بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذاكر من ذكره، المغدق سحائب النوال على من شكره، المانع شآبيب رحمته عمن كفره، المخصص بتقريبه من أقر بوحدانيته وألقى لأدلتها فكره، وأشكره على ما من به من النعم، وكفه من أكف النقم، وأشهد أن لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وذخرنا وملاذنا محمدًا عبده ورسوله، خير من نبأه، وأشرف من أرسله ﷺ وزاده فضلًا وشرفًا لديه، وعلى آله وصحبه، وتابعيه وحزبه، صلاةً وسلامًا دائمين دوام فيض المتواتر، متكاثرين تكاثر النعم التي عمت البادي والحاضر. "وبعد" فيقول فقير رحمة ربه، الهارب من سوء فعله وقبيح ذنبه، المتوسل بأشرف الأنبياء إليه أن يجعله من حزبه، ويمن عليه برضاه وقربه، محمد علي بن محمد علان، البكري الصديقي الشافعي، خادم الأحاديث النبوية، والآثار السنية، بمكة المشرفة البهية، غفر الله لهما ولسائر المسلمين، وكان لهما ولهم في كل وقت وحين، وتوفاه على الإسلام، وأدخلهم الجنة يوم القيامة آمين: أن الكتاب المسمى "بحلية الأبرار، وشعار الأخيار، في تلخيص الدعوات والأذكار" تأليف حبر الأمة وعالمها، وشيخ الشريعة وحاكمها، وناصر السنة النبوية، وقامع البدعة غير المرضية، محرر مذهب الشافعي الإمام ومذهب إشكال ما أشكل من الأحكام، المتفق على جلالته، وعلو رتبته وولايته، وارتقاء مكانته، "الشيخ محيي الدين أبي زكريا يحيى النواوي الشافعي" تغمده الله برحمته، وأنزله دار كرامته، وأعلى نزله
1 / 3
ببحبوح جنته، وأعاد عليّ وعلى أحبائي وعلى المسلمين من بركته، كتاب عظيم المقدار، سامي الفخار، ذكر مؤلفه بذلًا للنصيحة لا من باب الافتخار أنه لا يستغني عنه طالبو الآخرة الأخيار، وقال غيره من العلماء الذين عليهم المدار "بع الدار واشتر الأذكار" وقال غيره من السادة الخيار "ليس يذكر من لم يقرأ الأذكار" وهو كاف للمريد في حاله، وصل له إلى نهاية مطلوبه وغاية آماله، لاشتماله مع الأذكار، على حلية الأولياء وكثير من شعار الأخيار، ولذا علق عليه أهالي الصلاح، وشرب من سلسبيل زلاله أرباب الفلاح، ولم أر من كتب عليه ما يحتاجه الطالب، من كثير المطالب، من تفسير غريب زائد على ما أودعه المصنف فيه، وتبيين الراجح في مسائل يحتاج لتحرير حكمها الفقيه، وذكر أسرار بعض الأذكار، وتبيين ما انكمن من الجواهر في تلك البحار، فأحببت أن أجمع جانبًا من ذلك في هذا الكتاب، يكون على سبيل التقريب لذوي الألباب، سالمًا عن الإيجاز المخل، والإطناب الممل، رجاء عموم النفع به إن شاء الله تعالى لكل طالب، وإسعافه بأنواع المطالب، وقد اختصره غير واحد من العلماء الأعلام، فاختصره ابن رسلان والحجازي، وحافظ عصره الجلال السيوطي، وشيخ قطره بحرق الحضرمي، وغيرهم وأملى
عليه الحافظ النحرير، والإمام النافذ الحجة الحاكم الخبير، أمير المؤمنين في الحديث، المتفق على تقدمه في القديم والحديث "شهاب الدين أحمد بن علي بن حجر العسقلاني" أمالي استخرج فيها أحاديثه، وبين مرتبة أحاديث الكتاب من صحة أو حسن أو ضعف أو اضطراب، ومات قبل إكمالها وأملى متممًا لذلك تلميذه الحافظ السخاوي، وتوفي قبل الإكمال أيضًا، ومجموع الأمالي في نحو ثلاث مجلدات، وهذا المعنى إنما ينتفع به ذو الشأن من المحدثين أصحاب المعرفة والإتقان لما فيه من بيان ما يتعلق بالمتن من بيان مبهم وزيادة جملة وإيضاح مشكل وتفضيل مجمل،
1 / 4
وما يتعلق بالسند من انقطاع واتصال وإرسال ولذا اعتنى به المتقنون من المحدثين أتم الاعتناء وجعلوه أعلى أنواع التحمل، كما قال بعضهم بذلك معلنًا:
بادر على كتاب الأمالي جاهدًا ... من ألسن الحفاظ والفضلاء
فأجل أنواع الحديث بأسرها ... ما يكتب الإنسان في إملاء
وبيّن سببه الحافظ ابن حجر بقوله:
إن في الأمالي من مزيد الضبط ما ... لم يخف إلا عن أخي عمياء
فالشيخ قد يسهو متى يسرد كذا الـ ... ـقارئ وإن كانا من النبهاء
وقد تقاصرت الهمم عن هذا المقام، وتقاعدت طلبة الطلبة عن طلب هذا المرام، مع أني لا أغفل شيئًا مما فيه مما يحتاج إليه من ذكر المخرجين للحديث وبيان مرتبته، وأعرضت عن التطويل بذكر الأسانيد، وإن كانت لأرباب الحديث ألذ مشتهى وأحلى من الفانيذ، على أن الكتاب موضوع للعموم، مقصود لاشتراك الخواص وغيرهم في فهم ما له من منطوق ومفهوم، فاستخرت الله الذي ما خاب من استخاره، واستجرت بحبله المتين وهو لا يضيم جاره، في وضع هذا التعليق، ليكون كالمعين لمطالعيه من أرباب التوفيق، سالكًا فيه طريقًا سالمة من الإيجاز والإطناب، تاركًا للكثير مما يحصل به الملل والإسهاب متكلمًا على ما يحتاج للكلام، ساكنًا عن الواضح البين للإفهام. ناقلًا لجواهر درره من معادنها، مبرزًا لخبايا عرائسه من مكامنها، ليس فيه سوى التقريب، والله المرجو في النفع به وقبوله أنه المجيب القريب، وسميته الفتوحات الربانية على الأذكار النواوية" جعله الله بمنه مقبولًا، وبالقبول والنفع مشمولًا، سببًا للنجاة من هول يوم القيامة، وذخيرة معدة عند سيدنا محمد المظلل بالغمامة، عليه أفضل الصلاة والسلام والتحية والسلامة، وأحبولة لنيل فضله والكرامة والله الكرام يعطي إن شاء لكل عبد من فضله مرامه. وهو حسبي ونعم الوكيل.
