1 - من هو العظيم
2 - روح التسامح
3 - كيف وماذا نقرأ
4 - الفتاة الحديثة
5 - كلكم راع
6 - الاعتدال
7 - مصلحتك هي مصلحة الجماعة
8 - الغاية من الحياة
9 - ميراث الأبناء
10 - الصغائر العظيمة
11 - المرأة أساس الحضارة
12 - وأنت أيضا رجل عظيم
13 - سوط الاحتقار
14 - سلطانك على نفسك
15 - الشيخ الشاب
16 - الاستقلال الروحي
17 - لا جديد تحت الشمس
18 - هذه الدنيا
19 - الطفيلية
20 - العلم والأدب
21 - أفخر الأثاث
22 - الروح الإنجليزية تتطور
23 - ماري
24 - أعجوبة الطفولة
25 - التفاؤل والتشاؤم
26 - هل اخترعت مصر الحضارة
27 - أغانينا
28 - عدو الظلم والاضطهاد
29 - الحق والقوة
30 - القرية المصرية
31 - قصيدة الحياة
32 - كيف نربي أنفسنا
33 - الهند العظيمة المسكينة
34 - مصر مركز الثقافة العربية
35 - هزيمة الأدب السخيف
36 - تربية الكبار
37 - تحديد النسل
38 - الإيمان يرقي الإنسان
39 - في الحب
40 - الحكم بالإعدام
41 - التغلب على المصاعب
42 - التسامح الديني
43 - الموتى لا يحكمون الأحياء
44 - العبيد الذين غلبوا نابليون
45 - خطة الدفاع
46 - في شرف الهزيمة
47 - المناقشات حول الأدب
48 - أسطورة قديمة جميلة
49 - أجمل الأشياء
50 - سعة الصدر وحاجتنا إليها
51 - البذرة
52 - ما هو التمدن
53 - في التقدم
54 - الاجتهاد
1 - من هو العظيم
2 - روح التسامح
3 - كيف وماذا نقرأ
4 - الفتاة الحديثة
5 - كلكم راع
6 - الاعتدال
7 - مصلحتك هي مصلحة الجماعة
8 - الغاية من الحياة
9 - ميراث الأبناء
10 - الصغائر العظيمة
11 - المرأة أساس الحضارة
12 - وأنت أيضا رجل عظيم
13 - سوط الاحتقار
14 - سلطانك على نفسك
15 - الشيخ الشاب
16 - الاستقلال الروحي
17 - لا جديد تحت الشمس
18 - هذه الدنيا
19 - الطفيلية
20 - العلم والأدب
21 - أفخر الأثاث
22 - الروح الإنجليزية تتطور
23 - ماري
24 - أعجوبة الطفولة
25 - التفاؤل والتشاؤم
26 - هل اخترعت مصر الحضارة
27 - أغانينا
28 - عدو الظلم والاضطهاد
29 - الحق والقوة
30 - القرية المصرية
31 - قصيدة الحياة
32 - كيف نربي أنفسنا
33 - الهند العظيمة المسكينة
34 - مصر مركز الثقافة العربية
35 - هزيمة الأدب السخيف
36 - تربية الكبار
37 - تحديد النسل
38 - الإيمان يرقي الإنسان
39 - في الحب
40 - الحكم بالإعدام
41 - التغلب على المصاعب
42 - التسامح الديني
43 - الموتى لا يحكمون الأحياء
44 - العبيد الذين غلبوا نابليون
45 - خطة الدفاع
46 - في شرف الهزيمة
47 - المناقشات حول الأدب
48 - أسطورة قديمة جميلة
49 - أجمل الأشياء
50 - سعة الصدر وحاجتنا إليها
51 - البذرة
52 - ما هو التمدن
53 - في التقدم
54 - الاجتهاد
في الحياة والأدب
في الحياة والأدب
تأليف
سلامة موسى
مقدمة
بقلم سلامة موسى
حوالي عام 1923 كنت أحرر الصفحة الافتتاحية لإحدى المجلات الأسبوعية، وبقيت على ذلك إلى أواخر عام 1929، وكنت أتوخى فيها مخاطبة الشباب وأنبههم إلى حقائق الحضارة ومعاني الثقافة.
وكان استعدادي لهذا الموقف، موقف الإرشاد للشباب، أني أقمت في أوروبا نحو خمس سنوات أتأمل وأفكر في الأسباب والعوامل التي رفعت الأوربيين حتى حصلوا على الثراء والقوة والعلم في حين تأخرنا نحن عن كل ذلك، فكنت أكتب هذه الفصول في شرح ما فهمت من الحضارة الأوربية، وفي 1930 جمعت بعض هذه الفصول وأصدرتها كتابا بعنوان «في الحياة والأدب»، وفي هذا العام (1956) طلبت إلى «دار النشر المصرية» أن تعيد طبع هذا الكتاب، فعدت إليه لكي أتصفحه وأحذف منه ما تغيرت قيمته أو سقطت بمرور هذه السنين.
وحين أتأمل الكتاب أجد أن وحدة الهدف واضحة في جميع فصوله. إذ هي تنوير وتبصير بالحضارة والثقافة ودعوة إلى التغيير والتطور.
وأول ما التفت إليه، حين كنت في أوروبا، أن هذه القارة إنما سادت سائر القارات بحضارة الصناعة التي تغذوها ثقافة العلم، وأنه ليس هناك من فروق بين مصر وبريطانيا. أو مصر وفرنسا، سوى هذا الفرق، وهو أننا نعيش على الزراعة في الأكثر بينما يعيش الإنجليز والفرنسيون على الصناعة، فهم أثرياء ونحن فقراء، وهم يعرفون العلوم ونحن نجهلها، وهم أقوياء ونحن ضعفاء، وإذا نحن أخذنا بالصناعة فإننا نصير مثلهم سواء في القوة والثراء والعلم.
وكانت «نظرية التطور» بجميع مركباتها المادية والاجتماعية قد لابست تفكيري منذ شبابي، فوجدت فيها إلهاما ونورا، ودعوت إليها في حرارة، خاصة وأني وجدت بلادنا تستمسك بتقاليد خانقة تعوق تقدمنا وارتقاءنا وتجرنا إلى الماضي بينما الأمم الناهضة تثب إلى المستقبل.
والمستقبل حياة والماضي موت.
وكانت للمرأة مقام أمامي في كل تفكيري الارتقائي لبلادنا؛ ولذلك كتبت وألفت الكتب في ضرورة مساواتها بالرجل، ليس في الحقوق فقط بل في الواجبات، حتى تختبر الدنيا وتعيش إنسانا مجربا عارفا حكيما كالرجل سواء؛ ولذلك يجب أن تزامل الرجل في المدرسة والمصنع والمتجر والمكتب.
ووجدت أن مكافحتنا للاستعمار الأجنبي لن تكون ناجحة كاملة إلا إذا كافحنا الرجعية المصرية الخانقة؛ ولذلك لم أهمل الدعوة إلى الآراء المصرية في الأخلاق والعقائد.
ومنذ شبابي وأنا على يقين بأن الحضارة الأوربية ليست هي الكلمة الأخيرة في تاريخ الحضارات، وإنما هي فترة انتقال من الانفرادية البغيضة إلى الاشتراكية السخية، ولم أنكر يوما ما هذا المذهب الذي جلب علي كثيرا من المتاعب من دعاة الظلام من الرجعيين المصريين والمستعمرين الإنجليز.
والقارئ لهذا الكتاب يجد آرائي مبسطة موجزة، فإذا شاء التعمق فليقرأ مؤلفاتي الأخرى.
الفصل الأول
من هو العظيم
حدث مرة أن جريدة «الماتن» استفتت قراءها عن أعظم رجل فرنسي خدم فرنسا؟ فجاءتها الخطابات تترى من جميع الأنحاء وجميع كاتبيها غيورون على أن يكون عظيمهم عظيم الأمة بأجمعها، وكان من المنتظر أن نابليون سيفوز بأكبر عدد من الأصوات، ولكن جاءت النتيجة عكس هذا المنتظر وظهر على قمة العظماء شخص قد لا تكون قد سمعت به وهو باستور.
ومن باستور هذا الذي أربت أصواته على الأصوات التي نالها نابليون؟
باستور رجل وضيع الأصل، اشتغل بالعلم فعرف الميكروب، وأوجد مصلا لمرض الكلب، وعالج كروم فرنسا من وباء كان يفتك بها، واهتدى إلى طريقة لتطهير اللبن، وهذه الأشياء الوضيعة أدرك الشعب الفرنسي أنها أكبر من المعارك العظيمة التي خاضها نابليون ورفع بها شأن فرنسا الحربي؛ ولذلك حكم لباستور بالتفوق في العظمة.
فالشعب الفرنسي يقول بصريح القول: إن العظمة هي الفائدة التي تعود على الأمة من العظيم الذي ينشأ بينها، وعظمة نابليون ليست طبلا أجوف رنانا لا فائدة فيه، فإن فرنسا كانت في بداية تسلمه مقاليدها أكبر مما كانت عليه عندما انهزم، وأسره الإنجليز، ونفوه، بعد أن كبد الفرنسيين نحو مليون قتيل، وأما باستور فإنه أنقذ ثروة الوطن ووقى الأطفال من الموت أو خفض آلام المرضى وفتح للطب فتحا عظيما، وإذا كان الأطفال يستهويهم ذكر نابليون ويتغنون بمدحه ويصلصلون بسيفه فإن الرجل الذكي لا يرى مندوحة من أن يحكم بالعظمة الحقيقية لباستور دون نابليون.
وما أحرانا في مصر أن نراجع أنفسنا ونعيد النظر في تقدير عظمائنا، ومقدار الفائدة التي عادت من كل منهم على بلادنا، ولكن كيف نقيس هذه الفائدة؟
إن العظيم يجب أن يكون هو الرجل الذي كسب للأمة حقوقا لم تكن لها من قبل، وهو الرجل الذي وجه العقول إلى وجهة وطنية مصرية بعد أن كانت قوميتها متلاشية في فوضى الأفكار التي ورثناها عن المماليك، وهو الذي رفع التعليم، وهو الذي نظم للبلاد طرق الري والصرف ورفع مستوى الصحة.
ولسنا نعين شخص هذا العظيم الآن وإنما يجب أن نقيسه بمقدار الفائدة التي عادت من وجوده على البلاد، فإذا قيل لك إن هذا الرجل أو ذاك عظيم فاسأل ماذا فعل للبلاد وما هو الربح الحقيقي الذي جنته منه؟ ولو سئلت أنا هذا السؤال لأجبت بأن العظيم في مصر هو الذي ينجي الفلاحين من البلهارسيا والإنكلستوما، وهو الذي يعمم التعليم الحقيقي لا تعليم القرون الوسطى، وهو الذي يخترع لنا طريقة لعمل الأسمدة الكيمياوية.
وأخيرا هو الذي يوجه الأمة نحو الحضارة الأوربية، وبعبارة أخرى نقول إن العظيم هو من أشبه باستور بتواضعه ومثابرته على خدمة أمته في الشئون الصغيرة، وليس هو نابليون بجميع ما فيه من طبل أجوف رنان، فبلادنا مثلا مفتقرة إلى الصناعة، نبيع قطننا كل عام بأبخس الأثمان، ثم نعود فنشتري بعضه بأرفع الأثمان، فالعظيم حق العظمة هو ذلك الذي يستطيع أن يعلم الفلاح كيفية غزل القطن ونسجه ويوجد في البلاد حركة صناعية تضمن لنا حياتنا الاقتصادية.
الفصل الثاني
روح التسامح
ربما كان القارئ يجهل أن النظام البرلماني إنما يقوم على أساس التسامح وينجح بمقدار ما في الأمة من روح التساهل في الآراء والمذاهب؛ لأن هذا يقضي بحكم الكثرة وخضوع القلة ريثما يدور الزمن وتعود القلة إلى كثرة، فلو تشددت القلة في التمسك برأيها وأبت الخضوع لرأي الكثرة لانهدم النظام البرلماني من أساسه وسادت الفوضى مكانه، ومن هنا تجد أن الأمم العريقة في هذا النظام مثل إنجلترا يختلف أعضاء برلمانها جد الاختلاف في الرأي فلا تسمع من أحدهم كلمة بذيئة في حق الآخر، وهذا على خلاف ما يحدث في الأمم التي جد فيها هذا النظام على أساس استبداد قديم سابق حيث تبلغ الخصومة السياسية حد الضرب والقتل كما كان يحدث إلى عهد قريب بين بعض الأمم التي تعيش في البلقان.
ولكن إذا كان التسامح ضروريا لنجاح النظام البرلماني فهو أكثر ضرورة لنجاح سائر مرافق الأمة؛ إذ لا أدب ولا تجارة ولا تعليم إلا بالتسامح، فالأدب لا يرقى، بل لا يعيش، إلا إذا أشرب القراء والكتاب روح التسامح، فإذا كان كل قارئ يقف مستعدا كي يضرب كل مؤلف لا يكتب وفق ما هو يهوى، ويؤلب عليه الناس كي يقطعوا رزقه ويحرموه من العيش، لكسر كل كاتب قلمه وأقفرت الأمة من مصابيح الهدى التي تهديها، ولو كان كل كاتب يقف من نفسه «شاهد ملك» ليدل الحكومة على مآخذ كل كاتب آخر ويطلب إليها معاقبته لما بقي في الأمة رجل واحد يكتب، وكذلك لو أننا تشددنا في التجارة وسألنا كل من يعاملنا عن دينه ورأيه لما تبادلنا التجارة مع أحد، ولقد أصيبت أوروبا عند ختام الحرب العالمية الأولى بمثل هذه النزعة فرفضت الاتجار مع روسيا لأنها شيوعية، ثم تغلب عقلها على عواطفها وعادت فتسامحت وتبادلت وإياها المتاجر، واعتبر ذلك أيضا في التعليم، فهذه نظرية التطور مثلا تدرس في مدارسنا الآن فلو أن روح التعصب كانت تشمل برامجنا التعليمية لحرم أبناؤنا من درس النظرية العظيمة التي أصبحت مفتاحا لجميع العلوم والآداب والأديان.
فتقدم العالم يقتضي التسامح، وأساس التسامح هو معرفة المتسامح بجهله، كما أن أساس التعصب هو غرور المتعصب بمعرفته، وليس في العالم حقيقة لا يمكن الشك فيها، أو لا يمكن النظر إليها من وجهتين مختلفتين، حتى إن أينشتاين يشك الآن في البديهيات ويكاد يقول إن مجموع اثنين واثنين ليس على الدوام أربعة.
فإذا كان الشك يبلغ هذا الحد في البديهات فكيف بالبحث في التاريخ أو الاجتماع أو السياسة حين يكون الرأي الجديد مخالفا للمصلحة الشخصية لبعض الطوائف أو مناقضا للعادة المألوفة المحبوبة أو مصادما لملاذ الكسل التي يأبى المتنعم بها أن ينشط لدرس الجديد؟
فهل لنا أن نطلب إلى الشيخوخة المسنة أن تتمهل وتتسامح مع نشاط الشباب، وأن تعرف أن الأمة تحتاج على الدوام إلى النظر إلى الأمام وإلى المستقبل كما تحتاج أحيانا إلى النظر إلى الخلف وإلى الماضي؟
لن يضير الأمة أن يؤلف أحد شبابها كتابا يخالف رأي شيوخها لأن هذا الكتاب ستتناوله العقول بالنقد والتمحيص، فيزول غثه ويبقى ثمينه على مدى الزمن، فلنقتل الكتاب بحثا وفحصا، ولكن يجب أن نترك المؤلف فلا نطلب أن نقطع رزقه؛ لأن هذا الطلب الأخير هو من الخطط التي اندثرت بزوال القرون الوسطى حين كانت «محكمة التفتيش» تصادر من تتهمه بالزندقة في أملاكه وتصفيها.
إننا لا نزال جهلة بحقائق هذا العالم، وجهلنا هذا يمنعنا من البت والحزم؛ ولهذا يجب أن نتسامح فيما يقوله غيرنا؛ لأننا لسنا من الثقة بآرائنا بحيث نستطيع أن نقطع بسخافة آراء الغير أو ضررها، ويجب أن نتذكر أن لكل جديد صدمة تشبه ما تلاقيه النفس لأول ما تسمع لحنا جديدا، فقلما نستطيب اللحن الجديد لأول سماعنا إياه ولكن الاستطابة تعقب المعاودة، وكذلك الآراء الجديدة تصد عنها النفس كما تصد عن الزي الجديد ثم تستحسنه بالمعاودة والألفة، والتقدم والرقي كلاهما مستحيل ما لم نقبل الجديد ونتسامح فيه.
الفصل الثالث
كيف وماذا نقرأ
الناس رجلان: أحدهما يحتال للانتفاع من وقته، كأنه يجعل من الساعة ساعين، والآخر يحتال لإضاعة وقته بحيث يحيل الساعة إلى نصفها أو إلى العدم، وهناك وسائل عديدة عند هذا الفريق الأخير لقتل الوقت وتضييع الفرص وتقصير العمر، حتى لتشعر من إتقانهم معرفة هذه الطرق أنهم يندمون على أنهم قد ولدوا إلى هذا العالم، ويمكنك أن تحيل النظرات في القهوات وتدرس بعض الألعاب حتى تتأكد أنها كلها تمارس هربا من الحياة وسآمة من الدنيا وندما على الوجود.
لسنا بسبيل الكلام مع هؤلاء وإنما نريد أن نتحدث إلى الفريق الأول الذي يحتال للانتفاع من وقته، والذي لا يندم على وجوده في هذا العالم، فمن ضروب الانتفاع بالوقت واكتساب القوة بإثارة الذهن نجد القراءة في المكان الأول، وقد كانت القراءة من وسائل الرقي في الأزمنة الماضية ولكنها كانت من الوسائل الثمينة التي لا ينالها إلا المبالغون في الجد وأبناء الأثرياء. أما الآن فهي ميسرة للجميع لا يتكلف طالبها سوى أقل المال أو لا يتكلف شيئا مطلقا.
وسيأتي زمن ما يعيش فيه الإنسان ليقرأ ولا يكاد يجد عملا في العالم يكده ويملأ فراغه. بل يمنح كل وقته تقريبا لمثل القراءة والدرس.
ولكن كيف يجب أن تكون القراءة؟ هل يجب أن نسير فيها ونسلك سبيلها على النحو الذي يسلكه لاعب النرد أو الشطرنج، تزجية للوقت وفرارا من الحياة، فنقرأ القصص تلو القصص وعشرات المقالات «السياسية» يرادف معناها في الواحدة معاني الأخرى؟
كلا، إنما يجب أن نقرأ لننتفع، فالمعرفة قوة والجهل عجز، فلنقرأ إذن كي نعرف ونزداد علما بالأشياء، كي نزداد بذلك إدراكا للحياة وإحساسا بها، وليس في مقدرة كل منا أن يختبر جميع شئون هذه الدنيا اختبارا مباشرا، إنما في مقدورنا جميعا أن نكتسب علما بها عن سبيل الآخرين الذين اختبروها وأثبتوا اختبارهم بأقلامهم لمنفعتنا.
ومعنى هذا أنه يجب أن يكون لكل منا مكتبة في منزله، وأن يعد الكتب من ضروب الأثاث الضروري للمنزل، بل هي أكثر ضرورة من بعض الأثاث الذي ترتكم به بعض المنازل في غير منفعة سوى الفخر الكاذب والأبهة السخيفة، فالكتب هي أثاث الذهن ينقلب فيها ويرتاح إليها ويستفيد منها ويستنير بمعارفها.
فيجب إذن أن تعمل عقولنا في انتقاء الكتب والمجلات والصحف، فلا نقتني إلا ما ينفعنا ولا نقرأ إلا ما هو ضروري لنا، مما يرفعنا فوق مستوانا وينير أذهاننا ويزيدنا قوة، وخير أنواع التربية حين يربي الإنسان نفسه، فيقيس كفاياته وقدر ما يحتاج إليه من التثقيف؛ لأنه عندئذ يحسن التقدير ويسير مع هواه في انتقاء المواد، والهوى من أعظم الوسائل في تسهيل الصعب وتمهيد الوعر، ومن الناس من لا يسعده الحظ بتربية مدرسية وافية ولكنه يجد من وقته الوسيلة لتربية نفسه بالكتب والمجلات إذا هو ثابر على القراءة وأحسن الاختيار في اقتناء الكتب، وليست المدرسة إلا البداية للتربية الحقيقية فهي تغرس في النفس (أو يجب أن تفعل ذلك) تلك النزعة التي تجعل كلا منا طول حياته طالبا للعلم ساعيا وراء الثقافة.
ولن يكون ذلك إلا بالكتب وتقليبها والنظر فيها واعتياد التنقيب والبحث. هذا إلى نزعة موفقة تحملنا على الجد والمنفعة لا التسلية وإضاعة الوقت، ولسنا نقول إن قراءة الصحف السياسية تخلو من الفائدة، وإنما نقول إن الإدمان عليها مع تكرار معانيها تضييع للوقت والمال معا، فلنقرأ من التاريخ والشعر وسائر فروع الأدب والعلم ما ننتفع به وتزكو به عقولنا ويعظم به إحساسنا للحياة، فقارئ التاريخ يضيف إلى عمره أعمار الأجيال الماضية وقارئ كتب السياحات يضيف إلى وطنه أوطانا أخرى، والتعمق في العلوم يزيد الإنسان بصيرة.
الفصل الرابع
الفتاة الحديثة
عندنا في مصر طبقة من الكتاب إذا أعورتهم مادة الكتابة عمدوا إلى موضوع المرأة فنعوا عليها تبرجها وفسادها وانحطاطها، وقد ألف القراء منهم هذه النغمة فلم يعد يبالي بها واحد منهم، وقلما يقرأ أحد هذه المقالات الكثيرة التي تملأ الصحف بها أعمدتها عن المرأة لأن موضوعها ومضمونها قد عرفا وسئما معا.
ومضمون هذه المقالات أن المرأة الحديثة أكثر تبرجا وأحط أخلاقا من والدتها أو جدتها، وليس ينكر أحد أن في مصر، وخاصة في القاهرة، نساء متبرجات يسرن في ضوء النهار قبل الظهر وبعده بلباس السهرات مكشوفات أعلى الصدر وأعلى الظهر، ومنهن أيضا من يضعن المساحيق على وجوههن ويصنعن الوشي المختلف والمضحك معا لملابسهن، وكثيرا ما يكون الجهل داعية ظهورهن بهذه المظاهر، فهن لا يتعمدن هذا المظهر وإنما يجهلن المظهر اللائق، ومقابلة المرأة القديمة بالمرأة الحديثة موضوع دائم الطلاوة يغري الكتاب بالكتابة حتى في أوروبا، فهناك ينعون على الفتاة الحديثة ترخصها في عادات كانت جدتها لا تجرؤ على اعتيادها، مثل التدخين والمجاهرة بالرأي وتقصير الثياب وتضييقها وقص الشعر ونحو ذلك.
ولكن للفتاة الحديثة من يدافع عنها ويقطع ألسنة السوء التي تعبث بشهرتها، فقد رد أحدهم على ما تتهم به، وقابلها بالجدات القديمات، فوجد أن الفتاة الحديثة على الرغم من انطلاقها في الحرية أكثر شعورا بالمسئولية من جدتها، وأكثر استعدادا لمواجهة الشدائد، وأكثر اعتمادا على نفسها، وأعرف بوسائل العيش الشريف منها، فقد كانت آداب الجدات محصورة في الصمت وتكلف الأدب أمام الرجال والاقتصار على أعمال البيت، وكانت تلبس من الثياب الضافية ما يكفي الواحد منها لأن يفصل منه ثلاثة أو أربعة مما تلبسه الفتاة الحديثة، ومن يقف في لندن عند فوهات أو محطات الأنبوبة (أي القطار الذي يجري تحت الأرض) ويرى آلاف الفتيات اللواتي يكدحن للمعاش وهن مقصوصات الشعر مقتضبات الملابس؛ لا يسعه إلا احترامهن وإكبار نفوسهن، ولو كانت جداتهن في مكانهن لقنعن بالقعود في البيت والرضا بالدون من العيش، ولكن هؤلاء الفتيات أطمع في مسرات الحياة وأشجع على مشقاتها وأنزع إلى الرجولة منهن، وأذكى عقلا وأخف يدا وقدما من أن يرضين بلزوم البيت مع الفقر والمسكنة في حين يمكنهن الاكتساب بالعمل والجد.
هذا في لندن، والحال ليست كذلك في القاهرة، ولكنها ليست من الخطر بالمقدار الذي يوهمنا به زعماء القديم من كل شيء، فقد سلمنا بأن في القاهرة طبقة من الفتيات تتبرج عن جهل لا عن قصد، والذي يدعونا إلى هذا الظن أن تبرجهن خلو من الذوق، ولو كان عندنا رأي عام مهذب يدري بالأذواق والأزياء لكانت لفتة واحدة من الرجال يزدرون بها هذه الأزياء تكفي لأن تمنع الفتيات من التبرج منعا باتا، ولكننا نقول إن الفتاة الحديثة في مصر لا تزال مع ذلك أصح نظرا للحياة من والدتها أو جدتها؛ فهي تمشي الآن وحدها في الأسواق معتدلة القوام مرتفعة الرأس، في حين كانت جدتها تمشي متعثرة مع الخدم، وهي تقرأ بينما كانت أمها جاهلة، وهي لا تبالي بالسمن في حين أمها كانت ترهق أمعاءها بأكل المسمنات، وهي ترى العالم بعينيها ولا تضع على وجهها سوى نقاب خفيف بينما كانت أمها تخفي عينيها عن العالم، فإذا قيل بعد ذلك إنها تداعب الفتيان في الطريق فإنه يجب على القارئ أن يذكر أن المداعبة تحتاج إلى اثنين فإذا لمنا الفتاة وجب أن نلوم الفتى، وهو باللوم أحق لأنه هو البادئ.
والناس يحبون مقابلة الحاضر بالماضي فيصغرون الأول ويكبرون الثاني، فتراهم يصفون القدماء بأنهم كانوا أحفظ للذمم منا، وكانوا أعف في الحرمات منا، وكانوا وكانوا، وكل هذا كذب لا أصل له؛ فإن جدودنا مثلا رضوا بحكم المماليك فكانوا أجبن منا، ورضوا بمظالم كثير من حكامهم حتى أشرفت البلاد على الخراب، وقد زار أندلسي قبل نحو 700 سنة بلادنا فذكر أن الفحش والزنا في القاهرة لا حد لهما، وأن قذارة مدننا لا تطاق، فالقول بأن المرأة القديمة تفضل المرأة الحديثة لغو لا يقول به إلا الجاهل.
الفصل الخامس
كلكم راع
كنت أقرأ هذا الأسبوع قصة من تلك القصص السرية للكاتب الإنجليز ولز، وكل قصة من قصص ولز تبحث في موضوع قائم برأسه أكثر ما يكون اجتماعيا أو نفسيا، وأقل الأشياء حظا في قصصه، على خلاف ما نرى في القصص الأخرى، هو العشق.
وموضوع هذه القصة رجل يحترف حرفة وضيعة تصد عنها نفسه وطبيعته ولكن عيشه يربطه بها ويقهره على لزومها فيلزمها صاغرا، وأخيرا تطمو به نفسه إلى الخلاص منها بطريقة مختصرة غاية في الاختصار وهو أنه يحسب نفسه ملكا ويجن ويرسل للمارستان.
ومثل هذا الجنون يعرفه المشتغلون بعلم النفس، وقد أخذ المؤلف يحلل نفس هذا المسكين ويعلل جنونه علة بعد علة مما لا نرى المجال يتسع لإيراده، وإنما نختصر القول بأن نقول إن في نفس كل إنسان نزعة إلى العلا والخير وإنه مهما كانت حرفته وضيعة ففي قرارة نفسه بذرة الملوكية التي تأبى الضعة والهوان.
وبعضنا تنزع به ملوكيته إلى الجري وراء المناصب العليا من نيابة أو وزارة أو غيرهما، وبعض آخر تسمو به نفسه إلى البر فيؤلف الجمعيات الخيرية أو ما شاكلها، وثم بعض آخر أيضا يعمد إلى هذا العالم فيبسط عليه سلطان عقله ويدرسه ويتعمق في معرفة أسراره، والمعرفة ضرب من التسلط، وبعض آخر يعمد إلى التجارة فيستولي بها على مملكة صغيرة من محتويات هذا العالم يطمح بذلك إلى نوع من الملوكية، وقد يكون مخدوعا.
فكل هذه حالات تدل على نزوع كل إنسان إلى السمو وحب التسلط والحصول على ضرب من الحكم والرغبة في أن نطبع العالم بطابعنا، وهذا ما قصد إليه المؤلف الإنجليزي، وقد بالغ في قوة هذا النزوع حتى نسب الجنون إلى رجل قهرت فيه هذه العاطفة بلزومه حرفة وضيعة لا يرى فيها مجالا للظهور في العالم والعمل لرقيه وطبعه حتى ثارت عليه نفسه واقتضته دينها كله بأن أوهمته أنه ملك.
وفي العربية قول مأثور وهو: «كلكم راع وكل راع مسئول عن رعيته» وهو معنى ما قاله ولز حين قال: «كلكم ملك وكل ملك مسئول عن مملكته.»
ولكن كيف نمارس هذه الملوكية، ونأخذ على عاتقنا قسما من مسئولية الحكم؟
نمارسها برقابة الحكام ومعونتهم على العدل والبر وكفهم عن الظلم والعسف، ونمارسها أيضا بأن نتولى نحن شيئا من الحكم بمعونة الناس على الصلاح والمعيشة الحسنة وامتلاك ناصية الطبيعة بالاكتشافات العلمية؛ لأن الاكتشاف نوع من التسلط، وإذاعة المعارف بين الناس نوع من الحكم.
أجل يجب أن يراقب كل منا حكومة البلاد التي يعيش فيها، ويجب أن نستعد لأن نسأل نواب البلاد، كما يسأل الملك وزراءه في نهاية العام ما هو الإصلاح الذي تم على يدكم للبلاد؟ فإذا لم يكن ثم إصلاح قد تم فإن العالم قد ذهب سدى وضاعت فرصة ثمينة لتقدم الأمة ونجاحها.
وكذلك يجب أن نغضب عند ما نرى موظفا يهين أحد الناس، أو يؤدي عمله بالارتشاء، أو يستعمل سلطته في الأذى والضرر، ويجب ألا يقف غضبنا عند حد السخط السلبي، بل ينبغي أن نعبر عن سخطنا تعبيرا إيجابيا ونعمل عملا يقتضي تأديب هذا الموظف حتى يعتبر به غيره.
وثم مملكة أخرى، بل ملكوت آخر، يجب أن نمارس فيه سلطاننا، وهذه المملكة أو هذا الملكوت هو هذا العالم، من حيث حدوده الجغرافية والتاريخية أو من حيث حدود الزمان والمكان، فيجب أن ندرسه ونعرفه لأنه لا يليق بملك أن يعيش جاهلا ولا براع أن يحكم بين الناس وهو يجهلهم ويجهل تاريخهم. «كلكم راع وكل راع مسئول عن رعيته»،أجل، ولكن كيف ترعى رعيتك إذا لم تنصب نفسك لدرس شئون هذه الرعية وتفهم موارد كسبها وأبواب نفقاتها وظلم الظالمين فيها وعدل العادلين بها؟ فشرط هذه الرعاية، بل الشرط اللازم لأن تكون ملكا، هو أن تدرس، ثم تراقب حكومتك وأمتك، وأن تعمل للخير في وطنك، وأن تبذل مالك ونفسك بهمة ملوكية عندما تقتضي الظروف ذلك منك، كما يبذل الملك الشجاع نفسه في الدفاع عن أمته.
الفصل السادس
الاعتدال
كان أحد المتهكمين يقول إن الاعتدال دليل الضعف، وقد يكون كذلك في بعض الحالات، فمن الناس من يتورع عن الخمر أو يعتدل في تناولها لما يرى من أثرها السيئ في صحته، ومنهم من يعتدل في الطعام لأن معدته ضعيفة وإن كانت نفسه نهمة.
ولكن هناك اعتدالا يجب أن نصطنعه للقوة لا للضعف، فيجب مثلا أن نعتدل في الرياضة البدنية حتى نجد وقتا للرياضة الذهنية، ويجب أن نعتدل في درس العلوم حتى نتمكن من درس الآداب، ويجب أن نتوسط ولا نغلو في جمع المال كي نتمتع بالأصدقاء والكتب وهناء العائلة والنزه.
فالحياة الكاملة أو التي تنشد الكمال يحتاج صاحبها إلى الاعتدال والتوسط؛ لأن هذه الحياة لا تبلغ القوة والسلطان على الوسط الذي تعيش فيه حتى يأخذ صاحبها بطرف من جميع مهام هذا العالم، فحياة الأديب الذي يدمن النظر في الأدب قد تنتهي به إلى أن يصير دودة من ديدان الكتب يؤثر الجملة المزخرفة والعبارة المبهرجة على متع الحياة الحقيقية، والكتاب مهما قيل في مدحه هو نسخة مترجمة عن الحياة وليس هو الحياة بالذات، وحياة العالم الذي يكتب عن العلم ولا ينظر في الأدب هي أيضا حياة ناقصة تدعو إلى قصر النظر وضيق الذهن، وإنما الحياة المثلى هي حياة الاعتدال بين شهوة العلم وشهوة الأدب، وكذلك يمكن القول عن رجل الأعمال المكب على جمع المال، المنغمس في شهوة الحصول على أعراض العالم، يكد طول يومه وبعض ليله في اقتناء الدور والمصانع والأراضي كأنه أحد الفعلة الذين يعملون عنده. بل قد يكون الفاعل أكثر تمليا للحياة وتمتعا بمسراتها منه.
