدهة بستمائة سنة على الأقل هي مذهب فلسفي، وإن ما بين تلك الديانة وهذا المذهب من الهوة العميقة مثل التي تفصل التوحيد عن الإلحاد. (7) المجتمع البدهي
من يرد أن يتبين ما كان للأدب البدهي من الأثر الطيب في المجتمع فليطلع على مراسيم أشوكا، فهو يجدها مملوءة بالتعاليم التي أريد بها سيادة الوئام والسلام والمحبة بين الأنام، وليست تلك المراسيم شريعة سياسية كما ظن في أيامنا ، بل هي قوانين ذات صبغة دينية أرادها ولي الأمر المحب لرعاياه؛ لما فيها من البساطة والحسن وبذر الحب للآلهة وجميع المخلوقات.
وتختلف مراسيم أشوكا عن شرائع منو في ثلاثة أمور، وهي: (1)
حب الخير العام الشامل للحيوانات أيضا وحظر ذبح هذه الحيوانات. (2)
روح المساواة التي دعي بها جميع الطوائف إلى سماع الوعظ الديني والفوز بوعوده. (3)
التسامح الذي يرى معه أن في كثرة المذاهب الدينية سير البشرية إلى الكمال المطلق فيوجب احترامها جميعها.
كانت الحيوانات محل احترام في المجتمع البرهمي؛ لتجلي الروح العليا فيها بعض التجلي أيضا، ولأنها صور لآدميين تقمصوا فيها، في الغالب، بسبب آثامهم، بيد أنه كان لا يرى كبير حرج في قتلها، فكان الصيد من وسائل تسلية الملوك والأكشترية، ثم وضع أشوكا حدا لذلك فجاء في مرسوم له ما يأتي:
أجل، إن مئات الحيوانات تذبح في كل يوم لأغراض محمودة وإن من الجائز ذبحها لغاية مفيدة، ولكن تبين النية والغاية إذ يبدو صعبا فإن من الخير أن يكف عن ذبحها، ومن ثم يجب ألا يذبح حيوان فيما بعد.
واتخذت وسائل لبلوغ رفاهية الحيوانات والآدميين، فجاء في تلك المراسيم:
ستنقل الأعشاب والأشجار المثمرة التي تفيد الناس والحيوانات وتزرع في الأماكن التي لا تكثر فيها، وستحفر الآبار وتغرس الأشجار في الطرق العامة؛ ليستفيد منها الناس والحيوانات.
وفي البرهمية الأولى نص على أن الناس يولدون مرتين، والطوائف الثلاث الأولى وحدها هي التي كانت تدعى للتمتع بنعم الدين وسماع المواعظ، فكان يصب في أذني الشودري الذي يستمع إلى وعظ برهمي أو إلى قراءة الكتب المقدسة زيت حار، فإليك ما قاله أشوكا في ذلك:
سيعظ الواعظون البراهمة المحاربين والسائلين والمحرومين وغيرهم من غير عائق، ليدخلوا السرور إلى من يريد ويحلوا وثاق من هو موثق ويحرروا كل أسير، وسيحمل الواعظون جوامع الكلم ومبادئ البر إلى إخواني وأخواتي، ويشدوا أزر كل تقي، وينقذوا كل شقي في أرجاء دولتي.
وفي مراسيم أشوكا أروع مبادئ التسامح، فقد جاء فيها:
يقوم أصل مذهبنا وجوهره على أن تتبع دينك ولا تسب دين غيرك أو تحط من قدره، وأن تحترم الأمور الدينية مع ما بين العقائد من الاختلاف؛ لما في ذلك من زيادة إيمانك ونمو يقين غيرك، ففي كل دين نواح طيبة يحسن التمسك بها، ولا شيء، عند الآلهة المحبوبة، يعدل زيادة الإيمان ونمو الكمال الذي هو هدف جميع الأديان.
ولم تبق البدهية، على ما يظهر، دين الدولة زمنا طويلا كما كانت في عهد أشوكا، فلم يكد قرن واحد يمضي على وفاة هذا الملك حتى رجع بعض خلفه إلى البرهمية، وظلت البدهية، مع ذلك، دين الشعب المسيطر في ستة قرون أو سبعة قرون، فكانت زاهرة حينما ساح الحاج الصيني فاهيان في الهند من سنة 399 إلى سنة 414 بعد الميلاد، ثم زار الحاج الصيني هيوين سانغ الهند بعد ذلك التاريخ بقرنين فأبصر الانحطاط الذي آلت إليه البدهية، وشاهد في كل مكان هجر الناس لمعابدها وأديارها وتداعي هذه المباني، فلما انقضى ألف سنة على عهد أشوكا كانت البرهمية قاهرة للبدهية نهائيا، وكانت البدهية غائبة، كديانة، عن الهند، ولم تكن البدهية لتأفل كمبدأ أدبي، فلا تزال ذات نفوذ إلى أيامنا، وهي التي أوجبت ظهور البرهمية الجديدة التي هي ديانة الهندوس الحاضرة فندرسها في الفصل الآتي.
والحاج الصيني فاهيان ذلك قد قام برحلته في الهند بعد الميلاد بأربعة قرون؛ ليزور الأماكن المقدسة التي ولد فيها بدهة وعاش وامتحن ووعظ، وليباحث آئمة البدهية وينسخ الكتب المقدسة.
كانت البدهية في تلك الأثناء بالغة ذروتها، فكان البنجاب ووادي الغنج زاخرين بالأديار التي يقصدها ألوف الرهبان؛ ليتعلموا فيها أسرار الدين ويتبتلوا إلى التأمل العميق الدائم قبل أن ينعموا بنروانا، وتلك الأديار كانت تقوم على صدقات المؤمنين وهبات الملوك، وكانت مركزا للمعرفة ومقرا لحل المعضلات، وكان يسودها صمت زهد فتتم الأمور اليومية فيها بنظام مطلق، وفي تلك الأديار حل فاهيان ضيفا فوجد ثلاثة آلاف راهب يسكنونها فيجتمعون حول الموائد من غير أن يسمع لهم صوت ولآنيتهم ركز فقضى العجب من وقارهم وحيائهم واتزانهم.
وظهرت عدة مذاهب يمكن ردها إلى فرقتين، فرقة المحمل الكبير وفرقة المحمل الصغير، فتمثل الأولى الفلسفة البدهية وتمثل الثانية أدبها، وكانت الأساطير توضع وتنمو ثم تصبح من أصول الدين، وكانت الطقوس تنظم والأعياد والمواكب تزيد وكانت الصور والذخائر والزهور والعطور تجسم في هذا الفضاء الذي يتعذر على العامة أن تتخيله، فكان بذلك قيام الفلسفة البدهية.
شكل 3-19: أحمد آباد. مسجد راني سبري. دقائق زخرفية «القرن الخامس عشر من الميلاد»، «يبلغ ارتفاع القسم الظاهر في الصورة أربعة أمتار وخمسين سنتيمترا.»
وإذا نظرت إلى البدهية من ناحية الدستور الاجتماعي والطبائع رأيتها تتجلى في تخفيف الآلام وتقليل الضرائب وتسهيل العلائق ونشر السعادة وتعميم السلام بما يلائم طبيعة الهندوسي.
أجل، ظلت الطوائف باقية مختلفة عملا كما في الماضي، ولكنها بدت متحدة تسامحا ورفقا، فكشفت الكروب وأنشئت المشافي وأقيمت المرابط رمزا إلى الإخاء الذي يجمع بين جميع الموجودات.
ومقومات المجتمع الهندوسي تلك، وهي التي أبصرها فاهيان، هي التي تسود جميع الأقطار البدهية، وفترت في الهند بفعل البرهمية التي نهضت بعد زمن فكانت خاسرة لروعتها الأولى حينما أتم هيوين سانغ حجه في القرن السابع من الميلاد، وكان النصر لعنجهية البراهمية على مبادئ البدهية القائلة بالمساواة، وما قام به هؤلاء من مكافحة البدهية كان يعود عليهم بالفائدة، وما في الشعوب، ولا سيما الشعب الهندوسي، من احتياج إلى الآلهة الشخصية المنظورة جذب الجموع إلى الدين القديم بالتدريج، فأسفر ذلك عن خراب المعابد والأديار البدهية في كثير من الولايات، وأخذ بدهة يحتل في المعابد مكانا دون مكان وشنو وشيوا، وأضحت عاصمة البدهية السابقة باتلي بوترا خربة، وصار المكان المقدس بدهة غيا نفسه لا يأوي إليه سوى البراهمة.
وتطورات كتلك حدثت في النظام الاجتماعي، فبعد أن تكلم فاهيان عن حرية الزراع وقلة ما كانوا يؤتونه من الضرائب في زمانه روى هيوين سانغ أن مقدار الخراج الذي أخذوا يؤتونه واحد من ستة أي مثلما كان في زمن منو لا ريب.
وظلت العقوبات خفيفة مع ذلك، وكان يصار، في الغالب، إلى الماء والنار والسم في الابتلاء، كما كان يصار إليه في محاكماتنا الإلهية في القرون الوسطى.
وأثنى هيوين سانغ على أخلاق الهندوس فأعجب بشرفهم وبما نشرته البدهية من الرفق والمحبة بين جميع طبقاتهم، فذكر، على سبيل المثال، الأفراح العامة التي كانت تجمع بين ألوف الآدميين من جميع المذاهب والطوائف فيوزع الملك في أثنائها العطايا السنية على الجميع، لا فرق في ذلك بين البراهمة والشودرا، وبين البدهيين والملحدين.
ولكي يجيد هيوين سانغ الاطلاع على الفلسفة البدهية أقام خمس سنوات بدير نالندا الذي كان أشهر أديار الهند فكان يضم نحو عشرة آلاف راهب، ثم جاب هذا الحاج الصيني الهند فوصل إلى سيلان، ثم قطع الهند ثانية راجعا إلى بلاده فكانت الرحلة التي قام بها كالتي قام بها فاهيان فيما مضى تقريبا.
وأخذ نجم البدهية يأفل عن الهند بسرعة منذ ذلك الدور، أي منذ القرن السابع من الميلاد، فلم يلبث أن غاب عنها تماما، فكانت المعابد البدهية التي أقيمت فيها بعد القرن السابع قيلة جدا، ومن الأسباب التي أوجبت ذلك الأفول عن الهند كثرة الفرق التي انقسمت إليها، فعد هيوين سانغ ثماني عشرة فرقة منها فشبه حماستها في مجادلة بعضها لبعض بأمواج البحر، ونرى البدهية في هذا القرن التاسع عشر، كذلك، بعيدة من الوصول إلى وحدة العبادة والمذهب، فنجد فرقتين كبيرتين: إحداهما في الشمال والأخرى في الجنوب، تزعم كل واحدة منهما أنها على الحق وأنها حافظة لتراث بدهة.
والآن نذكر في بضعة أسطر المبادئ الأساسية التي يمكن استخراجها من هذا الفصل فنقول: إن البدهية الأولى لم تكن ديانة جديدة، بل كانت طورا من البرهمية التي لم تختلف عنها بسوى أدبها، وإنه نشأ بعد ظهور البدهية بزمن طويل مذهب فلسفي نشوءا موازيا لها، وإن أدب البدهية يرجع إلى أوائلها، فيلوح لنا أنه نتيجة آلام البشر، وإن بدهة كان أحد أكابر المعتكفين الذين هز صوتهم الدنيا هزا عنيفا لتقمصهم آمال الجنس.
وإن جذور الفلسفة كانت سائخة في تراب أقدم من ترابها، وإنها ظهرت حينما كان زهاد البرهمية المنهوكون المهزولون يفكرون ساكنين تحت الأشجار فكان الفناء مثلهم الأعلى قبل ظهور بدهة.
وإن البدهية إذ لم تكن دينا، وإن العالم إذ كان عاطلا من أي شعب يستغني عن دين، استردت البرهمية سابق منزلتها، وتم لها النصر بعد أن أخذت البدهية تتحول إليها، وإن البدهية التي يدين بها اليوم خمسمائة مليون من البشر ليست، بالحقيقة، سوى طور من البرهمية غير قريب من مثالها الأول؛ لنشوئها بعيدة من العالم البرهمي أي من العالم الهندوسي، وإن الفروق زادت مع الزمن باختلاف العروق التي اعتنقتها، وإن هذه الفروق تتدرج إلى الزوال لدى العرق الذي لاحت له البرهمية ولاح له إصلاحها.
ولا يمكن الافتراض القائل إن الاضطهادات العنيفة هي التي أدت إلى تواري البدهية عن الهند أن يقف أمام الوثائق التي عرضناها في هذا الفصل ولا أمام ثبوت الحماسة الغريزية التي صدرت البدهية بها عن البرهمية وثبوت تطور النفوس البطيء الذي عادت به إليها.
هوامش
الفصل الرابع
حضارة العصر البرهمي الجديد
وصف المجتمع الهندوسي حوالي القرن العاشر من الميلاد (1) العناصر التي يستعان بها في بعث العصر البرهمي الجديد
يبدأ العصر الذي نصفه الآن حوالي القرن الثامن من الميلاد أي حين توارت البدهية عن الهند تقريبا، فالبدهية، بعد أن سيطرت على الهند ألف سنة، خسرت سلطانها على النفوس، فماتت، فكان موتها دليلا على تبدل المجتمع، وبرهمية القرون الأولى هي التي حلت محل البدهية، ولكن مع ما اعتورها من تطور بالغ بفعل تلك البدهية.
شكل 4-1: إيلورا. قسم من مقدم معبد إندرا المصنوع تحت الأرض «في القرن السادس من الميلاد»، «يبلغ ارتفاع مجموع المقدم 11 مترا و20 سنتيمترا.»
شكل 4-2: إيلوار. داخل المعبد السابق المصنوع تحت الأرض «يبلغ ارتفاعه مترين و60 سنتيمترا.»
وفي العصر الذي انتهينا إليه كان النظام السياسي الذي أعان على انتشار البدهية، أي على اتحاد معظم الهند تحت سيد واحد، قد زال منذ زمن طويل، فقد انقسمت الهند إلى دويلات كثيرة ملكية مطلقة مستقلة متناجزة في الغالب.
وتاريخ العصر الذي ندرسه في هذا الفصل فيمتد من القرن الثامن إلى القرن الثاني عشر بعد الميلاد، أي الذي دام منذ أفول البدهية إلى دور المغازي الإسلامية، من أكثر التواريخ غموضا، فلولا ما وصل إلينا من مبانيه التي تنطق بعظمة الممالك التي ازدهرت فيه ما علمنا من أمره إلا قليلا، والمباني الخربة وبعض الكتابات والنقود والكتب الأدبية التي لا يعرف تاريخها هي كل ما بقي من وثائق ذلك العصر، وهذه الوثائق تكفي، مع ذلك، لإثبات أن ذلك العصر الجديد ليس أقل ازدهارا من الذي جاء قبله.
إذن، وثائق بعث المجتمع الهندوسي حوالي القرن العاشر قليلة جدا، وهي تؤدي، مع ذلك، إلى رسم خطوط الحضارة التي ندرسها في هذا الفصل.
وما تملأ به الهند من المباني العجيبة، فلا يقاس به ما أنشئ في القرن الأول من الميلاد، هو أهم وثائق ذلك العصر، فقد رأينا في الفصل السابق درجة وضوح هذه الكتب الحجرية التي تبدو صفحات هائلة فوق أرض الهند، فبهذه المباني نستطيع أن نقف على ما اعتور أديان الهند من التطور البالغ.
قامت المعتقدات الجديدة التي نبحث فيها الآن على أساس المبادئ القديمة التي تغلبت عليها البدهية عدة قرون، نعم، بعث الدين القديم، ولكن مع تبدل عميق بفعل البدهية من جهة وبفعل روح الأجيال الجديدة من جهة أخرى، وهذا الدين الذي نسميه «البرهمية الجديدة» هو الدين السائد اليوم، وهو الدين الرسمي لمعظم الهند الحديثة على الدوام، وهو وإن حولته الأفعال لم تتبدل أصوله، ونحن، حين ندرس هذه الأصول كما تبدو لنا اليوم، نتمثل ما كانت عليه منذ ثمانية قرون على وجه التقريب.
نتبين دين ذلك العصر بدرجة الكفاية بما انتهى إلينا من المباني والكتب إذن، وبالمباني نطلع على حال الحضارة الهندوسية في القرون التي مرت قبل الفتح الإسلامي، ومن دواعي الأسف أنها لا تفيد كثيرا في استخراج نظم ذلك العصر الغامض السياسية والاجتماعية، وهو الذي نسجت فيه شبكة ما في الهند من العادات والمعتقدات التي لا تزال تكتنفها.
وإذا كنا لا نستجلي نظم المجتمع الهندوسي السياسية والاجتماعية في ذلك العصر بما لدينا من المباني والكتب لم يبق لنا، لبلوغ ذلك، سوى البحث عن بقعة في الهند صانت نفسها، لعزلتها، عن المؤثرات الأجنبية فحافظت على النظام القديم، من غير تغيير كبير.
ومن حسن الحظ أن وجدت تلك البقعة فاستطعنا أن ندرس نظامها في زمن أوشك أن يغيب فيه، فإذا عدوت بعض أجزاء الدكن التي تسكنها عروق متأخرة لم تر في جميع الهند سوى بقعة واحدة تفلتت بفضل موقعها الجغرافي من المؤثرات الأجنبية فحافظت على نظمها وعاداتها القديمة وما فطر عليه أهلوها من خلق الحرية والاستقلال، وتلك البقعة هي المنطقة الجبلية الواسعة التي نصفها باسم راجبوتانا، وتلك البقعة هي البلد الهندي الوحيد الذي لا يزال يملكه حفدة قدماء الملوك ولا يزال ممسكا بتلابيب النظم الأولى وآثار الماضي مع تعاقب القرون، ونحن، إذ ندرس هذه النظم كما تبدو اليوم للباحث نتمكن من رسم صورة صادقة عن نظام ممالك الهند التي كان يسكنها أهلون من الآريين حوالي القرن العاشر من الميلاد. (2) المجتمع الهندوسي حوالي القرن العاشر من الميلاد
يمكننا أن نقيس الحضارة الهندوسية التي دامت من القرن الثامن إلى القرن الثاني عشر بعد الميلاد بالحضارة الأوربية في أواخر القرون الوسطى، وذلك عند النظر إلى المباني العظيمة وبعض الكتب الأدبية التي انتهت إلينا من ذلك العصر، فقد بلغت الفنون حينئذ دورها الزاهر في الهند، ويعدل ما شيد في كهجورا وجبل أبو وغيرهما من المباني العجيبة التي ندرسها في مكان آخر ما أسفر عنه الفن الغوطي من الآثار الجميلة، ولن تقوم آثار رائعة كتلك إلا في مجتمع غني مهذب مقدر للفنون مشتمل على فريق من كبار المتفننين، وليس بمجهول لدينا تاريخ مباني ذلك العصر، وهي كثيرة في شمال الهند وراجبوتانا وشواطئ أوريسة، وتؤلف أصدق ما لدينا من الوثائق عن ذلك العصر، وما وصل إلينا من كتب ذلك العصر الأدبية من أشعار وروايات فجدير بالذكر، وإن كان من الحذر الحسن ألا يستند إليها كثيرا لتعذر معرفة الزمن الذي صيغت فيه في الغالب: أهو نحو سبعة قرون أم نحو ثمانية قرون، ولكننا إذا علمنا أن الأمور تتبدل في الهند قليلا، وأن مضي القرون فيها كمضي السنين في سواها، أمكننا أن نقتبس من تلك الكتب بعض المعارف العامة التي نكملها بوثائق أصدق منها.
وعلى ما نقوله، تقريبا، من أن القصائد الحماسية الهندوسية الكبيرة المعروفة بالراماينا والمهابهارتا هي وليدة كل دور ما صححت وأكملت بما أضيف إليها في غضون عشرة قرون نرى أصلها أقدم من الميلاد، وأنها لا تصلح جيدا لاستنباط المعارف التي تطبق على العصر الذي ندرسه في هذا الفصل، وكل ما نرى الاعتماد عليه في هذا المضمار هو القطع التمثيلية التي تعد كاليداسا وسدراكا أهمها، ولا نعرف تاريخ هذه القطع التمثيلية بالضبط، ويلوح لنا، مع ذلك، أنها وضعت بعد القرن الأول من الميلاد وقبل القرن العاشر من الميلاد، وإذ إن ما يستنبط منها لا يختلف عما يستنبط من المصادر الأخرى نقتصر على اقتباس وصف موجز لإحدى المدن الهندوسية الكبيرة وللمجتمع الهندوسي، وهذا الوصف يوجد في رواية سدراكا «مركبة الصلصال»
1
التي تمر من أوجين عاصمة مالوا ذات المباني الخربة في الزمن الحالي.
شكل 4-3: إيلوار. معبد كيلاسا المصنوع من حجر واحد «القرن الثامن من الميلاد.»
2
وما جاء في تلك الرواية من وصف القصور والبيوت والمعابد يقضي بالعجب وينال الباحث منه الأرب، وليس في هذا الوصف ما يوصم بالمبالغة ما شهد به من زار مباني غواليار وكهجورا وجبل آبو، فقد رسم واضع تلك الرواية أمامنا، بوصف ساحر، صورة قصر رخامي مرصع بالحجارة الكريمة ذي رداه مجهزة بصفائح ذهبية موشاة بالألماس وذي قناطر من العاج المنقوش وذي جدر محاطة بحدائق وأزهار زاهية مشتملة على متكآت مظللة، وحدثنا عن معابد رائعة منعكسة على مياه النهر مشتملة على محاريب حافلة بالأسرار عامرة بكاهنات سافرات ذوات كعوب ومعاصم محاطة بخلاخل وأسورة من ذهب وفضة تجلجل باتزان عندما يرقصن أمام الآلهة بانسجام.
ومن أزهى دور تلك المدينة دار الخليلة الكبرى وسنت سينا التي كانت من أهم وجوهها، وقد كان للخليلات في ذلك العصر من الشأن العظيم مثل ما كان لهن في عصر بريكليس اليوناني، ومن ينعم النظر في الخلاصة الآتية التي أقتبسها من رسالة لمسيو سوبه فوصفت فيها تلك الدار يعلم ضئولة نفائس الخليلات في زماننا إذا ما قيست بها.
في تلك الدار رداه ثمان وفسيفساء رائعة، وزرابي
3
لامعة وحنايا
4
مرصعة بالعاج ومزينة بالرايات، وعمد تعلوها آنية من بلور، وصفائح من الإبريز
5
ساطعة، وقباب مزينة، ومعارج
6
رخامية، ومنافذ ذوات قلائد من لؤلؤ، وفي أصابل
7
تلك الدار بقر وجواميس وكباش وخيل وقردة وفيلة، وفي تلك الدار موائد قمار ليجلس حولها صفوة فساق أوجين ومطربون من كل نوع ومغنون وراقصات وممثلون وقاصون ممتثلون لأوامر الخليلة الكبرى، وفيها مطابخ واسعة عامرة تذكر النهم متريا بجنة إندرا، وفيها حوانيت للعطور ومصانع للحلي فيتألف منها سوق، وفيها كتيبة من الخدام أو الإمعين
8
الذين يتنادرون ويضحكون ويلوكون المسك ويعلكون التنبل
9
ويقصفون،
10
وفيها حياض ذات مياه مزعفرة،
11
وفيها حظائر للطيور مذهبة حيث تهتز الببغاوات والزراريق والطواطي والحجلان
12
والسلوى
13
والطواويس والإوز، وفيها حديقة نضرة علقت فيها أراجيح من حرير.
والمجتمع في أوجين، كما في زمن ميغاستين وفي زماننا، قائم على نظام الطوائف، والمهن فيه وراثية، ويتألف منها سلسلة معقدة يرأسها البراهمة في كل حين، وتجد بين البراهمة زاهدين، وتجد بينهم مترفين مسرورين، وتجد بينهم هواة الشهوات والنساء الجميلات من غير أن يؤثر هذا في مقامهم.
ويكون ولي الأمر ملكا مطلقا على الدوام، ولا شيء يقيد سلطانه غير ما يحاك حوله من المؤامرات التي تهدده بلا انقطاع، فلا يستطيع حارسوه من الأكشترية أن يحبطوها في كل مرة، ويظهر أنه كان يحكم بالعدل على ألا يكون أحد الخصوم قويا، ففي الهند، كما في أوروبا، يقضى للقوي إذ ذاك.
وفي مقدمة تلك الرواية، التي وضعت بعد زمن، ذكر لأكثر المعارف اعتبارا، فقد مدح فيها ملك لاطلاعه على كتب الويدا والرياضيات والفنون الجميلة ومهارته في تربية الفيول.
وإذا لم نسطع أن نتمثل جيدا حياة الملك اليومية وكبار الأمراء الذين يقلدونه بحكم الطبيعة في ذلك العصر من تلك الرواية فإننا نتمثلها من الأقاصيص الهندوسية الأخرى، ولا سيما الأقاصيص ال 32 المعروفة بأقاصيص «العرش المفتون».
فالملك بعد أن يستيقظ صباحا على صوت آلات الطرب يقوم بواجباته الدينية ويوزع الصدقات، ثم يتمرن على استعمال السلاح، ثم يجمع وزراءه ويدبر الأمور.
فإذا ما حل وقت الظهر صلى وتغذى وقال،
14
ثم تنزه في حدائق القصر ذوات الظلال، محاطا بنسائه وبالراقصات مقتطفا أزهارا مترنما متمايلا فوق أرجوحة من حرير، إلخ.
وإذا ما حل وقت المساء قام بالواجبات الدينية، وتعشى وتلهى بضروب اللهو من غناء ورقص وموسيقى إلى أن يأوي إلى حريمه.
والبرهمية هي دين مدينة أوجين الرسمي على حسب ما جاء في رواية «مركبة الصلصال»، والبدهية، وإن وجدت حينئذ، لم تكن غير مذهب الرهبان السائلين، أي كانت في دور الأفول، وفي هذا دليل على أن تلك الرواية ليست من القدم في الدرجة التي افترضت لها، أي إنها وضعت حوالي القرنين السابع والثامن بعد الميلاد، ويلوح، مع ذلك، أن التسامح بين تينك الديانتين كان تاما.
على أننا لا نضطر إلى أي كتاب لتعرف دين الهند حوالي القرن العاشر من الميلاد ما دامت معابد ذلك الزمن تخبرنا ذلك بوضوح، فالبدهية كانت آفلة وكانت البرهمية قائمة في محلها، وأضحى السلطان للآلهة التي كانت ثانوية في العصر البرهمي الأول كشيوا ووشنو، فاقتسمت هذه الآلهة المعابد، وتنافس آلهة البرهمية، مع ذلك، آلهة المذهب الجيني القريب من البدهية والذي مثل، على ما يظهر، دورا مهما في القرن العاشر كما تنطق به فخامة معابده، وهذا مع القول إن المذاهب الثلاثة، الجيني والشيوي والوشني، كانت على وئام وكانت متساوية في المرتبة لما تدل عليه أطلال كهجورا من تماثل معابد هذه المذاهب الثلاثة التي أنشئ بعضها بجانب بعض كالكنائس التي أقيمت في أوروبا تمجيدا لضروب القديسين.
شكل 4-4: إيلورا. دقائق قسم من نقوش معبد كيلاسا.
ولا نسهب الكلام في الدين الهندوسي في القرن العاشر من الميلاد، فبلغ هذا الدين من مشابهة دين الهند الحاضر ما لا نرى معه فصله عنه، فنحيل القارئ، إذن، على الفصل الذي خصصته في قسم آخر من هذا الكتاب للبحث في دين الهند الحاضر.
وإننا بعد أن ألقينا نظرة خاطفة على النواحي الخارجية من الحضارة الهندوسية القديمة التي دام أمرها بين القرنين الثامن والثاني عشر بعد الميلاد نرى أن نبحث في نظام معظم الهند الآرية السياسي في ذلك العصر فنستند، كما قلنا آنفا، إلى دستور الممالك التي حافظت وحدها على نظامها القديم، أي إلى ممالك راجبوتانا. (3) نظام ممالك الهند الآرية السياسي والاجتماعي حوالي القرن العاشر من الميلاد
تغشى صحراء تهار النصف الغربي من المنطقة الواقعة بين السند وجزيرة كاتهياوار وجمبل والغنج والمسماة راجبوتانا، وتغشى النصف الشرقي منها التلال الجديبة الكثيرة الآجام البالغة أقصى علوها بسلسلة جبال أراولي، ففي منطقة راجبوتانا الجبلية هذه يقطن من افترضوا أنهم حفدة الأكشترية الآريون الذين يعرفون بالراجبوت أو أبناء الملوك فلا يزالون محافظين على استقلالهم تقريبا.
ويتألف من الراجبوت أجمل عروق الهند وأصفاها على الأرجح، والراجبوت هؤلاء أهل لأن يقاسوا بفرسان القرون الوسطى الذين غادروا أوروبا؛ ليستولوا على القبر المقدس، وذلك لما اتصفوا به من طول القامات وانسجام الملامح ووضاءة البشرة وشمم الأنوف وحسن البزة ومضاء السلاح.
ويذكرنا ما يزين به الراجبوت جيادهم من الجهاز الفاخر وما ينشرونه من البنود في ميادين القتال وما يتخذونه من رموز الأسر بعاداتنا الإقطاعية وبطبقة الأشراف عندنا، ولذا يسهل علينا أن ندرك السر في اعتقاد الأوربيين الذين درسوا نظام راجبوتانا سابقا اشتمال هذا النظام على صورة قروننا الوسطى الإقطاعية غافلين عن الفروق العميقة التي تفصله عن نظامنا الإقطاعي القديم.
ولا تقتصر أوجه الشبه الظاهرة بين نظام راجبوتانا ونظامنا الإقطاعي على ما ذكرناه، فالراجه الراجبوتي يسكن حصنا ويسوس ما يملك من هذا الحصن كما كان يصنع الدوكات والكونتات والبارونات في أوروبا.
ومما يحدث أحيانا أن يتخلى الراجه عن قسم من أملاكه لقريب له فيصبح مولى لهذا القريب التابع، فيكون هذا القريب التابع ملزما نحو مولاه بالخدمة العسكرية، فإذا لم يمتثل أوامره أو اقترف عملا شائنا عزل وطرد وأعاد ما ملك إلى مولاه، وتهيمن هذه الطبقة الأريستوقراطية العسكرية على الزراع الذين هم من الطبقة الدنيا، فيدفعون إلى الراجبوت في أوقات معينة قسما من غلات ما يزرعون، ويسخرهم الراجبوت، فهؤلاء هم الشودرا الذين يشابهون فدادي
15
أوروبا في القرون الوسطى.
وللمرأة مكان عال وشأن مهم عند الراجبوت كما كان لأخواتها في عصر الفروسية الأوربية، ومن أجل المرأة وحدها كانت الحروب تشتعل، في الغالب، بين الملوك المتنافسين.
وما كان على المرأة التي تهضم حقوقها أو يطعن في شرفها إلا أن ترسل سوارها إلى مبارز باسل لكي يمتشق حسامه في سبيلها مسرورا.
وما أكثر ما كانت المدن تقاسي فنون الحصار دفاعا عن حسناء يطاردها عدو عاشق، فيبدي حماتها ضروب الشجاعة، وما كان العدو ليصل إلى الحسناء مهما كانت نتائج القتال، فإذا ما شعر أنصارها بحبوط الدفاع أعدوا لها موقدا، ثم صعدت فيه طائعة معهم وقتلوا أنفسهم على حين تفيض روحها بين اللهب.
وكانت المرأة الراجبوتية تتصف بالشجاعة، فقد حاربت غير مرة بجانب الأبطال من بني قومها مفضلة الموت على التسليم، ومن ذلك أن الراجبوتيات صعدن بالألوف فوق المواقد في أثناء حصاري جتور المشهورين لكيلا يسبيهن الأعداء.
وتقول راجبوتانا بمبدأ تعدد الزوجات كما تقول به بلدان الهند الأخرى، بيد أن إحدى الزوجات تكون مفضلة، فكانت تحرق نفسها فوق الموقد عند موت زوجها، ومما كان يحدث أن تماري الزوجات، أحيانا، في أيتهن كانت المفضلة طمعا في نيل شرف الاحتراق عند موته، وإذا كان الملك هو المتوفى كان من التقاليد أن يحرق جميع أزواجه أنفسهن، ولا يزال يرى بين قبور أوديبور الملكية ضريح يشتمل على رفات الملك سنغرام سنغها وزوجاته الإحدى والعشرين اللائي حرقن أنفسهن فوق موقده في سنة 1733.
وما تتمتع به المرأة الراجبوتية من الاحترام يشابه ما كان لأخواتها الأوربيات في القرون الوسطى، كما يدل عليه ما كان من تغني الشعراء الجوالين بمثل تغني زملائهم بولائم أمراء النصارى الإقطاعيين وبالألعاب الحربية ومعاني الحب وجمال الحسان وامتشاق الحسام.
شكل 4-5: إيلورا. تماثيل في معبد دومارلينا المصنوع تحت الأرض «القرن الثامن»، «يبلغ ارتفاع التمثال الكبير خمسة أمتار.»
إذن، ليس من العجيب أن يرى الباحثون شبها بين مجتمع ذلك نظامه والمجتمع الإقطاعي أيام الحروب الصليبية، والآن نبين ما ينطوي تحت تلك المماثلات الظاهرة من فروق عميقة.
يتصل طور المجتمع الراجبوتي الراهن بطور الحضارة الذي تقدمه رأسا، لا بالنظام الإقطاعي، وما تراه في أوروبا الآن من الدول الكبرى فهو وليد جمع سار من طور الفرد الهمجي إلى طور الأسرة فإلى طور القبيلة فإلى طور الشعب فإلى طور الإقطاع فإلى طور الأمة.
ليس النظام الراجبوتي بقائم على الإقطاع، بل على النظام الشعبي.
والشعب ليس إلا أسرة مكبرة، ويستحيل على الأسرة أن تصبح شعبا قبل أن تجاوز الطور القبلي.
ولنفترض أن هنالك مجتمعا همجيا مقسوما إلى أسر، وأنه ظهر من هذه الأسر شخص مقدام مقحام خلق للقيادة، وأن خصومة نشبت أو أرضا ضاقت أو مطامع حول مكان آخر ثارت حين بلوغ ذلك الشخص سن الرجولة فإن ذلك الرجل الجسور لا يسير وحده بحكم الطبيعة بل يستعين برجال أسرته الذين اتفق له سلطان عليهم فيتبعونه بحماسة، ثم ينضم إليه رجال من الجيران والأفاقين والمنحطين والمجرمين، ثم يمضي هو وصحبه هؤلاء قدما فيستولون على أرض عنوة فيستقرون بها فيقيمون حولها حاجزا فينتحلون، كعصابة، اسم زعيمهم ويعدونه أبا تمييزا لهم من المجاورين المعادين.
ذلك أمر رومولوس وصحبه، وذلك أمر داود في مغارة عدلام.
ولا تصبح هذه القبيلة المصنوعة، التي تألفت من اجتماع أفاقين مختلفي الأنساب تحت قيادة زعيم، شعبا إلا بعد حين، أي عندما تنسى فروق الأنساب بين هؤلاء الأفاقين فيستطيع حفدتهم أن يدعوا أنهم من ذرية مؤسس القبيلة الأول، فتكون رآستهم لأكبر أبناء هذا المؤسس.
ومن ثم ترى أن عد أبناء الشعب الواحد أنفسهم ذرية جد واحد لم يقم على غير الافتراض الوهمي، ومهما يكن من وهم في هذا الافتراض فإن قولنا ذلك يكفي لتمييز الشعب الراجبوتي من الإمارة الإقطاعية الأوربية، فمع أن أتباع الأمير الإقطاعي دونه منزلة ولا يرتبطون فيه فلا يحتملون نيره إلا لضعفهم تجد أبناء الشعب الراجبوتي يرون أنفسهم إخوانا لرئيسهم مساوين له وارثين الشرف مثله كابرا عن كابر، ولهؤلاء الأبناء ما لرئيسهم هذا من حقوق الإكرام، وهو إذا خاطبهم فكما يخاطب الأخ الأكبر إخوته الصغار الذين لهم ما له من المصالح فلا يمتشقون الحسام معه إلا لحماية هذه المصالح المشتركة، ولا يبدو سلطان هذا الرئيس مطلقا إلا أمام العدو في الحرب كما يبدو سلطان القائد العام في جميع البلدان.
وما كانت قيادة الجيش، التي هي أهم المناصب في دولة حربية منظمة، لتترك الصبي، فمما كان يحدث، أحيانا، أن تقطع ممارسة الحكم لدى الشعوب الراجبوتية عندما يئول العرش إلى عاجز عن القيام بأعباء الملك، فيفوض أمره إذ ذاك إلى ابن عم الكلالة،
16
فيختار الملك الراحل قبل وفاته، أو زوجاته بعد وفاته في الغالب، الوارث للعرش بطريقة التبني على أن يوافق بقية أفراد الشعب على هذا الاختيار.
والراجبوت حافظوا على استقلالهم بفضل هذا النظام المتين الذي يعدون به أبناء أسرة واحدة وبفضل شجاعتهم وموقع بلادهم الجبلي، فعاملهم المغول كحلفاء، لا كرعايا، حتى بعد استيلائهم على عاصمتهم جتور، ويداريهم الإنجليز إلى أقصى حدود المداراة.
ورفض مهارانا أوديبور كل صلة نسب بملوك المغول في إبان سلطانهم، وبدا سليله أمير الهند الوحيد الذي رفض حضور اجتماع أمراء الهند حينما نودي بملكة إنجلترا إمبراطورة على بلاد الهند رادا إلى نائب الملك «قلادة كوكب الهند العظيمة الشأن»، قائلا بهزء إن أحدا من أجداده لم يحمل شعار الذل والعبودية، واليوم يتمتع مهارانا أوديبور، بشأن رفيع بين ملوك الشعوب الراجبوتية وفي جميع الهند؛ لكرم محتده وصفائه مع عطله من أي سلطان عسكري مهم.
17
والراجبوت يقولون بمبدأ الزواج من خارج العشيرة، والراجبوت لكي يحافظوا على هذا القانون المطلق محافظة واضحة قوية لا يزالون يمارسون عادة خطف الخطيبة الرمزي بعد أن كانوا يأخذون عرائسهم غصبا فيما مضى.
والراجبوت لكي يحفظوا بناتهم من الزواج بغير كفؤ زواجا ينشأ عن اختطاف من هم دونهن شرفا لهن، ولكيلا يكابدوا نفقات الأعراس الباهظة، اتخذوا عادة قتلهن طفلات، وقد أخذت هذه العادة الوحشية تزول في الوقت الحاضر.
ونحن مع إمكاننا أن نعد الراجبوت كهندوس استطاعوا أن يحفظوا تقاليد عرقهم من المؤثرات الغريبة بفضل مناعة منطقتهم لا نعتقد أن الهند كانت تنال مثل ما نالوه لو لم يعق تطورها الغزاة من الأجانب، فاعتقاد غير هذا يكون عند نسينا الروح الطائفية التي تحول دون نمو الروح القومية، تلك الروح التي ظلت مؤثرة مع قلة أهميتها في دور اليقظة البرهمية العامة.
شكل 4-6: إليفنتا. أعمدة المعبد الكبير المصنوع تحت الأرض «القرن الثامن من الميلاد»، «يبلغ ارتفاع الأعمدة إلى سطحها خمسة أمتار.»
ولم تبق الدولة الراجبوتية، التي تشبه نخاريب النحل المنضد بعضها فوق بعض تنضيدا هندسيا، متماسكة في الراجبوتانا؛ لأن العدو لم يحملها على انتحال قوانينه فقط، بل لفتور الراجبوت المحاربين الديني الذي نشأ عن انهماكهم في الأعمال العسكرية في بيئة خشنة غير صالحة للتأملات اللاهوتية.
ومن السهل بيان ما للروح الدينية في بقية الهند من التأثير المفرق في كيان الشعب بأن نقول إن لهذه الروح من العمل في كيان الشعب الأدبي مثل ما يكون للنظام المدني والحربي من العمل في نشوء الشعب، فما تراه في الهند من تعدد الطوائف منذ قرون يتم ظهوره بمثل ما يتم به ظهور أحد الشعوب، ومن ذلك أن طريدا شاردا خاسرا لطائفته يرفع راية الإصلاح الديني بإقدام فينضم إليه بعض المريدين، فإذا ما كان لبقا بخيتا فاستطاع أن يلعب ببعض المشاعر عد مؤسسا مذهبا جديدا، وإذا ما ذاع أمر هذا المذهب الجديد انقلب إلى طائفة جديدة.
وإليك، إذن، الطائفة التي هي دائرة قرابة جديدة والتي تظهر خارج الشعب الذي هو دائرة القرابة الأولى، مع اختلاف سنن الدائرتين وتناقضهما أحيانا، وكل هندوسي حقيقي ينتسب إلى طائفة وشعب معا، ولا يجوز له أن يتزوج إلا بفتاة من طائفته على أن تكون من غير شعبه، وتبصر النظام المعقد المختلط الغريب في أعين الأوربيين الذي يمكن أن تنتهي إليه الهند لو سمحت لها الأحوال بأن تسير طليقة وراء مثلها الاجتماعي الأعلى وهدفها الديني الأسمى، وهذا الهدف الديني وحده هو ما وصلت إليه الهند التي يكفي ما فيها من اختلاف الطوائف لقلب خيالاتنا الأوربية.
ولم يتفق للراجبوت، بانتظام، ذلك التبلر الذي يحول فريقا من الهمج إلى شعوب منفصلة إذا لم يكدر، ولم يحافظوا عليه إلا بسبب الفتور الديني الذي ذكرناه آنفا، وتبلر كهذا قد يشاهد في مرحلته الأولى لدى بعض همج الهند كالبهيل، ولكن الشعب عند هؤلاء ليس دائرة مقفلة تماما، وليست الأنكحة محظورة عندهم إلا ضمن دائرة القبيلة.
وكل شيء يسوغ لنا أن نرى معظم الهند الآرية في القرن العاشر من الميلاد على الصورة التي نرى بها الآن دويلات راجبوتانا المستقلة، ومن أجل ذلك اتخذناها أمثلة على نظام الهند السياسي والاجتماعي قبل الفتح الإسلامي.
ولا نستطيع أن نكمل، كما فعلنا في فصل آخر، ما ذكرناه آنفا بما رواه سياح من الأجانب، وما ورد في رحلة الرحالة العربي ابن بطوطة لا ينطوي على شيء كبير، وليس أتم منه ما جاء في رحلة ماركوبولو السائح الأوربي الوحيد الذي زار الهند في القرن الثالث عشر، وهاتان الرحلتان جديرتان بالذكر مع ذلك؛ لأنهما كل ما لدينا من الوثائق الأجنبية عن جنوب الهند في القرن الثالث عشر.
وما رواه ماركوبولو من المعارف يدور حول الحضارة الدراويدية في جنوب الهند على الخصوص، ولم نتكلم عن هذه الحضارة في هذا الفصل لنقص الوثائق، ومما قصه هذا الرحالة الشهير أنه وجد في ساحل كوروميندل أناسا سودا عراة عبادا للبقر مقسومين إلى طوائف، وأن المنبوذين وحدهم كانوا يأكلون لحم البقر، وأن هؤلاء المنبوذين كانوا يستخدمون جزارين لذبح الحيوانات الأخرى؛ لأن ذبح كل ذي حياة كان يعد جرما.
وقد أعجب ماركوبولو ببهاء الحجارة الكريمة التي كان أولئك السود يزينون بها، والتي كانت تأتيهم من مناجم غولكوندا على ما يحتمل.
وكان أولئك القوم يتكلمون بلغة التمول، وكانوا مقسومين إلى خمس ممالك تكلمنا عنها في الخلاصة التاريخية، وكانت هذه الممالك واقعة في الدكن، وكان يملكها خمسة إخوة.
وكان ملوك التمول يباهون بعدد نسائهم، فكان لديهم نحو خمسمائة امرأة، فكانت أرواح هؤلاء النسوة تفيض فوق الموقد عند وفاة أزواجهن.
وبلغ ماركوبولو ساحل ملبار الذي كان يقطن فيه قرصان مقاديم، وبلغ كوكن حيث وجد أناسا هادئين مشهورين بشرفهم وصدقهم.
وأعجب ماركوبولو بكثرة مدن كجرات وبغناها وبازدهار تجارتها وبصناعاتها الخاصة، ولا سيما صناعة جلودها المرصعة الموشاة التي كان الأهالي يصنعونها بفن عجيب، وباحترام أهاليها للحيوانات والبراهمة، ومما شاهده أناس عراة من البراهمة «اليوغويس» كانوا يعيشون من الصدقات كما في أيامنا، وأناس قباح يهملون أبدانهم ويطلقون لحاهم وشعورهم وأظفارهم ويقتلون أنفسهم جهرا ويبدون أبشع المناظر.
وجزئيات الظواهر أكثر ما عني به ماركوبولو، فلم يكن باحثا كهيوين سانغ أوفاهيان، فلا نرى في رحلته كبير طائل.
وعلى ما تراه من نقص الأسانيد التاريخية تجدنا قد بعثنا قسما غير قليل من المجتمع الهندوسي في القرن العاشر، فوجدنا للوصول إلى ذلك ما هو أحسن من مذكرات المعاصرين، وجدنا في دويلات راجبوتانا صفحة حية مقتطعة من تاريخ الهند في الأزمنة التي أردنا وصفها فظلت سليمة إلى أيامنا، فعلى الباحثين أن يسرعوا في فك رموزها وتفهمها قبل أن تطمس الحضارة الأوربية الحديثة معالمها، فالحضارة الأوربية، وإن كانت دون الفتوح قسوة، أشد منها تخريبا.
هوامش
الفصل الخامس
حضارة العصر الهندي الإسلامي
وصف المجتمع الإسلامي في الهند حوالي القرن الخامس عشر (1) تأثير المسلمين في الهند: العروق الإسلامية في الهند
يبدأ العصر الإسلامي في الهند في القرن الحادي عشر وينتهي من الناحية السياسية في القرن الثامن عشر من الميلاد، وهذا العصر عرف أحسن مما عرف أي عصر جاء قبله بفضل مؤرخي المسلمين.
والهند خضعت في القرون السبعة التي دام فيها سلطان المسلمين لفاتحين من العرب والأفغان والترك والمغول القائلين جميعهم بدين محمد وخلفائه ونظمهم.
وكان لهؤلاء الفاتحين الأثر البالغ في لغة الهند ومعتقداتها وفنونها، ولا يزال هذا الأثر باديا، فتجد في الهند خمسين مليونا من الهندوس يعملون بشريعة القرآن، وتجد الناس يتكلمون في قسم كبير منها بلغة مشتقة من لغة السادة السابقين.
وفي فصل سابق درست تاريخ الهند فذكرت مؤكدا تأثير المسلمين العظيم في جميع البقاع التي خفقت فوقها رايتهم؛ ففي مصر، مثلا، قاموا بعمل أخفق الإغريق والرومان في القيام بمثله، أي إنهم حولوا لغة شعب كانت له أقدم حضارات العالم وحولوا دينه وفنونه، فلم ينشب أبناء الفراعنة، حين اتصلوا بالمسلمين، أن نسوا ماضيهم الذي بذل العلم الحديث جهودا كبيرة لبعثه.
والتحول الذي تم في جزء من الهند بفعل المسلمين هو دون التحول الذي وقع في مصر، ففي الهند كان للمغلوبين من الأثر في الغالبين ما لم يحدث مثله في أي بلد خضع لأتباع محمد، فبعد أن كان للحضارة الجديدة التي أدخلها الأفغان والترك والمغول إلى وادي السند ووادي الغنج فعل عظيم في الحضارة القديمة التي كانت فيهما لم تلبث أن تأثرت بها فأسفر هذا عن ظهور حضارة ثالثة مشتملة على عناصر تينك الحضارتين بالتساوي تقريبا، وتسمى هذه الحضارة الثالثة بالحضارة الهندية الإسلامية.
ولم يخل العصر الهندي الإسلامي من مؤرخين، ولو لم ينته إلينا من هذا العصر مخطوطات كافية لتنوره لأمكننا ذلك من البحث في المباني الكثيرة التي شيدت فيه فدلت على اختلاف المؤثرات الإسلامية باختلاف الأقطار، فمن هذه المباني نعلم أين كان أثر المسلمين البالغ وأين تغلبت عليه العبقرية الهندوسية، وما تجلى في المعابد والقصور من ضروب الفنون يدلنا، كذلك، على مصدر الأسر المالكة التي كان لها السلطان على الهند؛ لما تحمله هذه المباني من الطابع الفني الخاص بكل واحدة منها، ويمكن القارئ أن يتبين تاريخ المسلمين في الهند من الصور التي نشرناها في هذا الكتاب عن فن عمارتهم.
ولم يكن المسلمون الذين استولوا على الهند غير مرة في عهد محمود الغزنوي وتيمور لنك وبابر وغيرهم من عرق واحد، فغزاة المسلمين الأولون كانوا من الأفغان والترك، وغزاة المسلمين الآخرون كانوا من المغول مع شيء من التمازج، وأما العرب الذين هم أتباع محمد السابقين فلم يقيموا مستعمرات مهمة في الهند وإن كانوا يجيئون إليها، في الغالب، من بلادهم مجاوزين بحر عمان للتجارة فينشئون المستودعات، ويستولون عنوة على أملاك في السواحل الغربية نحو مصب نهر السند.
وإن مغازي جموع المسلمين الزاخرة التي انقضت على الهند في ثلاثة قرون أو أربعة قرون من ثغرة كابل الدائمة الانفتاح هي أخرى المغازي التورانية، ومن التورانيين، على الخصوص، أصحاب بابر المغول ذوو الوجوه المسطحة والجلود الكامدة والعيون الحادة الأفقية الغائرة والوجنات البارزة والشعور السود المنسدرة
1
واللحى المعرة،
2
ويختلف هؤلاء المغول الذين هم إخوان هون أتيلا وكلموك الأورال كثيرا عن الأفغان ذوي الخدود الضيقة والأنوف المنقارية وعن الترك ذوي العيون النجل والجلود البيض والوجوه المتناسبة الصفيقة.
وكان المغول فاتحين لجميع آسيا تقريبا ومهددين لأوروبا حينما وصلوا إلى الهند، ولم تؤسس دولة واسعة بسرعة كالتي أسسوها، وهؤلاء القوم بينما كانوا يرعون مواشيهم في مراعي سيبرية العظيمة المملة استحوذت عليهم روح حرص غريبة طائشة فانقضوا بغتة على العالم لفتحه سائرين وراء خيال يختلف عن مطامع الجمهورية الرومانية المنظمة الفاترة وحمية العرب الدينية، ذلك الخيال القائم على الفتح العالمي للتلهي بالفتح نفسه، وإن شئت فقل: لإذلال الأمم أمام رايتهم، ولحملها على التسبيح بحمدهم، ولوضع جبروت رئيسهم الأعلى الخان الأكبر فوق البشر.
شكل 5-1: إليفتنا. أعمدة في المعبد السابق.
يبدو جنكيز خان وتيمور لنك في التاريخ كابوسين مكللين بتاجين من النار والدم، وتجد ناحية غير مدركة يعظم بها شأنهما الهائل المرهوب، وهي ما تراه فيهما من التناقض المترجح بين الوحشية والتسامح، وبين الجبروت الذي كانا يذبحان به الخلائق عند أقل مقاومة والحلم الذي كانا ينحنيان به أمام آلهة المغلوبين، وبين همجيتهما التي كانا يقيمان بها، بدم بارد، أهراما من هام
3
المقهورين وحبهم للآداب والفنون والعلوم الذي تحول به كثيرون من قومهم الأجلاف إلى أدباء وعلماء.
كان دين المغول الفطري قائما على عبادة قوى الطبيعة، شأن جميع الديانات الفطرية تقريبا، فكانوا يعبدون الشمس والأرض والخيل، ثم انتحلوا أكثر معتقدات الأمم المغلوبة بالتتابع مضيفين هذه الآلهة بعضها إلى بعض، وإذا عدوا من فاتحي الهند المسلمين فلأنهم كانوا حين دخلوها متصلين، منذ زمن طويل، بأمم مسلمة كالفرس والأفغان والترك، ولأنهم كانوا مشبعين من حضارة العرب المهيمنة على غرب آسيا.
ومن الحظ الحسن أن لقي تسامحهم الكبير تسامح الهندوس فبذلت جهود في أيام دولتهم لدى الغالبين والمغلوبين لصهر مختلف المعتقدات بعضها في بعض، وإخراج ديانة واحدة منها ، فهذا ما سعى إليه مؤسس مذهب السك المصلح نانك، وهذا ما سعى إليه الملك أكبر وآخرون، فعلى ما حبطت به تلك الجهود فلم يتفق للهند دين واحد ظل بعض أديان الهند يمارس بجانب بعض من غير تنازع.
وسنرى، حين البحث في أديان الهند الحديثة، ما هو أمر الإسلام فيها وما هي التطورات التي اتفقت له، وهو دين التوحيد؛ ليلائم روح الإشراك في الشعوب التي اعتنقته، والآن نقتصر على البحث في المؤثرات العرقية التي نجمت عن المغازي الإسلامية.
من الشطط أن يقال إن تلك الغزوات أسفرت عن ظهور عرق جديد، فكان الغزاة من القلة ما لا يتعذر معه أن يصهروا في جموع الأمم المغلوبة، والغزاة أولئك كانوا مولدين مع ذلك.
ولم يلبث المغول، المتصفون بروح التسامح والتوفيق، أن أرادوا الاتحاد بسكان الهند الذين وجدوهم مستقرين بها، فتهافتوا على الزواج ببنات الراجبوت، فلم تعتم سحناتهم أن تغيرت تماما بعد أن تطورت بمصاهراتهم للأفغان والترك، فمن إنعام النظر في صور ملوك المغول المرسومة في المخطوطات تبدو لنا وجوههم الأكثر تناسبا واستطالة من وجوه المغول الأصليين المسطحة ذات الأنوف المتطامنة
4
والشفاه الغليظة.
ويجب أن يفرق في زمر المسلمين الذين يبلغ عددهم في الهند نحو خمسين مليونا بين حفدة الأسر الإسلامية وحفدة الهندوس الذين اعتنقوا الإسلام.
فأما حفدة الأسر الإسلامية، وهم الأقلون، فيشابهون المثال التركي، ويتألف منهم قوم طائشون بائسون أسيفون على الزمن الذي كانوا فيه سادة البلاد منتظرون الزمن الذي يتم فيه النصر لشريعة النبي.
وأما الهندوس المسلمون فأكثر عددا، ويختلفون قليلا عن إخوانهم البراهمة مثالا وأخلاقا.
ونلخص ما تقدم بقولنا: إن أثر المسلمين العرقي في الهند ضعيف وأثرهم الأدبي عظيم، وأكثر ما يبدو هذا الأثر الأدبي في المباني والمصنوعات الفنية، وله عمل كبير في الدين واللغة، كما يظهر ذلك من الفصول التي ندرس فيها مباني الهند ودياناتها ولغاتها فضلا عن هذا الفصل. (2) الحضارة الإسلامية في الهند
أجملنا في فصلنا عن تاريخ الهند أهم حوادث الممالك الإسلامية في الهند، ولنذكر أن دولة المغول، التي تتكلم عنها الكتب على العموم، لم تدم سوى مائتي سنة من السنوات السبعمائة التي كان السلطان فيها للمسلمين، ففي بعض ذينك القرنين ظل كثير من الممالك الإسلامية قائما في الدكن، ولم تجمع الهند بأسرها تحت راية ملك مغولي واحد إلا قبيل سقوط الدولة المغولية.
ويتضمن وصفنا لتاريخ الحضارة الإسلامية في الهند بعثا لتاريخ حضارة العرب التي خصصنا سفرا كبيرا لدراستها، فمسلمو الهند لم يدخلوا إلى الهند، بالحقيقة، سوى حضارة العرب بعد أن تحولت بعض التحول في بلاد فارس بفعل الأزمنة والأمكنة والاختلاط بالشعوب المغلوبة، وذلك على درجات مختلفة ومع دوامها على التحول.
وأدخل المسلمون معهم إلى الهند نظم الدول العربية القديمة السياسية أيضا، وكانت هذه النظم السياسية تحمل في تضاعيفها المحاسن التي أدت إلى ازدهار الدول العربية فيما مضى والمساوئ التي أوجبت انحطاطها.
حقا، لقد بدت جميع الدول الإسلامية، في الهند وغيرها، مطلقة على الدوام جامعة لجميع السلطات الدينية والعسكرية والمدنية في أيدي ولاة لا رقيب لهم، فكانوا يسعون في إعلان استقلالهم وتأسيس ممالك لهم من فورهم، وحقا أن الممالك العظمى المطلقة التي تكون جميع السلطات فيها قبضة رجل واحد تلائم الشعوب المتبربرة لما يؤدي ذلك إلى الفتح، فهذه الممالك لا تدوم إلا إذا ساسها رجال عظام، والرجال العظام إذ ندر ظهورهم وقع ما تعلم من انهيار الدول الآسيوية الكبرى في وقت قصير، وذلك ما وقع لدولة المغول التي ازدهرت أيما ازدهار عندما كان على رأسها رجال كبار فسقطت عندما عطلت من مثلهم.
والمسلمون، حين أدخلوا إلى الهند حضارة العرب، أدخلوا معها رغبة كبيرة في العلوم والآداب والفنون، وما شادوه في عواصمهم: أحمد آباد وغور ودهلي وبيجابور، إلخ. من المباني ينطق بعظيم حمايتهم للفنون، وما انتهى إلينا من تراجم ملوك المسلمين يثبت لنا أن هؤلاء الملوك كانوا يشجعون الآداب والعلوم أيضا، وأنهم كانوا يتعهدونها بأنفسهم، ليس ذلك في كبرى الممالك وحدها، بل في صغراها أيضا، ومن ذلك أن ملك مملكة غولكندا الصغرى فيروز شاه كان يزاول علم النبات والهندسة والشعر ولا يحيط نفسه بغير العلماء والشعراء والمؤرخين مع أشاغيله في الحروب ضد دولة بيجانغر.
وعلى تلك السنة سار ملوك المغول، وهي التي كانت مشتركة بين جميع الدول الإسلامية في أوروبا وآسيا وأفريقيا كما أثبتنا ذلك في كتاب سابق.
5
وإذ لم نستطع أن نرسم تاريخ مختلف الحضارات الإسلامية في الهند، نقتصر على وصف حضارة المغول التي هي أكثر تلك الحضارات ازدهارا، فما جاء في أخبار مؤرخيهم وأنباء الأوربيين الذين زاروا الهند في عصرهم يساعدنا على الحكم الصحيح في إدارتهم ونظام دولتهم، وما أبقوه من المباني يساعدنا على الحكم الصحيح في الفنون أيام سلطانهم.
ذر قرن
6
الدولة المغولية في الهند عندما استولى بابر في سنة 1526 على أغرا التي كان يملكها أمير أفغاني من أسرة لودي المالكة فمات فيها ملكا لهندوستان وكابل، فلم يأل ابنه همايون جهدا في الصراع دعما لدولته، ولم تبلغ دولة المغول في الهند ذروة الرقي إلا في عهد ملكها الثالث أكبر الذي ارتقى العرش سنة 1556 فدام سلطانه خمسين سنة، فهذا الملك الذي هو من أكابر رجال التاريخ ساوى بين المسلمين والهندوس حاضا تينك الأمتين على التزاوج، جاعلا نفسه قدوة، وهذا الملك، وإن لم يوفق لصهر ديانتي تينك الأمتين في دين واحد، استطاع أن يمزج فنون العمارة للأمم التي خضعت لحكمه، وهذا الملك وسع رقعة مملكته ودبر شئونها تدبيرا رشيدا كما يظهر ذلك من الكتاب الكبير الذي أمر وزيره أبا الفضل بنشره، فترى أنه أحصى الأراضي ومسحها وقدر أنواع تراب الولايات وفرض الخراج على حسب الخصب فجعل ثلث الغلات للدولة وثلثيها للمزارعين، وألغى كثيرا من الضرائب وصار يدفع إلى ضباطه رواتبهم نقدا بدلا من الإقطاعات.
وداومت دولة المغول على الازدهار في عهد خلفائه: جهانكير وشاهجهان وأورنغ زيب، بيد أن ما صدر عن أورنغ زيب هذا من عدم التسامح وما شهره على ممالك الدكن الإسلامية من الحروب أعد دولة المغول للانهيار، فلم تلبث الهند عند وفاته سنة 1707 أن وقعت في وهدة الفوضى، كما ذكرنا ذلك في فصل سابق.
وفي أوروبا تعد كلمة سلطان المغول مرادفة لكلمة السلطان المطلق والأبهة الباهرة، ولا يخلو هذا من أساس، فالحق أن ملك المغول كان مطلقا، فكان يستعين بسلطانه على صب كنوز مملكته، الغنية إذ ذاك، في بلاطه وإنفاقها على ضروب العظمة التي لا تعلوها عظمة.
شكل 5-2: أمبرناتها. نقوش طرف جانبي من المعبد «القرن التاسع على ما يحتمل»، «يبلغ ارتفاع القسم الظاهر في الصورة أربعة أمتار و50 سنتيمترا.»
وكنت تبصر بجانب الملك وزراء فتحسب أنه يستشيرهم في شئون الدولة المهمة، مع أن هواه كان دستور دولته، وكانت السلطات المدنية والحربية والدينية قبضته، شأن جميع ملوك المسلمين، فكان ظل الله الحي المرهوب وخليفته القادر في الأرض.
وكان وزراؤه وولاته وقادته ومن إليهم من أمراء المغول صنائع فيرفعهم ويخفضهم بكلمة تخرج من فيه.
ولم توجد أريستوقراطية وراثية عند المغول، فالملك هو الذي كان يوزعها ويستردها كما يشاء، والملك هو الذي كان يرثها عند وفاة صاحبها، فإذا ما قضى المرء نحبه، بعد حظوة لدى الملك وتصرف في أموال البلاد ورقاب العباد وتمتع بأطايب النعم، ترك زوجته وأولاده فقراء فقرا مدقعا، وكل ما كان يقدر على صنعه لهم في أثناء حياته هو أن يدفعهم إلى البلاط؛ ليكونوا محطا لأفضال الملك الذي يديم نعمه عليهم، أحيانا، بعد وفاة أبيهم أو يجري عليهم رزقا قليلا.
وكان ملك المغول لا يحتجب في الهند، فهو إذا كان يستلب رعاياه في الغالب فإنه لم يسلبهم نعمة إمتاع العيون، فكان يبدو للناس على الدوام.
ففي الصباح كان يظهر في شرفته فيجتلي الجمهور طلعته فيهتف له، وما كان ليعدل عن الظهور في الشرفة إلا في حالة المرض الشديد، وإذا حل وقت الظهر عاد إلى تلك الشرفة؛ ليشاهد صراع الفيول ومختلف التمارين العسكرية وما إليها مما يتم في ساحة القصر، وإذا كان وقت العصر جلس للاستقبال ولاستماع كل ما يجدر أن يقال له.
والحق أن الدنو منه كان صعبا، فكان يحاط بنطاقين أو ثلاثة نطق من ذهب يتخللها أمراء وحراس لابسون أبهى ثياب حاجزون للناس عن العرش، والحق أن منظر الاحتفال والملك الذي كان يبدو رائع الطلعة بين الجواهر كان ثمنا كافيا لنسيان الشعب ما يدفعه في مقابل انبهاره وحماسته ذات حين مع الاحترام القريب من الفزع.
وفي العاصمة كانت النفائس الفنية تجمع أيام سلطان المغول كما كان الأمر في أكثر الممالك الإسلامية، والولايات إذ كان يضغطها ولاة طمعاء كانت تقضي حياة بؤس فتثور في الغالب.
