إهداء الكتاب
مقدمة
مقدمة المؤلف
الباب الأول: البيئات
1 - الأرض والأجواء
2 - وصف مناطق الهند العام
3 - النباتات والحيوانات والمعادن
الباب الثاني: العروق
1 - منشأ عروق الهند وتقسيمها
2 - عروق الهند الشمالية أو الهندوستان
Unknown page
3 - عروق الهند الوسطى والهند الجنوبية
4 - الصفات الخلقية والعقلية المشتركة بين عروق الهند المختلفة
الباب الثالث: تاريخ الهند
1 - تاريخ الهند قبل المغازي الأوروبية
2 - صلات الهند القديمة بالغرب
الباب الرابع: تطور حضارات الهند
1 - حضارة العصر الويدي
2 - حضارة العصر البرهمي
3 - حضارة العصر البدهي
4 - حضارة العصر البرهمي الجديد
Unknown page
5 - حضارة العصر الهندي الإسلامي
الباب الخامس: آثار حضارات الهند
1 - آداب الهند ولغاتها
2 - مباني الهند
3 - العلوم والفنون
الباب السادس: الهند الحديثة
1 - مزاج الهندوس النفسي
2 - ديانات الهند الحاضرة
3 - النظم والطبائع والعادات
4 - الإدارة الإنجليزية
Unknown page
إهداء الكتاب
مقدمة
مقدمة المؤلف
الباب الأول: البيئات
1 - الأرض والأجواء
2 - وصف مناطق الهند العام
3 - النباتات والحيوانات والمعادن
الباب الثاني: العروق
1 - منشأ عروق الهند وتقسيمها
2 - عروق الهند الشمالية أو الهندوستان
Unknown page
3 - عروق الهند الوسطى والهند الجنوبية
4 - الصفات الخلقية والعقلية المشتركة بين عروق الهند المختلفة
الباب الثالث: تاريخ الهند
1 - تاريخ الهند قبل المغازي الأوروبية
2 - صلات الهند القديمة بالغرب
الباب الرابع: تطور حضارات الهند
1 - حضارة العصر الويدي
2 - حضارة العصر البرهمي
3 - حضارة العصر البدهي
4 - حضارة العصر البرهمي الجديد
Unknown page
5 - حضارة العصر الهندي الإسلامي
الباب الخامس: آثار حضارات الهند
1 - آداب الهند ولغاتها
2 - مباني الهند
3 - العلوم والفنون
الباب السادس: الهند الحديثة
1 - مزاج الهندوس النفسي
2 - ديانات الهند الحاضرة
3 - النظم والطبائع والعادات
4 - الإدارة الإنجليزية
Unknown page
حضارات الهند
حضارات الهند
تأليف
غوستاف لوبون
ترجمة
عادل زعيتر
إهداء الكتاب
إلى النائب ووزير الأشغال العامة السابق ووزير المالية الحالي مسيو سادي كارنو؛ اعترافا بما شمل به بعثة المؤلف العلمية إلى بلاد الهند من العناية.
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
Unknown page
الهند زبدة جميع العوالم، وخلاصة ناطقة لجميع أدوار التاريخ، وصورة صادقة للأطوار المترجحة بين الهمجية الأولى والحضارة الحديثة، ولا يتجلى الماضي للسائح كتجليه في بلاد الهند، ولا يحس السائح ما اعتور أجيال البشر من تطور وما بين هذه الأجيال من فروق ومن روابط بأحسن مما في الهند؛ فالسائح يعلم هنالك، فقط ، أن الحاضر منحدر من الماضي، وأنه يحمل في أثنائه بذور المستقبل.
والهند تمثلت لخيال الأمم أرضا لكل عجيب، فكانت عرضة للمغازي الأجنبية منذ القديم، وكان الأجنبي إذا ما دخلها استقر بها، واستغلها استغلالا محليا، فلم يفكر في إخراج خيراتها منها.
ويفتح الإنجليز بلاد الهند الواسعة الزاخرة بالسكان في القرن الثامن عشر بمال الهند وجند الهند، فيسلكون في استعمارها طريق نفع إنجلترا دون الهند؛ فيمتصون بركات الهند ليرسلوها إلى بريطانية، وفي سبيل الهند يحتل البريطان مصر فلا يجلون عنها، وفي سبيل الهند يفصل البريطان السودان عن مصر، وفي سبيل الهند يقتطع البريطان في القرن العشرين جنوب الشام المعروف بفلسطين، فيمعنون في تهويده ممثلين في أهله العرب مأساة أندلسية ثانية، والهند قطر عظيم يسكنه مئات الملايين من الآدميين، والهند قطر عظيم يملكه الإنجليز بألف موظف بريطاني وبجيش بريطاني لا يزيد عدد جنوده على مائة ألف!
وأبحث عما وضع في اللغة العربية عن الهند، فلم أجد سوى مقالات قليلة هزيلة مبثوثة في بعض المجلات العربية، ولم أجد سوى بضعة كتب صغيرة خاطفة لا تسمن ولا تغني من جوع، فيروعني ذلك، فأرى أن أتم هذا النقص بأن أنقل إلى العربية إحدى غرر الكتب المهمة التي ألفت عن الهند.
وينشر العلامة الفيلسوف «غوستاف لوبون» سنة 1884 كتاب «حضارة العرب» الجليل الخالد، ويتخذ في وضعه منهاجا لم يسبقه إليه أحد، ويعرض فيه صورة واضحة لتلك الحضارة العظيمة التي رغب في بعثها، فيبدو فريدا في بابه، فتسير بذكره الركبان، وننقل هذا السفر العظيم إلى العربية وننشره في سنة 1945، ويتقبله العرب بقبول حسن.
وترسل الحكومة الفرنسية العلامة «لوبون» على رأس بعثة آثار إلى بلاد الهند، ويجوب «لوبون» الهند طولا وعرضا فتسفر بعثته إليها عن وضعه سفرا جليلا خالدا آخر، فيسميه «حضارات الهند» وينشره سنة 1887 فيعدل هذا الكتاب «حضارة العرب» ضخامة وروعة وطرافة ويعد توءما له.
ويستعين العلامة «لوبون» في كتاب «حضارات الهند» بالأصول التي اهتدى إليها في كتاب «حضارة العرب» على الخصوص، فيعول، كما ذكر، على محكم الأسانيد، ويعرض تطورات النظم الدينية والاجتماعية وعوامل هذه التطورات، ويبحث في الحوادث التاريخية كما يبحث في الحادثات الطبيعية، ويبعث الأجيال الغابرة بما انتهى إليه من الكتابات والنقوش والرسوم وبعرض صور لبعض آثار تلك البلاد الهائلة التي هي منبت كثير من المدنيات والمعتقدات.
