وكان أتوس أشد أصحابه حنقا على ميلادي والتزاما بالقبض عليها لتعهده بذلك، فدخل غرفته ودعا إليه بصاحب الفندق، فطلب منه رسم ذلك الإقليم وطرقه، فأعطاه، فرأى أنه يوجد من بيتين لأرمانتيير أربع طرق، فدعا بالخدم وهم بلانشت وكريمود وموسكتون وبازين فأمرهم بالذهاب في وجه الصبح إلى أرمانتيير كل منهم يأخذ في طريق، ووجه بلانشت في الطريق التي سارت منها العربة وفيها خادم روشفور. وكان أتوس شديد الثقة بهم لعلمه أنهم يعرفون ميلادي وهي لا تعرفهم، فتعاقد الأربعة على أن يصلوا إلى أرمانتيير عند الصباح، حتى إذا وجدوا ميلادي بعثوا بأحدهم ليأتي بهم إليها، ثم ذهبوا فتقلد أتوس سيفه واشتمل بعباءته وخرج. وكانت الساعة العاشرة ليلا، فسار في طريق أرمانتيير يلتمس من يسأله عنها حتى صادف رجلا فسأله، فأشار إليه بيده عن الطريق، فأغراه بدينار ليذهب معه فأبى، فسار أتوس في الطريق التي أشار إليها الرجل، ولم يزل سائرا حتى انتهى إلى طريق متشعبة إلى أربعة، فوقف حائرا لا يدري في أيها يأخذ حتى رفع له رجل فلم يدله إلا بالإشارة وأبى أن يذهب معه. ثم سار حتى تشعبت الطريق فوقف ينتظر، حتى مر به سائل ووقف به يسأله الصدقة، فعرض عليه قطعة من الفضة على أن يدله فتوقف السائل قليلا، ثم غرته لمعة الفضة فرضي ومشى أمامه حتى بلغ به غاية الطريق، فأشار له إلى بيت في وسط بستان لا شيء حوله من العمران، فدنا أتوس من بابه وقرعه ففتح له رجل طويل القامة أصفر الوجه مسود اللحية والشعر، فكلمه أتوس سرا فأشار إليه بالدخول، فدخل إلى بيت حقير يتدلى العشب من سقفه وهو رث الأثاث لا شيء فيه من الترتيب والنظافة، وكان يسكنه ذلك الرجل وحده ولا رفيق معه. فجلس إليه أتوس يحادثه فيما ندبه له من العمل الخطير وعرضه عليه من الفعل الهائل، فأجفل الرجل منه وتمنع، فأخرج له أتوس من جيبه ورقة عليها سطران تحتهما إمضاء، فلما قرأها الرجل أحنى برأسه علامة الطاعة، فقام أتوس وحياه وخرج عائدا في طريقه التي جاء منها حتى بلغ الفندق، فدخل غرفته وأقفل عليه الباب.
فلما كان الصباح دخل عليه دارتانيان وقال له: ماذا يجب أن نفعل؟ فقال: الانتظار. وبعد قليل جاءهم خبر من رئيسة الدير بأن الدفن يكون عند الظهر وأنها لم تعلم من أمر السم شيئا سوى أنها رأت آثار أقدام في الحديقة تنتهي إلى بابها وهو مغلق والمفتاح ضائع. وعند الظهر ذهب اللورد ونتر وأصحابه الأربعة إلى ملحد الدير فصلوا على الامرأة، فهاج ذلك في دارتانيان الجزع والحزن، فانثنى يطلب أتوس فلم يجده. وكان أتوس قد ذهب في الحديقة على آثار الأقدام حتى انتهى إلى بابها ففتحه وخرج إلى الغابة، فوجد آثار عجلات العربة ذاهبة في الغابة، فتبعها وهو ينظر إلى الأرض فرأى عليها قطرات دم، إما من أحد الخيول أو من الخدم عندما أطلق الحراس عليها بنادقهم، فسار أتوس على الآثار حتى انتهى إلى غاية الغابة فوجد عندها بركة دم واسعة وبعدها أقدام صغيرة مثل آثار الحديقة حتى انتهت عند الطريق حيث وقفت العربة، فعلم أتوس أن ميلادي مشت إلى هناك ثم ركبت العربة وسارت. فعاد إلى الفندق فوجد بلانشت ينتظره، فأخبره أنه رأى كل ما رآه من آثار الدم وعجلات العربة، إلا أنه أمعن في تتبع الأثر أكثر من أتوس حتى بلغ بيتا فعرف منه أن قد وقفت عليه أمس عربة فيها رجل جريح وامرأة، فأودعت الرجل في البيت وسارت في طريقها، ثم سار على آثار العربة حتى انتهى إلى أرمانتيير فبلغها عند الساعة السابعة صباحا وأسرع إلى فندقها يسأل عن غرفة يأخذها، فعلم من النازلين في الفندق أن امرأة قدمت أمس فأقامت في إحدى غرف الفندق ثم طلبت من صاحبه بيتا في ضواحي القرية فاكتفى بلانشت بذلك وعاد إلى رفاقه الثلاثة، فرتبهم كالعسس وعاد إلى أتوس وأخبره. وما أتم كلامه حتى دخل الأصحاب الثلاثة، فقال دارتانيان: ماذا يجب أن نفعل؟ قال: الانتظار. فعاد كل إلى غرفته.