وقل مثل ذلك في سائر الناس، فالواجب أن نعتدل ونقنع من الحصول على بعض أشياء كي نجد من الوقت والقدرة ما نتمكن بهما من التمتع بأشياء أخرى؛ لأن الحياة أوسع وأعظم من أن يسعها الإكباب على عمل واحد وإدمان النظر والاجتهاد فيه.
ولقد كان المسيح يتكلم عن «الحياة الوفيرة» المليئة بالتجارب والمتع، وكان يتخيل هذه الحياة كمثل أعلى إزاء ما كان يرى من حياة ضنية يعيشها الناس، وكم من الناس الآن يعيش حياة ضنينة لا يعرف من الدنيا سوى عمله الذي يربح منه قوته، يكب عليه بكل قوته ويتعامى عن كل ما حوله كأنه لم يخلق إلا ليأكل.
لقد كان «جيته» الألماني - ولا يزال - مضرب المثل في التمتع بالحياة. كان أديبا وكان عالما، وكان سائحا وكان موظفا كبيرا، بلا السياسة وحنكته الدسائس، وعرف الحب شابا وكهلا، وكان يعرف للطعام الحسن قيمته، ويشرب أجود الخمور في الليل وأجود أنواع الشاي في النهار، فعاش بذلك حياة وفيرة لم يضن فيها على نفسه بشيء من متعها.
ولسنا جميعنا في كفاية جيته، وقد لا نستطيع أن نتمتع بما تمتع به، بل قد تكون بعض متعه آلاما لبعض الناس، وإنما قصدنا أن نقول إنه ينبغي لنا الاعتدال في العمل الذي نزاوله كي تتاح لنا الفرصة للتمتع بالحياة، فإن تعدد وجوهها يقتضي أن نلم بها كي نعرفها دون مبالغة أو إدمان في أحدها.
فالاعتدال فضيلة يدعونا إلى ممارستها الإحساس بالقوة لا الإحساس بالضعف، فيجب على المعتدل ألا يخشى تهكم المتهكمين، وكم في الحياة من متع نجهلها ونحرم أنفسنا منها وهي على مدى الذراع في متناول كل إنسان لو أراد، فنحن نعيش مثلا في مصر التي هي أصل حضارة العالم أجمع بشهادة العلماء، ومع ذلك نجهل آثارها التي تكشف لنا عن تاريخ العقل الإنساني وضلالاته، ونحن نعيش في عصر حافل بالمخترعات والمكتشفات، وأي شيء أمتع للنفس من أن ندرس هذه الأشياء ونجربها. أجل، ندرس آلة الطيارة ونركبها فنغذي الذهن والإحساس معا. أليس من العار أن نموت قبل أن نركب الطيارات ونقضي حياتنا مكبين على عملنا كأننا مسخرون له؟
الفصل السابع
مصلحتك هي مصلحة الجماعة
إنك تعمل ضد نفسك إذا عملت لنفسك فقط؛ لأن مصالحك متعلقة بمصالح الجماعة التي تعيش بينها بل بمصالح العالم كله، وهذه حقيقة عرفتها بعض الدول التي كانت تحارب ألمانيا، فإنها ظنت أن بالقضاء عليها تنفرد هي وحدها بسلطتها في العالم، ولكن خراب ألمانيا عاد بالخراب على أعدائها أيضا لأن أمم العالم متضامنة لا تقدر إحداها أن تبيع شيئا ما لم تقدر الأخرى أن تشتريه، فالنية السيئة التي انطوى عليها بعض الدول لألمانيا عادت عليها هي نفسها بالضرر نفسه الذي عاد على ألمانيا، بل ربما بأكثر منه.
وقد بدأ الإنجليز يدركون مغزى آخر لهذه النظرية في أحوالهم الداخلية فقد رأوا من الرواج في الولايات المتحدة ما تعجبوا له ولم يفهموا سره إزاء الكساد الذي يرونه في بلادهم، وأخيرا عرفوا أن زيادة أجور العمال في أميركا تزيد قدرتهم على الثراء فتروج الأعمال ويعم الرخاء أخذا وعطاء. أما في إنجلترا فإن كل محاولة لإنقاص الأجور تنشر الكساد بين الناس؛ لأن العمال وهم كثرة الأمة لا يستطيعون الشراء، فأصحاب المصانع الذين يريدون رواج مصنوعاتهم لا يمكنهم أن يحققوا ذلك ما داموا يعملون في الوقت نفسه على إنقاص أجور عمالهم، فمصلحة الممول هي نفسها مصلحة الأجير ولا يمكن الممول أن يطلب السعادة لنفسه إذا كان يطلب الشقاء لأجيره لأنهما متضامنان.
وأنت أيضا أيها القارئ لا يمكنك أن تخدم مصالحك ما لم تخدم مصالح الأمة التي تعيش فيها، ولا يمكنك أن تسعد إذا كانت الجماعة التي تعيش حولك شقية؛ لأن شقاءها يعود عليك بالذات فأنت كي تعيش عيشة صحية وكي يسلم أطفالك من الأمراض يجب أن تنشر الصحة والعافية بين الجماعة التي تعيش بينها، وتنتفي الأمراض من بينها لأنه لن يكون أولادك في أمن من المرض ما دام أولاد جارك مرضى، فعنايتك بأولادك تقتضي العناية بأولاد جارك حتى لا تنتقل عدواهم إليك.
ولن تستطيع أن تشرب ماء نظيفا خاليا من جراثيم المرض حتى تحتم وجوب نظافته لجميع سكان البلدة التي تعيش فيها، ولن يكون ولدك آمنا في الطريق من لص يسرقه أو ترام يدهمه أو غبار يملأ عينيه أو منظر يفسد أخلاقه ما لم تسع لجميع الأولاد كي يكون طريقهم آمنا أيضا.
فأنت بوسطك لن ترتفع أكثر مما يرتفع معك، ولن ينزل هو حتى يجرك وراءه، فمصالحنا الذاتية تقتضي أن ننظر إلى مصالح الآخرين لأن خيرهم خيرنا وشرهم شرنا.
كنت من مدة أقرأ أحد كتب التاريخ لمسكويه، وهو يروي فيه تاريخ بغداد والخلافة وقت التدهور والزوال حين كانت اللصوصية سلم الأمارة والحكم، وقد روى تاريخ أحد الأمراء وكيف أدى سوء سياسته إلى خراب بلاده فقال إن هذا الأمير كان إذا جبى الضرائب الفادحة وعجز الأهالي عن الدفع ارتهن أملاكهم بما ينكسر عليهم من الضرائب، فإذا غلق الرهن ولم يدفعوا اشترى منهم هذه الأملاك بأبخس الأثمان بالرهن أو بقليل زيادة عليه، وانتهت هذه الخطة العجيبة بأن أصبحت مملوكات الأهالي كلها ملك هذا الأمير السافل، ولكن ماذا حصل لديه بعد ذلك؟ بعد أن أصبح صاحب البلاد ملكا وملكا قل دخل الحكومة ونقص عما كان وقت أن كانت المملوكات ملكا للأهالي، وأخذت العقارات تتدهور نحو الخراب فلا يتحرك الأهالي لترميمها؛ لأنهم لا يملكونها، وفشا الكساد وعم الفقر جميع الناس.
الفصل الثامن
الغاية من الحياة
ذكر الأديب المعروف «كابيك» أنه عرف أحد أثرياء أميركا يقضي وقته في السفر على القطار أو الباخرة وهو يملي على كاتبه خطابات خاصة بأعماله، وإذا قعد في الأتومبيل عقد مجلسا للمفاوضة في شأن خاص بعمله أيضا، وإذا أكل أو تنزه أو تناول الشاي لم ينس الكلام عن أعماله.
ويخشى كابيك أن تتأمرك أوروبا فتكبر من شأن النجاح المالي وتجعل الغاية من الحياة إحراز الثروة فقط.
وكلنا يجب أن يخشى ما خشيه كابيك؛ لأننا معرضون على الدوام لفتنة المال تسارقنا شهوته فتعمى أعيننا عن القصد من الحياة، وتستغرق جهودنا كلها فترانا قد بلغنا الشيخوخة ونحن نتساءل: هل عشنا حياتنا وتمتعنا بها على هذه الأرض أم قضينا عليها عمرنا فقط وقطعنا السنين الطويلة في جمع المال؟
ولسنا بذلك نقلل من شأن المال، فإن العالم لم يعرف وقتا بلغ فيه المال من القوة والقيمة مثلما بلغ في وقتنا هذا: فليس من الممكن أن نعيش معيشة صحية أو أن نربي أولادنا أو أن نثقف أنفسنا أو أن نضمن الهناء لوقت الشيخوخة ما لم نستند في ذلك كله إلى جدار قوي من الذهب، فالمال قوة لا يحتقرها إلا رجل أبله.
وإنما عبرة كلامنا أن المال ليس كل شيء فيجب ألا يستغرق كل نشاطنا، وفي المال خاصة وهي أننا إذا بلغنا حدا معينا لم نستطع أن نزيد مقدار تمتعنا به، فمن المعقول أن الغني الذي يبلغ دخله ألف جنيه يمكنه أن يتمتع بالحياة أكثر كثيرا من ذلك الذي لا يحصل إلا على دخل مقداره مائة أو مائتا جنيه ولكن صاحب الألفين لا يتمتع أكثر من صاحب الألف، وذلك لأن متع الإنسان نفسها محدودة فلسنا نستطيع أن نأكل كثيرا أو نحب كثيرا لأن أموالنا كثيرة، وليس يسرنا أن ننام على سرير من الذهب أو أن نرى عشرين خادما في البيت.
إنما نحن زائرون لهذه الدنيا نقضي في فندقها نحو سبعين سنة، فيجب أن نتمتع بما فيها مدة إقامتنا، ولسنا ننكر أن نظام الفندق يحتم علينا تحصيل المال، فيجب لذلك أن نحصله ونقضي به ثمن متعتنا، ولكن يجب ألا نجعله غاية حياتنا.
فالمال وسيلة وليس غاية، فيجب أن يكون لكل منا غاية في حياته غير جمع المال، وأشرف الغايات أن يرقي الإنسان نفسه ويعمل لرقي من حوله، وهو إذا جعل هذا العمل غايته من الدنيا وجد حياته حافلة بالمتع العظيمة التي تشغل ذهنه وتملأ وقته وتشيعه إلى القبر مسرورا بما أدى في هذا العالم، وإذا فكر الإنسان في الرقي فإنه يفكر بالطبع في عدة أشياء أخرى: في التعليم والصحة والدين والأدب والحضارة والبر والاكتشاف.
والاشتغال بهذه الأشياء أمتع للنفس من الاشتغال بجمع المال، وبرهان ذلك ظاهر، وهو أننا نرى أناسا يضحون براحتهم وأنفسهم ويموتون في سبيل الدين أو الاكتشاف العلمي أو اختراع آلة، يفعلون ذلك كله ويقاسون وقد أخذتهم لذة الرقي فلا يبالون بما يقاسون، ولم نسمع قط أن رجلا ضحى بنفسه في سبيل جمع المال.
إنما اللذة العليا والتمتع الحقيقي أن نرى أنفسنا كل يوم نرتقي ونجاري التطور في غاياته السامية فنتطور نحن أيضا، ففي نفس كل منا شهوة عنيفة للتطور هي أصل الثورات الاجتماعية والاكتشافات والاختراعات وكل ما يرفع الإنسان.
الفصل التاسع
ميراث الأبناء
منذ مدة نقلنا عن أحد أغنياء الإنجليز أنه حرم أولاده من الميراث وقال في وصيته: إنه ليس من تقاليد عائلته أن يثري واحد فيها من غير جده وسعيه، وهو قد أدى واجبه ورباهم وعليهم بعد ذلك أن يسعوا.
وهذا شذوذ وغلو في تعليم الأبناء والاعتماد على النفس، ولكن التربية المتقنة والعوائد الحسنة التي يكسبها الأبناء من الآباء ميراث كبير قد يفوق أحيانا جميع المزايا التي يمتاز بها من يكون ميراثهم الأموال الجزيلة، وهل يمكن إنسانا أن ينكر قيمة التربية المدرسية مثلا وما تستتبعه من مزايا لا يحصل عليها المحرومون منها؟ أو هل ينكر أحد قيمة العوائد الحسنة التي يكتسبها الشباب من والديه كالمواظبة والنظافة والقناعة في الطعام والشراب وكراهة المسكرات أو التدخين أو بذاءة اللسان.
إن القدوة هي أكبر عامل في التربية، وليس أحسن من أن يرى الابن القدوة الحسنة في أبويه، فإن سن الطفولة والصبا والشباب هو سن الانطباع والتكييف والتخلق فإذا وجد الابن في أبويه مثلا صالحا نشأ هو أيضا صالحا يكره بطبعه المفاسد ويصد عن المغاوي.
ولكن هناك ما هو أهم من التربية وهو الاستعداد للتربية؛ لأن الأبناء لا يستوون في الكفايات الطبيعية وإن استووا في جميع ظروف التربية.
فأكبر ميراث يرثه الابن من الأبوين هو هذه الكفاية الطبيعية التي يستعد بها لقبول التربية واكتساب التجارب، وبعبارة أخرى نقول إن أكبر ميراث يرثه الابن هو صحة الجسم وسلامة العقل.
وأنت أيها القارئ لا بد أنك عرفت في حياتك كثيرين من الوارثين ورثوا المال عن أبويهم ثم أضاعوه في سنوات قليلة، ولا بد أنك تساءلت عن العلة في هذا السفه في الأبناء مع الحرص الشديد في الآباء، وقد يكون هناك أكثر من علة واحدة ولكن العلة الكبرى هي أن الأبن لم يرث من أبويه كفاية طبيعية تضمن له سلامة المال الذي ورثه أو استثماره والزيادة عليه.
ويرجع ذلك كله إلى عدم العناية بانتقاء الزوجة، فإن كثيرين في بلادنا الشرقية لا يعرفون من الفتيات قبل الخطبة إلا القليل، وذلك لقلة الاختلاط والمعاشرة، فإذا تم الزواج وجد الزوج أن شريكته في الحياة ناقصة العلم بطيئة الإدراك على حدود الغفلة أو قد تعدو الغفلة أحيانا إلى البله، وقد يكون الزوج في غاية الذكاء والحصافة ولكن الآباء ليسوا أبناء آبائهم فقط، فإن نصف ذكائهم يرجع إلى أمهاتهم، فإذا كانت الأم مغفلة أو بلهاء فأولادها يمتون بعرق إليها ولا تنفعهم مزايا الأب أمام نقائص الأم.
وهذا علة ما نراه من خيبة بعض الوارثين في الحياة وإضاعتهم أموال آبائهم، فإنهم ورثوا المال والعقار ولكنهم فقدوا أهم ما كان يجب أن يرثوه من كفاية طبيعية وحصافة أصلية في النفس.
والآن نقول إنه إذا كانت أهم غاية اجتماعية للزواج هي النسل وجب أن يعنى كل من الزوجين بانتقاء الآخر من حيث سلامة الجسم والعقل أكثر من العناية بالمال أو الجمال أو غير ذلك من الاعتبارات، ولا يكون ذلك إلا إذا عاشر الخطيب خطيبته عدة أشهر قبل الزواج، وعرف مقدار ذكائها واتجاه حديثها ونزعاتها التي تنطق بها حتى فلتات لسانها.
لقد قيل إن تربية الأولاد تبتدئ قبل ولادتهم، وذلك بالعناية بالأم حتى يولد الولد صحيحا مستكملا مدة حمله، ولكننا يجب أن نزيد على ذلك ونقول إنه يجب العناية بانتقاء الزوجة أيضا حتى تكون سليمة الجسم ذكية العقل، كي يرث ابنها هاتين الصفتين الثمينتين.
الفصل العاشر
الصغائر العظيمة
قلما نتأمل في أخلاق بعض الناجحين في الحياة، الفائزين بغنائم الدنيان إلا ونجد أنهم يعنون بأشياء تعد صغيرة تافهة ولكنها بتراكمها وتجمعها تعد كبيرة عظيمة.
فقد ننظر مثلا إلى رجل غني قد جمع ثروة طائلة يحسده عليها زملاؤه ومنافسوه فنتساءل عن علة غناه، فيقال لنا: إنه الحرص والبخل، وتبحث أنت فيما هو هذا الحرص وهذا البخل فلا تجدهما سوى العناية المفرطة بالصغائر أي بالمليم والقرش، ونحن نحسد البخلاء الحريصين لسبب واضح وهو أننا نعجز عن العناية بالصغائر مثلهم ولا نطيق هذا المثل الإنجليزي اللعين الذي يقول: ابحث عن القرش تأتك الجنيهات.
وقد ننظر مثلا إلى رجل سياسي قد نجح وصارت له كلمة الزعامة فنتبين أسرار هذا النجاح في أخلاقه فلا نجدها إلا في العناية بصغائر الأمور التي لا يأبه لها معظم الناس، فتراه يعني بلفظة جميلة يختزنها لخطبة شائقة يهيئها لاقتناص خصم. أو تراه يتعرف وجوه الناس وأخلاقهم وسيرهم بما لا تبالي به أنت. أو تراه يدخل في تفاصيل تظن أنها لا تهم أحدا سوى صغار الكتاب.
ومما اشتهر به أكثر العظماء ميلهم لبحث التفاصيل الصغيرة ودخولهم في أشياء يسهل على الكاتب الصغير القيام بها، فقد كان نابليون مثلا لا يغادر صغيرة في الجيش إلا ويعرفها، فبينما كان مثلا يعد الجيش للغارة بعد ساعة أو ساعتين كان يكتب الخطابات بشأن الجوارب للجنود، وكذلك كان حال سائر عظماء الرجال.
وهناك من الصغائر ما تكون له أكبر النتائج، فقد يقتل الجراح مريضه إذا لم يعن بصغائر العملية، وقد يشيد أحد المهندسين جسرا عظيما سرعان ما ينهدم لأنه أهمل النظر في شيء كان يبدو في غاية التفاهة، ولا بد أنك سمعت عن النار تشب من مستصغر الشرر، ولكنك لو أردت لسمعت عن ناس مرضوا أو ماتوا لأنهم دعوا إلى وليمة وكان الطباخ قد أهمل الآنية وطبخ وبها مقدار صغير من زنجارة النحاس، ولو أردت أيضا لسمعت عن خراب عائلات يرجع إلى عوائد صغيرة اعتادها رب البيت أو ربة البيت ما كان يظن أحدهما أنها كبيرة الأثر إلى هذا الحد.
وقيمة الصغائر العظيمة تبدو في الأعمال الفنية أكثر مما تبدو في غيرها، فالنجار الدقي إنما يتفوق ويمتاز بمقدار ما فيه من العناية بالدقائق التي إذا ما تجمعت صارت جلائل، والمصور الذي يتقن عمله يمتاز عن غيره أحيانا كثيرة بعنايته بالصغائر التي لا يعنى بها غيره.
وقل مثل ذلك في سائر الأشياء والأعمال التي يقرن النجاح فيها إلى العناية بالصغائر، فالأجانب مثلا يحتكرون إدارة الفنادق والقهوات في مصر ويربحون منها أرباحا جزيلة ما كان أحرانا نحن بأن نربحها لولا أننا لا نعني بالصغائر مثلهم، فإن النظافة التي يتسمون بها ليست في الواقع سوى عناية زائدة بصغائر لو نظرنا إلى كل واحدة منها على حدة لما وجدنا فيها كبير طائل، ولكنها إذا تجمعت وتراكمت صار لها قوة تجذبنا وتحببنا في الفندق أو القهوة أو المطعم.
والسيجارة الأولى التي يدخلها الشاب ليؤكد بها بلوغه طور الرجولة تبدو صغيرة غاية في التفاهة، ولكنها إذا صارت عادة تملكت صاحبها في سن الشيخوخة حتى لو حسب بعد ذلك ما أنفقه في التدخين لبلغ آلاف الجنيهات، والكأس الأولى التي يشربها الشاب مجاراة لإخوانه وإثباتا لرجولته وتمدينه قد تكون سببا بعد ذلك لخراب عائلته إذا تملكته عادة الإدمان، وكلتا العادتين تبدو صغيرة في أول نشوئها ولكنها عظيمة الأثر في النهاية، والإنسان حزمة عادات والعادة عمل نتهاون فنكرره فيتملكنا.
فاحرص إذن أيها القارئ على أن تكون عاداتك حسنة، واعلم أن ما من شيء تعمله وتظنه صغيرا إلا وله أثر في نفسك وفي مقدار نجاحك في العالم، فعود نفسك إذن على العناية بالصغائر سواء في الوقت أو المال أو العمل.
الفصل الحادي عشر
المرأة أساس الحضارة
روت الصحف الإنجليزية هذا الشهر حادثين غريبين لكل منهما مغزى يجب أن يفقهه القارئ المصري ويطبعه في ذهنه طبعا لا ينمحي، فالحادث الأول أن فتاة أميركية عبرت بحر المانش سباحة، وهذا البحر أو المضيق يبلغ عرضه 36 كيلو مترا وكان أبو الفتاة في زورق يشجع الفتاة على العبور، ونجحت الفتاة وانتصرت على الأمواج، وأخذت الصحف تنشر صورها معجبة بقوتها وجرأتها وثباتها.
هذا حادث، وذكرت أيضا حادثا آخر خلاصته أنه يموت في كلكتا - المدينة الشهيرة بالهند - نحو 10000 شخص بالتدرن كل عام، وأن نسبة الوفيات بين الجنسين هي ست من النساء إلى واحد من الرجال، وبعبارة أخرى تقول هذه الصحف إنه يموت بالتدرن في تلك المدينة العظيمة في كل عام نحو 8500 امرأة و1500 رجل، وعزت الصحف هذه الزيادة العظيمة في وفيات النساء إلى العادة المتبعة في الهند من حجاب المرأة ومنعها من الحركة والسعي واضطرارها إلى الانزواء في عقر دارها بعيدة عن ضوء الشمس، حيث تعيش في خمول ودعة لا تتحرك عضلاتها ولا ينشط دمها، ومثل هذه الحال داعية إلى تفشي مكروب التدرن في جسمها.
ومغزى هذين الحادثين هو مما يحزن له كل من يرغب في خير الشرقيين؛ لأن معناه أن الغرب يقول برياضة المرأة وأن الشرق يقول بخمولها، وأن نظرية الغرب هي نظرية الحياة والصحة والعافية والقوة وأن نظرية الشرق هي نظرية الموت بالتدرن والضعف والمرض.
وعبرة ذلك كله لي ولك أيها القارئ أن تعرف أن المرأة هي أساس الحضارة الآن، وأن الفرق بين إنجلترا السائدة والهند المسودة هو فرق بين المرأة الإنجليزية التي تمارس الرياضة وتقوى وبين المرأة الهندية التي تنزوي وتتحجب وتضعف، ولهذا الفرق صدى في جميع أحوال الأمة، في خلق الرجال وتعليم الأطفال، وفي نظام البيت ودستور الأمة وفي كل شيء آخر حتى في الآداب والفنون، ولم لا يكون كذلك؟ أليست المرأة هي الأم، وهي التي تربي أطفالها، فإذا كانت تكبر من شأن الصحة والقوة جعلتهم يكبرون من شأنهما أيضا؟ أو ليست هي ربة البيت بها ينتظم وبها تنضبط أحواله من مال واقتصاد؟ فإذا كان البيت مهد الحضارة؛ لأنه المدرسة الأولى التي يتربى فيها المرء وهو أيضا المملكة الصغيرة التي يتعلم فيها الصبي ضبط النفس وأدب المعاشرة وعادات النظافة والمواظبة والمثابرة، فإن المرأة التي هي محور هذا البيت هي أساس هذه الحضارة، وإذا اختل الأساس كما هو في ذلك المثال الذي ذكرناه عن الهند اختل البناء، وإذا صح شادت الأمة بناءها شامخا مشمخرا كما هو في بريطانيا أو أمريكا.
يؤيد رأينا الأبحاث الحديثة في النفسلوجية التي تثبت أن أعمق الآثار في نفوسنا هي تلك التي نتلقاها في طفولتنا وصبانا بالمنزل.
وبمعنى آخر هي تلك الآثار التي تنطبع في أذهاننا بالقدوة والحديث من أمهاتنا، وليس شيء نتعلمه في المدارس أو نتلقاه من العالم بعد خروجنا من المدارس له من الأثر ما للأم في النفس، وليس وسط يؤثر فينا إن شرا وإن خيرا ما يؤثره المنزل في طباعنا وعاداتنا، وما المنزل سوى المرأة.
فالأمم النشيطة الجريئة العاملة الدائبة في العمل ترجع صفاتها الحسنة هذه إلى ما عندها من أمهات لهن هذه الصفات، والأمم الخاملة الناكصة المريضة ترجع صفاتها السيئة هذه إلى أمهاتها أيضا.
وبعد فأيتهما أفضل وأحق بالحياة؟ أتلك الفتاة التي تسبح 36 كيلو مترا بين الأمواج المتلاطمة أم تلك التي تنزوي تتحجب وتخمل حتى تمرض بالسل؟
الفصل الثاني عشر
وأنت أيضا رجل عظيم
كثيرا ما نقرأ عن جريمة فظيعة يرتكبها شاب في والده وهو في سورة غضب، فنشمئز ونتأفف من هذه الطبيعة البشرية التي تتسرع إلى الشر، وكثيرا ما نسمع عن جناية فظيعة تقع بأحد الناس من مجرم باغ يرمي إلى غاية سافلة، فنعجب من هذه الطبيعة التي تنزل بالإنسان إلى أحط دركاته، وقد نشعر بعواطفنا تتفزز للشر أو للشهوة الأثيمة، أو تنزع بنا نحو الشراهة للطعام الكثير أو الشراب الكثير أو تميل بنا إلى إيثار الخمول على العمل أو نحو ذلك، فنعود إلى هذه الطبيعة البشرية ونقول إنها تحتاج إلى التأديب، وأن الإنسان مفطور على الشر وأن سوء الظن من حسن الفطن.
ولكن يجب أن نذكر جميعا أن هذا التأديب الذي نطلبه لقمع الشر وكبح الغضب إنما نطلبه لما في هذه الطبيعة البشرية المنغرسة في نفوسنا من الخير، فكما أن نفوسنا قد طبعت على شيء من الشر والغضب والدناءة فهي قد طبعت أيضا على شيء كبير من الأنفة والبر والخير، فإلى جانب المشنقة والسجن، وما فيهما من روح الانتقام والغيظ والحقد على المجرم ، قد اخترع الإنسان أيضا المدرسة والمستشفى لما في نفسه من روح البر والخير.
وهنا أذكر قصة قرأتها في سيرة الأمير كروبتكين الفوضوي الروسي الشهير، ولا أذكرها إلا ويرتفع الإنسان في نظري، فأكبر له وأرفع من مقام هذه الطبيعة البشرية المجرمة البارة، فقد حكي أن أحد الفوضويين ألقى قنبلة أمام المركبة الملوكية في بطرسبرج فانفجرت، وأجفلت الخيل وجمحت، وبينما هو يريد الفرار إذا به يرى طفلا لقيطا قد تركته أمه في زاوية من الشارع، فنسي الفوضوي جريمته ونسي المشنقة التي تنتظره وثابت إليه نفسه البارة فنظر إلى الطفل وتذكر خيل المركبة وهي جامحة شاردة فخشى على الطفل منها وانحنى عليه في تؤدة وحمله وعدا به.
فالخير والشر متلازمان في الطبيعة البشرية، ولكن الخير أغلب، وليس الرياء أو النفاق إلا إقرارا بذلك؛ لأن المنافق يمارس الرذيلة ويتقنع بالفضيلة إذ هو يعرف أن العالم يرغب في الفضيلة، وليس من الحق أن نسلب الطبيعة البشرية فضائلها ولا نذكر سوى رذائلها، فإنك لا تجد بالوردة أشواكا فقط بل تشم عطرا ذكيا أيضا، والفراشة الزاهية التي تعلو العين بهجتها كانت يوما ما دودة قذرة.
والإنسان مجموعة من الصفات الحسنة والسيئة، ولكن الحسن يغلب فيه السيء، وإنما تحتاج الصفات إلى تنشئة وتربية، وكما أن كل إنسان تقريبا قد فكر في جريمة ما - إن لم يكن قد ارتكبها - فكل إنسان أيضا قد فكر في البر والخير ومارسهما، وفي نفس كل منا جذوة من ذلك الوحي السامي الذي ينبت في صدور الأنبياء والعلماء والمصلحين والأبرار والخيرين في كل أمة، ولكن هذه الجذوة تحتاج إلى الترويح وإلا بقيت هامدة.
فأنت أيها القارئ رجل بار أيضا لأنك تنتمي إلى تلك الإنسانية التي نبت منها العظماء في الدين والعلم والأدب والسياسة. بل أنت تمت إلى هؤلاء الرجال بعرق، ولو عدت إلى عشرين أو ثلاثين جيلا لوجدت أنك أنت وأبطاله تنتميان إلى جد واحد، وإنما يجب عليك أن تربي هذه الكفايات الحسنة في نفسك حتى تلتهب تلك الجذوة المقدسة في قلبك، فأنت عظيم ولا تدري أنك عظيم، وأنت رجل بار ولا تدري أنك بار، وأنت تحب الخير للعالم ولكنك تجهل ذلك.
الفصل الثالث عشر
سوط الاحتقار
يعمل الاحتقار في الناس أكثر مما يعمله الخوف، ومعنى هذا بكلام آخر أن الناس يحسبون للرأي العام ويستحيون من الناس أكثر مما يخافون من القوانين، بل نحن خاف القوانين لا لأننا نتألم من السجن بل لأننا نخشى احتقار الناس لنا إذا عرفوا أننا قد سجنا.
فإصلاح الأمة يرجع في الأكثر إلى قوة الرأي العام أكثر مما يرجع إلى القوانين؛ لأن للرأي العام سوطا شديد الوقع غائر الأثر، نستطيع به أن نؤدب الناس ونعلمهم ونوجه نشاطهم إلى وجهات نافعة.
ولكن إذا اختل الرأي العام وساءت أحكامه صارت القوانين كلها في حكم العدم أو ما يقارب ذلك، فشرائع بلادنا مثلا تعاقب المتجرين بالحشيش، ولكن الحشيش سيبقى والحشاشون سينعمون بهذا السم ما شاءوا لأن الرأي العام لا يحتقرهم، فلو أن حشاشا وجد رجلا يبصق في وجهه مرة، أو يطلب إليه ألا يعرفه، أو منعه من دخول منزله، لما تجاسر في القطر المصري كله حشاش واحد على اقتناء هذا السم الذي يزود مارستاناتنا بنصف مرضاها.
ولو أن ضابط الشرطة الذي يعتدي على الناخبين يرى من الناس عين الاحتقار والاشمئزاز من هذه السفالة لما استطاع مهما كانت المكافأة المالية التي ينتظرها أن يرتكب هذا الجرم؛ لأنه إنما يقصد من الترقي في المناصب ومن الحصول على المال تلك الوجاهة التي يتوخاها بين أهل بلاده، فإذا وجد منهم مقاطعة واشمئزازا واحتقارا لما تجرأ على ضرب ناخب.
وقل مثل ذلك في الجرائم التي ترتكب في الريف وتنفي الأمن منه، فإن المرتكبين الحقيقيين هم سكان الريف أنفسهم؛ لأنهم لا يحتقرون هؤلاء المجرمين، بل يروون حكايات سطوهم وانتهابهم بالإعجاب، كأنهم أبطال، حتى إن المجرم ليسجن وهو مرفوع الرأس كأنه بطل.
وقد كانت الرشوة إلى عهد قريب يتسامح فيها الجمهور ولا يعدها جريمة، فكانت لذلك كثيرة الشيوع لأن مرتكبها كان يعتقد أنه لن يفقد كرامته أمام بني وطنه إذا تلبس وثبتت عليه، وهو إلى حد ما لا يزال كذلك، وفي هذا فساد كبير للإدارة، ولن تصلح هذه الإدارة حتى يسلط الجمهور سوط احتقاره على جميع من ينهبون الحكومة بأية صورة.
ولقد كتبت الصحف كثيرا عن ضرورة إقبال الشباب على الأعمال الحرة، ولكننا نعتقد أن أكبر ما يمنع إقبال الشباب عليها هو احتقار الجمهور لها، فلو أن الشاب وجد أن كرامته، إذا كان صاحب قهوة أو حانة أو مطعم، محفوظة مصونة في عين الجمهور كما تصان إذا توظف في الحكومة لما أحجم عن مثل هذه الأعمال الحرة، ولكن أكبر ما يجعله يحجم عنها هو احتقار الرأي العام لها، فإننا ما زلنا نجري على طبائع الاستبداد القديمة في إكبار كل ما يتصل بالحكومة واحتقار ما عداها، وقد نزل إلينا هذا الاعتقاد من السلف الذي كان يرى في الحكومة سلطانا أي سلطان للاستبداد بالأفراد والنهب والتسخير، وسنعيش مدة طويلة وشبابنا عالة على الحكومة حتى يتربى الجمهور ويعرف للعمل الحر قيمته، ويحترم القهوجي الشريف كما لا يحترم المأمور السافل الذي يضرب الناخبين لكي يترقى، ويكرم صانع الأحذية كما يكرم المحامي الذي يشكو الآن من قلة الأعمال ويطلب منع دخول محامين جدد في مهنته.