جاء في مذكرات الملك جهانكير ابن الملك أكبر ما يأتي:
شكل 5-3: بادامي. أعمدة وتماثيل في معبد مصنوع تحت الأرض «القرن السادس من الميلاد»، «يبلغ ارتفاع المعبد إلى مستوى التمثال الظاهر في الصدر، وهو تمثال وشنو الجالس على الأفعى أنانتا، نحو خمسة أمتار.»
علمت، وأنا في دهلي، أن فتنة اشتعلت في قنوج فأرسلت كتائب لإطفائها، فقتل ثلاثون ألفا من العصاة، وأرسل عشرة آلاف رأس مقطوع إلى دهلي، وصلبت عشرة آلاف جثة صلبا معكوسا في سوق الشجر المغروس على جوانب الطرق العامة، وعلى ما ترى من المذابح لم تفتأ الفتن تنشب في الهندوستان، ولا تجد ولاية من ولايات الدولة لم يذبح فيها خمسمائة ألف شخص في عهدي وعهد أبي.
وقد حفزت ضرورة اطلاع الملوك على ما يحدث في الولايات إلى تنظيم شئون البريد؛ لتسير بسرعة وانتظام في كل ناحية، فلا تزال تجري في كثير من الجهات، فالبرد كانوا سعاة مشاة يتناوبون أعمالهم بين مسافة ومسافة في الطرق العامة، وكانت تنصب على جوانب الطرق حجارة بيض ترى ليلا حفظا للسعاة من الضلال.
ويظهر أن الطرق كانت جيدة في العهد المغولي، فقد زعم تافرنيه الذي ساح في الهند أواسط القرن السابع عشر أن طرق الهند خير من طرق فرنسا وإيطاليا، فروى أن الانتقال من مكان إلى آخر كان يتم بهوادج يحملها سعاة سرعان أو بمراكب تجرها الثيران، ووسائل نقل كهذه لا تزال مألوفة في البقاع التي لم تمد فيها خطوط حديدية، أي في معظم بلاد الهند.
وكان خفراء من الجنود يحافظون على السياح، فكانوا مسئولين تجاه قادتهم المقيمين بالمدن الكبيرة عن كل ما يصاب به من يرافقونهم منهم، فإذا ما قصروا في العناية بسائح أو لم يجيدوا الدفاع عنه لم يوص به رئيسهم فيخسروا معاشهم.
وفي شمال الهند كانت الطرق الجيدة والمواصلات السهلة، وعكس ذلك حال الدكن الناشزة البعيدة من مقر الدولة.
وكانت تعد جميع أراضي الدولة المغولية ملكا شخصيا لولي الأمر، وكانت تقسم إلى صنفين، فالصنف الأول كان يشتمل على الأراضي التي يقطع الملك قادة الجيش إياها بشرط أن ينفقوا على كتائبهم وأن يدفعوا إلى بيت المال مبلغا معينا في كل سنة، والصنف الثاني كان يشتمل على الأراضي التي يستأجرها ملتزمون ببدل سنوي يؤدونه، فكان هؤلاء الملتزمون، كنواب الملك، ذوي سلطان مطلق على من يقبضون على زمامهم من الأهالي، فكانوا يجورون عليهم في الغالب، فكان الفلاح التعب من العمل الدائم في سبيل غيره لا يبالي بالزرع فلا يحرث ولا يحصد إلا بالسياط، وكان إذا ما جمع مالا دفنه في التراب مظهرا أقصى درجات البؤس حذر سلب ما عنده ظلما وعدوانا.
ووصف السائح فرنسيس بيرنيه - الذي أقام بدهلي اثنتي عشرة سنة في أواسط القرن السابع عشر، أي في عهد الملك شاهجهان فاقتبسنا منه هذه التفاصيل - مظالم الولاة ورشاهم وبؤس الرعايا وافتقارهم وصفا قاتما.
كان العدل غير سليم، فكان يغوى القضاة بالهدايا كما يغوى وزراء الملك وبطائنه وأزواجه، أجل، إن الملك أكبر علق في قصره أجراسا يمكن كل إنسان أن يقرعها ليشكو ظلما أصابه، غير أن القوم كانوا يعلمون أن من يصنع ذلك يكون عرضة لانتقام الظالمين الفظيع، فكانت تلك الوسيلة غير صالحة لدرء المظالم.
والملك إذ كان يتعذر عليه أن يدير شئون ممالكه الواسعة بنفسه وأن يراقب نائبيه كان يرسل مفتشين من لدنه ليخبروه بما يقع، ولكن هؤلاء ما كانوا ليشوا إلى الملك بغير فقراء الحكام أو بخلاء الولاة الذين لم يشتروا حسن شهادتهم لهم.
وما كان أمر الجيش خيرا من ذلك، فقد عدل عن نظام أكبر في دفع رواتب الجنود نقدا إلى إقطاع أمراء الجيش الإقطاعات على أن يمونوا الجنود، وأمر هذا الإقطاع إذ كان موقتا لم يفكر أولئك الأمراء في غير الاغتناء سريعا على حساب الكتائب، فكان الجنود يسرحون والخيول تباع، فإذا ما أريد العرض اكترى أمير الجيش خيلا وجعل من العبيد جنودا، وما كان الملك ليجهل هذا الخداع، وإنما كان يغمض عينيه مكتفيا بتبديل ولاته وقواده؛ لكيلا يكون لديهم من الوقت ما يقدرون فيه على الاغتناء كثيرا والتفكير في العصيان.
ومع ما تبصره من نقص في النظام العسكري يثبت توالي انتصارات الجيوش الإسلامية على الجيوش الهندوسية تفوق تلك على هذه، ومما نعلمه أن راجه بيجانغر عجب، أيام فتوح الدكن الأولى التي تمت في القرن الخامس عشر، من أنه لم يغلب المسلمين في أية ملحمة فعقد مجلسا من الأكشترية والبراهمة؛ لاكتشاف السبب في توالي انكساراته مع أنه أكثر جندا وأوسع أرضا وأوفر مالا.
بدا البراهمة أول المتكلمين فعزوا تلك الانتصارات إلى المشيئة الإلهية لا ريب، بيد أن الأكشترية اعترفوا بأن المسلمين أمهر من الهندوس في الرماية وأن خيولهم العربية أو الفارسية أهم من فروس الدكن القصيرة، فأسفر ذلك عن سعي الراجوات في اجتذاب المسلمين إلى جيوشهم فاستطاعوا أن يضموا فريقا من المسلمين إليها فتم لهم بذلك بعض الفوز على ممالك الدكن الإسلامية التي مزقتها الفتن الداخلية، وفوز تم للهندوس مثل هذا لم يدم، مع ذلك، إلا إلى حين إغضاء الممالك الإسلامية عن اقتتالها قليل زمن متألبة عليهم.
ولم يتم ذلك إلا في أواخر الدولة المغولية حين قلت الحروب وانحلت عرى الجيوش الإسلامية ووقعت في الحال التي نشأت عن جشع القواد وعدم اكتراثهم فألمعنا إليها آنفا، وأضحت تلك الجيوش أداة ناقصة في أيدي الملوك عندما أخذت الفتن تشتعل بين الأهالي وشرع نواب الملك المسلمون يرفعون رايات العصيان فيضعضعون أركان دولة المغول الكبرى.
رأى الملك أورنغ زيب الذي عاش في ميادين الحروب ألا يغادر معسكره، فاستنفد كنز أسلافه الخفي فأحاط نفسه بقوى كيبرة ومدفعية عظيمة وفروسية منظمة، فكان يقضي أيامه بين هذا الجيش الرائع الهائل فنقل إليه نساؤه وجواهره وثيابه الزاهية على ظهور الفيول تحرسها صفوف متراصة من المحاربين مع المدافع ويتقدمها فريق من محرقي العطور.
وكان الملك إذا ما حط رحله في مكان نصبت الخيام بسرعة عجيبة فيخيل إلى الناظر أن مدينة خرجت من الأرض ذات شوارع وميادين ومفارق وحصون حسنة التخطيط، وكان لكل خيمة من تلك مكان معلم على خريطة مرسومة قبلا، فتبدو قصور الملك المتحركة مشتملة على ما في أروع المباني من وسائل الراحة، فالحق أن معسكر أورنغ زيب غدا العاصمة الحقيقية للدولة.
ومثل النساء دورا مهما في بلاط ملوك المغول، فحاول أوائل هؤلاء الملوك، على الأقل، أن يصهروا العرقين أحدهما بالآخر بتزوجهم أميرات هندوسيات وبنات لزعماء الراجبوت على الخصوص، وبحثهم المسلمين على الاقتداء بهم في هذا المضمار.
ولم يكن لملوك المغول عدد معين من النساء فكانوا لا يحترمون شريعة محمد في ذلك كما أنهم لم يحترموها في أمور أخرى، فبلغ عدد النساء في دائرة حريم الملك شاهجهان نحو ألفي امرأة، وما كان شاهجهان ليكتفي بهذا العدد، فكان لا يخشى أن يبحث عن خليلات له بين نساء أمرائه، فأسفر هذا عن سخط شديد لمقت المغول زناء الأزواج.
شكل 5-4: مهابلي بور. معبد مصنوع من جلمود «القرن السادس من الميلاد.»
وإذا كان الأمراء يرتاعون من تولع الملك بزوجاتهم فإنهم كانوا يسرون من تولعه ببناتهم، فكان من أقصى أماني الموظف الكبير أن يرى ابنته بين حريم الملك، فكان يمكن هذه الفتاة، وهي خليلة للملك، أن تكون عينا عليه، وكان يمكن هذه الفتاة أن تصبح ملكة إذا ما راقت الملك، فتنال بذلك نفوذا بالغا وتصير عامل سعادة لأسرتها.
وكان للعجائز اللائي يراقبن الحريم من النفوذ، في الغالب، ما يعلمه نواب الملك وملوك الأجانب، فيشتري هؤلاء، بسهولة، حمايتهن لهم بالبراطيل.
شكل 5-5: مهابلي بور. نقوش بارزة على صخرة تمثل مقاتلة دورغا للغول مهاسورا «القرن الثامن من الميلاد.»
والإنسان يقضي العجب من أبهة حريم الملك؛ فكان لكل واحدة من نسوته جوار وراقصات، وكانت كل واحدة منهن تلبس كل يوم ثوبا جديدا وحليا جديدا.
وكان طهاة الملك يطعمون الملكات المعروفات ببي غم ؛ «أي اللائي لا يعرفن الغم»، وكانت الخليلات يقمن بشئون أنفسهن بما يأخذنه من المنح والهبات.
والملك شاهجهان أقام المزار الرائع تاج محل من أجل أحب زوجاته لديه وأعزهن عليه، فعد هذا المزار من أعجب ما اشتمل عليه العالم من المباني.
وسار المغول على غرار المسلمين الآخرين فأداموا حضارة هؤلاء محبين للآداب والعلوم والفنون حبا جما، فرحبوا بالشعراء والعلماء ورجال الفن مهما كان جنسهم، ولا تزال المباني التي شادوها - فلم يصنع الغرب ما هو أروع منها - تثير العجب، ولم تكن العلوم دون الفنون حظوة في دولتهم فأنشئوا المدارس وأقاموا المراصد، وحب المغول لعلم الفلك ورثوه كابرا عن كابر، فقد جلب خان المغول هولاكو إلى بلاطه أشهر علماء العرب وأقام في مراغة مرصدا كبيرا سنة 1259، ولما اتخذ تيمور لنك مدينة سمرقند عاصمة لدولته العظمى أحاط نفسه فيها بالعلماء، ولما حلت أواسط القرن الخامس عشر بنى حفيده أولوغ بك مرصدا مجهزا بآلات رصد رائعة نذكر منها ربع الدائرة التي بلغ نصف قطرها ارتفاع كنيسة أيا صوفيا في القسطنطينية على ما يروى، فأسفر ذلك عن نتائج ذات قيمة في الفلك، فنشر أولوغ بك هذه النتائج في كتاب مهم مشتمل على أهم مسائل الفلك وعلى مواضع صحيحة للنجوم.
7
ولم يبد ملوك المغول حماة للآداب والعلوم وحدها، بل ترى الكثيرين منهم قد حذقوها أيضا، فالحق أن حب الآداب، ولا سيما الشعر، كان ناميا عندهم، فألف بعضهم كتبا مهمة فيها، ونذكر من بين ملوك المغول تيمور لنك الشهير الذي أقام في بغداد، كما يروى، هرما من مائة ألف رأس إنسان فأنشأ المدارس وشمل العلوم بعين رعايته وألف كتبا ذات قيمة، وكان لحفدته بابر وجهانكير وغيرهما مثل ميله فعدت مذكرات بابر، التي شبهت بتفاسير يوليوس قيصر، نموذجا حسنا في الآداب، ومن هذه المذكرات نعلم جمع المغولي بين الوحشية والمدنية علما أحسن مما في جميع كتب المؤرخين، ولا شيء يشمل النظر أكثر من تجلي حقيقة مؤسس الدولة المغولية بالهند بابر في مذكراته تلك، فبابر، هذا الجبار الذي هو سليل جنكيز خان وتيمور لنك، سار على سنة أجداده فأقام أهراما من الرءوس المقصولة، وتبصره، مع جبروته هذا، أديبا رقيقا، وكان بابر هذا يتكلم المغولية والعربية والفارسية، وله قصائد باللغة الفارسية، وكان بابر هذا صبورا على مطالعة كتب العلوم والآداب والتاريخ، وكان حبه للقراءة لا يمنعه من أن يكون مقامرا كبيرا وشاربا مفرطا ورفيقا أنيسا وباسلا وفيا لأصحابه مع استخفاف وتهكم، وبابر هذا، مع علمه كيف يبدو ملكا كبيرا عند الاقتضاء، كان يدعو السفراء، الذين يفدون على بلاطه، إلى طرح الكلف الرسمية جانبا في بعض الأحيان ليقضوا معه ساعة لهو ومرح، وبابر هذا ما كان ليرى حرجا في الجدل حول مسألة علمية أو منطقية أو لاهوتية عند انهماكه في السكر ليلا، وفي كل صفحة من كتاب بابر المملوء بأدق ضروب النقد والنوادر تجد سعة اطلاع من غير تنطع، وفي هذا الكتاب تجد أنه كان يتمسك بالنكتة أو الكلمة الطيبة أينما وجدها، ومما حدث ذات يوم أن أدركه ثلاثة فرسان بعد سير يومين على أثر معركة خسرها فوقف فالتفت فقال لهم ساخرا متكبرا: «أريد أن أرى، أيها الشجعان، أيكم يجرؤ على مسي قبل الآخر»، فارتبك هؤلاء الفرسان الثلاثة بفعل سخريته فقاتلوا مرتدين حالا.
حقا أن بابر، المقدام الموهوب العالم الذي يعد من أقوى الفاتحين في العالم، كان يجمع في شخصه مغامرة عرقه ورقته وهمجيته، فكان، حينما مات، وهو ابن خمسين سنة، ملك الهند التي دوخها باثني عشر ألف جندي بعد أن ظهر زعيم قرية وهو في السنة الثانية عشرة من عمره.
وكل مقابلة بين شعوب الشرق وشعوب الغرب إذ كانت خادعة على الدوام غدا من الصعب أن تقايس بين العصر المغولي وأي دور جاوزته أوروبا كالدور الإقطاعي مثلا، فالفارس المغولي والبارون النصراني، وإن تماثلا ذوقا وسفكا، كان الأول منهما أفضل من الآخر ثقافة وحبا للآداب والعلوم والفنون بدرجات، وأرى، مع ذلك، أن المقابلة ممكنة بين العصر المغولي وعصر النهضة، فالأمير المغولي والأمير الفرنسي كانا متماثلين، لا ريب، في حبهما للمخاطر الدامية والمبارزة بالسيف وأمور الشرف والجواهر الثمينة والملابس الزاهية والأشعار الدقيقة وفي احتقار ذلك الحيوان الذي كان يدعى في أوروبا بالفداد وفي الهند بالشودري.
هوامش
الباب الخامس
آثار حضارات الهند
الفصل الأول
آداب الهند ولغاتها
(1) قيمة آثار الهند الأدبية القديمة
كتبت الهند، وانتهى إلينا كثير مما كتبت.
وظن، حينما أسفر بحث بعض الأوربيين في السنسكرت عن كشف النقاب عن آداب الهند المجهولة، أن عالما من العجائب والطرائف سيخرج من دياجير الماضي الحافل بالأسرار، وظن، على الخصوص، أنه اكتشف مصدر جميع الحضارات وجميع الأديان وأننا، برجوعنا إلى عنعنات عرقنا الحقيقية، نهتدي إلى العصر الذهبي الضائع وإلى سر مصيرنا.
ولسرعان ما فترت تلك الحماسة، فقد عرف أن حياة شعوب الهند القديمة وأفكارها مهما كانت انتهت هذه الشعوب، مثلما انتهينا، إلى معضلات كبيرة من غير أن تحل واحدة منها، فما كانت الكلمة الأخيرة التي تطمئن إليها نفوسنا لتأتينا من ضفاف الغنج، وما كان حب الاستطلاع الشديد الذي أثارته المباحث الأولى في كتب الهندوس إلا لينقلب بسرعة إلى عدم اكتراث.
ولسنا بالذين ندرس كتب الهند في هذا الفصل من حيث قيمتها الفلسفية كدرسنا ما فيها من الوثائق النافعة في البحث التاريخي ووصف الطبائع، بل نبحث فيها من الناحية الأدبية فقط.
بولغ في تقدير كتب الهند الأدبية في البداءة، ولم يتحرج في تفضيلها على غرر آداب اليونان والرومان، والواقع أن ما في آداب الإغريق وروما القديمة من المحاسن التي تقضي بالعجب تغرينا بالإعراض عن الكتب الهندوسية، فما في شعر الإغريق والرومان ونثرهم من الترتيب والوضوح والاعتدال والانسجام والقصد الرائع الكامل يجعل الأوربي صعب المراس، فما كان مذهبنا الارتيابي الحديث إلا ليزيد مقتا للمبالغة والإغراب، وما كان ليسهل على قراء هذه هي حالهم أن يعجبوا بما وصل إليهم من آداب الهندوس الضخمة المشوشة المملة المملوءة بالخوارق.
بيد أنك تبصر، بين هذه المبالغات وهذا الغلو في الخيالات وتجسيم الموضوعات الحقيقية البسيطة والشعور الصادق الخالص وتموج الأهواء والعواطف، تصويرا للروح والطبيعة بما هو طريف لامع أحيانا، وتراني أشبه، طائعا، الآداب الهندوسية بنهر يشتمل ترابه على شذور من التبر، فيجب على من يرعب في استخراج بعض هذه الشذور أن يجمع إليه عدة أمتار مكعبة من هذا الطين.
شكل 1-1: تانجور. منظر الزون الهرمي ومداخله «القرن الحادي عشر من الميلاد» أخذت هذه الصورة من خلف الزون «يبلغ ارتفاعه 61 مترا.»
ولا نعرض على القارئ في المختارات التي ننشرها في هذا الكتاب سوى شذور من الذهب، فإذا ما استنبط منها أن جميع ما أنتجته قرائح الهند هو من نوعها غافلا عن أن هذه النتائج تحتوي على أكداس عظيمة ثقيلة مملة فإنه يكون مخدوعا خدع من يخيل إليه أن تراب ذلك النهر من شذور التبر فقط.
ويجب ألا يعد هذا الفصل الذي ندرس فيه آداب الهند إلا لمحة إلى أهم ما هو معروف منها، فعلى القارئ الذي يريد أن يكون على علم واسع في هذا المضمار أن يرجع إلى الكتب التي نشرنا مختارات منها في هذا السفر، والتي ترجم الشيء الكثير منها إلى الفرنسية والإنجليزية، والقارئ إذا لم يكن عالما بآثار الهند، أي إذا لم يكن من المعجبين بكل ما يصدر عن السنسكرت إعجابا تقليديا فإنه لا ينظر حمسا إلى الآداب الهندوسية، وهو يصل مثلنا، لا ريب، إلى النتيجة القائلة إن هذه الآداب إذ كانت تلائم أدمغة الهندوس وكانت تقضي بإعجابهم الموروث منذ قرون فإنها ليست مما يقرؤه الأوربيون بشغف؛ لعدم ارتباطها وانسجامها، ولما فيها من المبالغة والإسهاب الممل، ولبعدها من المنطق.
وسنقتصر في المطالب الآتية على تحليل أشهر آثار الهند الأدبية بإيجاز وعلى مقتطفات قصيرة منها.
ولكي نجلو موضوعا ذلك مدى اتساعه جلاء نسبيا رأينا أن نجعل عناوين تلك المطالب ما يأتي: النشائد والأشعار الدينية، القصائد الحماسية، الأمثال والأساطير، التمثيل، آثار أدبية مختلفة. (2) النشائد والأشعار الدينية
إذا عدوت القصائد الحماسية الكبرى التي ندرسها في مطلب آخر رأيت الأدب الويدي الصحيح يتألف من أناشيد ورسائل دينية تعرف بالويدا.
وقد أتيح لنا فيما تقدم أن نتكلم مطولا عن النشائد الويدية، وأن نستشهد بكثير منها، وأن نشير إلى مناحيها العامة، فعلى ما لا مراء فيه من جمال القليل منها نوافق العلامة كولبروك على رأيه القائل: «إن ما تشتمل عليه كتب الويدا لا يستحق أن يقرأ ولا أن يترجم.» والعلامة كولبروك هذا تلقى من براهمة بنارس علم الويدا فكان من الصبر ما قرأها كلها معه، وهو الذي سر، مع ذلك، من معرفة أوروبا لها لما اشتملت عليه من المعارف ذات القيمة في تاريخ الحضارة كما ذكرنا، فهذه الكتب هي الوثائق الوحيدة التي آلت إلينا من عصر يظل أمره مجهولا بدونها لا ريب، وهذا مع إمكان جمع جميع المختارات المفيدة التي تقتطف من كتب الويدا في بضع صفحات.
شكل 1-2: تانجور. دقائق نقوش في الزون السابق «القرن الحادي عشر من الميلاد.»
ولا تتألف الآداب الويدية من الرغ ويدا وحدها، بل تشتمل أيضا على نشائد وأحكام وعهود، ومما قلناه إن هذه الآداب نضجت مقدارا فمقدارا، وإن من السخف أن يسير الباحث على غرار بعض المؤلفين فينشد فيها «انبساط القلب وصفو الطبيعة وسعيا وراء المثل الأعلى.»
وبدئ بوضع كتب الويدا قبل ظهور المسيح بألف سنة، ولم تفتأ تصحح في أكثر من ستة قرون، وكانت قبل تدوينها، كدائرة معارف مشتركة، ينقحها الناشرون ويكملونها في كل استنساخ مستعينين بمساعدين جدد.
وتجد في الآداب الويدية أثرا لهذا النشوء البطيء، ولا تجد الأجزاء التي تتألف منها متجانسة في مجموعها، وهنالك بعد بين شعر بعض النشائد وأمثال السوترا الموجزة التي ذكر واضعوها لا ريب قول كاتب هندوسي: «إن للمؤلف أن يسر إذا ما اختصر بمقدار النصف حرف علة قصير كما لو رأى نفسه قد ولد صبيا.» والهندوس يسيئون استعمال هذه القاعدة قليلا، مع ذلك، لا من حيث الاختصار، بل من حيث الغلو في الإسهاب الذي فيه عيبهم.
ويعد ما في الرغ ويدا من ألوف الأدعية أهم أقسام الويدا من الوجهة الأدبية ، ونصف ما في الرغ ويدا خاص بإله السماء إندرا وبإله النار أغني، ونصفه الآخر خاص بالآلهة الأخرى: الشمس والطبيعة والسحب، إلخ، وفي هذا الكتاب استشهدت ببعض مقتطفات منها، والآن أذكر أهمها مكررا قولي: إن قيمة تلك الآثار الأدبية العظيمة لا تقدر بمثل هذه المختارات، ولا أقتصر على ما تيسر من الويدا وحدها بل أضيف إليه أنشودة برهما للشاعر كالي داسا الذي يظن أنه عاش في القرن السادس من الميلاد وأنشودة سنسكرتية اقتطفناهما من مخطوطات نيبال البدهية التي نشرها مستر هوغسن، ولم تترجم هذه الأخيرة إلى الفرنسية بعد، وتجد فيها روعة التوراة التي تندر في المدونات البدهية المطولة على العموم والتافهة على الخصوص.
أنشودة إندرا الويدية
إندرا هو الإله المولود الأول، هو الإله المجيد الذي زين الآلهة الأخرى بأعماله، هو الإله الذي يزلزل السماء والأرض بقدرته وعظمته التي لا حد لها.
إندرا هو الإله الذي يثبت الأرض الراجفة، ويمسك السماوات ويبدد السحب العاصفة ويوسع الأجواء.
إندرا هو الإله الذي يهب الحياة لكل موجود، هو الذي يطأ أعداءه الأنذال في المغاور المظلمة، هو الذي يقبض على جثثهم كما يقبض الصائد على القنيصة.
إندرا هو الإله ذو الوجه الجليل الذي يأمر الأغنياء والفقراء بالصلاة، هو الذي يستغيث به الكاهن في أدعيته والشاعر في نشائده، هو الذي يرضى عما نهب.
إندرا هو الإله الذي يملك الجياد والحقول والعجال والمدن والمركبات المملوءة كنوزا، هو الذي يجيء بالشمس والفجر، هو الذي يسيل المياه.
إندرا هو الإله الذي ينصر الأمم، هو الذي يطلب المجاهدون منه العون عند القتال، هو الذي يبدو مثال الكون، هو الذي يهب الحياة للموجودات غير الحية.
إندرا هو الإله الذي لا يظهر قوته إلا ليجازي الخبيث والكفور بلا انقطاع، هو الذي لا يعفو عن الطاغين المستهزئين، هو الذي يذبح الغيلان.
إندرا هو الإله الذي تسجد له الأرض والسماء، هو الذي ترتجف أمامه الجبال، هو الذي يرسل الصواعق.
إندرا هو الإله الذي يقبل الإراقة والقرابين والأناشيد والأدعية، هو الذي يجير الأتقياء، هو الذي يسر بضحايانا وهباتنا.
أنشودة الفجر الويدية
الفجر هو الترجمان المنير للكلام المقدس، الفجر ينشر حليه ليفتح لنا أبواب النهار، الفجر يضيء الكون فيطلعنا على كنوزه، الفجر ينبه الخلائق ، الفجر يدعو العالم الراقد إلى الحركة بيده القادرة، الفجر يحفز الإنسان إلى البهجة والسرور وإلى القيام بالشعائر المقدسة وإلى العمل لنيل السعادة، الفجر، على عكس الظلام، نبصر به كل بعيد، الفجر، ابن السماء، يبدو لنا نافعا لامعا مدثرا بدثار ساطع ربا لكل ثراء في الأرض، الفجر ينعش بضيائه كل موجود ويبعث كل خامد، فمتى يزورنا الفجر؟ الفجر الذي ينيرنا الآن يكون كالذي جاء قبله، ويكون مثله الذي يأتي بعده، هو ينيرنا كغيره، عادوا غير أناس أولئك الذين رأوا الفجر يتلألأ كما يتلألأ اليوم، والآن حل دورنا لرؤيته، ثم يحل دور أناس آخرين يرون الفجر بعد زمن فيموتون ... الفجر في حمى من الهرم والموت، فيتقدم ناشرا سناءه غامرا شواطئ السماء، الفجر إله النور وهو يبدد الظلام النحس، الفجر يحيي الطبيعة من فوق مركبته الرائعة التي تجرها جياد حمر، أفيقوا، إليكم روحا جديدة تسري فينا، الظل يبتعد والنهار يقترب، فقد مهد الفجر الطريق التي تسير منها الشمس، هلموا إلى النور، هلموا إلى الحياة!
أنشودة الشمس الويدية
أشعة النور تظهر العالم فتنبئ بالإله الذي يعلم كل شيء، تنبئ بالشمس التي إذا ما بدت توارت النجوم كاللصوص وتبدد ظلام الليل، أشعة الشمس الساطعة كالنار تسلم على جميع المخلوقات، الشمس تجري وتبدو للأعين وتبعث النور ويملأ سناؤها الأجواء، وتنهض أمام كتيبة الآلهة وأمام الناس والسماء فيراها كل واحد ويعجب بها، الشمس تزكي وتزيل الهم بضيائها الذي يغشى الأرض المملوءة أناسا، الشمس المشرقة تغمر السماء والأجواء وتبدع الليل والنهار وتبصر كل ذي حياة ويجر مركبتها سبعة جياد شقر، الشمس إله يرى كل شيء وتكلل الأشعة شعره الجميل ... ونحن، بعد أن يزول الظلام ونرى النور الرائع، نسجد أمام ذلك الإله الذي يسطع بين جميع الآلهة، ويظهر أنضر من جميع الكواكب.
أنشودة الروح العليا الويدية
لم يكن شيء فيما سلف، فلا وجود ولا عدم ولا عالم ولا سماء ولا أثير فيما خلا، فأين كان غلاف كل شيء؟ وأين كان حوض الماء وموضع الهواء إذن؟ لم يكن موت ولا خلود ولا نهار ولا ليل، والكائن وحده كان يتنفس من غير أن يستنشق شيئا غارقا في ذاته التي لم يكن شيء خارجا عنها، وكانت الظلمات بعضها فوق بعض، ولم يكن للماء سناء فكان كل شيء ممزوجا به، وكان عرش الكائن في الفضاء الذي يحمله، ثم برأ الكون بإرادته بعد أن نشأت فيه الرغبة التي هي أصل كل شيء، هذا ما قاله الحكماء الذين يفكرون بقلوبهم وعقولهم فينفذون ببصرهم الحديد كل أمر في الأعلى وفي الأسفل وفي أي مكان ما كمنت فيهم بذور اللقاح أي عظيم الأفكار، سيبقى جوهر الكائن الأعلى بعد فناء كل شيء كما كان قبل خلق كل شيء، ولكن من يعرف هذه الأسرار؟ ومن يستطيع أن يكشفها؟ ومن أين تأتي هذه الموجودات ومن أين يأتي هذا الكون؟ أراد الكائن الأعلى خلق الآلهة فبرأها، ولكن من يعلم مصدر هذا الكائن الأعلى ومصدر هذا الخلق الواسع؟ ...
شكل 1-3: تانجور. دقائق نقوش في معبد سبرامانية «ضمن نطاق الزون»، «القرن الخامس عشر.»
أنشودة برهما لكالي داسا
المجد لك أيها الإله ذو الصور الثلاث الذي لم يكن غير ذي طبيعة واحدة قبل التكوين، فلما برأت الكون انقسمت إلى ثلاث صور لكي تبدو صفاتك الثلاث: القدرة والذكاء والحلم، أحسن مما كانت عليه، أيها الخالق غير المخلوق، لقد انتشر أصلك فوق الماء فصدر عنه كل متحرك وساكن، ويقدس لك لأنك بارئ كل شيء، وأنت، إذ تجلت عظمتك على ثلاثة وجوه، كنت السبب الواحد للخلق والديمومة والفناء، والعنصر المؤنث والعنصر المذكر هما أصلا طبيعتك ومنهما يبث كل موجود، قسمت الزمان إلى ليل ونهار، ويسفر نومك وسهادك عن هلاك المخلوقات وبعثها، لا أول لك ولا آخر، وأنت أصل العالم وغايته، وكنت قبل الخلق ولم يكن شيء قبلك، ولا رب لك وأنت رب كل شيء، وأنت تعرف نفسك بنفسك، وبرأت نفسك بنفسك ، وتضر نفسك بنفسك، أنت أبو الآباء وإله الآلهة ومبدع العلم وموضوعه والبصير وغاية البصر.
أنشودة آدي بدهة البدهية
1:
لم يكن شيء في البداءة، وكل شيء كان فضاء ، وما كانت العناصر الخمسة موجودة، هنالك بدا آدي بدهة المنزه على شكل لهيب أو ضياء.
2:
يشتمل آدي بدهة على الغونات الثلاث، وفيه يتجلى مهامورتي وويسواروبا «صورة كل شيء»، فهو بدهة الكبير الذي أوجد نفسه بنفسه، هو أديناتا، هو مهيشور.
3:
آدي بدهة هو أصل ما في العوالم الثلاثة من الموجودات، وهذه الموجودات كانت بفضله، فمنه ومن عميق تأمله انبجس الكون.
4:
آدي بدهة موجود بنفسه، هو أسوارا، هو جماع للكمال ولما لا نهاية له، هو لا أعضاء له ولا عواطف فيه، وجميع الأشياء صورته وإن لم تكن له صورة، هو شكل كل شيء وإن لم يكن له شكل.
5:
آدي بدهة لا يجزأ، ولا وجه مرئيا له، والألم لا يجد إليه سبيلا، وهو مصدر قدرته الذاتية، وهو أبدي بطبيعته، ولكنه غير أبدي في تجلياته، فتراني أسجد أمامه.
شكل 1-4: شلمبرم. مدخل معبد ذي عمد «القرن الخامس عشر»، «يرجع أقدم أجزاء هذا المعبد إلى القرن العاشر، ولكن هذه الأجزاء توارت تحت ما أنشئ في القرنين الخامس عشر والسادس عشر»، «يبلغ ارتفاع الأعمدة إلى أعلاها ثلاثة أمتار و55 سنتيمترا.»
6:
أدي بدهة لا أول له، هو كامل، هو خالص جوهرا، هو أصل الحكمة والفضيلة المطلقة، هو يسبر الماضي ولا تبديل لكلماته.
7:
آدي بدهة لا شبيه له، هو موجود في كل مكان، هو شديد البأس على الأشرار مثل الأسد الذي يهصر الظبي الوديع ...
11:
آدي بدهة ينعم على ذوات الحس بالسعادة، وهو يحب من يخدمونه، وهو يملأ بعظمته القلوب رهبة واحتراما، وهو يكشف الكرب عن المكروبين.
12:
آدي بدهة حائز للفضائل العشر، وهو ينعم بها على من يمجدونه، وهو يملك بقاع السماء العشر، وهو رب العالم، وهو يملأ بوجوده السماوات.
15:
هو خالق جميع البدهات وكثيرا من البدهي ستوايات الذين يحبهم، وقد خلق العالم بمعونة برانجا ودهرما «واحد من الثالوث البدهي»، وليس له خالق ، وهو مبدع الفضيلة، وهو يعيد كل شيء إلى العدم. (3) القصائد الهندوسية الحماسية الكبرى
المهابهارتا
قصائد المهابهارتا العظيمة من أضخم آثار العالم الأدبية فضلا عن آثار الهند الأدبية القديمة ، وهي تشتمل على 215000 بيت شعر مع أن الإلياذة لا تحتوي على أكثر من 15000 بيت، ولا تحتوي الأوديسة على أكثر من 12000 بيت، ولا تحتوي الإينئد على أكثر من 10000 بيت، ويتالف من المهابهارتا خمسة عشر مجلدا عاديا يبلغ مجموع صفحاتها 75000 صفحة.
وللمهابهارتا أصل أضيف إليه مع الزمن شيء كثير، فتعد المهابهارتا من عمل القرون، لا من عمل رجل واحد، وتقدر المدة التي انقضت بين وضع نصها الأصلي وآخر تصحيح فيها بألف سنة، ولا يمكن تحديد عمرها بالضبط، ولكن من المشكوك فيه أن يكون أحدث أقسامها قد وضع بعد القرن الثالث من الميلاد.
وللمهابهارتا عظيم أهمية لدى الهندوس، فقد قيل إن كتب الويدا الأربعة وضعت في كفة ميزان وإن المهابهارتا وضعت في الكفة الأخرى أمام الآلهة مجتمعة فرجحت كفة المهابهارتا، ومما نص عليه أن قراءة ما تيسر من المهابهارتا يمحو الذنوب، والحق أن تقديس الهندوس للمهابهارتا كتقديس النصارى للكتاب المقدس وتقديس المسلمين للقرآن، ويعتقد الهندوس أن المهابهارتا وضعت في السماء وأن الآلهة أنعمت بها على الناس.
وعنوان المهابهارتا، أو بهارتا الكبير، تلخيص «لقصة شعب بهارتا الكبرى»، وتخبر هذه القصة باصطراع الباندوا والكوروا فرعي أسرة البهارتيد القمرية التي استقرت بمدينة هستي نابورا القديمة الواقعة بالقرب من دهلي.
وتبدأ المهابهارتا بالأدعية والفواتح والأنساب، ثم تشتمل على قصة مؤلفة من استطرادات وإيضاحات وتكرارات مطولة يمل الأوربي منها، وفي المهابهارتا اختلطت الروايات بالأساطير اختلاطا لم يفكر معه واضعوها في ربط بعض أجزائها ببعض.
وتقوم القصة على اقتتال أبناء باندو الخمسة «الباندوا» وأبناء دهري تراشترا المائة «الكوروا» وأطل دم الباندوا، المشابهين لهركول وثيزة اللذين ذكرا في الأساطير اليونانية، ولفرسان القرون الوسطى التائهين، فجابوا بلاد الهند وأنقذوها من الغيلان المفسدين وقاموا بغريب الأعمال، وقاتلوا عفاريت غاب الأساطير الهندوسية الراك شسا المفترسين للناس والقادرين على الظهور بمختلف الصور والسباحة في الأجواء، وأشد أولئك الإخوة الخمسة «الباندوا» هؤلاء هو العملاق بهيماسينا «ذو الذراعين الطويلتين والبطن الذئبي»، فقد استأصل الراك شسا الذكور وأغوى بناتهم بجماله نائلا الجوائز في جميع مسابقات الفروسية.
وفاز أحد أولئك الإخوة الخمسة على منافسيه الكثيرين، فنال دروبدي الحسناء ابنة الملك دروبدي موترا قوسا لم يقدر إنسان على ثنيه، وخرجت الآلهة من منزلها السماوي لتشهد القتال على حسب العادة، وتزوج أولئك الإخوة الخمسة بهذه الحسناء معا، وفي هذا دليل على تعدد الأزواج من الذكور في الهند في سالف الأزمان.
ولم يلبث أولئك الإخوة الخمسة أن سقطوا بعد أن بلغوا ذروة السلطة، وذلك بما اقترفه أحدهم الذي خسر كنوزه وقصوره في الميسر، والإخوة الخمسة أولئك إذ أعسروا بذلك رجعوا إلى حياة السياحة ومعهم دروبدي الحسناء، وأخذوا يتلهون بسماع ما يقصه النساك والجن عليهم من أنباء الخوارق التي لا نهاية لها، وهكذا قامت حياتهم على سماع الأساطير والقتال، ومما حدث أن بلغ أحدهم أرجنا من البأس ما حارب به الإله شيوا المتنكر في صورة صياد، أجل، إنه قهر، ولكنه اعتذر عن ذلك بأنه التزم جانب الحمية، فاقتصر على الاغتذاء بالهواء وجاف الأوراق واقفا على إبهام رجله رافعا ذراعيه طامعا أن ينال بهذا الزهد درجة إله في السماء على رأي الهندوس، ومما يذكر هنا أن مما يزعج مجلس الآلهة أن يرى الناس يقومون بتوبة قاسية، وأراد أرجنا، ذلك الذي قاتل شيوا، أن يفتن الآلهة فذهب، كأبطال دانتي، إلى السماء، وقاتل العملاق بهيماسينا «ذو الذراعين الطويلتين والبطن الذئبي» بقوة بيان الثعبان الهائل الذي لف به فلم يتركه، كما فعل أبو هول إديب، إلا إذا حل ألغازه.
ولم ينثن أولئك الإخوة الخمسة أمام تلك الأعمال المرهوبة بفضل ذرعانهم الساحرة، فهزموا وحدهم جيشا خرج على ملك كانوا جنودا له كاتمين أسماءهم.
وتجد قصص أعمال البطولة ممزوجة بالخوارق في المهابهارتا، وتجد اختلاط مسائل ما بعد الطبيعة بكثرة فيها، فترى في الكتاب السادس منها، مثلا، مباحث دينية مطولة، وفيها تبصر كرشنا الذي تجسد فيه الكائن الأعلى وشنو يحدث في وسط المعركة أخاه أرجنا الباسل، الذي تجسد فيه وشنو أيضا، عن بطلان متاع الدنيا وعن مصير المخلوقات وعن تدرجها إلى الفناء في برهما وعن وجوب قمع الرغبة وما إلى ذلك من النظريات القريبة من المبادئ البدهية.
وأدلة لاهوتية كتلك لا تمنع من ضربات السيف، فمع أن وشنو تجسد في واحد من باندوا لم ينتصر هذا على أعدائه كوروا إلا بعد قتال هائل دام ثمانية عشر يوما، والنصر بعد أن تم لباندوا استطاعوا أن يسيطروا بسلام، وهم عندما شعروا بدنو أجلهم توجهوا، ومعهم زوجتهم المشتركة الفتانة دروبدي، إلى جبال همالية حيث ماتوا بالتتابع ليرفعوا إلى مقر الآلهة الخالدة حالا، فهنالك علم أن وشنو لم يتجسد في واحد من بنداوا فقط، بل ظهر تجسد مختلف الآلهة في أعدائهم الكوروا أيضا، فضلا عن الإخوة الأربعة.
هذا هو الأساس الذي قام عليه ذلك الديوان الحماسي الذي لا ينضب معينه، وهو، كما ترى، ذو مسحة أريستوقراطية كهنوتية، فلم يذكر فيه سوى الآلهة والكهان والملوك، ولا تجد فيه إشارة إلى الشعب ولا إلى العامل ولا إلى التاجر، إلخ، وفي ديوان الحماسة ذلك شعر رائع يمكن قياسه بأجمل الأشعار الأوميروسية، ولا ريب في أن أدبه أرقى من أدب الإلياذة والأوديسة، ولكن ما فيه من شوائب ظاهرة لا يغري الأوربي على مطالعته، فهو ينقلنا إلى بشرية بائدة تختلف عنا بتفكيرها وشعورها ونظرها إلى الأمور اختلافا تاما، وهو يعرض علينا عالما من المبادئ الوهمية تسحر الإنسان في دور طفولته لا في دور كالدور الحاضر.
وإننا نختم تلك الخلاصة بمختارات معتدلة الخيال اقتطفناها من المهابهارتا:
هبوط يودهيشتيرا إلى الجحيم
تبع يودهيشيترا رسول السماء من العلياء بخطى واسعة، فياله من سقوط مشئوم! ويا لها من رحلة هائلة! ذلك هو مأوى الأرواح المجرمة الغارقة في ظلمات حالكة والمدثرة بنبات خبيث والمتنشفة رائحة الإثم الوبيء واللحم والدم، ذلك هو المأوى المملوء بالجثث والشعر والعظام والفاسد بالديدان والهوام، ذلك هو المأوى الذي يرمي بالشرر الملتهم وتحلق فوقه الغربان والعقبان وغيرها من الكواسر المجنحة التي تهبط مبتورة مهيضة فوق الجبال.
سار الملك خائفا مزبئر الشعر بين تلك الجثث والرائحة المنتنة، ورأى أمامه نهرا من الأمواج الملتهبة وغابة من النصال ذات الأغصان الحادة وصخورا من الحديد وخوابي مملوءة لبنا فائرا وزيتا حارا وعوسجا
1
قاتلا أعدت للمجرمين.
راعت تلك الأبخرة الوخيمة يودهيشتيرا فارتد إلى الوراء حين سمع القول الآتي يخرج من مهالك الليل: «واحرباه،
2
قف، أيها الملك العادل الشهير، ثانية لتخفيف آلامنا، يحوم عطر روحك التقية حولك كالرخاء،
3
ولنا في هذا العطر سكينة ننتظرها منذ زمن طويل، امكث هنا، يابن بهارتا القدير، فبك يزول العذاب.
أثرت هذه العجاعج
4
المحزنة في البطل فتحسر من غير أن يميزها لما تعبر عنه من التباريح، ثم علمها، فقال لرسول السماء منورا مذعورا متهما للعدل الرباني مرتجفا في سواء ذلك الجو الخانق: «ارجع إلى أولئك الذين تمتثل أوامرهم في السماء؛ لأنني عدلت عن العودة إليها، فسأبقى هنا عند من أحب لما يوجبه وجودي بجانبهم من تخفيف آلامهم.»
شكل 1-5: تريبتي. أعمدة في مدخل الجبل المقدس «يبلغ ارتفاع الأعمدة من أسفلها إلى أعلاها مترين و55 سنتيمترا»، «يظهر أن المعبد أنشئ في القرن الثالث عشر، ولكن الإنشاءات التي تدل عليها هذه الصورة قد تمت في زمن أحدث من ذلك بزمن طويل.»
فلما سمع الرسول ذلك عاد إلى قصر رب الأرباب إندرا وأخبره بما عزم عليه حفيد بهارتا، ولما أقام يودهيشتيرا حينا بدار العذاب هبط إندرا ويما وغيرهما من الآلهة إلى الهاوية، ولما بلغوها بددت أنوارهم الظلام وزال العذاب عن المجرمين، فصرت لا ترى نهرا مضطرما ولا غابة شائكة ولا بحيرة من نار ولا صخرا من قلز
5
ولا جثة كريهة، بل صرت تجد ريحا طيبة عطرة تنتشر فوق أرصفة الآلهة، وصرت ترى النار منارة بنورة السماء الساطع.
زيارة أرجنا لجنة إندرا
ودع البطل الطليق من قيود الأرض أرجنا الجبل، وأهرع فرحا إلى الموكب الإلهي صاعدا في الأجواء، فوصل إلى البقاع المحرمة على أبناء الأرض، فوجد فيها عشرات الألوف من المركبات المنيرة بذاتها، لا بفعل الشمس والقمر وأي ضياء، والتي بلغت من البعد ما نعجز معه عن قياس حجمها والتي تبدو، لهذا البعد، مصابيح شاحبة، فدنا منها فشاهد تألقها وانسجامها الرائع، فمرت أمامه مئات من الملوك العادلين والحكماء الراشدين وضحايا الحرب والمعتكفين الذين فتحوا السماوات، ورأى منزل الأولياء والتائبين ذا الأزهار الجميلة الأوضاع فتنسم شذاها العطر، وشاهد غابة مودانا التي تنتشر جميع الغواني تحت أشجارها الخضر، وإن شئت فقل شاهد المأوى المعد لأفئدة المؤمنين، فلا يدخله من لا يعرفون التوبة ولا يقربون القرابين ولا يثبتون في ميدان القتال ولا يقدمون الضحايا ولا يميلون إلى الزهد ولا ينصتون للويدا إذا قرئت ولا يزورون الأماكن المقدسة، ولا يدخله من يستخفون بالغسل وبالصدقات ومن يجحدون بالدين ومن يسكرون ومن يزنون، ولا تدخل مدينة إندرا قبل مجاوزة هذه الغابة الساطعة الربانية الغناء.
وقفت أمام مدينة إندرا ألوف المركبات الحية وفيها مجد إندرا بصوت الشعراء والغواني على حين كان النسيم ينشر أطيب رائحة، وفيها استقبلت الآلهة والسعداء فرحين ذلك المحارب ذا الذراعين المفتولين بسلام التبريك على صوت الموسيقى السماوية، فسار على الطريق ذات الكواكب وعلى درب الشموس ذوات الأنوار محاطا بملائكة السماء والأرض والهواء وبصفوة البراهمة والملوك فوصل مكرما إلى حضرة رب الأرباب.
شكل 1-6: تريبتي. حوض مقدس في سفح الجبل.
الراماينا
للراماينا مثل أهمية المهابهارتا فيعد هذان الديوانان الحماسيان، مع كتب الويدا، أعظم ما في الآداب السنسكرتية.
والراماينا، مع أنها أقدم من الميلاد بعدة قرون لا ريب، أحدث من المهابهارتا، فكان ما فيها من التحريف أقل مما في الأخرى، وهي إذ لم تشتمل على غير 48000 بيت من الشعر فإنها أصغر من الأخرى بأربع مرات، ويعتقد الهندوس أن الإله وشنو هو واضعها.
تقوم الراماينا على خبر الحروب التي أوقد نارها راما ليسترد زوجته سيتا الحسناء التي اختطفها الشيطان راونا ملك الجن الأشرار المقيمين بجزيرة لنكا «سيلان» والمعروفين بالراك شسا.
وراما هو، كأحد أبطال المهابهارتا، إله في صورة إنسان، أو إنسان تجسد فيه وشنو، ويتألف أعوانه في الحروب من القردة والنسور، والحوادث في الراماينا ، كما في المهابهارتا، تجري في عالم خيالي، ويدور مغزاها العام حول صراع بين الخير والشر، وما في الراماينا من مخاطر فمصدره ما سام الظالم راونا به الكهان من الخسف وما منعه من تقديم القرابين، فلما سخطت الآلهة على ذلك عقدت مجلسا ورأت أن يتجسد أحدها في صورة إنسان لإنقاذ البشر فأمر برهما أحد الأقانيم الهندوسية الثلاثة وشنو بذلك، فوطن وشنو نفسه على الإخلاص، فولد في صورة البطل راما، ثم نفاه أبوه بتحريض من إحدى زوجاته جاهلا أصله، فأطاع أباه فاختفى هو وزوجته الحسناء سيتا في الغاب، وكان يسكن الغاب دندكا التي اختارها مقرا لعزلته جن وغيلان خياليون وغدت السعلاء
6
سوربن كها أخت راونا ملك الراك شسا عاشقة لراما الجميل فتحول سيتا دون التنفيذ فتحاول سوربن كها افتراسها فيدحرها راما، فيجدع
7
صاحبه لكشامنا أنفها ويصلم
8
أذنيها، فتعزم سوربن كها على الانتقام فتعود مع أربعة عشر ألف عفريت فيهزم راما جميع هؤلاء بنباله السحرية فتغضب سوربن كها من قهرها فتطير إلى سيلان، فتطلب العون من أخيها راونا «الملك ذي الوجوه العشرة والذرعان العشرين» لكي يخطف سيتا، فيجوب راونا الهواء فوق مركبة سحرية ويجد في أخذ سيتا بالحيلة مستعينا بصديقه الذي انقلب إلى ظبي، ويستدرج راما إلى خارج منزله فيختطف حينئذ سيتا متنكرا بزي أحد الزهاد ويجرها معه فوق مركبة سحرية فيجد ملك الطيور وصديق راما النسر جاتايوش في وقفه فيسفر ما حدث من القتال الذي أهين فيه راونا عن قتل ذلك النسر، فيداوم راونا على سيره ويقود تلك التي سباها إلى قصره حيث يسعى في إغوائها على غير جدوى.
ويكتشف راما مكان سيتا بفضل القرد هنومان فيستعين بالملك سغريوا وبجيش مؤلف من قرود ودببة
9
ويزحف لاستردادها، ويحاصر لنكا عاصمة راونا، ويقوم بهجوم هائل وتقلع الجبال والغابات لتطرح فوق الرءوس، ويقاتل راما أخا راونا قتالا شديدا ويغلبه ويدوس أخو راونا هذا ألفي قرد حين سقوطه، ويجرح راما، ومن حسن الحظ أن كان ملك الدببة يعرف وجود نبات سحري فوق جبل كيلاسا قادر على شفاء البطل راما ففوض إلى هنومان أن يأتي بشيء منه، وما كان هذا القرد الباسل ليضيع وقته في البحث عن ذلك النبات، فقد اقتلع الجبل ورجع حاملا إياه على ظهره، فشفي الأمير آنئذ فبعث المجاهدون تارة أخرى وعاد القتال إلى ما كان عليه، فأسفر عن قتل راونا بسهم سحري سلمه برهما إلى راما فهتفت الآلهة الخالدة للنصر الذي أوجب عودة سيتا إلى بعلها، وجاوزت سيتا هذه لهيب موقد فدلت على أنها لم تكن لراونا، وبين إندرا لراما، إذ ذاك، أنه شخص تجسد فيه وشنو، هنالك ركب البطل راما مع سيتا مركبة سحرية فبلغ بها عاصمته أجودهيا حيث يمارس سلطانه أحد عشر ألف سنة.
ومما يلاحظ أن جميع أبطال ذلك الديوان الحماسي هم ممن تجسدت فيهم الآلهة فبدوا من ذوي السلطان الخارق، وبدوا متقلدين سلاحا سحريا قليل الخطر سهل الاستعمال، والمنطق الهندوسي إذ كان لا يبالي بهذه الدقائق إلا قليلا فإننا لا نسهب فيها كثيرا، وإنما نختم المطلب ببعض المختارات المقتضبة من الراماينا.
شكل 1-7: ويلور. دقائق عمود في الزون الكبير «القرن الرابع عشر من الميلاد.»
هبوط الغنغا
صعد مهيشورا فوق ذروة همالية فخاطب نهر الغنغا الذي يجري في الهواء قائلا له: اهبط!
هنالك فتح الحزمة الواسعة من كل جانب محدثا حوضا كبيرا شبيها بغار جبل، فهبط نهر الغنغا الإلهي من السماوات وألقى أمواجه بصولة فوق رأس شيوا العظيم، فتاه على رأسه كدرا واسعا سريعا عاما ليصف دورانه، ثم أراد بهاغي رتي إنقاذ الغنج فعمل على نيل الحظوة لدى مهاديوا زوج أوما الخالد، فأجاب شيوا دعوته فأطلق مياه الغنغا فأرخى ضفيرة من شعره فشق بها قناة فانطلق هذا النهر الإلهي الصافي الطاهر السعيد المثلث المجاري فكان نهر الغنج.
حضرت هذا المنظر الآلهة والرشي والغاندهروا وجموع السيدها فوق مركبات مختلفة وجياد جميلة وفيول رائعة، وجاءت إلاهات سابحات، وأتى الجد أصل المخلوقات برهما يتلهى سائرا مع النهر، فالحق أن طبقات الخالدين هذه اجتمعت هنالك لتشاهد أعظم العجائب، أي لترى نزول الغنغا إلى الدنيا.
وكان يغشى السماء سحاب مظلم مع تألق تلك الكتائب الخالدة الطبيعي ومع الزينة الرائعة الساطعة التي كانت مزينة بها فتنير الفلك بنور ساطع يعدل أنوار مائة شمس.
جرى النهر، وكان يجري سريعا تارة ومعتدلا منثنيا تارة أخرى، وكان يتسع أحيانا، وكان يسير بطيئا طورا وكانت أمواجه تتلاطم مرة وكانت الدخسان
10
تسبح بين أنواع الزحافات والأسماك.
شكل 1-8: كانجي ورم. معبد في زون «أنشئ في القرن الخامس عشر من الميلاد على ما يحتمل.»
وكانت السماء محتجبة كالبروق التي تخرج من مكامنها هنا وهنالك، وكان الجو المملوء أزبادا بيضا كثيرة يلمع مثل لمعان البحيرة المموهة بالإوز في أيام الخريف، وكان الماء ينزل من رأس مهاديوا إلى الأرض صاعدا هابطا عدة مرات كالزوابع قبل أن ينال مجرى منتظما على صدر برتهوي.
رئي آنئذ أن الغرها والغنا والغاندهروا الذين يسكنون فوق صدر الأرض يكسحون مع الناغا مجرى النهر الصائل، ثم مجد هؤلاء الأمواج الصافية التي تجمعت فوق جسم شيوا ونشروها فوقهم فتطهروا من كل دنس، وعاد إلى القصور الأثيرية أولئك الملعونون الذين سقطوا من السماء إلى الأرض فاستردوا طهرهم القديم بعد أن اغتسلوا في ذلك النهر، وقام الرشى الإلهيون والسيدها وأعاظم القديسين بالدعاء خافتي الصوت، وكانت الآلهة والغاندهروا يغنون، وكانت جماعات الأبسرا ترقص، وكانت كتائب الزهاد في حبور، وكان العالم كله غارقا في سرور.
طلوع القمر
طلع القمر وحوله كتيبة من الكواكب، وعليه تاج من الأشعة فيغمر العوالم بأنواره الساطعة، ورأى هنومان الشهير صعود هذا الكوكب الدري الذي ينير الشواطئ الأثيرية فيبدو أبيض من اللبن أو من ألياف السدر سابحا في الفلك كإوزة فوق بحيرة، فأعجب بأنواره اللامعة المتألقة يصبها في الأفق بين قطيع من النجوم كما لو كان ثورا هائما ملتهبا حبا في مراح عجال، وأبصره وهو يطفئ بالتدريج ما طرأ على الأرض من الحر في النهار، ويثير مياه البحر الواسع، ويضيء جميع المخلوقات.
صيد راما للغزال السحري مارتجا
يرى الغزال حينا ولا يرى حينا، ويمر مسرعا خوفا من أن يصمى
11
فاتنا أكبر الراغهويد، ويظهر تارة ويختفي تارة أخرى، ويعدو مذعورا مرة ويقف مرة أخرى، ويغيب طورا ويخرج من كناسه
12
راكضا طورا آخر.
كان الغزال السحري مارتجا خائفا فجاب جميع الغابة، فرآه راما ذات ساعة يركض أمامه فشد قوسه غاضبا، فلم يكد هذا الغزال يرى راما منقضا حاملا قوسه بيده حتى توارى غير مرة محاولا ألا يراه، فكان يبدو قريبا منه حينا، وكان يبدو بعيدا منه حينا آخر.
والغزال، بين ظهور وتوار، استدرج راما الذي يتعقبه إلى مكان بعيد، وكان راما، الراكض وراء الغزال وقوسه بيده فيبصره حينا ولا يبصره حينا آخر في الغابة الكبرى كالقمر الذي تحجبه السحب في الخريف تارة ويبدو حينما تنقشع تارة أخرى، يقول: «يقبل! أراه! يتوارى!» فيجوب جميع أجزاء تلك الغابة الواسعة.
ووصل البطل راما الذي كان يخدع في كل ثانية إلى قبة مظلة من الأعشاب الغضة، فوقف فبدا له ذلك الغزال مع غزلان أخرى ساكنة قائمة بالقرب منه ناظرة إليه مذعورة، فعزم البطل راما على إصمائه فشد قوسه المتينة ووضع أحسن سهامه على وترها.
فوق
13
راما السهم وجذب الوتر إلى شحمة أذنه، ثم فتح جمع كفه
14
فأطلق ذلك السهم الحاد الحار الذي صنعه برهما بيده فأصاب به قلب الغزال مارتجا فأصماه.
إعلان حب سيتا
قالت سيتا لزوجها راما: «سأذهب إلى حيث تذهب، أقسم بحبك وبحياتك أنني لا أرغب في سكنى السماء بعيدة منك يا سليل راغهو الشريف! فأنت مولاي وأنت سيدي وأنت دليلي وأنت إلهي، سأذهب معك، فهذا عزمي القاطع، أراك تريد دخول هذه الغابات الكثيفة الوعرة فسأسير أمامك لأحطم تحت قدمي العشب الناهض والعوسج الشائك فأشق لك طريقا، فالزوج هو القوام على المرأة الصالحة، لا والدها ولا أمها ولا ابنها ولا صديقها ولا قلبها، فلا تنفس علي بهذه السعادة واطرد منك هذا الفكر السيئ كما تطرح القطرة الأخيرة من الكوب، خذني معك أيها الأمير العزيز غير حذر، ثق بوفائي، أنعم علي بهذه الحظوة لأرافقك، ولأعش معك في هذه الغاب التي يسكنها الأسود والخنازير والدببة والنمور، فسأتغذى فيها كما تتغذى بالفواكه والجذور، ولن أكون عبئا ثقيلا عليك، ما أعظم سروري حين أقطن بتلك الغابات الوارفة
15
الطيبة العطرة، إنني إذا ما عشت فيها بجانبك مرت ألوف السنين علي كيوم واحد، فالجنة بغيرك كجهنم، وجهنم معك أطيب منزل.»
شكل 1-9: بيجانغر. داخل الباحة الثانية لزون شيوا الكبير «القرن الخامس عشر من الميلاد.»
جيش شيوا
هنالك بدت كتائب أعوان شيوا السماوية تقذف النار من العيون والأفواه، وهي ذوات أرجل وذرعان ورءوس كثيرة، وهي تلبس أسورة مرصعة بالجواهر، وهي ترفع أياديها في الهواء كأنها أفيال وجبال، ولكتائب من هذه صور الكلاب والخنازير والجمال وأعضاء الأفراس وبنات آوى والأبقار والدببة والقطاط، ولأخرى أفواه الأنمار والفهود ومناقير الغربان والببغاوات ورءوس الزماميج،
16
ولهذه صورة الثعابين الهائلة ولتلك مناقير الإوز والزراريق والعقاعق ومناظر السلاحف والتماسيح والدخسان
17
والقردة، وبعضها يقلد مالك الحزين والضفدع والحوت، ولبعضها عدة عيون وآذان واسعة وبطون كبيرة، وبعضها بغير رأس ولبعضها رأس دب أو رأس كبش أو رأس كلب، وترمي بالشرر من المسام ويلتهب كل شعرة في جباهها وأبدانها. (4) الرموز والأمثال: القصص والأساطير
يمكن عد رموز الهند وأمثالها من أهم ما أنتجته، ولا ريب في أن الهندوس أساتذة لنا في هذا المضمار، وتعد البنج تنترا
18
أشهر مجموعة للقصص والحكم، وهي تتألف من رموز اتخذ فيها الحيوان عامل درس للإنسان، أجل، إن ما فيها من الأحاديث قليل الاشتباك بعضه في بعض، ولكن هذه الأحاديث وما انطوت عليه من الأمثال مما يشمل النظر على العموم، وما في صفحاتها من الحكم الكثيرة، في الغالب، يثير في النفس حب الاستطلاع.
ويرى أن وضع تلك المجموعة تم في زمن قديم جدا، ويرى كثير من العلماء أن بعض تلك الأحاديث اقتبسه إيزوب، بيد أن الكتاب السنسكرتي الذي يشتمل عليها جمع في عدة أدوار ما ذكر فيه اسم عالم فلكي عاش حوالي القرن السادس بعد ظهور المسيح.
شكل 1-10: بيجانغر. مدخل معبد وتوبا «القرن السادس عشر من الميلاد.»
وذاع صيت أمثال الهند وقصصها ببلاد فارس في النصف الأول من القرن السادس من الميلاد ، فأرسل كسرى أنوشروان الساساني «الذي دام عهده من سنة 531 إلى سنة 579م» عالما طبيبا ليترجم البنج تنترا إلى اللغة البهلوية، وحافظ خلفاء هذا الملك على هذه الترجمة إلى أن مزق العرب دولة الفرس في سنة 652، فلما انقضت مائة سنة على زوال تلك الدولة وجد الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور نسخة منها تفلتت من خراب المكتبة الفارسية فأمر بنقلها إلى العربية.
والقرون كلما مرت على تلك الأمثال عظم قدرها، فترجمت البنج تنترا في القرن العاشر إلى الفارسية نظما، ثم نقلت في القرن نفسه إلى التركية بأمر سليمان، وترجمت البنج تنترا إلى اليونانية في أواخر القرن الحادي عشر، ونقلت إلى العبرية فالإسبانية في القرن الثالث عشر، ونقلت إلى الألمانية في القرن الرابع عشر، وترجمها ريمون البيزياري في أوائل القرن الرابع عشر من الترجمة الإسبانية تلك إلى اللاتينية من أجل زوجة فيليب الجميل حنة النبرية، ولا تجد لغة لم ينقل إليها هذا الأثر الخالد بشيء من الأمانة، ومثلت البنج تنترا دورا مهما في آداب القرون الوسطى، ومن هذه المجموعة اشتق أكثر الأمثال الأوربية، ومنها أمثال لافونتن.
ونذكر مجموعة الهتوبديشا بجانب مجموعة البنج تنترا، وهي مثلها مشهورة وإن كانت أحدث منها كثيرا، على أن الهتوبديشا ليست إلا نسخة جديدة من البنج تنترا مع اختصار في بعض الأمور وإضافات أمثال حديثة مقتبسة من مجموعة مجهولة قديمة جدا على الأرجح.
ومجموعة الهتوبديشا هذه نقلت إلى أكثر اللغات الأوربية أيضا، وسنذكر بعض مختارات من حكمها في فصل آخر.
