ويكفي المرء أن ينظر إلى حدودها؛ ليشعر بنشوء حضارة ثابتة فيها تقريبا، وبهضمها للعناصر الأجنبية التي أغارت عليها، ولا تزال بلاد الهند الأرض المقدسة الحافلة بالأسرار التي حكى عنها شعراؤها الأقدمون، وظلت بلاد الهند الحصن المنيع مع إغراء كنوزها للفاتحين، واقتحام الكثيرين منهم لها في غضون القرون، ومع ما يبدو من سهولة مواصلاتها الحديثة التي زالت بها جميع العوائق، وقربت بها كل المساوف، فلا تجد طريقا مهما يمر من جبال همالية، ولا تجد ميناء سهلا على شواطئها، فبلاد الهند هي، بالحقيقة، أكثر البلاد انغلاقا وأصعبها انفتاحا، ولم يخطر ببال شعب قديم عمرها أن يخرج منها بعد أن استوطنها.
وتلوح بلاد الهند المنعزلة أنها خلاصة العالم بتنوع مناظرها، فللهند كل الأجواء بسبب اتساعها وتفاوت ارتفاع بقاعها الكثيرة، فبينما يكون الحر شديدا إلى الغاية في سواحل ملبار وكورومندل وسهول البنجاب ترى ربيعا ساحرا في رداف الجبال وريحا صرصرا تلطم صرود
2
الشمال العالية وأغطية من الثلوج مشابهة لما في القطبين تستر شواهق همالية، وبينما تجري السيول مسرعة في أوائل يونيو إلى السواحل الجنوبية الغربية فتغمرها وتملأ جداولها ينظر فلاحو أوريسة ووادي السند الذين أعياهم الجفاف إلى سمائهم الصافية الحاقدة ضارعين باحثين في الرمال المحرقة عن أثر الأنهر الكبيرة النافدة.
وتشتمل بلاد الهند ذات المناظر الرائعة والعوارض المختلفة على سهول الغنج الخصيبة القريبة من صحاري تهار الغبر الدكن، وعلى الأودية المنبتة الواقعة بين هضاب الدكن الجرد الجديبة، وعلى ما لا نظير له في الدنيا من الشعاف الهائلة المتصدعة المهيمنة على واحدة كشمير الجميلة المعدودة درة العالم.
ويمكن تفسير تلك الظواهر الطبيعية التي رئي تسميتها بنزوات الطبيعة في الهند بنتوء اليبس وعظم نوفه وبتفاوت توزيع المياه، فقد نجم عن ذينك السببين أن نشأ ألف بلد في بلد واحد، وأن جمعت الأماكن والأجواء في مساوف غير متباعدة بما يزيد عن بضعة كيلو مترات مع انفصال بعض أمثالها عن بعض بألوف الفراسخ في خريطة العالم.
فلذلك نرى أن نعرف، قبل كل شيء، ارتفاعات بلاد الهند، واتجاه مجاريها، وعدد هذه المجاري وقيمتها، وسنضيف إلى ما نعلمه من مسايل بلاد الهند وأنهارها بحثا في توزيع أمطارها ورياحها الموسمية، فلسماء الهند المدرار تقويم خاص ذو نتائج لا تقل أهمية عما يجرى فوق برها.
وبلاد الهند مربعة الأضلاع مقسومة إلى مثلثين متقاربين ذوي قاعدة مشتركة، فقمة المثلث الشمالي هي ذروة جبل ننغا الذي هو من أعظم جبال همالية وقمة المثلث الجنوبي هي دروة جبل كمارى، والخط الذي يعد قاعدة مشتركة لذينك المثلثين هو الوهدة الضيقة العميقة الممتدة من خليج كمبي إلى نهر الغنج فيجري فيها نهر نربدا ونهر سون اللذان يتجه أحدهما إلى الغرب والآخر إلى الشمال الشرقي.
وليس مجريا ذينك النهرين وحدهما ما يحد به ذانك القسمان الطبيعيان لبلاد الهند، بل يفصل بينهما، أيضا، سلسلة جبال وندهيا في شمال تلك الوهدة، وسلسلة جبال سات بورا في جنوبها، فمن ثم تحول ثلاثة حواجز دون غزو الأجنبي للقسم الجنوبي من بلاد الهند برا على الأقل، وسترى أن شواطئ هذا القسم الجنوبي ليست أقل صلاحا للدفاع عن تلك الحواجز الثلاثة.
ويتألف من المثلث الشمالي «الهندوستان الحقيقية»، وورد ذكر هذه الكلمة، التي تعني «بلاد الهندوس»، في أقدم أقاصيص الإغريق.
Unknown page