إن للجمهور سوطا قويا هو سوط الاحتقار الذي يستطيع أن يسلطه على الخامل والسكير والمجرم والزاني والمرتشي والمتزلف فيصلح بذلك أخلاق الأمة بما لا تستطيع الشرائع المكتوبة أن تصلحها؛ لأن حياء الناس أكبر من خوفهم، فهم إذا رأوا عين الاحتقار انزووا أو تصاغروا وساروا على النهج القويم.
الفصل الرابع عشر
سلطانك على نفسك
من الأقوال التي تستوقف العقل وتلزمه التفكير قول الدكتور كارنو: «إن جروح الجنود الظافرة تبرأ بأسرع مما تبرأ جروح الجنود المهزومة.»
ولم يقل الدكتور كارنو هذه العبارة إثباتا لنظرية بل تحقيقا لاختبار اختبره بنفسه، وجدير بنا أن نقف نحن نتأمل مغزى قوله في ضوء الأبحاث النفسية الحديثة.
فإن الجندي الظافر يجد في قلبه من البهجة والسرور وفي نفسه وجسمه من النشاط ما يجعل جروحه سريعة البرء . بينما الجندي المهزوم يجد في الخيبة والفشل ما يكسر نفسه ويملأها غما ونكدا فتنحط بذلك قواه المعنوية وتؤثر في أعصابه. ثم تعود أعصابه فتؤثر في جسمه فيتأخر لذلك شفاؤه.
وكلنا في ميدان الحياة جنود، فمنا من ينظر إلى الدنيا متفائلا من خلال زجاج وردي فتبدو له في زهوة وبهجة يبتسم لها فتبسم له، يعمل أعماله وهو واثق بالظفر يتوهمه خيالا في نفسه فيتحقق في الوقاع، ومنا من يتشاءم، ينظر إلى الدنيا من خلال زجاجة سوداء، يتوقع الهزيمة في كل مكان، ويخشى الفشل في كل وقت، وما أسرع ما يفشل في الواقع.
فنجاحنا في هذا العالم يتوقف على خيالنا، فإذا تخيلنا أنفسنا ظافرين فنحن لا شك ناجحون في كل ما نتناوله من عمل؛ لأن عقلنا يتسلط على جسمنا وأعصابنا ويوجه جهودنا في سبل النجاح، وإذا تخيلنا الفشل وتوقعناه فهو لا بد واقع.
ولعل مما يوضح قولنا أن نفرض فرضا بسيطا: فلو أن أحدا طلب منا أن نمشي على لوح مستطيل من الخشب قد بسط على الأرض لمشينا مشيا سريعا لا نتعثر ولا نتردد، ولكنه لو بسط لنا هذا اللوح نفسه فوق فراغ بين بنائين شامخين لما استطاع أحد منا أن يخطو فوقه خطوة.
وعلة ذلك ظاهرة فإن اللوح لم يتغير ولكن نفوسنا هي التي تغيرت وبدلت من الطمأنينة والثقة جبنا ورعبا بما تسلط عليها من خيال السقوط والتردي، ونحن كذلك في جميع أعمالنا، إذا تسلطت علينا خواطر الفشل ارتبكت أعصابنا واختل عقلنا فنسير في العالم ونتوقع السقوط في كل وقت، والأرجح في هذه الحالة أن ما نتوقعه يقع.
وعبرة ذلك كله أن نسلط على عقولنا خيالا حسنا، فنتفاءل في أوقات الشدة والمحنة، ونرجو في مكان اليأس والخيبة، ونقابل العالم بالبشر والثقة، فعندئذ لا نجد منه سوى النجاح يتلو النجاح.
ولما قال نابليون إنه يجب أن تمحى لفظة «مستحيل» من المعاجم، كان في الواقع يعبر عما في نفسه من تلك الثقة العظيمة التي كانت تحمله فوق جبال الألب هو وجيشه، وكانت تخيل له أن فتح الهند ليس أشق عليه مما كان على الإسكندر، ولو أن مخترعي الطيارات تذكروا المصاعب التي ستلاقيهم ولم يخيلوا لأنفسهم النجاح على الرغم من آلاف العراقيل التي كانت تستقبلهم لما تم لأحد منهم اختراع، ولما كان الهواء يطن الآن بأزيز الطيارات التي كادت تجعل الإنسان صنفا من الملائكة يصعد إلى السماء ويركب السحاب.
وأنت أيها القارئ لست دون أحد من هؤلاء الناجين ولكنك لن تعدو ما تطمع إليه من أنواع الرفعة التي تتخيلها لنفسك، وهذه الرفعة هي طوع خيالك.
تخيل في نفسك الصحة والعافية تنلهما ثم تعود أصح الناس.
تخيل في نفسك الثروة والجاه واعمل لهما تنلهما وتبلغ منهما ما أردت.
تخيل في نفسك النجاح فيما تمارسه من عمل تجد نفسك يقودها خيالك نحو النجاح من حيث تدري ومن حيث لا تدري.
الفصل الخامس عشر
الشيخ الشاب
يعيش في أيامنا هذه شيخ شاب يبلغ الثمانين في عدد السنين، ولكنه في الجراءة والنشاط وفي حرارة القلب وهمة النفس. شاب جدير بأن يكون طرازا للشباب.
هذا الشيخ الشاب هو كليمنصو وزير فرنسا ومن رجالات الدول العظام، فإنه بعد أن عقد إكليل الغار على رأس وطنه، وأتم الصلح مع ألمانيا، ونال من الشرف والمجد أكبر ما يطمح إليه فرنسي، قصد إلى بيته في الريف لا ليقضي فيه أيامه الأخيرة، أيام الشيخوخة الورعة إلى جانب المدفأة والمسبحة، بل ليجدد فيه حياة جديدة هي حياة الجهد والتفكير والتأمل بعد حياة الجهد بالعمل السياسي.
فكليمنصو لا يشيخ بل يتطور في خدمة بلاده، فقد ناداه صوت الوطن مدة الحرب، فلبى نداءه وصرف مجهوده إلى خدمة الحرب، وها هو ذا يناديه الوطن أيضا، بل يناديه العالم، إلى الخدمة المفروضة على كل حي فهو الآن يخدمه بذكائه. أما الشيخوخة فلا يذكرها ولا يتعلل بها للراحة. بل هو لا يؤمن بأنه شيخ، فإن ثقته بنفسه وقوة رجولته تلهمانه نشاط الشباب، وتذكر عنه حكاية بهذا الصدد مؤداها أن الدكتور فورنوف عرض عليه أن يجري له عملية استرداد الشباب التي تعمل للشيوخ فأجاب على الفور: لست شيخا.
ثم هو - وهو في هذه السن - يعمد إلى كتب الإغريق، وينفض عنها غبار ألفي سنة كي يدرس حياة الخطيب ديموستينيس يستخرج منها موعظة نافعة لبلاده وللعالم.
وهو الآن يكتب مقالات متتابعة في إحدى الصحف الفرنسية يضمنها آراءه التي اختمرت بالتجارب العديدة التي مرت به في حياته، وماذا يقول فيها؟
يقول هذا الشيخ الذي بلغ الثمانين ما يجب أن يفقهه كل شاب من الثقة بالنفس، والكبرياء، والرغبة في الانتفاع والتجدد. يقول مثلا: «يجب أن نلقى مرساتنا ونستقر على صخرة المعرفة.»
وأيضا «كل يوم يمر بي هو برهان لي على أني أجدد نفسي بنشاط عقلي ... ولست أعرف شيئا كثيرا ولكني أتقبل ما أعرفه بكبرياء كما أتقبل نتيجة معرفتي ...»
فهاك إذن رجلا لا يحمل المسبحة خائفا مذعورا وهو في سن الثمانين، بل يعتمد على نفسه ويدرس العالم ويرضى بنتائج درسه ويسكن إليها.
ثم هو ينصح للشباب، لك أيها القارئ، بقوله: «كي لا تحصل على دون ما ترمي إليه يجب أن تسمو إلى أكثر مما تستطيع.»
وليست حياة كليمنصو خلوا من النقائص، وقد تكون وطنيته الحادة أكبر نقائصه، ولكن فيما نقلناه من أقواله ما يصور للقارئ تلك الشخصية القوية التي تبدو من حياته وأعماله وتثبت إخلاصه لنفسه ولوطنه ومحاولته في أن يعيش إنسانا مستقلا ينفع العالم وينتفع به، وحسبه شرفا قضية دريفوس التي واجه فيها الرأي العام وناضل فيها العصبة الفرنسية لمصلحة الحق، فقد كان دريفوس ضابطا يهوديا بالجيش اتهم بالجاسوسية وسجن من أجلها، وكان كليمنصو يجاري الرأي العام في بداية التحقيق ثم تبين له أن الرجل مظلوم وأن التهم مزورة عليه، وكان في ذلك الوقت يحرر صحيفة الأورو، فانقلب يدافع عنه بكل قواه، وينشر في صحيفته خطاب زولا المشهور بعنوانه «اتهم»، وكان كليمنصو هو صاحب هذا العنوان المثير.
فما أمجد هذه الحياة التي يعيشها الإنسان في الدفاع عن الحق ومكافحة التعصب ثم الدفاع عن الوطن، وخلال هذه الأعمال لا يكف عن اكتساب المعارف التي يسكن إليها راضيا بنتائجها، له من كبريائه الإنشائي ما يجعله يستقر إلى ما يبديه إليه عقله دون ما يسأم من الأساطير القديمة، ويعيش طول حياته نشيطا مجاهدا يلعب الألعاب الرياضية في شيخوخته كأنه شاب، ويقاطع الخمر والنبيذ لأنه يراهما دون رجولته وسيطرته على نفسه.
إن مثل هذا الشيخ يجب أن يكون قدوة للشباب والشيوخ. يجب أن نعيش طول حياتنا في جهاد ضد الرذائل، وفي اكتساب للمعارف والعادات الحسنة، وفي خدمة لا تنقطع للوطن والعالم، وكل ذلك في كبرياء يجعلنا نعرف كرامتنا، ونؤثر الموت الشريف على الحياة الدنيئة والإيمان الذي يمليه علينا ذهننا وقلبنا على التالد الموروث من عقائد تهتك أعراض الضمائر.
الفصل السادس عشر
الاستقلال الروحي
يروي التاريخ عن أحد أئمة الدين أنه عاش طول عمره مؤمنا تقيا يخلص في عبادة ربه، ثم دب في قلبه الشك فلم تطق نفسه وقفة المتردد المرتاب، فكان يدعو الله قائلا: اللهم ألهمني إيمان العجائز.
وإيمان العجائز هو كما يعرف القارئ إيمان التسليم والتصديق، بل قل هو إيمان الخوف والضعف؛ لأنه إذا لم تكن العجوز خرفة تصدق كل ما يقال لها فلا أقل من أن تكون وجلة تقترب من ساعة الموت وفي قلبها وجيب الخوف، فهي لا تجادل ولا تعارض.
ومما يدعو إلى الاغتباط أننا قد عدونا هذا الطور، فليس منا من يجب أن يلهمه الله إيمان العجائز؛ لأنه يرى هذا دون كرامته الإنسانية وهو يجد في مواجهة الحقائق مع ما فيها من ألم الشك سرورا لا يجده ولا يحب أن يجده في التسليم بإيمان العجائز.
وليس معنى هذا أننا أقل إيمانا من السلف الصالح وإن كنا أكثر شكا منهم فيما اعتقدوه صوابا، وإنما نحن نختلف عنهم من حيث إننا أكثر رجولة منهم في مواجهة الدنيا كما هي والسكون إلى حقائقها والاعتماد في كل ذلك على عقولنا لا على ما نؤمر به ويشار به علينا.
كان أسلافنا يؤمرون بالإيمان بأحد الأديان أو العقائد فيطيعون، ولكننا نحن نحاول أن نؤمن بما توحيه إلينا ضمائرنا. نؤمن عفو القلب والعقل ونحن أحرار لا نخشى عقابا ولا نبالي بحساب سوى حساب الضمير.
ونحن فيما نتعناه ونكابده من هذا الإيمان الداخلي وآلام التردد والحيرة أشرف وأشجع من سلفنا الصالح الذي كان ينشد «إيمان العجائز»، ففي العالم الآن طائفة من الناس قد أخلصت النية لهذا العالم الذي هو وطننا الأكبر، وعرفت موقفها فيه وما عليها من تبعات نحوه، ولكنها مع إخلاصها للعالم تخلص أيضا لنفسها، وهي ترى من الإخلاص لنفسها أن تنشد الله بما فيها من قلب وعقل، وتتحسس وجوده في هذا الكون بما تهديها إليه بصائر نفوسها.
ولعل أظهر واحد من هذه الطائفة وأكثرهم جهادا هو المستر ولز الإنجليزي، فلست أعرف رجلا آخر قد تلظى بنار الحيرة ثم اهتدى إلى ربه وسكن إليه، مضى عليه أكثر من عشرين سنة وهو يحاول أن يستخلص من لباب نفسه إيمانا يقفه من الكون على علاقة ترضي ضميره وعقله، ولست أظن أن كثيرين من الذين يقرءون المجلدات الأربعة التي وضعها في هذا الموضوع يهتدون بهديه أو يقنعون بدينه، ولكني أعتقد أن هذا الرجل يبدي من الشرف والشجاعة والإخلاص ما هو جدير بكل إنسان.
ولسنا نقول إن ولز ينفرد بهذه النزعة، فإن هناك كما قلنا طائفة كبيرة، وهي وإن كان أفرادها دونه ظهورا إلا أنهم ليسوا دونه في الإخلاص والذكاء، وهم جميعهم يكرهون أن يؤمنوا إيمان العجائز، بل يحاولون أن يحققوا للإنسان استقلاله الروحي، ولكن كما أن حديث العهد بالاستقلال في السياسة يتخبط في مبدأ استقلاله فكذلك حديث العهد باستقلال الروح لا بد له من فترة تقضى في التردد والتخبط والظلام ثم ينجلي كل هذا عن نظام نور ويقين.
وهذه الطائفة تحاول أن تؤمن، وكثيرا ما تؤمن، وإن كانت في نظر الناس معدودة من «الكفار»، وهي كافرة بالفعل بتلك العقائد التي ورثها العالم عن قدماء المصريين والآشوريين والفرس، ولكن إخلاصها لنفسها وللعالم يدعوها إلى النظر في الكون نظرا صريحا، وإلى محاولة حل هذا اللغز حلا تسكن إليه.
فنحن إذا نشدنا الاستقلال الروحي فإنما ننشده للغريزة الدينية التي في نفوسنا، وليس في ذلك تنطع أو استهزاء بالآراء، وإنما هي الإنسانية قد بلغت سن الرشد وتأبى أن يقام عليها وصي من الخارج؛ لأنها تحس أن هذا الوصي قائم في داخل نفوسنا، وهي ترى من الرجولة أن تتحسس وجوده وتحاول الاهتداء إليه.
الفصل السابع عشر
لا جديد تحت الشمس
نكتب هذا العنوان كي ننفيه ونقول إن كل شيء جديد تحت الشمس، وأولئك الذين يدعون دعوى الدوام، وأن الجديد كالقديم، إنما يقولون ذلك ونفوسهم تردد صدى القول القائل بأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان وأن العالم لا يتطور، ولكن الواقع أن العالم يتطور ويتجدد، وهو اليوم غير ما كان في الأمس، وسيكون في الغد غير ما هو اليوم، وهذا التغير لا يلحق النبات والحيوان وحدهما بل يلحق الجماد نفسه، فإن تاريخ الأرض يثبت تحولها، فقد مضى زمن كانت فيه أميركا جزءا لاحقا متصلا بإفريقيا وأوروبا، ومضى زمن كانت فيه أوروبا مغمورة معظم أقطارها بالثلج، وكانت مصر في وقت ما لا ينقطع عنها المطر صيفا وشتاء، ومضى زمن كان فيه جبل المقطم قعرا للبحر تسبح فوقه الأسماك وينساب عليه المحار، ويقول العلماء الآن إن المادة دائمة التحول لا تهدأ ذراتها عن الحركة، فالجماد نفسه يتجدد تحت الشمس، تنطق بذلك طبقات الأرض الجيولوجية كما ينطق أيضا فحص المادة في المختبرات العلمية.
والنبات أيضا يتحول ويتجدد، فمعظم النبات الذي وقعت عليه عين الشمس قبل عشرة ملايين سنة ليس له وجود على أرضنا الآن؛ لأن نباتاتنا جديدة، وبرهان ذلك أنه عندما وجد الفيل المنقرض الذي يسمى الماموث في سيبيريا، واستخرج من تحت الثلج، فحصت الأعشاب التي في معدته فلم يعرف منها واحد يعيش الآن. ثم هذا الفحم الحجري الذي يستخرج من المناجم كان قبلا نباتا لا وجود له الآن، ونحن هنا لنا في مصر وزارة زراعة من مهماتها أن «تجدد» سلالات القطن، أي توجد أصنافا لم تكن موجودة قبلا تحت الشمس.
أما تجدد الحيوان فمختصر ما يقال فيه إن نظرية التطور قائمة عليه وهي تستمد شواهدها من الحيوانات التي انقرضت والحيوانات التي وجدت، وليس في العالم متحف للتاريخ الطبيعي إلا وفيه عشرات من الحيوان المنقرض.
فالتحول هو الناموس الأصلي للكون كله، فليس فيه شيء باق أو دائم، وإنما كل شيء يتحول تحت الشمس ويتجدد من لحظة لأخرى. حتى أنت أيها القارئ، منذ ابتدائك لقراءة هذا المقال إلى أن تنتهي منه، ستتحول وتتطور لأنك على الأقل ستكون أكبر سنا بجملة دقائق، وإذا اختلف اثنان في السن اختلفت آراؤهما وقوتهما ومزاجهما، وإن يكن ذلك بقدر يسير لا يلحظ بالحواس ولكنه يستنتج بالعقل، فكل شيء إذن جديد تحت الشمس، وكل شيء يتطور حتى الجماد. أجل حتى جبل المقطم والصحراء والنيل، ولكن هذه الأشياء تختلف في سرعة تطورها: فالحيوان يسبق النبات، والنبات يسبق الجماد، والإنسان يسبقها كلها. ثم بعد ذلك نقول إن الأمم الغربية تسبق الأمم الشرقية في التطور، فأنت تسمع مثلا عن تعدد الأزياء وتجددها كل يوم في باريس ولندن وغيرهما، وتقرأ ما يقال من الفكاهات عن ذلك، وتحسب هذا التقلب السريع في الأزياء ضربا من نزق النساء، وقد يكون كذلك، ولكنه أيضا دليل على أن شهوة التطور أشد هناك مما عند الشرقيين، وهذه الشهوة نفسها هي التي تثمر المخترعات والمكتشفات كل يوم، والشرق بجموده لا يخترع ولا يكتشف، والغرب بتطوره يسير قدما نحو الأمام، ويجري الشرق الجامد وراءه بعد أن يمتهنه ويستخدمه، فالواجب الذي يحتمه علينا ناموس الطبيعة الأكبر هو أن نتجدد ونتطور ولا نجمد. يجب أن نجدد أذهاننا بالعلوم وبالنظريات الجديدة، ويجب أن ننظر إلى المستقبل ونفكر في الرقي المطرد والتطور المستمر، ولا نقنع بالنظر إلى السلف والجدود، فإن النمط الذي ساروا عليه في حياتهم قد بلي وانقرض، ونحن في حاجة إلى أنماط جديدة تلائم وجهة النظر الحديث.
فهلم أيها القارئ نتجدد في الثقافة والحضارة جميعا وننصت إلى صوت ضميرنا الذي يدفعنا إلى الأمام ويحثنا على الاستقلال، وننفض عن أنفسنا غبار التقاليد التي تقيدنا وتؤذينا وتسد علينا منافس الحياة وتقتلنا.
الفصل الثامن عشر
هذه الدنيا
منذ سنوات مات شاب إنجليزي وهو دون الخامسة والثلاثين، وكان قبل موته بنحو خمس سنوات يعرف أنه قد حكم عليه أن يشرب كأس الموت المرة حوالي هذه السن، فقد كان مريضا مقضيا عليه بالموت، فكان يروح ويغدو وهو عارف بأن الساعة الرهيبة تقترب، وقد خلف هذا الشاب كتابين أو ثلاثة ضمنهما إحساسه بالوجود ورأيه فيه، وتنكر أمام قرائه باسم باربيون.
والقارئ لهذه الكتب يشعر لأول صدمة أن الرجل شقي، فإن عقله كان أحيانا يهذي بالموت، فكان يخرج إلى الحقول يتنزه فيخطر برأسه خاطر الموت، كالسكين القاطعة يلتوي تحته فيكاد يصرخ ويكاد يعدو ناجيا بنفسه، ولكن لا نجاة من عدو غير منظور. ثم كان يكشف عن جسمه فيرى بشرته الحمراء والدم يجري دافئا في العروق، فتسود الدنيا في وجهه عندما يذكر أن هذا الدم القاني سيستحيل قريبا سائلا أصفر منتنا يختلط بتراب القبر وتسبح فيه ديدانه.
أقول إنه يخيل للقارئ أن هذا الشاب كان شقيا لهذه الخواطر، ولكني بعد التأمل أقول إن هذا الخبيث كان في غاية السعادة؛ فإنه عندما عرف آخرته، وتعين له على وجه التقريب زمنها، طفق ينظر إلى العالم كأنه مكان غريب يوشك أن يخرج منه، فيجب عليه لذلك أن يرى كل ما يمكن أن تراه فيه ويتمتع بجميع ما فيه من متع ومسرات، فعاش ملء حياته، في تجارب وملذات، وخرج من الدنيا وقد شبع منها بأكثر مما يشبع منها ابن الثمانين أو التسعين. أو قل إنه عاش بسرعة، عيشة الغزال، بينما غيره يعيش ببطء عيش السلحفاة، ويوم واحد من حياة الغزال خير من ألف عام من حياة السلحفاة.
ويخطر ببالي أننا نكون أسعد حالا لو أننا عرفنا يوم انقضاء أجلنا كما عرفه باربيون؛ لأننا عندئذ نفعل فعله فنكف عن كل ما لا فائدة فيه، ونعمد إلى رؤية هذا العالم والتمتع بمشاهده وتجاربه، ولا يحسبن القارئ أننا ننغمس عندئذ في الملذات البهيمية؛ لأن الإنسان بهيم بطبيعته، وإذا كان البهيم من الأشخاص المضمرة في نفسه فإن الفيلسوف شخص آخر مضمر في نفسه.
ودليلنا على ذلك أن باربيون لم ينقلب بهيما يشره إلى الطعام أو النساء أو الخمر بل انقلب فيلسوفا يخرج في الفجر كي ينظر إلى بزوغ الشمس وتوهج الشرق بأضوائها الملتهبة، وأخذ يعد الأيام بينه وبين الموت فصار يدرس كل شيء تقع عليه عينه في هذه الدنيا، فكان يقرأ القصص الروسية ويشرح البراغيث، وكان يقرأ نيتشه حتى يشعر أنه كلب عضوض، ثم يعرج بعد ذلك على الموسيقى الألمانية فيستكنه سحر الأنغام وطرب الإيقاع، وكان يصعد مع ما هو فيه من أمراض عاتية مضنية إلى قمم الجبال، وكأنه يريد أن يواجه الكون وجها لوجه، ثم كان يعود فيكتب مقالا عن «الرغبة في الخلود» تتوهج ألفاظه بالتفاؤل والمجازفة والرغبة العنيفة بالتجارب والتمتع بالدنيا.
أقرأ مثلا هذه القطعة منه «يقول تين إننا في الأدب يجب أن نحب كل شيء ... وأنا أقول: أجل، وفي الحياة أيضا يجب أن نحب كل شيء ... إن جميع الأشياء في هذه الدنيا تجذبني فلا أستطيع أن أحصر قواي. بل أراني مستعدا لأن أعمل كل شيء، وأذهب إلى كل مكان، وأفكر في كل شيء، وأقرأ أي شيء ... وإنما يقطع الإنسان نفسه من بعض الوجود إذا هو اقتصر على صناعة بعينها أو طريقة للحياة أو مذهب أو فلسفة أو رأي. أنا أكتب للجميع ...»
ولكن يجب أن أقطع نفسي هنا عن فتنة النقل المغرية وأقنع بالعظة والعبرة، فإن حياة باربيون على قصرها أملأ بالتجارب والمتع من حياة أي واحد منا، فإننا نعيش أكثر أيامنا عيشة نباتية، كأننا أشجار مزروعة، لا ننتقل إلا فيما بين بيتنا ومحل عملنا، ولا ندرس إلا ما نحصل به عيشنا، فنموت ونجهل عجائب هذا العالم، وليس في هذا العالم شيء تافه إذا سلط عليه الذهن بالدرس، وليس فيه حجر أو حيوان أو نبات إلا وهو صندوق عجائب لا ينتهي الإنسان من لذة المعرفة له. ثم هذه الدنيا بمتحفاتها الطبيعية، بجبالها وأنهارها وحقولها وبما فيها من تحف وطرائف صنعها الإنسان، كلها جديرة بالدرس الذي هو أرقى أنواع التمتع.
الفصل التاسع عشر
الطفيلية
منذ أيام كنت أقرأ كتابا عن الإغريق القدماء وأثرهم في ثقافة العالم، والإغريق هم كما يعرف القارئ أصل الأدب الحديث وواضعوا مبادئه، ولكنهم مع تقدمهم في الأدب ليس لهم أي فضل في العلوم، وخاصة تلك العلوم العملية التجريبية التي تعزى إليها حضارتنا الحديثة، وليس ينكر أنه قد نبع فيهم «إقليدس» ولكنه كان صاحب نظريات، وكذلك ليس ينكر أن «أرسطوطاليس» شرع طريقة عملية للعلوم وأن «أرخميدس» اخترع الطنبور الذي يستعمل الآن للري في حقولنا، ولكن المهم الذي يلفت النظر أن الإغريق لم يستأنفوا السير على الطريق الذي اختطه لهم أرسطوطاليس وأن أرخميدس كان يخجل من تدوين مخترعاته لأنه كان يعتبرها من التفاهة والهوان بحيث لا تستحق العناية بتدوينها، فماتت تلك الحركة العلمية الصغيرة، بل وئدت في مهدها، ونام العالم في الظلام نحو 1500 سنة إلى أن نهض نهضة علمية جديدة ثابتة الأساس مطردة التقدم، فماذا كانت علة ذلك؟
كانت علة ذلك أن الإغريق كانوا يعيشون عيشة حلمية، أي كالحلم الذي يمتص دم الحيوان الذي يعلق بجلده، فكانوا يستخدمون العبيد ويمتهنونهم في أعمالهم المنزلية والزراعية والصناعية، وكانوا لذلك يحتقرون جميع الأعمال التي يعملها العبيد، ولا يرضون ألبتة بأن يدرسوا الصناعة وأعمال البيت أو شئون الفلاحة، وبديهي أن العلوم لا تنشأ إلا إذا كانت تتناول هذه الأشياء بالاختراع، وهذا يتضح إذا ألقينا نظرة واحدة على المخترعات التي تخترع في زماننا، فإنها كلها تتناول الزراعة أو الصناعة.
فالإغريق حرموا أنفسهم من العلم لأنهم كانوا يعيشون في دعة عيالا على عبيدهم، يجنون ثمرات جهدهم ويحتقرون مع ذلك أعمالهم ويتعيرون من التلبس بها أو الاهتمام لشئونها، وقوام العلم الاختراع، وما دام الإنسان لا يحترم عملا ما فهو لا يفكر فيه ولا يتهمم لتخفيف مشاقه باختراع آلة أو اكتشاف طريقة يقل بها ساعات العمل أو يزيد مكافآته.
وعلى ذلك يمكنك أن تقول إن الرق لم يكن مؤذيا للعبيد وحدهم، بل كان أيضا أذى عظيما وبلاء كبيرا للإغريق أنفسهم؛ لأنه حرمهم من تسليط عقولهم على حضارتهم والعمل لتقدمها بالاختراع والاكتشاف العلميين.
وما أحرانا نحن أن نعتبر بهذه العبرة البالغة، فالوارث الذي يتمتع بأموال أبويه وهو وادع هانئ لا يعمل ولا يكد إنما يعطل قواه ويعوق كفاياته عن النمو فيركد ذهنه ويعيش في العالم عيشة حلمية وهو قانع بما يقنع به الحلم من طعام وشراب؛ لأن العقل لا ينمو بالركود والدعة وإنما يكون بالجهد والعمل والتفكير والتهمم للرقي والنجاح.
ويخطر ببالي وأنا أسطر هذه الكلمات ذلك الخبر الذي ذكرته الصحف من أن جامعة ريدنج في إنجلترا قد أنشأت شهادة عليا للبانة، أي صناعة الجبن وما إليه من مستخرجات اللبن، فإن الإنجليز لا يحتقرون الصناعات؛ ولذلك يسلطون عليها عقولهم بالدرس والاختراع فترقى الصناعة بهم ويرقون هم بها، ولو أن أفنديا من شبابنا اقترح عليه أن يصنع الجبن لأنف واستكبر، وهو إنما يفعل ذلك لمثل السبب الذي كان يحدو الإغريق إلى احتقار الصناعة، فقد احتقرنا نحن الفلاح واضطررناه إلى عيشة زرية في أكواخ بالية، وأضعنا كرامته من أعيننا فصار في مركز العبد، وصرنا لذلك نحتقر أعماله وكل ما يلابسه فعاد إلينا احتقارنا كالسهم الأسترالي يطلقه صاحبه فيرتد إليه، وبتنا وإذا بشبابنا يترامى على وظائف الحكومة ولا يستطيع أن يقف على قدميه مستقلا ويواجه عالم التجارة والصناعة والزراعة بكفايته ومهارته.
أجل إننا نعيش الآن كالحلم على الفلاح، وجميع أنواع الحلم سواء في أنها تفقد جزءا كبيرا من كفاياتها، فالديدان التي تعيش في بطوننا تفقد أحيانا قناتها الهضمية لوفرة الغذاء حول جلدها، وبين النمل أفراد تعيش بخدمة غيرها لها فتعجز عن الحركة وتبقى مدى حياتها في مكانها لا تريم؛ لأنها تجد من النمل ما يعنى بها ويغذوها ويمسحها.
إننا لا نخترع ولا نكتشف لأننا لا نتلبس بالحياة العملية، حياة الصناعة، والعلم لا يتقدم إلا إذا كانت غايته عملية، وقد بدأ «بيكون» النهضة العلمية بحض الناس على درس «الأشياء العادية»، ولكن هذه الأشياء العادية البسيطة أصبحت في يد عمال لا نحترمهم وإن كنا نعيش بعرق جبينهم، فنحن لذلك نتعير من أن نكون دباغين أو حدادين أو خبازين، مع أنه لا مجال للاختراع والاكتشاف إلا في مثل هذه الصناعات، وأيضا لا مجال للعمل الاستقلالي إلا في ميدانها.
الفصل العشرون
العلم والأدب
ليس شك في أن عصرنا الحاضر هو عصر العلوم، وأن العصور القديمة هي عصور الآداب، وليس ذلك إلا اطرادا مع رقي الذهن البشري؛ لأن العقل العلمي أرقى من العقل الأدبي.
وذلك لأن عقل الآداب هو عقل الخواطر السائبة الطارئة وإن كان قد صبغ في عصرنا بقليل من الصبغة العلمية، بينما نجد أن العقل العلمي يتقيد ولا ينساب، ويجيل الفكرة عن عمد لا تطرأ عليه الخواطر الهاملة.
ولكن هناك سببا آخر - غير الرقي الذهني - لاتسام العصور الحديثة بسمة العلوم، وهذا السبب ينحصر في أن الأمم القديمة كانت أرستقراطية ينتظم فيها نظام الأرقاء والموالي يسودهم ويستغلهم الأسياد والأشراف، بينما زماننا الحاضر زمن عصامي خلو من الرق والولاية، فكان العبيد والموالي يقومون بالأعمال اليدوية، بالزراعة والصناعة، بل حتى بالتجارة، لمصالح أسيادهم، وكانت هذه الصناعات كلها محتقرة لأنها قد اختص بها العبيد دون الأسياد، والعلوم إنما تنمو وتزكو بين الصناعة، ولكن لما كانت العقول المسلطة عليها قديما هي عقول العبيد فقط، ولما كان هؤلاء العبيد خلوا من التربية والمال فإنهم لذلك لم يخترعوا ولم يكتشفوا ولم ترتق بهم الصناعة أو العلم، وكذلك رأى الأسياد والأشراف أنه لا يليق بهم أن يتلبسوا بالصناعة إذ قد اختص بها عبيدهم ومواليهم، ومن هنا نفهم نهي الغزالي للناس عن أن يكونوا حلاقين أو دباغين.
فالعصور القديمة كانت عصور الآداب؛ لأن الخاصة المتعلمة كانت تأنف من ملابسة العبيد في صناعاتهم وتقتصر على درس الآداب، ولكن لما قاطعت الخاصة الصناعات قاطعت العلم أيضا، إذ إن ميدانه هو ميدان الصناعة؛ لأن رقي العلوم لا يمكن أن يكون شيئا آخر سوى رقي الصناعة. إلا إذا استثنينا الفلك.