1 / 5
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لِلهِ الواحدِ القَهَّارِ، العزيزِ الغفار، مقدرِ الأقدار، مصرفِ الأمور، مكوِّرِ الليل على النهار، تبصِرةَ
ــ
قوله: (الحمد لله) سيأتي الكلام على الحمد في بابه إن شاء الله تعالى. قول: (القهار) ذكره عقب الواحد المستلزم له لأن مقام الخطبة مقام إطناب، وتنبيهًا على علو مقام الرهبة المنبئ عن أوصاف الجلال، المبني عليه كل شرف وكمال. قوله: (مقدر الأقدار) يصح فيه النصب على الحالية ولا يمنع منها إضافته بناء على جعلها لفظية، واسم الفاعل فيها للتجدد والحدوث، والجر على الوصفية، ويقدر الوصف فيه للثبوت والاستمرار فتكون الإضافة معنوية، أو على البدلية سواء كانت الإضافة لفظية أو معنوية، والأقدار جمع واحده قدر، وهو بفتح الدال مصدر قدر يقدر قدرًا، وقد يسكن، عبارة عما قضاه الله وحكم به من الأمور، كذا في النهاية لابن الأثير. قول: (مكور الليل إلخ) في مفردات الراغب كور الشيء إدارته وضم بعضه إلى بعض ككور العمامة.
وقوله: " ﴿يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ﴾ [الزمر: ٥] الآية" إشارة إلى جريان الشمس في مطالعها وانتقاص الليل والنهار وازديادهما. اهـ. وفي تفسير الواحدي ﴿يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ﴾ يدخل هذا على هذا، والتكوير هو طرح الشيء بعضه على بعض اهـ، وفي عبارة المصنف اقتباس كما لا يخفى على الأكياس، اكتفى بذكر تكوير الليل على النهار عن مقابله وإنما اقتصر عليه لأن الليل لخلوته وخلوه عن الاشتغال محل الاشتغال بالذكر والطاعة في الأقوال والأفعال فلذا عمم طلب الذكر في جميع أوقاته ولا كذلك النهار في قوله: ﴿وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ﴾ [طه: - ١٣٠]. ولذا فضل النفل المطلق فيه على نفل النهار وسيأتي لهذا مزيد. قوله: (تبصرة) أي تبصيرًا وتبيينًا وهما مصدرا بصر، المضعف
1 / 6
لذوي القلوب والأبصار، الذي أيقظ مِنْ خلقه مَن اصطفاه فأدخله في جملة
ــ
يقال: في مصدره تبصيرًا وتبصرة كقدم تقدمة وتقديمًا ثم هو مفعول أو حال. قول: (لأولي) أي أصحاب وهو اسم جمع واحد ذو بمعنى صاحب وكتبت الواو بعد الهمزة فيه حال النصب والجر لئلا تشتبه بألى الجارة وحال الرفع طردًا للباب. قول: (والأبصار) جمع بصر في مفردات الراغب البصر يقال للجارحة الناظرة وللقوة التي فيها ولقوة القلب المدركة ويقال لها بالمعنى الأخير بصيرة أيضًا اهـ، وعلى الأولين فالعطف على القلوب من عطف المغاير وكذا على الأخير وليس من عطف الرديف لأن البصر اسم لقوة القلب المدركة لا للقلب وأتى به دون البصائر للإيهام المذكور وللسجع المستلذ في السمع. قوله: (الذي أيقظ) إن أعرب "مقدر" بدلًا فيجوز أن يكون الموصول بدلًا أيضًا فيكون مجرور المحل، وأن يكون خبرًا لمبتدأ محذوف فيكون مرفوعه ولا يجوز اعرابه حينئذٍ نعتًا لأن البدل إذا اجتمع مع النعت تعين تأخيره عنه، وإن أعرب مقدر نعتًا وجعلت إضافته معنوية أو حالًا وإضافته لفظية لما تقدم جاز إعراب الموصول وصفًا أو بدلًا أو خبر مبتدأ
محذوف، وفي النهاية اليقظة أي بفتح القاف والاستيقاظ الانتباه من النوم، ورجل يقظ ويقظ ويقظان إذا كان فيه معرفة وفطنة اهـ، والمراد هنا أيقظهم من سنة الغفلات ففي الفقرة استعارة مكنية، يتبعها استعارة تخييلية، شبه الغفلة بالنوم بجامع انتفاء كل منهما كما ورد في الحديث "مثل الذي يذكر الله والذي لا يذكر الله مثل الحي والميت" فالتشبيه المضمر في النفس استعارة مكنية وإثبات الإيقاظ الذي هو من لوازم المشبه به استعارة تخييلية. قوله: (اصطفاه) أي اجتباه وإفراد الضمير فيه وفيما بعده اعتبارًا بلفظ من.
