فإذا حدث ما توقعه الجنرال كننغهم، وذلك ما نكاد نبصره، أصيبت البشرية بخسر لا يعوض منه؛ فالبشرية إذ سلكت سبيلا جديدا بفعل مبتكرات العلوم، وأضحت بذلك قادرة على التعبير عن أفكارها بسرعة عادت لا تحتمل صوغ هذه الأفكار في قوالب حجرية يتطلب صنعها عدة قرون، فلن نقيم من المباني العجيبة كالتي أقيمت في عصور الجاهلية والإيمان، وليس لدينا ما يحفز إلى إقامة إهرام وكنائس غوطية في زمن البخار والكهرباء.
والحكومة الفرنسية إذ أدركت ما لآثار الهند من القيمة الفنية والتاريخية عهدت إلينا في دراسة هذه الآثار حيث هي، فأسفرت بعثتنا عن وضع خمسة مجلدات مشتملة على أربعمائة صورة موضحة، فاقتبسنا بعضها في هذا السفر.
وقد اعتمدنا على دراسة آثار الهند، فنقيم كتاب «تاريخ حضارات الهند» هذا على أساس متين، فقد زرنا جميع مباني الهند المهمة، ومنها ما هو قائم في البقاع التي لم يردها الباحثون إلا قليلا ، كمنطقة نيبال التي لم يدخلها فرنسي قبلنا، فاستطعنا أن نجلو أمورا كثيرة في تاريخ الهندوس الديني وحضارتهم؛ فمن ذلك أننا أثبتنا بما قمنا به من دراسة المباني أن البدهية، التي أراد علماء أوروبا أن يجعلوا منها ديانة بلا إله مستندين في ذلك إلى كتب المذاهب الفلسفية التي وضعت بعد ظهور بدهة بستمائة سنة، هي أكثر الأديان قولا بتعدد الآلهة، وأوضحنا كيف غابت هذه الديانة عن البلد الذي نشأت فيه غيابا لم يجد العلماء له حلا قبلنا.
واستعنا في هذا الكتاب بالأصول التي اهتدينا إليها في كتبنا السابقة، ولا سيما كتاب «حضارة العرب»، فعولنا على محكم الأسانيد، وعرضنا تطورات النظم الدينية والاجتماعية وعوامل هذه التطورات، وبحثنا في الحوادث التاريخية كما يبحث في الحادثات الطبيعية، ودرسنا المذاهب بحذر؛ فكان لنا بذلك كله نهج خاص.
وبتلك الأصول تمكنا من الوصول إلى ما في مبادئ الهند الفلسفية والدينية والاجتماعية المعقدة من المعاني البعيدة الغور، وإلى إظهار ما للآلهة القديمة الآفلة من الجبروت والتقديس. •••
وللفرنسيين فائدة عملية واضحة من الاطلاع على أحوال الهند الحاضرة، فضلا عن الفوائد التاريخية والفلسفية والفنية التي تجتنى من دراسة ماضيها، فمن المهم أن يعرف في هذا الزمن، الذي يتحدث الناس فيه عن الاستعمار، كيف استطاعت أمة أوربية أن تسيطر بألف موظف وستين ألف جندي على إمبراطورية مؤلفة من 250 مليون شخص، وقد أتيح لي بما اتفق لي من الصلات بأكابر موظفي الإنجليز في أثناء إقامتي بالهند، أن أطلع على دقائق إدارة الهند العجيبة التي لا تعرف أوروبا عنها إلا قليلا.
وهنالك أسباب أهم من تلك على ما يحتمل، تدعو إلى البحث في شئون الهند الحديثة؛ فقد اقتربت الساعة التي يتقابل فيها الشرق والغرب بفعل الكهرباء والبخار، والشرق والغرب ما تعلم من وجود هوى عميقة بينهما في الحياة والتفكير حتى الزمن الحالي، ودنا الغرب وحضارته من دور الخطر في الصراع الهائل الذي سيقع في عالم الصناعة المهلك، لا في ميادين القتال، بين أمم متساوية في كفاءاتها المتوسطة، متفاوتة في احتياجاتها تفاوتا عظيما ، فيحيق الخطر فيه بالغرب، وإن شئت فقل بالحضارة، فما هي نتائج هذا الصراع؟ وإلى أي مدى نداوم على منح أمم الشرق من الأسلحة المادية والثقافية ما ستصوبه إلينا؟ لمثل هذه المسائل من الأهمية ما لا يجوز أن نسكت عنه في هذا الكتاب.
فتاريخ حضارات الهند، إذن، ليس قصصا لماض أدبر إلى الأبد، بل هو تاريخ ينطوي، أيضا، على مجهولات هائلة.
ولم يخل من نقص هذا الكتاب الذي هو بدع في درس حضارات الهند درسا شاملا، وسنبلغ به، مع ذلك، الهدف ما رسمنا صورة ناطقة للأطوار المتتابعة والأجيال المتعاقبة التي اعتورت المجتمع الهندوسي الذي لا تزال حضاراته القديمة قائمة منذ ثلاثة آلاف سنة وما بينا ما يكون لمقادير هذا المجتمع من أثر كبير في مستقبل العالم.
أجل، لقد بعثنا تلك الأجيال الغابرة بما انتهى إلينا من الكتابات والنقوش والرسوم، وبعرض صور لبعض آثار تلك البلاد الهائلة التي هي منبت كثير من المدنيات والمعتقدات مستعينين بالقلم والريشة، ولكن أية ريشة أو أي قلم رصاصي يستطيع أن يخبرنا بجمال تلك البلاد القاصية التي يشعر السائح الأوربي عند دخولها بأنه انتقل إلى عالم جديد عجيب في أرضه وسمائه ونباته وحيوانه؟ وكيف يمكن وصف تلك الديار الساحرة التي أقامت الجبال الشاهقة الجبارة حولها نطاقا أبديا من الثلوج، أو وصف تلك المدن الخامدة الواسعة سعة عواصم أوروبا، والتي توحي معابدها الرائعة وقصورها المهجورة البادية من خلال الخمائل إلى السائح أنه أصبح في مدن الغيلان التي لعنها من في السماء؟ وما هو السبيل إلى عرض ما تؤثر به في النفس تلك المعابد الحافلة بالأسرار، والداخلة أعماق الجبال، والمشتملة على ألوف الأصنام الحجرية التي تظهر للأعين على نور المشاعل فيخيل إلى الناظرين أنها عبيد خرس لرب الأموات؟ يكاد قلم الرسام الماهر ينقل إلينا جلال تلك القصور الرخامية الهائلة المرصعة بالحجارة الكريمة والمشرفة على أسوار من الغرانيت الأحمر كالدم القاني؛ فتبدو صاعدة في سماء لا يحجب زرقها سحاب.
Unknown page