ويسير العلامة «لوبون» في كتابه «حضارات الهند» على طريقة التحليل العلمي، شأنه في كتاب «حضارة العرب»، فيوضح فيه الصلة بين الحاضر والماضي، ويظل مخلصا فيه لسنن النفس والتطور، فينتهي إلى نتائج لم يصل إليها عالم قبله، فيظهر هذا الكتاب للعالم بدعا في درس حضارات الهند درسا شاملا، ويظهر هذا الكتاب خير كتاب عن الهند، إن لم يكن من أحسن الكتب عنها، وذلك في بابه وروحه ومناحيه وقوة التحليل فيه، ووصول «لوبون» فيه إلى ما نشده من الأهداف الاجتماعية والأدبية والدينية والسياسية، إلخ.
ويقع نظري على كتاب «حضارات الهند» هذا، وأقرأه بالفرنسية غير مرة وأسأل: هل أوفق لنقله إلى العربية موطئا موضوعاته الطريفة ومباحثه القاسية الكثيرة الأصول والفروع التي لا عهد لنا بها، ووضعها في قالب عربي خالص! ويهون الأمر لدي، بعد تردد، خدمة للعرب في السياسة والعلم والأدب، فأعزم على ترجمة هذا الكتاب إلى العربية.
وترجمتنا لهذا الكتاب التاريخي الاجتماعي السياسي العظيم حرفية، وراعينا مبدأ حرفية الترجمة من أول الكتاب إلى آخره مع الانسجام وعدم الإبهام وسهولة المنال.
Unknown page
والكتاب خاص بالهند، ويشتمل على نحو ألف من أسماء الأعلام، وتعودنا كتابة هذه الأعلام منقولة عن مؤلفات الغرب، فنكتب في صحفنا وكتبنا، مثلا، الكلمات: بوذا، وهيمالايا، وبومباي، ودلهي، إلخ. مع أنها تكتب بالحروف العربية في الهند هكذا: بدهة، وهمالية، وبمبي، ودهلي، إلخ، وأردنا أن نكتب أسماء الأعلام التي تشتمل عليها ترجمة هذا السفر كما في الهند، فبذلنا جهودا غير قليلة للحصول على جداول خاصة من الهند وغيرها، فكان ما يجده القارئ في هذه الترجمة من رسم تلك الأسماء مثل ما في الهند.
وقضينا في سبيل ذلك كله أوقاتا شديدة، ولاقينا مصاعب كثيرة يقدرها القارئ، ولم نر أن نضع لهذه الترجمة مقدمة مطولة ما نشرنا في آخر الكتاب فهرسا مفصلا للموضوعات، وما رأينا قيام هذا الفهرس المفصل مقام المقدمة المطولة، وحافظنا على مظهر الكتاب كما في الأصل على قدر الطاقة، فلم نستثن من صوره ورسومه سوى بعض ما نشره المؤلف بقصد تزيين الكتاب، فيقوم ما اخترناه منها، وهو معظمها، مقامه، ويؤدي إلى الغاية التي وضعها المؤلف أمامه، وفي الكتاب خريطتان من تخطيط المؤلف رأينا إبقاءهما على حالهما لاكتسابهما قيمة أثرية مع الزمن.
وإننا نطمع أن تمتاز هذه الترجمة، التي لم نتجوز فيها قط، بالصحة والوضوح والدقة فلا يضيع فيها معنى، ولا يضطرب فيها لفظ، والله الموفق.
عادل زعيتر
نابلس، فلسطين
مقدمة المؤلف
الهند من الأقطار التي شملت نظر العلماء والسياح والمتفننين والشعراء، وأثارت فيهم حب الاطلاع في كل حين، والهند عالم يختلف عن عالمنا بجوه وهوائه وأرضه وسكانه، ولا شبه بين ما تعرفه الهند وما يعرفه الغرب من الأصول الدينية والمبادئ الفلسفية والفنون والآداب والنظم والمعتقدات.
ذلك العالم العجيب هو زبدة جميع العوالم، وخلاصة ناطقة لجميع أدوار التاريخ، وصورة صادقة للأطوار المترجحة بين الهمجية الأولى والحضارة الحديثة.
ظلت تلك الأطوار التي جاوزها البشر دفينة تحت أعفار العصور زمنا طويلا، وحديثا بدأنا نرفع الكفن الكثيف الذي يرقد تحته أجدادنا، وأخذنا نبعث أسس معتقداتنا ومشاعرنا وخيالاتنا.
والعلم لم يستطع، بالحقيقة، أن يثبت الأطوار التي قطعها الغرب؛ ليبلغ ما وصل إليه من المزاج النفسي والنظام الاجتماعي إلا بعد أن ارتاد حملته أقطارا كثيرة ذات أمم متفاوتة في نشوئها وارتقائها.
Unknown page
وفي الأرض بقعة واحدة تكتنف مختلف العروق الممثلة لجميع تطورات الماضي تقريبا، وتلك البقعة هي ذلك القطر الواسع العجيب الذي وقفنا هذا السفر لدرسه؛ ففي ذلك القطر إجمال لتاريخ البشر ما اشتمل على جميع الأجيال، وفيه تبدو جميع الحضارات حية أو ماثلة في عظيم الآثار، وفيه نبصر ما اعتور نظمنا وعاداتنا من متعاقب الصور والأجيال منذ البداءة إلى الزمن الحاضر.
ويكاد يكون مفقودا ما اصطلح على تسميته بحوادث التاريخ التي يظن أنها ضرورية لبعث ماضي الهند، ولا نأسف على ذلك كثيرا، ما أدت أخبار الملاحم والفتوح وأنباء الأسر المالكة التي تملأ كتب التاريخ إلى حجب سير حياة الأمم الحقيقية وإخفائها، وما ود المفكرون أن يعرفوا مجرى الأخيلة والمعتقدات والمشاعر السائدة لأحد الأجيال، وتأثير مختلف العوامل التي أوجبتها.
وفي كتابنا الذي جعلناه مقدمة لتاريخ الحضارات
1
بينا كثرة تلك العوامل، وأن الأمم جاوزت مراحل تطور متماثلة مع تباين تاريخ هذه الأمم الظاهر، وأنه إذا ما رئي أحيانا تباين واضح بين أمتين فلمصاقبتهما أوجه تطور مختلفة على الخصوص.