وهنالك مجموعات أخرى مشابهة لتينك المجموعتين وإن كانت دونهما شهرة، فلا نرى فائدة في ذكرها.
ويمكن القول إن كتب الهند حافلة بالقصص والأساطير، فتعد الآداب الهندوسية التاريخية أو الدينية مجموعة منها.
وعرف كثير من الأقاصيص الهندوسية في أوروبا بكتاب ألف ليلة وليلة، وتحتوي هذه المجموعة على كثير من القصص الهندوسية وإن كان معظمها من أصل عربي، غير أن ما في كتاب ألف ليلة وليلة من القصص الهندوسية بلغ من الصقل والإصلاح ما يصعب معه، في الغالب، تمييز ما هو من أصل هندوسي فيها.
وتستحق الأساطير الهندوسية، التي ملئت بها الكتب الدينية أو التاريخية، دراسة خاصة، لا من أجل فائدتها الضئيلة على العموم، بل من أجل المعارف النفسية التي تستنبط منها عن الهندوس فيصعب على الأوربي تبينها، فلا بد من قراءة أساطير غير قليلة للوقوف على منطق الهندوسي الخاص وتطور فكره وطراز ربطه الأمور بعضها ببعض، وقد ترجمت في سبيل هذا الكتاب بضع أساطير نيبالية ذات مغزى، ثم وجدت أن صدره لا يتسع لها، فأوصي المتخصصين في آثار الهند أن يدرسوا أسطورة بيروبكشا الذي هتفت الآلهة بأنه سيتزوج أمه، كما هتفت لإديب، وبأنه لم يسطع أن يتخلص مما قدر عليه مع ما قام به من الجهود، وأن يدرسوا أسطورة إنشاء معبد بدهة بأمر أمير قتل والده خطأ، فدل ما احتوته هذه الأسطورة من التفاصيل على أن أمر القرابين البشرية كان شائعا في الهند حينا من الزمن، وأن يدرسوا أسطورة الرحالة سمبل الذي شاهد أصحابه الخمسمائة تفترسهم خمسمائة عفريتة في أثناء سياحته في سيلان، إلخ. (5) التمثيل الهندوسي
بعض الروايات الهندوسية كتب نظما وبعضها كتب نثرا على العموم، وتختلف لغة هذه الروايات باختلاف ممثليها، فأما أبناء الطوائف العليا فيتكلمون فيها بالسنسكرتية، وأما أبناء الطبقات الدنيا فيتكلمون فيها باللغة البراكرتية.
والأدب في تلك الروايات أرفع مما يبدو في مسارحنا الحديثة مع أنها وضعت بلسان فاسق في بعض الأحيان، فروح الدعارة التي تسود رواياتنا تراها غير موجودة في الروايات الهندوسية تقريبا، أجل، إن للغرام كبير شأن في الروايات الهندوسية، غير أن الزواج يعقبه فيها، ومما كانت تحرمه مبادئ الهندوس الاجتماعية ولوع المرء بزوجات الآخرين، وللخليلات دور مهم في تلك الروايات كالذي لهن في رواياتنا العصرية لا ريب، ولكنه كان لهؤلاء الخليلات من المقام العالي في المجتمع الهندوسي ما يعدل مقام أخواتهن في العالم اليوناني السابق وما هو أسمى مما لأخواتهن في الوقت الحاضر.
وروايات الهند من روايات التوابع،
19
فالحوادث فيها من خوارق العادة على الدوام، وفيها تظهر الآلهة ظهورا مستمرا، وفيها تتزوج الإلاهات بالآدميين ، وفيها تحل الآلهة المعضلات عندما تتعقد.
وروايات الهندوس، من حيث التركيب، ضعيفة ضعفا يستوقف النظر، ففيها ضحي بالمجموع في سبيل التفاصيل على الدوام، وأبطالها ثرثارون على العموم، وتشعر بالتصنع والتكلف فيما يقولون، ومن الصعب أن تجد بين الروايات الهندوسية والروايات اليونانية وجه شبه خلافا لما رآه بعض العلماء.
ولم ينشأ ذلك الضعف عن عطل تلك الروايات من قواعد مقررة، فقد اتبع واضعوها، بالعكس، عدة أصول معقدة في إنشائها، كما يبدو ذلك في كتب كثيرة قضى العلماء المتخصصون زمنا طويلا في ترجمتها.
وممثلو الهندوس كانوا محترمين أكثر مما هم عليه الآن، وغير قليل ما كان يناله واضعو الروايات من الحظوة ما علمنا أن ملوكا لم يترفعوا عن كتابة روايات تمثيلية، ومن هذه الروايات نذكر رواية «مركبة الصلصال»
20
التي ألفها شودراكا ملك مغدها في أوائل التاريخ الميلادي على ما يظهر.
ونذكر من الروايات الهندوسية التمثيلية الكثيرة المعروفة في أوروبا ما وضعه كالي داسا الذي يفترض أنه عاش في القرن السادس من الميلاد، ونعد من رواياته: «السحاب الرسول، وأصل الإله الفتى، وغرام بطل بأوروشي، إلخ»، وأشهر رواياته على الإطلاق هي رواية شكن تلا التي ترجمت إلى أكثر من عشر لغات، والتي تجد لها عدة تراجم فرنسية، فأعجب بها غوته ولامارتين وغيرهما من أعاظم الكتاب، وذلك في زمن خيل فيه أن اكتشاف الآداب السنسكرتية فتح للإنسان آفاقا جديدة، وعلى ما نراه من عدم استحقاق تلك الرواية؛ لما مدحت به في البداءة نجد أن محاسن كتاب الهندوس تجلت فيها أكثر من تجلي مساوئهم، فهي، على العموم، أكثر من غيرها بساطة وأقرب إلى الصواب وأقل مبالغة، وموضوعها إنساني مؤثر وأبطالها بعيدون من التعمل، والكلام فيها موجز وتكاد تخلو من التعسف والمجاز، وفيها بعض فصول عاطفية رائعة.
وخلاصة تلك الرواية هي أن الملك دش ينته كان يصطاد فلقي في صومعة ابنة لإلاهة وناسك اسمها شكن تلا، فأولع بها فتزوجها على الفور على حسب عادة أبطال الهندوس، وزواج بسيط مثل هذا مما كانت تعترف به الشريعة موقوفا على اعتراف الفريقين المختصين به، فلما قضى منها وطرا فتر حبه لها فعاد إلى عاصمته هستي نابورا من غير أن تحزن كثيرا كما يستنبط من صمت واضع الرواية، وهي لم تعزم على اللحاق به إلا بعد أن أبصرت أنها ستصبح أما، وقد خامرها شك في أنه يعترف بها فأخذت معها الخاتم الذي وهبه لها لتثبت حقيقة أمرها، ومن المؤسف أن آذت أحد الزهاد بأن نسيت أن تجيب عن سؤاله متلهية، فدعا عليها فخسر الملك ذاكرته في مكانه فلم يعترف بها، وكان من نتائج هذا النسيان أن غضبت فأضاعت الخاتم في نهر، أجل، وجد الخاتم صياد في بطن سمكة، بيد أن الملك لم يعترف بها فرحلت إلى حيث لم يعرف أحد، فبحث عنها زوجها الملك فلم يجدها إلا بعد بضع سنين، وما كانا ليلتقيا إلا بمعجزة مع ذلك، وبيان الأمر أن ملك السماء إندرا عجز عن قهر جيش للعفاريت فعهد إلى الملك دش ينته في إبادتهم، مما نتبين به ما كان يعزى إلى الآلهة والناس من الشأن، فانتصر هذا الملك عليهم فاستأصلهم فكافأه إندرا بأن وجد له زوجته وابنه، ثم تختم الرواية بتبجيل مشوش قليلا. (6) آثار أدبية مختلفة
إذا عدوت التاريخ، والتاريخ ما عجز الهندوس عن تدوين كتاب فيه ما عطلوا من مثل هذا الكتاب، لم تجد موضوعا لم يكتبوا فيه، فقد ألفوا في الفلسفة واللاهوت والاشتراع، إلخ، عدة كتب، وألفوا، كذلك، في العلوم عدة كتب، وإن كان ما ألفوه فيها هزيلا.
شكل 1-11: تادبتري. نقوش تستر حواجز معبد «القرن السادس عشر من الميلاد.»
ولو عددنا هذه المؤلفات لخرجنا من دائرة الإجمال، فلا نذكر منها، لذلك، غير الكتب المعروفة بالبورانا؛ لما لها من الأهمية عند الهندوس.
وتجيء كلمة البورانا بمعنى «القديم»، ويقصد بها كتب في الديانة وضعت في مختلف القرون، فقيل، بحق، إنها مستودع الأساطير الشعبية، وتشتمل، كذلك، على تاريخ أسر الهند المالكة القديمة الأساطيري، وفيها أكثر من 800000 بيت شعر، ويتألف منها ثماني عشرة دائرة معارف لا يحتمل الأوربي قراءتها.
ونذكر، عدا الكتب التي ألمعنا إليها في هذا الفصل، المؤلفات الفلسفية التي فصلت في الأوبانشدا، وتكلمنا عنها حينما درسنا أمر البدهية، ونعود إليها في الفصل الذي خصصناه للبحث في ديانات الهند الحاضرة، ولا نجد ما يسبق فلسفتها جرأة، ونعترف بأن الهند انتهت منذ ألفي سنة إلى كبريات المسائل التي لم يصل إليها الغرب إلا منذ قرن واحد فلم تحجم عن إيجاد حل جريء لها.
ونعد آثار الهندوس الفنية مهمة إلى الغاية فضلا عن آثارهم الأدبية، ونبحث في فن عمارتهم بعد أن ندرس في المطلب المختصر الآتي لغاتها، وفن عمارتها هو الذي أرى البحث فيه أهم مما في غيره وإن عرف قليلا حتى الآن. (7) لغات الهند
ليس من هدف هذا الكتاب وحدوده أن ندرس فيه لغات الهند، ولو دراسة وجيزة، وسنقتصر في هذا المطلب على المعارف الإحصائية المختصرة التي تشير إلى تنوع تلك اللغات.
يجب على الرحالة الذي يود أن يسيح في الهند، وأن يدرك أمره في كل مكان منها أن يتعلم نحو 240 لغة ونحو 300 لهجة، وإذا ما أراد أن يبدو تام الثقافة في لغات الهند أن يعرف، عدا تلك اللغات وتلك اللهجات ال 540، الفارسية التي هي لغة رسمية للقصور الأهلية والمجتمعات الراقية في الهندوستان، وأن يعرف البهلوية التي هي لغة المجوس، والصينية التي هي لغة المهاجرين في كلكتة، واللغات الأوربية التي يتكلم بها في الهند سكان المستعمرات الإنجليزية والبرتغالية والفرنسية، إلخ، ومما لا يفيده أن يضيف إلى تلك اللغات، المترجح عددها بين 550 و560، لغة السنسكرت القديمة التي تدرس وحدها في جامعات أوروبا على وجه التقريب؛ لأنه لا يجد في الهند رجلا يتكلم بها.
يمكن رد لغات الهند الكثيرة إلى خمس فصائل أساسية يختلف بعضها عن بعض أكثر من اختلاف اللغات الأوربية فيما بينها، وهذه الفصائل هي: (1) اللغات الآرية. (2) اللغات الدراويدية. (3) اللغات الكولية. (4) اللغات التبتية. (5) اللغات الكهاسية.
وتشتمل الفصيلة الأولى على اللغات ذوات اللي، وتشتمل الفصائل الثلاث التي تليها على اللغات ذوات الوصل، وتشتمل الفصيلة الخامسة على اللغات ذوات المقطع الواحد.
والناس يتكلمون، على العموم، باللغات الآرية في شمال الهند وقسم من وسطها، ويتكلمون باللغات الدراويدية في الجنوب، ويتكلمون باللغات الكولية في جهات متفرقة في الشرق الأوسط، ويتكلمون باللغات التبتية في أودية همالية، ويتكلمون باللغات الكهاسية في قسم من آسام.
شكل 1-12: مدورا. «الزون الكبير.» باب معبد الإلاهة ميناكشي «القرن السابع عشر من الميلاد»، «أنشئ زون مدورا الكبير في زمن قديم جدا، ولكن أهم أجزائه التي نشرناها في هذه الصورة وفي الصور الآتية يرجع إلى عهد الراجه تيرومال، أي إلى القرن السابع عشر.»
ومن فصيلة اللغات الآرية تعد اللغة السنسكرتية الميتة منذ زمن طويل والتي وضعت بها كتب الهند المقدسة القديمة، ولا تجد لهذه اللغة غير شأن مشابه للغة اللاتينية في كتب العبادات الكاثوليكية، فلا يتعلمها سوى شرذمة قليلين من البراهمة.
وترجع عناية الأوربيين العظيمة بالسنسكرتية في جامعاتهم إلى عدهم هذه اللغة، فيما مضى، الأصل الذي اشتقت منه اللغات الأوربية، بيد أن من المعلوم في هذه الأيام أن اللغات الهندية الأوربية «السنسكرتية والألمانية والسلافية واللاتينية واليونانية والزندية» هي أخوات اشتقت من لغة مشتركة ضائعة في الوقت الحاضر، فعادت السنسكرتية لا تكون لغة أما أكثر من أية لغة آرية أخرى كاليونانية أو الهندية أو اللاتينية مثلا، وانحصرت فائدة الأوربيين من تعلمها في قراءتهم كتب الهند الدينية القديمة الأصلية.
وفي الهند، عدا اللهجات، ست عشرة لغة آرية، والهندوستانية هي أكثر هذه اللغات الآرية انتشارا وأجدرها بالتعليم، فهي لغة الهند الرسمية، وهي لغة الأعمال فيها، وبها تكتب الصحف وأهم الكتب، ولا غنية لمن له علائق بالهند عن معرفتها.
والهندوستانية الكثيرة الانتشار في الهند، اليوم، هي حديثة التكوين مع ذلك، فلا يرجع تاريخ ظهورها إلى أقدم من القرن الخامس عشر، والهندوستانية مزيج من الهندية، التي هي من أصل آري فكان الناس يتكلمون بها في الهندوستان، ومن اللغتين العربية والفارسية اللتين كان مسلمو الهند يتكلمون بهما، وقواعد هذه اللغة سنسكرتية وتكتب بالحروف الفارسية «العربية» على العموم، وتعرف هذه اللغة، في الغالب، بكلمة الأردو التي تعني المعسكر؛ لأنها كانت لغة المعسكرات المغولية بدهلي، ونشأت هذه اللغة نشوءا غريزيا عن صلات شعوب الهند بعضها ببعض، فعلى علماء النحو أن يدرسوها إذا ما رغبوا في معرفة نشوء اللغات وتحولها.
وأكثر اللغات الآرية شيوعا، بعد الهندوستانية، هي الهندية التي يتكلم بها أهالي قسم من الهندوستان نفسها، والبنجابية التي يتكلم بها أهالي البنجاب والبنغالية التي يتكلم بها أهالي البنغال، إلخ.
ولا قرابة بين اللغات الآرية واللغات الدراويدية التي يتكلم بها سكان جنوب الهند كما ذكرنا ذلك في فصل سابق، فاللغات الدراويدية من فصيلة لغوية مستقلة، أي من اللغات ذوات الوصل المؤلفة، كما هو معروف، من أصل ثابت توصل مقاطع بأوائل كلماته وأواخرها.
وتحتوي فصيلة اللغات الدراويدية على أربع عشرة لغة وعلى عدة لهجات لكل واحدة من هذه اللغات، ويتكلم بهذه اللغات خمسون مليونا من الناس، وأهم هذه اللغات هي التمولية التي يتكلم بها في جنوب الهند الشرقي الممتد إلى رأس كماري والتي هي غنية بآدابها، والتيلغوية التي يتكلم بها 17 مليونا من الهندوس في شرق الدكن وفي بعض أملاك نظام، والكنرية والمليالمية اللتان يتكلم بهما في الساحل الغربي، إلخ.
وفصيلة اللغات الكولية التي تتكلم بها قبائل الهند الوحشية هي عنوان ما لسكان الهند الأصليين من اللهجات قبل المغازي الأجنبية.
ولا أثر لفصيلة اللغات التبتية إلا في أودية همالية.
ولا يتكلم باللغات الكهاسية إلا أناس قليلون في جنوب آسام، وهذه اللغات من ذوات المقطع الواحد، أي من اللغات المؤلفة من جذر ثابت مستقل كما هو أمر اللغة الصينية.
وإليك جدولا بأكثر لغات الهند شيوعا على حسب الأهمية العددية، فالرقم الذي هو بحذاء كل لغة منها يدل على عدد ملايين الآدميين الذين يتكلمون بهذه اللغة أو اللهجات المشتقة منها:
مليون
82,5
الهندوستانية
39
البنغالية
17
التيغلوية
17
المراتهية
16
البنجابية
13
التمولية
9,5
الكجراتية
8,5
الكنرية
7
الأورية
5
المليالمية
4
السندهية
2
الهندية
ولا تسهل السياحة في داخل الهند بسب تنوع لغاتها ولهجاتها، فما أكثر ما كابدنا من المشاق من جراء ذلك، ويصعب تعيين الأمكنة في الهند أحيانا، ففي الهند أماكن يسمى كل واحد منها في الخرائط والكتب بعدة أسماء يجهلها الأهلون على العموم، فعلى المرء أن يكون مكاشفا ليعلم، في الغالب، أي مكان قصد المؤلف في كتابه.
21
ثبت مما قلناه آنفا عن اختلاف لغات الهند أن شعوب الهند ليست أقل اختلافا في لغاتها منها في عروقها، وما بين هذه الشعوب من الفروق العميقة المزدوجة إذ كان أعظم مما بين الشعوب الأوربية، لا ريب، فإنها لا كبير أمل لها في أن توفق لتأليف أمة واحدة.
هوامش
الفصل الثاني
مباني الهند
دراسة فن بناء الهند ذات مصاعب عظيمة، فتجد بعض الأدوار من جهة عاطلة عن المباني فتكون الأمثلة التي هي على جانب كبير من الأهمية، في بعض الأحيان، واحدة تقريبا، وترى مباني أحد الأدوار من جهة أخرى تختلف بحسب البقاع اختلافا لا تجد معه، في الغالب، قرابة ظاهرة بينها، فالحق أنك لا تبصر في مباني الهند تلك الوحدة التي عزيت إليها، كما أنك لا تبصر مثل هذه الوحدة في أديانها ولغاتها وفنونها، والحق أن الهند مؤلفة من بلدان متباينة بيئات وسكانا أكثر مما يشاهد بين بقاع أوروبا المختلفة.
يمكن عالم الآثار الذي يدرس مباني الغرب، كمباني فرنسا مثلا، أن يتبين، في الغالب، نشوءها بين قرن وآخر وأن يلاحظ التطورات المتتابعة التي جاوزتها بين شكل وآخر، وليست الأدوار التي لم ينته إلينا شيء منها طويلة أبدا، ويمكن وصل حلقاتها بالمخطوطات التي وصلت إلينا عند الضرورة، فبالمباني وبالكتب يسهل بعث ماضي الغرب.
والأمر غير ذلك في الهند حيث أباد الزمان والإنسان شهود أدوار حضارتها الغابرة الطويلة إبادة لا رجعة معها، وحيث لا تجد إلى زمن قريب أثرا خطيا جديرا بأن يسمى تاريخا.
وإن عالم الآثار الذي يطوف في الهند، وهو يعرف أن ماضيها حافل بالحضارات الكثيرة القوية، ليبهت مما يراه ومما لا يراه فيها، فلا تجد في الهند حجرا أثريا من بقايا أقدم حضاراتها، وإن شئت فقل من حضارتها التي ظهرت قبل الميلاد بخمسة عشر قرنا فأشادت بذكرها كتب الأدب، ولا تجد من الحضارة التي قامت بعد تلك بنضج دام ألف سنة سوى بقايا لا تكفي لإيضاح تاريخها وإن كفت لإثبات عظمتها، والمباني، حين بدت في الهند بغتة قبل الميلاد بنحو ثلاثة قرون، مثلت بدرجة من الكمال لم تجاوز قط مع تعاقب القرون .
ولا يكتشف الباحث في أية ناحية من الهند الأدوار الأولى التمهيدية التي تدل عليها بقايا الحضارات الأخرى على الدوام تقريبا، ففي بعض بقاع الهند يرى الباحث ظهور المباني فجأة وتجمعها في قرنين أو ثلاثة قرون ثم يرى تواريها بغتة، أي إنه لا يجد قبلها وبعدها غير الليل الدامس، أجل، إنه يكتشف في بقاع أخرى من الهند مؤثرات يونانية وفارسية بادية، بيد أن هذه المؤثرات لا تعدو بعض البقاع، وقد توارت بغتة أيضا، وحقا أنه يشاهد، من فوره، في إحدى البوادي الهندية أبوابا هائلة مغطاة بنقوش عجيبة، غير أنه إذا ما جاب جميع بلاد الهند الواسعة لا يكاد يرى من نوعها غير اثنين أو ثلاثة من أدوار حضارة دامت أكثر من عشرين قرنا، وهو إذا ما عدل عن اكتشاف الماضي القديم المظلم من تحت الأعفار فاقتصر على دراسة مباني دور أحدث من تلك الأدوار معروف تاريخيا كالدور الإسلامي لم يسلم من المصاعب أيضا، فمن العبث أن يفترض أنه يتألف من هذه المباني سلسلة متجانسة بزعم أنها شيدت من قبل شعوب تدين بديانة واحدة وتتكلم بلغة واحدة، فما تجده من الفروق بين المباني التي أقامها أتباع النبي في دور واحد وبقاع مختلفة من الهند هي من الوضوح والاتساع ما يجعلك تسأل معه: هل هذه المباني من آثار قرون واحدة وشعوب واحدة؟
وتاريخ ماضي الهند وحده يمكنه أن يلقي بعض النور على الشذوذ الظاهر الذي تسفر عنه دراسة أطلالها، وبالوثائق التاريخية يمكننا أن نتبين الحوادث التي لا تفسر بغيرها إذا فسرت هذه الوثائق تفسيرا صالحا مع نقصها، فبالتاريخ وحده ندرك مباني الهند، ومباني الهند وحدها هي التي تكمل هذا التاريخ، وبفضل هذه المباني خرجت أدوار من عالم النسيان بعد أن سكتت عنها الكتب والعنعنات. (1) تقسيم مباني الهند
إذا استثنيت بعض المغاور التي ليس لها قيمة فنية وجدت اقدم مباني الهند لم تنشأ إلا بعد القرن الثالث قبل الميلاد، ولدينا أدلة صحيحة، مع ذلك، على أن الهندوس كانوا ذوي طراز بناء قبل هذا التاريخ فأقاموا فيه مدنا وشادوا فيه قصورا، فنحن نعلم من الوصف الذي ورد في ديواني المهابهارتا والراماينا ومن المباني التي انتهت إلينا ومن شرف بهارت الكثيرة النقوش مثلا، أن تلك المباني بلغت من الكمال درجة لم تنلها إلا بمجاوزة ماض فني طويل، ونحن نفترض، على العموم، أنها زالت لأنها كانت مصنوعة من الخشب والآجر وإن صنعت أسسها من الحجر، كما تدل عليه محافظة أهل نيبال، المتمسكين بقديم العادات، على عادة إقامة مبانيهم من الخشب والآجر إلى يومنا هذا، وكما لاحظه ميغاستين قبل الميلاد بثلاثة قرون، وكما يشهد به معبد بدهة غيا الكبير المصنوع بعضه من الآجر في ذلك الدور على الأقل، فكان البناء الوحيد الذي انتهى إلينا، فالآجر والخشب إذ كانا أسهل استعمالا من الحجر في البناء كان لنا أن نرى تفضيل الهندوس لهما على الحجر.
شكل 2-1: مدورا. منظر معابد أخذ من حوض السدر الذهبي.
ولم تبدأ الهند، على ما يحتمل، تعرف المباني الحجرية التي وصل إلينا بعضها إلا في عهد أشوكا أي في القرن الثالث قبل الميلاد، ومن المحتمل أن صنعها بناءوها منقولة عن المباني الخشبية القديمة، فعلى هذا الرأي كثير من العلماء، وقد وجدت ما يؤيده فيما شاهدته بنيبال من اقتباس بنائيها، بضبط، في المعابد الحجرية أعمدة المعابد الخشبية المنقوشة.
شكل 2-2: مدورا. دقائق نقوش في معبد من معابد الزون الكبير.
وتبدو الآثار البدهية القديمة، كالأعمدة التذكارية والقباب والشرف المنقوشة، من كمال الصنع ما نسج به على منوالها عدة قرون في البقاع الهندية المختلفة: أمراوتي وأجنتا وسانجي، إلخ، وظن قبل تعيين الزمن الذي شيدت فيه هذه المباني، أن من الممكن إثبات تطورها الفني بالمعابد الأولى المصنوعة تحت الأرض، بيد أن تلك المنقوشات العجيبة معاصرة لهذه المعابد الأولى التي نحتت تحت الأرض لتكون ملاجئ أو صوامع للرهبان المعتكفين، وما مثل من يريد أن يستنبط أصول فن عمارة دور من آثار ابتدائية كتلك إلا كمثل من يستنبط أصول مباني المدن الحديثة من أكواخ الرعاة في الجبال، والمعابد المنحوتة تحت الأرض حينما اتفق لها بعض الأهمية صارت تصنع وفق الآثار المعمارية المعدودة من الطراز الأول.
وإذا عدوت المعابد المنحوتة في الصخر لم يبق لديك من تلك الأدوار الابتدائية سوى عدد قليل من النقوش والأعمدة التي تفلتت من التخريب بمعجزة، ومن حسن الحظ أن فكر البدهيون في نحت معابدهم الأولى في الجبال وإنقاذها بذلك من يد الزمن، ولو لم يخرب الإنسان فيها بعض الشيء لظلت كما كانت حين صنعت، وليس عدد هذه المعابد قليلا إذا ما قيس بالآثار التي أقيمت فوق الأرض كالأعمدة التي صنع كل واحد منها من حجر واحد فنقش عليها أشوكا مراسيمه وكالشرف المنقوشة القليلة في الوقت الحاضر والمحيطة بالمزارات المخروطة الشكل.
ولم يبق شيء من القصور والمعابد الكبيرة التي صنعت قبل الميلاد فوق الأرض، ووجد فاهيان الذي زار الهند في القرن الرابع من الميلاد أطلالا لقصور أشوكا، ووجد فاهيان هذا ما كانت عليه تلك القصور من الروعة فقال إن الناس ليعجزون عن صنع مثلها.
وغابت المعابد البدهية المصنوعة تحت الأرض غيابا تدريجيا بين القرن الخامس والقرن الثامن من الميلاد، واستبدلت بها معابد مصنوعة فوق الأرض لمختلف الديانات، وهذه المعابد إذ أنشأ أكثرها أتباع الجينية أطلقت كلمة الطراز الجيني على الطراز الذي أقيمت به، ولا أوافق على هذه التسمية ما رأيت معابد برهمية وجينية شيدت على هذا الطراز في دور واحد كما بدا لي من المقايسة بين المعابد البرهمية والمعابد الجينية في كهجورا.
وسنرى في غضون هذا الفصل أن فن عمارة الهند قد اخلتف اختلافا كبيرا بين بقعة وأخرى وبين دور وآخر، وما كان الاختلاف الذي نبصره في فن العمارة الأوربي بتعاقب القرون بأعظم من ذلك.
وعلى الباحث في المباني الهندوسية أن ينظر إلى جزئياتها عند الفصل في أمرها، لا إلى خرائطها البسيطة، ومما لا ريب فيه أن معابد العصر البدهي كانت تؤلف من رداه واسعة منحوتة في الجبال ومن مزارات مخروطة الشكل محاطة بأعمدة، وأن معابد العصر البرهمي تؤلف في شمال الهند من ردهة أو عدة رداه قائمة الزوايا مزينة بأروقة فوقها هرم ذو وجوه مستديرة الخطوط، وأنها تؤلف في جنوب الهند من أطر واسعة قائمة الزوايا تدخل من أبواب هرمية ذوات وجوه مستقيمة الخطوط والأضلاع وذوات طبقات كبيرة، ووصف عام كهذا لا يغني القارئ، مع ذلك، عن النظر إلى الصور التي نشرناها في هذا الكتاب فيمكنه أن يتبين بها طرزها.
وهنا نذكر أن مهندسي الهندوس لم يشيروا بصنع القباب المتوجهة إلى مركز واحد في جميع معابد الهند التي أنشئت قبل العصر الإسلامي، وبعد هذا العصر في الغالب، فصانوا المعابد القديمة من الخراب بذلك، فقباب كتلك التي تصنع في الغرب بمواد قليلة فتغشى مساحات كبيرة تحمل في ثناياها بذور زوالها «فلا تنام أبدا» كما يقول الهندوس، فالحق أن البقاء لا يكتب لمبان تشاد بحسب طرقنا الأوربية في بلد كثير الزلازل والعوارض الجوية كما يدل عليه أمر المباني التي أنشأها الإنجليز، والحق أن مباني الهند لو أقيمت وفق قواعدنا ما انتهى إلينا منها سوى الغبار.
اتخذ الهندوس، دعما لجسر أو سترا لبناء، القباب ذوات المداميك الأفقية التي ينضد بعضها فوق بعض تنضيدا ينتأ به عاليها مما سفل، فإذا كانت المساحة التي يراد غموها
1
واسعة أضيف إلى الأعمدة التي تمسك حجارة الدائرة صف أعمدة أخر قريب من مركز هذه الدائرة، ولم يستعمل الهندوس القباب والأقواس المتوجهة إلى مركز واحد في معابدهم إلا نادرا، حتى بعد أن نشر المسلمون هذا النوع من البناء، ولا يفترض أنهم جهلوا ذلك الطراز قبل المغازي الإسلامية ما رأينا الإغريق الذين لهم صلات سابقة بهم كانوا يعلمونهم إياه، لا ريب، عند افتراض جهلهم له كما جهله المصريون في القرون القديمة.
شكل 2-3: مدورا. دقائق أعمدة رواق في الزون الكبير «يبلغ ارتفاع الأعمدة إلى السقف نحو خمسة أمتار ويبلغ ارتفاع تماثيل الحيوانات الحجرية الغريبة نحو مترين.»
وما يتخذ لحضارات الهند ومعتقداتها الدينية من التقسيمات العامة يمكن أن يتخذ مثله لمبانيها، والواقع أن هنالك فروقا عظيمة بين فن العمارة في العصر البدهي وبينه في عصر النهضة البرهمية والعصر الإسلامي، ولكن تقسيما كهذا ناقص نقصا تاما، فما بين العروق من الفروق يؤدي إلى فروق بين المباني أشد من التي يؤدي إليها اختلاف العقائد، فبهذا نكتشف السر في اختلاف فن العمارة في شمال الهند عن اختلافه في جنوبها مع اعتناق تينك الجهتين لديانة واحدة في أكثر من ألف سنة.
شكل 2-4: مدورا. دقائق عمود في ردهة الزون الكبير المعروفة ببوتهو مونتابام.
والتقسيم الذي يلوح لنا صلاحه هو الذي يستند إلى البقاع التي أقيمت فيها المباني، وهذا هو التقسيم الذي رضينا به، وهذا هو التقسيم الذي يرى به القارئ، الناظر إلى صور هذا الكتاب، أنه ما يقرب به بين متشابه المباني وما يساعد على الوصف الشامل، ونحن لم ندرس في مختلف المطالب مختلف المباني القائمة في البقعة الواحدة، كدهلي مثلا، إلا عندما تكون هذه المباني قد أنشئت في أدوار شديدة التباين فلا يمت بعضها إلى بعض بوجه شبه.
وأقل نظرة إلى صور هذا الكتاب تدل على أن كمال مباني الهند ليس بحسب أزمنة إنشائها، بل تدل على أن أقدمها أتمها، ويتجلى بلوغ فن البناء ذروته في معابد جبل آبو ومعابد كهجورا التي ترجع إلى القرن العاشر من الميلاد، فعلى ما في هذه المعابد من نقص في فن التماثيل بلغت جزئياتها من الكمال مبلغا لم تقدر القرون معه على إضافة شيء إليها.
ولا يطمعن الباحث أن يجد في الهند مثل ما يجده في الغرب من تطور فن العمارة التدريجي، ففن العمارة في الهند، كآداب الهند، قد وصل إلى درجة من الرقي بسرعة، والهند لم تجاوز هذه الدرجة بعد أن وصل فنها إليها.
ويدل الجدول الآتي على عناصر التقسيم الجديد الذي هدتنا إليه مباحثنا، ونخصص، بعد أن نسرده، بضعة مطالب للبحث في تاريخ فن عمارة كل دور وكل بقعة بحثا موجزا، ونحن إذ كنا لا نستطيع ، لضيق المكان، أن نصف بالتفصيل أي بناء، نحيل القارئ الذي يهمه هذا الموضوع إلى الكتاب الكبير الذي لم يكن هذا الفصل غير خلاصة خاطفة له،
2
فمن ذلك الكتاب اخترنا صور هذا السفر الكبيرة تابعة للتصنيف الذي نعرضه، فهي تكفي ليتبين بها القارئ أهمية آثار الهند.
تقسيم مباني الهند العام (1)
فن عمارة الهند البدهي «بين القرن الخامس قبل الميلاد والقرن الثامن بعد الميلاد.»
مباني الهند الأولى «أعمدة تذكارية، معابد وأديار منحوتة في الصخر.»
أمثلة: أعمدة الله آباد ودهلي التذكارية، مباني بهاجا وكارلي وأجنتا، إلخ.
مبان بدهية أنشئت فوق الأرض.
أمثلة: مباني بهارت وسانجي وسارناتهه وبدهة غيا، إلخ.
مبان يونانية هندوسية في شمال الهند الغربي.
أمثلة: مباني ببشاور وكشمير، إلخ. (2)
فن بناء البرهمية الجديدة في شمال الهند ووسطها «بين القرن الخامس والقرن الثامن عشر من الميلاد.»
فن العمارة في شمال الهند الشرقي.
أمثلة: مباني ساحل أوريسة «بهو ونيشور، جكن ناتهه، إلخ.»
فن العمارة في راجبوتانا وبنديل كهند.
أمثلة: مباني كهجورا وغواليار وجتور وجبل آبو وأوديبور وناغدها، إلخ.
فن العمارة في كجرات.
أمثلة: مباني أحمد آباد، إلخ.
فن عمارة الهند الوسطى.
أمثلة: مباني إليفنتا وإيلورا وأمبرناتهه، إلخ. (3)
فن عمارة الهند الجنوبية «بين القرن السادس والقرن الثامن عشر من الميلاد.»
معابد جنوب الهند المصنوعة تحت الأرض.
أمثلة: مباني مهابلي بور وبادامي، إلخ.
فن عمارة المعابد في جنوب الهند.
أمثلة: مباني شلمبرم وتانجور وتريبتي وكانجي ورم وبيجانغر ومدورا وسري رنكهم، إلخ. (4)
فن العمارة الهندوسي الإسلامي «بين القرن الثاني عشر والقرن الثامن عشر من الميلاد.»
فن العمارة الإسلامي قبل العصر المغولي.
أمثلة: مباني دهلي القديمة ومباني أجمير وبيجابور وغول كوندا، إلخ.
فن العمارة في العصر المغولي.
أمثلة: مباني أغرا ودهلي وفتح بور ولاهور، إلخ.
فن العمارة التي توحي بالمؤثرات الإسلامية في مختلف بقاع الهند التي يختص الهندوس بأكثر مبانيها.
أمثلة: المباني الإسلامية في غواليار ومهوبا ومدورا، إلخ. (5)
فن العمارة الهندوسي التبتي «بين القرن الثاني من الميلاد والزمن الحاضر.»
أمثلة: مباني شم بهوناتهه وبدهة ناتهه وبهات غاؤن وبتن وكهات ماندو، إلخ. (6)
فن العمارة الهندوسي الحديث.
أمثلة: مباني بنارس وأمرتسر، إلخ. (2) فن عمارة الهند في العصر البدهي «بين القرن الخامس قبل الميلاد والقرن الثامن بعد الميلاد»
لا يرجع أقدم مباني الهند إلى ما قبل زمن راق من العصر البدهي، أجل، وجدت في البنغال معابد مصنوعة تحت الأرض في القرن الخامس قبل الميلاد، بيد أن هذه المعابد ليست إلا حفائر تثبت مهارة الهندوس في نحت الحجر، ولا تكشف عما كان عليه فن عمارتهم، فالهندوس لم تبد آثارهم المعمارية إلا في عهد الملك أشوكا الذي كان قبل الميلاد بنحو 250 سنة.
ويمكن تصنيف جميع آثار الهند في العصر البدهي كما يأتي:
الأعمدة التذكارية
ترجع هذه الأعمدة التذكارية إلى عهد الملك أشوكا الذي أمر بأن تنقش عليها مراسيمه، ويمكن عدها من أهم المصادر لتاريخ الهند، وتجد أشهرها في الله آباد ودهلي، وتبصرها مستورة بكتابات خاصة بالتعاليم الدينية وذكريات الملوك، إلخ، ويعلو تيجانها أفيال أو أسود تذكرنا بأعمدة برسيبوليس، ويفترض أن هذه الأعمدة كانت منصوبة، على العموم، أمام القباب البدهية أو ما إليها، وتشاهد، أحيانا، أمام المعابد الواقعة تحت الأرض، ولا سيما في كارلي.
المعابد والأديار المنحوتة في الصخر
إن أقدم مباني الهند وأغناها ما نحت في منحدرات الجبال من المعابد والأديار.
وإذا استثنيت بعض الرداه المنحوتة تحت الأرض في بهار، فترجع إلى القرن الخامس قبل الميلاد ولا تبدو غير حفائر بسيطة، وجدت تاريخ أقدم تلك المعابد والأديار لا يزيد عن القرن الثاني قبل الميلاد، وداوم القوم على صنع معابد وأديار من ذلك الطراز إلى القرن الثامن بعد الميلاد فيكون مجموع الزمن الذي استمروا على إنشائها فيه نحو ألف سنة، وهم لم يكفوا عن صنعها إلا بعد تواري البدهية عن الهند، فالحق أن تسعة أعشار تلك المعابد والأديار بدهية، وأن عشرها فقط برهمي أو جيني.
وتقسم تلك المباني المنحوتة في الصخر إلى معابد وأديار، فنعد من هذه المعابد ثلاثين ونعد من هذه الأديار ألفا.
ولم يعد بعض هذه المباني حفائر قليلة الزينة، بيد أنك ترى في أكثرها وأقدمها غنى في النقوش والتخاريم لم يتفق لأمة أحسن منه.
وفي هذا الكتاب نشرنا صور ما هو مهم من تلك المعابد ولا سيما أشهر ما يشاهد في بهاجا وكارلي وإيلورا وبادامي وأجنتا، إلخ، والآن أقول بضع كلمات عما هو موجود منها في أجنتا ليتمثل القارئ صنعها والعمل الهائل الذي تعرب عنه، على أن أذكر في مطلب آخر شيئا عما في إيلورا.
نحتت معابد أجنتا بعيدة تسعين كيلو مترا من أورنغ آباد، وذلك على جوانب جبل وعر فوق فج غامر يجري منه سيل فائر، ولا تبلغ تلك المعابد إلا بجوب أكداس من الصخور، ويدل منظر تلك الأماكن الوهرة الوعرة أن الرهبان الذين كانوا يهاجرون إليها كانوا يتمسكون بالعزلة تمسكا لا يوصل معه إليها بأية وسيلة ممكنة، كما يستدل عليه من حال الأوربيين القليلين الذين يرون زيارة أجنتا، مع قرب بمبي، فيقتضي تحقيق رغباتهم برحابة.
ويثبت تفاوت أعمار تلك المعابد أن كثيرا من الآدميين قد عاشوا تحت قبابها الدجن قرونا طويلة، ولن يتبين الإنسان العمل الذي تطلبه نحت تلك المعابد في جوف الجبل إلا إذا تخيل القرون التي تم فيها.
ومن المحتمل أن يكون أقدم تلك الآثار قد أنشئ بأجنتا قبل ظهور المسيح ب 150 سنة، وأحدثها قد تم بعد الميلاد بسبعة قرون، وما بين تلك الآثار من الفروق يقوم على فيض الزخارف أكثر مما على القيمة الفنية، ففي أجنتا، كما في بقية بلاد الهند، لا تستند قيمة المباني إلى قاعدة التطور التدريجي.
ويتصف أحدث معابد أجنتا باشتمالها على صورة بدهة، على الخصوص، اشتمالا مكررا بما لا حد له، وتحتوي هياكل هذه المعابد على نقوش يبدو بدهة بالغا بها درجة السعادة الإلهية.
ويتقدم معابد أجنتا وأديارها المنحوتة تحت الأرض شرف حجرية قائمة على أعمدة منحوتة مثلها في الصخر.
وفي أجنتا عدة أديار تابعة للمعابد، ويتألف كل واحد منها من حجرات حول ردهة، وتشتمل كل واحدة من هذه الحجرات على سرير من حجر، ولا تنفصل هذه الحجرات عن المعبد في الغالب، بل تتخذ الردهة التي تحيط بها هذه الحجرات، وهي واسعة أحيانا، معبدا مشتملا على مقاصير جانبية خاصة بعبادة بعض الأولياء كما في الكنائس الكاثوليكية، ولم تفتأ الأديار الأخيرة تتسع، فوجب دعم سقف المعبد الواقعة حوله بأعمدة إضافية، وإن كان هذا السقف مؤلفا من الجزء الأعلى مما هو منحوت في الجبل، وتحتوي أجنتا على رداه منحوتة تحت الأرض يبلغ جانبها 28 مترا ويحملها 24 عمودا ضخما لا يزيد ارتفاعه على أربعة أمتار.
ويرى في صدر كل واحدة من تلك الرداه العظيمة المنحوتة في الصخر، على العموم تمثال كبير لبدهة تحيط به تماثيل أخرى، وتستر الأعمدة والسقوف نقوش وزخارف ملونة، وتستر الحيطان تصاوير ممثلة لحياة بدهة، وهذه التصاوير، مع رداءتها، مفيدة إلى الغاية، فهي وحدها كل ما انتهى إلينا من التصوير في الهند الغابرة، ومن المحتمل أن تكون قد صنعت في القرن الخامس من الميلاد، ومما يشمل النظر الوجوه فيها، فملامح هذه الوجوه وقسماتها وزيها وزينتها مما يدل على عرق يختلف عن العرق الذي يرى مثاله في المباني الأولى القائمة في بهاجا وكارلي وبهارت وسانجي، إلخ.
شكل 2-5: مدورا. داخل قصر تيرومل نايك «القرن السابع عشر من الميلاد» أقيم هذا البناء الذي هو من أهم قصور الهند في القرن السابع عشر أيام الراجه الهندوسي تيرومل، فلو جرد من التماثيل التي تزين مختلف أجزائه لعد أثرا إسلاميا خالصا، فيمكن عده مثالا على التأثير العظيم الذي اتفق للمسلمين في جميع بقاع الهند، ومنها التي لم تخضع لسلطانهم.
ولا شيء يفوق تلك المعابد المنحوتة تحت الأرض غير معابد إيلورا، فمن أروع المناظر منظر تلك الرداه الواسعة ذات الأعمدة الضخمة والتي يتيه النظر وسط ظلامها فلا يرى فيها تمثال بدهة العظيم، الذي يلوح العلوج حارسين له، إلا على نور المشاعل.
القباب
يذكرنا شكل القباب، على العموم، بمزاراتنا الأوربية القديمة، فهي ذات شكل نصف كري على العموم، كما في سانجي، وقد يكون برجيا كما في سارناتهه، ويحيط بها سياج حجري ذو نقوش، وتدخل من أبواب ضخمة.
ونتنور أمر تلك القباب من وصف قبة سانجي الكبيرة، فهذه القبة من أقدم مباني الهند وأجملها، وأنشئت هذه القبة نفسها في أيام الملك أشوكا، أي في زمن أقدم من 250 سنة قبل ظهور المسيح، وأنشئ سياجها الحجري وأبوابها في أوائل القرن الأول من الميلاد، ولا تحتوي الهند على غير قليل من المباني التي أقيمت في ذلك العصر إذا استثنيت المعابد التي نحتت في الصخر، وإذا كانت مباني سانجي قد تفلتت من التخريب فذلك لوقوعها في بقعة منيعة، وإذا أدنيت إلى ذلك الأثر ما شيد في ذلك العصر من المباني، كمباني بهارت مثلا، فعلمت أن هذه ليست دون تلك زينة أيقنت أن فن العمارة في كبريات العواصم الهندية كان قد بلغ درجة رفيعة من العظمة لا ريب.
أقيمت قبة سانجي في زمن أنشئ فيه ما يماثلها من المباني التي شيدت للدلالة على مكان مقدس أو لتخليد حادثة دينية.
وشكل قبة سانجي نصف كري تقريبا، وظهر هذه القبة مسطح، ويبلغ قطر قاعدتها 34 مترا، ويبلغ ارتفاعها نحو 17 مترا، كما كان يعلو كل ما يماثلها، هيكل متآزي السطوح لإمساك ثلاثة ألواح حجرية منقوشة يزيد عرض كل واحد منها عن الذي فوقه، وهذا إلى أن شكل الهيكل ذلك كان شائعا فتجده فوق رسوم القباب والنقوش البارزة وفي المعابد المنحوتة تحت الأرض.
وقبة سانجي أنشئت من الآجر كغيرها من المباني المماثلة لها، وأهم أقسام هذه القبة هو السياج الحجري الكبير الذي يحيط به، ولا سيما الأبواب الأربعة الرائعة التي يدخل منها فنشرنا صور أبرز أجزائها.
ذلك السياج الحجري يحدق بتلك القبة، ويتألف من أساطين عمودية مثمنة الزوايا ذوات ثغرات أدخلت إليها أعمدة حجرية أفقية إتماما لها.
ويشتمل ذلك السياج على نقوش كثيرة، ولكن دقائق عمل المتفننين تجلت، كما يظهر، في تلك الأبواب الكبيرة التي تكلمنا عنها آنفا، فترى جميع وجوه هذه الأبواب مغطاة بضروب النقوش البارزة، والباب الشمالي هو أهم هذه الأبواب، فيبلغ ارتفاعه نحو عشرة أمتار ويبلغ عرضه ستة أمتار.
والنقوش البارزة التي تستر تلك الأبواب الضخمة تشير، على العموم، إلى مناظر حياة بدهة حينما كان أميرا وإلى معايشه قبل ذلك، ولم يصور هذا المصلح الكبير فيها بحسب الأوضاع المتفق عليها فانحصرت فيما بعد في رسمه واقفا أو متربعا.
ويعلو هذا الباب الشمالي خطاف، والخطاف رمز بدهة، وتجد عن يسار ذلك الباب وفي قاعدة العمود صورة لأثر قدم بدهة.
ومع أن نقوش الأبواب الأخرى وزخارفها دون نقوش ذلك الباب وزخارفه فيضا فهي جديرة بالذكر، كما يبدو ذلك من صورنا الفوتوغرافية، فالحيوانات التي تعلو أعمدة أحدها تستوقف النظر كثيرا.
ويشير منظر صور الأشخاص المنقوشة في سانجي وزينة رءوسهم ووجوههم المستديرة والمسطحة، كما يظهر، إلى عرق من آسيا الوسطى لم يبق إلى أيامنا، وإن مثل دورا مهما في ذلك العصر؛ لما نراه بارزا أيضا في مباني بهارت وبدهة غيا، إلخ.
المعابد البدهية الكبيرة القائمة فوق الأرض
المعابد البدهية الكبيرة القائمة فوق الأرض نادرة جدا، ولم ينشأ هذا عن أنه لم يصنع منها سوى عدد قليل، بل نشأ عن اندثار معظمها بسبب صنعها من مواد لا تقاوم جو الهند كالآجر على الخصوص، والمعبد البدهي الوحيد الذي لم تصبه يد التخريب، لترميمه المتصل، هو معبد بدهة غيا الذي أنشئ قبل الميلاد بقرن في المكان الذي تقول الأساطير إن بدهة بلغ فيه مرتبة الحكمة العليا.
شكل 2-6: ترى جنابلي. منظر المدينة وقلعتها.
وأقدس أماكن الدنيا عند البدهيين، البالغ عددهم خمسمائة مليون من الآدميين، أي عند أكثر شعوب آسيا، هي الأمكنة الثلاثة: مدينة كابلا وستو حيث ولد بدهة، ومدينة بنارس حيث دعا بدهة الناس إلى مذهبه، ومدينة بدهة غيا حيث بلغ بدهة مرتبة الحكمة العليا، ولا نعلم، بالضبط، مكان أولى هذه المدن الثلاث، ولا تزال المدينتان الأخريان منها باقيتين، وهما من أكثر بلاد العالم التي يزورها الناس.
وكان تاريخ معبد بدهة غيا موضع جدال كثير بين علماء الآثار، ولم يكن تاريخ إنشائه الأول محل أخذ ورد بين أحد، ما اعترف الباحثون، على العموم، بأن وصف «الحاج الصيني» هيوين سانغ له يطابق حاله الحاضرة، وإنما يدور النقاش حول دلالة أوائل القرن الرابع عشر الذي ورد ذكره في مخطوط على تجديد ذلك المعبد أو على ترميمه، ثم أزالت مباحث كننغهم وراجندرا لالاميترا كل شك في أن ما تم في القرن الرابع عشر ليس إلا ترميما قام به عمال من الأهالي غير مبدلين شيئا في أشكاله الأصلية.
وشكل معبد بدهة غيا هرمي وقاعدته مربعة، وطبقاته تسع، ويقوم على مكعب ارتفاعه نحو ثمانية أمتار وجانبه خمسة عشر مترا، ويبلغ مجموع ارتفاعه اثنين وخمسين مترا، وتجد في داخله ثلاثة محاريب صغيرة منضودة، ويقدر ارتفاع الأسفل منها بنحو سبعة أمتار وجانبه بأكثر من ستة أمتار، ويشتمل على تاج من حجر بركاني أسود كان يعلوه تمثال ذهبي لبدهة.
وإنني أذكر أن شكل ذلك المعبد الهرمي أمر شاذ في شمال الهند، وإنما يذكرنا بمعابد جنوبها، وأقدم المعابد التي أقيمت على هذا الطراز إذ أنشئت بعد معبد بدهة غيا باثني عشر قرنا حق لنا أن نرى من الإمكان اتخاذ صانعيها هذا المعبد نموذجا لهم.
وأسفرت الأحافير الحديثة التي تمت حول بدهة غيا عن إخراج عدد كبير من النقوش والأعمدة والتماثيل النذرية القديمة في الغالب فوضعت هذه الآثار، اليوم، في الحدائق المحيطة بذلك المعبد، وتشير إحدى صورنا الفوتوغرافية إلى أهمها.
ورممت الحكومة الإنجليزية معبد بدهة غيا حديثا، ولا أرى الثناء على فاعل هذا الترميم، فقد غير شكل بعض الجزئيات بصورة محسوسة كما بدا لي من المقايسة بين حال ذلك المعبد الحاضرة وصورته الفوتوغرافية قبل الترميم، وكسا ذلك المعبد لونا أصفر كدرا فاكتسب به منظرا كريها، مع أنه أنفق على ترميمه المحزن نحو مائتي ألف فرنك.
شكل 2-7: شرى رنغم. دقائق نقوش معبد في الزون الكبير «القرن السابع عشر من الميلاد»، «ربما كان زون شري رنغم الكبير أوسع زون في العالم، وهو يتألف من سبعة أطر تبلغ جهة أكبرها 900 متر، ويشتمل على 15 برجا يبغ ارتفاع أحدها 52 مترا.»
المباني الإغريقية الهندوسية في شمال الهند الغربي
لم تحل الحواجز المنيعة التي تفصل الهند، كما يلوح، عن بقية العالم دون غزو مختلف الأمم لها منذ القديم، والفاتحون من آريين ومغول وفرس وأفغان قد دخلوا الهند من خلال جبال همالية، ولا سيما معبر أفغانستان، فعمروها، وإذا بدأت بالفرس الذين غزوها بقيادة دارا قبل الميلاد بخمسة قرون ثم بالإغريق الذين أوغلوا فيها سنة 330 قبل المسيح بقيادة الإسكندر فانتهيت إلى العرب فإلى المغول الذين فتحوها بأسرها وجدتها ذات صلات بأمم كثيرة، وأبصرتها خاضعة لكثير من المؤثرات الأجنبية.
جاز لنا، إذن، أن نتوقع انعكاسا لتلك المؤثرات في فن عمارة الهند، وانعكاس كهذا كان ضعيفا، مع ذلك، إذا عدوت المؤثرات الإسلامية، فالحق أن الهند ظلت، إلى حين خضوعها لسلطان الإسلام، تمتص فاتحيها من غير أن يؤثروا فيها، ومثل الهند في ذلك كمثل بلاد الفراعنة مصر التي غزتها عشرون أمة، كاليونان والرومان، فحافظت على كيانها القديم وعلى دينها وفن عمارتها ولغتها، فما كان لغير التمدن الإسلامي أن يحول ديانتها ولسانها وفنونها.
وكان للإسلام أثر بالغ كذلك الأثر في الهند، وذلك من غير أن يزيل ما لقيه فيها، خلافا لما اتفق له في مصر، ففي الهند اختلطت المؤثرات الإسلامية بالمؤثرات الهندوسية فأضحى نصف فن عمارة الهند، كلغتها، إسلاميا وأضحى نصفه الآخر هندوسيا.
وإذا عدوت الإسلام وجدت المؤثرات الأجنبية في الهند ضعيفة إلى الغاية، ووجدت تلاشي هذه المؤثرات في العوامل المحلية، فالفن الذي أدخل إلى الهند، مهما كان نوعه، لم يلبث أن تحول على أيدي عمال من الهندوس فاكتسب مظهرا خاصا ذا طابع هندي، ولا فرق في ذلك بين أن يكون هذا الفن قد دخل الهند منذ ألفي سنة وأن يكون قد دخلها في أيامنا.
ويتجلى أقدم المؤثرات الفنية الأجنبية في ضفاف السند، فأولى علائق الهند بالفرس ثم باليونان صدرت عن هذه البقعة، وقد رأينا أن ما رواه هيرودتس يثبت أن الممالك التي قامت على ضفاف نهر السند كانت تعطي الجزية قبل الميلاد بأربعمائة سنة، ثم أيدت الكتابات المسمارية هذه الرواية.
وما نراه من أطلال المباني التي لا يرجع أقدمها إلى ما قبل الميلاد كثيرا يكشف عن التأثير الفارسي في بعض أقسام من فن العمارة، ويبدو هذا التأثير، على الخصوص، في الأعمدة ذوات التيجان التي هي على شكل الجرس فتعلوها حيوانات مضطجعة ظهريا، وتجد نموذج ذلك في قصر بني أخميد ببرسيبوليس، فأعمدة كهذا النموذج تبصرها في كثير من معابد الهند القديمة، ولا سيما في ناسك وسانجي، إلخ، وفي المناطق القريبة من بيشاور، وتشاهد في بهارت أقدمها، أي ما يرجع إلى ما هو أقدم من 250 سنة قبل الميلاد.
ثم حلت المؤثرات الإغريقية محل المؤثرات الفارسية، بيد أنك لا تجد الأثر الإغريقي إلا في أودية كابل وكشمير، ويظهر هذا الأثر، على الخصوص، في التماثيل والأعمدة، فالأعمدة في كشمير مصنوعة على الطراز الإغريقي المعروف بالدوري، والأعمدة في تكشيلا مصنوعة على الطراز الإغريقي المعروف باليوني، والأعمدة في وادي كابل مصنوعة على الطراز الإغريقي المعروف بالقورنتي، وهذا إلى أنك تبصر في هذه الأعمدة طابع المعتقدات الهندوسية، فترى، على الخصوص، تمثال بدهة بين أوراق الأقنثا.
3
ولم تجاوز المؤثرات الإغريقية قسم شمال الهند الغربي الضيق الذي أشرنا إليه فيما تقدم، ومن العبث أن حاول بعض الباحثين أن يكتشفها في نقوش مختلف المعابد البارزة والمحفورة، فأنت إذا بعدت من المناطق المجاورة لنهر السند وجدت تلك المؤثرات غارقة في الفن الهندوسي فلا تقدر على تبينها، وإنني بعد أن درست أهم معابد الهند بدقة لم أبصر في نقوشها وعمارتها ما يدل على أن الهندوس اقتبسوا من الفن الإغريقي شيئا يستحق الذكر فيما خلا تلك البقاع الضيقة.
وتلك المؤثرات الفارسية الأولى التي توارت، من فورها، عن الهند عادت إليها مؤخرا مع المغازي الإسلامية بأعمق مما في الماضي، والفن الذي أدخله المسلمون إلى الهند هو من أصل فارسي تطور تطورا عميقا بفعل الحضارة التي جاء بها العرب إلى بلاد فارس حينما هدموا عرش الأكاسرة من بني ساسان في القرن السابع، ويرتبط الفن الجديد الذي أدخله المسلمون إلى الهند، فكان نصفه عربيا ونصفه الآخر فارسيا، في أقدم طرز الفرس من عدة وجوه، فخذ الخزف المطلي بالميناء مثلا تره يرجع إلى ما قبل الميلاد. (3) فن البناء في العصر البرهمي الجديد «بين القرن الخامس والقرن الثامن عشر من الميلاد»
تقسم، أول وهلة، مباني العصر الذي ندرسه الآن فيبدأ حوالي القرن السادس من الميلاد، أي في الزمن الذي كان نجم البدهية يأفل فيه عن الهند بسرعة، إلى صنفين، ويشتمل الصنف الأول على جميع المباني القائمة في مختلف بقاع الهند الشمالية والوسطى، وتختلف مباني هذا الصنف الأول اختلافا جديرا بالذكر باختلاف الأمكنة والأزمنة التي نشأت فيها مع ما تجده بينها من قرابة ظاهرة، ويشتمل الصنف الثاني على مباني جنوب الهند، وتبلغ مباني هذا الصنف الثاني من التشابه ما يحتاج معه تمييز بعضها من بعض إلى عين بصيرة، ونحن، حين نضطر إلى تقسيم دراسة مباني الصنف الأول إلى عدة مطالب، نستطيع أن نلخص مباني الصنف الثاني في مطلب واحد.
شكل 2-8: شري رنغم «الزون الكبير» أعمدة في داخل المعبد.
فن البناء في ولاية أوريسة
تعد المباني القائمة على سواحل أوريسة من أقدم مباني الهند وأجدرها بالذكر، وأنشئت هذه المباني بين القرنين الخامس والثالث عشر من الميلاد، وما في أوريسة من المعابد المصنوعة تحت الأرض فأقدم من تلك المباني ما وجدت بينها معابد يرجع تاريخ إنشائها إلى ثلاثة قرون قبل الميلاد، وإن كانت هذه المعابد لا تمت بصلة إلى طراز المعابد التي نتكلم عنها الآن.
وأقيمت معابد ولاية أوريسة على نمط واحد من حيث خطوطها الأساسية، وذلك مع انقضاء سبعة قرون أو ثمانية قرون بين إنشاء مبانيها الأولى ومبانيها الأخيرة، وهي تختلف عن معابد جنوب الهند، فلا ترى فيها أبراجا ذات طبقات منضدة ولا رداها تحملها أعمدة، وعلى ما كان يعرف من أمر الأعمدة، التي أسفرت الأحافير في أوريسة عن اكتشاف عدد منها صنع قبل إنشاء معابدها بطويل زمن، فإن القوم لم يستعملوا الأعمدة في شيد هذه المعابد إلا نادرا.
وشكل معابد أوريسة الخارجي هرمي، بيد أن جوانب هذه الأهرام ذات خطوط مستديرة بدلا من أن تكون ذات خطوط مستقيمة كما في معابد جنوب الهند.
ويتألف المعبد الأوريسي من مزار مكعب مشتمل على صور للآلهة يعلوه برج هرمي ذو جوانب مستديرة الخطوط من التي تكلمنا عنها، وذرى تلك الأهرام مقطوعة وتعلوها تيجان ذوات جوانب تشابه بها البطيخ المسطح، ويستر تلك الأهرام زخارف ونقوش، ويتقدم جبهة المعبد الأوريسي رواق يغشاه برج هرمي أيضا، وتلي هذا البرج ردهة أو ردهتان معدة إحداهما للرقص والأخرى للطعام.
ويحيط بالمعبد الأوريسي سور ذو أبواب كثيرة مزخرفة يعلوها سقف هرمي ذو جوانب مستقيمة الخطوط.
وجبهة المعبد الأوريسي مصنوعة على وجه تكون الآلهة به أمام شمس مشرقة.
والنسب في المعبد الأوريسي وأبعاد كل جزء فيه خاضعة لقواعد دقيقة، ولم يسر رجال الفن على هواهم إلا في زخارفه ونقوشه، وأنشئت جميع معابد أوريسة على رسم واحد، فترى أشكالها العامة متشابهة كثيرا، والهندوس محافظون أكثر من جميع الأمم المحافظة، فإذا ما أثبتت العادة بينهم أي طراز وجب انقضاء عدة قرون ليبتعدوا عنه، وفي دقائق الزخارف، لا في شكل المعابد، يجب البحث عن أوجه التطور عند درس فن عمارة الهند.
وثخن جدر المعابد بأوريسة عظيم إلى الغاية، وتنشأ بما هو أقوى مما تتطلبه متانتها، فمما جاء في أقدم كتب فن البناء الهندوسي أن تعدل جدر البناء أربعة أعشار مجموع مساحته، وأن تترك الأعشار الستة الباقية لفضائه، فكان من نتائج هذا الغلو في المواد الإنشائية أن اكتسب البناء من القوة ما لم يفن معه تقريبا فضلا عن روعته، ولعل فيما يحدث في بلاد الهند من الزلازل وتقلبات الجو ما يسوغ إفراط القوم في ذلك كما تشير به النظرية.
ولم يغفل مهندسو تلك المعابد عما يزيد أبعادها الظاهرة، فتراهم أكثروا من الخطوط القائمة قصدا، وتراهم تجنبوا الخطوط الأفقية عمدا.
شكل 2-9: كنبهه كونم. الحوض المقدس في داخل الزون «القرن السابع من الميلاد.»
وبنيت جميع المعابد في أوريسة من الحجارة الرملية على الخصوص، لا من الآجر كما هو الأمر في جنوب الهند، وبلغ تشذيب حجارتها ووصل بعضها ببعض درجة من الكمال والإحكام لم يبق معها احتياج إلى الملاط فلم يتخذ قط، وشدت أقسامها الناتئة كثيرا بكلاليب من حديد في بعض الأحيان، وأنشئت العوارض المرتكزة على الأعمدة، أحيانا من حديد مطرق، بدلا من الحجارة، ووجد في كنارك من هذه العوارض ما طوله سبعة أمتار ومقطعه 20 و25 سنتيمترا، وروعيت في صنع هذه العوارض قواعد الميكانيكا النظرية فجعلت أواسطها أثخن من أطرافها.
ومما تقدم ترى أن تلك المعابد صنعت من الحديد والحجارة فقط، وأما الخشب فلم يعتمد عليه إلا في صنع الأبواب، ومن هذه الأبواب نذكر باب بهوونيشور المصنوع من خشب الصندل المحفور.
ولا تعرف مباني أوريسة القباب ذات الحجارة المتجهة إلى مركز واحد، شأن قباب معابد الهند الأخرى، وكل ما يرى في أوريسة من القباب تلك التي تتألف من مداميك أفقية، وقباب كهذه بعيدة من شروط الاقتصاد في المواد الإنشائية لا ريب، ولكنها تتصف بالديمومة.
وفي معابد أوريسة ندرت الأعمدة والأساطين المنفصلة عن الجدر، ولا تجد منها في سوى بهو من معبد بهوونيشور الكبير.