وقد سارت نهضة العلوم الحديثة سيرا مرافقا لإلغاء الرق وتحرير الصناعة بل تطهيرها مما علق بها من عار الرق السابق، وشرع «بيكون» عندئذ يناشد الكتاب والمؤلفين أن يدرسوا «الأشياء العادية» ويتركوا المسائل الضخمة من البحث في ماهية الخالق وما وراء الكون ونحو ذلك، وهذه الأشياء التي درسها بيكون هي أساس الرقي الصناعي أي الرقي العلمي الحاضر.
والعبرة لنا مما قدمناه شيئان: (1)
أن نهضتنا في مصر أدبية وليست علمية، وهي تخالف في ذلك أوروبا. (2)
أن علة ذلك أن الفلاح والعامل عندنا محتقران.
فإننا قد وضعنا العامل الصناعي والعامل الزراعي في مركز العبد، من حيث قلة الأجر وهوان العيش، بحيث صرنا نتعير من أن نعمل عملهما، والعلوم لا تتقدم إلا بدرس الأشياء العادية، أي بدرس خمائر الجبن أو الخبز أو الكئول أو بدرس أرواث البهائم أو زيوت الوقود أو الأصباغ أو نحو ذلك، وهذه أشياء يتلبس بها العامل الذي نحتقره، فلذلك نحن نحتقرها ولا نحب أن نمسها، وعاد علينا هذا الاحتقار كالسيف القاطع حتى قطعنا عن البحث العلمي، وانصرف شبابنا إلى «الأدب» وصاروا الآن يعنون بقراءة قصيدة أكثر من عنايتهم بوصف طيارة. مع أن صناعة الطيارات أشرف من قرض الشعر، وهي برهان على رقي الذهن العلمي وتفوقه على الذهن الأدبي، فإن الهمج يقرضون الشعر ولجميع الأمم في جاهلياتها القديمة أشعار وقصائد بارعة، ولكن العلم هو ثمرة الذهن الحديث الذي غذي بأوفر مادة من الثقافة والحضارة.
ثم إن احتقارنا للصناعات قد سد علينا طريق الأعمال الحرة التي هي أساس القوة والثروة عند الأمم الراقية، فيجب علينا إذن أن نعمد إلى نهضتنا الحاضرة فنصبغها صباغة علمية وإلى عمالنا فنرفعهم إلى مستوى يحفظ كرامتهم الإنسانية وكرامة الصناعات التي يزاولونها، ثم بعد ذلك لا نحتاج أن نحث الشبان على طرق أبواب الأعمال الحرة.
ويجب أن نغرس في أذهاننا أن وطن العلوم هو المصانع، وأن الأمة المصرية تنتفع وترتفع إلى أعلى درجات المجد إذا أقبل شبابها على الصناعة، وأن العلوم ترتقي لأنها تجد البيئة الموافقة لها في الصناعة التي تغري العالم بالعلم للمكافآت العظيمة التي تقدمها له، ونحن ما زلنا في طور الزراعة من حيث العمل، وطور الأدب من حيث التفكير وكلا الطورين لا يتفقان والعصر الحاضر، فالزراعة التي نمارسها قد باتت من احتكار «الهمج» في إفريقيا وآسيا وأمريكا، والهمج لقلة أجورهم سيطردوننا من أسواق العالم كما رأينا من مزاحمة أقطان أخرى لقطننا.
الفصل الحادي والعشرون
أفخر الأثاث
منذ مدة نشر أستاذ إنجليزي كتابا عن مقياس الكفاية في العائلات فقال إن أفضل ما تقاس به العائلة هو مقدار الأثاث في منزلها ونوعه، فإن الإنسان إذا وقف أمام صورة معلقة على الحائط استطاع أن يحكم على صاحبها ويعرف منها درجة ذوقه وثقافته، فهناك من يعلقون صورة بطلة من بطلات السينما، وهناك أيضا من يعلقون صورة لفينوس ربة الجمال عند الإغريق، وفرق عظيم بين هاتين العائلتين. ثم هناك أيضا عائلات لا تعلق على جدران منازلها أية صورة، كأن الفنون التي مضى على الإنسان نحو عشرة آلاف سنة وهو يحاول أن ينقل إليها هواجس نفسه وعواطفه وعقله لم تخلق لها، أو كأن هذه العائلات تعيش في بداوة خاصة بها، مقصورة عليها، في وسط الحضارة العظيمة التي نعيش الآن بين ظهرانيها ونتقلب في نعمتها، وقد يكون هذا الأستاذ مصيبا أو مخطئا، ولكن الواقع أننا نحكم على درجة الناس ومركزهم الاجتماعي بأثاث بيوتهم، فلا نبالي بالرجل كم يملك من الأرض والعقارات إذا لم نجد بيته منجدا على الطراز الذي ندرك منه حضارة أهل البيت وثقافتهم، ولكن أفخر أثاث المنزل، وأدعاه إلى تقدير أصحابه هو المكتبة.
فالمكتبة هي أفخر ما في البيت من أثاث، فإن المقعد الجميل والمنضدة الملبسة بالصدف، والصورة الفخمة، والسجاد الفاخر الذي حاكته الأيدي الفارسية، والستائر السرية والثريات المتلألئة؛ كلها تدل على الذوق العالي والتبصر الحكيم لأصحاب المنزل، ولكن أفخر منها كلها وآنسها للضيف أو لرب البيت هو المكتبة، فإن المكتبة أثاث حي يؤنسك ويستجيب لك ويلبي شهواتك العليا، فأنت تنظر إلى قطعة الأثاث الجميلة فتغذو عينك بجمالها، ويلذك رؤيتها، ولكن الكتاب ليس جميلا فقط، بل هو يتسرب إلى ذهنك فيجعل ما تملكه من هذا الكون ملكوتا عظيما، ويبسط نفوذك إلى أوسع مدى يستطيعه هذا الذهن، ويكبر شخصيتك حتى تملأ هذا الفضاء كله، وحتى ليس به مكان يخرج عن استعمارك واحتلالك، فأنت بكتب التاريخ مثلا لا تقصر عمرك على سبعين أو ثمانين عاما تعيشها على هذه الأرض، بل تذهب بخيالك إلى ملايين السنين الماضية وآلاف السنين القادمة، فتشعر عندئذ بكبرياء وعظمة أنت جدير بهما؛ لأنك تاج التطور، ولأن جميع الأحياء على هذه الأرض دونك في هذه الذاكرة التي جعلها الكتاب تمتد بنا إلى ملايين السنين الماضية. ثم انظر في كتب السياحة أو العلوم أو الآداب أو الأديان تجد نفسك تشرئب وتتطلع إلى حقائق هذا الكون، وذهنك يلتمع بالخواطر والأفكار التي تهبط على هذه الحقائق وتمسها أو تكاد فترى عندئذ أنك تستعمل ذهنك في أشرف ما يمكن إنسانا أن يستعمل فيه ذهنه، وهو التسلط على هذا العالم بكشف حقائقه.
والمكاتب والكتب إنما هي محاريب الثقافة الإنسانية، وليس شك الآن في أيامنا هذه وخاصة عند الأمم الأوربية من أن الجامعة الحقيقية التي يمكن جميع الناس أن يتخرجوا منها علماء راسخين إنما هي الكتب، كما قال كارليل.
وقد أصبح لهذا السبب من أكبر ضروب البر والعناية بالخدمة العامة أن يتصدق الأغنياء بالكتب والمكاتب المجانية.
ولكن هذه المكاتب العامة لا تغني عن المكاتب الخاصة، ففي كل بيت يجب أن تخصص أجمل غرفة كي تكون محرابا للسكان يغشونها في أوقات فتورهم ونشاطهم ويجدون فيها من الكتب الفاخرة لهوا وفائدة وأغراء يحول دون غوايات هذا العصر، فإن المغرم بالكتب يراها مهواته، يقتنيها للقراءة أو للاستشارة، وينفق على تجليدها وتزيينها ما ينفقه غيره في البطالة المفسدة على القهوات أو في الإكباب على الشراب أو نحو ذلك من المغاوي الكبرى.
ومما يذكر عن المستر «مكدونالد» رئيس الوزارة الإنجليزية السابق أنه وهو ينتقل من منزل إلى منزل آخر وضع الحمالون أكداس الكتب التي يتألف منها جزء من مكتبته وسط إحدى الغرف فتحطم السقف تحتها لوفرتها وثقلها، فكان هذا خبرا يروى عنه كأنه إحدى مفاخره.
وحبذا المفخرة يفخر بها الشاب أمام إخوانه إذا دعوه إلى القهوة فاعتذر بلزومه منزله؛ لأن مكتبته أفخر أثاثا من القهوة وآنس منها للنفس وأوفر لهوا وفائدة، وحبذا المفخرة أيضا لربة البيت تفخر بها أمام ضيوفها وتبرهن لهم على ثقافة السكان وعلو منزلتهم، ونحن أبناء القرن العشرين قد تحضرنا وتثقفنا وارتقينا على آبائنا وجدودنا، فلم نعد نقنع من المنزل بسجاده وكراسيه وموائده، فإن لنا كبرياء يدفعنا إلى أن نحترم أكرم ما في أجسامنا وهو الذهن، بأن نغذوه بأجمل الكتب في أفخر المكاتب.
الفصل الثاني والعشرون
الروح الإنجليزية تتطور
اجتمع منذ أسبوعين مؤتمر مؤلف من كهنة الكنيسة الإنجليزية وقرر فيما قرر تنقيح كتاب الصلاة الإنجليزي، فأنقص منه، وزاد ونقح فيه بالتبديل والتعديل، فمن ذلك مثلا أنه استبدل الحب بالطاعة، التي كان يفرضها الكتاب السابق على الزوجة لزوجها، ومنذ أكثر من 15 سنة التأم مؤتمر آخر مؤلف من كهنة الكنيسة الإنجليزية أيضا وقرر قبول نظرية داروين.
ولسنا بسبيل الفحص لهذه التنقيحات فإننا لسنا أهلا لها، وإنما لنا العبرة؛ لأننا نعيش في هذا الشرق الذي يكره التبديل والتنقيح ويطلب منا أن نعيش كما كان يعيش آباؤنا منذ ألف عام، وأن نتكلم لغتهم بلا تبديل أو تعديل، وأن نعتقد عقائدهم.
فهؤلاء الإنجليز الذين يملكون نحو ربع الدنيا، والذين هم بلا نزاع من أرقى الدول، يكرهون الجمود حتى في دينهم، فالصلاة تتطور معهم لأن روحهم تأبى الجمود كما يأباها ذهنهم، فاللغة الإنجليزية التي يكتبها المؤلفون الإنجليز الآن تختلف اختلافا عظيما عن اللغة التي كان يكتبها شكسبير قبل 300 سنة، ونزعة الآداب الإنجليزية الآن تختلف عما كانت في أيام ولتر سكوت قبل مائة سنة، والإنجليزي في معيشته الآن يختلف عما كان قبل مائة سنة، وأقل ما في هذا الاختلاف أنه يعيش الآن بالصناعة وكان قبلا يعيش بالزراعة.
فالإنجليزي قد تطور في لغته وآدابه ومعيشته وها هو ذا يريد الآن أن يتطور في صلاته وفي علاقته بربه، وهذا يدل على أنه يفهم الحياة أكثر منا وأنه يفطن لأهم نواميس الحياة وهو التحول والتطور.
وما أحرانا نحن بأن نفقه هذه العبرة ، فهؤلاء الإنجليز متقدمون راقون، يسودون العالم ويغلبون كل من يعارضهم في تنازع البقاء؛ لأنهم لا يجمدون ولا يلزمون حالة واحدة.
ولسنا نظن أنه يمكن أحد الشرقيين أن يقترح تنقيح صلاته كما يفعل الآن الإنجليز، وهو لو فعل لعد كافرا، وبات بذلك طريد أهله وملته، ولكن هذا لا يمنعنا من أن ننشد التطور في النواحي الأخرى لحياتنا الاجتماعية والاقتصادية، فنحن الآن نعيش مثلا على أبواب نهضة كبيرة تنقلب فيها معايش الناس من الزراعة إلى الصناعة، ومن الأدب إلى العلم، كما انقلبت في تاريخ الإنسان الماضي قبل سبعة آلاف سنة من البداوة إلى الحضارة، فإذا لم نتمش مع هذه النهضة، وإذا لم يقبل شبابنا على الصناعة ويضع من الآن أسسها الوضيعة، سبقنا العالم فلا نستطيع عندئذ اللحاق به. ثم هذه الزراعة التي نمارسها الآن في حقولنا قد عرفها الهمج في العالم، وصار الغربيون يمارسونها في الأراضي البكر على مساحات واسعة، يزرع الواحد منهم نحو خمسين أو ستين فدانا، ولا قبل لنا نحن أن نزاحم هؤلاء بزراعتنا، وعلى ذلك يجب أن نعرف أن زراعتنا مقضي عليها إذا لم نجعلها فنية قائمة على الفواكه والخضروات، وصناعية قائمة على الغزل والنسيج والتجبين.
فزراعتنا يجب أن تتطور حتى تكون صناعية. ثم هذا الأدب الذي يمارسه شبابنا هو أدب بال قائم على الألفاظ والزخارف، فيجب أن يتطور حتى يصير أدبا علميا غايته البحث عن معايير جديدة للحياة والسعادة.
ثم معيشتنا يجب أن نتناولها بالتنقيح والتبديل حتى توافق بيوتنا شروط الصحة والجمال، وحتى لا نحتاج إلى أن نهجرها إلى القهوات والحانات، كي ننسى حياتنا فيها بعض النسيان، وأيضا يجب أن نتذكر المرأة التي هي الأم والمربية والعشيرة فنرفعها إلى مستوى المرأة الأوربية حتى تكون بذلك إنسانا نأتنس به في بيوتنا، وحتى تكون حكيمة مدبرة يمكنها تربية أولادها والإشراف على مصالحهم إذا مات زوجها.
وإذا كان الإنجليز لا يتهيبون من التنقيح في الصلاة التي يتقدم بها الإنسان لربه، فإننا يجب ألا نتهيب من التنقيح والتبديل في معايشنا، فنعمل لتحرير المرأة وتعليمها الحرف التي يمكنها أن تعيش منها، ونعمل لحث الشباب على درس العلوم وممارسة الصناعات، ونعمل أيضا لحث جميع الناس على اصطناع المخترعات الجديدة، فنركب الطيارات بدل الحمير التي كان يركبها أسلافنا قبل عشرة آلاف سنة، ونخترع ونكتشف ونتقدم للعالم بحصتنا من المجهود في ترقيته؛ لأننا نعيش الآن ونحن عالة عليه، في الاختراع والاكتشاف، وليس ذلك إلا لأننا نلزم السنين القديمة والطرق العتيقة.
الفصل الثالث والعشرون
ماري
في سنة 1883 ماتت فتاة روسية تدعى «لاري بشكير تسف» وهي في الرابعة والعشرين من عمرها بعد أن أكل التدرن رئتها وبرزت أضلاعها كالقفص الفارغ.
وللتدرن من الآلام البطيئة ما يبعث السأم في النفس ويصدها عن ضروب التمتع ويحبب إليها الموت، ولكن ماري كانت بعكس ذلك تحب الحياة وتشتهي البقاء، وقد تركت في مذكراتها اليومية صورة قوية لهذا الجوع الذي كان يحثها على أن تلتهم العالم التهاما، وهذا العطش الذي كان يدفعها إلى أن تذوق حلو الحياة ومرها، وهي في اشتهائها للبقاء لم تكن تخضع لشهوات الدنيا، بل كانت تسمو وتتشوف إلى أرفع ما في هذا العالم من مطامع وأغراض.
كتبت مرة في مذكراتها تقول: «يبدو لي أنه ليس هناك أحد يستطيع أن يحب كل شيء كما أحبه: يحب الفنون الجميلة والموسيقى والرسم والكتب والاختلاط بالناس واللباس والترف، أو التفزز والهدوء والضحك والدموع والحب والحزن والادعاء والثلج والشمس ... إني أحبها كلها وأعجب بها كلها ... وأحب أن أرى هذه الأشياء بل أمتلكها وأعانقها وأندمج فيها ثم أموت في طرب هذه اللذة (لأني لا بد أن أموت بعد سنتين أو بعد ثلاثين سنة) حتى أعرف سر هذا الختام بل سر هذه البداية.»
وكتبت مرة أخرى تقول: «إني أحسد العلماء حتى أولئك المهزولين الذين يكسو وجوههم الشحوب والقبح.»
وتصيح مرة أخرى في مذكراتها حين تقول: «ما الزواج وولادة الأولاد؟ أليست الغسالات أنفسهم يقدرون على ذلك؟»
وهذه القطعة الأخيرة تدل على أن ماري قد احتقرت أشياء لم تكن دون ما تحب من حيث لذة الاختبار وبلوغ السعادة ، وربما كان احتقارها هذا علة كبرى للأسى العظيم الذي كان يتملكها ويملأ أحيانا فؤادها غضبا وحنقا.
وقد كان يقال إن الصحة تاج على رءوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى، وكذلك يمكننا أن نقول من مثال ماري هذه ومن مثال باربيون الذي سبق فذكرناه إن الدنيا جميلة لا يرى جمالها إلا من أوشكوا أن يغادروها، ففي كلتا الحالتين نرى أن باربيون وماري يتعلقان أشد التعلق بالحياة، يريدان أن يستوعبا كل ما فيها من لذة أو متعة، كما يريدان أن يختبرا خيرها وشرها ويقفا على كل ما يمكن علمه من علومها وآدابها وفنونها، وما ذلك إلا لأنهما عرفا أن المرض يوشك أن يقطع بينهما وبين هذه الدنيا، فانكبا عليها وانغمسا في درسها وفهمها.
وما أحرانا ونحن بعد في صحتنا أن نعرف لهذه الدنيا قيمتها فنقبل عليها ونتمتع بها، فندرس علومها ونسيح في أرجائها ونستكشف أسرارها قبل أن يحملنا هذا التيار الجارف الذي يحمل جميع الأحياء إلى محيط الأبدية، وإنما يكون إقبالنا عليها ونحن بعد في شبابنا، قبل أن تستولي الشيخوخة علينا وقبل أن تتكون لنا عادات تمنعنا من هذا الدرس والتمتع، ولكن يجب ألا ننسي أن التمتع ضروب عالية وسافلة، فمن الناس من يتمتعون بالنهم للطعام أو النوم بعد الظهر أو نحو ذلك من الملاذ التي كان باربيون وماري يترفعان عنها ويجدان أن الحياة أقصر من أن تنفق ساعاتها في مثل هذه الملاذ الخسيسة، فإن النوم يضعنا في صف النبات من حيث الوعي بهذا العالم، ويغيب أذهاننا التي هي أقوى أدوات تمنعنا، فيجب لذلك أن نأخذ منه بأقل مقدار يكفي لصحتنا. أما النهم فأليق بالحيوان منه للإنسان.
وخلاصة القول إننا ما دمنا نعيش في هذا العالم فإننا يجب أن نتمتع به وأن نتأنق في تمتعنا حتى لا نخرج منه إلا وقد شبعنا مما فيه من اللذات السامية ووقفنا على ما يمكننا من أسراره، وبعبارة أخرى يجب أن نحيا على الأرض لكي نعيش ونختبر ونتعلم لا لنقضي عليها حياتنا في سبات الغفلة كأننا نوع من الأشجار.
وكذلك يجب أن نحذر تلك الحياة الضنينة التي يقصر المجهود فيها على تحصيل العيش والمبالغة في الإثراء، حتى يصبح صاحبها كأنه فرس العربة، بينه وبين العالم غمامة تغم على عينيه فلا يرى إلا ما أمامه، فإنما الحياة الوفيرة، تلك الحياة التي يقول بها السيد المسيح، تقتضي أن نتمتع بالنواحي العديدة التي تعرض لنا من هذه الدنيا، وهذه الناحية لا تنحصر في تحصيل العيش.
الفصل الرابع والعشرون
أعجوبة الطفولة
إذا قوبل الطفل بعجائب العالم كان أعجبها وأدعاها إلى التأمل والاعتبار، فقد كان ابن سينا يعجب بالإنسان ويقول إن العالم الأكبر قد انطوى فيه، وكان شكسبير يقول إن الطفل أبو الإنسان، فإذا ضممنا القولين قلنا إن العالم أو الكون كله قد انطوى في الطفل.
وإذا نظرنا إلى الطفل من حيث إنه اختراع للطبيعة ألفيناه من أغرب المخترعات، فنحن إذا اخترعنا آلات جديدة صنعناها كلها على غرار واحد كأنها أتومبيلات تخرج من مصانع فورد، ولكن الطبيعة تخترع الأطفال وكل منها على مثال نفسه لا نظير له، فأنت إذا نظرت إلى مائة طفل فكأنك تنظر إلى مائة اختراع جديد ليس واحد منها يشبه الآخر.
وفي كل واحد من هؤلاء الأطفال قد انطوى تاريخ الإنسان - لا بل الأحياء كلها - في الماضي، وأنت لو أدمنت الملاحظة وألححت في استقراء حركاته وتتبع أصواته وبدواته لرأيته يتكشف عن أطوار الإنسان الماضية طورا بعد طور، ولكنه ليس صحيفة مطوية للماضي فقط، إذ لو كان كذلك لما استحق أن يسمى اختراعا جديدا. كلا، فإنما هو اختراع جديد من حيث إنه صحيفة جديدة للمستقبل.
فكل طفل يأتي إلى هذا العالم بشيء جديد، لم يكن له وجود من قبل، زيادة على ما ورثه من أسلافه، فالحيوان القديم الذي كان أحد جدودنا المحترمين، مضمر في جسم الطفل وعواطفه، ولكن الفيلسوف أيضا مضمر في ذهنه.
ومن هنا صعوبة تربية الطفل، فإن العالم كله يحتفل الآن بمضي مائة سنة على وفاة رجل التربية المشهور بستالوتسي، فيجب إذن أن نقول كلمة عن تربية الطفل.
وصعوبة الكلام في هذا الموضوع هي لهذا الشيء الجديد في الطفل؛ لأنه لو كانت أطفالنا تخرج على غرارنا بلا زيادة لكان لنا الحق في أن نتبسط معهم ونكسبهم كل آرائنا وننبههم إلى ما عرفناه من خير وشر، ولكنهم شيء جديد في هذا العالم، قد تطورت بهم الحياة طورا جديدا وعبرتنا إليهم مرتقية صاعدة وتركتنا في الخلف.
فنحن نقف بإزاء الطفولة الجديدة موقف الجهل، فكيف إذن نربي الأطفال ونكسبهم آراءنا واعتقاداتنا؟ إننا إذا فعلنا ذلك كان افتياتنا على الطبيعة عظيما جدا لأننا نحاول بذلك أن نصوغ هذا الطفل، الذي هو العالم الأكبر، على غرارنا. كأننا نحن غاية التطور وتاجه، وكأن ليس في إبداع الطبيعة أحسن منا ولا أرقى، وكأننا نعرف ما أضمرته الطبيعة لمستقبل الإنسانية كلها في هذا الطفل فنتغلغل إلى ضميرها ونحاول أن ننقح في أغراضها وغاياتها.
كلا، فإنما التربية الحقيقية هي أن نقف من الطفل كما قال كوربتكين موقف التعجب فقط. لا نمس أغراضه أو آراءه إلا بالاحتياط الشديد حتى ينشأ على طابع نفسه وعفو طبيعته، وإنما علينا فقط أن نغذوه كما نغذو الشجرة، نهيئ لها الوسط الذي تبلغ فيه أعلى مقدار من نموها بدون أن نعوق غصونها بوضع الحواجز والعوائق.
فلنهيئ للطفل غذاءه بل غذاءيه: غذاء الجسم من الطعام السليم وغذاء الذهن من الثقافة الحسنة. ثم بعد ذلك نتركه لكي يختار جسمه وذهنه من هذين الغذاءين ما ينموان بهما ويزكوان في نموهما، وليس لنا بعد ذلك أن ندخل في أخلاقه نقومها، ولا في آرائه نمليها عليه، ولا في اعتقاداته نغرسها في قلبه، فإن ذلك كله بمثابة وضع الحواجز لغصون الشجرة والاعتياض من عفو طبيعتها تكليفها شكلا خاصا لم تقصد إليه.
ومن الجناية أن تقوم أخلاق الطفل لأنه ليس عندنا ما يثبت أنه معوج يحتاج إلى التقويم، ولا من الإنصاف أن نملي عليه رأيا قد يكون مضمرا في نفسه الجديدة ما هو أصوب منه وأسد، وليس من الحق أن نغرس فيه عقيدة قد يأتي هو بخير منها ، فواجبنا إذن أن نتركه ينمو حرا، نزوده بما يشتهي من غذاء صحيح سليم، نعرض له ثقافة الأمم كلها يختار منها ما يشاء. أما العقائد والآراء فيجب أن يترك فيها حرا حتى يأتي فيهما بالجديد فتتطور روح الإنسان بذلك كما يتطور جسمه.
ويجب أن نتذكر أننا مهما حاولنا تنشئة الطفل في حرية الرأي والعقيدة فإنه سيتلبس بحكم وسطه ولغته وثقافته بآراء الغير وعقائدهم، فالجديد فيه سيكون مع ذلك قليلا، ولكن هذا القليل ثمين جدا إذا نظرنا إليه في ضوء التطور، فإن العالم لا يتقدم بما يرثه الخلف عن السلف، بل بما يجدده الخلف على السلف ويرتقي به عليه.
فالطفل هو العالم الأكبر، فلنحذر إذن من أن نفتات على هذا العالم الأكبر بأن نملي عليه طريق تطوره ورقيه.
الفصل الخامس والعشرون
التفاؤل والتشاؤم
إذا نحن أهملنا من يستحق الإهمال، وهو الرجل القانع بحاله الراضي بمعيشته، فإننا نجدنا في هذا العالم بإزاء رجلين: أحدهما متفائل يرى الخير أو يرجوه وآخر متشائم يرى الشر أو يتوقعه.
وأنت إذا راجعت هذا المتشائم وناقشته ألفيته متفائلا وإن لبس السواد، له وجه عابس ولكن نفسه تبتسم؛ لأنه هو في الواقع لا يتشاءم إلا لأنه يطمع ويرجو ويرى في الإمكان أفضل مما هو كائن، ولكنه يرى من العوائق ما يحول دون تحقق الرجاء، فهو يغضب ويعبس لا لأن الطبيعة البشرية سيئة قد تأصل فيها السوء، إذ هي لو كانت كذلك لما كان ثم مجال للتشاؤم أو الغضب، فنحن مثلا لا نغضب من الرصاص الذي لا يستحيل ذهبا، وإنما هو يغضب لأنه يرجو التحسن فيجد عوائق تمنع هذا التحسن.
فالمتشائم متفائل من حيث لا يدري، تتشوف نفسه إلى الرقي والعلا، وتشوفها هذا دليل على ما في النفس البشرية من الخير والرجاء لأن نفسه هي مع تشاؤمه نفس إنسان، وما فيه من رجاء وتسام نحو الرقي يرجعان إلى ما في هذه الطبيعة البشرية التي يتشاءم هو بها عندما يفكر في مستقبلها ويرجو من خير ورجاء.
ومعنى ذلك أن المتشائم ثم والمتفائل يرجوان الخير ويتساميان إلى الرقي بفرق واحد، وهو أن الأول يرى أن العوائق كثيرة تمنع تحقق الرجاء، والثاني يرى أن هذه العوائق يمكن تمهيدها.
وهذا الرجاء، وهذا التسامي، كلاهما برهان على سمو الطبيعة البشرية، وأنها غير قابعة بحالها بل ترمي على الدوام إلى ما هو أسمى منها، تريد أن تنسلخ من ثوبها القديم راجية أن تتجدد في ثوب جديد، وهذا المتشائم الذي يعبس للدنيا ويسيء الظن بالإنسان يحسن به الظن أيضا من حيث لا يدري لأنه ينتظر أكثر مما يراه منه، ومعنى ذلك كله أن الرقي في الإنسان هو حقيقة منشودة إن لم تكن حياة واقعة؛ لأن الطبيعة لم تغرس هذا الرجاء في قلوبنا عبثا، وإنما غرسته لكي تدفعنا على الدوام إلى التجدد والتطور، وما هذه القناعة التي يصاب بها بعضنا إلا نوع من المرض يشبه تلك الراحة التي تلي الإعياء الشديد أو تسبق الموت الأخير، فهي حال غير طبيعية في الإنسان قد تصاب بها أفراد أو أمم وعندئذ تحق عليهم كلمة الفناء.
فأما حال الإنسان الطبيعية فهي ذلك الرجاء الذي يتوهج بالصحة والسرور والنشاط، أو ذلك الاستياء المقدس الذي يدعو صاحبه إلى الغضب وكراهية الواقع مع محاولة تحقيق الأماني والأحلام.
ونقول بعبارة أخرى إننا إذا استكنهنا روحنا وبلغنا منها اللباب نجد أننا أبعد ما نكون عن الجمود وأشوق ما نكون إلى الرفعة والسمو، وإن تاريخنا في المستقبل لن يختلف عن تاريخنا في الماضي من التطور من أدنى إلى أعلى، وذلك لأن في كل منا غريزة للرجاء لا تقل عن أية غريزة أخرى قوة ودفعا للنشاط، وفي كل منا أيضا شهوة للتطور لا تقل عن أية شهوة أخرى، بل يبلغ من قوتها أحيانا أنها تدفعنا إلى التضحية بأنفسنا أو إلى مكابدة العذاب لأجل تحقيق غاية قصدت إليها الحياة عن سبيلنا.
وبهذه المناسبة أذكر قولين لعظيمين من عظماء البشر، أحدهما بولس الرسول المسيحي المشهور، فقد وصف هذا الرجل الأمم الوثنية التي زارها بأنها «لا رجاء عندها» وكان بالطبع يقيس رجاءها بما في نفسه من الرجاء الكبير للمسيحية وهي بعد في فتوتها التي تغلبت بها على هؤلاء الوثنيين اليائسين، والثاني هو برنارد شو الأديب الإنجليزي المعروف، إذ يقول: إن الدراما الصحيحة لا يمكن أن تكون مأساة لأن في الحياة من الرجاء ما يجعل كل مأساة سخيفة بعض السخف؛ ولذلك فإننا لا نطيق رؤية المأساة البالغة إلا في صورة «أوبرا» أي درامة موسيقية، وذلك لكي يغفل ذهننا عما فيها من سخافة بما فيها من طرب الموسيقى.
الفصل السادس والعشرون
هل اخترعت مصر الحضارة
مما يؤسف له أكبر الأسف أن الجامعة المصرية لم تستطع إغراء الأستاذ إليوت سمث للقدوم إلى مصر والتدريس بالجامعة، فقد بخلت عليه حكومتنا بخمسمائة جنيه، مع أن مثل هذا الرجل لا يضن عليه بمال، وخاصة بالنسبة إلينا نحن المصريين، فإننا أمة تحتاج إلى الدعاية في أوروبا لتحسين سمعتنا عند الأوروبيين ورفع مقامنا في عيونهم، وليس في العالم رجل رفع من شأننا وجعل لنا المقام الأول في التاريخ مثل إليوت سمث.
كان إليوت سمث قبل عشرين سنة أستاذا في مدرسة الطب بقصر العيني، وكان يدرس الجماجم المصرية القديمة ويقابلها بالجماجم الحديثة في مصر وأوروبا وآسيا، وكان التشريح درسه الأصلي ولكن هواه كان في «المصرلوجية»، ينقب عن الآثار ويبحث عن جماجم أسلافنا ويقيس رءوس الفراعنة ويستقرئ أدوات مصر القديمة وآلاتها، وفي أحد الأيام حوالي سنة 1920 التمع بذهنه خاطر غريب، وهو أن المصريين أول من عرفوا الزراعة والحضارة في العالم وأن الآثار الحجرية التي توجد الآن بإنجلترا أو بالهند أو بأمريكا هي من آثارهم بالذات أو بالثقافة المنقولة عنهم.
وهذا الخاطر الغريب قد صار علما يتباحثه العلماء في جميع أقطار الأرض المتمدينة، وصارت له كتب ضخمة ومختصرة قرأت أنا وحدي منها إلى الآن ثلاثة كتب وسأوالي القراءة في هذا الموضوع إلى يوم أموت، وذلك لا لأني أجد في هذه الكتب علما صحيحا وكشفا عظيما لتاريخ الإنسان فقط بل لأني أشعر فيه من الارتياح، بل الزهو، ما يجعلني أنبسط لقراءة هذه الكتب الجديدة وأهش لهذه النظريات الرفيعة.
وكيف لا أزهو، بل كيف لا تزهو أنت أيها القارئ المصري عندما تعرف أن الأقدار قد اصطفتنا من بين أمم العالم كله لكي ننشر على الناس مبادئ الحضارة ونخرج الإنسان من بداوة الغابة والصحراء إلى الزراعة والصناعة، ونخطط أول المدن، ونرسم أول الحكومات، ونخلق أول الآلهة، ونستنبط النحاس والذهب، وننحت الحجر وننشئ علمي الكيمياء والفلك، ونضع للناس - أجل لجميع الناس - شرائع الزواج؟
هذا ما يقرره الأستاذ إليوت سمث هو وطائفة كبيرة الآن من العلماء، وهذه النظرية ترفع من مقامنا في عيون العلماء الذين كانوا يعتقدون أننا شرقيون منحطون لا ننتفع من العالم ولا ننفعه. ثم هي مع ذلك نظرية صحيحة يدعمها الاستقراء ويقول بها غير المصريين من العلماء.