ونحن، وإن لم يكن لدينا تاريخ للهند بالمعنى الصحيح، نجد في الهند من الآثار الدينية والفنية والأدبية ما يبلغ قدم بعضه نحو ثلاثة آلاف سنة، ولهذه الآثار من الأهمية ما ليس لقصص المؤرخين؛ فبمثل هذه الآثار ننفذ حياة الأمم، فنقوش معبد هندوسي خرب خير من تواريخ الملوك في إخبارنا عن سرائر قدماء الهندوس، وقل مثل هذا عن كتب الأدباء والقصائد والأقاصيص والأساطير الدالة على تلك السرائر.
وفي الآثار الأدبية يجب أن يبحث عن روح الأمم؛ فالشعراء والقاصون إذ كانوا سريعي الانفعال شديدي التأثر فإنهم يعانون تأثير بيئتهم؛ أي تأثير عرقهم وعصرهم، أكثر مما يعانيه العلماء والمفكرون، ويبدون مرآة صادقة بليغة لهما.
أجل، إن الشعراء والقاصين يشوهون ما يصفونه، ويبالغون فيما يعبرون عنه، ولكنه ينطوي تحت ذلك التشويه، وتلك المبالغة معان كثيرة؛ فالشعراء والقاصون يتقمصون روح زمنهم فيألمون ويترنمون بآلام أبناء قومهم ومسارهم وأمانيهم، ويترجمون عن عواطف أممهم وعن عقائد عصرهم ومشاعره، فلا يكون أمر أية حضارة مجهولا ما استوعبت ذاكرة الناس قصائد الشعراء وأقاصيص القاصين.
بيد أن فهم معنى آثار الشعب الأدبية والفنية، ولا سيما آثار الهندوس، يتطلب دراسة هذه الآثار في أماكنها، فبدراسة الحضارات في الأماكن التي ظهرت فيها وكملت نتمكن من الاطلاع على روحها، ونتحرر من الحكم فيها بأفكارنا العصرية، فلن يقدر علماء أوروبا على اكتناه عبقرية أمة آسيوية ووصفها، بتصفح ما في المكتبات من الكتب.
حقا أن الهوة التي تفصل بين أفكار رجل غربي عصري وأفكار رجل شرقي عظيمة جدا، فما في أفكار الغربي من الدقة والإحكام يختلف كثيرا عما في أفكار الشرقي من الإبهام والتموج، ومن العبث أن يطمع الغربي في استنباط ثبات أفكار الشرقيين من عدم تحول عاداتهم، وبلغت أفكار الهندوسي ومعتقداته من الغموض والتذبذب ما تقصر معه لغاتنا اللاتينية «الفقيرة في النعوت مع ما فيها من ضبط» عن الإفصاح عنها في الغالب. •••
Unknown page
اقتصر علماء أوروبا في مباحثهم التاريخية عن الهند على ترجمة الأسانيد السنسكرتية مع أن السنسكرت، لدى الهندوس، لغة ماتت منذ عدة قرون، ويكاد شأنها عندهم يكون مماثلا لشأن اللغة اللاتينية في أوروبا، فتكون معرفتنا لتطور الهند من دراسة كتب الآداب القديمة وحدها متعذرة تعذر معرفتنا لأحوال الناس في القرون الوسطى وفي عصر لويس الرابع عشر من دراسة كتب سيسرون وفيرجيل فقط.
ومن العسير أن نستعين بالكتب وحدها فنطلع على ما في الويدا من الشعر الأغر، وما أثر عن قدماء الحكماء من التأملات الفلسفية، وما لا يحصى من الآلهة، وما يخالف الذوق من الطقوس الصارمة، ففي الهند نفسها يجب البحث عن حضارتها الكبيرة الرفيعة، وآثار عظمتها المحيرة للعقول، فلا يتجلى مفتاح الأسرار المملوءة بها آداب الهندوس إلا في أطلال مدنها القديمة، وفيما هو ماثل بين صرود
2
همالية المتجمدة وسهول الدكن المحرقة من أطلال المدن القديمة ونقوش الزون
3
والقصور الزاهية الهائلة التي لم يردها الرواد إلا حديثا؛ ففي هذه الكتب الحجرية التي لا تعرف الكذب تحفظ أفكار الأمم.
ومنذ عهد قريب فقط فطن إلى أهمية ذلك الطراز في البحث، فبينما يقضي كثير من العلماء أوقاتهم في درس كتب الأدب البرهمي فيسفر ذلك عن وضع ضخم المؤلفات، وبينما يملأ أولئك العلماء في العواصم الأوروبية الكبيرة ما لا يعد من الدفاتر، تجد اتجاها حديثا إلى دراسة آثار الهند ومبانيها في أماكنها.
ولا مراء في أن الحكومة الإنجليزية عينت لجنة خاصة لبلوغ ذلك الغرض، غير أن هذه اللجنة لم تصنع غير حل الكتابات وفك رموزها على الخصوص، ولم تنشر سوى رسوم هندسية لقليل من الآثار بدلا من عرض صور هذه الآثار عرضا يعلم الغربي منه وجود فنون تختلف عن فنونه اختلافا تاما.
وتزيد ضرورة معرفة تلك الآثار معرفة تامة ما أغضى الأوروبيون الفاتحون عن دثورها بفعل الزمن إن لم يقوضوها بمعاولهم، فإذا ما أريد الحكم على ما يصل إليه الأمر في المستقبل بما يقع في هذه الأيام قلنا إنه لا يبقى شيء من تلك العجائب التي أقيمت في قرون كثيرة قبل انقضاء خمسين سنة، وإنني أذكر ما حدث في مدينة كهجورا القديمة مثالا من بين ألوف الأمثلة المماثلة على ذلك الاستخفاف بالآثار، فقد زال في الأربعين سنة الأخيرة نحو ثلث المعابد الستين التي كانت تزين جيد هذه المدينة.
قال الجنرال الإنجليزي كننغهم منذ بضع سنين: «يستحيل على الباحث أن يجوب الهند من غير أن يأسف على ما أصيبت به بقايا مبانيها الأثرية، ولم تصنع الحكومة في قرن بعد الفتح الإنجليزي شيئا تقريبا لحفظها وصيانتها، مع أنها المصدر الوحيد لمعرفة أحوال الهند الغابرة التي لم يدون لها تاريخ، ولا ريب في زوال الكثير منها إلى الأبد ما لم تخلد بتصويرها ووصفها وصفا مبينا.»