1 / 7
الأخيار، ووفَّق من اجتباه من عبيده فجعله من الأبرار، وبصَّر من أحبه
ــ
والاصطفاء أخذ الصفوة والصفوة بتثليث الصاد، والأصل اصتفاه فقلبت التاء طاء لوقوعها بعد حرف الصفير. قوله: (الأخيار) جمع خير، وخير مخفف خير كميت وميت، وجوز الهمداني كونه جمع خير وفي إعراب السمين أمواتًا جمع ميت وقياسه على فعائل كسيد وسيائد والأولى أن يكون أموات جمع ميت مخففًا كالأقوال في جمع قيل اهـ، وتعقبه شيخي العلامة عبد الله العصامي في منهوات شرح الشذور له بأن حكمه بأن الأولى كونه جمع ميت، فيه نظر لأن أفعالًا إنما تنقاس جمعيته لما كان ثلاثيًا وإذا كان ميت مخفف ميت فهو رباعي لا محالة فيكون جمع ميت على خلاف القياس اهـ، وظاهر أن جميع ما ذكره يأتي في كونه جمع خير مخفف خير. قوله: (من عبيده) جمع عبد وسيأتي معناه وله عشرون جمعًا جمع منها ابن مالك أحد عشر في بيتين وكملها الجلال السيوطي في بيتين آخرين فقال ابن مالك:
عباد عبيد جمع عبد وعبد ... أعابد معبوداء معبدة عبد
كذلك عبدان وعبدان أثبتا ... كذاك العبدي وامدد إن شئت أن تمد
وقال السيوطي:
وقد زيد أعباد عبود وعبدة ... وخفف بفتح والعبدان أن تشد
وأعبد عبدون وتمت بعدها ... عبيدون معبودا بقصر فخذ تسد
قوله: (الأبرار) جمع بار يقال برّ في يمينه فهو بار وبرّ أبلغ من بار كعدل وعادل وفي النهاية البر في حق الوالدين والأقربين من الأهل ضد العقوق وهو الإساءة إليهم وتضييع حقوقهم يقال بر يبر فهو بار وجمعه بررة وجمع البر أبرار وهو كثيرًا ما يخص بالأولياء والزهاد والعباد اهـ. قوله: (أحبه) لمحبة
1 / 8
فزهَّدهم في هذه الدار، فاجتهدوا في
ــ
لاستحالة قيام حقيقتها من الميل النفساني بالباري ﷾ المراد بها هنا غايتها من إرادة الثواب فتكون صفة ذات، أو الإثابة فتكون صفة فعل وقال القشيري في الرسالة محبة الله للعبد إرادته لإنعام مخصوص على العبد كما أن رحمته لو إرادة الإنعام عليه فالرحمة أخص من الإرادة والمحبة أخص من الرحمة، فإرادة الله تعالى أن يوصل العبد الثواب والإنعام تسمى رحمة وإرادته لأن يخصه بالقربة والأحوال العلية تسمى محبة وإرادته تعالى صفة واحدة، بحسب تفاوت متعلقاتها تختلف أسماؤها فإذا تعلقت بالعقوبة تسمى سخطًا وإذا تعلقت بعموم النعم تسمى رحمة وإذا تعلقت بخصوصها تسمى محبة وقوم قالوا محبة الله تعالى للعبد مدحه له وثناؤه عليه بجميل فيعود معنى محبته له على هذا القول إلى كلامه، وكلامه قديم. وقال قوم محبته للعبد من صفات فعله فهو
إحسان مخصوص يلقى الله العبد به ويرقيه، وقوم من السلف قالوا محبة الله من صفات الخيرية، فأطلقوا هذا اللفظ فوقفوا عن التفسير، قال الشيخ زكريا في شرحه فهذه أربعة أقوال ترجع إلى قولين لرجوع الفعل إلى الإرادة والخيرية إلى الكلام اهـ، وإفراد الضمير في أكثر النسخ باعتبار لفظ من وجمعها في نسخة باعتبار معنى من. قوله: (فزهدهم إلخ) الزهد شرعًا أخذ قدر الضرورة من الحلال المتيقن الحل وهو أخص من الورع اذ هو ترك المشتبه وهذا زهد العارفين وإليه أشار بقوله فزهدهم في هذه الدار وإلى هذا المعنى أشار من قال:
إن لله عبادًا فطنًا ... طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلما علموا ... أنها ليست لحي وطنا
جعلوها لجة واتخذوا ... صالح الأعمال فيها سفنا
وأعلى منه زهد المقربين وهو الزهد فيما سوى الله تعالى من جنة وحال
1 / 9
مرضاته والتأهُّب لدار القرار، واجتنابِ ما يسخطه والحذر من عذاب النار، وأخذوا أنفسهم بالجد في طاعاته وملازمةِ ذِكْره بالعشيِّ والإبكار، وعند تغاير الأحوال وجميع آناء الليل
ــ
ومقام. وليس لصاحب هذا المقال مرام إلا الوصول إليه والقرب منه تعالى والزهد في الدنيا باحتقار جميع شأنها لتصفير الله إياها وتحقيره لها. قوله: (مرضاته) مصدر ميمي أي رضاه، ورضا الله عن العبد قال الراغب هو أن يراه مؤتمرًا بأمره منتهيًا عن نهيه. قوله: (ما يسخطه إلخ) السخط من الله تعالى إنزال العقوبة كما في مفردات الراغب وفي أمالي ابن عبد السلام غضب الله فيه ثلاث مذاهب قال الشيخ أبو الحسن الأشعري هو صفة ذات وعبّر به عن الإرادة وقال القاضي هو صفة فعل وعبر به عن معاداة الغاضب لمن غضب عليه وقال غيرهما هو صفة ذات وعبر به عن سب الله لأعدائه في كتابه فيكون عائدًا إلى صفة الكلام ويجوز فيه كنظائره فتح أوليه وضم أوله وسكون ثانيه. قوله: (والحذر) معطوف إما على مرضاته وهو أولى لسبقه أو على اجتناب لقربه والاجتهاد في الحذر من عذابه بمجانبة الأفعال المؤدية إليه. قوله: (بالجد) بكسر الجيم أي الاجتهاد. قوله: (طاعاته) جمع طاعة وهي امتثال الأوامر واجتناب النواهي وسيأتي الفرق بينها وبين القربة والعبادة. قوله: (بالعشي) هو من زوال الشمس إلى الصباح والبكرة أول النهار كذا في مفردات الراغب وفي النهاية لابن الأثير العشي من الزوال إلى المغرب وقيل إلى الصباح اهـ، ثم في هذه الفقرة إن أجريت على ظاهرها اقتباس من حديث "يقول الله تعالى اذكرني من أول النهار ساعة ومن آخره ساعة أكفك ما بينهما" ويجوز أن يكون كناية عن الاستيعاب وشمول سائر الأزمنة. قوله: (تغاير الأحوال) أي اختلافها. قوله: (وجميع آناء الليل) أي وجميع ساعاته ومفرده إني كمعي كما في النهر لأبي حيان وأناء بفتح الهمزة والمد كما في البيضاوي وإني وإنو ففي واحدة أربعة
1 / 10
وأطراف والنهار، فاستنارت قلوبهم بلوامع الأنوار.