ولكن الأستاذ إليوت سمث يزيدنا وجاهة ومقاما للتاريخ من حيث إنه يقول إن المصريين كانوا شعبا لا يختلف من حيث بنية الجسم واللون عن الشعوب التي كانت تعاصره في ذلك الوقت في إنجلترا وإسبانيا وإيطاليا، وهو يقول ذلك بناء على مشاهداته عندما قابل رءوس المصريين القدماء برءوس قدماء الأوروبيين، وإذا عرفت أن بعض العلماء يعتقد أن أسلافنا كانوا زنوجا أو شبيهين بهم، وأن البعض أيضا يعتقد أنهم يمتون إلى أصل مغولي، أدركت قيمة هذا البحث الجديد في الدعاية لمصر.
والخلاصة أن العلماء يتجهون إلى القول بأن مصر هي التي أفشت الحضارة في العالم، وأن المصريين القدماء لم يكونوا أمة شرقية، بل كانوا أمة غربية الدم والمزاج، وأن غربيتها هذه هي التي يسرت على أوروبا اصطناع حضارة المصريين؛ لأن الأوروبيين وجدوا أن القائمين بهذه الحضارة يمتون إليهم بنسب الدم وقرابة العصب فلم يتوجسوا شرا من بدع المصريين بل نقلوها واصطنعوها وارتقوا بها.
والآن أيها القارئ أسألك: إذا كانت الأقدار قد قيضت لآبائنا أن يثبوا بالإنسان إلى نور الحضارة فهل يليق بنا نحن أبناءهم أن نركد فلا نبتدع ولا نثب؟
كلا. إننا لن نكون حفدة أولئك الجدود العظام ما لم نقف في مقدمة الأمم، نعمل لخير العالم كما عملوا، ننطوي على النية الحسنة التي انطووا عليها، ونبشر بحضارة جديدة، ونغامر من أجل رقي الإنسان ونلتحق بتلك الشعوب التي خرج منها هؤلاء الجدود فنلبس لباسهم ونسير معهم ونتثقف بثقافتهم.
الفصل السابع والعشرون
أغانينا
أليق الأوصاف للأغاني التي نغنيها وأكثرها ورودا على ألسنة الكتاب حين ينعتون أحد المغنين بالبراعة والتبريز وصفهم أصواته بأنها «مشجية»، ولم يكن من العبث أو السهو إطلاق هذا النعت على أغانينا لأنها، على الدوام، كما يدل معنى الشجى، محزنة، وهذا الحزن يبدو في هذه الألحان الممطوطة التي تشبه البكاء والعويل بحيث لو سمعها غريب عن لغتنا لاعتقد أننا نندب ولا نغني، وقل مثل ذلك أيضا في ألحان الموسيقى ونغماتها، فإنها تتساوى وأغانينا، إذ هي مشجية تستثير فينا الحزن وتستخفنا إلى الطرب الذي يتولد في النفس من الأسى والشقاء، ومصداق كلامنا يتضح إذا عرفنا أن بعض المغنيين إذا غنى، كذلك بعض الناس إذا سمعه، ترقرق الدمع في أعينهم، وانكسرت قلوبهم وصاحوا جميعا «آه»، وهل يتأوه الإنسان إلا من وجع وحزن؟ وهذا القول يتضح أكثر إذا قابلنا أغانينا بأغاني الأوروبيين وقارنا حالة النفس المصرية عقب الغناء أو الموسيقى بحالة النفس الأوروبية، فالأغاني الأوروبية تبهج النفس وتستخفها إلى طرب الفرح، حتى ليشعر المستمع أن أعصابه تنفزز ويود لو يقف ويرقص. أما أغانينا فتستخفنا إلى طرب الحزن حتى لنود أن نبكي ونشعر كأننا نأسف على ما فات ونخشى ما هو آت.
وليس شيء في العالم يدل على حالة الأمة النفسية أنين غامها وموسيقاها؛ لأن الألحان تعبر عن النيات المتمكنة في النفس، وهي تنبع منها عفوا كما ينبع منها البكاء والضحك، وإنما غلب الحزن و«الشجى» على أغانينا لهذا الظلم الطويل الذي قاسيناه في أكثر من ألف سنة مضت حتى أصبحت نجوانا إلى الله والدهر نجوى المحزون اليائس. وإنه لمما يدعو إلى التأمل، ولا يخرج عن موضوعنا، أن يتلبس «الدهر» الذي ليس في معناه في الأصل سوى الزمن بمعاني الكوارث والنكبات.
أجل، لقد قاسينا عذاب الولاة والحكام الجائرين في القرون الماضية حتى صرنا إذا أردنا أن نشدو ونغني بكينا وندبنا؛ لأن العالم يبدى لنا قاتما، إذا خلونا إلى أنفسنا انطلقت هذه الأنفس التعيسة بالبكاء والندب وتجاوب القيثار والمزمار صدى أحزاننا فردها إلينا ألحانا نكاد نحس فيها بنشيج الباكي الولهان وآهات الموجع المحزون، ولكننا نرى الآن أنه قد آن لنا أن نغير أغانينا وألحاننا وذلك لأن نفوسنا التي كان يرهقها، ظلم المماليك العبيد من أكراد وأتراك قد تحررت وازدهى العالم في وجهنا بعد القتام، فجدير بنا أن تكون أغانينا مفرحة مبهجة تملأ نفوسنا تفاؤلا ونشاطا وتجعل شبابنا يتفزز إلى العمل والأمل بدلا من هذه الأغاني والألحان الحاضرة التي تكرب نفوسنا وتكبتها وتشل فينا الأمل وتحثنا على البكاء.
ولسنا نعني بذلك أن تكون أغانينا مقطوعات مضحكة، وإنما نعني أن تكون طبق الحياة، فيها المحزن والمضحك كما أن فيها الألم والفرح؛ لأنه إذا لم تكن الحياة مهزلة فهي ليست أيضا مأساة، وإنما هي دوامة عادية تختلف فيها الوقائع والعواطف، ولكن كما أن المريض يجب أن يفكر في الأمل أكثر مما يفكر في الألم كذلك يجب أن تتشرب أغانينا وألحاننا الموسيقية روح التفاؤل والبهجة والرغبة في الرقي، ولا يكون ذلك بتأليف القصائد التي كان يغنيها مغنونا إلى عهد قريب في مدح عبد الحميد وعباس، وفي تلحين القصائد القديمة لابن الفارض وأبي فراس، وإنما نريد من شعرائنا أن يؤلفوا القصائد من الكلام المصري العذب الذي هو وليد ألسنتنا وقلوبنا لا من الكلام الجافي الذي دونه الزمخشري في معجمه قبل ألف سنة، ولقد كان كونفوشيوس يقول: لست أبالي بمن يسن للناس شرائعهم. ذلك أن للأغاني تأثيرا في النفس قد يكون أبلغ من تأثير الشرائع. إذ الأغنية تخرج من المعنى لحنا يتبطن النفس وتنزل كلماتها منها منزلة الطبع.
الفصل الثامن والعشرون
عدو الظلم والاضطهاد
من الناس من تقرأ ترجمتهم فكأنك بذلك تقرأ قصيدة سامية حوت من المعاني أشرفها ومن المقاصد أعلاها، فتقرأ وأنت في لذة وطرب تشبه ما تشعر به عند سماع أحد الأدوار الموسيقية الأنيقة.
وإذا كانت حياة كل منا تجري، أو بالأحرى تمشي، في طرق مألوفة معبدة لا تصطدم بصخرة ولا تقاومها موجة حتى كأنها النثر البارد فإن في حياة الأبطال أمثال فولتير وجيته من الشعر والإيقاع والموسيقى ما يجعلنا نتصفح حياتهم ونعاود التصفح كما نعاود سماع قطعة موسيقية مطربة.
ثم كلما ألمت بنا مصيبة من طاغية يطغى أو رئيس يتنطع في السياسة أو الدين عدنا إلى فولتير فنجد فيه العزاء والدواء، فقد أمضى حياة طويلة بلغت 83 سنة وهو يحارب الجور والاضطهاد، ويزرع في الناس بذور الحرية، ويداور الحكام الطغاة ويمكر بهم، ويطبع كتبه بغير اسمه لأنه لم يكن يبغي منها الشهرة بل كان يبغي نشر الأفكار والآراء، ولكن الشهرة جاءته حتى إنه عندما زار باريس في آخر حياته كانت رحلته من سويسرا إليها في رأي أحد الأدباء الإنجليز «من أكبر حوادث القرن الثامن عشر» لكثرة من وفد عليه من الأهلين لرؤيته. حتى كانت سفرته أشبه بالموكب منها بالسفر المألوف.
وحبس فولتير مرتين في الباستيل، شيخ السجون ورمز الاضطهاد، ونفي مرة إلى إنجلترا، وكل ذلك في سبيل رفعة الإنسان وتحريره من الخرافات وهدم السلطات الجائرة، ولكنه عاد من إنجلترا وقد ازداد قلبه قوة وتقديرا للحرية.
وإذا ذكرنا فولتير ذكرنا ابتسامته التي لا تفتأ تلعب بل ترقص على شفتيه. ابتسامة الحنان والشفقة للمنكوبين والمظلومين، وابتسامة التهكم والتقريع للطغاة والظلمة، فقد حكي أنه عندما خرج من الباستيل بعث بخطاب لملك فرنسا يقول فيه: «أرجوك يا مولاي ألا تكلف نفسك في المستقبل نفقات مسكني.»
ولما أعياه المرض وانطرح على فراشه وأخذ في نزع الموت حاول الذين حوله أن يستخلصوا منه اعترافا فقال لهم: «أموت في حب الله وحب الأصدقاء، لا أكره أعدائي، وإنما أمقت الخرافات.» فوضع بهذه الكلمات ناموسا جديدا للإنسان.
وفي سنة 1771 أي بعد أن مضى على موته ودفنه 13 سنة أخرج أهل باريس رفاته وحملوها في موكب على نعش كأنه عرش يحفه الزهور ويتعالى حوله الهتاف، ويسير الناس وراءه بالآلاف هذا يصفق وهذا يهتف وهذا يبكي من الفرح، وهذا ينشد له مقطوعة من الشعر وهذا يحمل في يده حكمة مما فاه به في حياته. حتى بلغوا الباستيل الذي حبس فيه مرتين، وكان الباريسيون قد هدموه، فوضعوه على أنقاضه وقد كتبوا فوق نعشه: «في هذه البقعة حيث قيدك الاستبداد تقبل طاعة الأمة الحرة».
ولكن يجب ألا ننسي شيئا قاسيا مفجعا حدث في هذه المظاهرة الحرة التي أعلن فيها انتصار الحرية على الاستبداد، فبينما كان أهل باريس يحتفلون بملك الأدب، ويسيرون وراءه ورءوسهم عارية، والناس في بيوتهم يشرفون من النوافذ ويهتفون عند مرور النعش بهم ويدعون بالحياة لهذا الميت، كان في باريس شخصان اثنان يسمعان الهتاف ولا يطلان من النوافذ، وهذان الشخصان هما الملك لويس السادس عشر والملكة ماري أنطوانيت زوجته.
والآن كلنا يحب فولتير، وكلنا يقرأ حياته كما يسمع دورا من الأدوار الموسيقية المطربة، وكلنا يقرأ مؤلفاته التي تبلغ نحو التسعين، وكلنا ينتفع بهذا الحكيم الذي بذر البذرة الصالحة فأثمرت في العقول وكسرت شوكة الظلم والاضطهاد، وكلنا أيضا يشعر بشرف هذه الحياة التي أمضيت في خدمة الإنسان.
ولكن ثم شيء سافل يجب أن نذكره بجانب هذا الشرف، وهو أنه في سنة 1814 عندما عادت الملوكية إلى فرنسا أمر «الملك» فأخرجت جثة فولتير من مدفن العظماء فأحرقت بالجير وبعثرت. مع ذلك نذكر الآن فولتير ولا نذكر اسم هذا الملك النكرة، ونعجب بشهامة الأول ونشمئز من سفالة هذا الثاني.
الفصل التاسع والعشرون
الحق والقوة
القوة هي الحق، وإذا كان الحق ضعيفا فليس بحق، ولبيان ذلك نقول ونضرب المثل ببريطانيا والهند.
فالعرف الشائع بين الكتاب، وخاصة كتاب الهند، أن بريطانيا قوية والهند ضعيفة، ولكن الحق مع الهنود لأنهم ينشدون استقلال بلادهم والباطل مع الإنجليز لأنهم يعتدون على هذا الاستقلال.
ولكن لماذا يكون الهنود ضعفاء وهم 300 مليون نفس ويكون الإنجليز أقوياء وهم أقل من 40 مليون نفس؟
إن الهنود ضعفاء لأنهم يمارسون صنوفا عديدة من الباطل في بلادهم بين بعضهم البعض، والإنجليز أقوياء لأنهم يمارسون صنوفا عديدة من الحق في بلادهم بين بعضهم البعض، فالإنجليز يتساندون ويتناصرون فيما بينهم، بحيث تصير كتلتهم على صغرها متماسكة، في حين أن كتلة الهنود الكبيرة على ضخامتها تبقى متفككة، ولهذا إذا اصطدمت الكتلتان تغلبت الصغرى لمتانتها على الكبرى لخراعتها.
ولكن هذه الكتلة الإنجليزية الصغيرة إنما تتماسك وتتناصر وتقوى لما يمارسه أفرادها من فضائل، فهنا ترى في إنجلترا التعليم العام يضني الأغنياء بالضرائب الباهظة وبالتبرعات لتعليم الفقراء. بينما في الهند طبقات الفقراء نجسة إذا وقع ظل أحد رجالها على رجل من البراهمة ذهب يتوضأ ويغتسل كأن الأبالسة قد لمسته، وفي إنجلترا يعيش الملك في حدود الدستور ولكن في الولايات المستقلة في الهند يعيش الراجوات والمهارجة وهم يقتنون الجواهر لزينتهم بمال الأمة الذي كان يجب أن ينفق على تعليمها وصحتها ورفاهيتها، وفي إنجلترا لا يقل دخل العامل الإنجليزي عن مائة جنيه في السنة في حين أن دخل العامل الهندي قد لا يزيد على أربعة جنيهات في السنة، وللعامل في إنجلترا بيت صحي جميل تسهر الحكومة على العناية به وتعاقب المالك إذا أساء بناءه، وفي الهند يعيش العامل في خص من القش، فإذا طولب الإنجليزي بالدفاع عن وطنه لبى الطلب لأنه يدافع بذلك عن أشياء ثمينة تمسه مساسا شخصيا، أما إذا طولب الهندي بالدفاع عن الهند نظر المسكين حوله فلا يجد أنه يملك من هذه الهند الكبيرة شيئا قليلا أو كثيرا، ثم هو يجد أن البراهمية يغتسلون منه إذا مسوه أو خاطبوه أو وقع ظله عليهم، وبينما يعرف الإنجليزي أنه إذا مرض ستعنى أمته بمعالجته، يعرف الهندي أنه إذا مرض سيعنى الموت باختطافه، وبينما يعيش كل إنسان في إنجلترا وهو حر في عقيدته يعيش المسلمون والحرب سجال بينهم وبين الهندويين والدماء تسفك بينهم من أجل بقرة تذبح.
فالإنجليز في الهند يدافعون عن باطل، وهو الاعتداء على استقلال الهنود، ولكنهم لم يبلغوا هذه القوة من الدفاع عن الباطل إلا لأنهم مارسوا الفضائل في بلادهم. حتى قام التناصر مقام التخاذل، والعلم مقام الجهل، والحرية مكان الاستعباد، والتسامح مكان التعصب، فهم لذلك أقوياء حتى في باطلهم، ولكن الهنود ضعفاء الآن في حقهم، ولم ينزلوا إلى هذا المقام من الضعف إلا لأنهم مارسوا الرذائل في بلادهم حتى صاروا يتناحرون من أجل بقرة، وصاروا يستنجسون أبناء بلادهم من أجل الآلهة القديمة التي خلقها الإنسان، وصاروا يضنون بالمال لتعليم إخوانهم الفقراء أو معالجتهم أو العناية بمساكنهم.
وليس ضعف في العالم إلا وهو بعيد كل البعد عن الحق، وليس حق في العالم إلا وهو قوي، وقد تلتبس علينا أمارات الحق والباطل ولكن القوة تلازم الحق على الدوام، ومن مصلحة الإنسان أن تفوز القوة، وذلك على الأقل كي يخشى الإنسان الضعف ويتوقاه، فمن مصلحتنا نحن المصريين مثلا أن نعرف أن الهنود عوقبوا على ضعفهم باستيلاء الإنجليز على بلادهم، حتى نتوقى هذا الضعف فلا نذل عمالنا كما أذل الهنود عمالهم، ولا نتقاتل من أجل العقائد، ولا نترك حكامنا يستبدون بنا، ولا نفتر في المجاهدة كي نكون أقوياء بجميع ضروب القوة من مال وجمال وعلم وأخلاق.
والقوة لا تقوم إلا على الفضائل، حتى صحة الجسم تحتاج إلى ممارسة العفة والقناعة والاعتدال، وحتى ضعف الجسم يحتاج إلى ممارسة الرذائل من انغماس أو تهتك أو نهم أو نحو ذلك، فما من ضعف تتهم به أمة إلا ووراءه صنوف من الرذائل قد مورست مدة طويلة حتى أحدثت هذا الضعف، وما من قوة تتصف بها أمة، حتى القوة الجسدية الغشيمة، إلا ووراءها صنوف من الفضائل قد مورست أيضا مدة طويلة، فالحق لذلك يجري على الدوام مع القوة؛ لأن كل قوي لم يبلغ قوته إلا للزومه الحق بلزومه الفضائل التي جعلته قويا.
الفصل الثلاثون
القرية المصرية
ليس في العالم بلاد اشترك فيها الحظ الحسن مع الحظ السيء في تاريخها مثل بلادنا، فبينما نرى تاريخنا مجيدا عظيما في عصر الفراعنة أو الفاطميين نراه قبيحا حقيرا في عصر المماليك والأتراك، فإننا نقرأ الآن تاريخ هؤلاء ونعجب للعلة التي منعت الناس من قتل ولاتهم الظلمة مع أنهم كانوا فئة قليلة سافلة الأخلاق لا تستطيع أن تصبر على جلاد، ولكننا إذا تدبرنا الثقافة السائدة في تلك الأيام عرفنا علة هذا الخنوع للظلم في آبائنا ورددناه إلى أصله، وهو أنهم كانوا بحكم هذه الثقافة متواكلين يقولون بالخضوع لأولي الأمر والطاعة للسلطان، ونحن نحمد الأقدار الآن على ألا نخضع لأولي الأمر إذا خرجوا عن دستور البلاد، وأننا منذ سنة 1919 قد عرفنا أن في الثورة فائدة ترد الظالم إلى عقله وتنزع من الغاصب سلطانه، ولكننا ما زلنا ننظر إلى بعض شئوننا نظر آبائنا مدة المماليك، وخاصة في نظرنا إلى أخينا وأبينا وعمنا وابننا هذا الفلاح.
فقد كان المماليك أجانب عن البلاد، حمر الوجوه، زرق العيون، لهم في معيشتهم وأجسامهم نعومة مزرية، وكانوا ينظرون إلى الفلاح المصري كما ينظر الأبيض إلى الزنجي، يحتقرونه ويسخرونه لأعمالهم ويسرقون أمواله ويهتكون أعراضه من ناحية، ومن الناحية الأخرى يبنون المساجد والأضرحة له ويحبسون الأموال التي اغتصبوها على الأربطة، فكانوا في صلاحهم أشبه بالمجرم يساوم ربه على الحسنات والسيئات، يقيم الأولى حتى يستطيع أن يترخص في الثانية، ونحن وإن كان حكم المماليك والأتراك الفعلي قد زال من البلاد زوالا أبديا فإن حكمهم المعنوي لا يزال قائما في احتقارنا للفلاح والصانع؛ ولذلك فإن القرية المصرية، مع تقدم العمران في بلادنا وارتقاء أحوالنا الاجتماعية لا تزال كما كانت مدة المماليك أكواخا قذرة من الطين المجفف بالشمس، ولا تزال هذه الأكواخ خالية من مبادئ الصحة والنظافة، ليس فيها مراحيض أو مطابخ ويختلط فيها مكان الماشية بمكان الناس، وبينما ينفق بعض الأفراد في بلادنا ألوفا من الجنيهات في العام لا ينفق الفلاح أكثر من عشرة جنيهات هو وعائلته يعيش بها وهو في بؤس وقذر وفاقة لازمة.
وريفنا جميل تنبسط فيه الأرض بساطا أخضر يغذو العين بنضرته طول السنة، ولكن القرية المصرية تبدو فيه كالرمة البالية، كدرة غبراء وبيئة لا تنزح عنها الأمراض حتى إن الأجنبي الداخل لمصر يجزع لرؤيتها ولا يكاد يصدق أننا أمة متمدينة، ولقد زارنا ابن سعيد وهو شاب أندلسي مدة الأيوبيين، وهم الملوك الأكراد الذين حكموا مصر في القرن الثالث عشر، فما راعه شيء بعد جمال الأندلس مقدار ما راعه منظر القرى المصرية، حيث قال: «ولقد تعجبت لما دخلت الديار المصرية من أوضاع قراها التي تكدر العين بسوادها ويضيق الصدر بضيق أوضاعها.»
ولابن سعيد الحق في أن يقول هذا القول عن قرانا، فقد نشأ في أوروبا بين القرى الأندلسية، ومن يعرف القرى الأوربية يجزع من رؤية قرانا ويهوله ما فيها من قذر وكدر، فإن القرية في فرنسا متنزه جميل قد كسيت شوارعها بالبلاط، وفي هولندا تغسل الفلاحة جدران بيتها بالماء والصابون، ولا تدخل الماشية من الباب الذي يدخل منه أهل البيت، ومعظم القرى تضاء الآن بالكهرباء، وإذا بلغ الفلاح سن الستين في إنجلترا نقدته الحكومة معاشا سنويا قدره 30 جنيها.
ونحن في مصر قادرون على كل ذلك، لا يمنعنا منه سوى التقاليد التي ورثناها عن المماليك والأتراك في احتقار الفلاح والفلاحة، وهؤلاء كان لهم العذر القبيح في أن الفلاح كان أجنبيا عنهم لا يتكلم لغتهم ولا هو ناعم البشرة أزرق العين مثلهم، ولكن كيف يقوم لنا نحن عذر وهو من لحمنا ودمنا؟
الفصل الحادي والثلاثون
قصيدة الحياة
أتاح لي الحظ الحسن أن أجالس عظيما إنجليزي المولد وطني العالم، عرضت معه تاريخ حياته فكانت كالقصيدة العصماء تخرج منها من بيت سري إلى آخر أسرى، وتجتاز بالموقف الشريف إلى موقف أشرف وأنصع، وهذا العظيم هو السير «ويلكوكس».
وحياة السير ويلكوكس قصيدة لا تتخللها أدنى ركاكة أو تفاهة عاش إلى الثلاثين في الهند، وكان يشتغل بالهندسة، وبشيء آخر لا يزال يشتغل به إلى الآن وهو يحبو إلى الثمانين، أعني به البر، فالسير ويلكوكس رجل يحترف البر منذ شبابه إلى الآن. كان وهو مهندس في القرى الهندية يعالج المرضى ويغسل لهم جروحهم بيديه ويحادثهم عن المسيحية ويحادثونه عن البرهمية، وهو لا يزال للآن ذلك الرجل البار القديم يعمل في أحد المستشفيات في القاهرة يخفف آلام المرضى وينفق من ماله القليل على أرواحهم وأجسادهم.
وهو مع أنه إنجليزي يؤمن بفائدة الإمبراطورية البريطانية، فإنه وقف موقف الخصم لحكومته التي اتهمته بالقذف والفتنة كي يدافع عن مصلحة مصر في مياه النيل، فهو إنجليزي بمولده ولكنه يدافع عن الحق ولو كان على بلاده.
فهذا بيت مجيد من أبيات هذه القصيدة العصماء، ولكن حياة ويلكوكس كلها جهاد في الحق والبر وكلها تجارب سامية. نشأ في الهند ثم قدم إلى مصر، فوجد الفلاحين يسخرون بلا أجر في حفر النهر، فعمل على إلغاء التسخير ورفع عنا وصمة قديمة وألما فظيعا كان يعانيه آباؤنا. ثم انتدب تقرير الضرائب فسار بها بالعدل بين الملاك، ثم سافر إلى خط الاستواء بين الزنوج في البحث عن مياه النيل، ووضع الترسيمات للخزان، وانتدبته حكومة العراق لدرس أحوال الري فقام أيضا بهذه المهمة، وهو الآن في شيخوخته الهنية يخدم المرضى ويواسي المنكوبين.
فأية حياة في العالم أحفل من هذه الحياة بالجهاد في سبيل الحق والخير وفي خدمة الإنسان، هنديا كان أم مصريا أم إنجليزيا؟ إنها حياة مملوءة بالتجارب السامية. رأى صاحبها خط الاستواء وحره المزهق وناسه الهمج كما رأى ثلوج إنجلترا وحضارتها الراقية، ورأى الهند كما رأى مصر والعراق، وله ضمير كلما عاد إليه أذكره ببره للفلاح الهندي أو المصري فيرتاح للذكرى ويأنس إلى هذه النفس السخية التي ناداها الحق فاستجابت لندائه واصطرع فيها جو العالم وباطل الوطن فآثر العالم على الوطن. إن في حياة معظم الناس، وفي أخلاقهم، من الجبن والأنانية ما يجعلنا نكره الناس، ولكن في حياة ويلكوكس ما يجعلنا نؤمن بالإنسان وننظر للمستقبل بعين الرجاء حين يصير الحق غاية والعالم وطنا وخدمة الإنسان الغرض الأسمى من الجهاد.
وينوء السير ويلكوكس الآن بهمين ثقيلين من همومنا المصرية، الأول أن الفلاح المصري يزرع الأرض ولا ينال أجرا يسيرا على كده وكدحه، والثاني أننا لا نكتب بلغتنا العامية دون العربية القديمة، وهو يقول بوجوب تحديد الإيجارات بنسبة الضرائب، وأيضا بتدوين العامية حتى يتيسر للفلاح أن يقرأ بأقل عناء، وليس شك في أن الرجل ينوي الخير لنا في كلا القولين، وقد عاش في مصر أكثر من 45 سنة، ومارس من شئون الفلاحة والري ما لم يمارسه كثيرون منا، وعرف الفلاح القديم الذي كان يعمل مسخرا والفلاح الحديث الذي خرج في سنة 1919 يقطع السكك الحديدة ويطلب الاستقلال، ولكني أنا لا أبالي بآراء السير ويلكوكس مقدار ما أبالي بحياته، فهذه الحياة يجب أن تكون قدوة لكل منا؛ لأن هذا الرجل قد عاش تلك الحياة الوفيرة، حياة العمل والجهاد للحق والعدل والخدمة للناس، واحتفظ بصحة الشباب في سن الثمانين وتمتع بأرقى ما يتمتع به الإنسان الراقي من التجارب والاختبارات.
الفصل الثاني والثلاثون
كيف نربي أنفسنا
نحن نعيش مرة واحدة في هذه الدنيا فمن واجبنا أن نعيش فيها أحسن عيش مستطاع، نسكن أجمل المنازل، ونقرأ أفضل الكتب، ونأكل أشهى الأطعمة، ونتمتع برؤية الأقطار المختلفة، ونزداد بتقدم العمر حكمة وصحة وتجارب وعلما.
ولكننا لن نستطيع هذه المعيشة ما لم نعمد إلى أنفسنا فنربيها ونعودها العادات التي تساعدنا على الرقي؛ فإن الجسم الإنساني سريع الطاعة للعادة ينقاد إليها ويؤديها عن رضا وارتياح، وأنت عندما تقرأ سيرة أحد العظماء تعجب لوفرة أعماله وتتساءل: كيف توافر له الوقت أو أسعفته صحته، أو كيف أخلص له أصدقاؤه حتى أمكنه أن يؤدي هذه الأعمال كلها؟
ولكن الواقع أن الوقت والصحة والفرص متوافرة لنا جميعا، وإنما تضيع منا لأننا قد اعتدنا عادات سيئة، فهذا الرجل يرجع فشله في الحياة مثلا إلى أنه يضيع كل يوم من وقته نحو الساعتين في الركود على القهوة وهو قاعد كأنه الماء الآسن، لا حركة ولا تفكير ولا همة، تخرج منه أنفاس الدخان في كسل وتراخ كأنه يريد أن يموت، فهذا رجل لا يتمتع ولا ينتفع بالحياة ولا ينفع غيره.
وثم رجل قد اعتاد عادات سيئة في الطعام، يأكل كثيرا فينام كثيرا، ويسمن ويكره الرياضة فلا يقوى على عمل مفيد، فهذا آخر يعيش كالنبات لا يتمتع ولا ينتفع بالحياة.
وثم رجل قد اعتاد مخاصمة الناس، فهو في نزاع دائم مع كل من يعرف، يقضي وقته في قيل وقال وفي مشاغبات في المحاكم، وهو منغص مشغول في غير شاغل مفيد طول حياته.
فهؤلاء وأمثالهم قد اعتادوا عادات سيئة تقصيهم عن التمتع بالحياة بأرقى معاني التمتع، وقد يموت أحدهم في سن الستين أو السبعين وعقله في مستوى عقول الصبيان، لم يتهذب بثقافة ولا بسياحة. لو عددت ما قضاه من الوقت على القهوة في فارغ الشئون لبلغ عدة سنوات من عمره.
فنحن إذن في حاجة إلى أن نربي أنفسنا، ونعتاد منذ الصبا أو الشباب عادات تلزمنا مدى حياتنا فتزيد سعادتنا ومنفعتنا لأنفسنا ولغيرنا، وأهم هذه العادات تلك التي تحفظ لنا صحتنا مدى حياتنا، فإنه لا هناء ولا تمتع بلا صحة، وقد قيل إن من الناس من يحفر قبره بأسنانه لكثرة نهمه، ولكننا نعرف الآن أن الصحة تضيع بأشياء أخرى غير الطعام، منها قلة الرياضة ومنها اعتياد الشراب أو سائر المخدرات.
ثم نحن في حاجة إلى اعتياد الدرس بموالاة القراءة، فإن الميزة الحقيقية التي تميز الإنسان على الحيوان هي أنه حيوان مثقف، وكل محروم من الثقافة هو من الانحطاط بمثابة الحيوان، وإذا نحن عشنا بلا ثقافة لا نقرأ ولا نفكر في تاريخ هذه الدنيا ومصيرها وعلومها وآدابها، فإننا نعيش عيشة حيوانية، فيجب أن نغرس في أنفسنا عادة الدرس ونعيش مدى حياتنا طلبة مجدين في جامعة الدنيا.
ثم يجب أن نعتاد الرفاهية فلا نقنع بالدون من أي شيء، لا في المسكن ولا في الطعام ولا في الشراب، والفنون الجميلة نفسها لا يبعثها في نفوسنا سوى نزعة الرفاهية بل نزعة الترف، فيجب أن نتأنق في الحياة ونعتبر المعيشة فنا جميلا نمارسه بذكاء وذوق، والعبرة على الدوام بالنزعة فما دمنا نتأنق في المسكن والمطعم والملبس فإننا نتأنق فيما نقرأ، فلا نرضى لأنفسنا قراءة كتاب سخيف أو صحيفة خليعة، كما لا نرضى بأن نعمل عملا ناقصا غير متقن لأننا نتأنق في كرامتنا.
وأخيرا يجب أن نعتاد المعاشرة الحسنة مع الناس، وخاصة مع عائلاتنا، حتى لا نعيش منغصين محسودين فيذهب مجهودنا العصبي في غير فائدة وتزيغ أبصارنا عن طرق الخير والمنفعة.
وفي كل منا غرائز حيوانية إذا استسلمنا لها أنهكت قوانا واختصرت أعمارنا وعشنا بها كالبهائم، فلا بد أن نعود أنفسنا عادات الاعتدال فيها حتى تتوافر لنا من أبداننا قوة تقوم بالغايات العليا من الدرس والمنفعة
والتمتع بالمتع الأنيقة السامية التي لا يستطيع الحيوان أن يتمتع بها؛ لأنها من احتكارات الإنسان وبرهان رقيه.
يجب أن نرتب حياتنا بحيث نستغلها إلى أقصى ما فيها ولا يتيسر لنا ذلك حتى نعتاد عوائد حسنة في ادخار الوقت والتوفر بها كلها على الدرس والسياحة وخدمة الناس والعمل لرقي الهيئة الاجتماعية التي نعيش بين ظهرانيها بترقية العلوم والفنون.
الفصل الثالث والثلاثون
الهند العظيمة المسكينة
ارتاع الإنجليز كما ارتاع الأميركيون من كتاب ألفته سيدة أمريكية تدعى الآنسة مايو عن الهند، تناولت فيه أحوال العائلة الهندية وعرضتها بالتفصيل على قرائها كما رأتها بعينيها مدة إقامتها في تلك البلاد.
وكلنا إذا ذكر الهند خطر بباله الاستعمار الإنجليزي وسيئاته واستنكر أفاعيل الإنجليز بالهند وود لو تقوى عصبة الأمم حتى تصير حكومة عالمية حقا وتحكم بطرد الإنجليز من ذلك القطر الذي يكاد يكون قارة.
ولكن كل من يقرأ كتاب هذه الآنسة الأمريكية يعرف أن نكبة الهنود ليست في الإنجليز، بل هي إحدى النكبات الشاملة للأقطار الشرقية، وهي في عقائد الهنود وعاداتهم وعباداتهم للماضي، وفي التنطع بأن للشرق حضارة تفضل حضارة الغرب، وفي التوهم بأن للهندي كرامة يجب أن ترفعه عن محاكاة الغربي.