Unknown page
فإذا حدث ما توقعه الجنرال كننغهم، وذلك ما نكاد نبصره، أصيبت البشرية بخسر لا يعوض منه؛ فالبشرية إذ سلكت سبيلا جديدا بفعل مبتكرات العلوم، وأضحت بذلك قادرة على التعبير عن أفكارها بسرعة عادت لا تحتمل صوغ هذه الأفكار في قوالب حجرية يتطلب صنعها عدة قرون، فلن نقيم من المباني العجيبة كالتي أقيمت في عصور الجاهلية والإيمان، وليس لدينا ما يحفز إلى إقامة إهرام وكنائس غوطية في زمن البخار والكهرباء.
والحكومة الفرنسية إذ أدركت ما لآثار الهند من القيمة الفنية والتاريخية عهدت إلينا في دراسة هذه الآثار حيث هي، فأسفرت بعثتنا عن وضع خمسة مجلدات مشتملة على أربعمائة صورة موضحة، فاقتبسنا بعضها في هذا السفر.
وقد اعتمدنا على دراسة آثار الهند، فنقيم كتاب «تاريخ حضارات الهند» هذا على أساس متين، فقد زرنا جميع مباني الهند المهمة، ومنها ما هو قائم في البقاع التي لم يردها الباحثون إلا قليلا ، كمنطقة نيبال التي لم يدخلها فرنسي قبلنا، فاستطعنا أن نجلو أمورا كثيرة في تاريخ الهندوس الديني وحضارتهم؛ فمن ذلك أننا أثبتنا بما قمنا به من دراسة المباني أن البدهية، التي أراد علماء أوروبا أن يجعلوا منها ديانة بلا إله مستندين في ذلك إلى كتب المذاهب الفلسفية التي وضعت بعد ظهور بدهة بستمائة سنة، هي أكثر الأديان قولا بتعدد الآلهة، وأوضحنا كيف غابت هذه الديانة عن البلد الذي نشأت فيه غيابا لم يجد العلماء له حلا قبلنا.
واستعنا في هذا الكتاب بالأصول التي اهتدينا إليها في كتبنا السابقة، ولا سيما كتاب «حضارة العرب»، فعولنا على محكم الأسانيد، وعرضنا تطورات النظم الدينية والاجتماعية وعوامل هذه التطورات، وبحثنا في الحوادث التاريخية كما يبحث في الحادثات الطبيعية، ودرسنا المذاهب بحذر؛ فكان لنا بذلك كله نهج خاص.
وبتلك الأصول تمكنا من الوصول إلى ما في مبادئ الهند الفلسفية والدينية والاجتماعية المعقدة من المعاني البعيدة الغور، وإلى إظهار ما للآلهة القديمة الآفلة من الجبروت والتقديس. •••
وللفرنسيين فائدة عملية واضحة من الاطلاع على أحوال الهند الحاضرة، فضلا عن الفوائد التاريخية والفلسفية والفنية التي تجتنى من دراسة ماضيها، فمن المهم أن يعرف في هذا الزمن، الذي يتحدث الناس فيه عن الاستعمار، كيف استطاعت أمة أوربية أن تسيطر بألف موظف وستين ألف جندي على إمبراطورية مؤلفة من 250 مليون شخص، وقد أتيح لي بما اتفق لي من الصلات بأكابر موظفي الإنجليز في أثناء إقامتي بالهند، أن أطلع على دقائق إدارة الهند العجيبة التي لا تعرف أوروبا عنها إلا قليلا.
وهنالك أسباب أهم من تلك على ما يحتمل، تدعو إلى البحث في شئون الهند الحديثة؛ فقد اقتربت الساعة التي يتقابل فيها الشرق والغرب بفعل الكهرباء والبخار، والشرق والغرب ما تعلم من وجود هوى عميقة بينهما في الحياة والتفكير حتى الزمن الحالي، ودنا الغرب وحضارته من دور الخطر في الصراع الهائل الذي سيقع في عالم الصناعة المهلك، لا في ميادين القتال، بين أمم متساوية في كفاءاتها المتوسطة، متفاوتة في احتياجاتها تفاوتا عظيما ، فيحيق الخطر فيه بالغرب، وإن شئت فقل بالحضارة، فما هي نتائج هذا الصراع؟ وإلى أي مدى نداوم على منح أمم الشرق من الأسلحة المادية والثقافية ما ستصوبه إلينا؟ لمثل هذه المسائل من الأهمية ما لا يجوز أن نسكت عنه في هذا الكتاب.
فتاريخ حضارات الهند، إذن، ليس قصصا لماض أدبر إلى الأبد، بل هو تاريخ ينطوي، أيضا، على مجهولات هائلة.
ولم يخل من نقص هذا الكتاب الذي هو بدع في درس حضارات الهند درسا شاملا، وسنبلغ به، مع ذلك، الهدف ما رسمنا صورة ناطقة للأطوار المتتابعة والأجيال المتعاقبة التي اعتورت المجتمع الهندوسي الذي لا تزال حضاراته القديمة قائمة منذ ثلاثة آلاف سنة وما بينا ما يكون لمقادير هذا المجتمع من أثر كبير في مستقبل العالم.
أجل، لقد بعثنا تلك الأجيال الغابرة بما انتهى إلينا من الكتابات والنقوش والرسوم، وبعرض صور لبعض آثار تلك البلاد الهائلة التي هي منبت كثير من المدنيات والمعتقدات مستعينين بالقلم والريشة، ولكن أية ريشة أو أي قلم رصاصي يستطيع أن يخبرنا بجمال تلك البلاد القاصية التي يشعر السائح الأوربي عند دخولها بأنه انتقل إلى عالم جديد عجيب في أرضه وسمائه ونباته وحيوانه؟ وكيف يمكن وصف تلك الديار الساحرة التي أقامت الجبال الشاهقة الجبارة حولها نطاقا أبديا من الثلوج، أو وصف تلك المدن الخامدة الواسعة سعة عواصم أوروبا، والتي توحي معابدها الرائعة وقصورها المهجورة البادية من خلال الخمائل إلى السائح أنه أصبح في مدن الغيلان التي لعنها من في السماء؟ وما هو السبيل إلى عرض ما تؤثر به في النفس تلك المعابد الحافلة بالأسرار، والداخلة أعماق الجبال، والمشتملة على ألوف الأصنام الحجرية التي تظهر للأعين على نور المشاعل فيخيل إلى الناظرين أنها عبيد خرس لرب الأموات؟ يكاد قلم الرسام الماهر ينقل إلينا جلال تلك القصور الرخامية الهائلة المرصعة بالحجارة الكريمة والمشرفة على أسوار من الغرانيت الأحمر كالدم القاني؛ فتبدو صاعدة في سماء لا يحجب زرقها سحاب.