فن العمارة في راجبوتانا
يطلق اسم راجبوتانا على البقعة المعروفة عند الأهالي باسم راجهستان أو بلد الراجوات، ووفقت طائفة الراجبوت للمحافظة على نظمها في تلك البقعة منذ فتحهم لها، حتى بعد أن دوخها المسلمون.
تعني كلمة الراجبوت أبناء الملوك، والراجبوت هم عنوان عرق من أقدم عروق الهند وأصفاها، ويزعم الراجبوت أنهم حفدة الفاتحين من الآريين، وبين الراجبوت ترى أقدم طبقة للأشراف في العالم الهندوسي، وراجه أدويبور هو ولي الأمر الوحيد الذي يستطيع أن يزعم أن شجرة نسبه ترجع إلى ما قبل ألف سنة.
ووجد المسلمون، حينما أوغلوا في الهند، الراجبوت مستقرين بجميع مدن الشمال وبسهل الغنج إلى حدود البنغال الحاضرة، فكانت لاهور ودهلي وقنوج وأجودهيا إلخ. قبضتهم، وكانت دولتهم ممتدة في الشمال والغرب من نهر السند ونهر ستلج إلى نهر جمنة القريب من أغرا، وكانت ممتدة في الشرق والجنوب إلى جبال وندهيا، وإن شئت فقل إن دولتهم كانت قائمة على جميع شمال الهند الغربي، فلما دحروا من هذه البقاع الخصبة هاجروا إلى مناطق راجبوتانا الحالية المنيعة.
سيجد القارئ شبها عظيما بين أكثر المباني التي أنشئت قبل العصر الإسلامي على الأقل فنبحث فيها الآن، وتقع هذه المباني في بقعة واحدة وشادها عرق واحد، وبين هذه المباني ما هو ذو طراز خاص، ومن المتعذر أن نشير إلى الأطوار التي اشتقت منها وإلى المراحل التي ترتبط بها في مبان أخرى أحدث منها ما كانت عنوان نوعها.
ويلوح لنا أن نعت «الجيني» الذي وصف به فن كثير من المباني التي سندرسها غير صحيح كما قلت ذلك آنفا، فيظهر أن الباحثين أطلقوا كلمة «الفن الجيني» على طراز عمارة خاص بديانة معينة مع أنه لا يشير إلا إلى طراز أحد الأدوار بالحقيقة، فسنرى أن مباني أحد الأدوار في المكان الواحد قامت على طراز واحد، مهما كانت الآلهة الجينية أو البرهمية التي شيدت تقديسا لها، ولنا أمثلة على ذلك في معابد كهجورا.
نذكر من مباني راجبوتانا القديمة التي نشرنا غير صورة لها في هذا السفر معابد كهجورا الواقعة في بنديل كهند ومعابد جبل آبو.
شكل 2-10: كنبهه كونم. داخل معبد راما في الزون الكبير «القرن السابع عشر من الميلاد»، «يبلغ ارتفاع الأعمدة إلى أعلاها أربعة أمتار و40 سنتيمترا.»
تقع مدينة كهجورا، التي كانت عاصمة آل جندل من الراجبوت فغدت مهجورة، على بعد 34 كيلو مترا من شرق مدينة جهتربور، وكانت هذه المدينة، التي أصبحت منسية في الوقت الحاضر، من أهم مدن الهند كما تشهد بذلك مبانيها العظيمة، ففيها نحو أربعين معبدا يبلغ اتساع بعضها سعة كنائسنا الغوطية الكبرى، ولا تزال تطلع على أطلال لها فيما مساحته عدة كيلو مترات مربعة، وأنت إذا ما استثنيت مدينة بهوونيشور لم تر مدينة ذات مجموعة مبان مثلها.
وأكثر معابد كهجورا التي لا تزال قائمة مما بني في القرن العاشر من الميلاد، ويفترض أن أحدها شيد في القرن السابع بعد الميلاد، وإن كان يشك في تاريخ إنشائه.
وعلى ما نبصره من إقامة معابد كهجورا في قرن واحد، على العموم، فإنها خاصة بثلاث ديانات مختلفة، أعني ديانة وشنو وديانة شيوا وديانة الجينيين، وبلغت هذه المعابد من التشابه الفني ما يصعب معه، أول وهلة، أن يعرف الدين الذي تخصه، ويمكننا أن نستنبط من تساوي أهميتها تساوي تلك الديانات الثلاث ازدهارا في ذلك العصر.
ولم يسبق الهندوس قط معابد كهجورا من الناحية المعمارية، وتجد بين ألوف التماثيل التي تغشى هذه المعابد غير تمثال لا يعيبه منقاش نحاتي الزمن الحاضر، ولا تجد بين متفتني الكتدرائيات الغوطية غير واحد استطاع أن يصنع ما يعدل معابد كهجورا في بعض الأحيان، وقلما تبصر واحدا منهم قدر على صنع ما يفوق زخارفها.
ولما بين تلك المعابد من شبه أكتفي باتخاذ أحدها مثالا، فأختار معبد كهندرايامهاديو الذي أنشئ في القرن العاشر من الميلاد على مسطح حجري فبلغ طوله 33 مترا وبلغ عرضه 18 مترا وبلغ ارتفاعه 35 مترا، فهذا المعبد يذكرنا خارجا، أي من حيث شكل أهرامه ذوات الخطوط المستديرة، بمعابد أوريسة الكبرى وإن كان يختلف عنها في جزئيات الزخارف مع اشتقاقها من مصدر واحد، ويتقدم مزار هذا المعبد إطار أمامه رواق يدخل من درج حجرية ضيقة، وحول هذا المزار ممر خلافا لما يشاهد في أكثر معابد أوريسة، ويضاء هذا المزار والردهة التي تجيء قبله إضاءة جانبيه بنوافذ واسعة يتألف من مجموعها رواق تمسكه أعمدة فينجم عن ذلك اكتساب رسم المعبد شكل صليب مزدوج، وقباب هذا المعبد، كما في جميع معابد الهندوس، مصنوعة من حجارة منضدة تنضيدا أفقيا، وطراز عمارة كهذا، وإن كان لا يسمح بأخذ مساحة كبيرة يمنح القباب قوة كبيرة كما قلنا ذلك آنفا، ومما رأيناه، أيضا، أن مهندسي الهندوس وفقوا لتكبير المساحة التي تغشاها القبة المصنوعة على ذلك الوجه بأن دعموا المداميك الأفقية المجاورة للوسط بأعمدة.
شكل 2-11: راميشورن. معبر الأعمدة في داخل الزون «القرن السابع عشر من الميلاد»، «يبلغ طول هذا المعبر نحو 210 من الأمتار، أي أكثر طولا من أوسع صحون أكبر الكاتدرائيات.»
ويستر داخل معبد كنهداريا وخارجه تماثيل يقرب ارتفاعها من متر واحد، ويبلغ عدد هذه التماثيل نحو سبعمائة.
وتقع معابد جبل آبو التي نذكرها الآن، ككثير من معابد الهند القديمة، في بقاع صعبة الوصول، ويبدو لنا أن منشئيها أرادوا هذه الصعوبة وفق خطة مرسومة.
وتقوم معابد جبل آبو فوق ذروة جبل موحش يبلغ ارتفاعه نحو 1800 متر، وبنيت جميع هذه المعابد من الرخام الأبيض الذي لا عهد لتلك المنطقة به، فوجب نقل هذا الرخام إلى تلك الذروة وتحمل نفقات باهظة بذلك، وتطلب إدماج قطع هذا الرخام بعضها في بعض أعمالا أشد من تلك، وما أسفرت عنه هذه الجهود من الأثر الفني فيساويها، ولا تبصر مثل ذلك الإدماج في أي بناء غوطي بأوروبا.
ومعبدا جبل آبو خاصان بالديانة الجينية، وبدئ بإنشاء أحدهما المعروف بمعبد ويملاشاه سنة 1030، وبني الآخر المعروف ببال تيج بال بين سنة 1197 وسنة 1247.
وشيد ذانك المعبدان على نسق واحد، ويتألف أساسهما من إطار قائم الزوايا يبلغ طوله 34 مترا، وتحيط به مقاصير صغيرة لا يدخلها النور إلا من أبوابها، ويحتوي كل واحد منها على صنم عار ممثل لصورة القديس الذي بني المعبد تقديسا له، وترى الصورة نفسها مقتبسة في كل مقصورة اقتباسا تاما، وترى نحو ستين مقصورة حول ذلك الإطار، وترى أمام كل واحدة من هذه المقاصير شرفة مؤلفة من صفي أعمدة، وتعلو كل باب لها نقوش بارزة تمثل مناظر حياة ذلك القديس.
ويتألف قسم الإطار المقدم من رواق واسع تغشاه قبة يدعمها 48 عمودا متدمجا من الرخام الأبيض يفوق الأعمدة الإغريقية العارية.
والقبة التي تدعمها تلك الأعمدة هي، كجميع قباب ذلك العصر، مصنوعة من مداميك أفقية، ويشاهد ستة عشر تمثالا مصفوفا حول دائرتها، وهذه القبة إذا ما قيست بقبتي كنيستي وستمنستر وأكسفورد المشهورتين بغناهما بدت هاتان القبتان بجانبها ثقيلتين، هذا ما رآه فرغوسن، فلا يسعني إلا أن أشاطره رأيه هذا مشاطرة تامة.
شكل 2-12: هيلابيد. «ميسور» مدخل المعبد الكبير «القرن الثالث عشر من الميلاد»، «هذا المعبد هو مثال الطراز المعروف بالجالوكي نسبة إلى آل جالوكية الذين شيدت هذه المباني في أيامهم فيظهر أن هذا الطراز مزيج من الطرز الجينية في شمال الهند ووسطها ومن الطراز الدراويدي في جنوبها.»
ومعبد جبل آبو، على عكس ما يشاهد في كهجورا، خاليان من كل زينة خارجية ومن كل نقش خارجي، ولا شيء يدل، أول وهلة، على ما تشتملان عليه من العجائب.
وفي راجبوتانا مبان رائعة أخرى، ولا سيما ما يقوم منها في غواليار وجتور، ولا أرى وصفها لضيق صدر هذا الكتاب، فأكتفي بنشر صور لها، ويعد قصر غوليار والمعابد التي يشتمل عليها سور القلعة من أهم مباني الهند القديمة، وسأقول بضع كلمات عن هذا القصر وعن قصر أوديبور.
ومع ما عليه قصر غواليار من تلف، وعلى ما مني به أكثر قطعه الخزفية المطلية بالميناء من السقوط، فإن السائح الناظر إليه لا يستطيع إلا الإعجاب به كما أعجب به الملك بابر حينما دخله سنة 1527.
أقيم قصر غواليار حوالي سنة 1500، ويسيطر هذا القصر على القلعة التي أنشئ على جانب منها، ويبلغ طوله خارجا نحو مائة متر وارتفاعه ثلاثين مترا، وأهم وجوهه هو الوجه الشرقي المستور بالخزف المطلي بالميناء، ولهذا الوجه طبقتان، ويؤلف من رصيف قائم الزوايا يتخلله على أبعاد متساوية ستة أبراج مستديرة تعلوها قباب، ولا تزال تجد روعة لما بقي من خزفه المطلي الساتر للجدران، وليست التصاوير التي تغشاها غير هندوسية، ولكن صنعها من أصل فارسي كما هو واضح.
وداخل ذلك القصر مؤلف من طائفتي غرف صغيرة منظومة حول باحات صغيرة، ولا تزيد مساحة أكبر هذه الغرف عن 10 × 6 = 60، وهي ذات فن بديع كما يبدو ذلك من إحدى الصور الفوتوغرافية التي نشرناها، ولا أجد ما يعدلها روعة غير بيوت في قصور فتح بور المشابهة لها.
وقصر أوديبور هو القصر الراجبوتي الوحيد الذي تستطيع أن تقيسه بقصر غواليار، بيد أن قصر أوديبور دون هذا القصر فنا؛ لأنه أحدث منه، ولما تجده فيه من الطابع الإسلامي، وهو يعد، مع ذلك، من أجمل القصور التي تخطر على قلب بشر؛ لقيامه على مكان من أروع ما في الدنيا.
وترى، أيضا، بين الصور الكبيرة التي نشرناها عن مباني أوديبور بعض مزارات في المقبرة التي تضم رفات ملوك ميوار.
وتجد على بعد 19 كيلو مترا من أوديبور مدينة ناغدها الخربة الضائعة في الآجام، وتشتمل هذه المدينة التي أنشئت في القرن السابع من الميلاد على معابد من أروع ما في الهند، وإذ كان يصعب بلوغ تلك الأطلال تفلتت من الرواد على العموم، فلم يشتمل كتاب آخر على صور لآثارها الفخمة.
فن البناء في كجرات
طراز البناء في كجرات، ولا سيما طراز أحمد آباد، الذي يمكن اتخاذه نموذجا يختلف عن طرز المباني المذكورة آنفا، وذلك لاختلاط العناصر الفنية الإسلامية فيه بطراز البناء الذي يدعى بالجيني.
أنشئت مدينة أحمد آباد في القرن الحادي عشر من الميلاد، وظلت مائة وخمسين سنة عاصمة لولاية كجرات التي تعدل بريطانية العظمى مساحة، والتي حافظ أهلوها على استقلالهم مع اختلاف العروق التي يتألفون منها، ومدينة أحمد آباد تلك اشتهرت بجدها، وفيها ازدهرت الفنون والآداب أيما ازدهار، وذاع صيت البقعة القائمة عليها منذ القديم، وكانت تتاجر مع بلاد العرب ومصر.
ويعود فضل إقامة أهم مباني كجرات إلى أتباع الديانة الجينية المشابهة للبدهية، ولم يصنع المسلمون غير جعل هذه المباني ملائمة لمذهبهم.
استولى العرب على كجرات منذ القرون الأولى من الهجرة، ولكنهم لم يستقروا بها، وحافظت كجرات على استقلالها إلى عهد الملك فيروز تغلق، مع ما قام به محمود الغزنوي من غزو لاحق، فلما حلت سنة 1391 اعتنق هندوسي راجبوتي الإسلام، وتسمى بمظفر وعين نائبا للملك في كجرات.
وفي سنة 1412 نقل حفيد مظفر السلطان أحمد عاصمته إلى المدينة التي أطلق عليها اسمه فجعل اسمها أحمد آباد.
وحولت المباني الهندوسية القديمة المبنية على الطراز الجيني إلى مساجد، وما أنشئ بعدئذ من المساجد قام على هذا الطراز، فإذا جردت مباني أحمد آباد الحديثة من الأقواس والمآذن والكتابات العربية أمكنك عدها هندوسية الطراز.
فتح الملك أكبر مدينة أحمد آباد سنة 1572 فجعلها من أملاك الدولة المغولية، فكان يدير شئونها ولاة يأتونها من دهلي، ومن هؤلاء نذكر شاهجهان وأورنغ زيب قبل أن يجلسا على عرش أجدادهما.
بلغت أحمد آباد ذروة عظمتها في العصر المغولي، فبدت أجمل مدينة في الهندوستان، وفي العالم على ما يحتمل، فكان عدد سكانها يزيد على مليونين، وكان لسائحيها وتجارها صلات مستمرة ببلاد العرب وأفريقيا وجميع أجزاء الهند، وكان لمصانع ديباجها ومخملها وحريرها وطيلسانها وورقها شهرة في كل مكان، وبلغ عمال الخشب والذهب والعاج فيها من إتقان الصنع ما يصعب معه التفوق عليهم، وعمال كجرات هم الذين لا يزالون يصنعون علب الصندل المرصعة المعروفة بعلب بمبي.
وفن العمارة في كجرات، وهو الذي نعد طراز أحمد آباد مثالا له، دليل بارز على اختلاف فن البناء الإسلامي في مختلف أقسام الهند، وتجد لمباني أحمد آباد من الطابع الخاص ما لا تجد مثله في بقعة أخرى من بقاع الهند؛ لما اتفق للعناصر الهندوسية فيها من التفوق، أجل، إن ما فيها من الأقواس والمناور والكتابات العربية يمنحها مظهرا إسلاميا، بيد أنها تعد بزخرفها من طراز المباني الجينية التي وجدنا أروع نماذجها في جبل آبو.
شكل 2-13: دهلي القديمة. منظر عام لأطلال مسجد قطب الدين «برج قطب هو في وسط هذه الصورة، وترى دقائقه في الصورة الآتية، وتجد عن اليمين وتجاه البرج طاق علاء الدين»، «ترجع مباني دهلي إلى ثلاثة أدوار مختلفة، فأما مباني الدور الأول فهي التي شيدت قبل الفتوحات الإسلامية فلم يبق منها شيء تقريبا، وأما مباني الدور الثاني فهي مباني الفتح الإسلامي الأول التي شيدت في أوائل القرن الثالث عشر فتظهر في هذه الصورة والصور الآتية، وأما مباني الدور الثالث فهي مباني الدور المغولي التي شيدت في القرن السادس عشر والقرن السابع عشر، وهي تختلف عن السابقة ونشرنا صورا لها في هذا الكتاب.»
وإذا سألت عن رسم مساجد أحمد آباد العام وجدته مثل رسم جميع المساجد الإسلامية، أي وجدته مؤلفا من ساحة واسعة قائمة الزوايا تحيط بها أروقة مسقوفة، فعلى جانب من هذه الساحة ترى رواقا كبيرا معدا للعبادة، تعلوه، على العموم، ثلاث قباب يحملها اثنا عشر عمودا، شأن القباب الجينية، والقبة الوسطى أعلى من القبتين الأخريين، وقد تم هذا العلو بإضافة أعمدة أعلى من الأخرى مرتين فوق مقدم الأعمدة، وبتنضيد أعمدة على الجهات الثلاث الأخرى مستندة إلى السقف الذي اتخذ أساسا لبقية القباب، ويزيد هذا الوضع، الذي لا تشاهد مثله في المباني الجينية الأقدم مما في أحمد آباد، مقدار الضياء الذي ينفذ في البناء.
ولما قضت الضرورة بتوسيع أروقة الصلاة في المساجد لم يتم ذلك بزيادة قطر قبابها، بل بزيادة عددها، ومن ذلك أن جعلت القباب في المسجد الكبير خمسا يحمل كل واحدة منها اثنا عشر عمودا، لا ثلاثا على خط واحد، وكل قبة إذ كررت ثلاث مرات غورا غدت تلك القباب الخمس خمس عشرة قبة إذن.
ومما يشاهد في أكثر المساجد وجود كواء
4
حافلة بالنقوش الهندوسية الرائعة، وكانت هذه الكواء مملوءة بالتماثيل في المعابد الجينية، فالشريعة الإسلامية إذ كانت تحرم صور الآدميين وكان خلو الكواء من شيء أمرا كريها رئي ملؤها بشبكة هندسية.
مباني الهند الوسطى
ليس عدد مباني البقعة التي ندرسها الآن كثيرا، وإنما تعد من أكثر مباني الهند وقفا للنظر، ولا يختلف أكثر هذه المباني، كمعبد أمبرناتهه مثلا، عن المباني التي درسناها، بيد أنك تجد بينها ما يدل على فن بناء خاص كمباني إيلورا.
وترى في وسط الهند، أيضا، معابد مصنوعة تحت الأرض، ولكنها غير بدهية كما هو أمر معابد كارلي وأجنتا، إلخ، المذكورة فيما تقدم، بل تخص الديانة البرهمية كما هو أمر معابد إليفنتا، أو تخص كلتا الديانتين كما هو أمر معابد إيلورا، ومعابد إيلورا هذه هي من المعابد التي أدت دراستها إلى نظريتنا التي أوضحنا بها أفول البدهية بابتلاع البرهمية لها ابتلاعا تدريجيا.
شكل 2-14: دهلي القديمة. قسم من برج قطب «بدئ بإنشاء برج قطب الدين الذي ترى منظره العام في الصورة السابقة سنة 1199، ويبلغ ارتفاعه 73 مترا، ويشتمل على خمس طبقات يحيط بكل واحدة منها شرفة مشابهة للشرفة الظاهرة في هذه الصورة.»
تقوم معابد إيلورا التي ندرسها وحدها في هذا المطلب على جوانب جبل تتوج ذروته قرية روضة الصغيرة حيث يرى ضريح الملك أورنغ زيب، وتقع هذه القرية في شمال أورنغ آباد الغربي وتبعد منها 22 كيلو مترا.
ويبلغ عدد الأحافير التي تتألف معابد إيلورا منها ثلاثين، ونحتت هذه المعابد في الجانب الغربي من الجبل على طول كيلو مترين، وتجد مدخل هذه المعابد ضائعا في فجاج عميقة تسترها آجام وأشجار عادية،
5
واليوم ترى تلك المعابد والأديار، التي غمرتها أجيال من الآدميين فتذكرنا بآثار قدماء المصريين الضخمة، صامتة، فلا يكدر صمتها سوى سائلين قليلين يسيرون وراء السياح.
وأنشئت معابد إيلورا في أدوار مختلفة، ويرجع معبد وشوا كرما، الذي هو أقدمها، إلى سنة 500 من الميلاد، ولم ينشأ معبد كيلاسا الذي هو أحدثها في زمن أحدث من سنة 800 من الميلاد، فتكون تلك المعابد قد أنشئت، إذن، في دور دام ثلاثمائة سنة.
وعندي أن ذلك الدور، الذي بدأ في القرن السادس وانتهى في القرن التاسع فشيدت فيه مباني إيلورا، هو الدور الذي عادت البدهية فيه بالتدريج إلى البرهمية مصهورة فيها، فلم تلبث أن ابتلعتها بأسرها، ففي هذه المعابد أحيط بدهة بآلهة ثانوية كثيرة مؤلفة من آلهة برهمية ومن آلهة مرشحة لمرتبة بدهة، وذلك بدلا من أن ينفرد بدهة وحده بهذه المعابد، ومن الصعب أن نميز جميع هذه الآلهة مستندين إلى ما بدا لنا من تفسير مجتهدي البراهمة «البندت» الخلافي، غير أنه وجد في هذه المعابد ما يزيل الشك، فقد رئي بين نقوش ما هو بدهي منها صورة إله السماء إندرا، وإلاهة الموت كالي، وإلاهة العلم سرسوتي «زوجة برهما»، وإله الحكمة غنيشا، إلخ.
وهكذا نستطيع أن نشاهد في معابد إيلورا ذلك التطور الذي تم في الهند بين القرنين السادس والتاسع من الميلاد، فلم يبق منه في الهند الأصلية سوى أثر قليل وإن سهل علينا درسه في نيبال كما بينا ذلك، ولا تدل معابد إيلورا على ذلك الدور الانتقالي وحده، بل تدل، أيضا، على مثل ما في نيبال من أن بعض معابدها بدهية تماما وأن بعض معابدها التي أنشئت بعد هذه المعابد البدهية بزمن قصير برهمية تماما.
وبعض معابد إيلورا قائمة فوق الأرض وأكثرها مصنوع تحتها على عدة طبقات مستندة إلى أعمدة ضخمة منقوشة نقشا عجيبا، ومما يلاحظ أنها عاطلة من مثل الأقواس الهلالية التي ترى في المعابد البدهية القديمة المصنوعة تحت الأرض، ومن النادر أن تجد فيها دغهوبات.
ويتطلب تعداد معابد إيلورا ودرسها مجلدا، فاكتفينا في هذا السفر بذكر أهمها، وفي هذه المعابد تبصر ما لا تبصره في غيرها من خدور وتماثيل.
وأجدر معابد إيلورا بالذكر معبد إندرا ومعبد كيلاسا، وليس معبد كيلاسا هذا معبدا مصنوعا تحت الأرض تماما، فترى القسم الأوسط منه منعزلا فوق الأرض عن بقية الجبل، ولكنك تجده محاطا بعدة أحافير تؤلف جزءا منه وتنشب في جوانب الجبل.
ويشابه خارج معبد كيلاسا معابد جنوب الهند الدراويدية، وتجد تكرارا له في الأبواب، وتجد هذا المثال الابتدائي في مهابلي بور أيضا.
وإذا عدوت معابد مهابلي بور وجدت معبد كيلاسا الذي أنشئ في القرن الثامن من الميلاد، كما يلوح، أقدم من جميع معابد جنوب الهند.
ويعد هذا المعبد البرهمي الذي صنع تقديسا لشيوا من المباني التي تجلى خيال متفنني الهندوس في نقوشها، فلا يكفي مجلد واحد لتصوير هذه النقوش فاقتصرنا على نشر أهمها، فهي تمثل جميع الآلهة الهندوسية وتمثل أقاصيص ديوان المهابهارتا.
وكان يغشى داخل ذلك المعبد وخارجه تصاوير ملونة فلم يبق منها سوى أثر قليل.
ويقع معبد كيلاسا المصنوع من حجر واحد في باحة قائمة الزوايا تؤلف جوانبها من حواجز من الجبل نفسه، وقد نحتت في هذه الحواجز رداه تحت الأرض مزينة بنقوش.
ونحت ذلك المعبد الواقع في وسط تلك الباحة من صخرة واحدة، ويبلغ ارتفاعه نحو ثلاثين مترا، وتدخل تلك الباحة من رواق مزين بأعمدة مربعة.
وداخل ذلك المعبد مؤلف من ردهة كبيرة تدعمها أساطين وأعمدة مربعة، وتحيط بها مقاصير، ونصبت حول ذلك المعبد تماثيل أسود وأفيال وحيوانات وهمية مختلفة يخيل إلى الناظر أنها حارسة لها.
ويشاهد بالقرب من المعبد مسلتان تبدوان واضحتين في صورنا، ويشاهد هنالك، أيضا، فيلان هائلان من قطعة واحدة، ويبدو لنا أن المهندس الذي أشرف على صنع ذلك المعبد دارى أقسام الصخر الضرورية لنحته ونحت الفيلين والمسلتين والمقاصير والجسور الجامعة بينها.
ولا أختم كلامي عن معابد إيلورا قبل أن أقول إنه كان لها، مع مباني كهجورا وبيجانغر ونيبال، أبلغ الأثر في نفسي، فقد نسيت ما كابدته من الجوع والتعب وليالي السهاد أمام هذه العجائب، أجل، إن معبد الكرنك في الأقصر بمصر أثر رائع، ولكن معبد الكرنك هذا إذا كان يخيل إلينا أنه من عمل قوم من العمالقة فإنه يلوح لنا أن معبد كيلاسا ومعبد إندرا الواقعين في إيلورا من صنع قوم من الجن، فما كان لعلاء الدين، مع فانوسه السحري، أن يتم عملا شيطانيا كهذا، وما كان للصور الفوتوغرافية أن تبدي لنا حقيقة تلك الآثار إلا قليلا، ويجب، لتمثلها، أن نتخيل كتدرائية عظيمة رائعة منحوتة في حجر واحد مفصول عن جبل فصلا مصنوعا، وترى بذهنك أيدي العمال، الذين ينتسبون إلى عالم غير عالمنا فحفروا بها جوانب تلك الهوة ليفصلوا ذلك الصخر الهائل، حفروا بها أيضا سلسلة معابد غائرة في جوانب ذلك الجبل، وترى تلك المباني وحواجزها مستورة بتماثيل آلهة وإلاهات وغيلان وبكل ما يتصوره الإنسان الواسع الخيال من الحيوان على مختلف الأوضاع.
وترى هنالك الآلهة المرهوبة الجبارة يحرسها شياطين من الحجارة متوعدين للزائر فلا يدنو منها، وترى قوما من الغيلان مكشرين عن أنيابهم، وترى إلاهات باسمات ساحرات باسطات لذرعانهن، وترى راقصات مثيرات للشهوات، وترى آلهة وإلاهات متعانقة بشدة عن غرام شديد، وترى هؤلاء القوم من الأصنام الذين يلوح أنهم قدماء قدم العالم، والمؤلفون من موجودات علوية ومن راقصات ومن جنيات، يؤلفون موكبا لا آخر له منتشرا على حواجز المعابد وفيما هو منحوت من المباني في الجبل.
وأنت كلما صعدت وهبطت وتقدمت على نور مشعلك وجدت ظلال أولئك ضاحكة تارة ومهددة تارة أخرى، فتصاب بالدوار فتعتقد أنك انتقلت إلى عالم من السحر والعجائب، وتدرك، إذ ذاك، وجود فرق بين تماثيل كتدرائياتنا الغوطية الفاترة الجامدة وأولئك القوم المصنوعين من الحجارة على أشكال بلغت من الحياة والصدق ما تقول معه إنها تتحرك، ولم يكن تاج محل القائم في أغرا وحده هو الذي يكفي لزيارة الهند كما قيل، بل إن معبد إندرا ومعبد كيلاسا يستحقان مثل هذه الزيارة أيضا.
شكل 2-15: دهلي القديمة. أقواس مسجد قطب وعمود الملك دهافا المصنوع من حديد «أنشئت هذه الأقواس في أوائل القرن الثالث عشر، ويبلغ ارتفاع أعلاها 16 مترا، وترى أمامه عمود دهافا المصنوع من حديد والذي هو من أندر بقايا دهلي القديمة، ومن المحتمل أن يكون قد نصب في القرن الثالث من الميلاد.» (4) فن البناء في الهند الجنوبية
نجهل مصادر فن البناء الهندوسي في جنوب الهند جهلنا لمصادره في شمالها، فلما بدت أقدم آثاره في أقدم معابد بادامي ومهابلي بور، إلخ، وذلك حوالي القرن السادس من الميلاد، كان قد وصل درجة من الكمال منطوية على ماض طويل، وليس لدينا ما نذكره عن هذا الماضي الطويل الراقد تحت أعفار القرون، نعم، إن ممالك جنوب الهند الكبيرة، التي كانت عواصمها، كمدورا مثلا، معروفة لدى كتاب العالم الإغريقي اللاتيني القديم، اشتملت على مبان مهمة لا ريب، بيد أن الأزمنة والحروب الأهلية والغزوات الأجنبية لم تبق فيها شيئا، فلم نقدر على ملء الهوة التي تفصل أبنية ما قبل التاريخ الحجري، الموجودة في الهند كما في أوروبا، عن المعابد العجيبة التي شيدت في القرن السادس من الميلاد.
شكل 2-16: دهلي القديمة. ضريح الملك ألتمش «أنشئ سنة 1235 في مسجد قطب»، «جميع نقوش الردهة المشتملة على القبر منقورة على حجارة رملية حمر، ويبلغ ارتفاع أعلى القوس الكبير الذي يرى فوق المحراب نحو خمسة أمتار، وتنفصل حجارة الأقواس بعضها عن بعض قليلا فيسهل الانتباه إلى أنها مبنية على مداميك أفقية على الطريقة الهندوسية، ويعد هذا الضريح مع الأثر المرسوم في الصورة الآتية مثالا للمباني التي امتزج فيها الطراز الهندوسي بالطراز العربي امتزاجا حسنا.»
ولا نستطيع، إذن، أن نرجع فن عمارة جنوب الهند الأول إلى غير المباني، الحديثة نسبيا، القليلة التي أقيمت في القرن السادس من الميلاد كمباني مهابلي بور وبادامي، بيد أننا لا نجد بين هذه المباني والمعابد الهرمية التي يعود إنشاؤها إلى القرن العاشر من الميلاد أي بناء متوسط، فتبصر هنا حلقات مفقودة في سلسلة المباني كما أبصرت هنالك، أجل، إن فن البناء تغير في هذا الدور الذي دام نحو أربعة قرون، غير أن المباني التي أنشئت فيه إذا كانت قد نالت ضخامة لم تنل كمالا، فالحق، أنك ترى معابد مهابلي بور الأولى الصغيرة قد كبرت كثيرا فيما بعد فاستبدلت في المعابد التي أنشئت مكبرة بالأعمدة المنقوشة نقشا بسيطا أعمدة معقدة منقوشة عليها صور للغيلان والفرسان تعد في الغالب دون التي رأيناها في معابد أيلورا روعة فأمكن ربطها شكلا بآثار جنوب الهند، وذلك عدا ما في بيجانغر على ما يحتمل.
وبين معابد جنوب الهند فروق مهمة من حيث الصنع، ولكنها شيدت على رسم واحد كما يظهر، فكانت من فصيلة واحدة، فترى فيها ما يأتي:
يحيط بالمعبد الكبير على الدوام إطار قائم الزوايا أو عدة أطر قائمة الزوايا ذات مركز واحد، لها في جهاتها الأربع باب هرمي مجذوم الرأس متآزي السطوح، فيبلغ ارتفاع هذا الباب المستور بالتماثيل ستين مترا أحيانا، فتلك الأبواب الهرمية هي التي تمتاز بها معابد جنوب الهند، وتلك الأبواب قد تعد معابد لضخامتها، ومما يشاهد في الغالب تعاقب كثير من تلك الأبواب الهرمية على خط واحد فيتألف من ذلك شارع أهرام، ومصدر هذا الوضع، على ما يظهر، هو عد القوم للإطار الأول غير مناسب لشهرة المعبد أو غنى بعض الواهبين، فأنشئوا حوله بالتعاقب أطرا أخرى ذات مركز واحد فتوسيعهم بذلك المعبد الأصلي من غير هدمه، فأسفر هذا الأمر الذي هو وليد ضرورة توسيع المعبد في البداءة عن اتخاذه دستورا في شيد المعابد الجديدة فكان ما تراه من اشتمال هذه المعابد على عدة أطر ذات مركز واحد.
وتحتوي الأطر الخارجية للمعابد الكبرى على مساكن لسدنتها، وتحتوي، أيضا، على أسواق، إلخ، فيتألف منها مدينة مشتملة على عدة آلاف من الأهلين.
وتجد في صحون
6
المعبد الداخلية رواقا أو أكثر من أعمدة، منقوشة عادة، أمام زون.
7
ونذكر، من بين الأبنية التي تشتمل عليها المعابد العظيمة، الرداه ذوات الأعمدة، ومن هذه الرداه ما تحتوي الواحدة منها على ألف عمود.
ويرى في إطار كل معبد حوض مقدس قائم الزوايا معد للغسل يزيد جانبه على مائة متر في الغالب.
ويكون زون الآلهة التي أقيم المعبد تقديسا لها في وسط أحد الصحون الداخلية، وهذا الزون هو بناء قائم الزوايا يعلوه هرم عال كما في تانجور مثلا، ولا ينفذ النور في الزون إلا من الباب، ويكون هذا الزون صغيرا على العموم، ولا ضير من صغره ما دام دخوله مقصورا على أبناء الطوائف العليا.
والزون هو القسم الأصلي في كل معبد من معابد جنوب الهند، وفي سبيل الزون بذل الصناع وصانعو التماثيل أكبر عمل، فترى الزون مملوءا من أسفله إلى أعلاه بالتماثيل الكثيرة جدا المتفاوتة القيم، فترى بين هذه التماثيل ما هو بديع وترى بينها ما هو شنيع، وقد تكون هذه التماثيل من حجر، وتكون في الغالب من الملاط أو الفخار، وعكس ذلك أمر أعمدة الزون، فهي مصنوعة من قطع صوان واحدة، ويجد بعض علماء الآثار الأفاضل وجه شبه بين الزون والأبراج القائمة أمام المعابد المصرية، وعندي أن هذا الشبه سطحي، فمن المتعذر أن تجد شبها جديا بينهما، وإذا كان لا بد من الإصرار على وجود شبه بينهما فإن مثل هذا الشبه يكون بين الزون ومعابد بابل الهرمية المربعة القواعد التي حكى عنها أسترابون فتبصر مثالا صالحا لها في مرصد خرز آباد، وهذا إلى أن ذلك الطراز ليس خاصا بجنوب الهند وحده فتشاهد مثله بشمال الهند في معبد بدهة غيا الذي يرجع إلى القرن الأول من الميلاد.
شكل 2-17: دهلي القديمة. مدخل طاق علاء الدين «أنشئ سنة 1310»، «يبلغ ارتفاعه نحو 11 مترا.»
شكل 2-18: أجمبر. إحدى أقواس المسجد الكبير «القرن الثالث عشر من الميلاد»، «يبلغ ارتفاعه نحو 17 مترا»، «طراز مسجد أجمبر مطابق لطراز المباني الإسلامية الأولى التي شيدت بدهلي فنشرنا صورها في الصفحات السابقة.»
شكل 2-19: بيجابور. داخل المسجد الكبير «القرن السادس عشر من الميلاد»، «يبلغ ارتفاع القوس الكبير الظاهر في الصف الأول من هذه الصورة ثمانية أمتار، ويبلغ طول المسجد نحو مائة متر، أي ما يعادل اتساع إحدى كاتدرائياتنا الكبرى التي أنشئت في القرون الوسطى»، «بيجابور هي إحدى العواصم الكبرى الخربة الكثيرة في الهند، وقد شيدت مبانيها المرسومة في هذه الصورة وفي الصور الآتية في القرن السادس عشر وأوائل القرن السابع عشر حين كانت مقرا لمملكة الدكن الإسلامية فبلغت دائرتها 48 كيلو مترا على ما روي.»
والناظر حينما يبحث في الزون يرى وجه كل طبقة منه مؤلفا من أطواق صغيرة ذات أعمدة تعلوها قبة ويتخللها تماثيل، فعلى هذا الطراز الابتدائي شيد أقدم معابد الهند الجنوبية، كمعابد مهابلي بور مثلا، ومن هذا العنصر اقتبس صنع الزون.
يكفي البيان الموجز السابق لوصف طراز المعابد التي شيدت في سبعمائة سنة «بين القرن العاشر والقرن السابع عشر» فنشرنا صورا لها فلا تجد فروقا أساسية مهمة بينها، ومن الممكن أن يقال، على العموم، إن جميع المباني التي وصفت في هذا المطلب من طراز واحد خلا ما هو مصنوع منها تحت الأرض، وتقوم تلك المعابد في بقعة جنوب الهند الممتدة من نهر كرشنا إلى النقطة القصوى من شبه جزيرة الهند.
ونذكر من المعابد الشاملة للنظر التي وصفناها ما هو قائم منها في المدن: بيجانغر ومدورا وشري رنغم على الخصوص، ويبلغ معبد شري رنغم نحو كيلو متر طولا، فهو أوسع معبد في العالم على ما يحتمل، وفي بيجانغر أطلال من كل نوع، وبيجانغر هذه كانت من أعظم عواصم الدنيا كما تشهد به أطلالها، فغدت اليوم برية لا يسكنها غير الضواري، ومن أروع ما شعرت به عندما زرت عجائب الهند هو ما تجلى لي حينما سرت ذات ليلة مقمرة في شوارع هذه المدينة الميتة الواسعة اتساع شوارعنا والمطرزة بأطلال المعابد والقصور، ولذرى هذه المعابد والقصور البادية من خلال الأدغال من الروعة ما يأخذ بمجامع القلوب، وأشد من ذلك روعة منظر الإطار الحجري العظيم المحيط بتلك الأطلال الجليلة، والذي لا بد من مجاوزته قبل دخول تلك العاصمة، هنالك خيل إلي أنني دخلت مدينة جبارة من صنع الجن فخربها مردة من أبناء السماء والأرض. ومن المعابد التي تحتويها هذه المدينة أذكر معبد وتهوبا، وما اشتمل عليه من الأساطين المصنوعة كل واحدة منها من حجر واحد، فبدا هذا المبعد من عجائب الدنيا، فمعبد وتهوبا هذا هو من أنفس ما شاده الإنسان، وهو من الآثار الرائعة التي لا تصنع مرة أخرى. «وتظهر ألوف الآلهة المتأملة التي تحمل الأعمدة من مداميك المعبد إلى حنايا القباب.» (5) فن البناء الهندوسي الإسلامي
كان من نتائج تعدد الممالك الإسلامية في الهند في مختلف الأدوار ظهور طرز معمارية مختلفة باختلاف الولايات، وسبب هذا الاختلاف هو انتساب الفاتحين إلى عروق متباينة ووجود طراز بناء خاص لكل ولاية استولوا عليها، فأسفر انصهار هذه العناصر غير المتشابهة بعضها في بعض عن ظهور طرز مختلفة يتعذر إطلاق اسم واحد عليها، فمن يدرس آثار أحمد آباد ودهلي ولاهور وبيجابور، إلخ، يشعر بأنه أمام مبان مختلفة الأصول وإن بدا الأثر الهندوسي في جميعها تقريبا، فالحق أن مسلمي الهند لم يوفقوا، كما وفقوا في مصر والأندلس، لإبداع مبان مبتكرة كجامع قايتباي في القاهرة أو الحمراء في غرناطة مثلا، والحق أن العناصر الأجنبية في الهند قد تنضد بعضها فوق بعض أو اختلط بعضها ببعض اختلاطا محمودا يسهل معه تبين كل واحد منها، والحق أن اختلاف المباني الإسلامية في الهند باختلاف البقاع نشأ عن اختلاف نسب العناصر التي تألفت منها.
أدى امتزاج العناصر الأساسية الثلاثة، الهندوسي والعربي والفارسي، بعضها ببعض إلى ظهور طرز الهند الإسلامية، وأما العنصر البيزنطي فلم يبد فيها إلا في أحوال شاذة، كما في بيجابور، وأما المؤثرات الأوربية فلم تبد إلا في العصر المغولي، وقد انحصر أمرها، مع ذلك، في الزخارف الثانوية كترصيع رخام وجوه البناء بالحجارة الثمينة، وقد بدا المؤثر الإيطالي حديثا في الأشكال الخارجية وفي جزئيات زخارف بعض المباني، كالتي شيدت في لكهنئو وتانجور مثلا، بيد أن نتائج ذلك الضم كان على قلة ودون الوسط بمراحل فلا يستحق الوصف، وإذا كان في الإشارة إليه من فائدة فلدلالته على أن الشرق والغرب لا يمتزجان في طرز مبانيهما كما أنهما لا يمتزجان في أفكارهما.
شكل 2-20: بيجابور. ضريح إبراهيم رضا «أواخر القرن السادس عشر من الميلاد»، «دقائق الأعمدة المحيطة بالضريح»، «يبلغ ارتفاع الأعمدة إلى سطحها خمسة أمتار و40 سنتيمترا.»
وما نشرناه في هذا الكتاب من الصور ينبئ، أحسن من الوصف، باختلاف نتائج ضم تلك العناصر المعمارية، فإذا نظرت إلى أقدم المباني الإسلامية الهندية، كمسجد قطب الذي أنشئ في دهلي في أواخر القرن الثاني عشر من الميلاد، وجدت المؤثرات العربية هي السائدة لها، ثم كانت الغلبة للمؤثرات الفارسية في شمال الهند الإسلامية على الأقل، كالتي أقيم منها في لاهور، وكانت الغلبة للعنصر الهندوسي في بقاع أخرى كأحمد آباد مثلا، فحق لنا أن نصف آثار هذه المدينة بالهندوسية إذا استثنينا أقواسها وقبابها ومآذنها.
أقيمت أقدم المباني الإسلامية في الهند كمسجد قطب بدهلي والمسجد الكبير بأجمير في أواخر القرن الثاني عشر، وأقيمت المباني الإسلامية الأخيرة المهمة في أواخر القرن السابع عشر، فتكون تلك المباني قد شيدت في دور دام خمسمائة سنة.
وفي الكتب الإنجليزية تجد المؤلفين يطلقون، في الغالب، كلمة الطراز البتهاني على طراز البناء الإسلامي في الهند قبل العصر المغولي مقتبسين هذا الاسم من أسماء الأسر المالكة التي كان لها السلطان في ذلك الحين، فلا أرى من المفيد أن يطلق اسم خاص على طراز بناء كهذا لا يختلف عن فن البناء العربي إلا ببعض الإضافات الهندوسية، كما يلاحظ ذلك بسهولة في المباني القليلة التي انتهت إلينا من ذلك الدور.
فإذا كانت هنالك ضرورة إلى تسميات خاصة، فلتطلق هذه التسميات على الطرز البارزة التي تشاهد أمثلتها في المدن الإسلامية: أحمد آباد وبيجابور وغور، إلخ.
وأما اسم الطراز المغولي فيجب أن يحافظ عليه، ويدل هذا الاسم على المباني التي أنشئت في عهد ملوك المغول، ولا يرجع أقدم مباني هذا العهد الأول إلى ما قبل منتصف القرن السادس عشر، والملك أكبر هو الذي شادها، ثم سار خلفاؤه، جهانكير وشاهجهان وأورنغ زيب، على سنته في شيد المباني إلى أواخر القرن السابع عشر، وتجد هذه المباني في أغرا ودهلي على الخصوص، ولا يستنبط القارئ من تشابه مباني هاتين المدينتين الواضح أن جميع المباني الإسلامية التي أقيمت في هذا الدور بالهند قد بنيت على هذا الطراز، فلينعم نظره في صور هذا الكتاب ليرى العكس.
والمباني التي أقيمت في الهند على الطراز المغولي هي التي تعرفها أوروبا تقريبا، مع أنها ليست سوى قسم ضئيل مما شاده المسلمون فيها، ونفسر ذلك باقتصار الأوربيين على زيارة مدينتين مشهورتين منذ زمن طويل وبهر مبانيهما لهم، وإن كنا نرى في الهند من المباني الإسلامية ما ينافس هذه المباني من الناحية الفنية.
وطراز البناء الذي أتى به المغول هو، كديانتهم، من أصل عربي حول حين مروره من بلاد فارس، ومما حدث أن شاد تيمور لنك الذي ظهر قبل بابر بمائة سنة في مدينة سمرقند «1393-1404» مباني ذات طابع فارسي، فمن بلاد فارس اقتبس المغول القباب البصلية الشكل والترصيع بالخزف المطلي بالميناء الشائع في لاهور والأقواس الحادة والأبواب الفخمة التي تعلوها نصف قبة.
وأراد الملك أكبر والملك جهانكير صهر الهندوس والمسلمين في أمة واحدة فلم يألوا جهدا في مزج طرازيهم فنجم عن ذلك أن وسم كثير من مباني ذلك الدور، كمباني فتح بورسيكري مثلا، بالطابع الهندوسي أكثر مما بالطابع الإسلامي، ثم تورات روح التسامح هذه في عهد شاهجهان «1628-1658» الذي أقام أغنى المباني في العصر المغولي فعادت المؤثرات الهندوسية لا تبدو في غير بعض الجزئيات، فصرت لا ترى النقوش البارزة العزيزة على متفنني الهند، فكان ما تعلم من خلو تاج محل منها واقتصار زينته الخارجية على فسيفساء هزيلة.
وترجع عناصر الفن التي كانت سائدة للطراز المغولي في عهد شاهجهان إلى استعمال الأقواس المفرضة والقباب البصلية وترصيع الرخام الأبيض بالحجارة الثمينة وستر المساجد، في بعض الأحيان، بالخزف المطلي بالميناء.
وقد أفل نجم الطراز المدين لتأثير المغول بأفول نجم هؤلاء بالتدريج، فلا يشيد القوم مباني مهمة على حسب أصوله في الوقت الحاضر، مع أن الطراز الهندوسي لا يزال محافظا على نفوذه ، ومع أن الطرز الإسلامية الأخرى لا تزال باقية في الممالك الإسلامية التي تتمتع بشيء من السلطان كدولة نظام مثلا.
تكفي الخلاصة السابقة لتسويغ ما اتخذناه من تقسيم المباني الإسلامية في الهند، وعلى الباحث أن يدرس هذه المباني في كل منطقة على حدة، والمباني المهمة لكل منطقة إذ كانت متجمعة في عاصمتها وجب اتخاذ مباني كبريات المدن أمثلة في البحث، فإذا ما قيل: فن بناء لاهور وفن بناء بيجابور، مثلا، دل ذلك، بالحقيقة، على فن بناء المنطقتين الواسعتين اتساع ممالكنا الأوربية، في الغالب، اللاتين اتخذتا تينك الديانتين عاصمتين لهما.
ويتجلى النفوذ الإسلامي في جميع الهند تقريبا، فقد وجدته حتى في نيبال التي لم يدخلها المسلمون قط، ووجدته، أيضا، في جنوب الهند التي لا تحتوي على مساجد بناها المسلمون فقط، بل تشتمل على قصور إسلامية بناها الهندوس أيضا كقصر مدورا مثلا، وكان للنفوذ الإسلامي من الأثر البالغ في شيد هذه القصور ما يخيل إليك معه، أول وهلة، أن بناتها من المسلمين بالحقيقة.
وإذا اتخذت ما قلناه آنفا قاعدة أمكنك أن تصنف المباني الإسلامية التي تملأ الهند كما يأتي: (أ)
فن البناء الإسلامي قبل العصر المغولي «وقد أنشئت على طرازه مباني دهلي القديمة ومباني أجمير وبيجابور وغولكوندا، إلخ.» (ب)
فن البناء في العصر المغولي «وقد أنشئت على طرازه مباني أغرا ودهلي ولاهور، إلخ.» (ج)
فن البناء الموسوم بالمؤثرات الإسلامية في مختلف بقاع الهند حيث أكثر المباني هندوسية «وقد أنشئت على طرازه المباني الإسلامية في غواليار ومهوبا وكهجورا ومدورا، إلخ.»
ألا إن مباني المسلمين في الهند كثيرة إلى الغاية، وتختلف طرزها بين دور ودور وبين مدينة ومدينة فيتعذر وصفها داخل الحدود التي رسمناها لهذا السفر، وقد نشرنا أهم صورها في هذا الكتاب مع ذلك، ولا يسعني سوى إحالة الراغبين في دراسة كل واحدة منها بالتفصيل إلى كتابي «الهند الأثرية»، ومن هذه المباني الإسلامية أذكر برج قطب وباب علاء الدين ومزار أكبر وقلعة أغرا وأطلال فتح بور وقصر ملوك المغول بدهلي، وما إلى ذلك من الآثار القائمة في كبريات المدن فيسهل على الباحثين أن يصلوا إليها، فنجم عن هذا ذيوع صيتها في أوروبا. (6) فن البناء الهندي التبتي
تقع دولة نيبال، كما هو معلوم، بين سلاسل جبال همالية المتوازية التي تفصل الهند عن التبت، ونجم عن عزلتها واستقلالها محافظتها على عاداتها القديمة محافظة تامة، ومن المفيد أن يدرس فن بنائها الذي صعب البحث فيه حتى الآن، فيرى في كثير من مباني نيبال اختلاط العناصر الهندوسية والصينية، وبلغت هذه العناصر في بعض مباني نيبال من التمازج ما أسفر عن ظهور طراز خاص جديد.
شكل 2-21: بيجابور. مهتري محل «القرن السادس عشر من الميلاد»، «يبلغ ارتفاع المئذنة نحو عشرين مترا.»
مباني نيبال كثيرة جدا، ففيها ما يزيد على ألفي بناء، وتربط طرز هذه المباني بأمثلة ثلاثة مختلفة اختلافا جوهرا كما نصفها لك:
فأما الطراز الأول بحسب القدم فيتألف من مبان كبيرة نصف كرية مصنوعة من الطين والآجر مشابهة لقباب الهند الوسطى كمزار سانجي على الخصوص، ولكنها ليست محاطة، كهذه القباب، بسياجات حجرية ذات نقوش، بل هي محاطة بأرصفة مستديرة، وتبصر في كل جهة من جهاتها الأربع محرابا، وإن شئت فقل مشكاة ذات تماثيل، ويعلو نصف الكرة برج مربع يتوجه هرم أو مخروط، وترى حول كل معبد أبنية دينية صغيرة ومقاصير وتماثيل، إلخ.
أجل، إن تلك المعابد خاصة بالديانة البدهية، بيد أن البرهمية والبدهية بلغتا من التمازج في نيبال ما تتلاقى معه رموز تينك الديانتين في جميع معابدها مهما كانت الديانة التي أقيمت من أجلها، فترى في تلك المعابد البدهية، في الغالب، تماثيل الآلهة البرهمية «وشنو وغنيشا، إلخ» بجانب تماثيل بدهة وسابق تقمصاته والثالوث البدهي «بدهة ودهرما وسنغها.»
ونحن حين رأينا في نيبال كيف تتدرج البدهية إلى الانصهار في البرهمية استنبطنا وقوع هذه الحادثة نفسها في بقية الهند حوالي القرن السابع من الميلاد.
وتلك المباني التي وصفناها، وإن كانت أقدم ما في نيبال، ليست أكثر ما في نيبال عددا، فيتألف معظم معابد نيبال من مبان مصنوعة من الآجر والخشب على طراز تبتي صيني أكثر من أن يكون هندوسيا فتشتمل هذه المباني على عدة طبقات قائمة الزوايا متقبضة يعلو كل واحدة منها سقف، ويظهر كل واحد من هذه السقوف مرتفع الزوايا قليلا، كما في المباني الصينية، مزينا بعدة جلاجل، ويبدو كل بناء أنشئ على هذا الشكل هرمي الشكل ذا طابع خاص.
ويرتبط قسم السقف البارز للأمام في بقية البناء بجسور خشبية منقوشة.
ويحيط بكل معبد شرفة تحملها أعمدة خشبية محفورة حفرا دقيقا.
ويقوم كل بناء على أساس حجري ذي طبقات كثيرة متقبض بعضها فوق بعض، ويرى على أحد وجوه كل معبد درج مؤدية إليه، ويزين جوانب الدرج تماثيل للآلهة والجن والإنس.
شكل 2-22: بيجابور. مزار السلطان محمود «أنشئ في أوائل القرن السابع عشر»، «يعد هذا المزار من أعظم مباني العالم، ويشتهر بأبعاده الواسعة أكثر مما بجماله وزخرفه، ويبدو مربع الشكل فيبلغ الجانب منه ستين مترا، ويقوم على كل واحدة من زواياه الأربع مئذنة، وتعلوه قبة عرضها 38 مترا وارتفاعها من الأرض 60 مترا، فيبدو بذلك أعلى من مسجد أيا صوفيا بالآستانة.»
وأما الطراز الثالث فيتألف من معابد حجرية تختلف عن طراز ذينك الطرازين اختلافا تاما، فهي ذات طابع مبتكر، فلا ترى للمؤثرات الصينية أثرا فيها، أجل إنك تبصر للمؤثرات الهندوسية عملا فيها، بيد أن هذه المؤثرات ليست من الأهمية بحيث تخرجها عن طابعها الخاص، وهذه المباني هي الوحيدة التي تشاهد فيها عمل المؤثرات الإسلامية؛ لما فيها من القباب عرضا.
ومن المتعذر أن نربط هذه المعابد الأخيرة بمثال واحد كما يبدو ذلك من الصور التي نشرناها، ووصفها المشترك هو في إنشائها على أسس حجرية ذات عدة طبقات وفي وجود تماثيل للحيوان والإنسان على جوانب درجها كما في المعابد السابقة.
وليس للمعابد الحجرية ما للمعابد الآجرية ذات السقوف المنضد بعضها فوق بعض من المنظر الغليظ، فتكلمنا عنها آنفا، ويمكن عد المعبد القائم أمام قصر الملك في بتن من أهم مباني الهند شكلا، ويزين طبقاته المتكمش بعضها فوق بعض «وهذا ما اتخذ مبدأ لفن البناء في نيبال على ما يظهر» قباب ذوات منظر رائع، ولم يبد أثر طراز الشمال الهندوسي في غير الهرم ذي الوجوه المستديرة الخطوط الذي يعلو هذا المعبد.
ومن الصعب أن نعين تاريخ معابد نيبال، ولو تقريبا، نعم ، يمكننا أن نقول، بوجه عام، إن مزارات نيبال نصف الكرية قديمة جدا، أي معاصرة للقرن الثاني من الميلاد لا ريب، وإن معابد نيبال الآجرية والخشبية أحدث من تلك، أي أقيمت بعد القرن الخامس عشر، ولكن من المتعذر تحديد تاريخ المباني التي شيدت بين ذينك القرنين، فظل أمر هذا التاريخ مشكوكا فيه.
وتغشى معابد كبريات مدن نيبال وبيوتها وقصورها نقوش وزخارف زاهية، وصنعت أبواب قصور نيبال من صفائح برونزية منقورة نقرا دقيقا، ويقوم أمام هذه الأبواب حجارة ضخمة تعلوها تماثيل، ويتجمع أكثر تلك المباني، في الغالب، ضمن مساحة قليلة فيتألف منها منظر رائع، وتراني قد زرت أشهر مدن الشرق في أثناء سياحاتي، فلم أجد لمدينة في الشرق من الأثر الجميل في نفسي كبعض مدن نيبال ولا سيما بتن، أجل، إن في الجزئيات غلظة أحيانا، مع عدم وجود ما يستطيع أشد النقاد تطرفا أن ينتقد به نقوش الأعمدة، ولكني أقول مكررا إن للمجموع طابعا رائعا شاملا للنظر.
وقد نشرنا في هذا السفر صور أشهر مباني نيبال، أي أشهر ما أقيم منها في كهات ماندو وبهات غانو وبتن وبشو بتي، إلخ. مستندين إلى صورنا الفوتوغرافية. (7) فن البناء الهندوس الحديث
رجع فن البناء، كأكثر الفنون الهندوسية، إلى الوراء رجوعا سريعا منذ تمام الفتح الإنجليزي للهند، أي منذ نحو قرن واحد، ولهذا الانحطاط الهائل سببان: أولهما: تدرج أمراء الهند وأشرافها إلى الفقر، فهؤلاء السادة إذ جردوا، على الأكثر، من دخلهم اضطروا إلى العدول عن إنشاء مثل تلك المعابد والقصور العجيبة التي هي عنوان الثراء ومظهر غنى البلاد في الغالب، وثانيهما: اعتقاد الأقلين منهم، الذين بقي لهم من المال ما يستطيعون أن يشيدوا به قصورا، أن تفوق الأوربيين في السلاح يتضمن تفوقهم في الفنون، فرأوا أن يقلدوا ما أقامه الإنجليز من الأبنية العامة الثقيلة، فكان ما نراه من قصورهم الحديثة الشنيعة، ومن هذا أن راجه غواليار، الذي هو من أقوى الأمراء المحليين، قد تعامى عما أمام عينيه من مباني الهند الرائعة فلم يجد غير إقامة قصر على طراز إحدى مباني لندن الكريهة، ومن هذا، أيضا، أن أمير إندور بنى له قصرا على الطراز الأوربي فكان أبشع ما رأيت في الهند مع عده إياه، لا ريب، أجمل ما في عاصمته.
ومن الطبيعي أن يسير أغنياء الهند على تلك السنة، ظانين أنهم يقيمون الدليل بذلك على بلوغهم درجة رفيعة من الحضارة وعلى نهوضهم فوق مستوى أبناء وطنهم، فتبصرهم ينشئون بيوتهم على طراز أوربي سقيم ممزوج بما لا يلائمه من الزخارف الإسلامية.
وتصرف فاسد كهذا يؤدي، لا ريب، إلى انحطاط فن العمارة الهندوسي انحطاطا تاما سريعا، وفن عمارة كهذا، إذ كان لا يدوم إلا بتقدير قيمته يزول، لا ريب، إذا لم ينسج على منواله، وليس على الباحث أن يكون نبيا ليبصر عطل الهند بعد جيلين أو ثلاثة أجيال من صانع ماهر قادر على إقامة بناء كتلك الآثار القديمة التي لا تزال تملأ الهند وإن كانت أطلالها تمحي في هذه الأيام.
شكل 2-23: غور. محراب مسجد أدينه «القرن الرابع عشر من الميلاد»، «غور عاصمة قديمة مهجورة مثل بيجانغر وكهجورا وبيجابور، وتغير الآجام والأعشاب على مبانيها فتستولي عليها استيلاء تاما، ولا نرى كبير أهمية لما بقي منها»، «من مجموعة صور هنري رافينشو.»
حقا أن انحطاط الفن الهندوسي يرجع إلى ما ذكرته من الأسباب، ولا أعرف غيره، ومما يؤيد وجهة نظري تلك هو أن أخريات العمارات الهندوسية التي بنيت في الهند قبل استفحال النفوذ الإنجليزي فيها تثبت أن فن البناء لم يكن في دور الانحطاط حين إنشائها.
وفي هذا الكتاب نشرت صور عدة مبان شيدت في الهند منذ قرن؛ ليطلع القارئ على قيمة أخريات عماراتها، وأهم هذه العمارات معبد دورغا ببنارس ومعبد أور بأمرتسر ومعبد هتهي سنغها بأحمد آباد، أجل، إن هذه المباني من طرز مختلفة أشد الاختلاف، بيد أنها تنطق بكمال من الصنع يتعذر مجاوزته في أوروبا، وأحدث هذه المباني هو معبد هتهي سنغها الذي شيد في أحمد آباد منذ أربعين سنة فتراني أشك في وجود صانع ماهر في الهند يستطيع أن ينشئ مثله في أيامنا.
هنا نختم ما أردنا قوله عن فن عمارة الهند، وهو، كما ترى، خلاصة ريادي لعالم من المعابد والقصور الخيالية التي هي آثار جيل أفل، وما أولئك الآلهة والإلاهات والشياطين ذوو الصور الرائعة المتوعدة أو المرهوبة التي تملأ المعابد المظلمة، وما تلك الأساطير والأقاصيص التي تدور حول الملوك والأبطال في المحاريب والمزارات الحافلة بالأسرار إلا شهود على ماض لا نقدر على بعثه بغيرهم.
هوامش
الفصل الثالث
العلوم والفنون
(1) العلم الهندوسي
لا يطمعن القارئ أن يجد في هذا الكتاب ما يجده في كتاب «حضارة العرب» من فصول كثيرة عن حال العلوم، فالعرب إذ نقلوا إلى الجامعات الأوربية كنز العلوم المتراكمة الذي انتهى إليهم من العالم الإغريقي اللاتيني بعد أن وسعوا دائرته بما أضافوا إليه كثيرا كان من المفيد دراسة حال العلوم عندهم في إبان سلطانهم، ولا نجد مثل هذه الفائدة عند الهندوس؛ فالهندوس، خلافا للرأي القديم، قد اقتبسوا معارفهم العلمية من الأمم التي كانوا ذوي علائق بهم فلم يعرفوا كيف يسيرونها إلى الأمام، فدراسة العلوم لدى الهندوس في زمن ما تعني دراسة لتاريخ علوم الأمم التي كانت لهم صلات بها مما يخرجنا من نطاق هذا السفر.
ويفسر ما قلناه في فصل آخر عن مزاج الهندوس النفسي عدم إضافتهم شيئا ذا بال إلى العلوم التي تلقوها من الأجانب، فالروح الهندوسية القوية في الفلسفة والدقيقة في الفنون عاطلة من الضبط والإحكام الضروريين للبحث المجدي في العلوم، ففي هذا سر ضعف الروح الهندوسية في المعارف الهندوسية، فالحق أن الروح الهندوسية إذا كانت قادرة على هضم ما وصل إليه غيرها من نتائج العلوم، فإنها لا تستطيع أن تسير إلى ما هو أبعد من هذا.
والأمتان اللتان اقتبس الهندوس منهما معارفهم العلمية هما الإغريق والعرب، وترانا نجهل كيفية انتشار العلم الإغريقي في الهند، ولكن مباني شمال الهند الشرقي التي درسناها في فصل آخر تثبت أن الهندوس كانت لهم صلات دائمة بإغريق بقطريان، فمن المحتمل أن يكون العلم الإغريقي قد انتقل إليهم عن هذه الطريق، فكان ما نعلمه من امتلاء أقدم كتب الهندوس في الفلك، ككتب وراها ميهيرا الذي عاش في القرن السادس بأجين، من الاصطلاحات والمراجع الإغريقية.