فهذه الهند العظيمة بحجمها الحقيرة بأبنائها ما زالت ترضى بأن تحكمها أديان وعقائد مضى عليها آلاف السنين، والعالم يتقدم ويتطور مدة هذه الآلاف من السنين والهند واقفة تشرح ما قاله علماؤها منذ ألف أو ألفي سنة تمارس عادات قديمة يهلك بها ملايين الأطفال كل عام، وليس بين الهنود واحد يجرؤ على تسفيه هؤلاء القدماء.
فهذه المؤلفة الأمريكية وجدت أنه يموت من الأمهات في كل جيل 3200000 أم وقت الولادة، وذلك لأن هؤلاء الأمهات المسكينات يحملن وهن في الحادية عشرة من أعمارهن، إذ يتزوجن وهن في السادسة أو السابعة، وتأتي لهن مولدات يعالجنهن بالرقى والطلاسم عوض العلاج الطبي الحديث .
ويموت في الهند كل عام 2000000 طفل لأن أمهاتهم لا يعرفن لصغر سنهن كيف يعنين بهم، وأيضا لأنهن لا يدركن من معنى النظافة سوى تلك الطهارة التي تقول بها أديانهم، والتي تجعل روث البقر أطهر من ماء النهر، وتجعل الأم وقت النفس دنسة لا يقترب منها أحد طاهر.
وتتزوج الفتاة، بل الصبية الهندية. قبلما تبلغ العاشرة من عمرها تؤخذ من ميدان اللعب إلى بيت الحريم، حيث لا ترى سوى زوجها وضرائرها، وقد يكون زوجها فوق الخمسين، وقد ذكرت المؤلفة حوادث يقشعر لها البدن عاينتها بنفسها في مستشفيات المجانين حين وجدت صبايا هن دون العاشرة تزوجن رجالا في أعمار جدودهن، فلما التقى العروسان لم تتحمل الصبية المسكينة فظاعة المنظر، ولا أطاقت ما يطلب منها من الواجبات المنزلية، فجنت، وحملت إلى المستشفى تنتظر الراحة الأبدية بالموت القريب، ولكن زوجها هندي مثقف يعرف السنة والفرض من عقائد آبائه؛ ولذلك رافعها إلى القضاء يطلب ردها إلى بيت الطاعة.
والهنود أبناء هؤلاء الأمهات ينشئون ضعاف العقول خريعي الأجسام، لا يقوون على عمل ولا يصمدون لكفاح، يفتخرون بأنه كان لهم قبل ألفي سنة حضارة عظيمة.
ولكن الحضارة الراهنة لا تبالي بالماضي بل تفكر في المستقبل، وهي تكتسح من أمامها كل من يعارضها ولا يجري على أصولها الصحية والاجتماعية، فمصير الهنود إلى الفناء إذا لم يصلحوا عائلتهم ويحرروا نساءهم ويرفعوهن من ذل هذه العادات القديمة.
والعالم الآن في تطوره السريع لا يتسع للأمة الراكدة المستسلمة، حياة كل أمة الآن تتوقف على مقدار ما عندها من قوة للابتكار وقدرة على التحول للأوساط الجديدة، وهذه الصين، وهذه تركيا، كلتاهما قد عرفت أن الماضي يجب أن يدفن وأن واجب الأمة أن تشق لها طريقا إلى المستقبل.
وهذه الهند، الأمة العظيمة بماضيها المسكينة بحاضرها، لن تدخل في زمرة الأمم المتحضرة حتى تخلع عنها ماضيها وتسن لنفسها شرائع قائمة على العلم والتجربة والفائدة.
الفصل الرابع والثلاثون
مصر مركز الثقافة العربية
تفكر وزارة المعارف الآن في تأليف موسوعة كبيرة للمعارف العامة كما تفكر في إنشاء مجمع علمي يساير الحركة العلمية والأدبية أو يرود الطريق لها ويمهدها بإنشاء الألفاظ التي يحتاج إليها الأديب أو العالم ويضع لها معجما.
ولمصر تقاليد في إنشاء الموسوعات ليس قطر من الأقطار العربية ينافس فيها، ففيها وضع ابن منظور معجمه بل موسوعته الكبرى «لسان العرب» وفيها وضع النويري موسوعته الكبرى الأخرى «نهاية الأرب».
وبديهي أن الموسوعة التي تنوي وزارة المعارف وضعها ستقوم في الأكثر على الترجمة، وستختلف عن طريقة ابن منظور والقلقشندي وغيرهما كما يختلف زماننا عن زمانهم، فقد عنوا هم باللغة والألفاظ عناية كبيرة ولم تكن غايتهم من هذه العناية الدقة بل الزخرفة.
ولكننا نحن في حاجة اليوم إلى الدقة في التعبير أكثر مما نحن في حاجة إلى الزخرفة لأننا نعيش في ثقافة علمية، أو يجب أن نعيش كذلك، فحاجتنا إلى العبارة الواضحة الدقيقة أكبر من حاجتنا إلى الزخارف والبهارج.
وقد كانت ثقافة العرب أدبية ولذلك عنوا بهذه الزخارف، أما الثقافة الحاضرة في أوروبا فتتجه نحو العلم، والحضارة الراهنة تنحو نحو الصناعة؛ ولذلك فنحن في أشد الحاجة إلى أن تكون عبارتنا واضحة دقيقة مختصرة تؤدي المعنى العلمي أداء مقتصدا مختصرا، فإذا كانت المعاجم العربية تذكر مائة اسم للأسد فنحن في معجمنا الحديث يجب أن نقنع بواحد، ولكن يجب في الوقت نفسه أن نزيد على ألفاظ هذا المعجم 5000 اسم خاص بالأجهزة والأدوات الكهربائية مثلا.
وكذلك الحال في الموسوعة يجب أن نعنى فيها بالثقافة الحديثة عناية كبيرة، ويجب أن نجعل غايتنا توجيه القراء إلى ناحية العلم والتفكير في المستقبل دون ناحية الأدب أو التفكير في الماضي.
ونحن الآن في مركز الزعامة للثقافة العربية من مراكش غربا إلى العراق شرقا، ولنا من الأوروبيين مزاحمون في الثقافة، فإذا لم نجعل ثقافتنا وفق العصر الحاضر بحيث يجد فيها القارئ العربي ما يعلمه ويهذبه ويسمو به إلى آراء القرن العشرين فإنه لا بد تاركنا إلى اللغات الأوروبية التي تغذوه بالآراء الحديثة.
ونحن نرى في مصر وسوريا الآن طائفة من الشبان المتعلمين تركونا وتعلقوا باللغات الأوروبية لأنهم لم يجدوا في ثقافتنا ما يغذو نفوسهم ولأنهم وجدوا أن أدباءنا مازالوا يبهرجون لهم في اللفظ ويذكرون لهم أبطال الأدب في بغداد والبصرة قبل ألف عام دون عناية بما يجري حولهم.
ولنا شبان آخرون تعلقوا بالثقافة العربية القديمة التي أصبحت لا تتفق والعصر الحاضر فصاروا ينظرون إلى كل نزعة جديدة بعين المرتاب الذي يخشى منها كفرا جديدا أو تفرنجا سخيفا.
فلهؤلاء ولهؤلاء نحتاج إلى موسوعة جديدة للمعارف ومعجم يكونان دستورا للأديب يجذبان إلينا أولئك الذين هجرونا إلى الآداب الأوروبية، ويفتحان أعين أولئك الذين يتعلقون بالقديم للثقافة الحديثة.
وكلنا يرغب في أن يتوحد العالم العربي في اللغة العربية، ولكننا لا نحب أن نضحي في ذلك بشخصيتنا، ولا نحب أن تكون الرابطة بيننا وبين سائر الأقطار العربية رابطة لغوية فقط، وإنما نرتبط بهذه الأقطار بثقافة حديثة قائمة على العلم والصناعة تربطنا جميعا برباط الحضارة لا برباط البداوة، فسبيل التعارف والتآلف بيننا يجب أن يكون قائما على الآراء الحديثة في الحكومة والزواج والإصلاح الاجتماعي والمخترعات والمكتشفات العلمية، وبعبارة أخرى يجب أن نرتبط برباط المدنية الحديثة والثقافة الحديثة حتى تتحد عواطفنا الاجتماعية وغاياتنا الإصلاحية.
وهذه الغاية نبلغها إذا كانت مصر مركزا للثقافة الحديثة تخرج منها المؤلفات وتجمع للعالم العربي معجما للألفاظ المفيدة في العلوم والآداب يكون دستورا للأدباء، كما أن الموسوعة تكون أساسا جديدا لنهضة جديدة تقوم على الابتكار والاختراع.
الفصل الخامس والثلاثون
هزيمة الأدب السخيف
«نهضتنا نهضة أدبية بينما المدينة الحديثة علمية خالصة، فنحن نعيش في واد والغربيون في واد آخر، لا نأبه إلا للآداب، ونهمل العلوم إهمالا فاضحا فأدى ذلك إلى تقهقرنا وانحطاطنا، فإن كل شيء يقوم الآن على قواعد العلم، حتى الأدب لا يمكنه أن يستقيم إلا إذا كان له أساس من العلم وذلك علة تقهقرنا في الآداب التي قصرنا عليها اهتمامنا، فإن أدباءنا إلى الآن لا يطرقون الموضوعات الاجتماعية العلمية فيدرسون حالة فلاحنا دراسة علمية ويطلبون إصلاح حاله مثلا، بل هم يؤلفون عن عصور الخلفاء وإعجاز القرآن بينما نحن نجهل حقيقة الحركة العرابية مع أن التاريخ أصبح الآن علما بكل ما في كلمة علم من معان، والأدب أصبح علما يقوم على أساس من العلوم الكونية والطبيعية وعلى المشاهدات المحسوسة لا على الأوهام والخرافات.
وها هم الأوروبيون يريدون أن يجعلوا من كل شيء علما، فهذه الفلسفة ما تقدمت حديثا إلا حين انسلخت عن الآداب وأدخلت في دائرة العلم لها ما لغيرها من العلوم من معامل وتجارب ومقارنات وبراهين، وهذا علم النفس صار من زمن بعيد علما له معامل كسائر العلوم وبلغ من التقدم أنه صار أساس الأدب الحديث، فكل الروائيين والشعراء الآن علماء نفس بلا مبالغة، بينما أدبنا ليس له أساس إلا علم الخرافات. صارت الفلسفة علما والأدب علما. كذلك قل في السياسة والصحافة والتاريخ ولا نزال نحن هنا نعيش في القرن الثاني للهجرة نفسر الألفاظ وننشد المرائي والمدائح بينما الأوروبيون يقلبون ظهر الأرض باختراعاتهم واكتشافاتهم فهم يحاربون الأمراض ويعملون على تقريب اليوم الذي يصبح المرء فيه في مأمن منها كلها، وهم يخترعون الغازات السامة بينما دأبنا الكلام الأجوف في كل شيء نطالب به.» •••
ولا تظن أيها القارئ أن ما قرأته هنا هو من قلمي وإن كنت قد اعتدت مني على مثل هذه اللهجة حتى السأم، ولكنها منقولة من كاتب يجب أن تحبه هو «حسن عارف» ويجب أن تشجعه على المضي في هذه النزعة الشريفة التي يراد منها الخير لبلادنا، فنحن منكوبون حقا بالأدب السخيف. أدب الألفاظ واللعب واللهو ودرس السلف، كأننا أمة بدوية تعيش في وسط الصحراء ولا تتصل بالحضارة الحديثة ولا يهمها إلا قصة رويت قبل ألف سنة أو بيت شعر هو نكتة من نكات المغفلين.
وقد أثلجت صدري هذه المقالة التي تدعونا إلى هجران الأدب السخيف والنزوع إلى العلم، وقلبت الجريدة التي بها هذا المقال فرأيت مقالا آخر عن المستر فورد خلاصته أنه ينوي أن يجدد مصانعه بحيث تخرج في اليوم، أجل في اليوم الواحد، 12000 أتومبيل، فكانت هذه المقالة الثانية برهان صدق المقالة الأولى وأكبر دليل على أن النزعة العلمية هي التي تعمل للرقي بينما النزعة الأدبية كما هي في بلادنا لا تعمل إلا للانحطاط.
منذ سنة أو أكثر مات رجل إنجليزي يدعى الأستاذ بري، ألف كتابا غريبا يبحث عن فكرة الرقي والتقدم، كيف نشأت ومتى نشأت؟ فإنك إذا استقريت أحوال الأمم القديمة لا تجد لهذه الفكرة أثرا إذ هي حديثة جدا قد لا يزيد عمرها عن مائتي سنة، والذي يبدو للباحث أن هذه الفكرة الشريفة التي تجعل الإنسان ينزع إلى تحسين نفسه وبلدته ووطنه لم تنشأ إلا من المخترعات العلمية، فإن الإنسان ابن العادة، فإذا هو رأى التبديل والتحسين في الآلات نزع به ذلك إلى التفكير في التبديل والتحسين في المؤسسات العمرانية، فالعلم هو أساس فكرة التقدم والإصلاح، أما الأدب فما كان له هذا الفضل قط، ولهذا السبب أصبح أدباء أوروبا علما، بل منهم من لا تعرف هل تسميه بالعلم أو الأدب، مثل مايترلنك مثلا، فإنه يؤلف كتابا عن «الأرضة» وكيف تعيش وبعد ذلك يؤلف درامة عن المسيح.
الفصل السادس والثلاثون
تربية الكبار
ليس الصبيان وحدهم ولا الشبان وحدهم هم الذين يحتاجون إلى تربية، والفرق بين الاثنين أن الصبي أو الشاب يحتاج إلى معلم يعلمه ويرشده أما الكبير فيجب أن يربي نفسه، وأذكر بهذه المناسبة رجلا قد ربى نفسه ونجح في تربيتها، أعني به المستر ولز الإنجليزي، فقد كتب يصف أحد أبطاله وأظنه كان يصف فيه نفسه بقوله: «كان في عقله من التفزز ما يكسبه حرارة ودقة، وكانت له مع ذلك ابتكارات ونزعة سخيفة، وكان يحب الكلام والكتابة، وكان يتكلم عن كل شيء وكان يفكر في كل شيء، ولم يكن في وسعه أن يمتنع عن تشمم أثرك وهو يتبعك، فكان هو يتشمم أثر الحقائق، وكثيرون من الناس يعتقدون أنه مفيد منير، وقليل منهم لا يطيقونه وكان حافلا بالأفكار عن السلالات البشرية والإمبراطوريات والنظام الاجتماعي، والمؤسسات السياسية، والحدائق والأتومبيلات ومستقبل الهند والصين، وفلسفة الجمال وأميركا وتربية النوع البشري على وجه العموم.»
وولز رجل فوق الستين ولكنه دائب الدرس والتفكير والتأليف، وقد تطور في الثلاثين سنة الماضية، وأعتقد أنه سيتطور في المستقبل، وتطوره هذا يدل على أنه يربي نفسه وهو كبير بل وهو شيخ، وإذا نحن تتبعنا بعض مؤلفاته منذ شبابه إلى شيخوخته علمنا مقدار تطوره ومقدار عنايته بنفسه في تربية نفسه.
فقد بدأ حياته بكتاب عن تشريح الأرنب وبعض الحيوانات؛ لأنه هو نفسه تربى تربية علمية، ثم عمد إلى الأدب فكتب بعض القصص والمقالات ومنها مقالة هزأ فيها بالاشتراكية والقائلين بها، ثم بعد ذلك بسنوات عاد فألف أحسن كتاب في الاشتراكية يدعو إليها ويوضح أنظمتها، ويقول بضرورتها مع أنه هو إنجليزي، ووضع تاريخا ضخما للعالم باعتباره أمة واحدة.
ولاح أمامه درس جديد وهو النفسلوجية الحديثة التي ابتدعها فرود فدرسها، وألف قصة بل قصصا عنها، حتى آخر النظريات التاريخية الحديثة القائلة بأن مصر هي أصل حضارة العالم أخذ يدرسها، وينصح لقراء قصصه بقراءة مؤلفات إليوت سمث مبتدع هذه النظرية.
فهذا كاتب يتطور مع الزمن ويدرس كل شيء من الأتومبيلات إلى مستقبل الصين، ومن تنظيم الحدائق إلى فلسفة الجمال ولا يبالي بأن يغير رأيه ودرسه متى لمح قبسا من الحقيقة.
فهذا كاتب يتطور مع الزمن ويدرس كل شيء من الأتومبيلات إلى مستقبل الصين، ومن تنظيم الحدائق إلى فلسفة الجمال ولا يبالي بأن يغير رأيه ودرسه متى لمح قبسا من الحقيقة.
وما أحرانا نحن بأن نتعهد أنفسنا بمثل هذه التربية فنعيش مدى حياتنا طلبة في جامعة العالم ندرس ونتفقه في حقائقه، ونتطور في الآراء والمذاهب وننظر في هذه الحضارة التي نعيش بين ظهرانيها، فندرس حقائقها وأحلامها وأديانها وآلاتها ومؤسساتها.
والدرس نوع من التوسع؛ ولذلك فإن طالب المعرفة كطالب المال لا يشبع لأن كلا منهما يشعر بنوع من السيادة في هذا التوسع يشبه الملوكية؛ إذ له شيء من كبريائها وكرامتها، ولكن قلما تجد رجلا يعمد إلى الدرس والتثقف ما لم يكن قد نزع هذه النزعة وهو شاب؛ ولذلك فإن تربية الرجل كبيرا تحتاج إلى تربيته صغيرا بحيث ينزع نزعة الدرس .
فيجب أن نقصد من تربية الصبي إلى غرضين:
أولهما:
أن نغذوه بالمعارف العامة.
والثاني:
أن نغرس فيه هذه النزعة إلى التوسع الذهني بحيث يكون هو المعلم لنفسه في المستقبل حتى يدأب في تربية نفسه وهو كبير.
وإنه لمن المآسي العظمى أن يرى الإنسان شابا أو شيخا وهو قاعد «يقتل» الوقت لأنه لا يعرف كيف يشغل ذهنه بما يفيده ويرفعه من اكتساب المعارف والتفكير في حقائق هذه الدنيا التي هي وطننا الأكبر، والتي يجب على كل منا أن يدرسها ويبحث في تنظيمها وتخليصها من الأغلال القديمة.
الفصل السابع والثلاثون
تحديد النسل
إذا كان أهم أسباب الحروب هو فيض السكان على الأوطان، فإن أنجع علاج للحرب وخير ما يدرأها عن الناس هو تحديد النسل بحيث لا يزيد السكان على الوطن الذي يعيشون فيه، فيمتنع الازدحام الذي يدعو إلى المهاجرة أو إلى الاستعمار، وبذلك تقل المنافسة بين الأمم وتنتفي الحروب، والأمم الآن ليست عظيمة بعدد سكانها بل بمقدار ما فيها من صحة ونظافة، وحضارة وثقافة فهذه الهند مثلا يزيد سكانها عن 220 مليون نفس، ومع ذلك فإن أسوج التي لا تبلغ ستة ملايين نفس أعظم منها، وأقدر على التمتع بالحياة منها، ولو نازلتها في حرب لغلبتها، ولو تبارى الاثنتان في علم أو أدب أو جمال أو فن أو حضارة لبزت أسوج الهند وأربت عليها.
فكثرة السكان الآن لا قيمة لها ألبتة، وإنما العبرة بما عند الأمة من وسائل لتعليم هؤلاء السكان، وما عند هؤلاء من أخلاق وعلم وصحة، وأكثر الأمم حضارة هن أقلهن نسلا، فأوروبا أقل نسلا من آسيا أو إفريقيا، ولكنها تفوق الاثنتين في القوة والذكاء والجمال، وكل ما له قيمة إنسانية، وكل أمة كائنة ما كانت تنقسم طبقات أرقاهن أقلهن نسلا أيضا، ففي أوروبا نفسها يتكاثر العمال ويزداد نسلهم بينما الطبقة السائدة الحاكمة التي تقبض بأيديها على المال والحكومة لا تكون أبدا إلا قليلة النسل.
وقد كان المرجفون الذين يحبون من الأخبار ما يرجف ويرعب ينعون على أوروبا قلة مواليدها ويذكرون آسيا ، وإن أهلها يتكاثرون بحيث قد يطغى سيلهم على أوروبا فيغرقها ويبيد حضارتها، وكان الإمبراطور غليوم يؤمن بهذه السخافة حتى إنه رسم صورة رمزية تمثل هذا الخاطر المزعج، فتناقلتها الصحف وتذاكرت الآراء فيها.
ولكن اتضح بعد تمحيص الآراء في هذا الموضوع، ومشاهدة الآثار التي تخلفها الحضارة الأوروبية في آسيا أنه كلما ارتقى الأسيوي، وتحضر وتثقف رأى من هذا الارتقاء نفسه داعيا يدعوه إلى تحديد نسله؛ ولذلك عاد الأوروبيون فاطمأنوا وعرفوا أنه ما دامت آسيا في همجيتها وتقييدها بقيود الأسلاف؛ فإنه لا خطر على أوروبا من كثرة نسلها لأن من الجهة الواحدة معظم هذا النسل يموت لقلة العناية الصحية به، ومن الجهة الثانية تحتاج الحروب الحديثة إلى صناعة لم يتثقف الأسيوي بعلمها، ثم هي أيضا إذا تحضرت وعرفت الصناعة فإنها تعتاد عادة تحديد النسل، فلا يخشى عندئذ من تكاثرها؛ لأن تحديد النسل نتيجة للرقي والحضارة إذا هو في الواقع ضرب من التبصر والعناية بالأولاد، وقد شرعت عائلات كثيرة في مصر تحدد نسلها وتمنع تزايد الأولاد حتى يستطيع الأبوان تعليمهم وتهيئتهم بقليل من المال للدخول في معترك الحياة، ونحن يجب ألا تخيفنا هذه النزعة؛ إذ خير لنا أن نكون أمة صغيرة راقية مثل أسوج من أن نكون أمة كبيرة متأخرة مثل الهند أو الصين، وجسم الإنسان بعد كل ما يقال هو ملكه، وهو أعرف الناس بمصلحة أولاده وأسدهم رأيا في تقدير حاجاتهم، فإذا وجد أن أمواله لا تكفي لتعليم عدد كبير من الأولاد وتربيتهم التربية الصحيحة، وتنشئتهم النشأة اللائقة بهم وجب عليه أن يقتصر على عدد صغير؛ لأنه كما أن كلا منا يجب عليه أن يتبصر لمستقبله كذلك يجب أن يتبصر لمستقبل أولاده، ثم يجب ألا ننسى أن الهناء العائلي لا يتم إلا إذا كان الأبوان في راحة بال، وراحة جسم من جهة أولادهما، وقليل من الأمهات من يستطعن أن يلدن ويربين عددا كبيرا من الأولاد، فالولادة نفسها مجهود كثيرا ما يقضي على حياة الوالدة، وتربية الطفل مجهود آخر يضني الأعصاب ويهد القوى ؛ ولذلك فالاعتدال في النسل ضروري للأم للمحافظة على صحتها، وضرورة للأديب لكي يستطيع أن ينفق على تربية أولاده.
الفصل الثامن والثلاثون
الإيمان يرقي الإنسان
لما أوشكت الثورة الفرنسية أن تقع، وانشق الناس فريقين فريق كبير هو الأمة كلها تقريبا، وفريق صغير هو الملك والنبلاء، كان بين هؤلاء النبلاء رجل يدعى المركيز دو كوندورسيه، وكان مع أنه نبيل نشأ في بيت له تلميذ في النسب والحسب قد انضم إلى الشعب، فأخذ يعاون رجال الموسوعة في نشر الأفكار الحرة، ويعمل على تقويض الطبقة التي ينتسب إليها، وصار ينفق ماله وجاهه وعلمه لكي ينبه الشعب إلى الثورة.
وجاءت الثورة فاختلط فيها الجنون بالعقل، وقام الناس على النبلاء يقتلونهم وينهبون أموالهم وكان المركيز دوكوندورسيه من هؤلاء النبلاء له شارتهم وعليه سماؤهم، فكان على الرغم من حبه للشعب وسعيه لإنقاذه من الجهل والظلم معدودا بينهم فقتله الثائرون ونهبوا أمواله.
والآن قد تظن أيها القارئ أن هذا الرجل قد مات يائسا من تقدم الشعب ورقيه إذ أعطاه صحته وذكاءه وماله، ولم يأخذ عوض ذلك شيئا ثم قتل على يديه، ولكن الواقع أنه عاش ومات مرتاح البال يؤنسه رجاء عظيم، هو رجاء التقدم المطرد للنوع البشري، فقد كتب قبل وفاته يقول: «لم تضع الطبيعة حدودا لآمالنا وحسبنا أن نتخيل تقدم النوع البشري، بعد انطلاقه من السلاسل، وهو يسير بقدم ثابتة عن طريق الحق والفضيلة والسعادة فنجد من هذا المنظر ما يعزي الفيلسوف إلى الأخطار والجرائم والمظالم التي لا تزال تدنس وجه الأرض وتنزل بها المصاعب.»
بمثل هذه العقيدة مات المركيز كما يموت الشهيد من أجل عقيدته الدينية بفرق واحد بينهما، وهو أن الأول يريد الجنة في هذا العالم ويعمل لتحقيقها، والثاني ينتظرها في عالم آخر بعد الوفاة، وليس شيء يخفف عنا آلامنا، ويزكي في أعيننا تلك الكوارث العديدة الحافل بها تاريخ الأمم سوى هذا الإيمان بأن العالم يتخلص بالتدريج من الأوهام والمظالم، فيخرج من الإيمان بالأساطير إلى الإيمان بالعلم، ومن الاستبداد إلى الدستور، ومن المرض إلى الصحة ومن الضعف إلى القوة.
ثم مثال هذا النبيل الفرنسي يخفف عنا أيضا ما نجده في أيامنا من قوى تعمل للشر وتناهض ما فينا من خير وبر، فإن صيحة الإصلاح التي تصيح بها على ما فيها الآن من ضعف ووهن ستفوز في النهاية؛ لأن الرقي طبيعة البشر التي لا محيد عنها، وليس البرهان على ذلك بعيدا عن الإثبات أو مستعصيا على الأفهام، فإن نظرية التطور نفسها هي نظرية الرقي؛ ولذلك أطلق عليها اسم «نظرية النشوء والارتقاء» عند ما نقلت إلى لغتنا، فإذا كان تاريخ ألف مليون من السنين يدل على الرقي في الماضي فمن التعسف أن نحسب أنه انتهى وانقطع بوجودنا، فإن عناصر هذا الرقي كامنة في كل منا، حتى المنتحر نفسه إنما ينتحر لأن نفسه تنزع إلى الرقي، والمجنون نفسه يجن بأشياء تحمله على أجنحة الرقي والعظمة فيتصور نفسه ملكا أو أميرا أو عظيما.
فالرقي كامن في نفوسنا ينطق به تاريخنا الماضي، وهذا هو ما يؤنس قلوبنا ويجعلنا نرضى بالتضحيات كلما سمعنا عن الاستبداد يبطش بالدستور، أو الظلم يجور على الحق، أو البغض ينتصر على الحب، أو الأثرة تفوز على الإيثار، وسنرى هذا الوطن كما نرى غيره من أوطان العالم حرا تعيش فيه الأمهات حرائر متعلمات ويعيش فيه الرجال علماء أيقاظا يدرسون هذا العالم ويتمتعون به ويقصرون همومهم على إسعاده، ولولا هذا الإيمان بأن العالم يرتقي لما كان لحياتنا معنى أو مبرر للبقاء، وفي هذا الإيمان قوة تؤاتينا على الخير والبر. ثم في ذلك كله شعور بالسعادة لأننا نؤدي عملا يرتاح إليه ضميرنا ويتفق وما في صميم نفوسنا من نزعات، وهذا بخلاف ما إذا عملنا للشر وناهضنا التقدم، فإننا نشعر بأننا نكافح في نفوسنا نوازع الرقي؛ فيأخذ اليأس مكان الرجاء، ونقيم حياتنا على مضض وعنت.
فكلنا يجب أن يكون هذا المركيز دوكو ندرسيه يعمل لرقي الشعب ويؤمن بهذا الرقي، فإنه حقيقة لا شك فيها، وأول ما نرى برهانه في أنفسنا؛ إذ لا يمكننا أن نفكر في ترقية الناس ما لم نرق نحن أولا، ولا عبرة بعد ذلك بالعوائق فإن النهر العظيم لينحرف بعض الانحراف في مجراه ولكنه بالغ مصبه.
الفصل التاسع والثلاثون
في الحب
من القصص العظيمة التي مثلها المستر اتكنز في القاهرة قصة «تاجر البندقية» وفيها يخاطب اليهودي المسيحيين الذي يتعصبون عليه ليهوديته فيقول موضحا لهم أن اليهودي لا يختلف عن المسيحي: «أليس لليهودي عينان؟ أليس لليهودي يدان وأعضاء وحواس وعواطف وشهوات؟ أليس يطعم بالطعام ويجرح بالسلاح نفسه وتنزل به الأمراض نفسها ويشفى بالوسائل، ويدفأ ويبرد في الصيف والشتاء كالمسيحي؟ أليس يخرج منا الدم إذا وخزنا؟ وألسنا نضحك إذا جمشنا ونموت إذا سممنا؟»
وما أحرانا بأن نذكر كلمة هذا اليهودي حين يطمو بنا التعصب القومي أو الديني؛ فنحن كلنا إخوان في هذه الدنيا، وخير لنا أن نتحاب من أن نتكاره؛ لأننا بالحب نستطيع أن نتعاون، وبالحب نستطيع أن نعمل ما لا نعمله بالبغض والكراهية.
ويقص الإنجليز قصة يستخرجون منها عبرة الحب، وهي أن أحدهم خرج في يوم قد كثف ضبابه، والأشباح تتجسم في الضباب حتى يهول منظرها على بعد، فرأى وهو سائر في طريقه شبحا كبيرا مخيفا فارتاع منه، فلما اقترب منه قليلا تبين له أنه رجل، فلما واجهه عرف أنه أخوه، وهكذا نحن في هذه الدنيا، نحسب الناس غرباء عنا فنخشاهم ونتوجس منهم، ولكن الواقع أننا نحن وهم إخوان بل أخوة قد اتصلت دماؤنا بدمائهم، فإذا حسب المصري مثلا وأحصى مقدار ما دخله من دماء الأمم الأجنبية في نحو أربعين قرنا مضت لوجد أنه خليط من الدم الروماني والعربي والإنجليزي والفرنسي والسوري والصيني والتركي.
فنحن لسنا أبناء مصر فقط بل أبناء هذه الدنيا، وإذا كانت مصر وطننا الأصغر فالعالم وطننا الأكبر، ويجب لذلك أن يكون الحب والتعاون وسيلة التعارف والمعاملة بيننا وبين الناس، سواء أكانوا مصريين أم غير مصريين، وبهذه المناسبة نذكر كلمة للمشترع الإنجليزي المعروف بنتام حيث يقول: «إن سبيل الراحة لنا هو أن نعمل لراحة الآخرين، وسبيل الراحة للآخرين إنما يكون بأن نبدو لهم كأننا نحبهم ، وإنما نبدو لهم كأننا نحبهم إذا أحببناهم بالفعل.»
وهذا كلام صريح وحقيقة تتضح لكل من اختبر الناس، فإننا لا يمكننا أن نرتاح إلى الدنيا والناس ما لم تكن علاقتنا بهم علاقة الحب، وراحتنا لا تقوم إلا براحتهم.
ولكن الوحش القديم لا يزال للأسف حيا في الإنسان، فما زلنا نفكر في التنازع بدلا من أن نفكر في التعاون، ولا يزال التنازع للآن خطة التعامل الرسمية بين الدول، وأفظع ضروب هذا التنازع هو الحرب، ولكن العالم كله يسير من التباغض إلى التحاب ومن التنازع إلى التعاون وينهزم الوحش في الإنسان رويدا رويدا، ففي العالم الآن محاكم تحاكم أمامها الدول، وفي كل أمة متمدينة جمعيات تتعاون على البر وتنشر العلم والصحة وترفع الكرامة الإنسانية.
ولا عبرة بعد ذلك بأن تبقى في عصرنا أشياء من متخلفات الماضي، كالاستعمار والسجون والرق الاقتصادي، فإن كل هذا سيزول لأن الحب سيتغلب على البغض وسنرى، أو يرى أولادنا يوما ما، حل الإمبراطورية البريطانية واستحالة السجون إلى مدارس ومستشفيات وارتقاء العامل إلى حيث يملك كل ثمرات عمله بدون أن يكون فوقه واحد يعيش من كده ولا يعمل شيئا لفائدة الناس.
ولكن الحب للأفراد فيما بينهم ليس في ذاته صدقة يتصدق بها الواحد على الآخر، بل خطة تعود بالراحة والسعادة على من يمارسه، فهو لذلك يستحق الثمن الذي ندفعه بما نكلف أنفسنا من معاونة الناس وإبداء الحب لهم بخدمتهم الخدمة النزيهة التي تدل على أن ما نظهره لهم هو طبق ما نبطنه.
الفصل الأربعون
الحكم بالإعدام
كتب بعضهم وصفا للطرق الشائعة في إعدام المجرمين على المشنقة فأجاد الوصف وأوجع القراء وأوسعهم ألما وخجلا.