Unknown page
ألا إن الماضي لا يتجلى للسائح كتجليه في بلاد الهند، وإن السائح لا يحس ما اعتور أجيال البشر من تطور، وما بين هذه الأجيال من فروق، ومن روابط بأحسن مما في الهند؛ فالسائح يعلم هنالك، فقط، أن الحاضر منحدر من الماضي، وأنه يحمل في أثنائه بذور المستقبل، وأن خيالاتنا وطبائعنا ومبادئنا انتقلت إلينا بالإرث من غابر الأجيال التي لا نقدر أن نقلل من سلطانها وإن أمكن جهلها، فمن خلال الأجيال القديمة نكتشف، بالحقيقة، أصول نظمنا ومعتقداتنا ونبصر ما لها من السلطان العظيم وأنها تقود كل شيء إلى مصيره الخفي بسلسلة من التطورات البطيئة.
4
هوامش
الباب الأول
البيئات
الفصل الأول
الأرض والأجواء
(1) وصف بلاد الهند العام
يتألف من الهند عالم مستقل في الكون من الناحية الطبيعية، فالطبيعة، كما يظهر، قضت على الهند بعزلة أبدية؛ لما أحاطتها به من جبال هائلة، ومن بحار ذات أمواج مزبدة تلطم سواحلها غير المقراة،
1
Unknown page
ويكفي المرء أن ينظر إلى حدودها؛ ليشعر بنشوء حضارة ثابتة فيها تقريبا، وبهضمها للعناصر الأجنبية التي أغارت عليها، ولا تزال بلاد الهند الأرض المقدسة الحافلة بالأسرار التي حكى عنها شعراؤها الأقدمون، وظلت بلاد الهند الحصن المنيع مع إغراء كنوزها للفاتحين، واقتحام الكثيرين منهم لها في غضون القرون، ومع ما يبدو من سهولة مواصلاتها الحديثة التي زالت بها جميع العوائق، وقربت بها كل المساوف، فلا تجد طريقا مهما يمر من جبال همالية، ولا تجد ميناء سهلا على شواطئها، فبلاد الهند هي، بالحقيقة، أكثر البلاد انغلاقا وأصعبها انفتاحا، ولم يخطر ببال شعب قديم عمرها أن يخرج منها بعد أن استوطنها.
وتلوح بلاد الهند المنعزلة أنها خلاصة العالم بتنوع مناظرها، فللهند كل الأجواء بسبب اتساعها وتفاوت ارتفاع بقاعها الكثيرة، فبينما يكون الحر شديدا إلى الغاية في سواحل ملبار وكورومندل وسهول البنجاب ترى ربيعا ساحرا في رداف الجبال وريحا صرصرا تلطم صرود
2
الشمال العالية وأغطية من الثلوج مشابهة لما في القطبين تستر شواهق همالية، وبينما تجري السيول مسرعة في أوائل يونيو إلى السواحل الجنوبية الغربية فتغمرها وتملأ جداولها ينظر فلاحو أوريسة ووادي السند الذين أعياهم الجفاف إلى سمائهم الصافية الحاقدة ضارعين باحثين في الرمال المحرقة عن أثر الأنهر الكبيرة النافدة.
وتشتمل بلاد الهند ذات المناظر الرائعة والعوارض المختلفة على سهول الغنج الخصيبة القريبة من صحاري تهار الغبر الدكن، وعلى الأودية المنبتة الواقعة بين هضاب الدكن الجرد الجديبة، وعلى ما لا نظير له في الدنيا من الشعاف الهائلة المتصدعة المهيمنة على واحدة كشمير الجميلة المعدودة درة العالم.
ويمكن تفسير تلك الظواهر الطبيعية التي رئي تسميتها بنزوات الطبيعة في الهند بنتوء اليبس وعظم نوفه وبتفاوت توزيع المياه، فقد نجم عن ذينك السببين أن نشأ ألف بلد في بلد واحد، وأن جمعت الأماكن والأجواء في مساوف غير متباعدة بما يزيد عن بضعة كيلو مترات مع انفصال بعض أمثالها عن بعض بألوف الفراسخ في خريطة العالم.
فلذلك نرى أن نعرف، قبل كل شيء، ارتفاعات بلاد الهند، واتجاه مجاريها، وعدد هذه المجاري وقيمتها، وسنضيف إلى ما نعلمه من مسايل بلاد الهند وأنهارها بحثا في توزيع أمطارها ورياحها الموسمية، فلسماء الهند المدرار تقويم خاص ذو نتائج لا تقل أهمية عما يجرى فوق برها.
وبلاد الهند مربعة الأضلاع مقسومة إلى مثلثين متقاربين ذوي قاعدة مشتركة، فقمة المثلث الشمالي هي ذروة جبل ننغا الذي هو من أعظم جبال همالية وقمة المثلث الجنوبي هي دروة جبل كمارى، والخط الذي يعد قاعدة مشتركة لذينك المثلثين هو الوهدة الضيقة العميقة الممتدة من خليج كمبي إلى نهر الغنج فيجري فيها نهر نربدا ونهر سون اللذان يتجه أحدهما إلى الغرب والآخر إلى الشمال الشرقي.
وليس مجريا ذينك النهرين وحدهما ما يحد به ذانك القسمان الطبيعيان لبلاد الهند، بل يفصل بينهما، أيضا، سلسلة جبال وندهيا في شمال تلك الوهدة، وسلسلة جبال سات بورا في جنوبها، فمن ثم تحول ثلاثة حواجز دون غزو الأجنبي للقسم الجنوبي من بلاد الهند برا على الأقل، وسترى أن شواطئ هذا القسم الجنوبي ليست أقل صلاحا للدفاع عن تلك الحواجز الثلاثة.
ويتألف من المثلث الشمالي «الهندوستان الحقيقية»، وورد ذكر هذه الكلمة، التي تعني «بلاد الهندوس»، في أقدم أقاصيص الإغريق.
Unknown page
شكل 1-1: خريطة الهند «تشتمل علي اتساع يعدل 750 فرسخا تقريبا، وفيها ذكر للأمكنة المحتوية على أهم المباني، وتعدل كل درجة عرض نحو 112 كيومترا»، «من تخطيط المؤلف».
