Fikr Carabi Hafith
الفكر العربي الحديث: أثر الثورة الفرنسية في توجيهه السياسي والاجتماعي
Genres
ومن فرنسيس مراش ينتقل بنا الحديث إلى أديب إسحاق، تلميذ الأفغاني وصديقه ورفيقه. وقل بين كتاب العرب، في مطلع النهضة الحديثة، من تصرف بقلم وبيان كقلم أديب إسحاق وبيانه. وإن القارئ ليحس بحرارة الشباب تتنفس في كلماته. ولعل الشيخ إسكندر العازار وفق إلى تصوير الرجل وإنصافه خير توفيق حين قال يؤبنه: «عاش حر الضمير فكرا وقولا وفعلا، ومات حر الضمير فكرا وقولا وفعلا. يبكيه ضمير الأحرار، وتندبه الحرية. نشأ وطنيا خالصا صحيحا، وعاش جنديا لأشرف الأصول وأسمى الغايات ... إي، والإنسانية! كان للإنسانية نصيرا، ولأعدائها نذيرا، وبالإنسانية بشيرا، فلتبكه الإنسانية!»
وأديب إسحاق من أعمق كتابنا صلة بالثورة الفرنسية وبمبادئ مفكريها، وله لفتات إلى الثورة تملأ كل ما سطره قلمه، وله لفتات رائعة في وصف هذه الثورة واستنباط العبرة منها وضرب المثل بها. وفي كتاب «الدرر» (منتخبات من آثاره، طبع في بيروت سنة 1909) رسائل بليغة بعنوان: «نفثة مصدور»، خطها كما يقول في فرنسا «تحت سماء الإنصاف، على أرض الراحة، بين أهل الحرية، يسمع ألحانا في مجالس العدل، فيذكر أنين قومه في مجالس الظلمة وتحت سياط الجلادين، فينوح نوح الثاكلات، ويرى علائم النعمة في معاهد المساواة فيذكر شقاء سربه في ربوع الظلمة فيذرف الدمع ممتزجا بسواد القلب ويكتب به إليهم ...»
وقد أثبتنا في باب النصوص من هذا الكتاب رسائله الأربع التي تتعلق بالثورة الفرنسية . وأثبتنا كذلك جزءا من مقالته «حركة الأفكار» وهي تدور في أساسها على الثورة الفرنسية وسريان روحها من الغرب إلى الشرق، كتبها لمناسبة خلع السلطان عبد العزيز، وظهور حركات معارضة للشاه في بلاد فارس. وكثيرة هي النصوص الملائمة التي يمكن اختيارها من أديب إسحاق،
9
إلا أننا أثبتنا النصوص الرئيسة التي سبق ذكرها وعززناها بمقتطفات قصيرة من أقواله، واضطررنا إلى الاكتفاء بذلك نظرا لضيق المجال.
ونغادر أديب إسحاق إلى كاتب آخر من طلائع كتاب العرب ومفكريهم الذين ناضلوا الظلم في سبيل «قيم» ومبادئ يظهر عليها طابع من الثورة الفرنسية وآراء مفكريها؛ ذلك الكاتب هو عبد الله النديم الذي اضطر إلى الاختفاء من ملاحقة السلطات عقدا كاملا من حياته على أثر الثورة العرابية في مصر. وقد دون تيمور باشا في كتابه «أعيان القرن الثالث عشر» قصة عبد الله النديم واختفائه، فإذا هي حقائق عجيبة كاختلاقات الخيال. ولم يترك الشيخ نديم كثيرا من الآثار، ولا ريب أن يد الاضطهاد مسئولة عن ضياع بعض روائع قلمه، إلا أننا وقعنا على إحدى مقالاته التي تبين ما نحن بصدده، فأثبتناها مع النصوص. وسيرى القارئ أن عبد الله النديم يدعو ملوك الشرق إلى الشورى، ويؤيد دعوته بشاهد من الغرب، ويعد بأنه سيؤيدها بشواهد من القرآن الكريم في مقالة ثانية.