ولا أظن أني أنفرد في الشعور بالألم والخجل كلما قرأت هذا الوصف، فإني لا أعتقد أني أرق إحساسا من القراء، فالحكم بالإعدام، وتنفيذ الإعدام، عملان لا يمكن أن يؤديهما إنسان إلا وهو مضطر. بل لقد حدث من مدة قريبة أن الجلاد في باريس قد أقيل من منصبه فرغب في الظهور على المسرح فطرده الجمهور ولم ينفعه اعتذاره بأن الحكومة لم تعين له معاشا بعد إقالته، وذلك لأننا في أعماق نفوسنا نكره كل من يلطخ يده بالدم.
ومع أن العادة تيسر كل شيء وتسهل الصعب فإننا ما زلنا نتألم، على الرغم من تعودنا قراءة أخبار الإعدام، كلما ذكرت الصحف إعداما جديدا لأحد الأشقياء، ونحن جديرون بالفخر لهذا الألم لأنه يدل على أننا قد ارتقينا حتى صار يأبى ضميرنا أن يقنع بحجة العدالة في هذا الانتقام الصريح.
فليس شك في أن الإعدام انتقام، وأنه برهان على العجز في معالجة القاتل، فنحن بالطبع لا نقصد إلى ترقية القاتل بإعدامه، وإنما نقصد إلى المقاصة التي نقول إننا تركناها للأسلاف القدماء، وبقاء الإعدام إلى زماننا هذا وصمة لكل إنسان، وخاصة إذا علمنا أنه ألغى في عدة أمم فلم تزد جرائم القتل بإلغائه.
وإذا كان كل إنسان منا يتألم كلما سمع بخبر الإعدام، وإذا كان جميع من يزاولون تنفيذ الحكم أو يحضرونه يشعرون بالخجل ويخرجون وأعصابهم ممزقة من منظر يغم على أذهانهم ويملأ نفوسهم بالكرب، كأنهم هم المسئولون عن هذه الجناية، فلم لا نلغي هذه العقوبة؟
إننا نعيش الآن عصرا تدعونا مظاهره كلها إلى الشك في مبادئه وأغراضه وأخلاقه ونزعاته، فهل يجوز لنا الشك في كل شيء مع الجزم بفائدة الإعدام وحده؟ مع أن الإعدام حاسم لا يمكن الرجوع فيه أو التعويض منه، والإنسان عرضة للخطأ في كل أحكامه، وليس شيء في العالم نحن متأكدون من صحته، فيجب لذلك أن جعل لأحكامنا مجالا للمراجعة والتحرير، ولو رجعنا إلى أحكام الإعدام الماضية التي ذكرها التاريخ في الاضطهادات الدينية والسياسية العديدة لكانت حوادث الإعدام أكبر وصمة في هذه الاضطهادات.
إن كل من يدري شيئا من أسرار النفس البشرية يعرف أن الوحش القديم لا يزال حيا في كل منا، وأنه عندما يطمو بأحد في نزوات الشر فإنه لا قبل له في رده، ومهمة الحضارة استئناس هذا الوحش وتذليله ولكنه يجمح أحيانا ويخرج على العقل وعندئذ نرى القتل.
ولكن تذليل هذا الوحش الكامن بحكم الوراثة في نفوسنا يحتاج إلى عناية بالوسط، فإذا كان سيئا فإن الأرجح أن الغرائز الشريرة الموروثة تتغلب وتنطلق، ومن هنا قال رسكين، الأديب الإنجليزي المعروف، إن العقاب اللائق لأية جناية تقع ألا يؤخذ الجاني نفسه بل يقترع على سكان المدينة التي يقيم فيها ويؤخذ من يصيبه القرعة فيعاقب، وهو يعني بذلك أن الجناية تنبت من الوسط الذي يعيش فيه الجاني، فكل من في هذا الوسط مسئول عنها؛ ولذلك إذا أردنا العقاب فلنقترع عليه ما دمنا كلنا مسئولين.
وخير من معاقبة القاتل بجناية قتل أخرى أن نرقي هذا الوسط، فننشر التعليم والحرية ونقلل التفاوت في الثروة، ومع كل ما نقوم به من ترقية وتفريج للعواطف المحبوسة فإن الوحش القديم سيطمو بنا أحيانا وينزو نزواته، فنرتكب جريمة القتل في أنفسنا وفي غيرنا، ونحن نشفق على المنتحر، ونعرف أن أزمة الأعصاب التي وقع فيها انتهت بالقضاء على نفسه، ولكننا لا نشفق على القاتل، مع أن أعصابه قد تكون أحيانا في أزمة أشد من تلك التي تصيب المنتحر.
وفي السجن المؤبد بدل للقتل
الفصل الحادي والأربعون
التغلب على المصاعب
أذكرني حادث تعيين الدكتور طه حسين عميدا لكلية الآداب ثم استقالته منها، بحادث آخر في إنجلترا يصح أن يكون موضوع هذا المقال حتى يرى القارئ كيف يتغلب القلب الكبير والهمة الشماء والنفس العالية على المصاعب والعقبات.
فكما أن العمى لم يمنع الدكتور طه حسين من التفوق حتى يبلغ عمدة كلية الآداب فكذلك هو لا يمنع الآن الكابتن أيان فريزر من أن يكون نائبا في البرلمان الإنجليزي، ولكن أعظم مثال للهمة، تستهين بالعقبات وتتخطاها، هو بلا شك مثال هنري فوصت، فقد صار هذا العظيم مديرا للبريد في بريطانيا العظمى مع أنه كان أعمى.
ولد هذا الرجل سنة 1823 فلما شب التحق بجامعة كمبردج، وكان جميل الوجه مديد القامة ذكي الفؤاد، وكان مغرما بالخيل، فركب جواده في أحد الأيام وخرج في جماعة، ولكن جواده عثر به فسقط هنري فوصت واصطدم رأسه بالأرض صدمة عنيفة نهض منها وهو أعمى لم يبرأ طول حياته من العمى.
ولو أن أحدا غيره نزلت به هذه النازلة لاستسلم لحكم القدر وانزوى عن الحياة العمومية وعاش وادعا في بيته، ولكن فوصت لم يكن ليقر بالهزيمة في الحياة، ولن ينهزم إنسان ما دام لا يقر بالهزيمة.
وهكذا عمد فوصت إلى درس «الاقتصاديات» حتى برع فيها وعينته جامعة كمبردج أستاذا فيها لهذا العلم، وفي أحد الأيام في سنة 1864 كان في بريتون يتنزه فسمع عن خطبة سيلقيها المرشح للبرلمان عن حزب الأحرار، فقصد إلى قاعة الاجتماع ليسمعها، فلما انتهى الخطيب من إلقاء خطبته وقف فوصت وألقى خطبة على سبيل التعليق والانتقاد للخطيب السابق، فاستهوى أفئدة الجمهور حتى اتفق رأي الأحرار على تعيينه هو مرشح البرلمان بدلا من الخطيب.
ولما صار عضوا في البرلمان أخذ يدرس المسائل السياسية ويدأب في فهم تفاصيلها، حتى بلغ من معرفته بشئون الهند أن أطلق عليه اسم «نائب الهند»، وكان أكبر الأعضاء همة في ترويج الإصلاح والدعوة إلى تحسين الأحوال المعيشية، وعرف له الأحرار إخلاصه وذكاءه وهمته فعينته وزارة غلادستون سنة 1880 مديرا للبريد العام، وهذا منصب من مناصب الوزارة، وأدى فوصت واجبات هذا المنصب الإدارية أحسن أداء، كما نظن أن الدكتور طه حسين كان يؤدي مثل هذه الواجبات بكلية الآداب لو لم يستقل، والعبرة لك أيها القارئ الآن هي الخلق العظيم الذي يستهين بالكوارث مهما حل خطبها، ويتخطى العقبات مهما تراءت عظيمة مخيفة، فهذا العمى الذي يحسبه كل منا أكبر كارثة تنزل بإنسان لم يمنع المستر فوصت من أن يصير وزيرا للبريد في إنجلترا، وليس شيء أدعى إلى تعجيز المرء ومنعه من أن يرقى بنفسه وينافس إخوانه من هذه الآفة.
فاعتبر ذلك أيها القارئ، واعلم أن الفقر والمرض هما دون العمل في الانتصار على المصاعب والظفر بثمار النجاح، ولكن يجب أن يكون لك قلب جريء وهمة شماء ودأب في العمل وإقامة على بلوغ الغاية، فأنت نفس وجسم معا، ولكن نفسك أكبر من جسمك كما أن بصيرتك خير من بصرك، وما دامت نفسك سليمة لم يدخلها الجزع أو الهزيمة، فإن الفقر والمرض والعقبات المختلفة ليست كلها شيئا أمام الهمة الحافزة التي تستثيرها النفس العالية.
فإذا كان الدكتور طه حسين ينال عمدة كلية الآداب، وإذا كان الكابتن أيان فريرر ينال عضوية البرلمان البريطاني، بل إذا كان المستر فوصت يرقى إلى درجة الوزارة، وينال ثلاثتهم هذه المراكز العالية مع آفة العمى التي لا علاج لها، فماذا أنت فاعل بنفسك وأنت موفور الصحة كامل البصر؟
الحق أن في الأمثلة ما يحفز الهمم الخامدة، ويدعو إلى الثقة بالنفس والإيمان بأن الارتقاء ميسور لكل إنسان حتى مع النقص البادي، بل يكون هذا النقص نفسه حافزا للنفس العالية على الاجتهاد والتفوق، كما هو باعث للنفس الدنيئة على الاستكانة والاعتكاف والفرار من ميدان العمل.
فاجعل من نقائصك حافزا لك يعزيك بالاستكمال في النواحي الأخرى من النشاط ويبعثك على أن تزداد علما وجاها وثروة وخدمة لبلادك، والناس عندئذ يكرمون فيك هذه الهمة التي رفعتك على الرغم من النقص
الفصل الثاني والأربعون
التسامح الديني
كلما احتدت المناقشة بين خصمين على صفحات الجرائد، وشعر أحدهما أنه مغلوب مفحم، عمد إلى الآخر فاتهمه بأشياء تعدو حدود المناقشة قد تكون تهمة الكفر إحداها.
ولو أن أحدا اتهم آخر في أوروبا بمثل هذه التهمة لعد هذا منه نهاية الوقاحة؛ لأن العقيدة الدينية تدخل في لباب الضمائر، وليس من الحياء أن نفتش ضمائر الناس لنعرف عقائدهم ونقف على أسرار علاقاتهم مع ربهم، بل ليس من الحياء أن يسأل أحد الناس الآخر عن عقيدته.
ولكننا نحن في مصر ما زلنا بعيدين عن هذا الطور حين نحترم لكل إنسان عقيدته ونكف عن التنقير والتفتيش في قلوب الناس، ولكن يحق لنا أن نسأل أولئك الذين يقذفون خصومهم بكلمات الكفر والزندقة لعلة ولغير علة: هل يمكن أن يكون الإنسان كافرا؟
إن تاريخ «الكفار» الذين اضطهدوا في أوروبا وفي الشرق يثبت أنهم كانوا أكثر إيمانا ممن اضطهدوهم، فقد اضطهد الرومانيون المسيحيين وقتلوهم تقتيلا فظيعا، ونحن الآن نعرف أي الفريقين كان أكثر إيمانا، واضطهدت جاهلية قريش المسلمين ، ثم عاد المسلمون والمسيحيون فاضطهدوا المتصوفين منهم، ونحن نعرف فوق ذلك أن الملك الكافر في تاريخ الفراعنة هو إخناتون، وهو الوحيد الذي آمن بالله ورفض عبادة الأوثان المصرية.
فمعنى الكفر ليس في الحقيقة عدم الإيمان، بل المخالفة في العقيدة فقط.
تعيش في زماننا هذا امرأة هي مصداق ما نقول، نعني بها المسز بيزانت الإنجليزية، فإنها كافرة من حيث مخالفتها للعقائد الدينية الشائعة، ولكنها أكثر إيمانا من أي إنسان على ظهر هذه الكرة، وفي تاريخ حياتها عبرة لأولئك الذين لا يبالون بالتنقير عن سرائر النفوس وقذف الضمائر.
فهذه المرأة نشأت مؤمنة بالمسيحية وتزوجت قسا من قسوس الإنجليز، ولعل هذا الزواج لم يكن حبا لشخصه فقط بل كان أيضا حبا لهذا الإيمان الذي أرصد حياته لخدمته، وعاشت عدة سنين وهي عابدة تصلي لا تهمل فريضة أو نفلا، ثم دب الشك في قلبها وتزعزع إيمانها، وكانت من شرف النفس وعلو الهمة بحيث لا يمكنها أن توارب أو تداري أو تقعد عن الكفاح في سبيل ما تؤمن به، فتركت زوجها وخرجت تدعو إلى الإلحاد بما لها من قوة ومال وعلم، واتصلت بزعيم الإلحاد في ذلك الوقت، المستر برادلف، فعمل الاثنان معا في نشر الإلحاد في إنجلترا، وكانت لهما مجلة تخرج على الناس كل أسبوع بما يؤذي عواطفهم الدينية، ولكن العلم القليل الذي يدعو إلى الإلحاد لم يطل عليه الوقت حتى تغلب عليه العلم الكثير يدعو إلى الإيمان، فرأت أنه كلما ازدادت توسعا في الثقافة الدينية ازدادت إيمانا وزكا قلبها بالحب للناس واتحدت أنغامها مع أنغام هذا الكون من إنسان وحيوان وجماد حتى صارت تؤمن بوحدة الوجود، وحتى أصبحت زعيمة لهذه الصوفية الجديدة التي تدرس الإسلام والمسيحية والبوذية وسائر أديان العالم وتنشد منها الصلاح والخير والبر.
فهذه المسز بيزانت ليست مسيحية ولا هي مسلمة، ولكنها الآن مسيحية ومسلمة وبوذية، تريد من الدين أن يكون عفو النفس ينبع عن مجاهدة واختيار، فلا يقسر الناس عليه قسرا ويحملون على التعصب له، فهي ترى أن طبيعة الإنسان دينية وأن الإيمان ثمرة تثمرها الناس إذا نضجت.
وهذه المرأة هي الآن فوق الثمانين من عمرها، تعيش معظم أيامها في الهند، وتدرس أديانها القديمة وتطلب من أبنائها الحاضرين أن يستقلوا عن الإنجليز، وقد كافحت الاستعمار الإنجليزي في الهند حتى حبست من أجل الهنود وهي إنجليزية، فمن منا يجرؤ على أن يقول لهذه المرأة بل لهذه الإنسانية العظيمة إنها كافرة، وهي التي كافحت طول حياتها لتحرير ضميرها من أجل الحق، ووقفت في وجه أبناء وطنها من أجل الحق، وآمنت ثم كفرت ثم آمنت من أجل الحق، وكانت كل هذه الجهود عن نفس حرة تأبى الخضوع للعقيدة تقسر عليها ولا تؤمن بها.
الفصل الثالث والأربعون
الموتى لا يحكمون الأحياء
منذ مدة مات القصصي الإنجليزي المعروف «توماس هاردي»، وأوصى وصية لفتت نظر الكتاب وبعثتهم على انتقاد الميت وتجريح أخلاقه لأنه اشترط في هذه الوصية بأن يكون نصيب زوجته ما دامت لا تتزوج 600 جنيه فإذا تزوجت لم يكن حقها في الميراث سوى 300 جنيه فقط في السنة.
وواضح أن في هذا الشرط من دناءة النفس ما يشبه أو يشير إلى تلك العادة الهندية التي كانت منذ نحو 70 سنة أو 80 سنة، تقضي بأن تحرق المرأة بعد وفاة زوجها، وقد خففت هذه العادة الآن إلى بقاء الزوجة التي يموت وزجها أرملة مدى حياتها، وليس هذا بالأمر الهين على المرأة الهندية، فإنها تتزوج وتترمل أحيانا قبل أن تبلغ العاشرة أو الخامسة عشرة، فتعيش مدى حياتها في عار الترمل وآلام الحرمان وكتم العواطف، وهي مع ذلك تشكر الحظ الذي لا يقضي عليها بالحرق كما كان يفعل بجداتها.
فوصية توماس هاردي وإن لم تكن في قوة إحراق الزوجة فإنها من نوعها؛ لأن الاختلاف في الدرجة فقط، ففي الهند كان الزوج يخشى بقاء زوجته بعده، ويتوقع حبها لغيره، فكانت تحرق، وتوماس هاردي يخشى أن تحب زوجته رجلا غيره فهو يعاقبها على هذا الحب بإنقاص دخلها السنوي إلى النصف.
وفي كلتا الحالتين ترى الميت يريد أن يحكم الحي، ويجعل نزوات نفسه ونزقات قلبه حية تعيش بعد موته وهو رمة بالية في القبر، وهو في هذه الحال أشبه شيء بذلك الرجل عندنا يوصي بأمواله لبعض الورثة دون البعض، ثم يموت ويترك لهم البغضاء والحسد طول حياتهم، وهذه الدنيا يملكها الأحياء ولا يملكها الموتى، فمن حق الحي ألا يعنته الميت، ومن واجب الميت أن ينام وادعا في قبره ويترك الدنيا وتسوية مسائلها لأبنائها الذين يسعون على أرضها ويتحملون مشاقها ويتمتعون بملاذها.
ونحن نعيش الآن في زمن تجيز فيه حتى الأمم المسيحية الطلاق، بعد أن كانت تنظر إليه الكنيسة كأنه محال، فإذا كان الأحياء يرون زوجاتهم يتزوجن في حياتهم، وينزلون على حكم العقل، فإن واجب الميت ألا يقرر العقوبات لزوجته إذا تزوجت بعد وفاته، وحسبه من حبها تلك الحياة التي قضاها في هناء الزوجية والذكرى التي تمجد اسمه.
وإذا نحن تأملنا معظم القلاقل والإحن في العائلات لم نبعد قليلا حتى نجد أنها ترجع إلى ثورة الأحياء على الأموات، فإنه لما كانت نفس الإنسان تنزع إلى الخلود فهو يرى في أبنائه وأسرته وثروته معنى من معاني الخلود، ويقرر قبيل وفاته عن سبيل الوصية نظاما يبقى يمثل إرادته ويشير إلى معنى الخلود حين يبلى جسمه في القبر، ولكن طبع الحياة التطور وشأن الزمن التحول، فلا تكاد تمضي على الميت بضع سنوات حتى يصطدم نظامه القديم بالأحوال الجديدة، ويرى الأحياء أنفسهم معرقلين لا يملكون التصرف فيما ينفعهم بما وضعه لهم الأب أو الزوج أو الجد من شروط للحياة التي يعيشونها هم، والتي هم أعرف بمصالحها من هذا المورث الوادع في قبره، الذي كان يعيش حياة لعلها تختلف من جملة اعتبارات عن الحياة التي يعيشها أبناؤه أو أحفاده.
فذلك الزوج الهندي القديم الذي كانت أرملته تحرق بعد موته، وهذا القصصي الإنجليزي الذي يعاقب زوجته إذا تزوجت بعده، وهذا الموصي الذي يزيد وينقص في حظوظ أبنائه ويقيد حريتهم في التصرف؛ كلهم من معدن واحد يريدون أن تبقى إرادتهم خالدة بعد موتهم، وهم يضعون لهذا الخلود المنشود برنامجا هو العنت للأحياء.
وشيء قليل من التأمل في الدنيا يزيل عنا هذا الغرور، ويجعلنا ندرك معنى الخلود الروحي، فنذهب إلى القبر متسامحين راضين أن نترك الدنيا لأبنائها، وإنما أبناؤها هم الأحياء، فهم أجدر من الموتى بتنظيم أحوالهم، والتصرف في شئونهم من حب ومال وعيال.
وما يقال في المواريث يمكن أن يقال مثله أيضا في ما خلفه السلف من ثقافة، فهي ميراث للذهن ولكن هذا الميراث يعرقل أذهاننا ويؤخر رقينا إذا أحيط بما يشبه شروط الواقف أو الموصي بحيث نجبر على التزام الطرق القديمة ونمنع من الانطلاق وحرية التفكير.
الفصل الرابع والأربعون
العبيد الذين غلبوا نابليون
كلنا يعرف أن زنوج أفريقية عاشوا قبائل مشتتة تتناحر فيما بينها وتغير عليهم الأمم المتمدينة وتسبي نساءهم وأولادهم وتبيعهم في أسواق النخاسة عبيدا يقضون حياتهم في الكد والكدح لغيرهم، وكلنا يعرف أنهم يعيشون في أفريقية عيشة التوحش، تغشى حياتهم الفاقة ويحصد أولادهم الموت وتستعبدهم الخرافات.
وكلنا أيضا يعرف أن نابليون قد قهر أوروبا، وبدل التخوم الفاصلة بين ممالكها كما يبدل الإنسان خطوط الخريطة بقلمه، وهدم عروشا كما يصنع النجار بعض الأثاث، ومع ذلك فإن نابليون على قوته وجبروته قد انهزم أمام العبيد في جزيرة هايتي.
وقصة هؤلاء العبيد يجب أن تكون ماثلة أمام أعيننا على الدوام مع كفاحنا مع أعدائنا الذين حرمونا من الرقي في الخمسين سنة الماضية؛ لأنه إذا كان الزنوج قد استطاعوا بالاتحاد والأخلاق أن يغتصبوا استقلالهم من نابليون فجدير بنا ونحن نفوق الزنوج في القوة والذكاء أن نحقق استقلالنا أمام الإنجليز.
وجزيرة هايتي تقع في شرق أميركا، وكانت فرنسا تملكها، كما كانت المزارع في أيدي المستعمرين الفرنسيين، والعبيد من الزنوج يكدحون فيها لمواليهم، فلما حدثت الثورة الفرنسية الكبرى وتحطم عرش ملوكها من البوربون، وأعلن الثائرون حقوق الإنسان، بلغت هذه الأخبار السكان في جزيرة هايتي من البيض والسود حوالي سنة 1790، وانشق البيض على أنفسهم بعضهم يدافع عن الملوكية وبعضهم يدعو إلى الجمهورية، وانضم العبيد إلى الجمهوريين؛ لأن الثورة التي أوجدتهم وأعلنت حقوق الإنسان لم تميز بين الأسود والأبيض ، بل أقرت لكل إنسان حقه في الحرية وألغت بذلك العبودية، فلما وقف العبيد على مبادئ الثورة وعرفوا منها حقوقهم الإنسانية انضموا إلى الجمهوريين وقاتلوا الملوكيين من الفرنسيين كما قاتلوا حلفاءهم الإنجليز وانتصروا عليهم، وبذلك استقلت الجزيرة، ولما كان الزنوج يؤلفون الكثرة من السكان آل الحكم إليهم وصاروا هم أسياد البلاد.
ولكن جاء الطاغية نابليون وحاول أن يفسد مبادئ الثورة الشريفة فبعث بالجيوش والبوارج لإخضاع الجزيرة، ولم يكن الزنوج في هايتي بأرقى من زنوج أفريقيا، فقد كانت الخرافات تتحكم في أذهانهم وعواطفهم ولهم كهنة يوهمونهم الضعف بممارسة السحر ويتغلبون عليهم ويبعثون الخوف في قلوبهم، ولكن كانت بينهم طبقة صغيرة من الذين احتكوا بالفرنسيين، وأشربوا روح الثورة من الحرية والمساواة والإخاء، فعمدوا إلى رجل منهم متين الأخلاق فولوه الزعامة، وكان هذا الرجل يدعى توسيه لوفرتور.
وكان أول ما التفت إليه هذا الزنجي العظيم في محاربة نابليون أن عمل للاتحاد بين الزنوج، فقهر الكهنة، وصاح بالناس، وتجاوب الناس صياحه: أن اتحدوا فالاتحاد أقوى من السحر.
ثم عمد بهذه الجموع المتحدة من الزنوج فقهر الإسبانيين، ثم قهر جيش نابليون الذي كان يبلغ 35000 مقاتل وضمن للجزيرة استقلالها في أيدي سكانها الزنوج الأحرار، ووقع هو نفسه أسيرا وحمل إلى فرنسا حيث قضت دناءة نابليون بأن يقتله جوعا، ولكن الجزيرة لم تعد إلى فرنسا بل بقيت مستقلة إلى الآن.
فإذا كان الاتحاد بين الزنوج العبيد يقهر الأمم العظيمة ويتغلب على جيوش الطغاة ويحيل العبودية إلى حرية، فأحرى به أن ينيلنا استقلالنا ويضمن لنا الظفر في كفاحنا مع طغاة القرن العشرين، ولكن اتحادنا لن يكون قويا متينا حتى نبعد عن البلاد كل نعرة يقصد منها الشقاق وتصديع الكتلة الوطنية، فإذا كان في بلادنا عناصر تعمل لهذا الشقاق وتفتح الثغرة التي ينفذ منها العدو إلى صميم الوطن، فإن هذه العناصر يجب محوها ومحقها وإبادتها، فنحن في مركز يتطلب منا جميعا أن نتحد ونقف في وجه خصومنا وقد جندت أجسامنا وعبئت قلوبنا، وما ناله العبيد الذين غلبوا نابليون يمكننا أن ننال نحن مثله أو خيرا منه إذا اتحدنا كما اتحدوا.
ويجب ألا يغيب عن بالنا أن الدعوة إلى الشقاق تتخذ أشكالا عديدة، منها الطعن في الزعماء ومنها الحيف على الأقليات ومنها تحريك الضغائن المذهبية ونحو ذلك مما يجب أن نحذره أمام الطغاة.
الفصل الخامس والأربعون
خطة الدفاع
من أغرب الظواهر الطبيعية للحياة أن تلك الأحياء التي بالغت في الدفاع عن نفسها وتدرعت بدروع تقيها من الأعداء وقفت عن التطور وكفت عن الارتقاء، فهذا المحار مثلا نشأ منذ مئات الملايين من السنين، أي منذ كان المقطم تغمره مياه البحر، ومع ذلك بقي كما هو قطعة هلامية من اللحم مستكنة في بيت من الصدف لا تتطور ولا ترتقي.
بل هناك من الحيوان أنواع نجحت في حماية نفسها إلى درجة بعيدة أفقدتها بعض حواسها، كما ترى الخلد الذي آثر الاكتنان والاختفاء تحت الأرض على السعي فوقها ففقد عينيه.
فالمحار عاش متدرعا بصدفه ملايين السنين وهو لا يتطور، حتى إننا نجد صدفه للآن في صخور المقطم، والخلد لم يقف عن التطور والارتقاء فقط بل هو ارتد للوراء، إذ فقد إحدى حواسه، بل أهم حواسه وهي حاسة النظر؛ لأن هذه الحاسة لا تنفع صاحبها إلا إذا كان يسعى في النور ويحتاج إلى التمييز بين الصديق والعدو، أما إذا آثار الاعتكاف واختلاس العيش في الظلام فهو لا يحتاج عندئذ إلى هذه الحاسة الراقية، وما أحرانا نحن بأن نعتبر ذلك فلا نقنع من الحياة بخطة الدفاع، كالمحار والخلد، فنتجنب السعي قانعين بأقل العيش راضين بالاعتكاف كأنما نعيش عيشة سلبية هي نفي الموت فقط. بل يجب أن نسعى ونقتحم الأخطار ونتصدى للعقبات نمهدها أو نزيلها، ونهاجم الطبيعة فنكتشف فيها ونخترع ونرتقي من الحسن إلى الأحسن.
إن الحياة درجات، فمنها حياة النبات وهي أحط حياة، ومنها حياة هذا المحار وهي أقل من حياتنا وقت النوم، ثم تتدرج من ذلك إلى أن تبلغ الإنسان الذي يلقى من هموم الدنيا أكثر من أي حيوان آخر، ويعيش ملأ حياته تجارب واقتحامات وآلاما وملذات.
ومن الأمثال الحربية التي تنطبق على الحياة المدنية أن أمثل الطرق للدفاع هي الهجوم، فإذا كنا نخشى الفقر فليس سبيلنا إلى اتقائه أن نحتفظ بالقليل الذي نملكه ونحوطه ونصونه قانعين منه بأتفه العيش وأخسه، بل نتقي الفقر باستغلال هذا القليل وتأثيله في عمل ما كي يربو ويزيد مع ما في هذا الاستغلال من التعرض للخطر، فالثروة ليست نتيجة الادخار والاتقاء بل هي نتيجة الاستغلال والمغامرة.
وهنا يخطر ببالي أن أقابل بين الإنجليزي والفرنسي، فالإنجليزي مغامر لا يدخر قرشا ولا يعرف التقتير، خطته في الحياة الهجوم؛ ولذلك فقد أثرى وتفشى في العالم وصارت له إمبراطورية تتمطى حول الكرة الأرضية. أما الفرنسي فيقنع من الدنيا بالدفاع فهو لذلك معتز، لامرأته وسائل عجيبة كريهة في التقتير، ثم هو لا يأكل ولا يشرب ولا يتناسل ولا ينفق إلا بحساب، كأنه يخشى الدنيا؛ ولذلك فهو فقير إذا قوبلت أحواله بأحوال الإنجليزي الذي يهاجم الدنيا ويؤثل أمواله في الصين ومصر والهند وأمريكا.
وكلنا من حيث المزاج نجري على إحدى الطريقتين: إما الدفاع والاحتماء وإما الهجوم والتصدي، وليس هذا شأننا في الثروة فقط بل هو أيضا شأننا في نشاطنا الذهني، فمنا من يقنع بدرس كل ما هو مألوف مأمون، بل أحيانا يبالغ في هذه الخطة حتى ليطلب الرقابة على الأدب وتقييده ومنع الأدباء من المخاطرة والمغامرة، كأنه يطلب من الناس أن يعيشوا عيشة المحار بعيدين عن التعرض لأي خطر، وهذه خطة الدفاع والاحتماء.
ثم منا من ينزع نزعة الجراءة فلا يحجم عن اقتحام كل خطر، يطلب من الأدب أن يكون حرا مكشوفا يتناول كل موضوع ويترخص في كل بحث ويهاجم كل عقبة؛ لأن الذهن الإنساني يموت بالادخار والحصر ويحيا بالإقدام والانطلاق، وهذه هي خطة الهجوم والتصدي.
فلكي نعيش جدا ونحيا ملء حياتنا الإيجابية، يجب أن نتصدى للدنيا وننبري لتذليل عقباتها ونجعل الهجوم وسيلة الدفاع في المال والذهن، فلا ندخر كالفرنسي بل نستغل ونؤثل كالإنجليزي، وإذا كان في الاستغلال مخاطرة فلنقبلها راضين بما لها من عوض في الزيادة والنماء والارتقاء.
فالهجوم والتصدي والمغامرة هي صفات الحياة العالية، تلك الحياة التي ترضى بالارتقاء فترتقي وتتطور ولو كان في ارتقائها فناؤها.
الفصل السادس والأربعون
في شرف الهزيمة
قد يكون من الهزائم للأمم والأفراد ما هو أمجد وأشرف من الانتصارات، فهذه فرنسا مثلا بعد أن أعلنت الثورة الكبرى وأذاعت مبادئها على العالم عادت فانهزمت، واضطرت إلى الإقرار بأن مبادئها ليست حقة فكانت هزيمتها هذه شريفة؛ لأن كل إنسان يقرأ تاريخ تلك الثورة يعرف أنها ليست ثورة فرنسا فقط بل ثورة الإنسان كائنا ما كان؛ لأنها أعلنت حقوقه ورفعت شأنه وباتت مصباحا تستضيء به كل أمة في العالم، حتى إن طغيان نابليون، ثم اتحاد الأمم عليها ورد الملوكية إلى عرشها، كل هذا لم يقتل مبادئ الثورة بل بقيت حية أمام هذه الهزائم وعادت في النهاية إلى الانتصار.
وأقرب من هذه الثورة تلك الهزائم التي نزلت بالأمة الصينية في حرب جائرة أعلنتها عليها الإمبراطورية البريطانية كي تقسرها على شراء الأفيون بعد أن كانت الصين قد منعت زراعته والاتجار به وتدخينه، فإن هذه الإمبراطورية حاربت الصينيين وقهرتهم وأجبرتهم على شراء الأفيون، فكانت الصين مجيدة في هزيمتها، شريفة في مذلتها أمام هذا العدو المنتصر الذي طغا عليها بحروبه واضطرها إلى شراء السم لأبنائها.
ومن الهزائم المجيدة أيضا تلك الهزيمة التي نزلت بنا في سنة 1882 حين وقف عرابي بجيشه يدافع عن الدستور وعن الوطن بينما الخديوي قد انضم للأعداء، فكان عرابي في هزيمته أسمى من الخديوي في انتصاره، وذلك لأن الأول كان يدافع عن الحق فانهزم، بينما كان الثاني يدافع عن الباطل فانتصر. الحق مهزوما أمجد وأشرف من الباطل منصورا.
ومن الهزائم الشريفة هزيمة الدكتور ولسون حين خرج مجاهدا في سبيل السلام يدعو الأمم إلى إلقاء سلاحها وإنشاء عصبة الأمم كي تكون المحكمة العليا للعالم كله، وقد انهزم ولسون أمام الحلفاء ولكن هزيمته كان أشرف من انتصارهم إذ كان هو يعمل للصراحة والحب والوفاء وكانوا هم يعملون للمواربة والكراهية والغدر.
وكما أن مبادئ الثورة الفرنسية قد عادت فانتصرت، وكما أننا الآن ندافع عن الدستور الذي انتزعه عرابي من الخديوي ونرفع المبادئ التي كان يرفعها، كذلك ستنتصر مبادئ الدكتور ولسون على دهاء الساسة الذين خدعوه، وإذا لم يكن هذا الانتصار عاجلا فهو آجل.