أجل، يرى الغربيون أن نهر السند أعار من اسمه البلاد الحافلة بالأسرار الواقعة فيما وراءه فما فتئوا يطمعون فيها، غير أنه لا يسلم بهذا على علاته ما احتمل اشتقاق اسم «الهند» من اسم الإله «إندرا».
والأمر مهما يكن فإن اسم الهند قد أطلق على كثير من البلدان، فمن ذلك أن تمثلت بلاد الهند لخيال الأوربيين أرضا لكل عجيب ومنبعا لكل ثروة، فبحثوا عن طريقها فبدوا ضحية الأوهام في الغالب، فظن «كريستوف كولونب» أنه بلغها بسفنه حينما وصل إلى الدنيا الجديدة، فكان ما نعلمه من تسمية الدنيا الجديدة ببلاد الهند الغربية، ومن ذلك تسمية كثير من جزر آسيا والأوقيانوس بالاسم الذي أطلقه الإغريق على وادي السند.
وأما نحن فنقصد بكلمة الهند في هذا الكتاب شبه الجزيرة التي تحيط بها جبال آسام وهمالية وكارا كورم وهندوكش وسليمان والبحر، ونقصد بكلمة «الهندوستان» المثلث الشمالي من بلاد الهند، ونقصد بكلمة «الدكن» المثلث الجنوبي منها. (2) الهندوستان
يتألف أكبر حد للهندوستان من جبال همالية التي هي أعلى سلسلة في الكرة الأرضية، والتي ينظر الهندوس إلى شعافها المقدسة باحترام فيسمونها «سقف الدنيا»، وتبدو هذه الجبال العظيمة في مجموعها كمصور ضخم مائل يزيد ارتفاع طرفه الأعلى عن ستة آلاف متر، ويبلغ معدل علوه المتوسط أربعة آلاف متر، وتجد بين ذلك السد المنيع الهائل من الشواهق ما يصل ارتفاعه إلى ثمانية آلاف متر أو تسعة آلاف متر.
وأظهر ما يبدو ذلك في القسم الغربي من جبال همالية، ويتسع عرض هذه الجبال فوق منابع الأنهر الكبرى: السند والغنج وجمنة وستلج، ثم تختلط هذه الجبال بهضاب التبت العالية، ثم تفقد منظرها الملتوي فتمتد من هنالك هضاب واسعة كئيبة تزيد ارتفاعا عن أعلى ذرى جبال أوروبا، فما هي بالتابعة جغرافيا للهند ولا للتركستان ولا للتبت، وما هي بالتي ينمو فيها نبات، وما هي بالتي يجد الماء الذي يتجمع فيها أحيانا منفذا أو منحدرا ليسيل منه، وما هي بالتي يصلح هواؤها لتنفس السائح المقدام، فهي «بلاد الموت الكريهة» كما يدعوها به أهالي تلك الأصقاع.
لم تمسح ذرى كارا كورم المرهوبة المشرفة على جبال همالية في أي زمن، فقد يأتي زمن تخلع فيه إحداها ملك الجبال غوري شنكر الرائع الخالع لبركان أند: جمبورازو الذي عد أعلى جبل في العالم زمنا طويلا.
يقوم طود غوري شنكر متوجها إلى القسم الشرقي من جبال همالية، ويتألف من اتجاه شوامخ ديول غيري وغوري شنكر وكنجنجنغها خط مستند إلى ما وراء همالية يعد في مجموعه سلسلة تلك الجبال الحقيقية من غير أن يشتمل على الذرى المهمة، على حين تمتد إلى الشمال وإلى الجنوب سلسلتان أخريان متآزيتان تسمى إحداهما غنغ ديسري المشرفة على التبت، وتسمى الأخرى همالية الدنيا التي هي أقل ضخامة من تلك فتهبط بالتدريج بين روافد نهر الغنج الشمالية.
وتشغل جبال همالية أرضا تزيد مساحتها على مساحة فرنسا، وهي أمنع متراس أقامته الطبيعة بين بلدين أو أمتين، ومن الصعوبة أن تجد رابطة بين أراضي شمال الهند العالية وأودية الجنوب الواسعة العميقة سواء في أمر السكان أو في أمر الطبائع والأخلاق.
شكل 1-2: قرية دنكور في جبال همالية الغربية.
Unknown page
ولا يربط الهند بالصين غير طريقين ناقصين، وهما: طريق سملا، وطريق دارجيلنغ الواقعتان على طرفي جبال همالية، وهذا إلى أنك تصادف بين حين وآخر سائحا أو تاجرا مخاطرا يمر من التبت إلى وادي الغنج واضعا متاعه الخفيف، أحيانا، على ظهر معز أو متن ضائن؛ لعجز أي حيوان آخر عن مجاوزة مسارب وعرة معوجة مخيفة كالتي تبصر في منحدرات تلك الجبال.
وتكون تلك المسارب على حافة نهر في الغالب، بيد أنه ليس لمجاري المياه التي تنبع في جبال همالية جوانب يسهل اجتيابها خطوة بعد خطوة ما هوت هذه المجاري، على العموم، في مضايق مظلمة، ومسايل ممزقة للصخور خارقة لها خرقا بليغا ممتدة بين الصخور القائمة، وما أكثر ما يسمع خريرها من أعماق الهوي والوهاد فتجاب إذ ذاك على جذول
3
الشجر أو بواسطة جبل، ثم يصعد في طنف
4
صخرة يصاب بها المرء من تخيله بالثول
5
والدوار.
لم تسلم بلاد الهند من غزو الفاتحين لها من الشمال مع ذلك، فقد حلم أمراء الغرب المقاحيم، منذ أقدم القرون، بالاستيلاء على هذا القطر الغني الذي جاء في الأساطير أنه يدر الحجارة الكريمة ويخرج النبات العجيب.
وفي الشمال الغربي من النطاق المخيف المنيع الذي ضربته الطبيعة حول بلاد الهند ثغرة نهر كابل؛ فمن ضفاف هذا النهر ولج الإسكندر والمغول والأفغان وغيرهم في شبه جزيرة الهند.
Unknown page
ولا مراء في أن أولئك الفاتحين ساروا على الدرب الذي سلكه قدماء الآريين، ولا تجد طريقا أخرى غير هذا الدرب يسهل على أي جيش أن يمر منها إلى أرض الإله إندرا، ويقوم وراء تلك الثغرة حاجز آخر من جبال سليمان المتصلة بجبال خيبر، فتكفي لوقف غزو الأجنبي مع أنها دون تلك الجبال أهمية بمراحل.