أحمده أبلغ الحمد على جميع نِعَمه، وأسأله المزيد من فضله وكرمه، وأشهد أن لا إله إلا الله العظيم، الواحد الصمد العزيز الحكيم، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله،
ــ
أقوال وقد حكاها الواحدي. قوله: (وأطراف النهار) أي جوانبه قال الواحدي في قوله تعالى: (وَسَبح بِحَمدِ رَبِّكَ) أي صل لله بالحمد له والثناء عليه (﴿قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) يريد الفجر (وَقَبلَ غُرُوبِهَا) يعني العصر (وَمنءَانَآيِ الليلِ) ساعاته قال ابن عباس يريد أول الليل
المغرب والعشاء ﴿وَأَطرَافَ النَّهارِ﴾ قال بريد الظهر وسمي وقت صلاة الظهر أطراف النهار لأن وقته عند الزوال وهو طرف النصف الأول وطرف النصف الثاني اهـ، ثم تعبير المصنف بما عبر به إيماء إلى أنه ينبغي استغراقه جميع الليل وطرفي النهار بالذكر وذلك لأن في النهار زمن الاشتغال بأحوال المعاش، واستغراقه بالأعمال ربما يكون سببًا لفوات ذلك وقد يترتب عليه ضياع الأهل والعيال المنهي عنه في قوله ﷺ "كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يعول" ويصح أن يراد بأطراف النهار جميع أزمنته فكثيرًا ما يعبر بالبعض عن الكل وكثيرًا ما يأتون بعبارة ليست صريحة في التعميم وهو مرادهم بها لكثرة الاستعمال كأعطيت القوم عن آخرهم أي عممتهم بالعطاء وعليه فالمراد جميع ذلك على قدر الاستعداد وحسب الطاقة وفي الفقرة اقتباس. قوله: (بلوامع الأنوار) يقال لمع البرق كسطع أضاء وهذا من إضافة الوصف للموصوف أي الأنوار اللوامع وهو جائز عند الكوفيين ولا بد من تأويله عند البصريين. قوله: (عبده) العبد والعبدل لغة الإنسان وشرعًا المكلف ولو حرًا وهو أسنى أوصاف الإنسان ولذا نعت ﷺ في أشرف المقامات في القرآن قال بعض العلماء وقال بعضهم العبد يقال عليّ أضرب: عبد بحكم الشرع وهو الإنسان الذي يصح بيعه وابتياعه. وعبد بالإيجاد وذلك ليس إلَّا لله تعالى ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ
1 / 11
وصفيه وحبيبه وخليله،
ــ
وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (٩٣)﴾ [مريم: ٩٣ - ٩٣] وعبد بالعبادة وهو المقصود بقوله تعالى ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ﴾ [ص: ٤١] ومنه: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ﴾ [الإسراء: ١]، وعبد الدنيا وأعراضها وهو المعتكف على خدمتها ومراعاتها وإياه قصد النبي ﷺ بقوله تعس عبد الدينار والعبودية إظهار التذلل والعبادة أبلغ منها لأنها غاية التذلل ولا يستحقها إلَّا من له غاية الإفضال وسيأتي لهذا المقام مزيد. قوله: (وصفيه) في النهاية صفى الرجل الذي يصافيه الود يخلصه له فعيل بمعنى فاعل أو مفعول. قوله: (وحبيبه) أي حبيبه الأكبر إذ محبة الله للعبد المستفادة من قوله تعالى: (﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ [المائدة: ٥٤] على حسب معرفته به، وأعرف الناس بالله نبينا فهو أحبهم له وأحقهم باسم الحبيب. وتقدم معنى المحبة من الله وحبيب فعيل من أحب فهو محب أو من حب يحب فهو حبيب. قوله: (وخليله) الخليل الصديق فعيل بمعنى فاعل وقد يكون بمعنى مفعول من الخلة بضم أوله الصداقة والمحبة التي تخللت القلب فصارت في خلاله أي باطنه وقيل هي تخلل مودة في القلب لا تدع فيه خلاء إلاّ ملأته أو من الخلة بالفتح الحاجة والفقر كذا يستفاد من النهاية لابن الأثير. وفي شرح الأربعين لابن حجر الهيتمي وخليله الأعظم بمعنى مفعول وكان الاقتصار عليه لكونه أنسب بمقام الأدب وأشرف بكونه ذا الخلة التي هي نهاية الأرب وهل مقام المحبة أرجح من مقام الخلة كما يؤذن به الاهتمام بتقديمه وعليه العارف ابن أبي جمرة في حديث الإسراء في كتابه بهجة النفوس وتحليها أو بالعكس ورجحه ابن القيم فقال: وظن أن المحبة أرفع وأن ابراهيم خليل وأن محمدًا حبيب غلط وجهل وما استدل به لتفضيل المحبة إنما يقتضي تفضيل ذات محمد على ذات إبراهيم ﷺ وهذا لا نزاع فيه إنما النزاع في الأفضلية المستندة إلى أحد الوصفين والذي قامت عليه الأدلة
