أسطورة قديمة جميلة
من الأساطير الصغيرة التي يدبجها الشاعر الإنجليزي كبلنغ ببراعته، وكأنه يرسمها بريشته، هذه الأسطورة الفريدة التي نقلها عن ديانة البراهمة، قال:
حدث في أحد الأزمان، أو عندما كان الزمن مبتدئا في ميلاده وعندما كانت الآلهة جديدة لم تعرف لها بعد أسماء، وحين كان الإنسان ما يزال جسمه نديا بالطين الذي جبل منه، أن هذا الإنسان نفسه وقف وتصدى للآلهة وادعى أنه هو أيضا إله.
ففحصت الآلهة ما قدمه من بينات ووزنتها فوجدت أن دعواه صادقة.
ولكن هذه الآلهة بعد أن سلمت بدعوى الإنسان تسللت إليه في الخفاء واختلست منه هذه الألوهية، وهي تنوي أن تخفيها عنه حتى لا يهتدي لها أبدا، ولكن هذا العمل لم يكن سهلا، فقد قالت الآلهة لنفسها إنها إذا أخفتها في أي مكان في الأرض فإن الإنسان لن يترك حجرا في مكان حتى يقلبه في البحث عنها والاهتداء إليها. ثم هي إذا أخفتها عندها فإنها تخشى أن يصعد الإنسان إليها في السماء ويقتنصها منها.
وبينما الآلهة جميعها في حيرة إذ تقدم إليها أعقلها وأحكمها وقال: اتركوا لي هذه المسألة فأنا أحلها.
ثم قبض بيده على هذه الشعاعة الصغيرة المضطربة التي تحتوي على ألوهية الإنسان، فلما صارت في قبضته، بسط كفه وإذ بها قد طارت منه، وعندئذ قال: هذا حسن. لقد أخفيتها حيث لا يستطيع الإنسان أن يحلم بمكانها. أجل، إني أخفيتها في الإنسان نفسه.
ومغزى هذه القصة أو الأسطورة الجميلة يدركه كل من قرأ تاريخ الصوفيين من قدماء العرب ومحدثي الأوربيين، بل أيضا من يقرأ الفلاسفة الجدد مثل جيمس أو برغسون.
ففي نفس كل منا شعاعة صغيرة تضطرب، هي هذه البصيرة القدسية التي ترفعنا أحيانا فوق عقولنا فنعرف منها من المواقف والمآزق الحرجة أننا أشرف مما كنا نظن، وأن فينا من السمو والعظمة ما لم يكن يخطر لنا في بال.
فهذا العقل الذي يسوقنا إلى الأنانية البشعة، ويحضنا على التنافس والتحاسد، ومغالبة الغير على ما في أيديهم، والاستزادة من العقار، والتقلص في ثنايا الشح، والتقتير بالمال والحياة، ينهزم أحيانا أمام هذه البصيرة القدسية، فترانا نضحي بأنفسنا في سبيل البر والخير يتمتع بهما غيرنا حين نكون نحن أشلاء أو رمادا، فالعقل مادي، وهو يطلب الأثرة، ولكن هذه البصيرة التي أخفتها الآلهة في أنفسنا، كما تقول الأسطورة الهندية، تغرينا بالإيثار وتدفعنا إليه فنسمو ونرتفع فوق أنفسنا، فنحقق بالدفاع عن الوطن أو الحرية ما نترك ثمرته لغيرنا بينما لا ننال نحن منه سوى التضحية بأنفسنا، فلو كنا أنانيين نقنع من الدنيا بمصلحتنا الذاتية لما رضي واحد منا بأن يضحي بنفسه.
Unknown page