وإلى جانب عبد الله النديم يرتفع أمامنا شخص بقامة معنوية فكرية شاهقة؛ أعني عبد الرحمن الكواكبي مؤلف كتابي «طبائع الاستبداد» و«أم القرى». وغني عن البيان أن الكواكبي، كغيره من الأعلام الذين نسوق الحديث عنهم، لم يكن نتيجة لتيار واحد، وإنما اشتركت في تكوينه تيارات منها الثورة الفرنسية ومبادئها. وقد عرض الكواكبي في «طبائع الاستبداد» لذكر السبيلين الرئيسين من سبل الإصلاح في نظره، فكان أولهما: «سبيل النبيين»، وثانيهما: «سبيل الفئة التي اتبعت أثرهم»، يعني «فئة الحكماء الذين لم يأتوا بدين جديد ولا تمسكوا بمعاداة كل دين، بل رتقوا فتوق الدهر في دينهم بما نقحوا وهذبوا وسهلوا وقربوا.» وضرب مثلا لهذه الفئة فذكر «مؤسسي جمهورية الفرنسيس.» وكان الكواكبي معجبا بيقظة الشعب الفرنسي وتوثبه الثوري، ويرى «أن الحكومة، من أي نوع كانت، لا تخرج عن وصف الاستبداد ما لم تكن تحت المراقبة الشديدة والمحاسبة التي لا تسامح فيها، كما جرى في صدر الإسلام فيما نقم على عثمان بن عفان (رضي الله عنه) يوم خص بحكمه ذوي قرباه دون المسلمين، وكما جرى في عهد هذه الجمهورية الحاضرة في فرنسا في مسائل النياشين وبناما ودريفوس».
ويستطيع القارئ أن يرجع إلى النصوص التي اخترناها للكواكبي من طبائع الاستبداد وأثبتناها في هذا الكتاب؛ فإنها أوضح دليل على عمق تأثره بثورة فرنسا وأحرار مفكريها.
وينتقل بنا الكلام من الكواكبي إلى الدكتور شبلي الشميل، وهو فلتة زمانه في قبول النظريات الجديدة في العلم والسياسة واعتناقها اعتناقا مدركا واعيا. ترك الرجل مجلدين غنيين يحويان جل آثاره الأدبية، نشرتهما مجلة «المقتطف» باسم «مجموعة الشميل»، وليس يهمنا منهما في هذا الكتاب إلا الجزء الثاني. وطبيعي أن يكون الدكتور شبلي شميل قد تأثر بالثورة الفرنسية ومبادئها، على أنه لم يقف عند حدها، بل اعتبرها حادثة عالمية هي مرحلة من مراحل التطور البشري الذي كان يعتقد أنه سائر نحو الاشتراكية. ويكفينا هنا أن نثبت له هذه الكلمة في الثورة الفرنسية: «لولا تلك الثورة لما ارتقى الإنسان واصطلح نوع الأحكام إلى ما هما عليه الآن، ليس في فرنسا وحدها، بل في أوروبا كلها، بل في العالم قاطبة.»
ومع الدكتور الشميل يعرض ذكر فرح أنطون صاحب مجلة «الجامعة». وفرح هو معرب رواية «ديماس الكبير» عن الثورة الفرنسية، طبعت ثلاثة أجزاء في مجلدين: «نهضة الأسد» و«وثبة الأسد». وكان فرح، أول الأمر، شديد الإيمان بمبادئ الثورة يعتقد أنها الدواء لكل داء، ثم ضعف إيمانه. إلا أنه - كما قال عن نفسه - تغذى بهذه المبادئ حتى أصبح يحرم على نفسه رشقها ولو بوردة، حتى في المبادئ التي بطل اعتقاده بها. والواقع أن ارتياب فرح أنطون في قيمة الثورة ناتج عن أنه لم يرها - كما رآها الشميل - مرحلة من مراحل التطور البشري، واعتبرها - وهي التي حدثت في أواخر القرن الثامن عشر - دواء لكل داء في نظام الهيئة الإنسانية، ولو بعد مضي قرن خطا فيه التقدم خطى جبارة وجدت مشاكل تستدعي إصلاحات جديدة. ولنا رجعة إلى هذا الموضوع.
Unknown page