استنادها إلى وصف الخلة الموجودة في
1 / 12
أفضل المخلوقين، وأكرم السابقين واللاحقين، صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين
ــ
كل من الخليلين فخلة كل منهما أفضل من محبته واختصابها لتوفر معناها السابق فيهما أكثر من بقية الأنبياء ولكون هذا التوفر في نبينا أكثر كانت خلته أرفع من خلة إبراهيم ﷺ قوله: (أفضل المخلوقين) أي حتى من الملائكة على المختار والنهي عن تفضيله ﷺ على الأنبياء محمول على التفضيل في نفس النبوة للتساوي فيها أو على تفضيل يؤدي إلى تنقيص لأحد منهم لحرمته بل لأنه يؤدي للكفر أو أنه قاله قبل علمه فلما أخبر به قال أنا سيد ولد آدم وعدل إليه عن أنا سيد آدم وولده إما تأدبًا معه أو لحصول المقصود من سيادته عليه مما قاله لأنه إذا ساد جميع أولاده ومنهم إبراهيم الأفضل من آدم فسيادته عليه بالأولى، والله أعلم. وضعف بأن راوي خبر النهي أبو هريرة متأخر الإسلام جدًا فيبعد عدم الاطلاع وعن تفضيله على يونس نفيًا للجهة لئلا يتوهم من ارتقائه ﷺ إلى أعلى المنازل مقام قاب قوسين أو أدنى أنه أقرب إلى الله تعالى من يونس الذي التقمه الحوت ونزل به في قعر البحر بل هما متساويان في القرب من الله تعالى بعلمه إذ القرب أو البعد المكاني من أوصاف الأجسام تنزه سبحانه عن ذلك أشار إليه إمام الحرمين ولم يخبر بهذا المنزع اللطيف حاضري مجلسه حتى التزم واحد لضيفه بألف دينار، فانظر همة هؤلاء الطلبة الأخيار وقد نقل ذلك القرطبي في تذكرته. قوله: (وأكرم السابقين) أي من تقدم حتى الأنبياء والرسل المفضلين على خواص الملك المختار في الأصول واللاحقين وأتى به مع لزوم ما قبله له لأن المقام مقام إطناب. قوله: (والمرسلين) عطف على ما قبله من عطف الرديف إن كان الرسول والنبي بمعنى كما قيل به ومن عطف الخاص على العام إن كان الرسول أخص كما هو المشهور وفيه الصلاة على الأنبياء
1 / 13
وآل كل وسائر الصالحين.
أما بعد: فقد قال الله العظيم العزيز الحكيم: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ [البقرة: ١٥٢]-
ــ
وقد ورد "صلوا على أنبياء الله ورسله فإنهم بعثوا كما بعثت" أخرجه الطبراني وغيره. قوله: (وآل كل) عدل عن إضافته إلى الضمير المشهور إلى الإضافة إلى الاسم المظهر، لأنها الأحسن كما نبه عليه البهاء السبكي في عروس الأفراح وكونه جرى على مذهب الزبيدي من منع ذلك بعيد يأباه سعة اطلاع المصنف على شواهده ومنها قول عبد المطلب:
وانصر على آل الصليـ ... ـب وعابديه اليوم آلك
والآل الذين يحرم عليهم الصدقة ولهم خمس الخمس، مؤمنو بني هاشم والمطلب والأقرب إن المراد هنا ما اختاره جمع من المحققين ومنهم المصنف في شرح مسلم وقال الأزهري إنه أقرب إلى الصواب جميع الأمة وقيده القاضي حسين وغيره بالاتقياء منهم واستندوا إلى حديث ابن عباس مرفوعًا "آل محمد كل مؤمن تقي" أخرجه الطبراني بسند واهٍ جدًا وأخرج البيهقي نحوه عن جابر من قوله وسنده ضعيف وهذا المعنى الأخير أنسب بمقام الدعاء لأنه كلما كان الدعاء أعم كان أتم ويدخل فيه حينئذٍ الصحابة الكرام والتابعون بإحسان على الدوام ثم الصحيح أن أصل آل أول تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا وقيل غير ذلك. قوله: (وسائر الصالحين) أي باقيهم فعطفه على ما قبله من عطف المغاير أو جميعهم فيكون من عطف العام إن أريد بالآل من يحرم عليهم الصدقة الواجبة أو من عطف الخاص على العام أن أريد من الآل المعنى العام أي جميع الأمة وأريد بالصالحين القائمون بما عليهم من حق الله وحق العباد ومن عطف المرادف إن أريد بالصالحين مطلق المؤمنين المعبر
عنهم فبما سبق بالأمة أي أمة الإجابة ويقربه عموم الدعاء عليه ويبعده سياق المقام وقرنه مع الآل الكرام.