وأسهل من ذلك بيان الكيفية التي انتقل العلم بها إلى الهند بيانا صحيحا، فالعرب، كما قلنا في فصل سابق، كانت لهم قبل الميلاد بزمن طويل صلات تجارية منظمة بالهند، وبواسطة العرب كان الغرب يتصل بالشرق في القرون القديمة، فلما فتح أتباع محمد العالم القديم، بعد حين، دامت صلة إحدى الأمتين بالأخرى، فروى مؤلفو العرب وجود كثير من علماء الهندوس في بلاط الخلفاء ببغداد، ولما مرت الأيام ففتح ورثة الخلفاء من المسلمين الهند تبعهم علماء فداوموا على نشر معارف الغرب فيها، ومن هؤلاء العلماء أذكر البيروني الشهير صديق فاتح الهند الأول محمود الغزنوي، فقد ساح هذا العالم في الهند في القرن الحادي عشر، ونشر فيها علوم العرب التي كانت مزدهرة في ذلك العصر أيما ازدهار، فكانت تقوم على ما ورثه العرب من معارف الغرب القديم وما أضافوه إليه من الاكتشافات، فبذلك أضحى العلم الهندوسي لا يكون بعد القرن الحادي عشر غير علم العرب.
إذن، ليست كتب العلم الهندوسي، التي تترجح بين كتب آريابهاتا الرياضية المؤلفة في القرن الخامس من الميلاد وكتب برهماغبتا المؤلفة في القرن السادس وما ألف إلى أيامنا، غير مشتملة على سوى المعارف العلمية التي دخلت الهند بتلك الطرق، وأهم تلك الكتب معروف لدينا اليوم، ونعرف منها أن مؤلفيها لم يحققوا في أي علم أي تقدم يذكر، وما كان يدور حول قدم علم الفلك الهندوسي ودقته من الأفكار قد أهمل تجاه الدراسات التامة فأصبحت هذه الأفكار غير جديرة بعناية أحد.
ولا تبدو القضايا العلمية الجديدة القليلة جدا، التي ترى في كتب الهندوس، إلا على شكل لمحات مبهمة عاطلة من أي برهان ، ومن ذلك أن العالم الفلكي آريابهاتا ذكر في القرن الخامس، في بضعة أسطر، حركة الأرض اليومية حول محورها من غير أن يأتي بدليل، ومن ذلك أن بهاسكراجاريه جاء في القرن الثاني عشر، كما يظهر ، برأي مبهم حول حساب الكمية الصغرى من غير أن ينتهي إلى شيء.
ومما تقدم ترى أنه يجب ألا يعزى إلى الهندوس، على العموم، أي إبداع في حقل العلوم، والهندوس، إذ لم نقدر على إسناد أي شيء أساسي إليهم، نرى من غير المفيد أن نتكلم عن كتبهم العلمية التي لا نبصر فيها شيئا لم نجده في كتب اليونان والعرب.
وضعف قدماء الهندوس في العلوم النظرية لم يمنعهم، مع ذلك، من أن يكونوا ذوي معارف عملية على شيء من الرقي، وذلك كما يبدو من فن عمارتهم القديم ومن فنونهم الصناعية، فالهندوس كانوا يعرفون صنع الزجاج والدباغة والتقطير واستخراج المعادن وصنع الفولاذ وتحضير بعض الأملاح المعدنية، بيد أن هذه المعارف العملية، التي هي وليدة التجربة والتي نعد مصدر غير واحد منها أجنبيا، ظلت بعيدة من ميدان النظريات والمبادئ العامة بعدا لا تستحق معه أن تسمى بالعلم، أجل، إن التجربة قد تعلم الصبي استعمال العصا في إزاحة حجر واستعمال مقذفين في دفع زورق واستعمال بكرة في رفع الأثقال، غير أن هذا الصبي لا يصل إلى مرتبة المعارف العلمية إلا حين يعلم أن العصا والمقذف والبكرة تطبيقات لمبدأ واحد.
وما أتيناه من الأحكام القاسية العادلة في علم الهندوس وآدابهم غير ما أتيناه في فن عمارتهم وما نقوله، بعد قليل، عن فنونهم الأخرى، ولا يعتري القارئ العالم بروح الأفراد والأمم دهش من ذلك، فوجود أمة تفضل جميع الأمم في جميع فروع المعارف البشرية لا تراه في غير كتب التاريخ وخيال الجماهير، وضلال كهذا مما يدل عليه الاختبار الدقيق، ولا مراء في أن الأمة، كالفرد، تكون بحسب مزاجها النفسي متفوقة في فرع من المعارف البشرية، على أن تكون متأخرة في الفروع الأخرى، ولا نجد أفضلية جامعة لكل فرع، وغير كثير ما يبدو هذا في الحقل الذهني فنقدر على ربط فروعه في سلسلة واحدة، نعم إنني أرى تفوق ذوات الثدي على الأسماك؛ لما أجده من كون جهازها العصبي أرقى من جهاز الأسماك العصبي، ولكنني إذا ما قايست بين فيدياس ونيوتن وديكارت وقيصر لم أجد وسيلة لإثبات أيهم أفضل من الآخرين، فالتفوق الفني مستقل عن التفوق العلمي، وكثيرا ما يناقضه، وهو يتطلب، بالحقيقة، طراز تفكير وإحساس خاصا وطرز نظر إلى الحياة والأمور خاصة، فيندر أن يجتمع كلا التفوقين، إذن، في أمة واحدة، فالعالم يحلل الحوادث، ويسعى في رؤية الأشياء كما هي غير مبال بجمالها وقبحها، وعكس ذلك أمر المتفنن والشاعر اللذين يجدان في تزيين الأشياء وإبدائها بعواطفهم على غير ما هي أو على ما هي في أحوال شاذة، وإلا عاد المتفنن لا يكون متفننا وعاد الشاعر لا يكون شاعرا، حقا أننا لا نعلم أمة وصلت إلى مثل ما وصل إليه الأوربيون من الرقي العلمي في القرن التاسع عشر، ولكن مما لا ريب فيه أن كثيرا من الأمم، فضلا عن الإغريق، بلغت درجة من الفن أرفع من التي وصل إليها الأوربيون بمراحل، فليس عصر البخار والكهرباء بالعصر الذي تبلغ فيه الفنون ذروتها.
شكل 3-1: غولكوندا. دقائق زخرف في مقدم مزار ملكي.
إذن، يجب ألا يستنبط مما قلناه أية نتيجة لمصلحة الهندوس أو لغير مصلحتهم، فليس بتقدمهم الفني وحده أو بتأخرهم العلمي وحده ما يمكن الحكم في أمرهم. (2) الفنون الهندوسية
خصصنا عدة صفحات من كتابنا «حضارة العرب» لإثبات أهمية الآثار الفنية في بعث حضارة أحد الأدوار، فقلنا فيه إن المتفنن والكاتب لا يصنعان غير الإفصاح عن مشاعر الزمن الذي يعيشون فيه واحتياجاته ومعتقداته على شكل منظور فكان ما انتهى إلينا من آثار أحد الأجيال الأدبية والفنية أحسن صفحات التاريخ، ومما ذكرناه هنالك أن استقلال المتفنن والكاتب ليس في غير الظواهر، وأنهما مكبلان، في الحقيقة، بقيود من المؤثرات والأفكار والمعتقدات التي يتألف منها ما يسمى روح العصر القوية التي لا يستطيع أكثر الناس حرية أن يتخلص من سلطانها غير الشعوري، وأنه إذا كان لكل جيل آدابه وفنونه فلأن له احتياجاته ومعتقداته التي تعرب عنها، ومما ذكرناه، أيضا، أن فنون أحد العروق إذ كانت، كنظمه، وليدة مزاجه النفسي فإن من المتعذر على عرق آخر أن ينتحلها من غير أن يحولها، وأن فن العمارة العربي لم يتحول في الهند وحدها، بل تحول في مختلف البلدان التي فتحها المسلمون فكان هذا الفن أحسن مثال على هذه المطابقات.
ثم درسنا في كتابنا «حضارة العرب» مزاج أحد العروق الفني فوجدنا أنه يقوم على السرعة التي يضع بها طابعه الخاص على الفنون السابقة التي ينتحلها منذ دخوله ميدان الحضارة.
شكل 3-2: غولكوندا. داخل ضريح ملكي.
ومما ذكرناه هنالك أن بعض الشعوب تقتبس من مختلف الجهات ما يلائم احتياجاتها من غير أن تضيف إليه شيئا جديدا، وأن شعوبا أخرى تمزج العناصر الأجنبية بما يفيض منها فتسم هذا كله بطابعها الخاص وسما لا يكشف تلك العناصر الأجنبية معه غير علم راق، وذلك كما اتفق للإغريق الذين اقتبسوا من الآشوريين والمصريين فنونهم، وكما اتفق للعرب الذين هضموا الحضارة اليونانية اللاتينية، وغير ذلك أمر الترك وغيرهم من الشعوب العاطلة من العبقرية الفنية، وإيضاحا لذلك نقول: إنه إذا ما قيس أقدم مساجد القاهرة، كمسجد عمرو بن العاص، بآخرها، كمسجد قايتباي، ظهرت قدرة شعب، كالعرب ذوي الاستعداد الفني، على تحويل الفنون التي اقتبسها من شعب آخر، وأنه إذا ما قيست المساجد التي أقامها الترك في الآستانة بغيرها من المباني البيزنطية وجد أنها نسخت بدناءة من كنيسة أيا صوفيا مع إضافة بعض العناصر الأجنبية إليها إضافة تدل على عجز الترك عن التحويل.
وقد رأينا أن الهند كانت محلا لاستيلاء مختلف الفاتحين، فلنا أن نجد في فنون الهند عدة عوامل أجنبية، بيد أن الهندوس كانوا من الدهاء ما قدروا به على جعل ما اقتبسوه ذا طابع هندوسي بسرعة، وتناول دهاء الهندوس، أيضا، العمارة حيث يصعب إخفاء ما هو مستعار فيها، فبدأ أثره واضحا فيها، فلم يلبث العمود الإغريقي الذي اقتبسه متفننو الهندوس مثلا أن زالت عنه صفته الإغريقية متحولا إلى عمود هندوسي، والهندوس إذا ما وضعتم بين أيدي متفننيهم أية أداة فنية أوربية أبصرتم هؤلاء المتفننين يجردونها من صفتها الغربية بتجسيم بعض أجزائها وزيادة زخارف بعضها الآخر، مع الرضى بشكلها العام على ما يحتمل.
وما اقتبسه الهندوس من العناصر الأجنبية في فن البناء فقليل إلى الغاية أو محدود المكان على الأقل كما رأينا، وما اقتبسوه منها في الفنون الأخرى فعظيم جدا، ولكن جميع ذلك لم يلبث أن تغير بما حولوه به فأصبح تمييزه متعذرا.
وإذا سألت عن مبدأ الزخرف الهندوسي العام رأيته يتصف بزيادة المبالغة وفرط الغلو في الجزئيات التي هي أبرز ما تشاهده في آثارهم الأدبية والدينية والفلسفية، والمرء إذا ما درس فنون الهندوس على الخصوص أدرك درجة علائق آثار أحد العروق الشاخصة بمزاجه النفسي، وأيقن أنها أوضح لسان لمن يستطيع أن يفسرها، فالحق أن الهندوس لو غابوا عن التاريخ كالآشوريين لكفت نقوش معابدهم البارزة وآثارهم الفنية وتماثيلهم لإطلاعنا على ماضيهم كما نعرفه اليوم، وأنت تعلم أننا توصلنا، بدراسة التماثيل والمعابد، إلى معرفة تاريخ البدهية معرفة أصح مما ورد في الكتب.
ظلت الهند أغنى بلاد العالم آلافا من السنين، وازدهرت الفنون فيها على الدوام مهما كان نوع الفتن التي حركتها، وما فتئت الأمم تبحث منذ أقدم أدوار التاريخ عن أدوات الهند الفنية وحليها ونسائجها حتى صار من الممكن أن يقال: إنها استنزفت مال الدنيا في ألوف السنين، أجل، إن الثورات وتبديل الأسر المالكة مما كان يؤدي إلى انتقال الثروات بين حين وحين، بيد أن هذه الثروات كانت تبقى في الهند فيستعملها مالكوها الجدد، كأسلافهم، في شيد المباني والقصور واقتناء النفائس وتشجيع الفنون التي هي من أغنى مصادر البلاد، وقد رأينا في الفصل الذي خصصناه للبحث في تاريخ المغازي الإسلامية الأولى درجة غنى الهند العظيمة ودرجة وقف هذا الغنى لأنظار الفاتحين.
واليوم صارت بلاد الهند أفقر بلاد العالم بعد أن كانت أغناها، وبلاد الهند قد هزلت بعد أن خضعت منذ قرن لنظام مؤد إلى امتصاصها، وبلاد الهند قد أخذت تستورد السلع من برمنغم ومانجستر وغيرهما من المدن الإنجليزية بعد أن كانت تملأ العالم بمنتجاتها، والهندوسي، الذي أضحى عاجزا عن الوقوف أمام ما تنتجه الآلات الصناعية الأوربية، طفق يعدل بالتدريج عن فنونه القديمة العهد داخلا زمرة الأجراء والزراع.
وقد بينا أن فن البناء شرع يغيب عن الهند منذ رسوخ الإنجليز فيها، وسيكون مصير أكثر الفنون الأخرى مثل ذلك بعد زمن قليل على الرغم من تشجيع بعض ذوي النفوس النيرة، وما انفك كبراء الأمراء المحليين يفتقرون فلا يستطيعون أن يحثوا على التمسك بتلك الفنون، وذلك فضلا عن تملقهم لسادة الهند الجدد باقتنائهم لما تنتجه إنجلترا، والسائح الأوربي، الذي يدخل قصور الهندوس الغنية، كقصر مهارنا بأوديبور، يقف مشدوها حينما يشاهد فيها أسقاط الأمتعة الرخيصة الكريهة التي تخرج من الأسواق الإنجليزية بجانب عجائب الهندوس الفنية.
ولندع الآن تلك القواعد الكلية الضرورية لتفهم الفنون الهندوسية باحثين في أهمها باختصار.
شكل 3-3: حيدر آباد. شهر منار والشارع الكبير «لا يكاد تاريخ وجود حيدر آباد يزيد على ثلاثة قرون، وتبدو مدينة الهند هذه ذات طابع القرون الوسطى الإسلامي إلى أبعد حد مع ذلك، وتشرف هذه المدينة، وهي التي أنشئت في أوائل القرن السابع عشر، على شارعها الكبير، ويتألف من حناياها قوس نصر مطلة على جميع الشارع، ويبلغ ارتفاع الحنية الكبرى 15 مترا، ويبلغ ارتفاع كل واحدة من المناور 56 مترا.»
النحت
لا تجد أمة، كالهندوس، قد اتخذت النحت أداة للزينة، فما في معابد الهندوس ومزاراتهم من التماثيل والنقوش البارزة يعد بالألوف، ويحار المرء تجاه سكوت الكتب الباحثة في فنون الهندوس عن الوثائق الخاصة بالنحت، ونقض كهذا مما أشار إليه فيرغوسن، منذ زمن طويل، من غير أن يفكر في تلافيه، ولا نستطيع أن نطلع على النحت لدى الهندوس بما في بعض كتب الأساطير الهندوسية من الصور الرديئة المطبوعة بألواح الحجارة، والذي يظهر أن صانعي تلك الصور اختاروا أردأ الأمثلة فنجم عن ذلك اعتقاد الأوربيين، على غير حق، أن النحت الهندوسي متأخر إلى الغاية، فأطمع، والحالة هذه، أن يبدو للقارئ من صور التماثيل التي نشرناها في هذا الكتاب خطل ذلك الاعتقاد، فقد وجدت، بجانب ما في بهوونيشور وسانجي وإيلورا وأجنتا وبادامي وكهجورا وكنبها كونم، إلخ. من آثار الفن الرديئة، آثارا فنية رائعة لا يقدر رجال الفن بأوروبا على إنكار أهميتها، وما في أوديغيري وبهارت وسانجي ومهابلي بور من النقوش البارزة التي نشرناها في هذا الكتاب يعد في كل بلد من أرقى الآثار لا ريب.
شكل 3-4: أغرا. مقدم القصر الأحمر في القلعة «نبدأ بهذه الصورة صور مباني العصر المغولي، أي مباني الهند الإسلامية منذ القرن السادس عشر، ويعزو بعض المؤلفين إنشاء القصر الأحمر إلى الملك جهانكير، ويرى كننغهم أن هذا القصر أقدم من زمن ذلك الملك بقرن واحد، ويلوح لنا أن هذا القصر هو أقدم مباني المغول بأغرا، ونرى أنه شيد على حسب النماذج الهندوسية التي هي أقدم منه، فهو لا يختلف عنها إلا بما أضيف إليه من الأقواس الفارسية.»
وإذا نظرت إلى تلك التماثيل من الناحية التشريحية وجدتها غير مرضية، وأبصرت فيها الأدلة على روح المغالاة العزيزة على الهندوس فترى الصدور والأوراك في تماثيل النساء نامية نموا لا تشاهد مثله في الطبيعة، وترى الآلهة ذات الأذرع الأربع مما يكرهه الأوربي، غير أن أكثر هذه الصور ذوات حيوية شاملة للنظر، فهي من هذه الناحية، على خلاف تماثيلنا المتصلبة الكئيبة المصنوعة في القرون الوسطى وعلى خلاف أكثر ما في مصر، وفي عالم الآلهة والأبطال والإلاهات التي تملأ المعابد أكثر الأطوار حياة والأوضاع تنوعا. فيخيل إلى الناظر إليها أنها توشك أن تنزل من قواعدها لتتقدم نحوه، نعم، إن المنقاش الإغريقي أدق وأضبط، ولكنه، في الغالب، أبرد.
ومن غير المفيد أن نسهب في القول عن التماثيل، فعندي أن عرض صورة صادقة لها أفضل مما يقوم به نقدة الفن، فلعل القارئ الذي ينظر إلى صور التماثيل التي نشرناها في هذا الكتاب يصبح ذا رأي صائب في الموضوع.
والباحث حينما يدرس صور التماثيل التي اشتمل عليها هذا السفر ويدقق في التواريخ التي ذكرت تحتها يرى، لا ريب، أن قيمة هذه التماثيل ليست بحسب أزمنة صنعها، فبينما يشعر بروعة أقدمها، أي بروعة التي أقيم منها في بهارت وسانجي منذ ألفي سنة تقريبا، يرى رداءة ما أقيم منها في جبل آبو في القرن العاشر وحسن ما أقيم منها في كهجورا في القرن العاشر أيضا، وفيما أقيم منها في معابد جنوب الهند حديثا ما هو جميل وما هو كريه، فالحق أنك لا تجد أثرا ظاهرا للتطور في فنون الهند كما أنك لا تجد أثرا ظاهرا للتطور في آدابها.
التصوير
تندر التصاوير القديمة في الهند مع كثرة الآثار القديمة المنحوتة فيها، ولا تجد من التصاوير في الهند غير ما هو على حيطان معابد أجنتا التي أنشئت تحت الأرض في القرن الخامس من الميلاد،
1
ولا تناظر في هذه التصاوير وإن أتقن رسمها وكانت تشع حياة كما هو ظاهر من الصور التي نشرناها لها، وهذه التصاوير أفضل من التصاوير البيزنطية الباردة، ولا شك في أنه لم يكن في أوروبا حين صنعها رسام قادر على وضع مثلها.
ومن دواعي الأسف أن ضاعت التصاوير التي رسمت في تاريخ متأخر، وما في أقدم المخطوطات، التي لا ترجع إلى ما قبل المغازي الإسلامية، من التصاوير لا يجيز لنا أن نفترض أن الهندوس أصبحوا أرقى من أسلافهم بعد زمن، وتخرج الهندوس في العصر المغولي على رسامي الفرس فكان ما رسموه ابتدائيا عاطلا من التناظر والانسجام مع ما فيه من دقة، فالحق أن الهند بتصاويرها وآدابها ظلت في حال من التطور مماثل لما كانت عليه أوروبا في القرون الوسطى.
الفنون الصناعية «صنع الخشب والمعادن والحجارة الثمينة، إلخ»
يقصد بكلمة «الفنون الجميلة»، على العموم، فن التصوير وفن النحت وفن العمارة، ويقصد بكلمة «الفنون الصناعية» بعض الصنائع ذات الفائدة العامة كالصياغة والنجارة والترصيع، وما إلى ذلك من المهن التي تقوم على بعض المناهج الآلية، بيد أن هذا التصنيف إذا كان ملائما لما في الغرب الذي يتدرج إلى العمل الآلي فإنه ليس كذلك بالنسبة إلى صنائع الشرق التي تقوم على حذق العامل، فمما لا جدال فيه أن الفن مستقل عن تطبيقاته، فتراني أعلم أن صنع إناء مرصع أو مقبض خنجر قد يتطلب من الفن والخيال، مثلا، أكثر مما يتطلبه إنشاء بناء ذي خمس طبقات أو إنشاء محطة خط حديدي، فإذا اتخذت كلمة «الفنون الصناعية» عنوانا للفنون الحقيقية فلمجاراة التقسيمات التي اصطلح عليها.
شكل 3-5: أغرا. دقائق عمود حجري منقوش في القصر السابق.
وما في المتحف الهندي بلندن من الآثار يجعل دراسة الفنون الصناعية الهندوسية أمرا سهلا، وبلغت دراسة هذه الآثار من الكمال ما لا يفيد معه تفصيل موضوع قتله بيرد وود وأجفالفي وكيبلينغ وغيرهم من العلماء بحثا وتمحيصا، فنحن، إذ نحيل القارئ إلى كتب هؤلاء للوقوف على وصف تلك الآثار وصفا صناعيا، نقتصر في هذا الكتاب على البيان الإجمالي متمين له بصور مقتبسة مما في المتحف الهندي، ومما جلبناه في أثناء سياحتنا في الهند من الأدوات.
2
ومن أكثر صناعات الهند استعمالا منذ أقدم الأزمان أذكر صناعة المعادن فأضعها في الصف الأول، وعلى ما أدت إليه الحروب والمغازي الكثيرة التي كانت الهند مسرحا لها، لا ريب، من ندرة الأدوات القديمة لا نزال نملك من هذه الأدوات بعض ما صنع من المعدن قبيل الميلاد، كالصندوق البدهي الذي وجد داخل قبة بدهية بوادي كابل مع نقود يستدل منها أنه أنشئ حوالي منتصف القرن الأول قبل ظهور المسيح فنشرنا صورته في هذا الكتاب، فهذا الصندوق قد صنع، كأدوات تلك البقعة، على حسب الفن اليوناني الهندوسي الذي أوضحنا أصوله في فصل آخر.
وحازت البقاع المجاورة لكابل، ككشمير والبنجاب، قصب السبق في صناعة الأدوات الذهبية والفضية كما تدل عليه النماذج التي نشرنا صورها في هذا السفر، وفي الهند يصنع القوم أدوات الذهب والفضة والنحاس والبرونز بما يقضي بالعجب، وفي الهند بعض المناطق، كتانجور في جنوب الهند، اشتهر بصناعة البرونز المرصع بالنحاس الأحمر والفضة فنشرنا نموذجا ملونا لها.
والقوم في الهند، إذ كانوا لا يستعملون القاشاني ولا الخزف المطلي بالميناء في أمورهم المنزلية راغبين في البرونز والنحاس، تجد صناعة هذين المعدنين عندهم راقية، فتبصر حسنا، أحيانا، في بعض الآنية المستديرة المخصرة في أعلاها فتصلح لحمل الماء وحفظه، وما صنع من هذه الآنية قديما خير مما يصنع اليوم فتراه اليوم نادرا إلى الغاية، وفي المتحف الهندي بلندن من هذه الأواني ما يرجع تاريخه إلى القرن الثاني من الميلاد فصدر عن كولو مشتملا على أطوار من حياة بدهة.
شكل 3-6: أغرا. منظر القلعة المغولية الخارجي «بدأ الملك أكبر بإنشائها في سنة 1571.»
ولم يقتصر حذق الهندوس على صناعة الذهب والنحاس والبرونز وحدها، بل كانوا ماهرين في صناعة الحديد أيضا، وذلك كما يظهر من العمود الحديدي الشهير الذي أمر بصنعه الملك دهاوا فيرى الآن في مسجد قطب القديم بدهلي، فهذا العمود قد أنشئ في القرن الرابع من الميلاد، ولم يسطع الأوربيون أن يصنعوا ما هو بضخامته إلا منذ زمن قريب بفضل ما انتهوا إليه من الوسائل الكثيرة التعقيد.
وصناعة ترصيع المعادن المعروفة بصناعة التكفيت، وصناعة تلبيس المعادن تلبيسا جزئيا أو ترصيعها بالميناء الكثيف أو الشفاف
3
مما زاولته الهند منذ زمن طويل بإتقان لم يوفق الأوربيون لمثله قط.
وصناعة الحلي في الهند، وإن لم تنتج ما يلائم الذوق الأوربي، تساوي بدقتها أهم ما يصنع في أوروبا لا ريب.
ويصنع الهندوس الزجاج وينحتون الحجارة الكريمة، وفاق الأوربيون الهندوس في ذلك، لا في صناعة العاج والخشب المرصع.
وتعد الأسلحة الفولاذية من أهم ما تنتجه الصناعة الهندوسية، لا من حيث غنى زخرفها وجمال ترصيعها وحدهما، بل من حيث نوع فولاذها الذي طبقت شهرته القرون القديمة بأجمعها أيضا، وعند برد وود أن نصال دمشق الذائعة الصيت كانت تصنع من الفولاذ الهندوسي، وامتدح كتاب الإغريق فولاذ الهند، وكان يستحصل أجوده بالحديد الممغنط.
ولم يلبث الهندوس أن انتحلوا جميع الصنائع التي عرفتها الأمم الفاتحة للهند فأتت بها من بلاد فارس أو من أوروبا فحولوها كما أشرت إلى ذلك آنفا، ولا يزال القوم يزاولون في أغرا صناعة ترصيع الرخام الأبيض، التي هي من أصل إيطالي، بالحجارة الثمينة كالزبرجد والفيروز واليصب والعقيق والجمست واللازورد إلخ، وفي أغرا بلغت هذه الصناعة درجة رفيعة أيام ملوك المغول، فكان هؤلاء الملوك يلبسون قصورهم تلك الزخارف، ويمكن القارئ أن يدرك تأثير ذلك في النفس من صورة داخل قصر ملوك المغول بدهلي.
شكل 3-7: أغرا. قبة القصر المغولي الرخامية في داخل القلعة «القرن السادس عشر من الميلاد.»
ولا تزال الهند تصنع النسج الحريرية والبسط والشالات بإتقان لم يتفق مثله للغرب إلا بمشقة، بيد أن تقليد الأوربيين لهذه المنتجات الفاخرة وبيعهم ما يقلدونه بثمن بخس مما ينذر بأفولها في وقت قصير.
ومع أن القوم يمارسون صناعة الخزف في كل مكان بالهند فإنهم دون الأوربيين فيها، وتجد، مع ذلك، روعة في كثير من مصنوعاتهم الخزفية الملونة.
وذاع فن ستر المباني بالخزف المطلي بالميناء في شمال الهند الغربي منذ الفتوح الإسلامية، وأصل هذا الفن فارسي كما تشهد به أطلال أقدم القصور ببلاد فارس، وقد استبدل طلي الجص بهذا الفن في الوقت الحاضر كما تشهد بذلك الضرائح الملكية العصرية في غولكوندا مثلا، وليس في طراز الزينة هذا ما هو متين مع أن الخزف المطلي بالميناء لا يفنى، وما تراه في جميع الشرق من ستر المباني بالخزف المطلي بالميناء، كما في جامع عمر بالقدس وبعض الأبنية بلاهور وقصر غواليار إلخ، من أروع ما يستوقف النظر، فالمرء إذا ما أبصر من بعيد مقدم تلك المباني المختلف الألوان كقوس قزح ظن أنه أمام قصر خيالي شاده الجن، ولا شيء يدل على فساد تربيتنا المدرسية التقليدية أكثر من عطلنا من مهندس أوربي يحاول اقتباس أسلوب الزخرف العجيب هذا في قصر من قصور الغرب.
شكل 3-8: أغرا. داخل مسجد اللؤلؤ، أنشئ سنة 1648، يبلغ رتفاع العمود إلى أسفل التاج نحو ثلاثة أمتار و60 سنتيمترا، وجميع داخل المسجد من الرخام الأبيض، وفيه مكتوب: «لم ير مثله بناء منذ بدء العالم.»
هنا نختم بحثنا في طراز بناء الهندوس وسائر فنونهم، فهذه الفنون، التي نبتت في شعب من الشعراء والمتفننين قوي الخيال والمشاعر ضعيف العقل، أسفرت، ذات حين كما في منام سحري، عن عالم من القصائد العظيمة والنفائس الباهرة والخيالات الرائعة.
لن يعود الإنسان إلى صنع مثل تلك الآثار العجيبة التي هي وليدة ماض يتوارى مقدارا فمقدارا في ضباب الأجيال، فيجب علينا أن نحتفظ ببعضها على الأقل، وإن تنازع الجيل الحاضر المادي في سبيل الحياة تنازعا قاسيا لا يترك للإنسان مجالا يرجع به بصره إلى تاريخ أجداده في بعض الأحيان، فلنتعلم كيف نحترم هذا التاريخ، فتلك الضرائح والمحاريب الصامتة في الوقت الحاضر وتلك التماثيل الطاعنة في السن وتلك النقوش البارزة الصائرة إلى الخراب فيكسرها المهندس بمعوله مستخفا؛ ليملأ الخنادق فيمد عليها خطا حديديا هي وثائق ماض صدرنا عنه ولا نلبث أن نصير إليه.
هوامش
الباب السادس
الهند الحديثة
المعتقدات والنظم والطبائع والعادات
الفصل الأول
مزاج الهندوس النفسي
رسمنا، في الفصل الذي خصصناه من هذا السفر للبحث في صفات أهم عروق الهند الخلقية والعقلية المشتركة، خطوط أخلاق الهندوس التي نشأت عن وحدة البيئات والنظم والمعتقدات، وبينا في الفصول التي درسنا فيها تاريخ الحضارة نضج هذه النظم والمعتقدات البطيء في غضون الأجيال.
والآن نتقدم في التحليل لتفهم مزاج الهندوس النفسي فندرس الهندوسي في مختلف أحوال حياته وفي تفكيره حول أحد المواضيع وفي نظره إلى الحياة وفي مبادئ سيره، وإن شئت فقل باطنه.
والحق أن ذلك الباطن يبدو لنا من دراسة الطبائع والنظم والعادات، بيد أن الهندوسي دون في كتبه منذ زمن طويل نتائج تجاربه في الحياة، والحق أن أخلاق الشعب تتجلى في جميع آثاره، بيد أنه يجب البحث عنها في آثاره الأدبية على الخصوص.
وهذا القول لا يؤدي، مع ذلك، إلى الهدف الذي نسعى إليه الآن، فالآثار الدينية والفلسفية تصدر، على العموم، عن مؤلفين تعودوا العيش في عالم خيالي بعيد من العالم الحقيقي، أجل، إن القصائد الحماسية الكبرى وليدة الهوى الخالص الذي نبت في الأدمغة الهائجة المرددة لصدى الأزمنة الناشئة فيها، ولكن مع كبير تحريف، ما أبدت لنا أشخاصا مغالين في مشاعرهم وأعمالهم، وحقا أن من الممكن أن يستنبط منها الشيء الكثير أحيانا، ما دام الشاعر لسان العالم الذي يحيط به، ولكن على أن يكون ذلك مع تحفظ كبير.
ومن حسن الحظ أن بقي لدينا مصدر معارف خير من ذلك معبر عن أعمال الجماعة التي ظهر منها، وأقصد بذلك الأمثال القومية والأقاصيص الشعبية، وليس من غير سبب أن قيل إن الأمثال هي صدى تجارب إحدى الأمم، فالأمثال تعبر بإيجازها وتحللها القاسي عن أخلاق العرق الذي نشأت عنه وعن طبائعه وأفكاره، والأمثال تكرر في كل مكان لملاءمتها لروح أبناء هذا العرق.
وللشعب الهندوسي القدح المعلى في هذا النوع من الآداب، فتجد في أساطير الهندوس وأقاصيصهم الشيء الكثير من الأمثال، ولا تجد في أمثال الهندوس مثل ما تعاب به آثارهم الأدبية الأخرى من التردد والغموض، وكيف تكون هذه الأمثال مبهمة مذبذبة وهي تعبر عن الأفكار العامة تعبيرا شعبيا؟ والأمثال لن تكون شعبية إلا إذا كانت واضحة موجزة معا، والأمثال لن تصبح أمثالا إلا بعد أن تحقق ألف مرة وتتداولها الألسن طويل زمن فتستقر على وجه معين.
شكل 1-1: أغرا. مزار اعتماد الدولة «تم بناء هذا الأثر سنة 1622، وأنشئ من الرخام الأبيض المرصع بالحجارة الثمينة، ويبلغ ارتفاع مناوره نحو خمسة عشر مترا، ولا يمكن قياسه بتاج محل من حيث أبعاده، ونرى أنه يفوقه ببدع أشكاله وذوق زخرفه.»
إذن، نتخذ الأمثال دليلا لنا في دراسة الروح الهندوسية، ولن يعدل هذه الأمثال ما يدور حول هذه الروح من المباحث، فالباحث مهما يكن حرا لا ينظر إلى الأمور إلا من خلال الأفكار التي ثبتت فيه بفعل البيئة والوراثة والتربية.
ويقوم عملنا على اقتطاف ما يدور، كثيرا، حول موضوعات الحياة المعتادة، وعوامل السير في مختلف الأحوال، ومبادئ الأخلاق والسياسة، إلخ، وذلك من كتب الهندوس، ولا سيما من البنج تنترا والهتوبديشا، ثم تصنيف ذلك في مطالب خاصة، ونحن لم نقتطف من ديوان مهابهارتا الحماسي والكتب الدينية والاجتماعية كالويدا ومانوا دهرماشاسترا، إلخ. غير ما يقرب من الآراء الشعبية التي جاءت في البنج تنترا والهتوبديشا فيثبت قدم الآراء التي قيلت في بعض الموضوعات، ومن هذا أن الأمثال الغريبة التي وردت في البنج تنترا حول النساء أيدتها تأملات المشترع الرزين منو في دستوره الديني الذي ظل شريعة الهند العليا عدة قرون فدل ذلك على أن تلك الأمثال شعبية ، فالحق أن إحدى الحقائق إذا ما صيغت في قالب مثل أو حكمة أمكننا أن نجزم بأنها نضجت في أجيال كثيرة.
وقد اقتصرنا على ما تقدم؛ ليكون مقدمة للمختارات التي نرى تجلي الروح الهندوسية فيها، وقد صنفنا هذه المختارات في المطالب الآتية: المصير - الخلق - الحياة والهرم والموت - عوامل سير الإنسان - النساء - العلم والجهل - الغنى والفقر - السلوك الواجب في مختلف أحوال الحياة - مبادئ الآداب العامة - السياسة. (1) القدر
إذا جاوزت بضع درجات من دوائر الطول وجدت جميع الشرقيين من القائلين بالقدر، وهذه الجبرية مستقلة عن ديانة الشرقيين ما دمت ترى بينهم أمما تدين بمختلف الأديان كالنصرانية والإسلام والهندوسية، إلخ، وهذه الجبرية، وإن لم تدون في العقائد الدينية على الدوام، تبصرها مطبوعة في النفوس، والشرقيون جميعهم مشبعون من المعتقد القائل إن الحوادث تسير على سنن ثابتة لا تنفع أمامها إرادة الإنسان، فإذا سرت من الروسي الذي ينحني أمام القدر قائلا: «ما العمل؟» فبلغت المسلم الذي ينحني أما القدر أيضا فيقول: «هذا مكتوب!» فوصلت إلى الهندوسي القائل: «لا يأتي ما لا يجب أن يأتي، ويأتي ما يجب أن يأتي.» وجدت جميع الشرقيين يعدون القدر سيدا مهيمنا ناظما لأعمال الناس بحكم الضرورة، وإليك أهم ما ورد في كتب الهندوس عن ذلك المذهب من النصوص التي لا تبطل حركتهم كما أن جبرية العرب لم تحل دون فتحهم للعالم القديم:
لا يأتي ما لا يجب أن يأتي، ويأتي ما يجب أن يأتي، ففي هذا ترياق سموم الهموم، فلماذا لا نستعمله!
هتوبديشا
كتب القدر على جباهنا سطرا من حروف، فلن يقدر أذكى العلماء أن يمحوه.
بنج تنترا
قد يسقط الإنسان من فوق جبل ويغرق في بحر، ويرتمي في نار، ويلاعب الأفاعي، ولكنه لن يموت قبل أجله.
هتوبديشا
النجاح في الأعمال منوط بما يأمر به القدر، وهذه الأعمال إذا نظمت بأفعال الناس في حيواتهم السابقة، وبسلوكهم الراهن وأوامر القدر إذ كانت سرا وجب على الإنسان أن يعتمد على وسائله في السير.
منو
على الإنسان ألا يكف عن العمل ولو فكر في القدر، فلن تستخرج سيرجا من سمسمة بغير عمل.
هتوبديشا (2) الخلق
قوة الميول الطبيعية التي ينجم عنها ثبات الخلق سهلة الإدراك فلم تغب عن بال الهندوس، فهي تنتقل إلى الإنسان بالوراثة فيأتي بها عند ولادته، ولا تؤدي البيئة التي يعيش فيها الإنسان إلى تعديل مظاهر خلقه، ولا نجد اليوم ما يستلزم التغيير في ملاحظات الهندوس الآتية عن الخلق إلا القليل.
شكل 1-2: أغرا. دقائق زخرف إحدى مناور البناء السابق «يبلغ رتفاع المنارة نحو 15 مترا.»
لا يغير الأمر الطبيعي بالمشورة، فالماء الحار يعود باردا.
بنج تنترا
لو أصبحت النار باردة وصار القمر محرقا لأمكن تبديل طبيعة الناس في هذه الدنيا.
بنج تنترا
يجب اختبار الميول الطبيعية وحدها، لا الصفات الأخرى، فالواقع أن الطبيعي يغلب غيره من الصفات ويتبوأ مكانه في الرأس.
هتوبديشا
يصعب على الإنسان أن يتغلب على غريزته الطبيعية، فلن تستطيع أن تحول دون قرض الكلب للأحذية ولو جعلته ملكا.
هتوبديشا
يدل فقدان العواطف النبيلة وغلظة القول والقسوة ونسيان الواجبات على رجل ولد من أم جديرة بالاحتقار.
منو
يرث الإنسان الذي هو من أصل ساقط طبيعته السيئة عن أبيه أو عن أمه أو عن كليهما، فلن يستطيع إنسان كتم أصله.
منو (3) الحياة والهرم والموت
يشتمل هذا المطلب على آراء عامة في الحياة وإدراك السعادة والهرم والموت، وبعض هذه التأملات قاتم، ولكن الحياة، كما يبدو، قد صورت فيها تصويرا حقيقيا بعيدا من التفاؤل والتشاؤم فجعلت أمرا لا يستفاد منه غير ثانية، فيجدر بالإنسان أن يسرع في التمتع به، والحياة على ما فيها من البطلان تؤلف النعيم الأعلى الذي يرى حكماء الهندوس أن يضحى بكل شيء في سبيله.
يكون قارئا لكل شيء عالما بكل شيء ممارسا كل شيء من يرغب عن الرغائب ويعيش بلا أمل.
هتوبديشا
من لم يحزن في الضراء ولا يفرح في السراء ولا يخف في البأساء كان تلكا العوالم الثلاثة، فقلما تلد أم ولدا كهذا.
الشباب والجمال والحياة والثراء والقوة والاجتماع بالأحباب أمور زائلة، فيجب ألا تزعج روح العاقل.
هتوبديشا
يجب على العاقل أن يفكر في العلم والغنى كما لو كان غير معرض للهرم والموت، وعليه أن يمارس الفضيلة كما لو كان الموت ممسكا بشعوره.
هتوبديشا
من ذا الذي لا يظهر طويلا إذا نظر إلى تحته، فالذين ينظرون إلى فوقهم فقراء على الدوام.
هتوبديشا
شكل 1-3: أغرا: تاج محل «بدأ الملك شاهجهان بإنشاء هذا الأثر المبني من الرخام الأبيض المرصع بالفسيفساء حوالي سنة 1630، وذلك ليكون ضريحا لإحدى نسائه، وقام ببنائه عشرون ألف عامل في 17 سنة، وعد أجمل مباني الهند، وأرى أنه بولغ في شهرته، فشكله على الطراز الفارسي مع قليل من الزخرف الهندوسي، وهذا إلى أنك تجد شبها بينه وبين المباني السابقة كمزار همايون الذي نشرنا صورته «رقم
2-1 ».»
تشرب الأفاعي الهواء وهي غير ضعيفة، وتأكل الفيول البرية الكلأ اليابس فتصبح قوية، ويعيش أكابر الزهاد بالجذور والفواكه، فالقناعة أعظم ثروة للإنسان.
بنج تنترا
مثل من يقضي أيامه غير متمتع بماله وغير منعم بشيء على الآخرين كمثل الكير،
1
فهو يتنفس من غير أن يعيش.
هتوبديشا
ما هي الفضيلة؟ هي الشعور مع جميع المخلوقات، وما هي السعادة؟ هي الصحة عند أهل الدنيا، وما هي المحبة؟ هي الإحساس الصادق الطبيعي، وما هي المعرفة؟ هي الإدراك.
هتوبديشا
العقلاء لا يبكون ما هلك ولا ما مات ولا ما ضاع، فبهذا يختلفون عن المجانين.
بنج تنترا
ليترك الفرد للأسرة، والأسرة للقرية، والقرية للبلد، والأرض لنفسها.
بنج تنترا
على العاقل أن يحافظ على حياته ولو في مقابل ولده وزوجه، فالأحياء إذا ما صانوا حياتهم وجدوا كل شيء.
بنج تنترا
أيبقى ما ينتحب من أجله إذا عاد الجسم المركب من خمسة عناصر إلى البنجتوم
2
ودخل المكان الذي خرج منه؟
هتوبديشا (4) عوامل سير الإنسان
ليس عند حكماء الهندوس رأي عال في عوامل سير الإنسان، فالخوف والطمع والجوع والحب أهم تلك العوامل، والغلبة للخوف بين تلك العوامل، فلذلك كانت العقوبة لدى منو الناظمة العليا لكل مجتمع والقادرة على منع الإنسان من الانحراف عن الواجب.
العقاب مهيمن على البشر، فمن الصعب أن تجد رجلا فاضلا بطبيعته، فبالخوف من العقاب يمكن العالم أن يتمتع بأطايب النعم.
منو
لا يبدي الإنسان محبة ولا عناية تجاه الآخر إلا خوفا أو طمعا أو سيرا وراء عامل خاص.
بنج تنترا
تهجر الطيور الشجرة التي نفدت أثمارها، وتهجر الكراكي الغدير الذي جف ماؤه، ويهجر النحل الأزهار الذابلة، وتهجر الظباء طرف الغابة المحترقة، ويهجر الندماء الرجل الفقير، ويهجر الخدم الملك المخلوع، فكلكم طلاب صيد.
بنج تنترا
الريح تصاحب النار التي تحرق الغاب، والريح تطفئ المصباح، فمن يصادق الضعيف؟
بنج تنترا
الإنسان لا يحب الآخر إلا طمعا في نفع منه، والآلهة لا تستجيب إلا بسبب ما يقرب إليها من القرابين.
بنج تنترا
تدوم المودة بدوام الهبات، فالعجل يهجر أمه إذا نفد لبنها.
بنج تنترا
الإنسان ليس خادم الإنسان، بل خادم المال، فالمرء يكون وجيها أو غير محترم بحسب غناه أو فقره.
هتوبديشا
الإنسان إذا كذب أو مجد من لا يستحق التمجيد أو هاجر إلى بلد أجنبي فإنه يفعل ذلك في سبيل بطنه.
بنج تنترا
يسيطر الإنسان في هذه الدنيا على جميع أفعاله ما لم تسحر لبه امرأة بكلامها.
بنج تنترا
يصبح العقلاء والأبطال في المعارك من البائسين أمام المرأة.
بنج تنترا
يرى المرء، الذي تسيره المرأة بكلامها، غير الجائز جائزا والصعب سهلا وغير السائغ سائغا.
بنج تنترا (5) النساء
لا تجد كتابا أقسى على النساء من كتب الهندوس، والهندوس لا يختلفون عن بقية الشرقيين في النظر إليهن، فالنساء عندهم مخلوقات ناعمات، ولكنهن متأخرات متقلبات يجب حجبهن لنيل وفائهن، وما صدر عن المشترع الرزين منو، الذي تسود شريعته الهند منذ ألفي سنة فنقلنا بعضه مع بعض ما صدر عن علماء كثيرين ظهروا بعده بعدة قرون، يثبت عدم تبدل رأي الهندوس في ذلك أصلا.»
منو جعل قسمة النساء في حبهن لفراشهن ومقعدهن وزينتهن وفي هواهن وغضبهن وسيئ ميولهن ورغبتهن في الشر والدعارة.
منو
النساء ذوات طبيعة متقلبة تقلب أمواج البحر، وللنساء مشاعر مذبذبة لا تدوم أكثر من ساعة كسحب الشفق، فإذا ما قضين أوطارهن نبذن الرجل الذي يصبح غير نافع لهن نبذ اللك
3
بعد عصره.
بنج تنترا
النساء يكلمن رجلا وينظرن إلى رجل آخر مضطربات ويفكرن في رجل ثالث ماثل في خلدهن، فمن ذا الذي يحبه النساء إذن؟
بنج تنترا
النساء متقلبات على الدوام، ولا تستثن منهن نسوة الآلهة، فطوبى لمن يحسن حجب نسائه، فالمرأة إذا كانت طاهرة فلرغبة الرجل عنها، لا لحيائها وعفافها وفضلها ووجلها.
هتوبديشا
يتساوى المجنون والسرطان والنيلج
4
والسكور
5
والمرأة عنادا.
بنج تنترا
لا تنال النساء بالعطايا ولا بالرعاية ولا بالإخلاص ولا بالعناية ولا بالقوة ولا بالمبادئ، فالنساء مخلوقات جامحات.
بنج تنترا
النساء كالبقرة التي تبحث عن الكلأ الجديد في الغابة، فالجديد، الجديد، هو ما يرغبن فيه.
هتوبديشا
حب المرأة ينطفئ بسرعة كوميض البرق، فالمرأة تتكلف حبك مع تفكيرها في غيرك، والمرأة تضمك بين ذراعيها مع لهفها على منافس لك على ما يحتمل، ولم تريد مقاومة الطبيعة؟ فالسدرة لا تزهر فوق ذروة الجبل، والبغلة لا تحمل أثقال الحصان، والشعيرة لا تنبت أرزة، فلن تجد الفضيلة في روح المرأة.
سدهاركا
تهوى المرأة الفاجر رجلا آخر على الدوام وترضى بذلك، فلا تبالي في سبيل هواها بسقوط الأسرة ولا بعذل الناس ولا بالسبي ولا بالمخاطرة بالحياة.
بنج تنترا
ما في قلوب النساء لا يجري على ألسنتهن، وما يجري على ألسنتهن لا يسري إلى الخارج، فما في الخارج ليس من صنعهن.
بنج تنترا
يصير المنزل إلى الخراب إذا كان أمره بيد امرأة، أو وجد فيه مقامر، أو كان آمره صبيا.
بنج تنترا
على المرء أن يقلع عن الحب، فإذا لم يقلع عنه وجب عليه أن يقصره على زوجته، فهي وحدها التي تستطيع أن تشفيه.
هتوبديشا
المرأة هي زوبعة الريب وبؤرة السفه ومدينة التهور ومستودع الذنوب وبيت الخداع وحقل الظنون وزنبيل الطلاسم، والمرأة هي السد الذي لا ينفذ منه أكابر الناس وذوو الدراية منهم، والمرأة هي السم الممزوج بالدلوك،
6
فمن خلقها في الدنيا لزوال الفضيلة؟
بنج تنترا
يجب على الزوج العالم بخلق المرأة التي فطرها عليه رب الخلق حين برأ الكون أن يراقبها مراقبة وثيقة.
منو (6) العلم والجهل
الهندوس يضعون العلم فوق الغنى والجهل تحت الفقر، وليس في العالم أمة قدرت العلم كالهندوس، وتقدير الهندوس للعلم كان، أيضا، في زمن لم يكن الغربيون فيه غير برابرة، وسيرى القارئ من التأملات الآتية أن الهندوس يقدرون على تمييز الذكاء من العلم المكتسب، فالعلم المقرون بالذكاء عند الهندوس هو طلسم سحري يساعد الإنسان على القيام بأي عمل، والملك عندهم لا يساوي الحكيم.
العلم أجمل زينة للإنسان لا ريب، العلم كنز خفي، العلم صديق رفيق في الرحلات، العلم منبع لا ينضب معينه، العلم وسيلة المجد ورونق المجالس، العلم هو العين العليا، العلم يهيئ لنا سبل الحياة في الدنيا، فلولا العلم لكان الإنسان من البهائم.
هتوبديشا
العلم أطيب النعم، فلا يمكن نزعه من إنسان ولا شراؤه منه، فهو كنز لا يفنى.
هتوبديشا
الحكمة والمملكة غير متساويتين، فالملك إذا كان محترما في بلده فإن العالم مبجل في كل مكان.
بنج تنترا
العالم يتصف بكل المحاسن، وليس في الجاهل سوى المساوئ، فالعالم خير من عدة ألوف من الجهال.
هتوبديشا
لا ينال الإنسان العلم والثراء والفن نيلا تاما إلا إذا ساح في الأرض مسرورا.
بنج تنترا
شكل 1-4: أغرا. ضريح الملكة في داخل تاج محل.
الذكاء خير من العلم وفوق العلم، فمن كان غير ذكي هلك.
بنج تنترا
ما هي فائدة المرء من العلم إذا كان عاطلا من الذكاء؟ وما هي فائدة المرء من المرآة إذا كان عاطلا من العينين؟
هتوبديشا
السهم الذي يرميه النبال يقتل رجلا واحدا أو لا يقتله، وأما ذكاء الحكيم فإنه يهدم بلدا مع رئيسه إذا ما أطلق.
بنج تنترا
أعظم الفقر في قلة العلم.
بنج تنترا
الجاهل يهاجمه كل يوم ألف غم ومائة خوف، ولا يهاجم الحكيم شيء من ذلك.
هتوبديشا
لا يلمع الجاهل في مجلس إلا بثوبه، ولا يلمع الجاهل إلا إذا امتنع عن الكلام.
هتوبديشا
خير لك أن تكون ذا ولد عالم من أن تكون ذا مائة ولد جاهل، فالقمر وحده يكفي لتبديد الظلام مع أن الكواكب في مجموعها لا تستطيع ذلك.
هتوبديشا
يصل ذوو المحاسن إلى النور بمحاسنهم من غير نظر إلى أنسابهم.
بنج تنترا (7) الغنى والفقر
من الصعب أن تتهم الهندوس بالملق في كتبهم، فهم لا يعلنون احتقارهم للثروات، كما جاء في كتب الغربيين منذ القدم، قولا لا فعلا، فإذا عدوت العلم الذي يضعونه فوق كل شيء وجدت نيل الغنى غاية الحياة عند حكمائهم، وهم يمقتون الفقر ويرون الموت أفضل منه، وتبدو آراؤهم هذه مبالغا فيها، لا ريب، إذا ما طبقت على حضارتنا الغربية، مع أنها غير ذلك في العالم الذي ظهرت فيه، فأحوال المعايش لدى أمم الهند جعلتها لا تعرف غير أقصى البؤس وأقصى الغنى، وبلغ ما بين الفقر والغنى من التناقض مبلغا لا أمل للفقير معه أن يتخلص من فقره.
ويهب الغنى الحرية ويؤدي الفقر إلى العبودية، وسترى من التأملات والنصائح التي ينطوي عليها هذا المطلب أن الهندوس، على ما كان من استعبادهم في كل وقت، رأوا مساوئ العبودية، هذه المساوئ، على الخصوص، هي التي أوحت إليهم مقتا شديدا للفقر.
شكل 1-5: سكندرا. دقائق زخرف مدخل الحدائق القائم فيها مزار الملك أكبر، وهذا المدخل مصنوع من حجارة حمر مستورة بفسيفساء رخامية، ويرجع تاريخ إنشائه إلى سنة 1613، ويبلغ ارتفاعه 22 مترا.
يرى بعض العقلاء أن الملك يقوم على الفضيلة والغنى، ويرى آخرون أنه يقوم على اللذة والغنى، ويرى بعض آخر أنه يقوم على الفضيلة وحدها، ويرى بعض رابع أنه يقوم على الغنى، غير أن النعيم يتم باجتماع هذه الأمور الثلاثة.
منو
لا يدخر المرء وسعا في نيل الثراء، فعلى العاقل ألا يبذل جهودا إلا للوصول إليه.
بنج تنترا
من كان غنيا كان ذا أصدقاء، من كان غنيا كان ذا أقرباء، من كان غنيا كان رجلا في الدنيا، من كان غنيا عاش حقا.
بنج تنترا
يبدو العدو، في هذه الدنيا، للأغنياء قريبا، ويبدو القريب، فيها، للفقراء عدوا.
من شأن الغنى أن يجعل محترما من هو غير جدير بالاحترام ، وأن يجعل مرغوبا فيه من يجب اجتنابه، وأن يمدح من لا يستحق المدح.
بنج تنترا
يعد الشيب من الشبان إذا كانوا من الأغنياء، ويعد الشبان من الشيب إذا كانوا من الفقراء.
بنج تنترا
من كان غير غني في هذه الدنيا لم يكن رجلا إلا بالاسم.
بنج تنترا
يتوارى شرف الإنسان وفخره وعلمه وجماله وذكاؤه إذا خسر ثروته.
قد يقال إن الرجل سليم الحواس، فهذا قول فارغ، وقد يقال إنه سليم العقل، فهذا كلام فارغ أيضا، فالرجل ينقلب إلى رجل آخر فورا إذا أضاع ثروته.
هتوبديشا
فقر الناس هو العدم المجسم، هو بؤرة الشرور، هو ضرب من الموت.
بنج تنترا
قد تحتاج إلى الصلصال إذا كان خالصا، ولكن الفقير لا ينفع لشيء في هذه الدنيا.
بنج تنترا
يجب أن تخشى الفقر، فهو عنوان العجز، فلا يعد الفقير إلا كلبا ولو قام بأحسن خدمة.
بنج تنترا
لا تلمع صفات الرجل الطيب إذا كان فقيرا، فالثروة هي التي تنير الصفات كما تنير الشمس كل موجود.
بنج تنترا
يتلاشى ذكاء الرجل المعسر، مهما كان قويا، في همه الدائم من أجل القوت والثوب.
ولم يلبث بيت الغني الأنيق أن يصبح سمجا إذا ما أعسر، فيبدو كالسماء بلا نجوم وكالحوض الذي جف ماؤه وكالمقبرة الكريهة.
بنج تنترا
شكل 1-6: سكندرا. مزار الملك أكبر بالهند «لهذا البناء الذي هو على شكل أرصفة منضدة وضع خاص، فنرجح أنه مشتق من طراز هندوسي سابق، فلا نرى له شبيها في غير بنج محل بفتح بور.»
يفقد الرجل مقامه إذا افتقر، ويغدو غير شريف إذا فقد منزلته، ويصبح محتقرا إذا فقد شرفه، ويقل عزمه إذا احتقر، ويقنط إذا قل عزمه، ويخسر عقله إذا قنط، ويهلك إذا خسر عقله، آه، من الفقر الذي هو مصدر كل شر!
هتوبديشا
يموت الرجل العاقل غير متوجع، بيد أنه لا يرضى بالفقراء، فالنار، وإن أمكنها أن تنطفئ، لا يمكنها أن تبرد.
هتوبديشا
قيل إن الرأي تفضيل الفقر على الموت عند التخيير بينهما، مع أن الموت يوجب ألما خفيفا والفقر يوجب ألما ثقيلا.
هتوبديشا
لا خير في الحياة بغير استقلال، فماذا تكون الحياة عند التابعين لغيرهم إن لم تكن موتا؟
هتوبديشا
لأن يعيش المرء في غابة، أو أن يكون سائلا، أو أن يكسب عيشه من حمله الأثقال، أو أن يمرض خير من أن ينال الغنى مع استعباد.
بنج تنترا (8) السلوك الواجب في مختلف أحوال الحياة
نجمع في هذا المطلب ونقسم بعض النصائح العملية حول سلوك الإنسان في الحياة ونتائج الفضائل والرذائل وحول واجباته نحو أقرانه وما يجب عمله للتوفيق بين الناس، وأنفع الصفات التي أوصي بها هي: البصيرة والاحتراز والثبات والاعتدال في الرغائب، وعد الغضب أمرا حقيرا لعدم فائدته، وعدت المداهنة أمرا حسنا لفائدتها، فمن هنا ترى أن الآداب الهندوسية نفعية إلى الغاية.
ونذكر مبادئ الآداب العامة قبل النصائح التي تطبق على مختلف أحوال الحياة، وتشابه هذه النصائح ما جاء في كتب النصارى، ولا سيما ما يدور حول الحكمة القائلة: لا تعامل الناس بغير ما تحب أن يعاملوك به، ولكننا لن نسهب كثيرا في بيانها، فالذي يجب أن يعرف هو ما يحافظ عليه الناس، لا القواعد الأخلاقية التي تقول بها الكتب، والفرق بين كلا الأمرين واضح، وما نذكره في هذا المطلب من المقتطفات يكفي لتبيان الأخلاق العملية عند الهندوس.
مبادئ الآداب العامة
أنصتوا لروح الفضيلة، فإذا أنصتم ففكروا، فلا تعاملوا غيركم بغير ما تحبون أن يعاملوكم به.
بنج تنترا
ينظر من لهم قلوب نبيلة إلى نساء غيرهم كما ينظرون إلى أمهاتهم، وينظرون إلى أموال غيرهم كما ينظرون إلى المدر،
7
وينظرون إلى المخلوقات كما ينظرون إلى أنفسهم.
بنج تنترا
شكل 1-7: فتح بور. مدخل المسجد الكبير «يبلغ ارتفاعه نح 20 مترا»، «لا تجد ساكنا في فتح بور التي أراد ملوك المغول إنشاءها في غابة في القرن السادس عشر فاتخذوها عاصمة لدولتهم، وتبدو قصورها المبنية من الحجارة الحمر سليمة، ويعد المسجد الذي تدل هذه الصورة على مدخله من أوسع مباني العالم، فيبلغ طوله 168 مترا ويبلغ عرضه 143 مترا، فإذا ما استثنيت هذا البناء وجدت جميع مباني فتح بور قائمة على الطراز الهندوسي الخالص تقريبا.»
يمكن الناس أن يستعدوا بسهولة لوعظ الآخرين، وأما ممارسة الفضيلة فلا يقوم بها سوى خيار الناس.
هتوبديشا
يرى بعضهم أن الحكمة في اللسان كما عند الببغاء، ويراها بعض آخر في القلب كما عند البكم، ويراها آخرون في القلب واللسان معا.
بنج تنترا
اللئيم يتبعه عمله ولو سار من ألف طريق، والكريم يتبعه عمله ولو سار من ألف طريق أيضا.
بنج تنترا
يؤتي كل عمل من أعمال الفكر أو اللسان أو البدن ثمرة طيبة أو ثمرة خبيثة بحسب ما يكون خبيثا أو طيبا، وتنشأ أحوال الناس عن أعمالهم.
منو
قيمة الإنسان، مهما كان أصله وطائفته، بإخلاصه وضبطه لحواسه وزهده وإحسانه وكفه الأذى عن غيره وقيامه بالواجب قياما دائما.
مهابهارتها
من يزرع الدخن
8
يحصد الدخن، ومن يزرع الشر يحصد الشر.
مثل تمولي
الأثمار التي يقتطفها الناس من شجرة خطيئاتهم هي المرض والكرب والغم والرق والبؤس.
هتوبديشا
حبط عمل الأفاعي والأشرار واللصوص، ولولا هذا ما وجد العالم.
بنج تنترا
الحذر والاحتراز
يجب على الرجل العاقل الراغب في الغنى وطول العمر والسعادة ألا يثق بإنسان.
بنج تنترا
الضعفاء إذا ما حذروا لم يقتلهم الأقوياء، والأقوياء إذا ما وثقوا قتلهم الضعفاء.
بنج تنترا
على المرء ألا يثق بعدو مقهور ولو صار صديقا.
بنج تنترا
على العاقل ألا يطلع أحدا على غناه مهما كان ضئيلا، فالغنى يحرك قلب العابد.
بنج تنترا
الاستعانة بالقوي في القتال يؤدي إلى موت الضعيف، فالقوي يظل سليما كالحجر الذي يكسر الفخار.
بنج تنترا
من تدخل فيما لا يعنيه بحث عن هلاك نفسه بنفسه كالقرد الذي يقتلع زاوية.
بنج تنترا
على العاقل ألا يضحي بالكثير من أجل القليل، فمن الحكمة أن يحفظ المرء الكثير بالقليل.
بنج تنترا
من يترك الأكيد من أجل غير الأكيد يخسر الأكيد وغير الأكيد.
هتوبديشا
أربعة أبواب تؤدي إلى الموت: العمل السيئ، ومعاداة القريب ومنافسة الأقوى، والاعتماد على المرأة.
هتوبديشا
العاقل من يتكلم عندما يسأل عن حقه ، فالمتكلم بلا سؤال كالباكي في الغاب.
بنج تنترا
الأحمق الذي يخاطب صيادا بذل جهدا غير مجد أو الذي يخاطب جاهلا شقيا يلحقه عار.
بنج تنترا
شكل 1-8: فتح بور. محراب المسجد السابق «يبلغ ارتفاع قسم البناء الظاهر في الصورة نحو تسعة أمتار.»
يندمل جرح من يصيبه سهم، ويلتئم جرح يحدثه سيف، بيد أن كلمة مؤذية تثير عوامل الحقد فلا يبرأ جرح أوجبه قول.
بنج تنترا
الحلم والصبر
من كان حاذقا في أمور الدنيا وجب عليه أن يعالج هذه الأمور بحلم، فلا خسران في عمل تم بحلم.
بنج تنترا
الاتحاد أجمل شيء للناس، ولا سيما مع الصديق، فالأرز إذا ما جردته من قشره لا ينبت.
بنج تنترا
اجتماع الأشياء الصغيرة يؤدي إلى نتائج كبيرة، فالليف المفتول يقيد الفيل الهائج.
هتوبديشا
كيف يتودد الإنسان إلى الناس
يجب أن تعامل الناس على حسب أخلاقهم، فالعاقل إذا ما ألم بأفكار الآخرين حكمهم من فوره.
بنج تنترا
يجب على المرء أن يتودد إلى البخيل بالمال وإلى الشديد بالخضوع وإلى الجاهل بالحلم وإلى المتعلم بخلوص النية.
بنج تنترا
يمكن المرء أن يتودد إلى الصديق بنبيل العواطف وإلى الأبوين بالاحترام وإلى النساء والخدم بالهدايا والرعاية وإلى بقية الناس باللباقة.
هتوبديشا
المداهنة وسلامة الطوية
سلامة الطوية أمر طيب لدى الزهاد المتبتلين إلى التأمل، ولكنها غير ذلك عند الراغبين في الثراء والزلفى لدى الملوك على الخصوص.
بنج تنترا
لا يعيش الرجل الذي يكون صريحا لدى النساء والعدو والصديق الخبيث.
يرتد الكبش لكي يهجم، ويتكمش الأسد لكي يثب، فالعقلاء إذ يتناجون ويكظمون غيظهم يحتملون كل شيء عند إنعام النظر.
هتوبديشا
شكل 1-9: فتح بور. منظر بنج محل «يبلغ ارتفاعه نحو عشرين مترا.»
لا يلبث العاقل الذي يعرف خلق رجل عند المصاقبة أن يسوده.
هتوبديشا
الشجاعة والثبات
عدم البدء أولى علائم الذكاء، وإنهاء ما بدئ به ثانية علائم الذكاء.
بنج تنترا
النجاح بالأعمال، لا بالآمال، فالظباء لا تدخل فم الأسد النائم.