ولما كانت الساعة الثامنة مساء أمر أتوس أن تسرج الخيل فأسرجت، ونبه أصحابه الأربعة فاستعدوا وركبوا. فجعل دارتانيان يتأفف ويتضجر، فقال له أتوس: رويدا فإنه ينقصنا رجل. ثم ساروا، فهمز أتوس جواده وقال لهم: أنظروني فأنا راجع. ولم يغب إلا قليلا حتى عاد ومعه رجل مرتد بعباءة حمراء، فجعل الحراس واللورد ونتر ينظرون إليه وهم لا يقفون على عرفانه، فظنوا أن ذلك من تدبير أتوس فتركوه. وعند الساعة التاسعة سارت الفرقة في ذلك الظلام الحالك يقدمها بلانشت في طريق العربة، ولسان حالهم ينشد:
وكم لظلام الليل عندك من يد
تخبر أن المانوية تكذب
الفصل التاسع والخمسون
المحاكمة
وكان الليل عاصفا والسحاب متكاثفا والظلام شديدا، إذا مد الإنسان يده لم يكد يراها، وكان القمر لا يشرق إلا عند منتصف الليل. فجعل القوم يسيرون في ذلك الظلام ولا ينظرون الطريق إلا إذا لمع البرق. وما زالوا كذلك حتى مروا بحيث وضع الجريح، فعطف بلانشت على شماله، وكان الحراس واللورد يكلمون الرجل ذا العباءة الحمراء فلا يجيب إلا برأسه، فأمسكوا عنه. وكان الرعد قد زاد والبرق أخذ يتتابع والهواء يعصف بشدة، ثم تبع ذلك مطر غزير كأنه من أفواه القرب. وفيما هما يسيرون إذا برجل خرج من وراء شجرة واعترض في الطريق وأشار إلى القوم بالسكوت، فعرف أتوس أنه كريمود، فقال له دارتانيان: ماذا جرى؟ هل فارقت أرمانتيير؟ قال: نعم. فعض دارتانيان على شفته وزفر زفرة الضرام، فقال له أتوس: رويدك فأنا صاحب الأمر وعلي وجدانها. ثم قال لكريمود : أين هي؟ فأشار له بيده إلى مقاطعة ليس، فقال: هل هي بعيدة عنا؟ فهمس في أذنه، فقال أتوس لهم: إنها على مقربة منا وهي وحدها في بيت على شاطئ النهر، فهيا بنا يا كريمود. فسار أمامهم وتبعوه، فقطعوا نهرا وساروا، وفيما هم يسيرون لمع البرق فظهر منه بيت منفرد له نافذة يلوح من خلالها نور، فأشار إليهم كريمود، فقال أتوس: قد وصلنا يا قوم. وفيما هم كذلك إذا برجل قد طلع عليهم من حفرة هناك وهو موسكتون، فأشار إلى النافذة، فقال له أتوس: وأين بازين؟ قال: يخفر الباب وأنا أخفر النافذة. فترجل عن جواده وترجلوا معه وسلموا أعنة الخيل لموسكتون، وأشار لهم أتوس أن يذهبوا من جهة الباب، وتقدم هو إلى النافذة. وكان البيت محاطا بسياج، فتسلقه أتوس ودنا من النافذة وصعد على حجر هناك فرأى امرأة برداء أسود وبين يديها سراج ونار تصطلي عليها معتمدة رأسها بيديها، فعرف أنها بغيته. وعند ذلك صهل جواد من خيله فرفعت رأسها فرأت وجه أتوس في النافذة فصرخت، فوثب أتوس إلى داخل الغرفة، فهربت ميلادي إلى الباب فصادفت دارتانيان، فكانت كالمستجير من الرمضاء بالنار، فأجفلت منه ورجعت. وخاف دارتانيان من فرارها فأخرج غدارته من حزامه، فقال له أتوس: رد سلاحك إلى مكانه، فإني أحب أن أحاكم هذه الامرأة فلا نقتلها إلا عن حكم، فادخلوا يا قوم. فرد دارتانيان غدارته إلى حزامه، ودخل بورتوس وأراميس واللورد ونتر وذو العباءة الحمراء، ووقف الغلمان يخفرون الباب والنافذة. فسقطت ميلادي على كرسيها ثم نظرت سلفها فصاحت صيحة الجزع وقالت: من تطلبون؟ قال أتوس: نطلب كارلوتا باكسون التي دعيت أولا الكونتس دي لافير ثم صارت لادي ونتر بارونة دي شيفيلد. قالت: أنا بغيتكم، فماذا تريدون؟ قال: نريد أن نحاكمك على ما فعلت من الجرائم، وأنت مطلقة في الاحتجاج ودفع الظنة عن نفسك إذا كان لك من ذلك مخرج، فتقدم يا دارتانيان وأعرض شكواك. فتقدم دارتانيان فقال: أشكو هذه الامرأة أمام الله وأمام الناس بأنها سممت كونستانس بوناسيه أمس . فقال بورتوس وأراميس: ونحن على ذلك من الشاهدين. ثم عاد فقال: وأشكوها أيضا بأنها أرادت أن تسممني أنا بالخمر الذي أرسلته لي بكتاب مزور فخلصني الله منها وفداني برجل آخر. فقال الشاهدان: ونحن نشهد. ثم عاد فقال: وأنا أشهد لنفسي بأنها أغرتني بقتل الكونت ويرد ولم يكن عند ذلك من يسمعها، وهذه شكايتي عليها. ثم تنحى فتقدم اللورد ونتر، فقال: أشكو هذه الامرأة أمام الله وأمام الناس بأنها قتلت اللورد بيكنهام. فصاح الجميع: أوقتل بيكنهام؟ قال: نعم، فإني عندما حذرتموني منها قبضت عليها وسجنتها، فأغرت أحد خدمي فخلصها وقتل اللورد بيكنهام، وهو يضرب الآن عنقه جزاء ذنبه، وليست تلك شكايتي كلها، فإنها تزوجت بأخي فمرض بمرض لم يلبث فيه سوى ثلاث ساعات ثم مات وعلى جسمه آثار، فأخبريني كيف مات يا فاجرة، فأنا أطلب الانتقام منك لأنك قتلت بيكنهام وقتلت فلتون وقتلت أخي، وإلا أنتقم منك بيدي. ثم تنحى إلى طرف الغرفة، فتقدم أتوس وقال: تزوجت هذه الامرأة وهي فتاة بالرغم عن أهلي وغمرتها بالنعم والإحسان، ثم رأيتها موسومة بزهرة على كتفها الأيسر، فحاولت ميلادي التبرؤ فصاح بها ذو الرداء الأحمر وقال: صه، فإني أجيبك. ثم دنا منها وخلع رداءه فنظرت إليه محدقة فيه بصرها، ثم صاحت: لا لا، ما أنت إلا خيال جهنمي، فلست هو، إلي إلي، ثم سقطت على الحائط، فقال له الجمع: من أنت يا رجل؟ فقال: سلوها عني، فقد عرفتني. فقالت ميلادي: هو سياف ليل، هو سياف ليل. ثم سقطت على رجليه وهي تقول: السماح السماح، والعفو العفو. فقال لها: نعم أنا سياف مدينة ليل، وهذه حكايتي: «كانت هذه الامرأة في صباها بارعة في الجمال أكثر مما ترونها عليه الآن، وكانت متنسكة في دير، وكان لي أخ راهب فاستهوته فعلقها وعزم على الفرار بها، ولما لم يكن معه مال سرق آنية البيعة المقدسة فباعها، ولكنه أمسك قبل أن يسافر، وأمسكت معه ووضعت في السجن، فأغرت ابن السجان فأطلقها، وحكم المجلس على أخي بالسجن عشر سنوات وأن يوسم على كتفه وكنت أنا جلاده، فوسمته وثأرت نفسي لإمساك هذه الفتاة، فتتبعتها وأمسكتها ووسمتها كما وسمت أخي، ثم عدت إلى ليل فوجدت أخي قد هرب من سجنه، فعقلت مكانه إلى أن يأتي، ومضى هو يلتمسها حتى أصابها وهرب بها إلى بري، فسكن هناك وجعلها أخته. فاتفق أن سيد تلك الأرض نظرها فعلقها ووقعت في نفسه فتزوجها من أخي، فصارت الكونتس دي لا فير. فنظرت الجماعة إلى أتوس، فأشار لهم برأسه أن الحكاية صحيحة. فعقب السياف فقال: ولما أخذها هذا الكونت ويئس منها أخي عاد إلى ليل فأقام في سجنه وأطلقت أنا، ثم ضرب عنقه في ليلة وصوله، وتلك جنايتها علي أبينها لدى الله والناس. فقال أتوس لدارتانيان: أي ثأر تطلب من هذه الامرأة؟ قال: القتل. ثم التفت إلى ونتر فقال: القتل أيضا. ثم التفت إلى بورتوس وأراميس: فقال أنتما الآن في مقام القضاة، فبم تحكمان عليها؟ قالا: بالموت. فسقطت ميلادي على ركبتيها وهي في حالة اليأس، فقال لها أتوس: أنت كارلوتا باكسون والكونتس دي لا فير وميلادي دي ونتر قد اجترحت ذنوبا ضجت لها الناس في الأرض والأملاك في الأفلاك؛ فقد وجب عليك القتل، فكفري عن ذنبك لله فإن الله غفور رحيم. فنهضت وأراد أن تتكلم فلم تقدر واحتبس لسانها، وإذا بيد السياف قبضت على شعرها وأخرجتها من بيتها، فتبعها الأربعة وتبعهم خدمهم وتركوا الغرفة على حالها.»
الفصل الستون
الإعدام
Unknown page