وكان نصف الليل قد دنا وظهر القمر من خلال السحاب، فسارت الجماعة وميلادي تتقدمهم يقودها اثنان من الخدم وخلفها السياف، وخلف السياف أتوس ودارتانيان واللورد ونتر وبورتوس وأراميس وبلانشت وبازين وراءهم. وكان الخادمان يقودانها إلى جهة نهر ليس وهي صامتة لا تنبس بكلمة، حتى إذا رأت نفسها قد صارت على بعد من الجماعة قالت للخادمين: أعطي كلا منكما ألف دينار إذا ساعدتماني على الفرار، وأما إذا قتلت فإن لي من ينتقم مني. فسمع أتوس كلامها فتقدم إليها وتقدم معه اللورد ونتر، فقال له: دع الخادمين الآخرين يمسكانها. فدعا بهما أتوس وأرجع كريمود وموسكتون، فسارا بها حتى بلغا حافة النهر فعمد إليها السياف وربط رجليها ويديها، فصاحت بهم: إنكم جبناء أخساء لا تقتلون إلا نساء، فحذار حذار من ثأري وحمل دمي. فقال أتوس: ما أنت امرأة، إن أنت إلا مارد فر من الجحيم وسيرجع إليه. فقالت: إياكم أن تمسوني، فأنتم سفاكو دماء. فقال السياف: إن الجلاد يضرب الأعناق ولا جريمة قتل تلحق به، فاستعدي للموت. قالت: إذا كنت مجرمة فخذوني لدى القضاء فاشتكوا علي، فإنكم لستم بقضاة تحكمون بالموت. فقال اللورد ونتر: لقد عرضت عليك النفي فلماذا لم تقبليه؟ قالت: لأني لا أريد أن أموت، فإني لم أزل حدثة جميلة. قال: إن التي قتلتها بالسم في الدير كانت أصغر منك سنا وأبهى جمالا. قالت: إذن أدخل في الدير فأتنسك. قال السياف: لقد كنت في الدير فلم تخرجي منه حتى قتل أخي بسببك. ثم حملها ودنا بها من قارب كان في النهر لهذه الغاية، فقالت: يا رباه، قد عزموا على إغراقي. وكان في صوتها ضعف وخوف تأثر له دارتانيان وذكره بعض ما كان نسي من حبها، فأقبل على السياف وقال: لا أطيق أن أرى هذه الامرأة تموت. فلما سمعت ميلادي كلامه تجدد فيها بعض الأمل، فقالت: اذكر يا دارتانيان أني كنت أحبك. فتقدم دارتانيان إليها، فشهر أتوس سيفه واعترضه وقال: إذا أقدمت تلجئني إلى أن أنازلك. فوقع دارتانيان على ركبتيه، فقال أتوس: يا سياف امض في عملك. قال: نعم. ثم دنا أتوس من ميلادي فقال: أنا أغفر لك ما صنعته معي من تدنيس شرفي وافتضاح عرضي وإضاعة حبي والحالة التي صيرتني إليها من اليأس، فموتي بسلام. فتقدم اللورد ونتر وقال: وأنا أغفر لك تسميم أخي وقتل بيكنهام وموت فلتون واجترائك علي، فموتي بسلام. ثم تقدم دارتانيان وقال: وأنا أغفر لك ما أجريت معي من وسائط القتل، وأغفر لك قتل حبيبتي وأسأل لك الرحمة، فموتي بسلام. فقامت ميلادي وقالت: قد انقطع الرجاء، فلا بد من الموت. ثم نظرت حولها وقالت: أين مكان الإعدام؟ فأجابها السياف: على الشاطئ الآخر. ثم حملها فوضعها في الزورق، فدنا منه أتوس وأعطاه بعض المال وقال: هذه أجرة الضرب فلا إثم عليك. قال: نعم، فأنا أصنع الواجب علي. ثم قذف بالزورق في النهر فسار نحو الشاطئ الآخر، وركع القوم يصلون لها. وكانت ميلادي وهي في الزورق قد حلت رجليها من الرباط، فلما أخرجها السياف فرت هاربة، وكانت الأرض حول النهر رخوة من المياه فزلقت رجلها وسقطت فأدركها السياف، ونظرت الجماعة من الضفة الأخرى سيف السياف يهوي على عنقها، ثم سمعوا صوت موتها، فوضع السياف رداءه الأحمر ولف به الجثة والرأس وركب الزورق حتى صار في وسط النهر، فرمى بها فيه فغرقت.
ولما كان اليوم الثالث من هذه الحادثة وصل الحراس إلى باريز وذهبوا إلى زيارة دي تريفيل، فتلقاهم بالترحاب.