بنج تنترا
ما هو الحمل الثقيل لدى الأقوياء؟ ما هي المسافة البعيدة لدى ذوي الإقدام؟ ما هو البلد الغريب لدى المتعلمين؟ من هو عدو الحليم؟
بنج تنترا
الرجل الثابت يعلو الآخرين فيصير محترما ولو لم يكن غنيا، والرجل الضعيف يحتقر مهما كانت ثروته.
بنج تنترا
من يقنع في بؤس فيكتف بالتوجع لا يصنع غير زيادة بؤسه من غير وقوف عند حد.
بنج تنترا
الغضب
الفيل، مع عظيم قوته، لا يغضب إذا لسعته نحلة باحثة عما في صدغيه من الشراب، فالقوي لا يغضب إلا إذا كان تجاه قوة تعدل قوته.
بنج تنترا
غضب الضعفاء سبب تعسهم، فالإناء الملتهب يحرق جوانبه.
بنج تنترا
لماذا يغضب الرجل العاجز عن إيقاع الأذى، فالحمصة تثب من غير أن تكسر المقلاة التي تحمص فيها.
بنج تنترا
إذا نبح الكلب على جبل فأيهما يألم، الجبل أم الكلب؟
مثل تمولي
الحسد
العلماء يمقتهم الجهلاء، والأغنياء يمقتهم الفقراء، والأتقياء يمقتهم الملاحدة، والنساء الفاضلات تمقتهن النساء الفاجرات.
بنج تنترا
تحري الصلات ونتائجها
على المرء ألا يكون ذا صلة بمن لا يعرف قوته ولا أسرته ولا سيرته.
بنج تنترا
قد تكون صداقة ونسب بين من تساويا ثروة وعرقا، لا بين قوي وضعيف.
بنج تنترا
تكون الصداقة والألفة بين من تساووا ثروة وتربية، لا بين من تبوأ مكانا عليا ومن تبوأ مكانا دنيا.
المهابهارتا
الأحمق الذي يتخذ صديقا فوقه درجة أو دونه مرتبة يسخر الناس منه.
بنج تنترا
يجب على العقلاء أن يتخذوا لأنفسهم أصدقاء خلصاء لينقذوا أنفسهم من الشقاء، فمن ليس له أحباء لا يتغلب على البأساء.
بنج تنترا
حتى الشيطان يحتاج إلى خلان.
مثل تمولي
لا رجل في الدنيا أسعد ممن يحادث صديقا ويساكن صديقا ويذاكر صديقا.
هتوبديشا
الظباء تبحث عن الظباء، والأبقار تبحث عن الأبقار، والأفراس تبحث عن الأفراس، والأغبياء يبحثون عن الأغبياء، والعقلاء يبحثون عن العقلاء، فالصداقة تقوم على تشابه المحاسن والمعايب.
بنج تنترا
من يقدر الفضل يحب صاحب الفضل ومن هو عاطل من الفضل لا يحب صاحب الفضل.
هتوبديشا
معاشرة الأشرار تغير الأبرار، فترى الفضلاء يجتنبون الخبثاء.
هتوبديشا
يخسر الإنسان ذكاءه بمعاشرته من هم دونه، فإذا عاشر شباهه بقي مساويا لهم، وإذا عاشر من هم أفضل منه سار إلى الفضل.
هتوبديشا
يكون الحصان أو السلاح أو الكتاب أو الكلام أو المرأة أو الرجل طيبا أو خبيثا بحسب المرء الذي يلاقيه.
بنج تنترا
لا تعرف من الماء الذي يصب على الحديد الحامي إلا الاسم، فإذا استقر الماء على ورق السدر التمع كاللؤلؤ، وإذا سقط الماء على صدف تحت كوكب سواتي تحول إلى در، فالحق أن الطبائع الكريمة والمتوسطة والخسيسة تكون على حسب المجتمع الذي يلازم.
بنج تنترا (9) السياسة
تجد في كتب الهندوس إيضاحا كاشفا عن المبادئ الشعبية في سياسة الناس وسلوك الملوك وواجباتهم، ونقتصر على اقتطاف بعض مختارات منها فنرى أنها مما لا يذمه مكيافيللي.
تبدأ السياسة بالحلم وتنتهي بالعقاب.
بنج تنترا
إذا كان الملك لا يجازي من يستحقون الجزاء شوى الأقوياء الضعفاء كما يشوى السمك على المنضاج.
9
منو
لا يحترم من لا يستبد، فالناس يهابون الأفاعي أكثر من مبيد الأفاعي غرودا.
بنج تنترا
يخسر الملك الذي يتملقه طبيبه وأستاذه ووزيره صحته ومقامه الديني وثروته.
هتوبديشا
إذا عهدتم بالسلطة إلى رجل خدمكم لم يفكر هذا الرجل في العيب بكم، فوزير كهذا يشيد بخدمه ويمزجها بأمور الدولة.
هتوبديشا
يجب عدم إغناء الوزير مهما كان، فقد قال الحكماء: الغنى يغير أخلاق الإنسان.
هتوبديشا
إذا ما ضغط الوزراء استفرغوا جوهر الملك، فالوزراء كالدماميل، فعلى ملوك الأرض أن يؤلموا وزراءهم على الدوام، أفيستخرج ماء ثوب الحمام من يعصره مرة واحدة.
هتوبديشا
قتل من لم يقتل العامل الذي هو مثله ثراء وقوة وذكاء وحزما وسلطانا.
هتوبديشا
يجب أن يكون سلوك الأمير الملكي والوزير الأول وكاهن آل البيت والحاجب تجاه الملكة وأم الملك كسلوك الملك.
بنج تنترا
يجب على الأمير الحاذق في السياسة أن يكون كالسلحفاة التي تختفي بين طبقتيها العظميتين فتقاوم بذلك صدمة عدوها، فإذا ما لاحت الفرصة نهض كالحية المرهوبة.
هتوبديشا
يجب على الأمير، ليظفر بأعدائه، أن يلجأ إلى التوفيق والفساد والتفريق معا أو على انفراد، وليجتنب قهرهم بالسلاح.
هتوبديشا
لا يقهر العدو بالسلاح كما يقهر بالحيلة، فالمحتال لا يغلبه الأبطال مهما كان قصيرا.
بنج تنترا
لا مشير أحسن من وارث عرش في بذر الفساد بين الأعداء، فعلى الأمير ألا يألو جهدا في رفع وارث عدوه.
هتوبديشا
شكل 1-10: فتح بور. خاص محل «يبلغ مجموع ارتفاع القصر من فوق الرصيف المبني عليه إلى أعلى القباب 17 مترا.»
يجب على من يعرف قواعد السلوك الثلاث التي يجب اتباعها، وهي: الفضيلة والمنفعة والرغبة، ألا يكون عظيم الرحمة، فلن يستطيع متسامح أن يحافظ على ما في يده.
هتوبديشا
وجب قتل العدو الضعيف قبل أن يصبح قويا، فالعدو الضعيف إذا ما تقوى صعب قهره.
بنج تنترا
شكل 1-11: فتح بور. دقائق القسم الأعلى من عمود في قصر الملكة بيربل.
يجب ألا يحالف العدو، ولو بأوثق العهود، فالماء يطفئ النار مهما كان حارا.
هتوبديشا
الأعداء الذين يقتلون بالسلاح ليسوا بالقتلى، فقتلى الأعداء هم الذين يقتلون بالحكمة، فالسلاح لا يقتل سوى البدن، والحكمة تقتل الأسرة والثروة والشهرة.
بنج تنترا
تقوم الحرب على أمور ثلاثة: الأرض والصديق والذهب، فعلى من لا يملك واحدا منها ألا يوقد حربا.
بنج تنترا
جيش صغير مؤلف من جنود مدربين خير من جيش عظيم مؤلف من أخلاط غير مدربين، فأردأ الجنود يغلبون ويوجبون هزيمة الشجعان في الميدان.
هتوبديشا
إذا ما نشبت الحرب وجب على الأمير أن يكون صارما حتى تجاه من يحبهم حبه لنفسه ومن يحافظ عليهم ومن يرعاهم بعين عنايته.
بنج تنترا (10) مصدر الاختلاف بين تعاليم الكتب الهندوسية وتعاليم الكتب الأوربية
سوف يقف القارئ، الذي يطالع هذه الحكم بعد تلك الفصول التي كان للدين أبرز مكان فيها، مشدوها أمام تناقض آراء الهندوسي في اللاهوت والآداب، ففي اللاهوت ترى تجلي خيال الهندوسي تجليا مشوشا مفرطا، وفي آدابه ترى ثمرة الحس العملي بأدق معنى وبأكثره إيجابا.
فبينما تبصر السلطان لأخيلة أحبار الهند وشعرائها في الحقول الوهمية، فيفتح هؤلاء أبوابا لمستقبل أسطوري، فيعدون كيان الإنسان كخردلة في عالم الزمان، فيضعون درجة من الكمال لا تكاد تبلغ إلا بألوف مؤلفة من التحولات التي تقع في ألوف من القرون، تجد علماء الأخلاق في الهند يقولون بتمتع الإنسان بالحياة قبل كل شيء، ويرون أن يزيل عنه كل هم يضنيه، وأن ينظر إلى الحياة من ناحيتها الطيبة، وأن يبحث عن الغنى وألا يكون ساذجا، وأن يحذر النساء لأنهن أخطر الشرور بما يوقدنه في الأفئدة من نار الحب.
يبدو تحلل تعاليم الهندوس الخلقي مؤذيا لمشاعرنا، ولكن لا تنس قيام هذه التعاليم على تفهم الحياة تفهما منطقيا، فنحن، وإن كنا نقول بمبادئ خلقية سامية لا نطبق، عند العمل، سوى حكم كتلك الحكم الهندوسية.
وهذا التناقض الذي يبدو جليا عندنا يرى مثله لدى الهندوس، ولكن العروق والبيئات والأزمنة جعلت هذا التناقض يظهر في الهند بين الدين والآداب وجعلته يظهر في أوروبا بين الآداب المدونة وأعمال الحياة العادية.
وإذا بحثت عن التناقض بين الذي نعلمه والذي نطبقه فينفر منه الشرقيون الذين يدرسون أمور أوروبا وجدته ناشئا عن مبادئنا الخلقية، وبيان الأمر أن الدين في عصور الإيمان كان مرتبطا في الآداب ارتباطا وثيقا فلم تعد الآداب فيها سوى تعاليم إلهية خالصة، فلما تلاشت المعتقدات بقيت الآداب سليمة مثالية، أي أسمى مما يقدر الإنسان على تحقيقه، ولما زالت عنها صفتها الإلهية، بذلك، تجلى البون واضحا بين الذي نطبقه والذي نشير إليه باسم الناس، لا باسم الله.
والدين منفصل عن الآداب عند الهندوس في كل زمن كما كان منفصلا عند الإغريق والرومان، أجل، إن التعاليم الدينية تنفذ، كما قلنا، جميع أعمال الحياة عند الهندوس لا ريب، غير أن هذه التعاليم القاطعة الخاصة بالطقوس والحج والصلوات والقرابين، إلخ، أي بسير الإنسان نحو الآلهة، لا تبالي بسلوك الناس بعضهم نحو بعض، فلم تقم الآداب الهندوسية على غير أساس العادة التي هي وليدة التجربة الناشئة عن مقتضيات الحياة، وبينما تبصر مثل الهندوس الأعلى قد ظل ضمن دائرة خارجة عن هذه الدنيا عامرة بموجودات قادرة على كل شيء غير مبالية بسوى واجبات الناس نحوها، لا بواجبات الناس بعضهم نحو بعض، تبصر الحياة بادية للهندوس كما هي بخيرها وشرها، فليست الأرض التي يسكنها الهندوسي، بالحقيقة، إلا جثوة تراب زائلة إذا ما قيست بالمساوف الساطعة اللامعة العامرة بالآلهة المرهوبة التي يراها بخياله عندما يطأ معابده أو يقلب صفحات كتبه المقدسة.
شكل 1-12: فتح بور. عمود مصنوع من الصوان المنقوش، ويعرف بعرش الملك أكبر، ويقوم في ردهة استقبال الملك.
وما بين سلوك الإنسان وآماله من التناقض يبدو، إذن، عند الهندوسي كما يبدو عند الأوربي، وإذا كان هذا التناقض أكثر وضوحا عندنا فلأن دائرتي مثل الهندوسي الأعلى ومثل الأوربي الأعلى مختلفتان، ولو نظرت إلى ذينك المثلين الأعليين من الناحية الفلسفية لوجدت أساسهما واحدا مع ذلك، فأمل السعادة الخلاب البعيد الذي يسعى البشر لتحقيقه منذ قرون والذي تعرضه على أعيننا مهامايا الخادعة، أو الغواية الكبرى، هو العامل الحقيقي لجميع أفعالنا ولا حياة لنا بغيره، فليس تأسيس الديانات وإقامة الدول وإيقاد الحروب والثورات وفتح البلدان وكل ما يسجل التاريخ سيره، عند الفيلسوف، إلا قصصا لحوادث أتمها الإنسان سعيا وراء مثل عال ديني في دور، وسياسي أو اجتماعي في دور آخر، ومما لا ريب فيه أن المثل الأعلى الواجب الوجود والسيد المسيطر على أعمالنا والطيف القادر على كل شيء يغير مواضعه هنا وهنالك على الدوام، ولكنه لن يزول إلا بزوال آخر إنسان، ونحن، مهما نبلغ من درجات الشك، لن نغفل عنه طرفة عين من غير أن نحكم على أنفسنا بالموت حالا.
هوامش
الفصل الثاني
ديانات الهند الحاضرة
لم تؤد الجهود العلمية الحديثة إلا إلى إذاعة مختل الآراء حول ديانات الهند، ورأينا، حين البحث في البدهية، درجة اختلاف هذه الديانات في الحقيقة عما ورد في الكتب، وتفقد تعاريفنا الأوربية الصريحة المضبوطة قيمتها إذا أريد تطبيقها على تلك المعتقدات المتحولة على الدوام، والتي نبتت في الهند ولا تزال تنبت في الهند فلم تدل تسمياتها بأسماء مشتركة على غير تشابه ظاهري، وتتحد المعتقدات المتناقضة في نفوس الهندوس المذبذبة الخيالية البعيدة من المنطق اتحادا لا نفهم أمره أبدا ، ويسجد الهندوسي الذي يكتب، معتقدا، تأملات في الزندقة المتطرفة، أمام ألوف الآلهة الغريبة الغليظة المرهوبة أو يقبل باحترام أثر قدم بدهة ووشنو، ولا يقتصر أمر الأديان في الهند على توافقها، بل تجد بعض العقائد المتناقضة بجانب بعض في الدين الواحد، ونحن إذ ندرس في الهند نفسها شعائر أديانها ندرك تلك المتناقضات الغريبة علينا واختلاف معنى كلمة «الديانة» عند الهندوسي وعند الأوربي.
وتشتق الديانات السائدة للهندوس في الوقت الحاضر، نظريا، من الديانات التي كان يعمل بها في زمن الويدا، وفي زمن منو ما دامت تعترف بسلطان الكتب القديمة المقدسة، ولكنك تجد فرقا بين الديانة الموصوفة في الفصول السابقة باسم الويدية والبرهمية والديانة الجديدة المعروفة بالبرهمية الجديدة أو الهندوسية التي ظهرت في القرون الأولى بعد المسيح فقامت مقام البدهية مقدارا فمقدارا بابتلاعها إياها، والبرهمية الجديدة هذه هي التي ندرسها فيما بعد. (1) الثالوث الهندوسي
تقسم المذاهب الكثيرة التي تتألف البرهمية الجديدة أو الهندوسية من مجموعها إلى ديانتين سائدتين: ديانة شيوا وديانة وشنو، ويتألف الثالوث الهندوسي من هذين الإلهين الكبيرين اللذين يقدس لهما الهندوسي التقي مع برهما العظيم.
ومع أن برهما أقوى هذه الآلهة الثلاثة فإنه ليس له عباد خصوصيون، ولا تكاد تجد في الهند معبدا خاصا به، وسبب ذلك هو أن الدين لدى الهندوسي تصويري مادي، فبينما تعمر رموز شيوا وتقمصات وشنو المعابد بالأشكال والصور لم يمثل برهما تمثيلا ظاهرا؛ بل يظل برهما هذا الروح الكبرى التي تلمس فتهب الحياة لجميع الخلق فيطمع الهندوسي أن يفنى فيها.
شكل 2-1: دهلي. العصر المغولي، مزار الملك همايون «أنشئ سنة 1555»، «بني هذا الأثر من حجارة حمر مرصعة بالرخام الأبيض على رصف تبلغ جوانبه 88 مترا.»
ولكل إله في الثالوث الهندوسي نصيبه في أمر العالم، فأما برهما فهو البارئ، وأما وشنو فهو الحافظ، وأما شيوا فهو المبيد، ومع مناقضة شأن شيوا لشأن الإلهين الآخرين فإن هذا لم يكن في الحقيقة، فليس في الفلسفة الهندوسية موت بالمعنى الصحيح، فالإبادة والتحول فيها مترادفان، فصورة الكون فيها تتحول بلا انقطاع من غير أن تفنى عناصرها، فشيوا العظيم هو الذي يقوم بهذه التحولات، وهو، لذلك، منعم كالإلهين الآخرين، وهو، لذلك، ظهيرهما الواجب الوجود.
ونحن، حين ننعم النظر في شيوا المرهوب، إله الإبادة والتحول الذي كانت تقرب إليه الضحايا الدامية، والقرابين البشرية أحيانا، كما تقرب إلى زوجته كالي، ندرك أنه أقدم من عبده الهندوس، وأنه يظل الإله الراجح في الثالوث البرهمي على ما يحتمل.
ولا تجد كالهندوس، قوما فطنوا إلى ما هو نسبي وهمي متحول في ظاهر الأشياء، فعند الهندوسي أن الذي يدركه الإنسان من الكون ليس إلا مهامايا أو وهما كبيرا، والإنسان لا يدرك جوهر الأشياء أبدا، وما يشعر به من الطبيعة هو سلسلة التطورات التي لا أول لها ولا آخر، وفي تعاقب العلل والمعلولات السرمدي ذلك يبعث الأموات ويموتون بعد أن يبعثوا، ولكن الموت والبعث هذين من الظواهر، وهما مظاهر لمجهول ثابت جوهرا متحول صورة.
وقد أبصر الهندوس، منذ قرون، المهامايا، ذلك الوهم الأبدي الذي يخدع عيوننا ويقيد قلوبنا أو يحزنها والذي يخفي حقيقة يتعذر على الإنسان أن يلمسها، وعرف الهندوس كيف يدركونه ويعرفونه في زمن اعتقد فلاسفة الغرب فيه أنهم لمسوا المطلق، فهنالك عظمة الفكر الهندوسي البرهمي أو البدهي.
والشعب لم يبال، مع ذلك، بتلك التأملات الفلسفية الصادرة عن قليل من المفكرين كما قلنا ذلك حينما درسنا البدهية، فبدت هذه المجردات التي لا تدرك هيولية لدى الشعب على الدوام. (2) الشيوائية
شيوا هو إله الإبادة، وإن شئت فقل إله التحول، هو إله الحياة والموت، هو الإله الذي يعد عضو التوليد من صفاته الرمزية فتقرب له القرابين مع ذلك، هو إله الجوهر الأصلي الذي تصدر عنه الموجودات والموت الذي يحلها، هو إله الهند الحقيقي ومبدع عبقرية عرقها.
والإله شيوا هو أقدم آلهة البرهمية الجديدة، ويمكن عده متحدا هو والإله رودرا الذي ذكر في الأغاني الآرية، أي بإله الرياح الذي يأتي بالمطر وخصب الأرض، ثم خلط بالإله أغني، وكان قدماء الآريين يعدون النار أصل الحياة التي تسري في جميع الموجودات فتهب لها الحياة فيعبدونها بحرارة، وكان الآريون أولئك يعدون النار مبيدة، أو محولة فيرون إبادتها للمادة تؤدي إلى تناسخات بعيدة الغور.
وانتقل شأن الإله أغني وصفاته إلى شيوا في البرهمية، وظاهرة هذا الإله ذي الاسم الجديد وشعائر دينه مما ذكره ميغاستين في القرون القديمة فشبهه بديونيزوس الإغريق، واتخذ القوم رمز شيوا، وهو عضو التوليد، حوالي بدء التاريخ الميلادي لا ريب، فلما قام محمود الغزنوي بمغازيه في القرن الحادي عشر كان يوجد اثنا عشر معبدا مشهورا لتقديس هذا الرمز.
وجهال القوم إذ أشربوا حب الوثنية بالتدريج جعلوا مما هو رمز إلها حقيقيا، فظهر المذهب القضيبي الذي اتخذ عبادة شيوا في صورة عضو التوليد موضوعا له، فترى جميع معابدهم مملوءة بهذا الرمز، ويحملون عليهم تصاوير صغيرة له من ذهب أو فضة على الدوام، فيقبلونها بين حين وحين مصلين لها.
وكان مؤسس هذا المذهب بيسوا يعيش في القرن الثاني عشر فيقول بإلغاء نظام الطوائف فنال نفوذا كثيرا، ثم تلاشت مبادئه بموته، ولكنه ابتدع مذهبا قائما على الذكورة متخذا عضو التوليد إلها فظل هذا المذهب سائدا للدراويد في ميسور ونظام وجميع جنوب الهند.
شكل 2-2: دهلي. «العصر المغولي» مدخل قصر ملوك المغول «بدئ بإنشائه سنة 1638.»
ولم يلبث رمز عضو الاستيلاد في النساء أن بدا في تلك المعابد بجانب رمز عضو التوليد في الذكور فصار الشيوائيون يصلون له، ويمثل هذا الرمز زوجة شيوا، باروتي أوكالي، أي إلاهة الحياة والموت والأم التي خرج العالم منها وإليها مرده.
ولا تجد عبادة أدت إلى مناظر مخالفة للذوق والأدب كعبادة كالي الهائلة.
ولسرعان ما أصبحت تلك العبادة مألوفة لدى أشد قبائل الهند جلفا فاختلطت بعبادة إلاهة سكان البلاد الأصليين الزنوج الوحشية المضرجة، وفي سبيل تمجيد هذه الإلاهة امتزجت الدعارة بالقسوة، فأريقت على مذابح معابدها دماء الضحايا البشرية الأخيرة التي أبطل تقريبها في الزمن الأخير إلى الأبد لدى الأهالي البراهمة، ولا يزال يرى في معابدها من الفحشاء والمنكر والدعارة ما يستحيل وصفه، وأظهر ما يكون ذلك في المعابد التي يتردد إليها الشيوائيون أصحاب اليد اليسرى . (3) الوشنوية
ليس الإله الأعلى وشنو، إله الهندوس البراهمة الذين ليسوا من أتباع شيوا، قديما قدم هذا الإله المنافس المرهوب، ولوشنو ذكر غالب في كتب الويدا مع ذلك، وعنه حدث ميغاستين فشبهه بهرقليس الإغريق.
ويجيب وشنو عن احتياجات القلب الأبدية على حين يخاطب شيوا الذكاء فيعد شيوا هذا عنوان عبقرية الهندوسي في تفهم الكون، ووشنو ذلك هو إله الحب والإيمان، ويتطلب أتباع شيوا عملا لنيل النجاة وقهر الشهوات والتبتل إلى شديد العبادات، ومن أتباع شيوا، أوكالي، تجد الزهاد الحقيقيين مع ما تراه من السفه في أعياده.
وديانة وشنو، كديانة شيوا، لم تبق روحية رمزية، والهندوس يرغبون في الصور المنظورة؛ ليعبدوها أكثر من أي شعب آخر، فلم تجد نفعا جهود المصلحين في تفسير أديان الهندوس بما يلائم التوحيد، فلا يزال الهندوس كما في العصر الويدي يجدون في كل شيء ما يعبدون فيرون موضوع عبادة فيما لا يدركون فيرهبون.
ولم تحبط مجهودات براهمة الهندوس ومفكريهم في ابتداع مذهب توحيدي فقط، بل حبطت، أيضا، في جمع هذا الاحتياج الدائم إلى العبادة في إلهين كبيرين أو ثلاثة آلهة كبيرة، أجل، إن الشعب الهندوسي استمع لوعظ هؤلاء المفكرين، ورضي بمذاهبهم طائعا، ولكن هذه المذاهب لم تلبث، بعد أن نفذت فيه، أن تحولت وكثرت وانقسمت واكتسبت مظاهر واكتست بألوان وحياة، أي تجسدت.
شكل 2-3: دهلي. ردهة الاستقبال في قصر ملوك المغول.
ووشنو هو إله واحد لدى الهندوس لا ريب، بيد أن هذا الإله اكتسب صورا مختلفة يتعذر تعريفها وعدها، فترى بين هذه الصور صورا للغيلان والأبطال والإنسان والحيوان فضلا عن كوكب الشمس الكريم القادر الذي اختلط به وشنو منذ أقدم العصور.
وتمثل تلك التقمصات، المعروفة بأواتار وشنو، آلهة كثيرة خاصة يعبد كل واحد منها، على الخصوص، بحسب المكان والجيل والمقام الاجتماعي، وترجع التقمصات الأساسية التي ذكرت في الكتب المقدسة المعروفة فيقدس لها الوشنويون إلى عشرة فقط، وأما التقمصات الأخرى فلا تعرف قاعدة ولا حدا لما يولد منها في كل يوم.
من أجل ذلك تمكن دعوة الهندوس إلى عبادة أي إله من غير خوف مهما كان هذا الإله رفيعا أو غليظا، فالهندوس لا يقاومون الداعي لما ظهر من أنهم أكثر شعوب الأرض تسامحا، ومن المحتمل أن يرضوا عنه من غير صعوبة فيجعلوا منه في الحال واحدا من تقمصات وشنو.
ومن ذلك أنك ترى جهود مبشري النصارى غير مجدية في الهند، فلم يلبث المسيح، الذي لا تبعد قصته عن قصة كرشنا، أن صار واحدا من تقمصات وشنو، فيجيب الهندوس عن أدلة المبشرين بأنه ليس لدى المبشرين ما يتعلمونه ما دام الهندوس نصارى أكثر من النصارى، ومن ذلك أن عد بعض الهندوس ولي عهد إنجلترا من تقمصات وشنو حينما زار بلاد الهند وأحيط بضروب العظمة والجلال.
واثنان من تقمصات وشنو شعبيان في الهند، وهما يعرفان براما وكرشنا.
ولا نستطيع أن نعين تاريخا صحيحا لوضع ديوان الراماينا وديوان المهابهارتا اللذين مجدت فيهما أعمال ذينك البطلين راما وكرشنا، وأمر هذين الديوانين عند الهندوس مشابه لأمر دواوين هوميروس عند الإغريق، فهما مدار فخر الهندوس الأدبي، وهما مصدر إلهام لا ينضب لدى شعرائهم، وهما منبع أساطير لدى جماهيرهم المولعة بالخرافات.
ووضع ذانك الديوانان المشهوران وعدلا وزيدا في قرون، فكانا موجودين حينما مجد الشعب بطليه المنصورين العظيمين راما وكرشنا فجعل منهما تقمصين لوشنو.
وليس مجد انتصارات ذينك البطلين «راما وكرشنا»، وحده، هو ما أعجب به الهندوس، بل أعجبوا، أيضا، بما اتصفا به من الحلم والعاطفة والحب، ولم ينشب الحنان الحافل بالأسرار الذي كانت الأفئدة تهفو به نحو وشنو أن انقلب إلى حب بشري حسي حار قائم على الشهوة في الغالب، وذلك حينما أصبح موضوعه صورتا ذينك البطلين «راما وكرشنا» اللتان تشعان حياة.
وفي شخص راما يعبد فاتح الهند وسيلان والغالب الذي تم بفضله انتصار العرق الآري، ولكنه زوج سيتا قبل كل شيء، وهذان الزوجان المخلصان العاشقان هما، في الوقت نفسه، شيوا وزوجته إلاهة الجمال لكشمي، وما كانت عليه سيتا من التعس والوفاء، وما أوحت به إلى راما من الحب الشديد مشاعر قوية خصبة أورثت الهند لينا ورقة منذ قرون.
وإليك ما قاله في هذا الموضوع الكاتب الهندوسي والمفكر الحر السيد ملباري في كتاب نشره حديثا بعنوان «كجرات وأهلها» فاستشهدنا به في فصل آخر:
شكل 2-4: دهلي. العصر المغولي، صحن المسجد الكبير «عرض: نحو 62 مترا، ارتفاع المئذنة: 40 مترا»، «أنشئ سنة 1658.»
طوبى لذلك الشعب الذي اتخذ راما وسيتا مثلا عاليا له، طوبى لذلك البلد الذي يدفع ضريبة الإخلاص والتقديس لذينك الزوجين المنقطعي النظير، ترى الصانع الهرم الفظ وزوجته الساذجة الجاهلة وابنته الفتاة العذبة المثالية يسكبون دموع الوفاء حينما يتلو الكاهن ما تيسر من الكتاب المقدس، فطوبى، ثلاث مرات، لمن قدر، وهو رجل، على الارتقاء إلى مرتبة الوحي الإلهي فأبدع موجودين من الظرف الرفيع.
وتعبر الراماينا تعبيرا عاليا عن مسار الأسرة التي أتت في المرتبة الأولى لدى الآريين على الدوام، فتجد في كرشنا العاشق الكامل الغاوي الملتهب منذ صباه غراما ببنات الهوى الكثيرات ففتن جميع النساء، فكان، مع راما الجميل، أكثر أبطال الهند حظوة لدى الشعب.
وليست أسطورة كرشنا الصبي بعيدة من أسطورة يسوع، فكرشنا هذا عزيز على جميع الأمهات الهندوسيات عزة يسوع الطفل على أمهات النصارى، وما يأتيه النسوة النواسك والبنات والأرامل من عبادة ذلك الإله العاشق عبادة حارة حافلة بالأسرار هو كعبادة نسوة الغرب، في الغالب، لزوجهن السماوي يسوع المصلوب.
وما في ديانة وشنو من الغرام يأتي في الهند ذات الجو المحرق وذات السكان الملتهبي المزاج بنتائج مخالفة للآداب الأوربية.
ونجد في كجرات، على الخصوص، بعض المذاهب القائلة بعبادة كرشنا فيدعى كهانها بالمهاراجوات، فمن أقصى آمال النساء هنالك أن يصبحن عاشقات لكرشنا أي لممثليه أولئك الكهان الذين يبيعون قضاء الأوطار بأعلى الأسعار، فاسمع ما قاله في ذلك الكاتب الهندوسي السيد ملباري الذي ذكرته غير مرة:
قد يرى الأوربيون أن المهاراجوية خرافة شانئة أو طريقة شهوانية ساقطة، بيد أن ألوف الأسر الهندوسية ستظل رازحة تحت نيرها البهيمي ما بقي هذا النير مستترا تحت رائحة الطهر. (4) تنوع ديانات الهند وتحولاتها المستمرة
رسمنا خطوط ديانة وشنو وديانة شيوا، وأشرنا إلى العقيدة القائلة بالثالوث المؤلف من هذين الإلهين ومن برهما فبدت أساسا لجميع المعتقدات.
شكل 2-5: دهلي. العصر المغولي، مزار صفدرجنك بالقرب من دهلي «هذا الأثر الذي أنشئ سنة 1754 هو آخر المباني المهمة التي أقيمت في العصر المغولي، وهو مبني من حجارة حمر مرصعة بالرخام الأبيض»، «يبلغ عرض هذا المزار ثلاثين مترا.»
ومن المتعذر أن نصف للقارئ جميع ديانات الهند التي لا تكاد تحصى، وأن نصف ما يعتور هذه الديانات من التحول الدائم، فليس بين هذه الديانات ما هو ثابت، وكل واحدة منها ترجع إلى أقدم القرون فتجد مصدرها في كتب الويدا، نعم، يجمعها اسم البرهمية الجديدة أو الهندوسية المشترك، ولكنها بلغت من كثرة العدد والتنوع ما تشبه بورق الشجر في غابة كبيرة، وتميل كلها إلى التوحيد، ولا سيما أنها تشتمل على ألوف الآلهة وعلى أصنام حجرية وخشبية، في الغالب، ممثلة لأغلظ الأدوات، ويشتق من كل واحدة منها أفكار فلسفية تورث العجب بغورها البعيد، كما أنك ترى في كل واحدة منها أسخف الخرافات.
وإذا أردنا أن نلخصها في مجموعها ببضع كلمات قلنا إنها تقوم على الآلهة البرهمية القديمة المؤلفة من قوى الطبيعة التي ألهتها كتب الويدا وشخصها البراهمة، ثم جاءت البدهية فألانت هذه الآلهة المزعجة الحاقدة القاسية وجعلتها رحيمة، وتجد تأثير البدهية ظاهرا في جميع فروع البرهمية الجديدة؛ لما يبدو من تسرب روحها ذات المحبة والرأفة في كل مكان، وضاعت البدهية، التي هي بشرية بما تأمر به من المحبة، والتي هي فوق البشرية بفلسفتها المجردة، بأحد الأمرين وانتصرت بالأمر الآخر، فحافظ بدهة على ألوهيته بين الآلهة الكثيرة التي تملأ المعابد مع تحوله إلى واحد من تقمصات وشنو.
شكل 2-6: دهلي. «العصر المغولي»، ضريح من الرخام الأبيض في داخل المزار السابق.
ويمكننا أن نستخلص من اختلاط المذاهب والآلهة ذلك ثلاثة خطوط أو أربعة خطوط أساسية عن عبقرية الهند الدينية، وهذه الخطوط تدور حول كيفية تصور العالم وميل الروح إلى التوحيد وميل الخيال إلى الإشراك والتسامح المطلق والإخاء بين العقائد المتناقضة، ألم يكن هذا التنوع الذي لا حد له تراث قدماء الآريين ونتيجة ذهنية هذا العرق الذي يؤثر فيه منظر الطبيعة الدائم التحول والمملوء عظمة وتبيانا؟
ولا تجد في لغات الغرب الباردة المتزنة التي توصف بها الآفاق الرائعة القاتمة المملة، في الغالب، غير ثلاثة نعوت أو أربعة نعوت صالحة لتعريف لون السماء وشكل السحاب وحركة عين الماء، حتى إن هوميروس نفسه دل بكلمة واحدة على نشاط أشيل أو جلالة جوبيتر «المشترى» فلم يتحول عن هذه الكلمة بجانب اسم كل إله أو بطل مصورا له بمنظر واحد على الدوام.
وغير ذلك أمر الويدا، فلا ترى في كتب الويدا سحابا واحدا، بل ترى فيها ألوف السحب من كل الألوان والأشكال المتحركة أو الثابتة بحسب ما تبدو للشاعر في السماء بالحقيقة، وفي الويدا، كما في الطبيعة، تقلب في لهب أغني أمواج سوما وجري بالرياح وألوان الشفق والفجر والآلهة الكثيرة ما دام كل شيء إلها، وتبصر مثل هذه الكثرة في البرهمية الجديدة ما انقلبت مظاهر قوى الكون إلى آلهة هيولية.
وحينما يتمثل الهندوسي المؤمن إلهه على وجه من وجوهه وصفة من صفاته يكون قد ألف بذلك مذهبا، ولا يحتاج تأسيس مذهب إلى مؤسس برهمي، ما أصبح أناس من الطبقات الدنيا من المصلحين في بعض الأحيان، فلا يكاد الحبر يجمع حوله بعض المريدين حتى يصير زعيما مرشدا، وإذا لم يقيض لهذا الحبر أن يفسر مذهبه الخالص قام خلفاؤه المرشدون مقامه في ذلك، وقد يصير المرء مرشدا بالوراثة أو بالاستعداد، ويكون المرشد في الغالب من غير طائفة الكهان، ويبدو المرشد ملهما من الله فيتفق له نفوذ عظيم.
ونعد مؤسس مذهب السك نانك من أشهر زعماء الهند المرشدين وأجدرهم بالذكر في تاريخها، فنانك هذا ولد بالقرب من لاهور في أواخر القرن الخامس عشر، فخيل إليه أن يقيم ديانة قائمة على التوحيد جامعة للمسلمين والهندوس، فكان له الأتباع من الجات التورانيين المقيمين بوادي السند.
داوم ذلك المذهب على الازدهار خلافا لما يحدث عادة، فلم يمض قرنان على وفاة مؤسسه حتى نظمه المرشد غووند سنغ تنظيما عسكريا فانقلب المذهب إلى شعب جسور غدا نذير سوء على المغول وبدا مقاتلا قويا تجاه الإنجليز زمنا طويلا، ومما قلناه في فصل سابق أن السك أضحوا عرقا حقيقيا من أجمل عروق الهند بفضل ما قاموا به منذ البداءة من الرياضات البدنية وبفضل تزاوجهم فيما بينهم.
شكل 2-7: لاهور. منظر مسجد أورنغ زيب «أقيم في القرن السابع عشر» ومنظر مزار رنجيت سنغها «أقيم في القرن التاسع عشر»، «التقطت هذه الصورة من أعلى القلعة.»
أوردنا مثال السك لإثبات ما قد يسفر عنه تأسيس المذاهب الدينية في الهند من النتائج، أجل، إن قليلا من المذاهب يصل إلى ما انتهى إليه مذهب السك من الأهمية، غير أنه عقب جميع هذه المذاهب قيام طوائف جديدة لا يتزاوج أفرادها إلا فيما بينهم عادين جميع سكان الهند أجانب عنهم كالأوربيين، والحق أن هنالك أسبابا كثيرة تحول دون انصهار شعوب الهند في أمة واحدة ذات يوم، وانقسام أهل الهند إلى طوائف يكفي وحده ليمنع حدوث هذا الانصهار.
ونذكر ديانات سكان الهند الأصليين بجانب الديانات الكثيرة التي جمعت تحت اسم البرهمية الجديدة، وقد قلنا بضع كلمات عن تلك الديانات في الفصل الذي خصصناه للبحث في العروق، ومن أظهر ما في تلك الديانات عبادة جن الهواء وعبادة الحيوانات المؤذية كالأفاعي والأنمار، ومما رأيناه في نلغيري وجود أقوام من الرعاة، نذكر منهم البداغا والتودا على الخصوص، يتخذون من أبقارهم وثيرانهم آلهة ومن رعاتهم كهانا.
وقد أثرت تلك الديانات الوثنية في البراهمة أنفسهم، ومن ذلك الشأن الكبير الذي تراه لعبادة الحيوانات في جميع ديانات الهند على الإطلاق، والأفعى والبقرة أكثر هذه الحيوانات محلا للاحترام، فلا تجد في الهند قوما لا يقدسون لهما.
وذبح البقرة أو قتل الحية من أفظع الجرائم عند بدهيي نيبال وبراهمة وادي الغنج ووحوش غوندوانا، فترى صورة الأفعى بجانب تماثيل الآلهة في جميع المعابد، وترى الثعبان والقرد خاصين بوشنو، كما أن البقرة والثور خاصان بشيوا.
شكل 2-8: لاهور. مزار رنجيت سنغها ومئذنة لمسجد أورنغ زيب.
ويعبد الإله الشمس في الهند منذ القديم، وتمزج عبادته بجميع دياناتها، وكان الآريون يتقربون إليه بالأدعية والصلوات، فشادوا بذكره في أروع الأقوال، وشخصه حفدتهم في وشنو كما رأينا، وتجد من الآريين والدراويد والسكان الأصليين من يدعون الإله الشمس رأسا من غير أن يشخصوه. (5) أشكال ديانات الهندوس الخارجية
يحب الهندوس الصور والعلائم الخارجية، فهم شكليون في ممارسة أديانهم مهما كان نوعها، وتجد معابدهم مملوءة بالرموز التي تشير إلى عضو التوليد وعضو الاستيلاد، وبلغوا من الغلواء في ذلك ما ترى أعمدة أشوكا حافلة معه برموز عضو التوليد، وهم يجدون في كل أسطوانة أو سارية أداة للاحترام والتقديس.
ومما يجلب الثواب عند الهندوس النذور والتوبة والتقشف وتلاوة الكتب المقدسة والأوراد والصلوات والحج، فيقومون بهذه الواجبات خير قيام، ولا ترى قوما، كالهندوس يتشددون في ممارسة الفروض الدينية.
شكل 2-9: لاهور. مدخل رواق في قصر المرايا «يرجع أقدم أجزاء قصر لاهور إلى عهد الملك أكبر، وهي الآن صائرة إلى خراب، وقد بني مدخل الرواق الظاهر في هذه الصورة حينما كان رنجيت سنغها ملك لاهور.»
والرغ ويدا أكثر الكتب دراسة من قبل البراهمة والمؤمنين، وينال من يتلوه ثوابا عظيما، وللغة السنسكرتية التي كتب بها شأن كبير لدى الهندوس كشأن اللاتينية لدى الكاثوليك وشأن العبرية لدى بني إسرائيل، ولا بد للأدعية عند الهندوس من أن تحفظ وتكرر عن ظهر القلب عدة مرات، فتراهم يستعينون على ذلك بالسبحات، واستعملت النواقيس في المعابد البدهية على الخصوص، ثم استبدلت الأقراص النحاسية بها في المعابد البرهمية على العموم، وكانت القرابين كثيرة فيما مضى فتألف منها أهم الشعائر الدينية، ثم فقدت اليوم شيئا كبيرا من سابق شأنها، وما كان ليوضع على مذبح وشنو غير الأزهار والأثمار، مع أن القرابين الدامية، ومنها القرابين البشرية في بعض الأحيان، كانت تقرب إلى شيوا.
شكل 2-10: بدهة ناتهه «نيبال». منظر المعبد الكبير «يبلغ ارتفاعه نحو 42 مترا ويبلغ قطره نحو 90 مترا»، «انظر إلى المطلب الخاص بفن البناء الهندي التبتي من فصل فن البناء للوقوف على تاريخ إقامة مباني نيبال.»
شكل 2-11: بتن «نيبال». باب قصر الملك «مصنوع من البرونز.»
شكل 2-12: بتن «نيبال». المعبد الحجري الكبير القائم أمام قصر الملك «هذا المعبد هو الذي ترى قسما منه في الصورة التي رقمها 7، فهذا المعبد هو، بالحقيقة، من أكثر مباني الهند بداعة، وقد التقطنا جميع صور هذا الجزء من كتابنا بأنفسنا لتزيين ما نشرناه في مجلة «حول العالم» من أنباء رحلتنا في نيبال.»
وكان للكهنة أهمية كبيرة، وكانوا أعظم ثقافة مما هم عليه في أيامنا، وكانوا يفسرون للمؤمنين نصوص الكتب المقدسة الغامضة مجانا، وكانوا يمارسون في معابدهم الرائعة الطقوس ويقربون القرابين باحتفال عظيم.
وكانت مظاهر الأبهة في بعض المعابد المشهورة بالهند بادية، وكانت أيام الأعياد الدينية تتم رائعة، ولا يزال الحجيج الذين يزورون بنارس وجكن ناتهه ومعابد جنوب الهند الكبيرة يعدون بمئات الألوف في كل سنة، وداخل هذه المعابد، ولا سيما داخل ما هو قائم منها في جنوب الهند، رائع إلى الغاية، وهو يحرك نفوس المؤمنين الذين يأتون من أقاصي البلاد تحريك احترام ووجل؛ ليضرعوا إلى الآلهة المرهوبة.
وأماكن الحج الشهيرة مشتركة، في الغالب، بين الديانتين الكبيرتين: الوشنوية والشيوائية، فيختلط أتباع الديانتين بعضهم ببعض في المواسم، وغير قليل أن يحضر المسلمون هذه المواسم عن تقوى، لا للاستطلاع فقط، فيعظم الجمهور بهم.
ولا مكان للحج في الهند أشهر من جكن ناتهه أو بوري الواقعة على شاطئ أوريسة، ولا مكان في الهند يتجلى فيه الإخاء بين أديان الهند واختلافها كذلك المكان الذي يمثل جميعها فيه، فالهندوسي، مهما كان دينه، ومهما كان بعد البلد الذي يسكنه، ومهما كانت مصاعب الرحلة، لا يألوا جهدا في زيارة جكن ناتهه مرة واحدة في عمره.
ويقاسم وشنو الكئيب المشئوم شيوا عبادة الجمهور الذي يبلغ بتقواه الهائجة درجة الهذيان ويسير الجمهور مركبه أي معبده الدوار، وبلغ بعض متعصبي الجموع من الحماسة في غابر الأزمنة الابتدائية ما كانوا يلقون به أنفسهم تحت عجله فرحين.
وفي الهند أماكن حج كثيرة أقل أهمية من بنارس وجكن ناتهه على العموم، وتعد ضفاف نهر الغنج مقدسة من منبعه إلى مصبه فيأتي المؤمنون إلى زيارتها من أقاصي البلاد، وتعد مياه الغنج مقدسة أيضا فتنقل بين مكان وآخر في الهند بأجر عالية، ولا تخلو قصور بعض الراجوات من مقادير منها للغسل.
ذكرنا في وصفنا لطبيعة بلاد الهند، وذلك حين البحث في أنهارها، أن الهندوس يعدون جميع مجاري المياه مقدسة، ولا نهر في الهند، مع ذلك، يقرب من نهر الغنج تقديسا، وترجع عبادة الينابيع والسحب والرياح الموسمية في الهند إلى أقدم العصور، ومن الطبيعي أن يقوم الهندوس بهذه العبادة في بلد الجفاف حيث يجلب الماء معه الحياة، وحيث يموت سكان كثيرون حين يقل الماء. (6) الجينية
خصصنا في هذا الفصل مطلبا للجينية التي تزعم أنها ديانة مستقلة عن البدهية والبرهمية، وإن كان هذا الزعم لا يقوم على أساس صحيح.
فالحق أن الجينية مشتقة من تينك الديانتين معا، فلها فلسفة البدهية وطقوسها وأساطيرها وإن فصلت عنها منذ القديم فعاشت بعدها بسبب ما تنزلت عنه للبرهمية من الامتيازات.
ونجهل تاريخ الجينية ونشوءها تماما، ونرى، مع ذلك، أنها مثلت دورا مهما في إحدى العصور، ودليلنا على ذلك أن المعابد الجينية التي شيدت في القرن العاشر من الميلاد تعد من أجدر مباني الهند بالذكر، ونجد قبل إقامة هذه المعابد العجيبة آثارا للديانة الجينية في كتابات ميسور التي خطت في القرن الخامس من الميلاد وفي مراسم أشوكا التي ورد فيها ذكر لواحد من مذهبيها الكبيرين، والجينية هذه كانت ديانة الدكن في زمن الحاج الصيني هيوين سانغ.
والجينية قديمة قدم البدهية تقريبا، ويجب عدها فرعا من البدهية إلى أن يقوم دليل على خلاف هذا، ولا شيء يدل على أنها أقدم من البدهية كما يزعم أتباعها.
ويعتقد الجينيون، كالبدهيين، أزلية العالم، وينكرون، مثلهم، كل خالق، ويختلفون عنهم في كيفية النظر إلى النروانا التي هي عندهم جنة حقيقية أو سعادة تحظى بها روح الإنسان، لا فناء.
ويرى الجينيون، كالبدهيين، أن النروانا تبلغ بعد مجاوزة سلسلة من الكينونات تتدرج حلقاتها إلى الكمال حتى تنتهي إلى جينا الذي هو آخرها فيبدو لنا أنه متحد ببدهة ذاتا.
والجينيون، كالبدهيين الذين يقولون بعدة بدهات بجانب شا كيه موني، يرون جيناوات بجانب جينا على أن عددهم بلغ أربعة وعشرين جينا، فهؤلاء «ال 24 جينا» هم آلهة الجينية العليا.
ويرى الجينيون آلهة وإلاهات ثانوية بجانب أولئك الجيناوات الذين بلغوا تلك المرتبة بتكامل متلاحق نابذين أثقال الحياة، وتقول الجينية، من جهة العمل، بتعدد الآلهة كالبرهمية، فكان للجينية مثل نصيب للبدهية من هذه الناحية، فهي مع قيامها نظريا على الإلحاد كالبدهية، وذلك من ناحية التأملات الفلسفية، لم تلبث أن استحوذت عليها آلهة ما ابتلعته من الأديان إلى حين.
ولم تسطع الجينية أن تعيش على وئام مع البرهمية التي هي ديانة الهند القديمة بسبب اعترافها بالآلهة البرهمية فقط، بل لإعلانها أيضا نظام الطوائف الذي دحضته البدهية روحيا إن لم يكن زمنيا، فلم يكن البراهمة ليقاتلوا ديانة تعترف بمقامهم القديم، وتقول بأن من أهم الواجبات احترامهم المطلق.
وطقوس الجينية وأساطيرها نسخة من طقوس البدهية وأساطيرها، فجينا الأعلى مطابق لآدي بدهة الذي تقول به بدهية نيبال، وهنالك موافقة بينه وبين شا كيه موني ولادة وحياة وظهورا وأمرا ونهيا، فهما متحدان ذاتا ومعنى وإن اختلفا اسما.
والاعتراف والنواقيس والحج مما تجده في كلتا الديانتين، وللرهبانية شأن واحد في هاتين الديانتين.
وللجينية، كما للبدهية، كتبها الدينية، وهي، مثل البدهية، ترفض عد الويدا حجة.
ولا تجد ديانة تعتد بالمعابد اعتداد الجينية، ولا تجد ديانة شادت من المعابد الكبيرة الغالية أعظم مما شادته الجينية، فالحق أن معابد كهجورا وجبل آبو الجينية هي عجائب فن البناء في الهند، والحق أنه يخيل إلى الناظر في أروقتها شبه المظلمة اهتزاز قوم من الخلائق الغريبة المنقوشة على الحجر يشعون حياة ويكتنفون أحد الجيناوات البادي هادئا رزينا متربعا في جلوسه على العموم، والحق أنك إذا عدوت الرموز التي تميز الجيناوات الأربعة والعشرين بعضهم من بعض اعتقدت وجود جينا واحد ما مثل أولئك الجيناوات عراة ذوي ملامح واحدة.
ورسمت على صدور الجيناوات وحول أعناقهم خطوط مختلفة، ونقشت في أكفهم وتحت أخامصهم
1
إشارات خاصة على شكل السدر أو الدولاب اللذين هما رمز دهرما البدهي، أي الشريعة والحياة.
وترى للجينية أتباعا كثيرين في الهند، وتبدو الجينية مزدهرة في الكجرات وفي جميع شبه جزيرة كاتهياوار تقريبا. (7) مبادئ جميع أديان الهند العامة
يطبق وصفنا الوجيز لديانات الهند على جميع الدور الذي دام من زمن بعث البرهمية الجديدة إلى أيامنا، ولم تتغير طقوس هذا الدور منذ ألف سنة.
ويجب أن تطبق روح الوحدة، التي لاحت لنا من خلال تلك التموجات والاختلافات، على جميع أدوار الديانات في الهند إذا ما وفقنا لجعل القارئ يلمسها، فليست الويدية والبرهمية والبرهمية الجديدة، بالحقيقة، إلا ديانة واحدة تعد البدهية والجينية فرعين لها.
ترى جميع أديان الهند أن الحياة شر، وأن المادة مظهر حطيط لمبدأ الحياة، وأن الطبيعة سلسلة تطورات دائمة، وأن الآلهة والناس ظواهر باطلة ومظاهر وهمية للأصل الأعلى، أي لبرهما العظيم، وأن هذا الأصل الأعلى هو الله الواحد الذي يهب الحياة لجميع الموجودات وإليه يصعد جميع الأديان، سواء عليك أدعوته بأغني أم دعوته ببرهما أم ببدهة، وأن الأجداد والحيوانات وقوى الطبيعة والجن والغيلان والأبطال الذين يتقمصهم لا يلبثون أن يصبحوا موضوعات عبادة ثم أصناما للجماهير، وأن الروح الخالدة تنتقل من موجود إلى موجود حتى تفنى في الأصل الأعلى، وأن أفعال الإنسان في هذه الدنيا تقرر أحوال كيانه القادم.
ويشعر القارئ بالفروق التي يميز بها بين فروع الديانة الهندوسية الثلاثة الكبرى القديمة والحديثة حينما يتمثل الويدية وقربها من دين الطبيعة الفطري، والبرهمية ومجرداتها وحقدها وشؤمها، والبرهمية الجديدة وتشربها روح المحبة التي أسفر عنها الإصلاح البدهي، وأما الشكليات فقد تغيرت ولا تزال تتغير، فلم ينفك خيال الهندوس الخصيب، الذي زادها كثيرا، عن نشاطه فيعدلها بلا انقطاع.
شكل 2-13: بتن «نيبال». عمود من الخشب المحفور في أحد البيوت. (8) الإسلام في الهند
لدين محمد أتباع كثيرون في الهند، فقد بلغ عددهم فيها خمسين مليونا، أي خمس سكانها، ولا يزال هذا العدد يزيد بمن يعتنقون الإسلام في كل يوم.
ولا شيء أسهل على الهندوسي من انتحال دين جديد مع محافظته على دينه القديم في الغالب، فالهندوسي مستعد بطبيعته لاعتقاد كل شيء، والهندوسي إذا ما رضي بآلهة جديدة لا يتضمن ذلك، على العموم، أنه ترك الآلهة القديمة، وإنما يؤدي ذلك إلى زيادة عدد آلهته، ويعمل الهندوسي تارة بأوامر آلهة وتارة بأوامر آلهة أخرى، وذلك على حسب ما تمليه عليه حرفته أو طراز عيشه أو إحدى المصادفات.
وكلما صعدت في سلم الطبقات الاجتماعية وجدت الفروق واضحة، فترى بين من هم على شيء من الثقافة مسلمين حقيقيين وبراهمة حقيقيين، ولكنك إذا ما هبطت إلى الشعب وجدت اختلاط تينك الديانتين في بعض المرات اختلاطا تاما، فتبصر محمدا والأولياء المسلمين آلهة لها ما لآلهة الهندوس من الصفات، وما أكثر ما تتبادل تانك الديانتان الطقوس جامعة لأتباع مختلف المعتقدات أحيانا.
فانظر إلى بوهرا الكجرات الذين هم من الشيعة المسلمين والذين هم من سلالة قدماء الهندوس، لا من سلالة قدماء المسلمين، تجدهم لا يعملون بتعاليم محمد إلا قليلا، وتشابه طقوسهم بعض الطقوس الهندوسية مشابهة تامة.
وأهل السنة، الذين تتألف منهم أكثرية المسلمين في الهند فيعدون أنفسهم على الإيمان الصحيح، يزدرون الشيعة، وما بين هاتين الفرقتين الإسلاميتين من الاختلاف فأكثر مما بينهما وبين الهندوس، وهذا إلى أنك تشاهد انقسامهما إلى فرق صغيرة كثيرة.
وقول الإسلام بالمساواة من أهم الأسباب في تقدمه السريع، فالحرص والرغبة في رفع النير الثقيل عن الكواهل مما يدع ملايين الناس إلى اعتناق دين النبي طائعين مسرورين.
بيد أن الدين الذي جاء به محمد بسيط عند قوم تعودوا عبادة آلهة كثيرة جدا، فلذلك لم تنجح جميع الجهود التي بذلت لحمل الهندوس على التوحيد، بل أدت إلى إضافة إله جديد على الآلهة التي كانوا يعبدونها، فالحق أن كثيرا من الهندوس المسلمين يؤلهون محمدا، ثم أخذوا يؤلهون صهره عليا، وأن أبناء طبقات المسلمين الدنيا يؤلهون كثيرا من الأولياء، فيخلطونهم بالآلهة البرهمية القديمة.
وخلط بين المعتقدات كهذا الخلط المؤدي إلى أسخف الخرافات وإلى الوثنية، أحيانا، مما أوجب ظهور مصلحين لتطهير العقائد العامة وتحويلها إلى توحيد راق.
ذلك أمر كبير الذي ظهر في القرن الخامس عشر فثار على القرآن والويدا فجد في إقامة ديانة روحية واحدة مقامهما، وذلك أمر نانك مؤسس مذهب السك، وذلك أمر رام موهن راي الذي مارس ديانة مقتبسة من النصرانية والإسلام والبرهمية، وذلك أمر الملك أكبر المرتاب الذي خيل إليه صهر ديانات الشعوب التي كان يملكها.
شكل 2-14: بهات غاؤن «نيبال». ميدان قصر الملك.
نعم، جمع أولئك المصلحون بعض الأنصار حولهم، غير أن نجاحهم كان محدودا على الدوام، وهم لم يوفقوا، في الحقيقة، إلا لزيادة أديان الهند عما كانت عليه من قبل.
وبدا الإسلام كما يزاوله القوم في الهند، متموجا متحولا على حسب الطابع الذي يتجلى في جميع معتقدات الهندوسي الدينية، ولم يوفق الإسلام لنشر المساواة بين جميع الناس في البقاع الهندية التي يهيمن عليها فكانت سبب دخول الناس فيه أفواجا، فالمسلمون في الهند يعرفون نظام الطوائف عمليا إن لم يعرفوه نظريا.
واقتبس الإسلام في الهند من البدهية ومن البرهمية، فمن ذلك أن جميع المسلمين يمارسون عبادة الذخائر العزيزة على البدهيين، فترى عندهم شعرات من لحية النبي كما ترى عند البدهيين شعرات من شا كيه موني، ومن ذلك أن أتباع الديانات الثلاث يقدسون لبعض آثار الأقدام بحسب ما يرونها لقدم برهما أو بدهة أو محمد.
والخلاصة أن الإسلام عانى نفوذ أديان الهند القديمة أكثر من أن يعدلها، وأنه ظل منتشرا في وادي الغنج وفي كجرات على الخصوص، وأن له أتباعا كثيرين في الدكن، وأنه لا يكاد يفرق عن البرهمية عند الدراويد في الدكن.
ولكن المسجد الصامت العاري يفتح في جميع مدن الهند بجانب المعبد المملوء بالأصنام، وكلما تقدمت الحضارة وتنور الناس زاد عدد المسلمين فيسفر عن لين تعصب الطوائف وانتشار المبدأ القائل بإله واحد في ذلك القطر المملوء بالخرافات انحناء النفوس بالتدريج أمام جلال الله وعظمته.
حقا أن فتح الإسلام للهند لما يتم، وهو سائر، صامتا بطيئا، على طريقه، فلم يقف تقدمه سلطان إنجلترا النصرانية. (9) تأثير الدين في الأخلاق عند الهندوس
أشرنا في الفصل الذي درسنا فيه مزاج الهندوس النفسي إلى الهوة بين الديانة والآداب عندهم، وترانا نؤكد هذا الأمر الذي يعسر على الأوربيين إدراكه، فالآداب، أي قواعد السلوك عند الأوربيين اشتقت من الديانة رأسا منذ قرون، وبلغت الآداب من الارتباط في المبادئ الدينية مبلغا لا نكاد نبصر معه انفصالها عنها.
واستقلال الديانة عن الآداب عند الهندوسي تام تقريبا، وقيل عن الهندوسي، بحق، إنه كان أشد الأمم تدينا، وإذا ما نظر إليه من الناحية الأوربية وجد، بحق، أقل الأمم آدابا على ما يحتمل.
أجل، إن نيل الحظوة لدى الآلهة والتودد إليها هما الغاية التي يسعى إليها الهندوسي في أدق أعماله، فلا تغيب هذه الغاية عن عينيه ثانية، ولكن العجب يعتري الباحث إذا علم أن مما قيل له هو أن الآلهة أقل العالم اكتراثا لصدق علائقه بالناس ولنقاء حياته وإخلاصه في القول والعمل، وأن تلك الآلهة القادرة على كل شيء أقل الموجودات غضبا من أجل سرقته لمال جاره أو قتله لولده.
ويصبح الهندوسي عرضة لانتقام الآلهة الشديد إذا ترك الصلاة أو الدعاء أو تلاوة الكتب المقدسة أو لم يحضر الاحتفالات الدينية أو ذبح بقرة أو لم يقم بواجب الطهارة أو لم يغسل يديه قبل الطعام أو لم يغسل فمه بعده.
تلك هي الذنوب التي تثير سخط الآلهة، وإذا نظرت إلى الشعائر الدقيقة الكثيرة التي يقوم بها الهندوسي في أدق شئون حياته وجدتها قد وضعت لتمجيد القوى السماوية ودفع غضبها ونيل بركتها وأن الهندوسي يرى صدورها عن الآلهة، وأنها تشابه وصايا موسى عند النصارى وإن كان ست من هذه الوصايا من الآداب.
وقد كررت الوصية: «أكرم أباك وأمك، لا تقتل، لا تزن، لا تسرق» تكرارا متصلا باسم الله، فيعد بعض الأوربيين عزوها إلى الإنسان كفرا، ولا تطالب الآلهة الهندوس بشيء من ذلك، وهي تطالبهم بالقرابين والحج والتوبة والصلاة والقيام بمئات الشعائر في كل حين، وأما غير هذا فمن الأمور المادية النفعية العملية التي هي من شأن الإنسان وحده، فلا تبالي الآلهة بها أبدا.
وكيف يروق أدب الحياة الآلهة التي هي عنوان قلة الأدب؟ لقد استهزئ بجوبيتر «المشترى» الإغريقي الفاجر، وبمركور «عطارد» اللص وبفينوس «الزهرة» البغي فلم تطالب هذه الآلهة الإغريقية عبادها بالأدب أيضا، فالحق أن الأدب عند الإغريق ظل منفصلا عن الدين أيضا، والحق أن الآلهة عند الهندوس لم تبال بالطهر والعفاف كما أن سكان الأولمبيا الإغريقية «الآلهة اليونانية» لم يبالوا بهما.
وهنالك صنفان من الواجبات يسيطران على حياة الهندوسي وهما: الأوامر الدينية، أي أمور العبادة، والطهارات التي هي من الواجبات الدينية مع أن لها مصدرا آخر، فأما الصنف الأول: فقد نشأ عن ضرورة التودد إلى الآلهة الهائلة القادرة على إثارة الأعاصير وإصابة الناس بضروب الجدب والأوبئة، وأما الصنف الثاني: فمصدره ضرورة التطهر من أناس من الطوائف الدنيا وقع عرضا.
فمن مراعاة ذينك الصنفين الأساسيين «وهما استعطاف الآلهة بالعبادة وتوكيد نقاوة الطائفة» تتألف قواعد الآداب لدى الهندوس تقريبا وما في شرائع منو من القواعد فيرد إلى ذينك الصنفين، وما تراه في الغرب من الواجبات الأدبية فصادر عن الدين مع أنه لا علاقة له بالدين في الهند.
وارجع البصر إلى شرائع منو تجد أن مخالفة أتفه الشعائر يعد لدى الهندوسي جرما عظيما لا يكفر عنه إلا بضروب التعذيب وبالقتل في الغالب، وأنه يمكن السارق والقاتل أن يكفرا عما اقترفا بالتوبة والاستغفار.
وإذا عدوت زناء الأزواج الذي يهدد كيان الأسر والعرق تهديدا عظيما رأيت جميع الذنوب الحسية قليلة الخطر لدى الهندوس، فما يمارسه الهندوس من العبادات الشهوانية يدعهم إلى التحلل دعا، ولا ينقلب الغرام إلى جرم إلا إذا كانت الطائفة الدنيا محله.
ويتوقف جرم القتل على صنف المجني عليه، فإذا كان المجني عليه بقرة أو برهميا كان الجرم عظيما، ويكون الجرم من الصغائر في أية حال أخرى، وترى أنواعا للقتل لا تعد من الآثام كقتل البنات.
وليست آداب الهندوسي ضعيفة فقط، بل إن ما لديه منها خاص بالذين يولدون مرتين، فما على الشودري سوى الخضوع المطلق.
قال الأسقف إيبر: يجب على الشودري أن يجتنب الذنوب الآتية: ذبح بقرة وإساءة برهمي وترك إحدى الشعائر التافهة التي تستعطف بها الآلهة كما يفترض.