وإذا ما استثنيت ذلك المنفذ، الذي يدافع عنه بموقع بشاور وقلعة أتك في الوقت الحاضر، وجدت جميع حدود بلاد الهند البرية منيعة يتعذر اقتحامها تقريبا.
ويظهر في طرف المنحنى الشرقي الكبير، الذي أكسبته جبال همالية شكل سيف، ثلمة كبيرة جوفها نهر برهما بوترا، فمن هذه الثلمة استطاع أناس من الجنس الأصفر أن يدخلوا بلاد الهند في دور قديم، وذلك بعد جهود عظيمة؛ لما نراه في كل سنة من انغلاق وادي برهما بوترا الأعلى الذي لم يقع ارتياده حتى الآن، وذلك بفعل ما ينجم عن رياح الجنوب الموسمية من الطوفان، فما ينزل على هذه المنطقة من الأمطار الهائلة يؤدي إلى طمس معالم كل طريق مسلوكة، ويحول الأنهار إلى سيول، والسهول إلى مستنقعات وغدران، ويوجب نمو نبات يعوق السير، وانتشار أبخرة وخيمة قاتلة مفسدة للهواء في كل حين، فلا نصادف في الأرض بلادا مجهولة كتلك المنطقة مع قربها من الأمكنة العامرة.
شكل 1-3: منظر في وادي السند «مملكة كشمير».
وتكتنف جبال آسام ضفة نهر برهما بوترا اليسرى، وينحني مجرى هذا النهر عند سفوح جبال كهاسي وجبال غارو التي هي أخرى الحلقات المحيطة بشمال الهند.
ويحيط ذلك النطاق بالسهل الهندي الغنجي الذي تتألف الهندوستان الحقيقية منه، وينخفض هذا السهل رويدا نحو خليج البنغال من جهة ونحو بحر العرب من جهة أخرى، ويقسم وادي السند ووادي الغنج ذلك السهل إلى منطقتين مختلفتين أشد الاختلاف متباينتين منظرا، ويبدو هذا الانقسام بارزا في الجنوب بجبال أراولي التي يرتبط فيها أعالي جبل آبو، ويكاد هذا الانقسام يكون غير باد في الشمال.
ووادي الغنج هو من أكثر بقاع الأرض سكانا وخصبا وغنى، ولا يقال مثل هذا عن وادي السند الذي يشتمل على الصحراء الهندية الكبرى الوحيدة، ويفسر تباين ذينك الواديين باتجاه ذينك النهرين اللذين يجرى أحدهما موازيا لسلسلة الجبال التي يخرجان منها، ويجري الآخر عموديا بالنسبة إلى هذه السلسلة، فكلما سار نهر الغنج نال من جبال همالية التي يحاذيها روافد لا ينضب لها معين بما يسيل إليها من مياه أحواض الثلج فيروي الحقول والمزارع التي يمر منها بوفرة، وكلما ابتعد نهر السند عن الجبال خفت مياهه وقلت روافده؛ لضياع كثير منها في الرمال، وعجزها عن شق مسايل لها، فإذا كانت مقاطعة البنجاب ذات الأنهر الخمسة خصيبة لم تلبث هذه الأنهر الخمسة أن تؤلف نهرا واحدا متوجها وحده إلى الجنوب الغربي تاركا عن يساره أراضي واسعة خالية جديبة كئيبة.
ومن المحتمل أن كان جميع وادي السند في غابر الأزمان مغمورا بالبحر فجعل منه البحر خليجا واسعا، ونرى أن سهول شمال الهند وطبقات الجنوب من أسفل همالية قد تكونت حديثا ما كانت الصخور البلورية والألواح الحجرية في أواسط همالية وما وراءها، وما كانت أقسام همالية المركزية وحدها مؤلفة من الصوان والجلاميد المتحولة.
ويدل ما حول قمم همالية من بقايا نبات البحر، ومن رواسب الملح على مكث مياه البحر بهضاب تلك الجبال زمنا طويلا.
شكل 1-4: منظر في جبل آبو «راجبوتانا».
Unknown page
وتشمل سلاسل الجبال الصغيرة الكثيرة، الممتدة من جبال همالية إلى منطقة البنجاب العليا، النظر بتركيبها ومنظرها، ونذكر منها «سلسلة الملح» التي يشاهد فيها ، عدا رواسب الملح ومختلف المناجم، نماذج لجميع الصخور المترجح تكوينها بين الدور الجيولوجي الأول والدور الجيولوجي الثالث، فنشأ عن لطم أمواج البحر لسفوحها، وشق الأمطار لشعافها منذ القدم تصدعها على شكل عجيب نالت به منظر الأبراج والقلاع التي أتقن الإنسان صنعها، وذلك إلى أنها كانت مستورة بالحصون التي لا تزال أطلالها الرائعة ماثلة على ذرى صخورها الناهضة، فيتمثل بها المتأمل بقايا آطام القرون الوسطى المملوءة بها بلاد الغرب، وذلك إلى أن هذا الشبه واقعيا أكثر منه عاطفيا ما أدى إليه قيام تلك المعاقل الدفاعية في البنجاب وبنديل كهند من استعباد البلاد، وزيادة طغيان الأمراء الإقطاعيين، كما حدث في فرنسا بعد الغزو النورماني.
والأرض في جنوب وادي الغنج ترتفع بهضاب مالوا وبنديل كهند، ثم تبدو سلسلة جبال وندهيا.
وتعد سلسلة جبال وندهيا «حجاب الهند الحاجز»؛ فلهذه السلسلة أهمية كبيرة؛ لفصلها بين حضارتين وجوين وأرضين وعرقين، فبينما يسود العنصر الغازي، أي العرق الآري، السهل الهندي الغنجي يقطن بهضبة الدكن الكبرى، التي لها الوقاية بخندق نربدا العميق وبسلسلتين من الجبال، العرق الدراويدي الفطري الخالص المحافظ على أخلاقه وأوصافه الجثمانية ومعتقداته القديمة الثابتة مع مر القرون. (3) الدكن
تألفت من الدكن جزيرة حين كانت مياه المحيط تغمر، في سالف العصور، معظم السهل الهندي الغنجي فتلطم الأمواج سفوح الجبال المحيطة به، ثم ارتدت هذه الأمواج عن شواطئه الضيقة التي تهيمن عليها الهضبة القديمة من ارتفاع يترجح بين أربعمائة متر وستمائة متر.