قوله: (﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾) قال الواحدي قال ابن عباس وسعيد بن جبير
1 / 14
وقال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦]
ــ
اذكروني بطاعتي أذكركم بمغفرتي روي أن عبد الملك كتب إلى سعيد بن جبير في مسائل فقال في جوابها: وتسأل عن الذكر فالذكر طاعة الله فمن أطاع الله فقد ذكر الله ومن لم يطعه فليس بذاكر وإن أكثر التسبيح وتلاوة القرآن وتسأل عن قوله تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ [البقرة: ١٥٢] فإن ذلك إن الله تعالى يقول "اذكروني بطاعتكم أذكركم بمغفرتي" ويشهد لصحة هذا حديث خالد بن عمران قال: قال رسول الله ﷺ "من أطاع الله فقد ذكر الله وإن قلت صلاته وصيامه وتلاوته القرآن ومن عصى الله فقد نسي الله وإن كثرت صلاته وصيامه وتلاوته القرآن" اهـ، وبمعناه حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ "يقول الله ﷿ أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه" وسئل الحافظ ابن حجر عن معنى هذا الخير فأجاب معنى الخير في الحديث تفضيل الجمع الذي يذكر الله ﷾ عبده فيهم على الجمع الذي يذكر العبد ربه فيه أي جمع كان ولا حجة فيه لمن فضل الملائكة على الأنبياء لأنه ليس المراد والله أعلم تفضيل الملأ والمذكور على الملأ والذاكر وحينئذ فالأفضلية للمجموع على المجموع وبهذا يزول الإشكال ولا يلزم منه ما تخيله المستدل به على تفضيل غير الأنبياء. قوله: (وقال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦)﴾ [الذاريات: ٥٦] أي معدين ليعبدون وكأن الآية تعديد نعمه أي خلقت لهم حواس وعقولًا وأجسامًا منقادة نحو العبادة كما يقال هذا مخلوق لكذا وإن لم يصدر منه الذي خلق له كذا في النهر لأبي حيان وفي الكشاف إن قلت لو كان الله تعالى مريدًا للعبادة لكانوا كلهم عبيدًا قلت إنما أراد منهم أن يعبدوا مختارين للعبادة لا مضطرين إليها اهـ. قال ابن بنت المياق وهذه عادته
1 / 15
فعلم بهذا أن من أفضل -أو أفضل-
ــ
يعني الزمخشري إذا رأى ظاهرًا يوافق مذهبه أورد مذهب أهل السنة سؤالًا ومذهبه جوابًا وما أجاب به غير صحيح بل الآية دليل أهل السنة لكونها سيقت في مساق تعظيمه تعالى وأن شأنه مع عبيده لا يقاس بغيره فإن العبيد في العرف قسمان منهم من يقنيه سيده للانتفاع به ومنهم من يكون للتبجيل والتعظيم كمماليك الملوك، والعباد بالنسبة إليه تعالى من القسم الثاني فلا تتركوا عبادته وتعظيمه لأن نفعها عائد إليهم. قيل والعبادة المرادة من الآية التعظيم لله والشفقة على خلقه لاتفاق سائر الشرائع على ذلك بخلاف خصوص العبادات فالشرائع مختلفة فيها ولما كان التعظيم اللائق بجلال الله تعالى لا يعلم عقلا لزم متابعة الشرع والأخذ بقول الرسول اهـ، وقيل معنى ليعبدون ليعرفون قال ابن عباس كل عبادة في القرآن فهي بمعنى العرفان وهل الخطاب للخصوص أو للعموم خلاف عند المفسرين وأيّد بعضهم هذا التفسير بحديث "كنت كنزًا مخفيًا لم أعرف فأحببت أن أعرف" أي ما خلقت الثقلين إلَّا لأظهر عليهم صفاتي وكمالاتي فيعرفوني فيعبدوني لأن العبادة لله المعرفة ومن لم يعرفه لم يعبده وروي عن علي لم أعبد ربًا لم أعرفه اهـ، والخبر المرفوع موضوع. والمراد المعرفة التي تليق بحال الإنسان لا
معرفة حقيقته تعالى على ما هو عليه فإن ذلك في الدنيا محال اتفاقًا وفي إمكانه في الآخرة خلاف، الراجح عدمه ولا يلزم ذلك من كونه تعالى يرى في الآخرة إذ الرؤية لا تستلزم الإحاطة قال تعالى ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ [الأنعام: ١٠٣] أي لا تحيط به إذ الإحاطة من أوصاف الحوادث تعالى عن ذلك. قوله: (أو أفضل) الظاهر أن أو فيه بمعنى بل إذ لا شبهة أن الذكر سيما إن فسر بالمعنى الشامل لسائر العبادات أفضل أحوال الإنسان، ثم هذه الأفضلية للذكر المأثور كما قال "في الأذكار الواردة عن سيد
1 / 16
حال العبد، ذِكْرُه لرب العالمين، واشتغاله بالأذكار الواردة عن رسول الله ﷺ
ــ
المرسلين، قال القاضي عياض أذن الله في دعائه وعلم الدعاء في كتابه لخليقته وعلم النبي ﷺ الدعاء لأمته واجتمعت فيه ثلاثة أشياء العلم بالتوحيد والعلم باللغة والنصيحة للأمة فلا ينبغي لأحد أن يعدل عن دعائه ﷺ وقد احتال الشيطان للناس من هذا المقام فقيض لهم قوم سوء يخترعون لهم أدعية يشتغلون بها عن الاقتداء بالنبي ﷺ وأشد ما في الحال أنهم ينسبونها إلى الأنبياء والصالحين فيقولون دعاء نوح دعاء يونس دعاء أبي بكر الصديق فاتقوا الله في أنفسكم لا تشتغلوا من الحديث إلَّا بالصحيح اهـ، وقال الإمام أبو بكر محمد بن الوليد الطرسوسي في كتاب الأدعية، ومن العجب العجاب أن تعرض عن الدعوات التي ذكرها الله في كتابه عن الأنبياء والأولياء والأصفياء مقرونة بالإجابة ثم تنتقي ألفاظ الشعراء والكتّاب كأنك قد دعوت في زعمك بجميع دعواتهم ثم استعنت بدعوات من سواهم وعن المصنف أن أوارد المشايخ وأحزابهم لا بأس بالاشتغال بها غير أن الخير والفضل إنما هو في اتباع المأثور في الكتاب والسنة وهذا ليس كذلك وفيهما ما يكفي السالك في سائر أوقاته وقد جرى أصحابنا على ذلك فقالوا في بابي الصلاة والحج يشتغل بالدعاء والذكر وأفضله الوارد وخالف الحنفية فقالوا إن الاشتغال بالوارد لكون المدار فيه على إيراد تلك الألفاظ ربما تكون محلًا للخشوع المطلوب من الداعي فالأولى أن يأتي بذكر من عنده ليتم توجهه أو يأتي بكل من النوعين ليكسب كلا من الفضلين وما أشرنا إليه أولًا أولى، والزعم بأن إيراده يفوت الخشوع ممنوع وبفرضه فبركة الأتباع تقوم بما فات من الخشوع والله أعلم وسيأتي إن شاء الله أواخر الكتاب في باب أدب الدعاء تفصيل في أذكار المشايخ فراجعه. قوله: (واشتغاله إلخ) يجوز
1 / 17
سيدِ المرسلين.