وتختلف تلك الآداب الهزيلة بحسب الطوائف، وهي تعد الذنوب من الكبائر أو الصغائر على حسب طبقة الجاني أو المجني عليه، وهي لا تقاس بأهمية الدين الذي يستوعب الروح ويستغرق أدق أعمال الحياة. «فالهندوسي يسير ويجلس ويشرب ويأكل ويعمل وينام دينيا.»
هذا ما قاله الهندوسي، وهو قول واقعي، فالهندوسي لا يسيح ولا يبدأ بالطعام ولا يلقى صديقا ولا ينام من غير أن يعوذ بالآلهة، والهندوسي لا يخيط ثوبا ولا يلبس حليا إلا بوحي ديني، والهندوسي يسكن، لذلك، قطرا يعد أكثر أقطار العالم شعائر وعبادات.
شكل 2-15: كهات مندو «نيبال» معبد من آجر وخشب منقور.
والعنصر الأدبي الوحيد الذي نفذ طبيعة الهندوسي هو روح المحبة البدهية، وتسربت هذه الروح في صميم الشريعة الشديدة التي وضعت إرضاء للآلهة الوهمية القاسية، لا من أجل صلاح الناس، فألانتها وأضافت إلى تعاليمها الجافة الثقيلة مبادئ محبة وكرم، فالحق أن العصر البدهي هو أكثر أعصر الهند أخلاقا، ولا يزال تأثيره الطيب باديا حتى اليوم.
وما تحلى به الهندوسي من الصفات، كالحلم والوفاء للسادة وحب الأسرة وروح التسامح العجيبة، فمن مقتضيات سجيته، لا من مقتضيات آدابه، وأكثر صفاته تلك هي، مع ذلك، منفعلة غير فاعلة، فالهندوسي يعرف كيف يطيع، ولا يبدو حسنا إلا حين خضوعه لسيد، وهو إذا ما ساس ظهر ظالما مستبدا جبارا، ولا تجد في الهندوسي صفة يمكن أن يقال إنها ثمرة أدب ديني أينعت مع القرون، ولم ينشأ الأدب في الهند مع أن للدين سلطانا عظيما فيها على الدوام.
فالهندوسي، إذن، رجل دين، لا رجل أدب، وقد تعود الخضوع والانقياد لما فطر عليه من الأخلاق الهينة التي اقتضاها الاستعباد الطويل وجو بلاده المبطل للنشاط، ولو كان شعور الهندوسي الأدبي رادعه لكان من أقسى شعوب الأرض طرا وأشدها خطرا، ولكنك تجد سر عدم أذيته في سجيته.
هوامش
الفصل الثالث
النظم والطبائع والعادات
(1) القرية والتملك
بدت القرية، منذ أقدم عصور الهند، جماعة سياسية منظمة تامة الوحدة لا يعلوها سوى الدولة.
فالحق أن القرية هي وطن الهندوسي، ففي القرية تتجلى مقتضيات الاجتماع، ففيها يجد الهندوسي الحكومة الأبوية الحامية له، والقاضي الذي يرد عليه حقه، والكاهن الذي يوجه روحه، والطبيب الذي يداوي جسمه، والشاعر الذي يسحر فؤاده، والراقصة التي تفتن عينيه، وأبناء عشيرته الذين يلتفون حوله كأسرة هو ابنها.
وما يبغي الهندوسي من الوطن الكبير المصنوع الذي أريد إنشاؤه له؟ لا ينتظر الهندوسي شيئا من هذا الوطن الكبير فلا يعترف به، وكل ما يعلمه عنه هو أنه يثقل كاهله بالضرائب، ومهما كان أصل الفاتح الذي أسس هذا الوطن الكبير بقوة السلاح، فإن هذا الفاتح، مسلما كان أو نصرانيا أو أهليا، لم يظهر إلا متشددا في جمع الضرائب، فلا يبالي الفلاح بجنس هذا الفاتح ما ألزم بالانقياد له ودفع الأتاوى
1
إليه على الدوام.
حقا أن ثورات نشبت وحروبا اشتعلت ودولا شيدت وممالك انهارت من غير أن يكترث الفلاح الهندوسي لذلك كله، وما كان سادته الذين تولوا أمره بالتتابع ليطالبوه بسوى المال غير متعرضين لعاداته المتأصلة، فظل كما كان منذ ثلاثة آلاف سنة، ولا تزال القرية الهندوسية صورة لما كان عليه المجتمع الآري الفطري، ويمكننا أن نتمثل بها حال جميع المجتمعات في أدوارها الأولى.
ولا يذهب القارئ إلى أن القرية في الهند هي مجموعة منازل فقط، بل تشتمل، أيضا، على الأراضي التي تحيط بها فيملكها سكانها.
وتلك الأراضي مشاعة، ويسبق الشيوع التملك الشخصي في جميع العالم كما هو معلوم، ولكن جميع المجتمعات بينما تتدرج إلى مبدأ التملك الشخصي ترى المجتمع الهندوسي لا يزال وفيا للطراز الآخر، ومن الغريب أن تبصر المجتمع الهندوسي، في كل زمن، يسعى في رد كل ملك شخصي إلى المشاع خلافا لما تسير إليه بقية الأمم.
وإذا حدث أن شخصا استطاع أن ينال الغنى بمواهبه وجدت الجماعة التي ظهر منها أن من الطبيعي أن تطالب بمقاسمته ما اكتسب، فرفعت في الهند قضايا شاملة للنظر حول ذلك، فوجد قضاة الإنجليز عناء كبيرا في الحكم للمدعى عليه الغني بثمرة عمله أحيانا ، وما كانوا ليصلوا إلى نتيجة كهذه إلا حين ثبوت عدم مساعدة الجماعة على نيله الثراء بما حبته به من التربية، وإلا لم يوجد ما يمنع من رد أمواله إلى الجماعة.
وإذا ولد ولد في الهند كان له حق في مال أبويه منذ ولادته، وقد ظن أن هذا يؤدي إلى نظام التملك الفردي، مع أن الأمر غير ذلك، فالقسمة لا تحدث فعلا، فالولد لا يفكر في هذا حين يبلغ سن الرشد فيصبح قادرا على المطالبة بماله، بل يكتفي بنصيبه في الدخل، فمن هنا ترى أن المشاع هو مرد التملك الفردي على الدوام.
وشيوع الأموال مزدوج، فينظر إليه من ناحية الأسرة أو ناحية القرية.
نشأ مشاع القرية عن الأسرة، وما كانت القرية غير أسرة كبيرة، وهذا التعريف صحيح في غير حال، فأهل القرية إذا كانوا أبناء لجد واحد فإنه يتألف من مجموعهم عشيرة حقيقية، ومما يقع أحيانا أن تؤلف العشيرة من ثلاث أسر أو أكثر وأن يكون بابها مفتوحا للغرباء، ومما يحدث في الغالب أن تكون الصلة العائلية وهمية مع الاعتراف بها والاستناد إليها.
شكل 3-1: كهات مندو «نيبال». معبد من حجر «هذا المعبد من مباني نيبال النادرة التي ترى فيها مساحة من المؤثرات الإسلامية كالقباب.»
والأمر مهما يكن فإن الزمرة تنقسم إلى أسر مختلفة ويكون لكل واحد منها منزل وأرض لتزرعها، وما عند الأسرة من منقولات، كالمواشي وآلات الزراعة، إلخ، وما يعود على الأسرة من دخل المشاع فمشترك بين أفراد الأسرة: الأب والأم والأولاد، فهذا هو الشيوع المنزلي.
ومن ناحية أخرى تبصر أراضي القرية خاصة بأهلها فيزرعونها بالاشتراك ويقتسمون ما تنتجه فيما بينهم، فهذا هو الشيوع الاجتماعي.
وإذا تم الحصاد جعل الزرع المحصود أكداسا أكداسا فخصت الدولة بالكدس الكبير، فبهذا ينتهي واجب الهندوسي نحو ما سمي على غير حق وطنه، فيعود غير مدين له بشيء وغير منتظر منه شيئا.
وبعد أن تظفر الدولة بحصة الأسد يكافأ موظفو القرية فيخص عميدها بكدس كبير، ويخص البرهمي بكدس آخر، ويخص كل من الخفير والسقاء والحلاق والخزاف والنجار والحداد والغسال والسكاف والفلكي والطبيب والشاعر والراقصة بكدس أصغر.
تقوم القرية بمعايش أولئك الموظفين وغيرهم، ويزيد عدد هؤلاء بنسبة اتساع القرية وغناها، وينتسب كل واحد منهم، على حسب وظيفته، إلى طائفة خاصة ويجتنب الزواج بغير بنات طائفته والأكل مع آخر من طائفة أخرى، بيد أن حواجز قاسية كهذه لا تؤدي إلى تنافس أو خصام بين أهل القرية، فهؤلاء إذ يعتقدون أنهم من أصل واحد يشعرون بأنهم إخوة، فترى روح المساواة سائدة لهم، ولا يجد من يقومون بالوظائف الخسيسة غضاضة فيما يقومون به ما حظوا برعاية أبناء عشيرتهم.
وبعد أن ينال الموظفون حصصهم من الغلة يقسم ما بقي منها بين جميع الأسر، وليس كبيرا نصيب كل أسرة، فالفلاح الهندوسي مثقل بالضرائب، فهو يكون سعيدا إذا ما نال، بعد الذي يؤدي، ما يكفي أسرته، وما يشتري به بذارا للزرع في العام القادم، وفي البنغال تعد الأسرة سعيدة إذا نالت ما يعدل خمسة دوانق أو ستة دوانق مياومة.
وحيثما يكن أمر المشاع منتظما ينل الفلاح العون من بني قومه وقت الضيق، فلا يقاسي ألم الجماعة إلا إذا كانت عامة.
ويسوس كل قرية عميد منتخب يساعده مجلس كان يؤلف من خمسة أعضاء فأضحى يؤلف من أعضاء أكثر عددا، ويدير شئون كل قرية الموظفون الأولون المذكورون.
وبلغ نظام القرية التقليدي من النفوذ في النفوس ما لم يقدر معه ملك على تبديله، واحترم جميع الفاتحين الذين دوخوا الهند نظام القرية فلم يتعرضوا لاستقلالها، وللفاتحين فوائد في ذلك، فولي الأمر لم يكن ليبالي بغير جباية الخراج المجدي بانتظام، وما كان ليجد خيرا من مجالس القرى المسئولة عن سكانها في مساعدته على هذه الجباية.
وهيهات أن تكون جميع قرى الهند على ذلك النظام، ففي الهند المترامية الأطراف عروق كثيرة مختلفة لا يثبت معها أي نظام، فالواقع أنك تجد في الهند جميع أطوار التملك المعروفة التي تترجح بين شيوع الأموال المطلق وحق الفرد المطلق في التملك.
وإذا كانت طرز جباية الضرائب عنوان أنواع التملك في الهند فإننا نذكر باختصار الطرز الخمسة التي تجبيها الحكومة الإنجليزية بها في مختلف أقسام الهند.
انتحل الإنجليز المبدأ الإسلامي القائل إن رقبة الأراضي لولي الأمر وإن ما يدفعه الرعايا إليه ليس ضريبة عنها، بل دخلا كالذي يؤديه المزارعون إلى مالكيها.
تقسم جميع الأراضي في البنغال بين عدد كبير من الملاك «زميندار» الذين هم نوع من الزراع العامون فيؤاجرونها من الفلاحين على أن يظلوا مسئولين عن الضريبة تجاه الدولة.
والنظام في أودهة مثله في البنغال تقريبا، وذلك مع ملاحظة أن الحكومة في البنغال تتوسط بين الملاك «زميندار» والفلاحين حفظا للفلاحين من كل جور واستبداد، وأن الفلاحين في أودهة يبقون تحت رحمة كبار المالكين.
شكل 3-2: بشبتي «نيبال» منظر المدينة العام.
ونجم دوام هذا الفرق مع الفروق التي نراها في الولايات الأخرى عن سير الحكومة البريطانية على مبدأ «بقاء ما كان على ما كان» فتركت الأمور على ما كانت عليه بعد الانقلابات التي عقبت سقوط الدولة المغولية، أي إنها لم تتصد للملاك «زميندار» الذين كانوا من سعداء الأفاقين فأقطعوا الإقطاعات بسبب الفتن والحروب.
وإنجلترا حين أقرت مبدأ التملك الوراثي فاعترفت لأولئك الملاك بما يتصرفون فيه من الأراضي ظنت أنها تقيم أريستوقراطية زراعية مخلصة لسلطانها حريصة على تحسين ما هو قبضتها، ولكنها رأت ما خيب ظنها، فلم يكن الفلاح عرضة للظلم والبؤس زاهدا عن فلاح الزراعة في مكان مثله في البنغال وأودهة، ففي هاتين المنطقتين يعمل الفلاح من أجل سادة قساة غلاظ صلفاء أخلياء، لا من أجل نفسه.
والحال في البنجاب غير ذلك، ففيها تزدهر مشاعات القرى، وفيها تجبي الحكومة الإنجليزية الخراج من عمدائها رأسا، وفيها يكون الفلاحون طلقاء سعداء أربابا لأراضيهم غيورين عاملين في إنبات حقولهم أقصى ما ينالونه منها.
وفي الولايات الغربية والمتوسطة تجد، تارة، مالكين وارثين يقبضون أجرا من الفلاحين ويدفعون الضريبة إلى الدولة آخذين الفرق لأنفسهم، وتجد، تارة، ملاكا كبارا وملاكا صغارا تفرض الضرائب عليهم رأسا.
ويؤدي كل واحد في الدكن خراجا إلى الدولة بنفسه قابلا للتعديل زيادة ونقصانا بعد انقضاء سنوات في كل مرة.
والدكن، على ما هي عليه من قلة الغنى وضعف الخصب إذا ما قيست بالهندوستان، ذات سكان سعداء أكثر من سواهم على ما يحتمل، أجل، إن الدكن تعرف نظام القرية المستقلة ذات الأراضي المشاعة، ولكن أمرها غيره في البنجاب، فحقولها تقسم بين سكانها في أدوار معينة.
ولكل أسرة مقسمها التام في الأراضي، ويزيد هذا المقسم وينقص تبعا لنشاط العمال وإهمالهم، ويستطيع رب الأسرة أن يبيع أرضه من غير أن يظفر بموافقة الجماعة، فلا ترى مثل هذا في المشاع الحقيقي، ومن شأن التقسيم بين حين وحين أن يساوي بين الثروات، وأن يذكر الفلاحين بأنهم أبناء أسرة واحدة مبدأ على الأقل، وأنهم متضامنون بعضهم مع بعض.
شكل 3-3: بنارس معبد ويشويشور القائم على طراز البناء الحديث بالهند، كما جاء في رسم لبرتسبس. «أقيمت جميع المباني الظاهرة في هذه الصورة والصور الآتية في القرن الماضي وفي النصف الأول من القرن الحاضر.»
وغاية القول أن الوسطاء بين الفلاح والحكومة هم سبب بؤسه في الغالب، لا الغلو في فرض الضرائب وحده، فحيثما يتصل الفلاح بالحكومة رأسا إما بصفته الفردية أم بصفته الشيوعية تجده نشيطا ناجحا راضيا، مع فقره، بما قسم له تقريبا.
وإنه لمنظر يعجب السائح، حقا، ذلك الذي يبدو له حينما يجوب قرى البنجاب أو هضاب الدكن الجافية، ففيها يجد المعابد الكثيرة والأشجار المقدسة والهياكل القائمة على جوانب الطرق شاهدة على تقوى ذلك الشعب الخرافي الساذج، وفيها يبصر دوائر البلدية البسيطة، المؤلفة من سقوف تمسكها أعمدة، تنطق بالحرية في صورة خضوع منذ ثلاثة آلاف سنة، وفيها يشاهد سكانا نافعين هادئين فرحين لابسين ثيابا زاهية مع اختصارها يميدون في الأزقة الضيقة ذوات الحياط الخشبية محدقين بالغريب، مع قليل إزعاج وعدم اعتداء.
شكل 3-4: بنارس. معبد دورغا القائم على طراز البناء الحديث في الهند.
والأمر غير ذلك في ولاية أوريسة المضطهدة الفقيرة، حتى في وادي الغنج الغني حيث ينال القوم من الحقول كنوزا لا تكون لهم. (2) الأسرة، حال المرأة في الهند
نظام الأسرة هو أول ما يجب البحث فيه إذا أريد الاطلاع على المجتمع الهندوسي.
فالأسرة هي مثال القرية والأساس الذي تقوم عليه، وتؤلف الدولة رأسا من تجمع القرى كما رأينا.
والقرية الكاملة هي عشيرة أو أسرة مشتركة.
وفي الأسرة المشتركة لا يملك أحد لنفسه شيئا خاصا، فالمنقولات وغير المنقولات فيها ملك شائع، فلا يستطيع أي فريق منها أن يبيعه من غير موافقة الجميع، ورب الأسرة هو الذي يدير شئون الثروة، ويتمتع فيها بسلطان أدبي مطلق، فإذا مات خلفه ابنه البكر من غير اقتسام للأموال فيطيعه الجميع كسابق إطاعتهم لأبيه، فإذا انقضت بضعة أجيال تحولت الأسرة إلى عشيرة على أن يكون زعيمها أسن واحد في أسن فروعها.
ومن النادر أن يظهر عامل انقسام أو انحلال في الأسرة بعد أن تتسع، هذا ما فصلناه حينما درسنا العشيرة الراجبوتية وذكرنا، عند الكلام في التملك، الحال التي تقسم فيها أموال الأب بين أولاده بعد موته.
وهذا ما هو شائع في الوقت الحاضر تقريبا، ففي المجتمع الهندوسي ميل إلى زيادة شأن الفرد وتقليل شأن الأسرة.
وإنني، بعد تلك الكليات، أدرس في هذا المطلب أمر الأسرة أي الأب والأم والأولاد فأقول:
إن سلطان رب الأسرة في الهند مطلق كما كان في روما، وإذا كان الأب لا يصل بسلطانه إلى ما يمارس به حق الحياة والموت فلما فطر عليه الهندوسي من الحلم، وفي الهند تعد المرأة بعلها قواما ممثلا للآلهة في الأرض، وفي الهند تبلغ المرأة من احترام زوجها ما لا تذكر معه اسمه، والمرأة، إذا كانت حديثة عهد بالزواج استبدلت باسم زوجها لفظا عرضيا، وإذا أصبحت أما كنت زوجها باسم ابنها البكر مضافا إلى كلمة «أبي» فتقول: «أبا فلان»، مثلا.
شكل 3-5: أمرت سر. معبد الذهب القائم على طراز البناء الحديث في الهند ببحيرة الخلود.
وللزوج سلطان مطلق، ومع أن المرأة لا تختاره، ما عدت خطيبته منذ طفولتها، لا تكون الرابطة الزوجية بينهما ثقيلة، فالزوجان الهندوسيان متحابان، وإذا ظهر من الزوج عدم اكتراث لزوجته أمام الجمهور تبعا للتقاليد فإنه يبدو في البيت حليما نحوها على العموم، فيسهل عليها أن تؤثر فيه، وقلما يضربها أو يؤذيها بالقول السيئ.
والمرأة الهندوسية جاهلة جدا، ويرى الهندوس بقاءها جاهلة فرارا من العار والفضيحة؛ لما يجدون في تعلمها من معاني تقليد الرجال سفاهة وظهورها كبنات الهوى أوضاعا، وفي هذا سر ما يلاقيه سادة الهند في الوقت الحاضر من المصاعب في اجتذاب المرأة إلى المدارس.
ويعد الأولاد خاطبين منذ طفولتهم، وتتزوج الفتيات في السنة الثانية عشرة أو الثالثة عشرة من أعمارهن على العموم، ولا كيان للمرأة الهندوسية بلا زواج، فلا تكاد تولد حتى يختار أبواها لها من يكون ولي أمرها، فهي إذا ما ترعرعت فمن أجله، وهو إذا ما كان فظيعا شنيعا فظا غليظا فضلت البقاء ملكه على أن تظل عزباء أو أن تخسره.
وتعد المرأة العزباء، والمرأة الأيم على الخصوص، منبوذتين من المجتمع الهندوسي، ومن الأيامى الفتاة التي تفقد عروسها في أوائل عمرها، وفتق مثل هذا لا يمكن رتقه، فتهبط المرأة المنبوذة إلى ما دون سفلة القوم.
قال السيد ملباري: «موت الزوج الهندوسي قاصم لظهر زوجته، فلا قيام لها بعده، فالمرأة الهندوسية إذا آمت
2
ظلت حادا ما دامت حية، وعادت لا تعامل كإنسان، وعد نظرها مصدرا لكل شؤم، وعدت مدنسة لكل ما تمسه، فهي إذ تغدو بوفاة بعلها محتقرة منبوذة تبدو الحياة لها عبئا ثقيلا، فلا يبقى أمامها سوى سبيل الفسق أو العيش بائسة منزوية، والفتاة الأيم هي التي قصدتها بقولي، وغير حالها حال المرأة التي لها قرة عين بأولادها، فهي لا تكون عرضة لسخافات طائفتها.»
والآن ندرك سر إخلاص المرأة الهندوسية لزوجها بما يورث العجب، فتأصل هذا الإخلاص بتعاقب القرون حتى أصبح غريزة ثابتة فيها، وبهذا نفسر دوام عادة حرق المرأة لنفسها فوق جثة زوجها، إن لم يكن سببها، فكان على المرأة الأيم أن تختار ما ينتظرها من السعادة والفلاح بلحاقها زوجها باسلة أو ما ينتظرها من البؤس والشقاء ببقائها حية فوق أديم الأرض، فلم تتردد في سلوك أشرف النجدين، فكانت، وهي الساذجة الهائجة، تقضي نحبها بين الدموع والحماسة والهتاف والأدعية والتحية والنشائد الداوية.
ولما حظرت الحكومة الإنجليزية تلك العادة قاومت النساء هذا الحظر فداومن على القيام بها طويل زمن محبطات كل مراقبة، والنسوة هن اللائي منعن إلغاء تلك العادة في نيبال على الرغم من الوزير الحازم جنك بهادر.
ومما يوضح هذا التعصب ما رسخ في النفوس الجاهلة الساذجة من المعتقدات منذ قرون وما ينتظر من الحياة البائسة الشائنة، فالإيمان الديني وحده هو الذي يأتي تلك المعجزات، وهو في المرأة الهندوسية ليس بأقل مما في الشهداء الذين اعتقدوا لقاء الله وراء لهب النار.
ومن المتعذر بيان الزمن الذي ظهرت فيه عادة الحرق تلك، ولا نص عليها في شريعة منو وكتب الويدا وإن أخطأ الكهان فرأوا بعد زمن طويل أن لها أثرا في أنشودة مقدسة أساءوا تفسيرها، فتلك العادة أقدم من الميلاد، فقد روى وجودها اليونان، لأول مرة، قبل ظهور المسيح بثلاثمائة سنة.
أجل، إن تلك العادة زالت في أيامنا عن الهند، خلا نيبال، بيد أن من الصعب أن يقال إن للنساء مغنما من وراء ذلك، فحال الأرامل، كما قلنا، يرثى لها، فمن أتيح لهن الزواج مرة ثانية قليلات، وينظر إليهن شزرا في كل مكان، ولا سيما أن المبدأ القائل بأن المرأة قد تكون ملك رجال كثيرين مما نبذه الهندوس منذ قرون.
ونما مبدأ تعدد الزوجات الذي قالت به الشرائع الهندوسية بعد المغازي الإسلامية، وحجبت المرأة منذ هذه المغازي في دوائر حريم الأغنياء على الأقل، وتعودن الخروج مبرقعات.
شكل 3-6: أحمد آباد. معبد هتهي سنغها القائم على طراز البناء الحديث في الهند.
وإن مبدأ تعدد الزوجات، الذي يرجع إليه الأغنياء كعامل بهجة وسرور، لا يمارسه الفقراء إلا كسلا وبخلا، فابن الطبقة الدنيا يقتصر، في الغالب، على زوجة واحدة، فإذا حدث أن كانت له غير زوجة فلكي يحملن على العمل وكسب عيش الأسرة، فاللائي يرضين بذلك لا يكن إلا من الطوائف الدنيا على العموم، فيرين من القدر النسبي أن يسترن حالهن بالزواج.
ومن نتائج تعدد الزوجات أن يسمى الأولاد بأسماء أمهاتهم تمييزا لبعضهم من بعض، وكانت هذه العادة، الشائعة بين الشعوب القائلة بتعدد الأزواج من الذكور أيضا، عامة في الهند القديمة.
ولا تمثل المرأة أي دور، وهي لا تصبح ذات شأن إلا بعد أن تصير أما، فحينئذ تحترم ولو ترملت، فما تناله من احترام أولادها وعطفهم فلا حد له، فإذا ما شابت وهرمت رأت نفسها محاطة بجيل من الأبناء والحفدة لها عليه سلطان لا جدال فيه.
وليذكر، من يرغب في استجلاء الأسرة في الهند، أنها غير مقصورة على أفرادها الحقيقيين، فهي تجمع، في عروة لا انفصام لها، جمع الأجداد وحفدتهم فيفترض بالذهن على الأقل وجودهم في كل عيد ويشرب نخبهم عند كل وليمة، وبينما يكون المدعوون غارقين في الفرح ينهضون ليشعروا بتموج روح قدماء الآريين حولهم راجين حياة طيبة لهؤلاء المجهولين الذين يرون فضلهم عليهم في ولادتهم فكانوا الحلقة الراهنة لسلسلة أفكارهم ومشاعرهم التي نسجت في غضون القرون. (3) نظام الطوائف
نظام الطوائف هو حجر الزاوية لجميع نظم الهند الاجتماعية منذ ألفي سنة، ولهذا النظام من الأهمية العظيمة التي أنكرت، على العموم، في أوروبا وفي مستعمرات الهند التي يملكها أوربيون، ما أرى معه من المفيد دراسة أصوله ونشوئه ونتائجه باختصار، وهذا النظام هو الذي استطاعت بفضله شرذمة من الأوربيين أن تخضع 250 مليونا من البشر لحكمها الشديد إخضاعا يشمل نظر كل باحث ومؤرخ.
شكل 3-7: جهتربور. مقدم قصر الراجه القائم على طراز البناء الحديث في الهند.
يرجع نظام الطوائف في الهند إلى ما قبل ألفي سنة، ومما لا ريب فيه أنه نشأ عن مراعاة سنن الوراثة المقدرة، فلما أوغل الفاتحون البيض، الذين نسميهم بآريي الهند، وجدوا أنفسهم بجانب من قهروهم من التورانيين والسود المتوحشين، وهؤلاء الفاتحون كانوا من شباه الرعاة وشباه الحضريين الخاضعين لزعماء لم يعدل سلطانهم سوى نفوذ الكهان الذين فوض إليهم اجتلاب حماية الآلهة، وقد أسفرت أعمالهم عن انقسامهم إلى ثلاث طوائف بحكم الطبيعة، أي إلى طائفة البراهمة أو الكهان وطائفة الأكشترية أو المحاربين، وطائفة الويشية أو الزراع والصناع، وهذه الطبقة الأخيرة هي من ذرية الغزاة الذين فتحوا الهند قبل الآريين على ما يحتمل فتكلمنا عنهم في فصل سابق.
ومن ثم ترى مشابهة ذلك التقسيم لطوائفنا الثلاث القديمة: الإكليروس والأشراف والطبقة الثالثة، وترى دون تلك الطبقات الثلاث المختارة أهل الهند الأصليين الذين عرفوا بالشودرا فكان يتألف منهم ثلاثة أرباع السكان.
شكل 3-8: كلكتة: الزون القائم على طراز البناء الحديث في الهند. «نختم بهذه الصورة الصور التي خصصناها لمباني الهند، وأما الصور الآتية فهي خاصة بأدوات فنية.»
لم تلبث التجربة أن أثبتت ما قد يسفر عن امتزاج عرق راق بالعروق الدنيا فنهت التعاليم الدينية عنه، فقال مشترع الهندوس القديم الحكيم منو: «لا تلبث كل بقعة ينشأ فيها أناس من عروق متوالدة أن يعمها الخراب وأن يضمحل سكانها.» فهذا نص شديد لا ريب، ولكن من المكابرة إنكار صحته، فلم تعتم الأمم العليا، التي اختلطت بعرق منحط، أن هانت وذلت أو فنت فيه، فما عليك إلا أن تنظر إلى حال الإسبان في أمريكا والبرتغاليين في الهند، مثلا، لتعلم النتائج السيئة التي نجمت عن تلك الامتزاجات، فترى حفدة أفاقي البرتغال الفخر الذي دوخوا قسما من الهند فيما مضى لا يقومون اليوم بغير أعمال الخدم والأجراء فيها، وترى اسم عرقهم لا يدل اليوم فيها على غير معنى الصغار والنذالة.
أدركت شريعة منو التي هي دستور الهند منذ قرون كثيرة، كجميع الشرائع، تلك الحقيقة العرقية التي هي وليدة تجارب طويلة سابقة، فلم تغفل عن ضمان نقاء الدم، ففرضت عقوبات شديدة لمنع كل توالد بين الطبقات العليا، وبين هذه الطبقات وطبقة الشودرا على الخصوص، ولم تر تلك الشريعة وسيلة من وسائل التهديد الشديد إلا اتخذتها لبلوغ ذلك.
غير أن الضرورات الطبيعية لم تنشب أن تم لها، بتعاقب القرون، الفوز على تلك المحظورات المرهوبة ، فللمرأة فتنتها على الدوام، مهما كانت الطائفة التي تنتسب إليها منحطة، فكان ما نقطع به من التوالد على الرغم من شريعة منو، فلا يحتاج الباحث إلى اجتياب الهند في زمن طويل للاطلاع على توالد جميع عروقها فيما بينهم، فعدد بيض الهند الذي يمكنهم أن يدعوا نقاوة دمهم قليل إلى الغاية، فعادت كلمة «الطائفة» غير مرادفة لكلمة «اللون» كما كانت في لغة السنسكرت، فكان ما نرى من عدم وجود سبب لبقاء كلمة «الطائفة» إذا أريدت الدلالة بها على المعنى العرفي.
حقا أن مدلول تقسيمات الطوائف القديمة زال منذ زمن طويل، فحلت محلها تقسمات جديدة غير قائمة على اختلاف العروق، وهذا مع استثناء البراهمة الذين لا يزالون هم وغيرهم أقل السكان توالدا.
وبين الأسباب الحديثة التي أدت إلى تمسك القوم بنظام الطوائف لا يزال ناموس الوراثة نافذ الحكم ممثلا لدور أساسي، فالأهليات، عند الهندوسي، وراثية حتما، فعلى الابن أن يتخذ مهنة أبيه حتما، والهندوس إذا رأوا أن المهن أمور وراثية أسفر ذلك عن ظهور طوائف عندهم بعدد المهن نفسها، فكل مهنة جديدة في الهند تقتضي، بالحقيقة، نشوء طائفة لها، فكان ما ترى من ألوف الطوائف في الهند، وكان ما تعلمه من أن الأوربي الذي يسكن الهند لا يلبث أن يرى كثرة هذه الطوائف عند نظره إلى تنوع الأشخاص الكثيرين الذين يضطر إلى استخدامهم فيها.
شكل 3-9: (1) طبق معدني مكفت بالميناء على الطراز الهندوسي الإسلامي. (2) طبق هندوسي من النحاس الأحمر مكفت بالبرونز والفضة «من مجموعة المؤلف».
وتضاف المناصب السياسية والمعتقدات الدينية المختلفة إلى السبب العرقي الضعيف والسبب المهني القوي، المذكورين، في تكوين الطوائف.
وقد تعد الطوائف التي نشأت عن الوظائف السياسية من فصيلة الطوائف المهنية، ولكن الطوائف التي نشأت عن اختلاف المعتقدات الدينية لا ترتبط في واحد من تلك الأسباب بصلة، وقد تؤدي مطالعة الكتب إلى تقسيم الهند، نظريا، إلى ديانتين كبيرتين أو ثلاث ديانات كبيرة فقط، ولكن عدد دياناتها يبلغ الألوف عمليا، ففي الهند آلهة جديدة تحسب تقمصات لآلهة قديمة فتحيا وتموت كل يوم، فيؤلف عبادها، من فورهم، طائفة جديدة متشددة في أحكامها كبقية الطوائف.
وهنالك سمتان أساسيتان تتميز بهما كل واحدة من الطوائف، ويختلف بهما أفراد كل طائفة عن أفراد الطوائف الأخرى، فالأولى: هي أن أبناء الطائفة الواحدة لا يطاعمون غيرهم، والثانية: أن بعضهم لا يتزوج إلا ببعض.
تانك السمتان متساويتان أهمية، وقد تجدون مئات من براهمة الهند الموظفين في دوائر البريد وفي إدارة الخطوط الحديدية لا يزيد راتب الواحد منهم على خمسة وعشرين فرنكا في كل شهر، وقد تجدون بين البراهمة من هم من السائلين، بيد أن ذلك الموظف أو ذلك السائل يفضل الموت على الجلوس حول مائدة نائب الملك في الهند، وإذا حدث أن كان أقوى راجوات الهند من الطوائف الدنيا «ومن الممكن أن يصبح أحد أبناء الطوائف الدنيا ملكا كراجه غواليار مثلا» فلقي ذلك البرهمي فإنه ينزل عن فيله، في الغالب، ليسلم عليه.
وصفة البرهمي وراثية في الهند كصفة الشريف في أوروبا، وهذه الصفة غير مرادفة لصفة الكاهن كما يظن في الغالب؛ لأن الكهان من البراهمة، فالبرهمي يولد كما يولد الدوك، وكان للقب البرهمي، الذي أضاع كثيرا من قيمته في أيامنا، كبير أهمية فيما مضى، فلم تكن صفة الملك كافية ليأمل بها صاحبها أن يتزوج بفتاة برهمية، ففي رواية شكن تلا التي وضعها كالي داسا حوالي القرن الخامس من الميلاد تجد أن دش ينته ملك هستي نابور لقي شكن تلا فسأل مذعورا هل هي من طائفة البراهمة أو لا؟ لما في انتسابها إلى هذه الطائفة من حظر زواجه بها.
وليس لنظام الطوائف مؤيد قانوني في العهد الإنجليزي، ولكن التقاليد التي رسخت في النفوس لا تحتاج إلى المؤيدات الرسمية، فتقاليد كتلك غدت من الوعي الباطن فعدت جزءا من التراث الذي يولد مع الإنسان فلا يقدر الإنسان على مقاتلته، فالهندوسي يفضل الموت على انتهاك حرمة مبادئ طائفته.
وكان من عوامل ارتباك حكومة الهند، حينما فكرت في إرسال كتائب هندية إلى السودان، أن جهزت كل فرقة بميرة وأجهزة خاصة؛ ليتسنى لأفراد كل طائفة إعداد طعامهم على انفراد ولكيلا يأكل بعضهم مع بعض، وقد كنت آنئذ في الهند فدلتني مطالعة الصحف على درجة ذلك الارتباك لما يؤدي إليه أقل غفلة في ذلك الأمر الأساسي من أسوأ العواقب، فغفلة مثل هذه كانت عاملا في ثورة السباهي التي كادت تدك الإمبراطورية البريطانية الواسعة.
وقد يخسر الهندوسي طائفته لأسباب كثيرة لا فائدة من ذكرها هنا، ومن أشدها أن يقبل طعاما أو ماء من ابن طائفة أخرى.
شكل 3-10: إناء ذخائر بدهي مصنوع من الذهب في القرن الثاني قبل الميلاد «صور الأدوات الفنية المنشورة في هذا القسم من الكتاب مأخوذة من مجموعة المتحف الهندي بلندن ومستعارة من مستر بيرد وود.»
ولا شيء أعظم إيلاما على الهندوسي من فقده لطائفته، فليس حرم البابا للإنسان في القرون الوسطى وحكم القضاء بعقوبة شائنة على أوربي في الوقت الحاضر أشد وطأ من ذلك، ففقد الهندوسي لطائفته يعني فقدا لأبويه وأصدقائه وثروته، فكل واحد يعرض عنه نائيا رافضا كل صلة به، فيدخل إذ ذاك في زمرة المنبوذين الذين يقومون بأخس الأعمال.
ولنبحث الآن في نتائج ذلك النظام المتين الاجتماعية والسياسية فنقول: إن الطائفة هي وحدة الهندوسي الاجتماعية، فلا عالم خارجها في نظره، ويفصل الهندوسي عن غير طائفته هوة أعمق من التي تفصل بين الأوربيين المختلفي الجنسيات، فهؤلاء الأوربيون يستطيعون أن يتناكحوا مع أن أبناء مختلف الطوائف لا يقدرون على ذلك، فينجم عن هذا وجود زمر في القرية الواحدة بعدد طوائفها.
ونظام كذلك مما يتعذر معه اجتماع الكلمة ضد الأجنبي، وقد أدرك الإنجليز هذا جيدا فاتخذوا من التدابير ما يحول دون نشوب أية ثورة عسكرية، وذلك بأن ألفوا كتائبهم من أناس منتسبين إلى طوائف مختلفة مما لم يفعلوه قبل ذلك، فما بين أبناء هذه الطوائف من التنافس يكفي وحده لجعل كل فتنة عامة أمرا مستحيلا.
ونظام الهند الطائفي يفسر لنا ما يستغربه الأوربي من خضوع مائتي مليون من الآدميين لستين ألفا من الأجانب المكروهين غير محتجين، فالحق أن نظام الطوائف هو الذي منع الهندوس من أن تكون لهم منافع مشتركة ومن أن يتحدوا سعيا وراء هدف واحد ومن أن يؤلفوا أمة واحدة، فإذا أضفت إلى اختلاف الطوائف اختلاف العروق القاطنة في تلك الإمبراطورية الواسعة علمت أن ما يجب على كل فاتح أن يصنعه هو أن يتعهد ما بين هذه العروق من المنافسات، وأن يعزل قوى بعضها عن بعض، وما هي المصلحة المشتركة التي تكون بين أناس ذلك مدى اختلافهم؟ وماذا يرون من حرج في سيد يحترم نظمهم الأساسية؟ ألا إن وطن الهندوسي الوحيد هو طائفته، ولا شيء غيرها، فبلده ليس له وحده، فلم يفكر، لذلك، في وحدته، والإنجليز، حين يراعون نظام الطوائف في الهند بدقة، يعلمون أن فيه سر سلطانهم المكين، فلا يصنعون ما يضعضعه كما نصنع في بقايا ممتلكاتنا كبونديجيري مثلا، وتراني في بدء سياحتي في الهند، وذلك حينما كنت غير قادر على النظر إلى الأمور من خلال أفكار الهندوسي، قد فسرت لهندي ذكي من الطبقة الدنيا معنى الجمهورية، وأوضحت له الفوائد التي يجتنيها من العيش في بلد يتساوى فيه جميع الناس ويأمل فيه ابن العامل أن يصل إلى أعلى المناصب، بيد أن هذا الهندي، الذي هو من أتباع شيوا، فكر ثانية فهز رأسه مستخفا مستنتجا من كلامي أن من البؤس والشقاء أن يعيش الإنسان في بلد عاطل من نظام الطوائف ومن النبلاء، فالحق أن مما يصعب على الفرنسي أن يدرك أن نظما يراها طيبة، لملاءمتها احتياجاته، لا تصلح لأمم ذوات احتياجات مخالفة لها، والحق أنه يصعب اقتناع السمك بأن التنفس في الهواء أمر طيب لصلاحه للإنسان.
وفي الهند بلغ سلطان نظام الطوائف الراسخ في النفوس بفعل التقاليد والعادة من القوة ما أذعن معه الفاتحون لحكمه، فقال به المسلمون عملا بعض القول مع مخالفته للشريعة الإسلامية، وانتحله الإنجليز انتحالا لا يتمثله سوى الذين طافوا في الهند، أجل، إنه غير مدون في قوانين الإنجليز، غير أنه يتألف من مجتمعهم في الهند طائفة أشد إحكاما من جميع الطوائف الأخرى، فالإنجليز، كأبناء الطوائف الأخرى، لا يأكلون مع غيرهم ولا يتزوج بعضهم إلا ببعض، ولا يزال الزمان الذي يتزوج فيه الإنجليز ببنات الهند بعيدا، فإذا حدث أن تزوج إنجليزي بهندوسية، وهذا لا يقع إلا نادرا جدا، أخرج من حظيرة طائفته وأغلقت أمامه جميع الأبواب، ويرى الجندي الإنجليزي البسيط أن من الصغار أن يتزوج هندوسية، فمما حدث أن تغديت، ذات يوم، مع ضابط بريطاني ببنارس فسألته: «أتأذنون لأحد جنودكم في الزواج بهندوسية؟» فأجابني قائلا: «لا أقدر على منعه، لا ريب، ما دام القانون لم يحرم ذلك، ولكنني أشك في وجود واحد من جنودي يفكر في مثل ذلك.»
ولا يرجع انفصال الفاتحين الجدد انفصالا تاما عن أولئك المغلوبين إلى أمد طويل، فما كان تناكح الشعبين أمرا نادرا إلى وقت قريب جدا، وقد أسفر هذا التزاوج عن ولادة أناس جامعين لعيوب الهندوس خالين من صفات الإنجليز، فتراهم قوما عاطلين من التقاليد والتاريخ والآداب فبدوا محلا لازدراء كلا الشعبين اللذين خرجوا منهما وسببا لقلق أولياء الأمور في الهند.
وأدرك قدماء الآريين مخاطر مثل ذلك التناكح، فكان ما تعلم من وضعهم لنظام الطوائف، ثم أدرك الإنجليز ذلك، فكان ما تعلم من فصلهم ما بين القوم الغالبين والقوم المغلوبين تبعا لضرورات عرقية وإدراكا لما بين العرقين المتصاقبين من الاختلاف مع عدم تدوين ذلك في قوانينهم، وكان ما تعلم من إقامتهم بين القومين من الهوي العميقة ما يتعذر مجاوزته، فالإنجليز ينشئون في كل مدينة بالهند حيا نائيا لأنفسهم فلا يغادرونه إلى المدينة الأصلية إلا في أحوال شاذة. وتشاهد مثل هذا الفصل بين الأوربيين وأبناء الهند في الخطوط الحديدية أيضا، فتبصر للإنجليز مركبات خاصة، وتبصر لهم في المحطات مطاعم ومقاعد خاصة، نعم، لم يوضع نظام يحرم على الغني من أبناء الهند السفر في مركبة الدرجة الأولى الخاصة بالأوربيين، غير أنه لا يجازف بذلك إلا قليلا، فإذا ما جازف أسيء قبوله فيضطر إلى النزول في أقرب محطة، والضباط هم أشد الإنجليز شراسة من هذه الناحية، فهؤلاء الضباط، وإن كانوا من أعظم من رأيت أنسا وأدبا إذا ما خاطبوا أوربيا، لا يلبثون أن ينقلبوا إلى قساة غلاظ إذا ما كلموا شخصا من أبناء الهند مهما كان مقامه، وعلى ما تراه من حق أبناء الهند، كالإنجليز، في تسنم أعلى المناصب القضائية على الخصوص ، وعلى ما تراه من وصول بعضهم إلى ذلك لا تجد صلاتهم بالإنجليز في غير الأمور الرسمية، وأما أبواب المجتمع الإنجليزي في الهند فموصدة دونهم تماما.
شكل 3-11: إناء من البرونز مكفت بالفضة «حيدر آباد».
ومولدو الأوربيين والهندوس هم أكثر من تدور الخرافة الطائفية حولهم، فمع أنك تجد تجارا أو أغنياء من مولدي البرتغاليين والهندوس يقبلون في رداه باريس بقبول حسن لا يأذن الإنجليزي لأمثالهم في الهند في الجلوس أمامه أو في الأكل على مائدة معه، وذلك خارج كبريات المدن التي هي على شيء من التفرنج.
ولست بالذي يبحث هنا في عدل مثل ذلك النظام أو جوره، فمن الحذر أن يقتصر على عرض الأمور كما ترى، ومن الخطأ أن يؤتى بأحكام سطحية مختلة نظريا في نظم ثبت أمرها مع القرون، فقد كتب لهذه النظم البقاء مع ما اشتعل من الفتن والثورات، وهي من القوة العظيمة ما انتحلها معه شعب من أرقى شعوب العالم تمدنا مع مقته لها في كتبه، ومن أجزل الفوائد التي اتفقت لنا من رحلاتنا أن علمنا أن الأمم لا تختار نظمها، بل تعاني النظم التي فرضتها عليها عوامل العروق والبيئات، فالإنسان إذ ليس له أن يختار نظمه كانت هذه النظم أقوى من عزائمه. (4) الحقوق والعادات
ظلت الهند مظهر الحضارة الفطري من الناحية الحقوقية ومن نواح أخرى كثيرة فلا تزال تعاليم كتبها الدينية التي يفسرها كهنتها ويعدلونها بالتدريج وعاداتها المحلية وحدها مصدر قوانينها، ولم يحاول أحد من قاهريها أن يستبدل بهذه المقومات دستورا جديدا، فلم يتصد أشد هؤلاء ظلما وأكثرهم رأفة للمبادئ التي كان يخضع لها رعاياهم من الهندوس، ولم يفكروا في غير أمر واحد وهو جباية الضرائب.
وإن أقصى ما يؤدي إلى المركزية فتسير إليه مجتمعات الغرب في الوقت الحاضر هو أن يضع مشترع قانونا واحدا يخضع لأحكامه أبناء بلد واحد فلا تراعى فيه أمور الطبقات ولا الثروات ولا الجهات.
شكل 3-12: إبريق مخرم مموه بالذهب «كشمير».
وضع الدولة قوانين واحدة للجميع هو مبدأ حديث جدا، فهو، إذا ما أمكن إرجاعه إلى الدولة الرومانية نظريا، لم يبد في حقل العمل إلا حديثا، وقد اشتعلت الثورة الفرنسية من أجل ذلك المبدأ من بعض الوجوه، ونحن إذا كنا نرى ازدهاره في فرنسا، معتقدين أن أمر الاشتراع من شأن الدولة، يجب أن تقف عند هذا الحد ما أبصرنا عدم انتحال ذلك المبدأ في كل مكان.
فلا تزال العادات المحلية محكمة في إنجلترا وألمانيا وروسيا، ونحن نشاهد زيادة قوة العادات كلما ابتعدنا عن مراكز الحضارة الأساسية.
والعادات، إذ كانت تستند إلى طرز المعايش الخاصة والمعتقدات القديمة المتأصلة واختلاف الجماعات البشرية الكثيرة فتنشأ ببطؤ، لا يمكن تقويضها في يوم واحد بمرسوم أو بأمر يصدر عن مجلس نواب، وضل من قال غير هذا من الفاتحين والمصلحين، فلم تلبث نظمهم التي وضعوها أن انهارت عند أول صدمة.
بيد أن هذا العمى مرض نفسي حديث في الحقيقة، فلم يكن أقوى المتغلبين في غابر القرون ليصابوا به، فإذا كانت المركزية المطلقة وهما خطرا على الدول الضيقة التي لا تجد فيها سوى طرز معايش واحدة ولا تبصر فيها سوى عرق متجانس تقريبا فكيف يكون أمرها في الدول الواسعة كدولة الرومان أو دولة المغول؟ وكيف يكون أمرها في بلد كالهند حيث ترى كثير العروق والأديان والأجواء، وما إلى ذلك من المؤثرات المختلفة المتجاورة.
والإنجليز الفاتحون، وهم أشبه أمم الوقت الحاضر بالرومان، قد انتحلوا في الشرق سياسة قائمة على احترام العادات المحلية القديمة فسيضطرون إلى الرجوع إليها في قسم مهم من إمبراطوريتهم في الغرب على ما يحتمل، والإنجليز هؤلاء قد أدركوا أن ما وطدته القرون لا يتحول إلا مع القرون، وأن الفوضى والخراب مما يعم بلادا تكون محل نزوات الخياليين والمشترعين فكان أمر الإنجليز في ذلك، من حيث النتيجة، كأمر قدماء الملوك الذين كانوا يدركون بغريزتهم ذلك من غير دليل لا ريب.
وسار الإنجليز على نهج ملوك المغول المستبدين فلا يطالبون بسوى دفع الضرائب بانتظام، فإذا عدوت النظام المالي وجدت الإنجليز قد تركوا للهند شرائعها، وإن شئت فقل عاداتها الدينية على حسب تفسير البراهمة، فلا ترى للمحاكم الأوربية فيها عملا غير تنفيذ هذه الشرائع.
ولا معدل عن الاعتراف بأن ذلك التنفيذ غير سهل على قضاة الإنجليز، فالشرائع الهندوسية معقدة تعقيد المذاهب الدينية التي تشتق منها، فهي تختلف بين ولاية وولاية، وبين قرية وقرية، فالحق أن الهند ظلت مواظبة على النظام الرعائي، فتجد مجلسا منتخبا يمارس السلطة الاشتراعية في كل بلدية صغيرة، فتبصر من خلال هذا مهد الندوات المترجحة بين مجلس الشيوخ الروماني وبرلماناتنا مما تراه في جميع المجتمعات ذات الأصل الآري.
ولكن برلماناتنا تسن القوانين، ولا يصنع ذلك المجلس المنتخب غير احترام النظم التي نضجت نضجا بطيئا بفعل الدين والعادة، ونرى نظام الهند في دوره الأول، أي كما وضعه آباء الأسرة الويدية حينما كانوا يجتمعون لحفظ الأمن ونفع القرية، وسار ذلك النظام منذ ذلك الزمن، ومن السهل تعيين مراحله في غضون التاريخ، ما دام ذلك المجلس الآري المنتخب لا يضع قانونا في القرن الواحد مع أن مجلس النواب يسن عدة قوانين في يوم واحد في الغالب.
ولا نفصل العقوبات التي تفرض على مقترفي الجنايات والجنح، وإنما نقول إن الحكومة الإنجليزية تجازي القاتل بالقتل والسارق بالسجن مع صرامة، وعندما يكون الجرم عظيما يضطر القضاة إلى مجاوزة الرأي العام الذي هو أقل منهم شدة في الغالب، ومما رأيناه حينما بحثنا في آداب الهندوسي أن بعض الصغائر عنده تكون، أحيانا، أجدر باللوم من الاحتيال أو الغصب، ومن العقوبات التي نعدها شائنة ما لا يشين في الهند، فإذا خرج الرجل من السجن لم ينظر إليه شزرا، بل يعده أبناء وطنه ضحية إذا كان الأجنبي الغالب هو الذي حكم بسجنه رأسا.
وإذا استثنينا العقوبات الشديدة التي يقتضي الأمن العام فرضها وجدنا للعادات في الهند شأنا كالذي كان لها منذ عدة قرون، وأهم هذه العادات ما هو خاص بالمواريث وبالتملك، والمواريث والتملك أشد الأمور تعقيدا واختلافا بين ولاية وولاية، وسنذكر من العادات الشاملة ما يتعلق بالمواريث.
لا يعرف الهندوسي الإيصاء، فليس للهندوسي بعد موته أي سلطان على الأحياء ، فمما ذكرناه أن التملك في الهند لا يكون فرديا إلا نادرا، وأن الأملاك تكون للقرية فيها إن لم تكن للأسرة، فإذا كان الهندوسي عاجزا عن التصرف في أثناء حياته بما يملك كما يريد فكيف يتصرف فيه بعد وفاته؟
ليس الأب إلا مديرا لأموال أولاده في الحقيقة، فإذا مات بقي ما كان على ما كان، فإذا أراد الأولاد القسمة أخذ كل واحد منهم حصته ليؤسس أسرة، وإلا ظل الابن الأكبر مديرا للأموال قائما مقام أبيه المتوفى.
والأولاد الذكور هم الذين يقتسمون تلك الأموال، وأما المرأة في الهند فلا تملك غير هبات الأبوين والأصدقاء حين الزواج، وليس للزوج حق فيما ملكته الزوجة، ولا يستطيع أن يبيعه من أحد إلا برضاها.
وإذا مات الرجل غير ذي أولاد من الذكور ورثته زوجته ما دامت في قيد الحياة فقط.
شكل 3-13: صندوق مزين بالميناء «راجبوتانا».
ولا طائل في تفصيل شبكة الاشتراع الهندوسي المعقدة المتحولة، والاشتراع الهندوسي إذا قام على العادة وحدها كانت الشريعة الهندوسية سبب ارتباك للقضاة الذين يقومون بتنفيذها، ويزيد هذا الارتباك عندما يكون الخصوم من ولايات ذات عادات مختلفة، وقد نشأ عن وسائل النقل السريعة زوال الحواجز بين هذه الولايات، فيجمل بولاة الأمور أن يفكروا في وضع قانون واحد شامل لجميع المسائل التي تقتضيها المصلحة العامة، وهذا ما يشغل بال الإدارة الإنجليزية في الهند في الوقت الحاضر كما علمنا. (5) الزراعة
أثبتنا في فصل «البيئات» أن الهند بلد زراعي قبل كل شيء، وأن عطلها من الوقود، على الخصوص، يحول دون تحولها إلى بلد صناعي.
إذن، تتألف أكثرية الهندوس من الزراع، أي من الفقراء الذين يعيش الواحد منهم مياومة ببضعة دوانق يختطفها من بيت المال أو المرابين الذين هم أشد ظلما من بيت المال فلا يجدون وسيلة للاغتناء أفضل من أكل الربا.
ومما زاد الفقر في الهند زيادة سكانها بسبب عدم وقوع الهندوسي في بؤس مطبق، فأضحى أهالي الهند في أقل من قرن ضعفي ما كانوا عليه، وشعب يزيد أفراده كهؤلاء من غير أن يكون مالكا لأراض واسعة يزرعها، كما يملك أهل الولايات المتحدة الأمريكية، لا يغتني أبدا، فإذا ما نال ثراء في أحوال شاذة فلأجل محدود، فلذلك نقول إن سكان الهند، على الخصوص، يزيدون بسرعة على وسائل معايشهم.
ومن حسن حظ الهندوسي أن كان من قلة الاحتياجات ما يبدو به أقل بؤسا من ابن الطبقة الاوربية المماثلة لطبقته، فلم أسمع أن هندوسيا أميا يتوجع من سوء طالعه، فلو كان عنده ربع ما عند الأوربي من الاحتياجات لتعذر عيشه، فإذا ما قيض للإنجليز أن يجعلوا فيه مثل هذه الاحتياجات بفعل ما يتلقنه من أصول تربيتهم رأى الحياة أمرا لا يطاق كما يراها الأوربي الذي يحدد دخله اليومي بثلاثين دانقا أو أربعين دانقا مثلا.
حقا أن الهندوسي، الذي هو أخلى الناس هما، إذا ما كان له كوخ من موص
3
يأوي إليه ونال قطعتي نسيج ليلف إحداهما حول رأسه ويلف الأخرى حول كليتيه ونال حفنة أرز في كل يوم غدا مطمئنا غير حاسد أحدا.
ولا يألم الهندوسي إلا عند المجاعة، ولا يلبث أن يموت جوعا عند ارتفاع أثمان الحبوب، وتسيطر غفلته الطبيعية على حاله، فهو يصرف ما يكسبه يوما فيوما فلا يقتصد ما يمكنه وقت اليسر، فينفق ما يزيد على احتياجه في ابتياع الأسورة والقلائد وفي إقامة الولائم.
ذلك حال الهندوسي في كل زمن وفي عهد جميع الفاتحين، ومن عدم الإنصاف عذل سادة الهند على حال الهندوسي مهما كان العرق الذي ينتسبون إليه، فالسنن الطبيعية، التي قضت على الهندوس بأن يزيدوا نفوسا بسرعة لا مثيل لها في العالم، وبأن يزرعوا في سبيل الآخرين أرضا لا نظير لخصبها فيموتوا فوقها جوعا في الغالب، مما لا راد لحكمه، فهي أقوى من سلطان المتغلبين أنفسهم ولا ينفع لومها.
شكل 3-14: إناء من البرونز مكفت بالنحاس «تجانور».
ويقتصر شأن الغالبين على تخفيف شدة تلك السنن المقدرة على المغلوبين إذا كانوا من الكرماء المنورين، والحكومة البريطانية بدت خيرا من غيرها في هذا الأمر، فالحق أن الهندوس أنعم حالا وأهدأ بالا في العهد الإنجليزي مما كانوا عليه في أي زمن. (6) العامل الهندوسي
يمثل العامل الهندوسي، بفضل نظام القرى القديم والطوائف المهنية، دورا غير الذي يمثله العامل الأوربي في الغرب، فللعامل الهندوسي، سواء أكان في قريته أم في طائفته المهنية، مكانه الذي ورثه أبا عن جد منذ قرون، ويجهل العامل الهندوسي ما عرفته شعوب الغرب من تنازع البقاء ومن العمل القاسي في المصانع ومن البطالة وما إلى ذلك من ضروب البؤس التي تجدها في حضارتنا، وليس العامل الهندوسي بدويا كالعامل الأوربي الذي لا تبصر له وطنا ولا أسرة فيبدو عدوا هائلا للمجتمع الذي يعمل فيه، فالحق أن العامل الهندوسي لا يكسب مياومة أكثر من اثني عشر دانقا إلا نادرا، ولكنه إذ كان عاطلا من احتياجات الأمم المتمدنة المصنوعة فإنه يكتفي بهذا المبلغ الزهيد، والحق أن أجرة العامل الأوربي تزيد على أجرة العامل الهندوسي عشر مرات، ولكن احتياجات ذلك إذ كانت أكثر من احتياجات هذا بدرجات فإنه يبدو بائسا في الغالب.
ولا يتم تخرج العامل الهندوسي في المصنع أو المدرسة أو الكتب، فالمهن في الهند أمر وراثي، فهي تنتقل من الأب إلى الابن منذ أقدم الأزمنة، وفي القرية التي هي عنصر المجتمع الهندوسي الأساسي يصنع كل ما هو ضروري وكمالي، ولا تجد قرية عاطلة من خزاف أو نحاس أو صائغ انتقلت إليه مهنته من أجداده منذ زمن منو.
وتتألف طائفة من عمال كل مهنة في المدن الكبيرة، ويتألف من كل مهنة عالم صغير له عريف وراثي، كمهنة ناقشي العاج وصانعي الأسلحة والعطارين والدهانين والزجاجين والخزافين، إلخ.
ويقضي السائح، الذي يجوب مدن الهند وقراها فيزور أكواخ العمال، العجب من حذق هؤلاء العمال ومن قلة عدد الآلات التي يستعملونها في إنجاز أي عمل، فيقطع السائح بأن عمال الأوربيين الذين يفوقون عمال الهندوس قليلون إلى الغاية وبأنهم يعجزون، مع ذلك، عن إنتاج مصنوعات متقنة بمثل تلك الآلات، فحذق كذلك هو نتيجة استعداد وراثي لا يغني عنه أي تخرج، نعم، قد يصنع العامل الأوربي أدوات أفضل مما يصنعه الهندوسي مستعينا بآلات ميكانيكية، ولكن من فرط التساهل أن نساوي العامل الأوربي بالعامل الهندوسي، والعامل الأوربي هو من حط الاختصاص قيمته الذهنية على عكس العامل الهندوسي. (7) حياة الهندوس العامة والخاصة
تكلمنا في الفصل الذي خصصناه للبحث في العروق عن طبائع سكان الهند وعاداتهم المختلفة، فنقتصر في هذا المطلب على قول بضع كلمات عما يشترك فيه أكثر الهندوس من الطبائع والعادات.
تجد كبير أبهة وروعة وعظمة في مظاهر حياة الهندوس العامة كاستقبالاتهم وأعيادهم الدينية وعرض جنودهم ومواكبهم فتألف منها موضوع ألف قصة عجيبة لخيالاتنا الغربية، وأما حياتهم الخاصة فبسيطة إلى الغاية.
شكل 3-15: إبريق شاي يظن أنه صنع في نيبال.
وما لدى الغني من الطعام والمأوى والعادات لا يختلف كثيرا عما لدى الفقير، فيتألف طعام كليهما من الخضر والزيت أو السمن ومن التوابل والماء الخالص، وكلاهما يأكل بأصابعه جالسا القرفصاء على الأرض، وما بينهما من الفرق فيتجلى فقط في نوع البسط والفراش والنسج، وتتألف أوانيهما من أطباق مصنوعة من ورق الموز، وتجد عند الطبقات الدنيا من الأواني الخزفية أو المعدنية ما لا تجده عند الطبقات العليا، وسبب ذلك أن ابن الطبقة العليا يخشى أن تكون هذه الأواني مما استعمله شودري أو منبوذ، فلا يرى، للخروج من هذا الاحتمال، غير استعمال الأواني المصنوعة من ورق الأشجار فتتلف بعد استعمالها حالا، وهذا ما لا يخشاه ابن الطبقة الدنيا فيكتفي بغسل أوعيته تلك غسلا حسنا.
وليس في بيت التاجر الغني ما يميزه من كوخ الفقير من الأثاث، فكلا المنزلين عاطل منه، وما فيهما من ظرف فمقصور على زينة الجدر المنقوشة المرصعة أحيانا، وغنى الستائر الحريرية والزرابي المبسوطة على الأرض والوسائد التي يجلس عليها أو يستند إليها.
وأظهر ما تبدو نعمة الغني من أهل الهند في المنازل الواسعة العالية وما يحيط بها من الحدائق ، وفي خرير المياه الجارية إلى الحياض، وفي الثياب الفاخرة والحلي الثقيلة الثمينة، والزهد في الطعام أمر شامل لأهل الهند، وما يمارسه أهل الهند كل يوم من الطقوس الدينية يجعل حياتهم واحدة مهما كانت الطبقات الاجتماعية التي ينتسبون إليها، وتقوم هذه الطقوس، على الخصوص، على الغسل والصلوات صباحا وظهرا ومساء، ولا سيما قبيل الأكل أو بعده حالا.
شكل 3-16: إناء من فضة مموه بالميناء «العصر المغولي.»
والهندوسي لا يبدأ بعمل ولا يدنو من صديق ولا يفكر في نوم من غير أن يعوذ بالآلهة، وهو، لكيلا يغفل عن واحد أدعيته الكثيرة، يستعين بسبحة كالمسلمين والكاثوليك، وهو يكتفي، في الغالب، بذكر أسماء آلهته المختلفة.
ووصف حياة الهندوسي العامة أسهل من وصف دقائق حياته الخاصة، وعلة هذا ما فطر عليه من الغيرة المانعة من اطلاع الأجنبي على سرائر بيته، والهندوسي، مع ذلك، مضياف ذو أدب جم.
ونساء الهندوسي تظل بعيدات من أنظار الزائرين، ومن الإهانة لرب المنزل أن يسأل عنهن.
وإذا ما تزاور الهندوس بدوا أبسط ألفة مع مراعاة أشد قواعد الحشمة، وتعد مقامات الناس، ولا سيما مكان كل واحد منهم في ردهة الاستقبال، من أعظم ما يلاحظه الهندوس، فإذا ما حضر راجه أو أمير من البيت المالك جلس تحت مظلة منصوبة في صدر الردهة المقابل للباب، ويصطف الآخرون على طول الردهة على أن يكون أقلهم منزلة بالقرب من الباب، ويجلس الجميع على بسط أو على وسائد.
ومن يستقبل الزائرين هو الذي يشير عليهم بالانصراف، وذلك بإتيانه قولا أو عملا مصطلحا عليه كأن يسأل مثلا: هل يحظى بزيارتهم مرة أخرى؟ أو كأن يعرض عيهم تنبلا
4
أو جلابا.
5
شكل 3-17: شمعدان من البرونز «مدورا».
ويلبس هندوس الشمال ثيابا بحسب الزي الإسلامي على العموم، ويحافظ هندوس الوسط والجنوب على الزي التقليدي المؤلف من قطعة نسيج تلف حول الكليتين وقطعة نسيج أخرى تلف حول الرأس، وتلبس المرأة نسيجا فضفاضا «ساري» يحيط بساقيها، ويرد أحيانا إلى ما فوق رأسها فيستر وجهها، وتلبس المرأة أيضا صدرة قصيرة لا تستر خصرها، ولا يلبس الهندوس أحذية، بل يلبسون بوابيج معقوفة الطرف حينما يكونون خارج بيوتهم فيخعلونها في العتبات، فالهندوس حفاة في منازلهم.