الخاتمة
وفي اليوم السادس من الشهر التالي ذهب الملك من باريز إلى روشل حسبما وعد الكردينال، وبلغ الملكة خبر بيكنهام فلم تكد تصدقه حتى جاءها لابورت بالخبر اليقين فقامت تندبه سرا ولسان حالها ينشد:
أما والله لولا خوف واش
وعين للخليفة لا تنام
لثمنا ركن قبرك واستلمنا
كما للناس بالحجر استلام
وكان الملك في غاية المسرة ونهاية الحبور، وكان يصحبه في سفره إلى روشل الأصحاب الأربعة. وفيما هو في بعض الطريق خطر له أن يصيد، فتخلف عنه دارتانيان وأصحابه إلى حانة في طريقهم، فجعلوا يشربون وإذا برجل قد وقف على الحانة ونظر إليهم، ثم التفت إلى دارتانيان، فقال: أدارتانيان الذي أرى؟ فقام إليه دارتانيان وسل سيفه ولاقاه وقال: لقد طالما فررت مني، أما الآن فلا تفلت. قال: الأمر أعظم من ذلك، وأنا آت من قبل الملك لآخذ منك سيفك وأقودك إليه فلا تمانع. قال: من أنت؟ قال: أنا دي روشفور خادم الكردينال ريشيليه، وأنا مأمور أن آخذك إليه. فقال أتوس: نذهب إلى الكردينال إذن؟ قال: إني سأرسله مع الحرس إلى روشل حيث يقابل الكردينال في المعسكر. قال أتوس: إذن نذهب معه فلا نفارقه. قال: إذا سلمني دارتانيان سيفه تذهبون معه. قال: هذا سيفي فخذه. قالوا: لا حاجة إلى الحرس، فنحن نأخذ دارتانيان إلى الكردينال قسما بالله وبالشرف. قال: إذن أنا واثق بكم لأنكم نبلاء، فاذهبوا وأنا ذاهب في أمر آخر. فقال له أتوس: إذا كنت ذاهبا في طلب ميلادي فلا تتعب فإنك لا تجدها أبدا. قال: وأين هي؟ قال: ستعرف ذلك إذا بلغنا المعسكر. فعاد روشفور معهم حتى بلغوا المعسكر، فقابل الكردينال الملك بالإجلال والتعظيم ثم استأذن وسار إلى مقره فوجد دارتانيان على الباب أعزل وأصحابه الثلاثة بسلاحهم، فأشار إليه أن يتبعه ودخل، فتبع دارتانيان الكردينال إلى أن بلغ غرفته فجلس ووقف دارتانيان أمامه، فقال له: لقد أمرت بإمساكك. قال: نعم كذلك بلغني. قال: أوتعلم لماذا؟ قال: إن الأمر الذي يوجب إمساكي لم يبلغك بعد يا مولاي. قال: ماذا تعني بذلك؟ قال: ليتفضل مولاي الكردينال بإعلامي لما أوجب إمساكي ثم أعلمه بخبري. قال: إنك متهم بأمور تطير لها رءوس أشد ارتفاعا من رأسك. قال: ما هي يا مولاي؟ قال: أنت متهم بأنك خابرت أعداء المملكة وأنك سرقت أسرارها وغير ذلك من التهم. قال: أنا أدري من اتهمني بذلك، فإنها امرأة موسومة بزهرة على كتفها تزوجت رجلا في فرنسا ثم تزوجت آخر في إنكلترا فقتلته بالسم وحاولت أن تسمني أنا. قال: ماذا تقول؟ وأي امرأة تعني؟ قال: لادي ونتر نفسها، فإنك يا مولاي جاهل جرائمها حتى شرفتها بتسليمها أمورك. قال: إذا كانت ميلادي كذلك فيجب أن تعاقب. قال: لقد جرى عليها العقاب يا مولاي. قال: ومن عاقبها؟ قال: نحن. قال: هل هي في السجن؟ قال: لا، بل في الجحيم. قال: أوتجسر أن تقتلها؟ قال: لقد حاولت قتلي ثلاث مرات ثم قتلت حبيبتي، فأخذناها أنا وأصحابي وحاكمناها وقتلناها، ثم أخض يقص على الكردينال كيفية موت بوناسيه ولحاق ميلادي وقتلها على نهر ليس. فارتعد جسم الكردينال من ذلك وقال: أنى لكم الحكم في ذلك ولستم بقضاة، فأنتم إذن قتلة. قال: أقسم لك يا مولاي بأني لم أمنع حياتي عنك، فإذا شئتها فخذها ، فلا خير فيها. قال: نعم، أعرف أنك شجاع يا دارتانيان؛ ولذلك فأنت تحاكم ثم يحكم عليك. قال: لكن يوجد من يردك عن ذلك إذا ظهر لك صك البراءة. قال: بخط من موقع عليه؟ قال: بخطك يا سيدي، ثم أخرج له الورقة، فقرأ:
إن حامل هذه الرقعة قد صنع ما صنع بأمري ولخير المملكة فلا يعارض.
Unknown page