وقد صنف العلماء ﵃ في عمل اليوم والليلة والدعوات والأذكار كتبًا كثيرة
معلومة عند العارفين، ولكنها مطولة بالأسانيد
ــ
في قوله اشتغاله الرفع والنصب عطفًا على قوله قبله ذكره رب العالمين المنصوب أو المرفوع بنا على إثبات من في أفضل أو حذفها منه وفي بعض النسخ حال ذكره رب العالمين بزيادة حال منصوبًا ومرفوعًا بناء على ما ذكر وحينئذٍ فيجوز في اشتغاله الرفع والنصب عطفًا على حال والجر عطفًا على ذكره المضاف إليه. قوله: (سيد المرسلين) أي مجموع الرسل وكذا كل فرد منهم كما يدل عليه حديث أنا سيد ولد آدم ولا فخر وفي كلام المصنف إطلاق السيد على غير الله وهو جائز كما يأتي في الأصل وسيأتي الكلام على إعلاله. قوله: (والأذكار) هو جمع واحده ذكر وهو كما في فتح الأله في أصل وضعه ما تعبد الشارع بلفظ مما يتعلق بتعظيم الحق والثناء عليه ويطلق على كل مطلوب قولي اهـ، وقريب منه ما قيل الذكر شرعًا قول سيق لثناء أو دعاء وقد يستعمل أيضًا لكل قول يثاب قائله وحينئذٍ فإن أريد بالأذكار في قول
المصنف مقابل الدعاء كان عطفه من عطف المغاير وإن أريد به ما يشمله كان من عطف الخاص على العام والكلام في الذكر اللساني أما الذكر القلبي فسيأتي معناه عند ذكر المصنف له. قوله: (كتبًا كثيرة) أي بعضها في عمل اليوم والليلة ككتابي، ابن السني والنسائي وبعضها في الدعوات ككتابي المستغفري والبيهقي. وقوله: (مطولة) بوزن اسم المفعول من التطويل وهو تكثير اللفظ والمعنى ويقابله الإيجاز والاختصار ولذا قال فيما سيأتي مختصرًا إلى آخره والإطالة أن يكون اللفظ زائدًا على ما يؤدى به أصل المراد لا لفائدة مع كون الزائد غير متعين فإن كان لفائدة فهو الإطناب وإن تعين الزائد
1 / 18
والتكرير، فضعفتْ عنها همم الطالبين، فقصدتُ تسهيل ذلك على الراغبين، فشرعت في جمع هذا الكتاب مختصِرًا مقاصد ما ذكرته تقريبًا للمعتنين،
ــ
لا لفائدة فهو الحشو والأسانيد جمع إسناد وهو الإخبار عن طريق المتن، والسند رجاله وقيل هما بمعنى وعليه جرى الجلال السيوطي في ألفيته فقال:
والسند الإخبار عن طريق ... متن والإسناد لدى فريق
وكون الإسناد سببًا للتطويل بالنظر لمريد التعبد بألفاظ الأذكار وإلَّا فهو اسم مطلوب للمحدث إذ به يعرف حال الحديث في القوة والضعف قال ابن المبارك الإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء ونقل مثله عن غيره. قوله: (والتكرير) مصدر كرر المضاعف أي ذكر الشيء مرة بعد أخرى والتكرار بفتح المثناة وكسرها اسم مصدر وهذا يفعله الجامعون على الأبواب والمعاجم كثيرًا لحاجتهم إليه وقد أكثر منه الحافظ البخاري في صحيحه حتى قال فيه بعضهم:
قالوا لمسلم فضل ... قلت البخاري أعلى
قالوا المكرر فيه ... قلت المكرر أحلى
قوله: (الراغبين) من الرغبة شدة الطلب والمراد الراغبين في طلب المتعبد بلفظه دعاء أو ذكرًا. المعرضين عما يتعلق به من الأسانيد فلا يخالف ما تقدم من قوله فضعفت عنها همم الطالبين. قوله: (مختصرًا) بوزن اسم الفاعل حال من فاعل شرع مقدرة أو من المجرور بفي كذلك أو من اسم الإشارة المضاف إليه أي حال كون هذا الكتاب مختصرًا ما تقدم وإسناد الاختصار إليه مجاز عقلي من إسناد ما للشيء لآلته وصح مجيء الحال من المضاف إليه لكون المضاف عاملًا قبل الإضافة في المضاف إليه فهو كقوله تعالى: ﴿إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا﴾ [يونس: ٤] ثم هو بالتنوين فيما وقفت عليه من الأصول المصححة ولو روي بترك التنوين والإضافة لجازت فيه الأوجه المذكورة لكون إضافته لفظية غير معرفة
1 / 19
وأحذف الأسانيد في معظمه لما ذكرته من إيثار الاختصار، ولكونه موضوعًا
للمتعبِّدين، وليسوا إلى معرفة الأسانيد متطلعين، بل يكرهونه -وإن قصر- إلا الأقلِّين،
ــ
وفي نسخة مختصرًا قاصدًا وعليه فيجوز أن يقرأ مختصرًا بوزن اسم لمفعول حالا من المضاف إليه ويبعده قوله بعده قاصدًا إلخ، والمختصر كالموجز ما قل لفظه وكثر معناه. "وفي شرح مسلم" للمصنف الاختصار إيجاز اللفظ مع استيفاء الفعنى وقيل رد الكلام الكثير إلى قليل فيه معنى الكثير وسمي اختصارًا لاجتماعه ومنه المخصر وخصرة الإنسان اهـ قوله: (وأحذف الأسانيد إلخ) عبر بالحذف الذي يكون عادة الذكر إشعارًا بأن السند مما يعتني به أرباب الإتقان فكأنه ذكره ثم حذف
ولو عبر بالترك ونحوه لما فهم ذلك. قوله: (إيثارًا) بالتحتية الساكنة ثم المثلثة من الأثرة، الاختصاص أي تخصيص الاختصار بالاختيار على مقابله. قوله: (ولكونه) عطف على ما من قوله لما ذكرته وأعاد الجار حذرًا من إيهام كونه لو حذف الجار معطوفًا على إيثار. قوله: (يكرهونه) وذلك لكونهم يرونه من الأمور المكسبة للنفس شرفًا وفخرًا وهم يكرهون كلما كان كذلك قال بعضهم في حق سفيان الثوري أنه نعم الرجل لولا أنه من أهل الحديث وفي تنبيه الغافل للقسطلاني قال أبو بكر الزقاق آفة المريد ثلاثة أشياء الترويج وكتابة الحديث والأسفار لكن حمل هذا الأثر على أن المراد بالحديث فيه الأخبار مثل التواريخ ونحوها وإلَّا فكثير من الأولياء الكرام الذين هم رؤوس زهاد الأنام وأكبر العارفين الفخام كمالك وأحمد وأمثالهما نظروا إلى النفع المرتب عليه وأنه من جملة العلم الذي الاشتغال به أفضل من الطاعات وأجل العبادات الموصلات قال أحمد وقد سئل ما تشتهي من الدنيا فقال بيت خال أي ليتعبد فيه وإسناد عال وهو من أسنى علوم الآخرة وعبارة التقريب للمصنف فإن علم الحديث من أفضل القرب
1 / 20
ولأن المقصودَ به معرفةُ الأذكار والعمل بها،
ــ
إلى رب العالمين وكيف لا وهو بيان طريق سنة خير الخلق وأكرم الأولين والآخرين وقال في الإرشاد في نوع معرفة آداب المحدث، علم الحديث علم شريف يناسب مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم وهو من علوم الآخرة لا من علوم الدنيا ومن حرمه فقد حرم أجرًا عظيمًا ومن رزقه فقد رزق فضلًا جسيمًا اهـ، وقال أبو الحسن شنبويه من أراد علم القبر فعليه بالأثر وفي الحديث اللهم ارحم خلفائي قيل ومن خلفاؤك قال الذين يأتون من بعدي يردون أحاديثي وسنتي رواه الطبراني وغيره.