وفي الدكن، لذلك، قسمان مختلفان بمنظريهما وإنتاجيهما وبالعروق التي تقيم بهما، فيتألف القسم الأول من الشواطئ الدنيا الواقعة على بحر العرب والمشتملة على:
كونكن الشمالي وكونكن الجنوبي وملبار ومن الشواطئ: كورومندل وسكهر وأوريسة الواقعة على خليج البنغال، ويتألف القسم الثاني من الهضبة الواسعة المائلة من الغرب إلى الشرق، فتحيط بها جبال سات بورا وتوابعها، وسلسلة كهات الفاصلة لها عن المنطقة الساحلية تقريبا.
وتسمى سلسلتا الجبال اللتان تفصلان الدكن عن البحر بكهات الغربية وكهات الشرقية، وتقل سلسلة كهات الشرقية عن سلسلة كهات الغربية ارتفاعا، وإليها يستند أسفل الهضبة، ويتخلل هاتين السلسلتين عدة أنهر تصب مياهها في خليج البنغال تبعا لميل تلك الجهة العام.
وسلسلة كهات الغربية أكثر انتظاما من تلك، وتتألف من حلقات متصلة متوجهة عموديا إلى الساحل.
وبينما تبرز كهات الغربية الوعرة من ناحية البحر شامخة بذراها التي صدعتها أمطار الرياح الموسمية العاصفة تبدو أقل روعة من الهضبة المشرفة عليها، وسلسلة كهات الغربية هذه لا ترتفع عن الشاطئ بأكثر من 1200 متر، وهي ليست غير جلاميد قديمة محافظة على وضعها العام، وتغمر الأمواج هذه الجلاميد حيث يضيق الشاطئ في بعض الأمكنة، ويقطعها بين مسافة وأخرى فجاج
6
Unknown page
تصل بين السهول العليا والمنطقة الساحلية، ويعد بهور كهات أهمها، وهو الذي سمي قديما بمفتاح الدكن.
وتتسع سلسلة كهات الغربية في الجنوب، فكان لها بهذا الاتساع منظر أقل وحشة من ذلك، وكان لقسمها المعروف بنل غيري «الجبال الزرق» من سحر المنظر وحسن الجو ما دعيت معه بسويسرة الدراويدية.
وتنفرج وراء نل غيري «الجبال الزرق» فجوة
7
بال كهات التي هي أهم انخفاض فيها، وتنتهي السلسلة برأس كماري.
وفجوة بال كهات أكبر طريق يصل بين الشاطئين، ويمر من هذه الفجوة في الوقت الحاضر خط حديدي يربط مدينة مدراس بمدينة كالي كت.
وإذا ما عصفت الرياح الموسمية الشمالية الشرقية على خليج البنغال وقفت جبال كهات تلك الرياح، وأمكن السفن أن تمخر في بحر العرب بسلام، ولكن السفن إذا ما أصبحت أمام فجوة بال كهات كانت في بحر مائج، وذلك لأن الإعصار يتغور في هذه الفجوة فيمر منها؛ ليثير أمواج الشاطئ الآخر من شبه جزيرة الهند.
وعد جميع شواطئ الدكن الدنيا انتصارا على البحر في وقت قريب من دورنا، ثم وقف ارتفاع هذه الشواطئ، ودلت المشاهدات الحديثة على حدوث عكس ذلك في بعض جهات الهند، واكتشفت بقايا غابة غاطسة بالقرب من بمبي، ويلوح أن منطقة الجزر المستغدرة
8
الناشئة حديثا في مصب نهر الغنج والمسماة سندربن والبقعة القائمة عليها مدينة كلكتة ستخسفان، ذات يوم، في هوة هائلة تجوفها الأمواج، وينساب التراب نحوها ويتيه فيها المرجاس
Unknown page
9
مع سهولة تعيين حافاتها.
ولا يكون للنبات أثر في هضبة الدكن التي سترتها حجارة البراكين في غابر الأزمان، لو لم ينشأ عن الأمطار الغزيرة التي تغمرها في كل سنة حل لهذه الحجارة البركانية في كثير من الأمكنة، وسحق لها، ثم كسحها وظهور أودية تؤدي كثرة مياهها وحرارة جوها إلى نمو نبات وافر عجيب فيها.
واستطاعت أصقاع الدكن العليا أن تقاوم حملات الغزو المتتابعة، وأن تظل ذات صبغة خاصة بفضل سلسلتي الجبال القائمتين في شمالها وبفضل الخندق العميق الذي حفره نهر سون ونهر نربدا؛ فالحق أن في جنوب جبال وندهيا بقايا قدماء سكان الهند والعنصر الدراويدي ومراكز الدفاع ضد غزو الأجنبي.
ورأس كماري هو أقصى نقطة في بلاد الهند، وتقع جزيرة سيلان بجانبه.
ومع أنه ليس من برنامجنا أن نصف سكان جزيرة سيلان، ولا أن ندرس تاريخها نرى أن نقول بضع كلمات عن جغرافيتها وجغرافية الجزر القريبة من الهند فنختم بذلك بحثنا الإجمالي في أرض الهند الناتئة التي يمكن تسميتها بهيكل الهند العظمي.
تكاد جزيرة سيلان، التي تعدل مساحتها اثنتي عشرة مديرية فرنسية، تتصل بشبه جزيرة الهند، وإلى جزيرة سيلان تمتد متوجهة سلسلة من الجزيرات التي نعد راميشورم ومنار أهمها، فيتركب منتصف سلسلة الجزيرات هذه من صخور وأكثبة يغمرها الماء بضع أقدام فتعرف بجسر راما، وتنفذ ثلاثة معابر فقط هذا السد الطبيعي، وجعل أحد هذه المعابر في الزمن الأخير صالحا لسير السفن الصغيرة.
وفي شمال جسر راما ينقر خليجان شواطئ الهند، ويبدو أحد ذينك الخليجين مأمنا للسفن الفارة من الرياح الموسمية.
وتقسم جزيرة سيلان إلى قسمين: يقع أحدهما في الشمال حيث السهول التي ينمو فيها نبات البلاد الحارة، ويقع الآخر في الجنوب حيث الجبال، وذروة آدم التي يبلغ ارتفاعها 2200 متر هي أشهر ذرى سيلان وإن لم تكن أعلاها، ففيها يتبصر الهندوسي الساذج أثر قدم بدهة المقدسة.
وفي الجنوب الغربي من الهند توشي البحر المحيط مئات الجزر المعروفة بجزر لك ديب وجزر مال ديب. وجزر مال ديب هذه هي التي استوقفت النظر فأوحت إلى العلماء كثيرا من الفرضيات، فرأى العالم الشهير داروين أنها شماريخ
Unknown page