Fikr Carabi Hafith
الفكر العربي الحديث: أثر الثورة الفرنسية في توجيهه السياسي والاجتماعي
Genres
وقد كتب فرح أنطون كلمة تمهيد للطبعة الثانية من تعريب رواية «ديماس»، أثبتنا قسما منها في باب النصوص؛ لأنها تدل على مدى تأثره بالثورة الفرنسية، وصلة الانقلاب العثماني بها، وضغط العصر الحميدي على الفكر وحريته.
وما كان لنا أن ننسى في هذا العرض مصطفى كامل الزعيم المصري الوطني، وهو الذي نشر كثيرا من مبادئ ثورة فرنسا وآراء أحرارها. ولقد أمضى مصطفى كامل ردحا من حياته في باريس، ويكاد لا يخلو كتاب في سيرته من الصورة التي عرضها في شوارع باريس تمثل مصر فتاة مكبلة مسلوبة الإرادة تستنجد بفرنسا لرد حريتها. ويفهم من نص العريضة التي وجهها مصطفى كامل إلى فرنسا في سبيل إسعاف مصر أنه إنما علق أمله على روح الثورة الكبرى وما رافقها من مبادئ. وفي العريضة يشيد الزعيم الوطني المصري بفرنسا «التي أعلنت حقوق الإنسان.» ومفهوم أن استنجاد مصطفى كامل كان عملا سياسيا فيه كثير من السذاجة، إلا أنه يدل على عمق أثر الثورة الفرنسية في الشرق العربي وجمال الهالة التي أحاطت بها الثورة وجه فرنسا.
ولمصطفى كامل خطب كثيرة تشف عن صلة قوية بمبادئ فرنسا الثائرة وتسرب عدواها إليه. وكان أول هدف يتوخاه «الحزب الوطني» الذي يقوده مصطفى كامل: «إعلان مبادئ الحرية الدينية والسياسية، وتشكيل مجلس نواب مصري، وتحديد كل سلطة.» وقد أوردنا في باب النصوص مقتطفات من خطبه يستطيع القارئ مراجعتها.
وبين طلائع كتابنا ومفكرينا أديب ناضل الظلم، وقاسى النفي والاضطهاد، واتصل اتصالا روحيا عميقا بالثورة الفرنسية وأعلام المفكرين الذين أوقدوا شعلتها في الضمائر قبل أن يندلع لهب نارها في مدن فرنسا وقراها ويرسل ضوءا كبيرا قشع ظلمة عن العالم. أردنا ولي الدين يكن، صاحب «القلم الذي أصبح غازيا في حرب الاستبداد» كما قال عنه في كتابه «المعلوم والمجهول». وما أشد ما يذكرنا ولي الدين بفولتير حين قال لعبد الحميد: «لأهزن بقلمي أركان قصرك هزا!» وكان متأثرا بما قاله ساخر فرنسا الساحر لملك بروسيا فردريك الكبير: «ليس لي صولجان، ولكن لي يراع!» ولقد سالت من ولي الدين على سن قلمه كلمات قصيرة تذهب مذهب المثل، وكلها تشف عن تأثر بالثورة الفرنسية، كقوله: «الحرية عدوة الملوك وحبيبة الشعوب!» وكأن مشهد ثورة كالثورة الفرنسية تشب في وجه عبد الحميد لم يفارق باصرة ولي الدين؛ فهو ينظر إلى الأمة أيام عبد الحميد ويراها «أجملت الصبر حتى تنفست عن البارود.» ويرى قصر عبد الحميد وكراسي ملكه، ثم «ما هي إلا صيحة أخذتهما فتساقطت تلك اللبنات الذهبية، وقعقعت هاتيك العروش، وقضي الأمر!»
ولولي الدين رقة على باريس وحنين إليها، وما مقالته فيها، يوم طغى عليها نهر السين سنة 1900 فنكبها نكبة مؤلمة، إلا قصيدة ناعمة والهة. ومن أبرز ما يشاهده أديبنا بعين الخيال من المدينة العظيمة «برج إيفل كأنه خطيب الحرية!» ويجد القارئ بين النصوص المختارة في هذا الكتاب قطعة لولي الدين عن «البلبل»، اجتزأناها من روايته «دكران ورائف»، وهي الرواية التي أراد بها تصوير جواسيس عبد الحميد وسعي الشباب الأحرار في سبيل الانعتاق من نير السلطة المطلقة المستبدة. وولي الدين متأثر في قطعته هذه التي اخترناها بفكرة استلهام الحرية من الطبيعة، ومعلوم أنها فكرة روسوية. ويلاحظ أن بلبل ولي الدين «يترفع عن تمليق الملوك»، وهو «على ضعفه وصغره بطل الحرية، ما أودع قفصا إلا ومات فيه غما أو انتحر يأسا».
ولن ننسى من كبار أدبائنا ومفكرينا الذين تأثروا بالثورة الفرنسية: أمين الريحاني. وقد توجنا هذا الفصل بكلمة له تنادي مناداة على صلته الواضحة الوثيقة بالثورة الفرنسية ومبادئها، وتكاد لا تخلو صفحة من «ريحانياته» في أجزائها الأربعة من أثر من آثار ثورة فرنسا وأعلام مفكريها. ولأمين الريحاني فصل ناقش فيه كتاب كارليل عن الثورة الفرنسية، ودار في نقاشه على مسألة تاريخ الثورة وقضية العنف، فأثبتناه في باب النصوص من هذا الكتاب لقيمته. والذي يقرأ القصيدة المنثورة التي كتبها الريحاني في الثورة، إطلاقا، ترتسم في ذهنه صورة راسخة من حياة هذا المفكر الجريء، وهو لا يفتأ يذكر الظالمين ويردد قوله: «ألم نقص عليهم قصص باريس؟»
ويقودنا الريحاني إلى جبران خليل جبران. وقد تأثر هو الآخر بفرنسا الثائرة
10
وأحرار مفكريها تأثرا عميقا، إلا أنه غير ظاهر فيه ظهوره في الريحاني؛ والأرجح أن ذلك راجع إلى أن جبران قليلا ما تعاطى السياسة، وطرأت عليه طوارئ أفكار في القسم الأخير من حياته فلان العصب النضالي في أدبه كما لم يلن في الريحاني وذهب مذهب الاكتفاء بتأملات نفسية حلوة مخدرة. على أنه في مطلع سيرته الأدبية أعرب عن ثورية غاضبة، متسمة بسمات بارزة من الثورة الفرنسية ومبادئها. ويحب بعض أن ينسوا تلك البواكير القوية التي أنتجتها يراعة جبران في أول أمره ك «الأجنحة المتكسرة» و«الأرواح المتمردة» و«عرائس المروج»، ولكن لها من القوة، والحيوية الثورية، ما يكفل بقاءها. وإن الهيئات التي سدد إليها جبران ثورته تجعلنا، في هذه الأحوال، نؤثر الاقتصار على رسالة له بعث بها إلى إحدى الأوروبيات المهتمات بشئون الشرق، فراجعها في باب النصوص، أما هنا فنكتفي منه بهذه النفثات النارية المنيرة. قال في مقالته «يوم مولدي»:
قد أحببت الحرية فكانت محبتي تنمو بنمو معرفتي عبودية الناس للجور والهوان، وتتسع باتساع إدراكي خضوعهم للأصنام المخيفة التي نحتتها الأجيال المظلمة، ونصبتها الجهالة المستمرة، ونعمت جوانبها ملامس شفاه العبيد. لكني كنت أحب هؤلاء العبيد بمحبتي الحرية!
Unknown page