قال: (السيوطي) وكأن تلقيب المحدث بأمير المؤمنين مأخوذ من هذا الحديث وقد لقب به جماعة منهم سفيان والبخاري وآخرون وكونه قل أن يخلص فيه النية وتسلم فيه الطوية لا ينافي شرفه الذاتي وكونه من أعظم الطرق الموصلة عند صحة النية وهي معتبرة في الاعتداد بسائر الأعمال وقد كانت الصحابة وناهيك بعرفانهم توجهوا لنقل الشريعة الشريفة ولم يروا الاشتغال به مانعًا من الرتبة المنيفة ويكفيك في كون العلم طريق الولاية ما ثبت عن الشافعي إن لم يكن العلماء العاملون أولياء لله فليس لله ولي بل قد روي بهذا اللفظ مرفوعًا كما في جواهر العقدين للسمهودي فإن قلت إن القشيري حشى رسالته، التي ألفها في التصوف بالأسانيد قلت هو من الأقلين الذين هم الأجلون الجامعون بين مقام الجمع والفرق وقال القسطلاني في تنبيه الغافل إنما فعل ذلك للرد على من يرى أن لا أصل لطريق القوم فذكر ما لها من إسناد تنبيهًا على ثبوت هذا الطريق. قوله: (المقصود به) أي بالكتاب الذي ألفه. قوله: (العمل بها) بأن يأتي بالذكر في محله، أو وقته إن كان مقيدًا أو مطلقًا إن كان مطلقًا ويقصد أصل معناه (وقيل) يعتبر أن لا يقصد سواه ثم منها ما كان معلقًا على لفظه فلا يحصل بالإتيان بغيره وإن كان في معناه ألا ترى ما ورد في الخبر المتفق عليه عن البراء فيما يقال عند
1 / 21
وإيضاح مظانها للمسترشدين، وأذكر إن شاء الله تعالى بدلًا من الأسانيد ما هو أهمُّ منها مما يُخَل به غالبًا،
ــ
المقام قال قلت ورسولك الذي أرسلت فقال ونبيك الذي أرسلت فقال ونبيك الذي أرسلت وفي قواعد زروق ما جاء عن الشارع في ألفاظ الأذكار يتبع اهـ، ومنها ما يكون المقصود حصول معناه كالحمد أول الكتب
المؤلفة فلذا أقام مقامه، في هذا المعنى البسملة كثير من أصحاب الكتب المصنفة وهذا النوع يحصل ثوابه بأبراد، ما يؤذن ذلك المعنى من أي لفظ كان. قوله: (وإيضاح مظانها) بالرفع عطف على معرفة وفي الجر بعد، ومظان جمع مظنة بفتح الميم وكسر الظاء المشالة آخره نون مشددة بعدها هاء كذا ضبطه الحافظ الديمي في هامش نسخة من كتاب تلاوة القرآن من كتاب الأذكار قال وكان حقه فتح الظاء إلا أنها كسرت لمكان الهاء في آخره اهـ، أي بذكرها في الباب الذي يليق بها وفي ذلك تسهيل للمراجع وفي نسخة معانيها وإنما كان هذا من مقصود الذاكر لأن شرط ترتب الثواب على الذكر معرفة معناه ولو بوجه كما أفتى به السبكي بخلاف ترتيب الثواب على قراءة القرآن فإنه حاصل للقارئ وإن لم يعرف معناه لكن قضية قول المنهاج، ويسن تدبر القراءة والذكر حصول ثواب الذكر مع جهل معناه كما في القرآن ومن ثم نظر فيه الأسنوي وقال ابن العز الحجازي في مختصره فتح الباري والعبارة للفتح ولا يشترط استحضاره لمعناه ولكن يشترط أن لا يقصد به غير معناه وإن انضاف إلى الذكر استحضار معناه وما اشتمل عليه من تعظيم الله تعالى ونفي النقص عنه زاد كمالًا فإن وقع ذلك في عمل صالح مهما فرض من صلاة أو صيام أو جهاد أو غيرها ازداد فإن صح التوجه وأخلص لله تعالى فهو أبلغ الكمال.
فائدة
سئل الحافظ ابن حجر عن ثواب من قرأ القرآن ولم يفهم معناه هل يثاب كما نقل عن الشيخ أبي إسحاق صاحب التنبيه في اللمع مستدلًا له بأن القرآن
1 / 22