ومنظر قرى الهندوس حسن رائع، ويؤلف أكثر بيوتهم من طبقة واحدة، وتصنع جدر هذه المنازل من سيقان الخيزران كما في البنغال، ومن الطين مع سقوف من القرميد كما في الهندوستان، أو سقوف من الصلصال المرصوف كما في الدكن، وتكاد تجد معبدا صغيرا في كل خطوة، وتقوم في وسط القرية دائرة البلدية المصنوعة في الغالب من سقف قائم على أعمدة ومن ميدان ذي شجر ظليل، ويرى في القرية حي منفصل خاص بالمنبوذين، ويجتنب الهندوس لمسهم بدقة من غير إيذاء، ويقرب حال المنبوذين هؤلاء من حال السائلين في أوروبا.
والطرق في كبريات مدن الهند ضيقة ومزدحمة، ويسير فيها جمهور أنمر
6
على الدوام، ويجوبها الأغنياء في هوادج يتبعها حملة متناوبون وتوضع السلع على مصاطب الحوانيت فيدفع المشترون الثمن من غير أن يدخلوا هذه الحوانيت المفتحة الأبواب، وتبدو سوق التجار أكثر أماكن المدينة حركة، وتغص المعابد بالجمهور أيضا، مثلما تغص أطراف حياض الغسل.
ولكل معبد حوض مقدس يغطس الرجال والنساء والأولاد في مائه القذر في الغالب.
وماء نهر الغنج نفسه هو الماء المقدس في المدن القائمة على ضفافه، وينزل إلى هذا النهر من درج عالية على الدوام؛ لما يطرأ على مستواه من التحول، وتغص تلك الضفاف بالحجيج في الأعياد الدينية، وتبدو رائعة في الليل بساحر الأنوار، ولا شيء أجمل من نهر الغنج الجليل حين تنعكس عليه أنوار النيران التي توقد على أرصفة القصور والمراقي القائمة على ضفافه، ويسطع بعض هذه الأنوار فوق الصواري
7
فيخيل إلى الناظر أنها تناطح الكواكب.
وزينة كتلك مما يروق الهندوس، ومما يزيد أعياد الهندوس روعة ازدحام الجماهير التي تجتمع فيها، وضروب الأبهة التي تتجلى فيها، أجل، إنك تشاهد أعيادا لكل مدينة ولكل طائفة ولكل مذهب، بيد أن هنالك أعيادا كبيرة عامة تلتقي فيها جميع الأديان.
وللحج والأسواق فضل جمع مختلف الشعوب في صعيد واحد، والتجار يتبعون الحجاج فيزيدونهم عددا، ولا تفتح سوق قبل البدء بتمجيد الآلهة.
وأولاد الهندوس، وهم من الأذكياء الحسان على العموم، يترعرعون طلقاء، فيلعب أبناء الفقراء ويرتعون في الطرق والحقول عراة، ويتخرج أبناء الأغنياء على البراهمة المرتبطين في بيوت والديهم كمؤدبين، وقليل من هؤلاء الأبناء من يذهبون إلى المدارس مع ما تبذله الحكومة الإنجليزية من الجهود، فإذا ما بلغ الواحد منهم السنة العاشرة أو السنة الثانية عشرة من عمره تزوج.
والنساء يعشن مقيدات كما ذكرنا، فإذا خرجن مع زوجهن ابتعدن عنه بضع خطوات، وإذا سافرن معه في القطار تبوأن مقاعد في مركبة الدرجة الثالثة مع أنه يتبوأ مقعدا في مركبة الدرجة الثانية في الغالب، وهن لا يأكلن إلا بعده، ويخدمنه في أثناء طعامه.
ويحرق براهمة الهندوس موتاهم إذا زادت أعمارهم على سبع سنوات، وإلا دفنوهم على العموم.
ويكون الموقد حفرة قليلة العمق، فإذا كان الميت غنيا ملئت هذه الحفرة بحطيبات من خشب الصندل وزبل البقر المجفف الذي يعد وقودا مقدسا في الهند، ثم تستر الجثة وجميع الموقد بطبقة رقيقة من الطين الرطب ويحرق الوقيد قبل إغلاق جميع الموقد، فإذا ما تم الحرق في خمس ساعات أو ست ساعات وحل الغد جمع الأقارب عظام الميت المحروقة ورموها في بحر أو نهر.
والهندوس مفرطون في إظهار سرائهم وفي إظهار ضرائهم، وهم ذوو جذل بطبيعتهم، وهم محبون للاحتفالات والألعاب والملاذ العامة، وهم، مع زهدهم عادة، يقيمون أفخر الولائم في بعض الأحوال، والزواج أهم عيد عند الأسرة الهندوسية، ففي سبيل الزواج لا يعرف الهندوس للإنفاق حدودا، فيخرب فقراؤهم بيوتهم بأيديهم في حفلات الزواج فيثقلون كواهلهم بالديون من أجل دعوة جيرانهم إلى الولائم التقليدية.
وإذا سألت عن أمر الأغنياء في الهند علمت أن أفراحهم تقرن برقص الراقصات وبالصيد على ظهور الفيول، ومن أروع المناظر لدى الهواة والمتفننين مواكب أمراء الهند للصيد حيث يرون فيولهم ذات الرخوت
8
الزاهية وجيادهم ذات السروج الرائعة وكتائب خدمهم ذوي الثياب الساطعة.
وتعد الراقصات ركنا في جميع احتفالات الهندوس الدينية والمدنية، وليست الفتيات الفقيرات، المتوسطات الظرف الرديئات الثياب الراقصات في بيوت الأغنياء أو في رداه الفنادق أمام الأجانب طمعا في أجر زهيد، باللائي يتمثل الأوربي بهن تلك الفاتنات المدثرات بالشفوف الرقيقة واللابسات حليا ساطعة واللائي يقمن بالتمثيل الصامت المتموج الحافل بالأسرار في المعبد بجنوب الهند واللائي يكون رقصهن أمام الآلهة أهم عمل يقمن به.
شكل 3-18: إناء معدني مموه بالميناء «البنجاب».
وأمراء الهندوس مكرمون للضيوف، ولا سيما إذا كان الضيف موصى به، ولا أراني خاتما لهذا البحث الخاطف قبل أن أورد ما لاقيته في بلاط بهوبال مثالا على ذلك:
تملك مملكة بهوبال الصغيرة في الوقت الحاضر ملكة، فلما علمت هذه الملكة بقدومي أرسلت إلي عربة من بلاطها فبلغت بها أحد قصورها حيث استقبلني خدم كثيرون حاملون سلالا مملوءة فواكه وأزهارا، وكان على رأس الجميع وزير ليبلغني أطيب تمنيات الملكة.
فما كدت أدخل القصر حتى دنا مني ضابط القصر قائلا: «ترحب الملكة بك أيها السري الأجنبي راجية أن تعرب عما ترغب فيه.»
فأبديت رغبتي في تناول العشاء، فبدت إشارة فرفع حجاب فرأيت في الردهة المجاورة مائدة منسقة على الطريقة الأوربية مشتملة على شماعد وآنية من بلور وفضة يحيط بها خدم لابسون ثيابا مختلفة الألوان واقفون صامتون كتماثيل من برونز مزملة بحرير.
ولم أكد أجلس حتى سمعت صوت جرس في الخارج فقيل لي إن هذا كان لأن الملكة لم تر أن تنام قبل أن أسأل عما أرغب فيه مرة أخرى.
فسألت أن يرافقني حرس إلى سانجي في الغد، فلما حل الصباح وجدت الفيول والفرسان ينتظرونني أمام الباب، ولما وصلت إلى سانجي وجدت خيمة معدة لي مشتملة على سرر مغطاة بنسج من حرير وعلى دقائق القرى الشرقي.
شكل 3-19: إناء خزفي مطلي «سندها».
وتم لي مثل ذلك الاستقبال الرائع من قبل الوصي على عرش جهتربور الذي أمر بأن ينصب لي في البرية بكهجورا خيمة حاوية جميع وسائل الراحة الأوربية، فلما رجعت من ذلك البلد القديم المهجور في الوقت الحاضر حضر لتحيتي ذلك الوصي على العرش محاطا بوزراء البلاط وأمرائه بعيدا بضعة أميال من عاصمته .
حقا أن ذلك القرى ينقلب إلى زعج الأجنبي إذا أمر الراجوات بضرب المدافع إيذانا بوصول أجنبي إلى عواصمهم، ولكن الخطب يهون على السائح إذا أراد الوقوف على الأبهة الآسيوية وعلى المواكب السائرة والجماعات ذوات الثياب الزاهرة، فالسائح الذي يكرم بمثل ذلك يظل شاكرا لمن احتفى به فيذكر له ذلك.
وليست تلك المناظر الزاهية متعة للعيون والخيالات فقط، فالناقد والمؤرخ يجدان فيها، أيضا، مثل ما يجده المتفنن.
والسائح إذا دخل حيدر آباد على ظهر فيل فشاهد حوله حرس نظام ذي الأوضاع الرائعة أبصر صورة صادقة عن عاصمة كبيرة في أيام سلطان الإسلام.
وحيدر آباد، عاصمة ممالك نظام، هي المدينة الهندية التي حافظت على مظهر القرون الخالية وعظمة بلاطات الشرق القديمة، وقد تقاس بمدن العهد الإقطاعي في أوروبا وإن لم يكن للشرق عهد بالإقطاع الحقيقي، فالباحث حينما يرى أمراء نظام أصحاب جيوش يدخلون بها عاصمة الملك في بعض الأحيان يتمثل له ما كان يقوم به الأرمانياك والبورغون من القتال في شوارع باريس.
هوامش
الفصل الرابع
الإدارة الإنجليزية
مستقبل الهند (1) الإدارة الإنجليزية
أقامت أمم كثيرة مستعمرات، وحافظت أمم قليلة على ما أسست، وعرفت إنجلترا كيف تحافظ على مستعمراتها على العموم، فكان هذا سبب نيلها مغانم عظيمة، فلذلك نرى من المفيد جدا أن نعلم كيف تملكها.
ودرس الموضوع في مجموعه واسع ما اختلف نظام الإنجليز الاستعماري باختلاف المستعمرات، فمن المستعمرات الإنجليزية ما هو مستقل استقلالا تاما تقريبا كأستراليا التي لم يكن سلطان الإنجليز فيها إلا اسميا، ومنها ما كان للإنجليز فيه حكام ذوو سلطان مطلق كالهند، فترى بين هذين الصنفين من المستعمرات مجالا لتطبيق مختلف النظم.
والنظام الذي ندرسه في هذا الفصل خاص بالهند، فسنذكر فيه خطوط ذلك النظام الذي استطاع به ألف من الموظفين وجيش صغير من الأوربيين «لا يكاد يزيد على الجيش الفرنسي المرابط في الجزائر لحكم ثلاثة ملايين من المسلمين» أن يخضعوا به أكثر من مائتي مليون من الآدميين، أي أكبر إمبراطورية في العالم بعد الصين.
ليس من السهل استخلاص المبادئ العامة التي سار عليها الإنجليز في تأسيس إمبراطورية الهند الاستعمارية وما إليها من المستعمرات، وهذه المبادئ العامة هي من قواعد السلوك التي ترغب الأمم، كالأفراد، في العمل بها عملا لا شعوريا في بعض الأحيان من غير أن يوصى بها في الكتب، ونحن، إذ بحثنا في الإدارة الإنجليزية بالهند وفي تاريخها بحثا دقيقا أمكننا أن نستخرج تلك المبادئ كما يأتي: (1)
يجب أن يكون فتح إحدى المستعمرات تجاريا قبل فتحها حربيا؛ فالتجار، وحدهم، يستطيعون أن يثبتوا، برواج أسواقهم، وجود نفع بالغ في الاستيلاء على بلد، فإذا ما فعلوا ذلك دوخ ذلك البلد عند القدرة على قهره عسكريا، وإلا فتح بالحيل والدسائس. (2)
يجب أن يتم قهر البلد الذي يراد فتحه بمال هذا البلد وبجنوده، فعلى الأوربي الغازي أن يقتصر على إدارة شئون هذا الفتح، وقد رأينا كيف أن هذا المبدأ الأساسي قد طبق في فتح الهند فاستطاع الإنجليز، بتدخلهم في منازعات أمراء الهند، أن يستولوا به على جميع الهند من غير أن يتكبدوا نفقة أو ضياعا في الرجال إلا قليلا جدا. (3)
يجب أن تستغل المستعمرة استغلالا تاما في سبيل الأمة الغازية الفاتحة وحدها ما دامت عاجزة عن رفع نير هذه الأمة الأجنبية عنها كما رفع عن أمريكا وأستراليا. (4)
يجب ألا تمس نظم المستعمرة وعاداتها ومعتقداتها إذا ما أريد استغلالها اقتصاديا من غير أن يرفع سكانها راية العصيان، وذلك بأن تترك لهم إدارتهم وقضاتهم مع إشراف شرذمة من الأوربيين لا يألون جهدا في الوصول إلى المقصدين: حفظ الأمن وجباية أقصى ما يمكن من الضرائب، وتبصر من لقب «الجباة» الذي يطلق في الهند على أكابر موظفي الإدارة الإنجليزية هدف الإنجليز من استعمارهم للهند. (5)
يجب ألا يتوالد الغالبون والمغلوبون أبدا، ما دامت التجارب المكررة منذ القديم قد دلت على أن توالد الشعوب العليا والشعوب الدنيا في المستعمرات يؤدي إلى انحطاط الشعب المهيمن أخلاقا وعقلا ثم إلى خروج مستعمرته من يده في أقرب وقت كما أصاب البرتغاليين في الهند والإسبان في أمريكا، وقد رأينا في المطلب الذي درسنا فيه أمر الطوائف كيف أن الإنجليز عضوا على هذا المبدأ بالنواجذ.
شكل 4-1: عقد من فضة «سندها».
ولا مراء في أن المبدأ القائل باستغلال المستعمرة في سبيل الأمة الغالبة وحدها صعب التطبيق، فإذا ما جاوزت هذه الأمة الحدود فأساءت التصرف أصبح سلطانها لا يطاق فثار عليها الشعب المقهور، فتبين هذه الحدود ليس من السهولة بالذي يظن، فقد التبس الأمر على الإنجليز مع روحهم العملية الممتازة، فكادوا يخسرون الهند لمجاوزتهم تلك الحدود.
شكل 4-2: حلية من فضة على شكل شبكة «أوريسة».
ظلت حكومة الهند الإنجليزية قبل ثورة السباهي منذ ثلاثين سنة تستغل مائتي مليون من الآدميين بواسطة شركة تجارية اتخذت عصابات من الإنجليز المرتزقين حامية لها فلم يستفد من هذا الاستغلال سوى هؤلاء الإنجليز الذين فوض إليهم أمر إدارة الهند، فلم ينل مساهمو تلك الشركة ربحا ذا مال ما كان هم كل موظف إنجليزي من هؤلاء، صغيرا كان أو كبيرا، أن يغتني بسرعة، فبحث البرلمان الإنجليزي في فضائح هؤلاء الموظفين الإنجليز المالية في الهند، فلما عم الجور والطغيان وقفت الأعمال العامة فأهملت الطرق والحياض والقنوات، إلخ. إهمالا تاما.
دلت ثورة السباهي الدامية، التي كادت تؤدي إلى خروج الهند من أيدي الإنجليز، على ما في تلك الحكومة من الأخطار، فلم تكد تلك الثورة تطفأ حتى غيرت تلك الحكومة تغييرا سياسيا، فقد نشر في سنة 1858 المرسوم المعروف ب «مرسوم الحكومة الرشيدة في الهند» فنزعت به حكومة الهند من تلك الشركة التجارية وأسندت إلى الملكة، وعين وزير للهند وأضيف إليه مجلس مؤلف من أعضاء أقاموا بالهند عشر سنوات على الأقل، وقسمت الهند إلى ولايات يرأسها نائب ملك على أن يساعده مجلس تنفيذي يعينه صاحب التاج ومجلس اشتراعي يعينه نائب الملك هذا، فاليوم ترى الهند مقسومة إلى الولايات الثماني: «البنغال، والمناطق الشمالية الغربية، والبنجاب، والمناطق الوسطى، ومدراس، وبمبي، وأسام، وبرمانية»، لا إلى ثلاث رياسات كما قيل على العموم، وترى على رأس أهم هذه الولايات موظفين مستقلين لا يتلقون من نائب الملك أوامر في غير أمور الجيش والمالية، حتى إن حاكمي بمبي ومدراس يتصلان بالتاج رأسا، أي من غير طريق نائب الملك، فتجد لكل واحد منهما مجلسا اشتراعيا ومديرين.
وتقسم كل ولاية إلى مديريات يدير شئونها موظف تنفيذي يدعى ب «الحاكم الجابي » أو «النائب المفوض»، وتكون السلطات الإدارية والقضائية في يد واحدة أو منفصلا بعضها عن بعض بحسب حضارة كل منطقة، واليوم يكاد بعض هذه السلطات يكون مفصولا عن بعض في كل مكان.
ويبلغ أهل كل مديرية، وهي ما تعدل المديرية الفرنسية، مليونا في الغالب، ولا يزيد عدد موظفي الإنجليز المدنيين في الهند بأسرها على ألف، ويرتبط هؤلاء في إدارة «الخدمة المدنية»، فبهؤلاء يحكم الإنجليز مائتي مليون من بني الإنسان.
ويعتنى باختيار هؤلاء الموظفين، فيتألف من مجموعهم طبقة راقية لا تملك أمة مثلها، وقد اتصلت بغير واحد من هؤلاء فقضيت العجب من أخلاقهم وقوة تمييزهم فضلا عن ذكائهم وقوة معارفهم، فهم يديرون شئون الهند بحكمة وإخلاص.
وتجزل الحكومة الإنجليزية رواتب موظفيها في الهند مع تدقيق في أمر تعيينهم، وقد كان هذا التعيين يتم بالخيار فيقوم الابن مقام أبيه في إدارة الهند كما كان يرى، وأما اليوم فيتم التعيين للوظائف بالمسابقات، فيجتنب، بذلك، بعض المساوئ، غير أن الخلق والنشاط الضروريين في مزاولة تلك الوظائف ليسا مما يقدر بالامتحانات كما أصاب السر ريشارد تمبل في قوله.
وليس قبول المرشحين في تلك الوظائف بالأمر السهل، فبعد أن يمتحن المرشح فيما يثبت به تعليمه ومعرفته التامة للهندوستانية «لأن الإدارة الإنجليزية لا ترضى بأن يحكم قوم من غير أن تعرف لغتهم» لا بد من مجاوزته بعض المراحل التي تنكشف بها أهلياته، فيدخل إذ ذاك دائرة «الخدمة المدنية» براتب يترجح بين 9000 فرنك و17000 فرنك على حسب الفرع الذي رئي استعداد له، فإذا مرت عليه أربع سنوات ترجح راتبه بين 22000 فرنك و30000 فرنك، وإذا مرت عليه ثماني سنوات، أي حينما يكون حوالي الثلاثين سنة من عمره، كان له أن يأمل نيل 50000 فرنك راتبا، فيسير من هذه الدرجة إلى أن ينال 100000 فرنك، أو أكثر، راتبا ، وهذا مع نيله تعويضا إذا ما تعلم لغة جديدة، ولا سيما العربية أو الفارسية أو السنسكرتية في غضون ذلك.
وبعد أن يمضي على الموظف البريطاني المرتبط في إدارة «الخدمة المدنية» 22 سنة، أي إذا ما كان في الأربعين من عمره، حق له أن يعود إلى إنجلترا براتب تقاعد سنوي يترجح بين 15000 فرنك و25000 فرنك.
1
وتجد تحت موظفي الإنجليز أولئك مئات الألوف من موظفي الهندوس الثانويين الذين يندر أن يزيد الراتب الشهري لكل واحد منهم على خمسين فرنكا، أي على هذا المبلغ الكثير على الهندوسي، فبهؤلاء وحدهم يتصل الجمهور الهندوسي، فهؤلاء إذ كانوا مطلعين على احتياجات ذلك الجمهور وأفكاره ونظمه المختلفة باختلاف الولايات بدوا قادرين على القيام بما فوض إليهم، فتدار كل ولاية وكل مديرية بحسب عاداتها القديمة.
شكل 4-3: سارية سرير مدهونة باللك «سندها».
ترى، من ذلك، درجة كمال تلك الإدارة وبساطتها، وبينما تشاهد الأمم الأخرى ترسل إلى مستعمراتها الواقعة فيما وراء البحار جحافل من الموظفين المتفاوتي الدرجات الجاهلين للغة وطنهم الموقت ومبادئه وطبائعه وعاداته فلا يصدر عنهم غير مس مشاعر من يحيطون بهم، تستخدم الحكومة الإنجليزية في إدارة مستعمراتها موظفين أهليين وقضاة محليين تحترم بهم شرائع هذه المستعمرات وعاداتها، وما يناله أكابر الموظفين من رواتب ضخمة مما يحول دون ارتشائهم فيبذلون ذكاءهم في سبيل الأعمال التي وكلت إليهم، ومن هؤلاء الموظفين المرتبطين في «الإدارة المدنية» من أقاموا بالولاية الواحدة عشرين سنة فعرفوها معرفة تامة.
شكل 4-4: حلية من ذهب «بمبي».
ويمكننا انتقاد نظام يترك الأمم المقهورة حرة في نظمها وعاداتها إذا ما نظرنا إلى الأمر من حيث المبدأ القائل إن شأن الأمم العليا هو في فرض ما نسميه نعم الحضارة على الأمم الدنيا، وتراني، مع ذلك، غير معتقد صواب هذا المبدأ النظري غير الصالح لبقاء المستعمرة قبضة الأمة التي أقامتها، أجل، إننا نظن أننا نصنع خيرا إذا منحنا ما بقي لنا من المستعمرات في الهند نظمنا الجمهورية كالمساواة والانتخاب العام إلخ، بيد أنه يجب على من يعجبون بهذا النظام الاستعماري ألا يأسفوا على أننا أضعنا الهند في عهد لويس الخامس عشر؛ وذلك لأن تطبيق مبادئنا العظيمة على الهند كان يؤدي إلى خسرنا لها بسرعة لا محالة، فضلا عن وقوعها في فوضى دامية كبيرة.
ولا شيء أقضى لعجب السائح الذي يصل إلى بونديجيري بعد أن يزور الهند من المقابلة بين قلة احترام الهندوس للأوربيين في هذه المستعمرة الفرنسية واحترامهم العميق للأوربيين في الهند الخاضعة لسلطان إنجلترا، فنحن نرى من المعروف الطيب أن ننعم بنظمنا الراقية الحديثة على المشابهين لأبناء القرون الوسطى، والهندوس يرون أننا لم نصنع ذلك إلا لأننا نخشاهم، فنفقد، بذلك، نفوذنا لديهم، فلنحتفظ بمبادئنا في المساواة إذا لم نستطع العيش بدونها، ولكن لنكف عن تأسيس المستعمرات ما تمسكنا بتلك المبادئ.
ونتمثل النتائج التي أسفرت عنها الإدارة الإنجليزية الجديدة فتوقفت عليها مقادير الهند منذ ثلاثين سنة مستعينين بالإحصاءات الرسمية، فبفضل تلك الإدارة سترت الهند بالخطوط الحديدية والقنوات وأسلاك البرق والأشغال العامة فأضحت أنجح مستعمرة ملكتها أمة، ومن النظر في بعض الأرقام نتمثل حال هذه الإمبراطورية العظيمة بسهولة.
شكل 4-5: حلي «تري جزنابلي».
يخضع للإنجليز مائتا مليون من الأهالي، فإذا أضفت إلى هذا العدد سكان ممالك الهند الأهلية البالغ عددهم ستين مليونا كان المجموع 260 مليونا، ولا تكاد تجد نصف مليون من هؤلاء نتيجة لتوالد الهندوس والأوربيين، ويرجع هذا التوالد، على الأكثر، إلى زمن كان الإنجليز والهندوس فيه على اتفاق أكثر مما هم عليه الآن.
والجيش الإنجليزي في الهند مؤلف من 65000 جندي فقط، وتجد بجانبه جيشا من الهندوس مؤلفا من 127000 جندي، ويقود هذا الجيش ضباط من الإنجليز.
ويبلغ دخل بيت المال في الهند مليارا و700 مليون، ويجبى 565 مليونا من هذا المبلغ من الخراج و130 مليونا من الأفيون و155 مليونا من الملح.
وتترجح نفقات الجيش، بحسب السنين، بين 400 مليون و500 مليون، وتبلغ نفقات الإدارة المدنية 275 مليونا، وتبلغ نفقات الأشغال العامة 375 مليونا، وتبلغ الديون العامة أربعة مليارات، ومن هذه المليارات الأربعة مليار واحد أنفق لقمع ثورة السباهي، ومنها 540 مليونا أنفق في محاربة الأفغان الأخيرة.
وتتالف الأشغال العامة الكبرى من الخطوط الحديدية والقنوات على الخصوص، وفي الهند أكثر من 20000 كيلو متر من الخطوط الحديدية، ونحو هذا المقدار من القنوات.
وتقدر موازنة الهند التجارية في الوقت الحاضر بثلاثة مليارات، فتبلغ الصادرات 1700 مليون، وتبلغ الواردات 1300 مليون، وأخذت صادرات الهند تزيد على وارداتها منذ سنين، فانتهت هذه الزيادة إلى 400 مليون في الوقت الحاضر، ومعظم هذه الزيادة هو ما يجب على الهند أن تدفعه من النقود إلى إنجلترا في مقابل إدارتها، ويمكن عد هذا المبلغ ضربا من الجزية الخطرة على كيان الهند الاقتصادي.
والقطن والأفيون «275 مليونا» والأرز والبر أهم صادرات الهند، والنسائج القطنية أهم ما تستورده الهند.
والهند تستورد النسائج القطنية «650 مليونا» من إنجلترا ما دامت مصانع الهند الابتدائية لا تقدر على مزاحمة المصانع الإنجليزية، وأخذت مصانع الهند تصنع، مع ذلك، مقادير كبيرة من النسج القطنية فتبيعه من الصين وشواطئ أفريقيا الشرقية وجزيرة العرب.
والصين وإنجلترا أهم البلدان استيرادا من الهند، ومرفأ هونغ كونغ أهم مكان لهذا الاستيراد.
وتنقل صادرت الهند بحرا في 12000 سفينة أو 13000 سفينة تقصد موانئ الهند، ويرفع 83 في المائة من هذه السفن المترددة إلى مرافئ الهند أعلاما إنجليزية.
شكل 4-6: سوار من فضة «البنغال».
وإذا كان رخاء الأمة بحسب سرعة مواليدها، وهذا ما أجادل فيه، كانت الهند أرغد عيشا من أي بلد في العالم؛ لما اتفق لها ما لم يتفق لغيرها من زيادة المواليد، فالهند التي قدر سكانها بمائة مليون في سنة 1800 صارت تشتمل على مائتي مليون من الأهالي في سنة 1871، ومما حدث أن بلغت الزيادة في عشر سنين، أي بين السنتين 1871 و1881، اثني عشر مليونا مع ما انتاب الهند من المجاعات والأوبئة التي تهلك ملايين الناس فيها بأوقات معينة، وفي هذه الزيادة ما يسر منه بعض الاقتصاديين لو لم يزعم اقتصاديون آخرون أن الأمم الفقيرة وحدها هي التي تتكاثر كالأرانب إذا عدوت البلدان التي تحتوي على أرض واسعة غير عامرة كأمريكا.
ويقطن أولئك الأهالي، البائسون القانعون على العموم بما قسم لهم، في الأرياف على الخصوص، وليس في كل قرية من نصف قرى الهند أكثر من مائتي نفس، ومن النادر أن ترى تجمعات كبيرة في الهند، فلا تجد فيها أكثر من خمسين مدينة تحتوي الواحدة منها ما يزيد على خمسين ألف نفس.
وإذا عدوت مائتي المليون الذين يحكمهم الإنجليز رأسا رأيت في الهند ستين مليونا من الأهالي يقيمون بممالك يرأسها ملوك مستقلون يراقبهم الإنجليز في صلاتهم السياسية، وأراضي هذه الممالك أهم من سكانها لبلوغها خمسي أراضي الهند، ويقدر دخل هذه الممالك بأربعمائة مليون، وتشتمل جيوشها على 350000 جندي و4000 مدفع، وتتفاوت هذه الممالك اتساعا، فبينما ترى منها ممالك كمملكة نظام التي تعدل إيطاليا مساحة مع تسعة ملايين من السكان وثلاثين مليونا من الدخل، تجد منها ممالك كمملكة كاتهياوار المؤلفة من قرية واحدة يملكها أحد الراجوات، وترى في بعض الولايات، كبرار، أناسا يلقبون براجه تلقيبا شرفيا كما يلقب بعض الناس في أوروبا بدوك أو ببارون.
يتمتع ملوك تلك الممالك بسلطة مطلقة في تدبير شئون رعاياهم، ولم تتقيد سلطة أولئك الملوك إلا بمعاهدتهم لإنجلترا على ألا يشهر بعضهم حربا على بعض وألا يتبادلوا السفراء وألا يقبلوا أوربيا في بلادهم من غير أن تأذن الحكومة البريطانية في ذلك، ويقيم بعاصمة كل مملكة مهمة من تلك الممالك سفير إنجليزي لا تعدو وظائفه دائرة الشئون الدبلوماسية ولا يتدخل في الأمور الإدارية إلا في أحوال شاذة، وبعض تلك الممالك يعطي إنجلترا جزية وبعضها لا يعطي شيئا، وإذا عدوت بضع ممالك منها وجدتها حديثة وتقوم بأمورها أسر مالكة بدأ سلطانها بعد سقوط دولة المغول. (2) التربية الإنجليزية في الهند
إن من أكثر المواضيع، التي توحي بها الهند الحاضرة إلى الباحث، طرافة وأقلها وقفا للنظر حتى الآن هو ما يؤدي إليه تطبيق تربية ملائمة لشعب راق على شعب متأخر كالهندوس، وليس في التاريخ، على ما أعتقد، تجربة تمت على مقياس واسع في ذلك كالتي تتم في أيامنا، ومما يفيد الأمم الراغبة في إنشاء مستعمرات وفي المحافظة على ما في يدها، على الخصوص، أن تطلع على نتائج هذه التجربة.
تعد الهند الحاضرة عنوان ما كانت عليه الحال في القرون الوسطى، فتطبيق أصول التربية الحديثة عليها هو كتطبيق هذه الأصول على أمم القرون الوسطى أن لو كانت موجودة في الوقت الحاضر، أي كوصل ما بين هذين العالمين اللذين تفصل بينهما هوى عميقة؛ لما بينهما من اختلاف في المشاعر والأفكار والاحتياجات والمعتقدات، والحق أن هنالك وجه شبه بين علم الاجتماع والتاريخ الطبيعي في أن الروح، كالجسم، لا تستطيع أن ترتقي من طور ابتدائي إلى طور راق من غير أن تجاوز ما بين هذين الطورين من الأطوار الوسطى، والحق أن شأن التربية كشأن النظم، فما لاءم منها احتياجات أمة لا يلائم احتياجات أمة أخرى.
أثر صراخ مبشري البروتستان ومحبي الإنسانية في الإنجليز المحتاجين إلى موظفين من الدرجة الثانية فما دونها لإدارة الشئون العامة في الهند، فعقد الإنجليز النية على فتح مدارس لإعداد مثل هؤلاء الموظفين، ومن الطبيعي أن كان التعليم الذي يناله هؤلاء ملائما لما في برامج المدارس الابتدائية بأوروبا وأن كان الإنجليز يقومون به.
شكل 4-7: أسلحة وأدوات هندوسية مختلفة، حلي، خوذة مغولية، كلاب حديدي مكفت، يستعمل لسوق الفيلة، حذاء مزين باللآلئ لأمير مسلم هندي.
والهندوس هم الذين يتلقون ذلك التعليم بمقدار كبير منذ ثلاثين سنة، فأسفر ذلك عن ظهور طبقة خاصة شاملة لمئات الألوف من المثقفين في الوقت الحاضر.
وللمثقف الهندوسي الذي هو من تلك الطبقة طابع عقلي خلقي خاص، ويمكن درس أمره كعرق ذي وصف معين، ولا شيء كهذا الدرس يثبت خطر التربية الحديثة عندما ينعم بها على أدمغة غير مستعدة لتلقيها، وهذه التربية هي التي تعد في الوقت الحاضر ترياقا عاما.
ولا نرى ما هو أفضل من وصف المثقف الهندوسي بالذي فقد اتزانه عقلا وخلقا، فما حشر في دماغه من الكلمات يثير عنده من الأفكار الغريبة ما يعجز عن إدراكه، وإذا ما نظر إلى التعريف الذي لا قيمة له لدى العاجز عن إدراك ما يثيره من الأفكار أو ما يماثلها عد ذلك المثقف المسكين بالنسبة إلى العالم الجديد الذي نقلته تربيته المصنوعة إليه كالأعمى الذي يحمل على معرفة الألوان بوصفها له بألفاظ، ولا شيء يعدل عدم ارتباط أفكاره غير هوسه المستعصي في الكلام بلا هدوء وبلا تعقل، فإذا وجد في إحدى المحطات ولقي أوربيا سأله بوقار، ومن غير أن ينتظر جوابا، عن ترجيحه شكسبير على بونس التيرائي وعن اصطياد ملكة إنجلترا للنمر، وعن الروبيات التي يكسبها العالم الأوربي في كل سنة، وعن المهنة التي يرغب في تدريب أولاده عليها.
ولا أمر يثير الدهش أكثر من عدم ارتباط أفكار المثقف الهندوسي، فليس وشنو وشيوا وجوبيتر والتوراة وولي عهد إنجلترا وأبطال الإغريق والرومان والجمهوريات القديمة والممالك الحديثة إلا أشياء ترقص في رأسه رقص السارابند في سواء الجحيم، وهو يعتقد أن ملكة إنجلترا ووزيرها الأول وولي عهدها ثالوث مشابه لثالوث برهما ووشنو وشيوا، وهو يفسر ما علمه من المبادئ الحديثة على حسب مبادئ عرقه الموروثة التي لا ينتهي إلا إليها، والتي لا يستخف إلا بها، مع ذلك، وفق الهوي التي أغرقته فيها تربيته الإنجليزية، قال العالم الإنجليزي المعتدل الأستاذ مونيه وليامز:
لم يرقني ما أسفرت عنه تربيتنا التي نطبقها على الهندوس من النتائج، فقد وجدت بين هؤلاء متعلمين قليلين جدا، ووجدت بينهم كثيرين من شباه المتعلمين، ووجدت معظمهم ناقصي التعليم فاقدي الاتزان، أجل، قد يقدر مثقفو الهندوس على القراءة الكثيرة، ولكنه لا حاصل لما يفكرون فيه.
هم ثرثارون، ويخيل إلى الناظر أنهم يقذفون من أفواههم كلاما لم يهضموا معانيه، ويدل كلامهم وحركاتهم على أنهم من القاصرين، ويهملون لغتهم ويزدرون آدابهم وفلسفتهم ودينهم من غير أن يكتسبوا شيئا من صفات الأوربيين، ويصوبون إلينا ما يقتبسونه منا غير شاكرين، وهكذا ينتقمون منا لما أصابهم من الانحطاط بسبب تربيتنا.
وليس ما أصابت به التربية الأوربية الهندوسي المثقف من انحطاط الخلق بأقل مما أصابته به من انحطاط الذكاء، وإنني قبل أن أبحث في هذه الناحية أذكر ما قاله عن أحوال الهندوسي المثقف السيد ملباري الذي ظهر فوق مستوى بني قومه الهندوس فكان كتابه الصغير النفيس عن كجرات نافعا لي في غير موضع، فإليك قول السيد ملباري عن نفسه وعن صديقه الذي اشترك في إصدار جريدة، وإصدار الجرائد مما يصبوا إليه مثقفو الهندوس، وفيما تتمتع به الصحافة من الحرية ما يشبع هوسهم:
لم يقف جهلنا وصلفنا عند حد ولكن، ألم يكن من المفاخر أن ينتقد أكرم رجال الإمبراطورية وأن يسخر منهم؟ كتب صديقي (ب) كلمة عن معركة بلاونة ذات يوم فسألني عن الباب العالي، فأجبته بأن الباب العالي هو زوجة سلطان الترك المفضلة، فأنبأني صديقي (ب) بأنه كان يظن أن الباب العالي هو خديو مصر عند الأوربيين، فمثل هذا كان يتفق لنا في الغالب فنحمل جريدتنا أوزارا مضاعفة، فلما علمنا في الغد وجه الخطأ لعن كل منا صاحبه.
يضاف إلى ذلك الارتباك الفكري الهائل لدى الهندي المثقف تجريد التربية الأوربية إياه من أي خلق، فما كان يستند إليه في سيره من الأسس الدينية المتينة قد زال إلى غير رجعة، فهو قد خسر إيمان آبائه من غير أن يستبدل به مبادئ سير الأوربي، فانحصر صدقه في مراعاة قواعد الأخلاق العامة التي يحمله الشرطي عليها.
واضطر الإنجليز إلى اتخاذ أدق ضروب الحذر وما لا حد له من الرقابة؛ ليحولوا دون اختلاس مثقفي الهندوس، ولا شيء أدعى للخوف من دوائر البريد والنقل في الهند، فلا نصيب لكتاب يظن أنه مشتمل على أوراق ذات قيمة لثقل وزنه بأن يصل إلى المرسل إليه ما لم تكن قيمته مضمونة، وقد عانيت الشيء الكثير حين سياحتي في بلاد الهند من أجل صناديقي المحتوية على أدواتي العلمية، فقد كان مثقفو الهندوس الموظفون في الخطوط الحديدية يظنونها مملوءة بالروبيات لثقلها فيكسرون أقفالها، فاضطررت إلى حفظ أدواتي تلك في ظروف معدنية محكمة اللحم ووضع هذه الظروف، المكتوب عليها أنها شاملة لمتفجرات، في صناديق خشبية، فأدى ذلك إلى زهد أولئك الموظفين عنها حذر الخطر.
وذلك الموظف الهندوسي المثقف النذل أمام سادته الإنجليز ذو عتو تجاه بني قومه من أصحاب المصالح، وأولئك الموظفون هم المديرون الحقيقيون للهند ما داموا عمالا في الإدارة الإنجليزية، وما كانوا ليرضوا بذلك، فتراهم يحلمون بحكم الهند في سبيل مآربهم الشخصية.
ذلك هو هدفهم الدائم، وإذا خلا ثلاثة أو أربعة بعضهم إلى بعض لم يبحثوا في غيره، ثم يحتدم الجدل بينهم فلا يتناوبون القول بل يتكلمون معا، وهم إذا ما سكتوا فلأنهم يشعرون بخطى أوربي، وهذا الأوربي إذا ما دنا تفرقوا هنا وهنالك متنهدين، وما أشد اشمئزازي حين مقابلتي بين نذالة الموظف الهندوسي المثقف تجاه الأوربي وتصعير
2
خده لأبناء أمته، فالجهل أحب إلي من تلك الدناءة والوقاحة.
والإنجليز يعرفون أولئك المثقفين جيدا، فيعاملونهم بجفاء وغلظة لا يقرهم السائح الأجنبي عليهما أول وهلة، واللغة التي يكلمهم الإنجليز بها هي لغة السياط التي يلجئون إليها حين لا ينفع الوعيد والتهديد، والسائح إذا ما أقام بالهند بضعة أيام لم يلبث أن يعترف بأن تلك وسيلة لا بد منها لحمل أولئك المنحطين على التزام جانب الحشمة والابتعاد عن ضروب الوقاحة، ومن النادر أن يسمح إنجليزي لهندوسي من ذلك الطراز بأن يركب معه في حجيرة واحدة من حجيرات مركبات القطار مع أن هذا من أقصى آمال الهندوسي، وقد اعتراني الدهش من هذه الشدة في البداءة، فمما حدث أن ركب هندوسي من أولئك في المركبة التي كنت فيها فأنس إلى قبولي إياه بلطف فعن له أن يدلني على مركزه الاجتماعي فأسند رجليه إلى ظهر الصفة بما يحاذي مستوى رأسه، ثم أشعل سيغارا كبيرا وبصق على سقف المركبة وزجاجها، ولم يكن ليقطع ما يفعل إلا ليسألني بأسخف الأسئلة عن مقامي الاجتماعي ووسائل عيشي ونفقاتي وما إلى ذلك من الأمور التي جعلت البقاء في حجيرتي أمرا لا يطاق، فلما بلغنا أقرب محطة ركب إنجليزي في حجيرتي تلك فصمت ذلك الهندوسي وتكمش عالما ما ينتظره، فأمسكه الإنجليزي من أذنه وطرده من مركبتنا قائلا له: اخرج!
وليس من الصعب إخضاع تلك الزمرة من مثقفي الهندوس المتوتري الأعصاب الجبناء كالهرر، والذين عدل الإنجليز عن استخدامهم كوقادين أو ميكانيكيين أو سائقين لما رأوه من وثوبهم من القاطرات عند الخطر وفرارهم في الحقول طلبا للنجاة، والخطر إذا ما بدا في خط حديدي وجد موظفو المحطات المجاورة بعد زمن، لا ريب، متسلقين للأشجار أو مختبئين في المغاور أو متكدسين في الغرف متحسرين قانطين.
ذلك هو أثر التربية الأوربية في شعب غير ناضج، ويمكن تقدير ذلك بأحسن مما تقدم عند المقايسة بين أولئك المثقفين ومن تخرج في المدارس المحلية الخالصة، فهؤلاء يظهرون متزنين مهذبين محترمين جديرين بأن يتبوءوا مقاعد في أرقى مجالس أوروبا العلمية على خلاف أولئك المثقفين الوقح الأنذال.
وترى الإدارة الإنجليزية مضطرة إلى استخدام أولئك المثقفين مع احتقارها لهم؛ لما يتعذر عليها من أن تجد أوربيا يرضى براتب مثل رواتبهم، والإدارة الإنجليزية إذا ما احتملتهم فلأنهم شر لا بد منه، وهذا مع علمها التام درجة عداوتهم الكبيرة لها.
ولا أجد ما يشمل النظر أكثر من تحويل التربية الأوربية الهندوس الموصوفين بالدعة فيما مضى إلى أعداء أشد للبريطان، ويمكن تمثل ما وصل إليه حقدهم على البريطان من الحملات التي توجهها الجرائد المحلية إليهم كل يوم، وإذ إن رأي الأجنبي في هذه المسألة يكون موطن شبهة بحكم الطبيعة، وإذ إن الشواهد التي يمكنني الاستناد إليها تأييدا لدعواي هذه لا تكون مقبولة إلا بكثرتها فإنني أستشهد، مرجحا، بالأستاذ مونيه وليامز الذي يعد أبناء وطنه الإنجليز أحكامه صائبة جدا في أمر الهند، فاسمع ما قاله في الطبعة الثالثة من كتابه: «الهند الحديثة»:
يؤسفني أن أقول إن رحلاتي في الهند أثبتت لي وجود هوة بين الإنجليز والهندوس تصبح مجاوزتها بعد ثورة السباهي متعذرة شيئا فشيئا، وأعمق من تلك الهوة الموجودة بين الشعبين في جنوب الهند.
وقد لاحظ ذلك الأستاذ أن الهندوس المثقفين يوجهون إلى الأوربيين تعبيرا مشابها لتعبير البرابرة، وأن هذا التعبير لا يكفي للإعراب عن حقدهم الهائل على سادة الهند فقال:
رأيت أن استخفاف أولئك بحضارتنا وبنا كاستخفاف أجدادهم بالوحوش الفطريين، مع ما لدينا من أسلاك البرق والخطوط الحديدية، فهم يعتقدون تفوقهم علينا خلقا ودينا وعقلا.
واليوم أخذ ذوو البصائر من الإنجليز يدركون مخاطر التربية الأوربية، فإليك ما قاله أحد حكام الهند سير ألفرد ليل في كتابه «مباحث في طبائع الشرق الأقصى الدينية والاجتماعية»:
ظاهرة الوضع الحاضر في الهند هو أننا ننشر نظريات الحقوق السياسية وبذور النظم التمثيلية بين شعب كان يملكه سادة غير مسئولين في غضون القرون ، والهند، كما تعلم، بلد لم يكن له عهد بالحريات المحلية وبعادات الاستقلال منذ زمن طويل أو بلد لم يعرفها قط، وفي الهند، حيث لم يتقدم العلم في وقت إلى أبعد مما كان عليه في أوروبا في القرون الوسطى، نطبق أصول التربية الحديثة.
ومن البديهي أن يؤمن بالتربية فلاسفة السياسة، كعلماء الاقتصاد في فرنسا وميل وستيوارت ميل في إنجلترا، وأن يقولوا إنها تقوم بدور المسكن الملطف عند الفوران الاجتماعي والانقلاب الثوري، أو إنها تمنع الشعب من التطاول إلى الوظائف السياسية التي لم يتعود ممارستها، ونحن نقول: إن التربية العامة إذا وضعت في غير محلها كانت سبب اضطراب في بعض الطبقات وعامل انحلال في النظام الاجتماعي القديم، وذلك كما يرى في الهند التي تقوم الحكومة فيها بنشر التعليم العام مستعينة بمعلمين من الأجانب الذين يوجهون همهم إلى بذر أحدث النظريات العلمية والسياسية بين شعب لم تؤهله عاداته وثقافته السابقة لتلقي هذه النظريات وإلى إدخال تربية عصرية خالصة إلى شعب قام كل تعليم فيه على الدين منذ أقدم الأزمنة.
اتسع نطاق مثقفي الهندوس أولئك، على الخصوص، في زمن نائب الملك الذي حكم الهند قبل حاكمها العام الحاضر، فنائب الملك ذلك إذ كان مسيحيا مؤمنا قائلا إن الناس يولدون إخوة متساوين حقوقا وذكاء، وإن من الممكن تحويل مثقفي الهندوس إلى أوربيين بين عشية وضحاها نال أولئك المثقفون حظوة لديه، فما كان أسوأ عدو يجلس على عرش الهند ليسيء إلى إنجلترا بهذا المقدار، فأولئك المثقفون الذين أصبح لهم بعض الحقوق النظرية بذلك أخذوا يملئون الصحف المحلية بأعنف الحملات وأشد الشكايات، فالحق أن روسيا لو بلغت حدود الهند وفازت بشيء لوجدت المثقف الروسي حاضرا لرفع راية العصيان في سبيلها، والحق أن ذلك المثقف المستحر ضد السلطة الإنجليزية، هو كالأرضة الخفية التي تقرض أسفل التمثال الهائل.
أسهبت قليلا في بيان نتائج التربية الإنجليزية في الهند، وعلة ذلك أنك لا تجد في التاريخ مثالا أوضح من مثال الهند في إثبات الخطر الذي ينجم عن منح أمة تربية غير ملائمة لمزاجها النفسي، فقد أدى تطبيق التربية الأوربية على الهندوسي إلى تقويض ثقافته السابقة التي تمت له مع الزمن، وإلى إحداث ما لم يعرفه من الاحتياجات من غير أن تمن عليه بوسائل قضائه، وإلى جعله بائسا عدوا لمن طبقوها عليه، حقا أن الهندوسي المثقف يألم بمرارة من سوء حاله، وحقا أن له في الحوادث القادمة ما يقدر به على الانتقام فعلا لا قولا، فيتم على يده زوال السلطة التي ربته. (3) مستقبل الهند
ليست مسألة مستقبل الهند هي مسألة مستقبل السلطة الإنجليزية فيها فقط، بل نبصر لهذه المسألة، أيضا، أفقا أبعد مدى من ذلك، فعلى الأمر تتوقف نتائج الصراع بين الشرق والغرب اللذين يفصل أحدهما عن الآخر هوة عميقة، وإنني قبل أن أتكلم في هذه المسألة في مجموعها أقول بضع كلمات حول مستقبل سلطان الإنجليز الممكن في الهند.
يرى القارئ المطلع على أحوال الهند الحاضرة، كما بيناها في هذا الكتاب، أن أمل الهندوسي في حكم نفسه بنفسه ضعيف جدا وأنه قدر عليه أن يكون قبضة الفاتحين من الأجانب.
يعجز الهندوس عن تأليف أمة واحدة عجز الأوربيين عن ذلك، وتنتسب شعوب الهند إلى عروق مختلفة ذات مصالح متباينة فلا يستطيع الهندوس أن يكونوا إلبا
3
واحدا على الأجنبي المسيطر، ولنفترض إمكان اتحاد شعوب الهند في الوقت المناسب لطرد عدوها المشترك، فإذا تم لها ذلك لم تلبث أن تتقاتل بعد انتصارها مثل ما وقع عند انهيار دولة المغول حين عمت الفوضى بلاد الهند، فيهتبل غزاة من الأجانب فرصة ذلك، فيفتحون الهند بتسليط بعض أهاليها على بعض كما فعل فاتحوها في كل زمن مضى؛ ولذلك أرى أن كل ما يمكن الهند أن تطمع فيه هو أن تستبدل بسادتها سادة آخرين، فلعلها تصبح أحسن حالا، وهذا ما أشك فيه.
وشبح سلطان الروس هو الذي يبدو في الوقت الحاضر على الأقل، فلم تتوان روسيا في التقدم إلى الهند، وقد لا يمضي زمن قصير حتى تكون على أبوابها، فيعود إلى ممر كابل، الذي عبره الفاتحون في كل حين ، سابق شأنه.
يحيق الخطر بسادة الهند الحاليين، ولن يستطيعوا تداركه إلا بصالح الإدارة، ومن حسن السياسة أن يستميلوا آلهة الهند بأن يدافعوا عن منافع الهند الدينية؛ لما لهذه المنافع من الشأن الأول فيها، وأن يناضلوا عن التقاليد والعادات القديمة لولوع الهندوس بمقومات ماضيهم، ومن حسن السياسة ألا يضعضعوا الإيمان القديم وألا يبذروا روح الجدل والشك بنشرهم أصول التربية الغربية بدون تبصر، فلو كان للهندوس فوائد حقيقية من هذه التربية لقلنا إن حب الإنسانية لدى الإنجليز تغلب على مصالحهم الخاصة، ولكن الواقع غير ذلك، فلم تؤد التربية الغربية إلا إلى سخط الهندوسي على سوء حظه وارتباك في أخلاقه وما إلى هذا مما يجعله نصيرا لكل فاتح مهما كان أمره.
ولم يبد من ذلك الشر غير أوله، ولم يصب به سوى بضعة آلاف، وأما الملايين من إخوان هؤلاء فلا يزالون واهمين في أنه لم يبدل من الأمور سوى اسم السلطة العليا، والسلطة العليا هي التي عانوا حكمها في غضون القرون فأيقنوا أنها أمر لا راد له فغدوا غير مكترثين له.
وما هو الداء الشديد المفقود الذي تبحث عنه عروق الهند المسنة حينما تبلغ الأزمة التي تتدرج إليها ذروة حدتها فتصبح أمرا لا يطاق؟ أتسفر عن بعث إسلامي كما يتنبأ به بعضهم، والإسلام يسير قدما في الهند؟ أم إن دولة أوربية أخرى تغتنم فرصة ما يقترف من الأغاليط، فتبدو، كما يدل عليه كل شيء، المنقذ الذي تنتظره النفوس المضطرمة الضالة التي لا دليل لها؟ لا يستطيع أحد أن ينبئ، لا ريب، بما قد يحدث في القريب العاجل، وإنما الذي لا شك فيه هو أن معنى الاستقلال الحقيقي سيظل خافيا على الهند عدة قرون أخرى، فالهند إذ تعودت الخضوع لسادة من الأجانب منذ زمن طويل كتب عليها أن تكابد نير الأوربيين مرة أخرى إلى أن تصبح آلة بيد عرق آسيوي مرهوب، فحينئذ يصبح هؤلاء المغلوبون منذ القديم غالبين لنا، على ما يحتمل، مستعينين بإخوانهم من أبناء الشرق الذين يقومون مقامنا في قيادة البشر تبعا للسنة الحديدية القائلة بسلطان الأقوى فتهيمن على مقادير الأمم.
ومقام كذلك ستناله أمم الشرق بغير قوة المدافع مع ذلك، فلا بد من تغيير نوع الأسلحة بسبب تطور الصناعة الحديثة، فلا تلبث ميادين القتال أن تنقلب إلى أسواق للسلع، فهذه الأسواق، وإن كانت في الظاهر أقل سفكا للدماء من ميادين القتال، أشد منها هولا، وبيان الأمر أن البشرية التي اتخذت الكهرباء والبخار دليلين لها ستدخل دورا حديديا يكون الصراع فيه من أجل الحياة قاسيا جدا فلا يترك للرحمة مجالا، وقديما قال العرب: «لا ينبت العشب على أرض يطأها الترك»، والعشب قد ينبت في الأماكن التي ستشهد ذلك الصراع ولكنه سيكون من النادر أن تكون تلك الأماكن هي التي سيرعى الغالبون مواشيهم فيها.
هنا نصل إلى تعميم المسألة التي أشرنا إليها آنفا فتدل على أن مسألة مستقبل الهند أبعد مدى مما نتصوره أول وهلة، فعلى هذه المسألة يتوقف مستقبل أوروبا في الحقيقة، فلندرس هذه المسألة الهائلة.
ظلت الهند، منذ أكثر من ألفي سنة، موضع طمع كبير لجميع الأمم التي علمت أخبار عجائبها، وانتقلت الهند من سيد إلى سيد على الرغم من الحواجز التي تحميها، ولم يحل ما منيت به الهند من ضروب المغازي والفتوح دون بقائها على ما هي عليه في كل حين، وتشابه الهند أرض الفراعنة الحافلة بالأسرار في ازدرادها لقاهريها.
بيد أن الهند لم تعرف لها سادة من غير الشرقيين إلى أواخر القرن الماضي، فلما فتحها الأوربيون وجدت نفسها، لأول مرة، أمام شعوب تختلف عن شعوبها أشد الاختلاف، فيتعذر عليها أن تبتعلها، ولم يعرف التاريخ منذ أقدم الأزمان تواجه عنصرين ذلك مدى اختلافهما في أرض واحدة مع كثافة جموع.
شكل 4-8: قطعة من تصوير هندوسي في القرن الخامس على جدار بأجنتا، وتمثل هذه الصورة محاولة العفاريت أن يغووا بدهة «يمكن الناظر أن يتمثل حال التصوير الهندوسي منذ 1300 سنة من هذه الصورة مع ما أصاب تصاوير الجدر بأجنتا من التلف.»
إنجلترا هي عنوان العالم الغربي بحضارته المعقدة وتقدمه على نسبة هندسية وسيره سريعا إلى مستقبل مجهول متذرعا بما لديه من القوى الجديدة، والهند هي عنوان العالم الشرقي الثابت الخيال والناظر إلى الماضي، لا إلى المستقبل، مستوحيا أفكار الأجداد والآلهة بلا انقطاع.
ويتوقف مصير الهند على نتيجة الصراع الراهن بين الشرق والغرب، ولا يزال القتال في مرحلته الأولى مع تواجه ذينك العالمين غير مرة في الميدان، وليس دحر العرب من فرنسا ومن إسبانيا ومهاجمة العرب في عقر دارهم أيام الحروب الصليبية الهائلة وتدويخ إنجلترا للهند وسد الصين المنيع الذي صدعته المدافع إلا أنباء حرب بدأت منذ قرون، غير أن هذه الأنباء لم تكن، بالحقيقة، سوى أخبار مناوشات بسيطة إذا ما قيست بالصراع المرهوب الذي تسفر عنه طرق المعايش الحديثة الناشئة عن مبتكرات العلوم في الوقت الحاضر بحكم الضرورة.
أدت سرعة وسائل النقل التي نجمت عن البخار والكهرباء إلى تقريب المسافات فأوجبت اتصال بعض أمم الأرض ببعض اتصالا وثيقا، فعاد النهران اللذان اقتسما مجرى الروح البشرية؛ «أي النهر الشرقي الكبير الهادئ العميق الجليل البطيء والسيل الغربي الصائل السريع» لا يجريان في أودية مختلفة، أجل، إن التوازن بين المجريين، اللذين اختلطت مياههما، سيقع ذات يوم في ذينك العالمين، ولكنك إذا بحثت في كيفية حدوث هذه التسوية المحتملة لم تنشب أن تعترف بأنها لن تكون على ما فيه خير الغرب.
وإذا جاز لنا أن ندرك النتائج من العلامات الراهنة التي تزيد كل يوم قلنا إن النتيجة الأولى لاقتراب ذينك العالمين بفعل البخار والكهرباء هي تساوي قيم السلع الصناعية والزراعية، ومن ثم تساوي أجور العمال في الدنيا قاطبة، ومن الطبيعي أن يحدد معدل هذه الأجور بحسب ما يناله عمال الأمم الأقل احتياجا والأرخص إنتاجا، والشرقيون الذين يتألف منهم معظم البشر إذ إنهم أكثر الناس زهدا وقناعة يكونون بحكم الضرورة الناظمين للأجور في مزاحمة كتلك، ومن ثم يكونون أكثر الفريقين استفادة من ذلك الاقتراب، نعم، قد ترتفع أجورهم عن المستوى الأدنى بنسبة نفقات النقل الضئيلة، ولكن ما يطرأ على أجور عمال الأوربيين من الهبوط سيكون عظيما جدا لا محالة.
ولا يحتاج الباحث إلى نظر ثاقب ليتبين في الأفق علائم الصراع بين عالمين، لا أمتين، فيؤدي هذا الصراع إلى أشد النتائج هولا، فها هو ذا قمح الهند يباع في أوروبا بأرخص من حبوبنا فيورث زراع فرنسا بؤسا وقنوطا،
4
وقد أخذ زراع أوروبا يفكرون في ترك الصراع مع ما يجدونه من نظم الحماية العاجزة، وما أكثر الحقول التي لم تجد لها مزارعين يقومون بزراعتها في مقابل تأديتهم الضرائب المفروضة عليها، وماذا يحدث حينما تتوارى صناعة الغرب أمام أمم تستعين في صناعتها بما لدينا من الآلات فتنتج سلعا أرخص مما ننتجه عشرين مرة؟ سيرى المعدن، الذي تعود إنفاق خمسة فرنكات أو ستة فرنكات مياومة فيهدد البنيان الاجتماعي بالهدم لأن أجرته اليومية لا تزيد على ثلاثة فرنكات أو أربعة فرنكات، استيراد أرباب الصناعة من الصين الفحم الحجري الذي يستخرجه عمال يعدون أنفسهم من السعداء إذا ما نال الواحد منهم أجرة يومية تترجح بين خمسة دوانق وستة دوانق، وقد يأتي زمن على العامل، الذي يضرب من أجل رفع أجرته، لا يجد فيه مصنعا يعمل فيه؛ لما تحتاج إليه مصانع الشرق الأقصى المجهزة بمثل آلاتنا من ذلك الفحم الحجري، والتي يقوم بشئونها عمال تقل أجرة الواحد منهم عن أجرة العامل الأوربي عشرين مرة فتغمر العالم بما تنتجه غمرا لا يقف أمامه أي حاجز، فمن أجل هذا ومن أجل زوال المسافات ستتساوى قيم المواد الأولية والمواد المصنوعة في جميع الأسواق، كما أن أجور العمال ستتساوى بحكم الضرورة، فالحق أن المزاحمة تتعذر بين فريقين من البشر يقضي أحدهما كالشرقيين احتياجاته بأجرة تترجح بين أربعة دوانق وخمسة دوانق، ويقضي الآخر، كالغربيين، احتياجاته بأجرة تزيد على تلك عشرين مرة، فلا يكون المخرج من هذا المأزق، إذ ذاك، إلا بتنزيل أجور الفريق الثاني إلى معدل أجور الفريق الأول.
ولا ريب في أن تلك التسوية العامة التي سنرى فجرها عما قليل - وهي التسوية التي سهل أمرها، على الخصوص، بما ذكرته غير مرة مؤكدا في كتبي، وهو أن القيمة العقلية المتوسطة لدى أمم الشرق ليست دون ما يقابلها من طبقات أهل الغرب - لا تمنع أوروبا من أن يكون لديها ما ليس في الشرق من صفوة رجال، ولكن ماذا تصنع هذه الصفوة الكثيرة الذكاء والقليلة العدد تجاه تلك الجموع الزاخرة التي يتوقف عليها المصير؟ وهل أنقذت صفوة المفكرين والمتفننين والعلماء من الإغريق بلاد اليونان من الفتح الروماني؟
ولا يتم النصر لأوروبا في ذلك الصراع الذي يتوقف عليه مصيرها بسبب حالتها الأدبية، ومشاعر مجتمعات الغرب الهرم، كما كانت عليه روما في دور انحطاطها، تدور حول الظهور والتمتع بأطايب النعم، ونرى ثقافتنا العقلية نفسها تؤدي إلى ابتعادنا عن العمل المنسجم وإلى انتخابنا وتقلبنا وعدم ثباتنا وإلى تشككنا العام وإلى اندثار عوامل السير والعزم فينا، وفي صفات غير هذه تجد سر قيام الدول العظيمة وسر بقاء هذه الدول، والغرب يفقد بالتدريج ما لا يزال متينا لدى الشرقيين من حب الأسرة واحترام الأجداد ومتانة المعتقدات، وهذه المشاعر هي أساس التئام الأمم مهما كانت قيمتها الفلسفية، وهي عوامل القوة التي استعان بها أولو النفوس العالية في قيادة العروق إلى النصر، فإذا ما توارت هذه المشاعر لم تلبث المجتمعات المستندة إليها أن تنفصم عراها فتنقلب إلى زمر مختلفة المصالح عاطلة من المشاعر المشتركة، واليوم تبصر الأديان المسنة المحافظة على سلطانها في الشرق، مع وصفنا إياها بالأوهام، والتي شيدت باسمها أكبر الدول فتم حكمها بها، تخسر نفوذها في الغرب مقدارا فمقدارا، ولم يكتشف العلم بعد ما يقوم مقام الآلهة الميتة، واليوم نعيش بفضل ماض لا نؤمن به موجهين وجوهنا إلى مستقبل لا يزال خافيا علينا.
وماذا يكون المثل الأعلى الجديد الذي يصلح أساسا لمجتمعات الغرب القادمة؟ لا يقدر أحد على بيان أمره في الوقت الحاضر ، ولا تجد معضلة أشد خطرا وأبعد غورا من تلك التي تشغل بال المفكرين، ولا غرو، فعليها يتوقف كياننا في المستقبل، ولن تعد شعوب الشرق التي أمعنا في ازدرائها من البرابرة بعد اليوم، ولا يزال منبع النشاط والفتوة الذي استنفده الغرب في القيام بجليل المشاريع وفي حقل الفكر والعمل راقدا في أمم الشرق الكبرى، ولن تطول غفوة هذه الأمم الشرقية، فقد دنا وقت يقظتها، وحان الوقت الذي تسفر فيه مغازينا وفتوحنا واكتشافاتنا وأفكارنا عن إخراج الشرقيين من طور القرون الوسطى الطويل الذي هم عليه، وحينئذ ينتصبون أمامنا «كما انتصب البرابرة أمام الرومان، والعرب أمام العالم الإغريقي اللاتيني الهرم» بمثل ما خسرناه من الحماسة والنشاط والآمال والخيالات، هنالك تملك العالم، كما ملكته في الماضي، أمم ذات مثل عالية قوية واحتياجات ضعيفة، أقول ذلك وأنا أرى أن على أبنائنا أن يقوموا بعمل جدي إذا أرادوا البقاء قادة للعالم زمنا آخر وعدم الوقوع بسرعة في الهوة الأزلية التي يجر تطور الأمور الناس والدول إليها.
هوامش
Unknown page