وعبرتنا نحن الأفراد العاديين من هذه الأمثلة ألا نبالي بالهزيمة إذا كانت في سبيل الحق، وأن نؤثرها على الانتصار في الباطل، وأن نطمئن إلى هذه الهزيمة لأنها هي في الواقع انتصار أو تهيؤ للانتصار، وذلك لأن الحق لا يهزم إلا إلى وقت وميعاد إذا آن فيهما أوانه ظهر على الباطل وأزهقه.
وما أحرانا بأن نتذكر ذلك في كل مناقشة أو جدال يحمل فيه أحد المتناقشين على خصومه بالسباب واللعن، فإن عندنا طائفة من الكتاب يبدو مما يكتبون أنهم لم يتعلموا اللغة العربية إلا ليصيدوا منها كل لفظة مفزعة يرمون بها خصومهم، حتى لينقلب الجدل بينهم إلى مهاترة تشبه المفاحشة التي تسمع من السفلة غير أن ألفاظها عربية وألفاظ هؤلاء عامية، ففي مثل هذا الجدل تكون الهزيمة أشرف من الانتصار.
ويجب أيضا ألا ننسي ميدان السياسة حيث يفوز الخطيب المفوه الذي يستثير عواطف الجمهور بما يخيله لهم من آمال كاذبة على ذلك السياسي الرصين الذي يسكن إلى الحقائق ولا يتطوح مع الأوهام، فإن مثل هذا الفوز لا يشرف صاحبه كما أن هزيمة الآخر لا تعيبه.
الفصل السابع والأربعون
المناقشات حول الأدب
كتب مدير جامعة شيكاغو مقالا جاء فيه قوله:
لما كنت طالبا في غوتنجن في ألمانيا كانت هناك جالية من الطلبة الأمريكيين الملتحقين بجامعتها، وكانوا منقسمين فئتين إحداهما تنوي درس اللغة الألمانية فقط والأخرى تنوي درس موضوع بعينه من المواضيع التي تدرس بالجامعة كالعلوم مثلا، فلما مضى علينا نحو ستة أشهر اتضح أن أولئك الذين قصروا همتهم على تعليم اللغة لم يعرفوا من اللغة الألمانية مقدار ما كان يعرفه أولئك الذين جاءوا لتعلم شيء آخر غير اللغة.
وأظن أننا نحن هنا في مصر نرى مصداق هذا الكلام، فأولئك الذين يختصون بدرس النحو واللغة والبلاغة والبيان ليست لهم تلك القوة على الأداء والبيان التي لأولئك الأدباء أو العلماء الذين يمسون موضوعات الحياة ويكتبون عنها، وهذا يدلنا على أن اللغة ليست موضوعا يدرس بذاته بل هي يجب أن تدرس عرضا بدرس موضوع آخر، وكذلك الأدب ليس سبيل التفوق فيه أن نعرف أقسامه وأساليبه وأصوله وفروعه، بل أن نعمد إلى الحياة ذاتها فندرسها كما هي في طبيعتها بحيث إذا كتبنا عنها لم نعد الحقائق الحية، وذلك أن موضوع الأدب هو حقائق الحياة، فأحسن الأدباء وأنفعهم للقراء ليس هو ذلك القادر على سرد قواعد اللغة والوقوف على ما فيها من ثروة لفظية يحفظها عن ظهر قلب وهو قابع في غرفته بين الكتب والأقلام، بل هو ذلك الذي يختلط بالناس ويدرس مسائلهم الاجتماعية والاقتصادية، يعرف كيف يعيشون وكيف يموتون وكيف يحبون ويكرهون؛ لأن موضوع الأدب هو الحياة التي إذا وقفنا على شيء من أسرارها تفتحت لنا أبواب المعاني وانقادت لنا اللغة في التعبير عنها. أما إذا أردنا أن نتعلم الأدب بدرس اللغة فإننا لا نخرج من هذا الدرس إلا بصورة حائلة عن أصلها ومسخ بعيد الشبه عن الحياة.
نكتب هذا بمناسبة المساجلات التي عقدت حديثا بشأن الأدب وهل يجب أن يكون مكشوفا أو مستورا، وهل الأدب العربي فيه ما يشبع الأديب المصري أولا، وهل يجب أن يكون المصريون القدماء أساس الثقافة أولا، وأيضا ما يقوم أحيانا من مناظرات عن كفاية اللغة العربية أو نقصها، ونحو هذا من الأبحاث التي تشبه وضع القواعد للأدب، وأنا أرى أن الأدب لا يثمر بهذه الأبحاث.
وإنما سبيلنا في الأدب أن ندرس الحياة من جميع وجوهها، لأن الأدب وصف الحياة ونقدها، والتوسعة فيها، بإظهار القارئ على ما يجهله من معانيها وإرشاده إلى الطريقة المثلى للمعيشة، فليست الغاية من الأدب أن نكتب ونجيد الكتابة الأدبية بل أن نعيش من المعيشة الأدبية؛ ولذلك فالقاعدة الوحيدة للأدب هي أن يطابق الحياة المثلى ويصورها، ولهذا يحتاج الأديب كي يبلغ هذه الغاية أن يدرس كل ما يتصل بالحياة من أنظمة اجتماعية إلى اكتشافات علمية إلى مضاربات فلسفية، ولهذا السبب فإن المحامي أو الصحفي أو الطبيب أو النجار الذي لم يشتغل قط باللغة أو الأدب يعرف منهما أكثر مما يعرفه أولئك الذين عنوا بدرسهما من الكتب والمعاجم؛ لأن هذا قد مس بضاعته ناحية من نواحي الحياة وباشرها ونفذت بصيرته إليها أما هؤلاء فلم يعرفوا من اللغة والأدب سوى نوع من التحنيط المعنوي، ومما يزيد صدق ما نقوله ونؤيد به قول مدير جامعة شيكاغو أنه ليس عند الإنجليز مجمع علمي، ومع ذلك فإن اللغة الإنجليزية الآن أوسع من اللغة الفرنسية ألفاظا والأدب الإنجليزي أغزر مادة وأوفرها مواضيع من الأدب الفرنسي؛ لأن الإنجليز بتعلقهم بالعلوم زادوا اتصالهم بالحياة فاتسع بذلك أدبهم، أما الفرنسيون فبإدمانهم الكلام عن الأدب وأصوله وقواعده ابتعدوا قليلا عن الحياة ورفعوا من شأن الصنعة، فصرنا نجد في أدبهم لذة الموسيقى دون الهداية التي نهتدي بها في الحياة، وخلاصة القول أنه كما يجب أن نجعل الموضوع وسيلة لدرس اللغة كذلك يجب أن نجعل الحياة وسيلة لدرس الأدب.
الفصل الثامن والأربعون
أسطورة قديمة جميلة
من الأساطير الصغيرة التي يدبجها الشاعر الإنجليزي كبلنغ ببراعته، وكأنه يرسمها بريشته، هذه الأسطورة الفريدة التي نقلها عن ديانة البراهمة، قال:
حدث في أحد الأزمان، أو عندما كان الزمن مبتدئا في ميلاده وعندما كانت الآلهة جديدة لم تعرف لها بعد أسماء، وحين كان الإنسان ما يزال جسمه نديا بالطين الذي جبل منه، أن هذا الإنسان نفسه وقف وتصدى للآلهة وادعى أنه هو أيضا إله.
ففحصت الآلهة ما قدمه من بينات ووزنتها فوجدت أن دعواه صادقة.
ولكن هذه الآلهة بعد أن سلمت بدعوى الإنسان تسللت إليه في الخفاء واختلست منه هذه الألوهية، وهي تنوي أن تخفيها عنه حتى لا يهتدي لها أبدا، ولكن هذا العمل لم يكن سهلا، فقد قالت الآلهة لنفسها إنها إذا أخفتها في أي مكان في الأرض فإن الإنسان لن يترك حجرا في مكان حتى يقلبه في البحث عنها والاهتداء إليها. ثم هي إذا أخفتها عندها فإنها تخشى أن يصعد الإنسان إليها في السماء ويقتنصها منها.
وبينما الآلهة جميعها في حيرة إذ تقدم إليها أعقلها وأحكمها وقال: اتركوا لي هذه المسألة فأنا أحلها.
ثم قبض بيده على هذه الشعاعة الصغيرة المضطربة التي تحتوي على ألوهية الإنسان، فلما صارت في قبضته، بسط كفه وإذ بها قد طارت منه، وعندئذ قال: هذا حسن. لقد أخفيتها حيث لا يستطيع الإنسان أن يحلم بمكانها. أجل، إني أخفيتها في الإنسان نفسه.
ومغزى هذه القصة أو الأسطورة الجميلة يدركه كل من قرأ تاريخ الصوفيين من قدماء العرب ومحدثي الأوربيين، بل أيضا من يقرأ الفلاسفة الجدد مثل جيمس أو برغسون.
ففي نفس كل منا شعاعة صغيرة تضطرب، هي هذه البصيرة القدسية التي ترفعنا أحيانا فوق عقولنا فنعرف منها من المواقف والمآزق الحرجة أننا أشرف مما كنا نظن، وأن فينا من السمو والعظمة ما لم يكن يخطر لنا في بال.
فهذا العقل الذي يسوقنا إلى الأنانية البشعة، ويحضنا على التنافس والتحاسد، ومغالبة الغير على ما في أيديهم، والاستزادة من العقار، والتقلص في ثنايا الشح، والتقتير بالمال والحياة، ينهزم أحيانا أمام هذه البصيرة القدسية، فترانا نضحي بأنفسنا في سبيل البر والخير يتمتع بهما غيرنا حين نكون نحن أشلاء أو رمادا، فالعقل مادي، وهو يطلب الأثرة، ولكن هذه البصيرة التي أخفتها الآلهة في أنفسنا، كما تقول الأسطورة الهندية، تغرينا بالإيثار وتدفعنا إليه فنسمو ونرتفع فوق أنفسنا، فنحقق بالدفاع عن الوطن أو الحرية ما نترك ثمرته لغيرنا بينما لا ننال نحن منه سوى التضحية بأنفسنا، فلو كنا أنانيين نقنع من الدنيا بمصلحتنا الذاتية لما رضي واحد منا بأن يضحي بنفسه.
فمن هذه التضحية ندرك أننا أشرف مما نظن، وأننا نضع مصلحة الناس والعالم فوق مصلحتنا الشخصية، وأن لنا بصيرة سامية تدرك مصلحة الكون وتتغلب في الأزمات على صوت العقل فتكشف لنا بذلك عن هذا السر الذي أودعته الآلهة قلوبنا خفية كما تقول الأسطورة، أو عن ذلك القبس الذي يشع في قلوبنا من ذلك العنصر الذي يبعث الحياة في الأجسام كما يقول برغسون.
وليست التضحية بالبرهان الوحيد على أننا نسمو فوق عقولنا ونؤثر مصلحة الكل على مصلحتنا التي هي الجزء، بل هناك مثلا ذلك النوع من البر الذي نقهر عليه قهرا ونعرف أن فيه تلفنا ولكننا مع ذلك نتشبث به، كما يحدث عندما ندعو إلى مذهب نبغي تحقيقه أو مثل أعلى ننشده، فنشعر عندئذ أن بصيرتنا بالحياة تتغلب على عقولنا وتسوقنا بل تسخرنا لأغراضها السامية ونحن راضون بما نلقاه من خسف ومشقة في سبيل هذه الأغراض، وربما كانت ميزة الأديب على العالم أن بصيرته تملك عليه عقله.
وخلاصة القول أن في نفوسنا شعاعة صغيرة من النور أخفتها الآلهة، فعلينا أن نلتمسها لأنها هي الصلة التي تربطنا بالكون وتصلنا بعنصر الحياة الشاملة لجميع الأحياء، وهي البصيرة التي ترفعنا فوق العقل والأنانية والمادية.
الفصل التاسع والأربعون
أجمل الأشياء
الجمال كالسعادة، إذا تحراه الإنسان ألفاه في كل مكان؛ لأنه حالة في النفس التي تنشده، وكما أن كل إنسان ليس قادرا على السعادة إلا بمقدار ما عنده من الاستعداد الذاتي لها، كذلك ليس كل إنسان قادرا على فهم الجمال وإدراك معانيه إلا بمقدار ما في نفسه هو من عناصر الجمال؛ وذلك لأننا لا نقر بأن هذا المخلوف الحي أو الجامد، النبات أو الحيوان، جميلا ما لم تكن العناصر التي يتألف منها جماله مغروسة في أنفسنا قبل أن نراه.
وبعبارة فلسفية نقول إن الجمال ذاتي وليس شيئا موضوعيا، ولكن هذا تقعر يبعدنا عن السهولة التي نتوخاها في هذه المقالة، فالجمال مع أنه أغلى الأشياء وأثمنها فإنه أيضا أشيع الأشياء وأقلها كلفة للاستمتاع به، ففي أنفاس الصباح العطرة جمال يدركه أولئك الذين ما تزال فطرتهم سليمة فلا يفسدونها بالسجاير يدخنونها؛ لأن في نسيم الصباح عبقا أعطر من عبق الدخان، ولقد كان الأديب الإنجليزي «رسكين» يعجب من المدخنين كيف يدخنون ويحرمون أنفسهم من نسيم الصبح.
وهذا يذكرنا بما يقوله غاندي ذلك الهندي العظيم الذي يدعو إلى الفطرة ويخفف عنا بذلك شيئا من تكاليف الحضارة وإلحاحها علينا في أن نعيش عيشة صناعية حافلة بالمنبهات القوية والطعام الدسم والسهر المتوالي، فهو ينصح لنا أيضا مثل رسكين بأن نتوخى الجمال في رؤية الطبيعة وهي تستيقظ من رقدة الليل، ونمشي حفاة الأقدام على التراب الندي في وسط الحقول، وبين العشب والزهر، حين ننفرد بالجسم ولكننا في انفرادنا لا نشعر فيه بالوحشة لأننا نستأنس بالطبيعة التي تقربنا من الكون وخلائقه فتزيد الوشائج، ويتأكد الاجتماع الروحي بيننا وبينها، فيفعم الحب قلوبنا ونحس في لحظات بذلك الطرب الذي يكشف لنا عن مصالح روحية أسمى وأبقى من هذه المصالح الصغيرة التي تستهلك وقتنا في الحضارة.
إن الإحساس بالجمال يسري في النفس بمقدار استعدادها للحب؛ ولذلك فإن رجل الفن العظيم، الذي ينشد الجمال في قصيدة أو تمثال أو مقال أو قصة، هو أيضا رجل الحب العظيم، ولهذا السبب تجد للحب تلك المكانة العليا في الأدب، ومحال أن تجد رجلا يثقل صدره الحقد والأنانية يمكن أن يكون أديبا ساميا.
وأسمى الأدباء وأخلدهم ذكرا هو «دستؤفسكي» رجل الحب والجمال، فقد كان يرى الجمال في كل شيء ويحب كل شيء وينصح لنا بأن نحب العالم كله ونقبل التراب الذي ندوس عليه؛ ولذلك فإن القارئ يقرأ قصصه وكأنه يقرأ صلاة سامية يخشع فيها له خشوع المحب لحبيبته الذي يجثو أمامها ويطرب للدموع تتساقط من عينيه والقبلات الحارة تنطبع على قدمي حبيبته.
والجمال يشغل العالم كله، ولكنه يتفاوت، ولعل أجمل الأشياء هم أطفال الإنسان والحيوان، ففي طفل الإنسان عالم من الجمال قد انطوى في جرم صغير كأنه العطر يجمع من حقل من الورد في قنينة صغيرة، ففي جسم الصغير حكمة الآباء وتاريخ الملايين من السنين، وفي نفسه تشوف الإنسان إلى المستقبل ورغبته في السمو والنزوع إلى التقدم. بل يكاد الطفل يكون أحد الأصول في بزوغ حاسة الجمال عندنا، فإن لفظة «لطيف» التي تعني الآن الجميل لم تكن تعني في أصل وضعها سوى الصغيرة؛ وذلك لأننا نستجمل كل شيء وكل مخلوق صغير.
بل طفل الحيوان نفسه لا يقل جمالا عن أطفال الإنسان، فقلوبنا تظفر إليه حبا وحنانا، فما نرى حملا أو جروا أو خنوصا حتى نحنو عليه ونمسحه ونتأمل تلك السذاجة في وجهه وهذا الاستسلام البريء لنا في حركاته ونظراته فنعشقه ونحوطه بعنايتنا وخدمتنا، ونحميه من كل ما يؤذيه.
ولكن نعود فنقول إن الجمال «ذاتي» فنحن لا نستجمل العالم وكائناته إلا بمقدار ما في نفوسنا من جمال؛ ولذلك فأجملنا نفسا هو أكثرنا استمتاعا وأكثرنا حبا وأبعدنا عن الكراهة.
وإذا كان الإحساس بالجمال والإحساس بالحب طبيعتين فإن التربية تزيدهما، كالرقص يعلمنا الرشاقة في المشي أو كالخطابة تعلمنا إجادة الإلقاء، فيجب أن نربي أنفسنا على التفتيش عن الجمال ونقمعها عن الحقد والكراهية.
الفصل الخمسون
سعة الصدر وحاجتنا إليها
ربما كانت سعة الصدر من أهم علامات الرجل المهذب الذي تثقف بمختلف الآداب والعلوم، كما هي أيضا من أهم شروط الحضارة، فالرجل الذي غذا نفسه، وثقفها، ووقف على آراء المتقدمين والمتأخرين، لا يسعه أن يتعصب لفكرة سوى الفكرة القائلة بحرية الرأي، أي القائلة بعدم التعصب، فهو يستطيع أن يتحمل كل نقد ويتسامح فيه لأنه لسعة ثقافته قد وقف على آراء الكثيرين المختلفين وقدر وجهات نظرهم وعرف حسناتها كما عرف سيئاتها. أما الرجل الجاهل فيتعصب لرأي أو فكرة ويحتد في الدفاع عنها لأنه قاصر عن الوقوف على وجهات النظر التي تخالفه.
وسعة الصدر أيضا من الشروط اللازمة للحضارة، وهي هنا تسمى التسامح، فليست تقوم في العالم حضارة بلا تسامح، وذلك لأن الأمة بطبيعتها تنقسم في الآراء والمذاهب طوائف متباينة، فإذا لم تسامح هذه الطوائف، وإذا لم ترض لغيرها بالوجود كما ترضى لنفسها به، فإن التعصب يدفعها إلى التناحر الذي قد ينتهي بحرب أهلية فيها فناء الأمة وحضارتها، والتسامح هو الرضى بالآراء المخالفة ولو كان في التصريح بها ما يؤلمنا بعض الألم، فكل منا بطبيعته غيور على أن يرى آراءه الشخصية أو الطائفية فاشية حوله، ولكن لا يمكن أن تقوم حضارة حتى تتسع صدورنا لآراء الغير الشخصية والطائفية، ولو كنا نشعر ببعض الألم أو قد يصيبنا قليل من الأذى لنشرها. أي أننا يجب أن ننزل عن شيء من مصالحنا تسامحا ومحافظة على الحرية الفكرية.
وهذا يؤدي بنا إلى القول بالتسامح في النقد، نتقبله دون احتداد أو شكاية ما دامت النية حسنة والغاية المنشودة هي الخير، بل يجب علينا أن تتسع صدورنا للنقد وتعده عاملا من عوامل التقويم؛ لأن الإنسان مفطور على الزهو والغرور فإذا قرأ نقدا من أحد الخصوم رأى نفسه كما يراه غيره فينقشع عنه الزهو ويقيم من نفسه ما اعوج، وقد نتألم لهذا النقد ولكن النظر الصادق للمصلحة يجب أن يزيل هذا الألم.
وهنا يجدر بنا أن نقول إن الأحرار، أو الحريين، الذين لا تخلو أمة من حزب لهم في أوروبا إنما يقصدون من هذه اللفظة السخاء وسعة الصدر كما يقصدون منها الحرية، فحزب «الأحرار» هو حزب الأسخاء الذين يقولون بعدم الضن بالإصلاح على الطبقات الفقيرة، فالرجل الحر ليس هو الذي يطلب الحرية لنفسه فقط بل هو أيضا ذلك الذي يحس بالأريحية وسخاء النفس وسعة الصدر، ومثل هذا الرجل ضروري لكل هيئة اجتماعية راقية.
وقد انتهى الناس من التعصب الديني، وعرفوا أن التسامح في العقيدة الدينية هو خير ضمان للسلم والأمن، بعد أن قضوا مئات السنين في الحروب الدينية التي لم ترد أحدا عن عقيدته ولكنها بللت الأرض بالدماء وزادت الأحقاد والضغائن وأخرت الأمم ودمرت الحضارة، وصار الناس الآن تتسع صدورهم للاختلاف في المذاهب الدينية وباتت الحرية الدينية أساسا من أسس الحضارة.
ولكن الاختلاف في المذاهب السياسية قد أوشك أن يأخذ المكان القديم الذي كان للاختلاف في المذاهب الدينية، فامتلأت النفوس إحنا وضغائن كثيرا ما بعثت الأيدي المجرمة على ارتكاب الجرائم، وصار هناك نوع من الهوس السياسي يشبه ذلك الهوس الديني القديم حين كان يشعر كل إنسان أنه على حق، بل يحتكر الحق، وأن غيره من الخصوم على باطل، لا يعرف سوى الباطل، وليس هذا الهوس أو التعصب إلا دليلا على ضيق الصدر وقلة الثقافة؛ لأن الجاهل لجهله مناحي الفكر الأخرى يتعصب لفكرته ، أما العالم فلعلمه بها وتوسعا في الدرس يرى في نفسه من التسامح وسعة الصدر ما يمنعه من التعصب، والرأي السياسي عند العالم المثقف لا يعدو أن يكون رأيا يقبل التنقيح والإبدال، ولكنه عند الجاهل عقيدة راسخة لا تقوم على عقل ورؤية، فلتكن دعوتنا إلى التسامح وسعة الصدر للنقد، ولتكن أدواتنا التي نتوسل بها إلى ذلك زيادة المعرفة ونشر الثقافة بين الناس حتى لا يقتصروا على وجهة واحدة من الرأي تتجمد في نفوسهم فتصير عقيدة راسخة، بل نعمل على إضعاف روح التعصب بزيادة الثقافة بينهم حتى لا يرون ما للشيء أو للشخص فقط بل يرون ما عليه أيضا.
الفصل الحادي والخمسون
البذرة
«فلتكن تلك البذرة الحسنة أو القدوة الفاضلة للجيل القادم»
عند الألمان أمثولة تقصها الأم على ابنها، ويرويها الكبير للصغير كي تكون غرسا صالحا يلذ لهم ويوجه قوى الناس للخير والبر. يسمعها الصبي فتنطبع بذهنه، وتختلط بدمه وتتأصل في عناصره، فإذا شب عمل بها واتجه نحو الغاية المقصودة منها، والمثل الشائع بين الأمة كمثل الأمثولة التي تقص على الصغار للعظة والعبرة، كلاهما يدل على عقلية هذه الأمة وما تتشوف إليه. بل يكن معرفة طبائع الأمم وأخلاقها من أمثالها.
يقول الألمان في أمثولتهم: «إن سائحين كانا قد نزلا في قرية، فبينما هما قاعدان في خان إذا بنار قد شبت في القرية
فقال أحدهما: ليس هذا شأني.
ولكن الآخر نهض، وعدا نحو النار، فأنقذ بعض الناس وكثيرا من الأثاث، فلما عاد إلى رفيقه سأله هذا: ومن أمرك بأن تخاطر بنفسك لمصالح غيرك؟
فقال الرجل الشهم: إن الذي أمرني بهذا هو الذي أمرني بأن أدفن البذرة كي تنبت وتكثر.
فقال الآخر: ولكن لو كنت أنت قد دفنت في هذه النار؟ فأجابه الثاني: إذن كنت أكون هذه البذرة».
فهذه أمثولة جميلة، لو أن أحد شعرائنا وضعها في مقطوعة يحفظها الصغار، لكانت من خير المحفوظات التي تقوم الأخلاق وتغرس في نفس الناشئ روح البذل والتضحية، ففيها معنى الإيثار، وبذل النفس لمصلحة الغير، ثم فيها هذا المعنى الخطير وهو أن كل كلمة نتفوه بها أو عمل نعمله هو بمثابة البذرة التي تنبت وتثمر آلاف البذور.
وهذا يبعثنا إلى أن نحاسب أنفسنا، فلا نزرع من البذور إلا أصلحها فكلمة السباب التي ننطق بها أو نكتبها هي بذرة سوء، ستنبت كالشوك بين الجيل الجديد الذي ينشأ على تعلمها والتلفظ بها، وخواطر الحقد والحسد والجبن والأثرة التي نتفوه بها أو نكتبها ستجد صدى في نفوس الذين يسمعونها أو يقرءونها فينشئون عليها نشأة سيئة.
فكل منا زارع، وما من عمل نأتيه أو كلمة نتفوه بها إلا وهي بمثابة البذرة تنمو وتربو وتثمر الثمرة الصالحة أو السيئة، وذلك لأننا نعيش بين الناس، فهم قدوة لنا ونحن قدوة لهم، وهم يتأثرون بأعمالنا وأقوالنا كما نتأثر نحن بهم، وأكبر عامل في الأخلاق، بل يكاد يكون العامل الوحيد فيها، هو القدوة، فنحن ننشأ على غرار من حولنا من الناس الذين نعاشرهم أو نلابسهم في معاملة أو زمالة أو نحو ذلك، ومرجع هذه القوة التي نراها في القدوة هو ما فطرنا عليه من المحاكاة لغيرنا، فنحن نحاكي الناس في حركاتهم وكلامهم وأعمالهم على غير وعي منا، بحيث إننا نحب ونكره الناس والأشياء، أو نعجب بهم، في أكثر الأحيان إن لم نقل فيها كلها، تقليدا ومحاكاة وليس عن سبيل التفكير والاختيار، فإذا كان هؤلاء الناس يبذرون البذرة الصالحة في القول والعمل نشأنا مثلهم، وإذا كانوا عكس ذلك ينطقون بهجر القول ولا يستحيون من فاسد أعمالهم فإننا نقتدي بهم ونسير سيرة السوء التي يسيرون عليها، ومن هنا نفوذ الكاتب أو الزعيم، أو أي إنسان آخر له وجاهة المال أو الحسب أو المركز، فإنه يستطيع بالقول أو العمل أن يكون قوة للخير أو الشر وأن يكون بذرة تنبت للجيل الذي يليه فينتفع أو يستضر بها في أخلاقه، ويجب لهذا السبب أن تكون فينا روح ذلك الألماني الذي يرمي بنفسه في النار كي ينقذ بعض الناس أو الأشياء راضيا بأن يكون كالبذرة تدفن في التراب كي ينتفع بها أبناء الجيل القادم إذا لم ينفع أبناء الجيل الحاضر، وإذا كنا نؤمن بأن الوسط يؤثر في الإنسان فإننا يجب ألا ننسي أننا أنفسنا أحد أجزاء هذا الوسط الذي يتألف منه الكل، وكما أن الوسط السيئ يجعل اللص الكبير رئيس المنسر، والعاهر السكير والمبذر من الأبطال الشهام، فكذلك الوسط الحسن لا يقر بالبطولة والشهامة إلا للرجل الطاهر الذي يسعى للخدمة فيعمل لتأسيس مدرسة أو مستشفى أو إصلاح أحوال العمال أو نحو ذلك مما هو في نسق الرقي الحديث وشهامة القرن العشرين، فيجب أن نكون نحن تلك البذرة الحسنة والقدوة الفاضلة للجيل القادم.
الفصل الثاني والخمسون
ما هو التمدن
من الناس من لا يهمهم من التمدن إلا أن يعرفوا هل هو التمدن أو التمدين. أما أنا وأنت فلا نبالي إلا بحقيقته وماهيته.
ونحن نبالي بذلك لأننا نرغب كلنا في أن نكون متمدنين وأن نبلغ من التمدن أعلى درجاته؛ ولذلك يجب علينا أن نعرف ما هو التمدن.
لقد سأل أحد الكتاب الإنجليز وهو المستر «بل» هذا السؤال وأجاب عليه بكتاب ضخم استقرأ فيه أحوال الأمم المتمدنة في العصور القديمة والحديثة، كي يعرف منها تلك السمات التي تتسم بها وتشترك فيها الحضارات مهما اختلفت أزمانها أو أقاليمها، ولكنه قبل أن يشرع في بحث هذه الحضارات ومقابلتها الواحدة بالأخرى، عمد إلى الأوساط المتبربرة حيث لا تكون الحضارة فوجد فيها جملة صفات هي في الواقع أساس الحضارة ولكنها ليست منها كما نفهم نحن الآن من مدلول هذه الكلمة.
ففي الأوساط المتبربرة نجد احترام الامتلاك في العقار، والإيمان بآلهة ما، وبالحياة الأخرى، ثم احترام المرأة، والصدق، والنظافة، والطهارة، والدفاع عن الوطن، فهذه صفات توجد عند المتمدنين وهي قد تعد أساسا للحضارة، ولكنها ليست الحضارة كما نفهمها الآن، فإننا نطلب من الرجل المتمدن أو المتحضر أشياء أدق وأخص من هذه العموميات.
وليس من الحكمة أن نبحث عن الحضارة فيما نتخيله من صفات نميل إليها بمزاجنا الذهني أو بحكم صناعتنا أو الظروف الوقتية التي نعيش فيها، وإنما علينا أن نعمد إلى الأمم التي اشتهرت بالعصور الذهبية وقت ارتقاء حضارتها ثم نفتش فيها عن الصفات البارزة التي تشترك فيها وتعد هذه الصفات شرطا للحضارة أو التمدن الراقي، وهذا هو ما فعله المستر بل، فإنه بحث حضارة الإغريق القدماء في القرنين الرابع والخامس قبل الميلاد، ثم بحث عصر النهضة في إيطاليا، ثم العصر السابق للثورة الفرنسية في فرنسا، ووجد بالمقابلة أن هذه العصور الثلاثة تشترك في جملة صفات هي ما نعني نحن الآن بالحضارة الراقية، وهذه الصفات هي سيطرة العقل وتسويده على جميع المناحي التي ينحو إليها نشاط الأمة، وهذه السيطرة التي للعقل تورث الأمة ذوقا خاصا يحترم الحق والجمال، ويبعث على التسامح وشرف الذهن، والتأنق والمجاملة والاستطلاع، وإدراك معنى الفكاهة، وكراهة الإسفاف والقسوة والمبالغة والخرافات والحياء الكاذب، والتجرؤ على التمتع بالحياة، والرغبة في الحصول على تربية حرة، والقدرة على الإعراب عما في النفس.
وهذه هي صفات الحضارة الراقية كما يراها المستر بل في أحسن العصور الذهبية لثلاث أمم من أعظم الأمم في تاريخ العالم، وهي مقياس يمكننا أن نقيس به الدرجة التي بلغناها في معارج الرقي، وأول ما نتساءل عنه هو: هل نحن نجعل للعقل السيطرة التامة في شئوننا العامة؟ ثم هل نحترم الجمال والتسامح ونكره القسوة والمبالغة؟
إن المتتبع للغة الصحف في الشهرين الماضيين لا يتمالك الأسف لما بلغته من الإسفاف في وصف خصومها، والمبالغة في هذا الوصف، حتى لقد ذكر أحد الكتاب حزبا من الأحزاب بأن أعضاءه عواهر، ولم يقنع بهذه اللفظة العامية المعبرة عنها.
إن في سمات الحضارة الراقية التي ذكرها المستر بل أشياء جديرة بالنظر والدرس، ولكن نحن في ظروفنا الحاضرة نرى أن شروط المجاملة والتسامح وكراهة المبالغة والإسفاف قد غابت من الصحف في الشهرين الماضيين، وصار الكاتب يصف خصومه السياسيين بالجنون والخيانة والعهر وسائر مترادفات هذه الألفاظ وهو لا يبالي بما يقول، فعلينا جميعا أن نذكر أمثال هذا الكاتب بشروط الحضارة الراقية ونسأله: هل أنت متمدن؟
الفصل الثالث والخمسون
في التقدم
تتقدم الأمم وترتقي بجملة وسائل ، منها التسلط على الطبيعة، وذلك باختراع الآلات التي توفر على الإنسان مشقة العمل وتزيد بذلك حريته ورفاهيته، ومنها الارتقاء في الأخلاق، وليس هذا الارتقاء سوى الرضى بالتعاون بدلا من التنازع والنزول عن الأثرة من أجل الإيثار، ومنها رفع المستوى في التعليم حتى يفوز كل إنسان بحقه في الثقافة العالمية.
هذه بعض الوسائل التي تتقدم بها الأمم، فأما من حيث التسلط على الطبيعة واستغلالها لمصلحة الإنسان فهذا واضح من الآلات الكثيرة التي لا تجعلنا نركب الهواء فقط، بل نزرعه كما نزرع الأرض ونستخرج منه النتروجين، وكذلك تقدم الصناعة بالكيمياء التي جعلتنا، أو بالأحرى جعلت من هم أعلم منا وأثقف، يصنعون الحرير من الكرنب والموز والحطب وربما قضوا على زراعة القطن عندنا يوما ما.
ولكن إلى جانب هذا التقدم الصناعي نجد تقدما في الأخلاق، فالرق ألغي منذ القرن الماضي، وكان إلغاؤه لحافز إنساني لأن الأديان لم تحرمه قط، وكانت المرأة إلى وقت قريب في معظم أرجاء العالم تعيش كالأمة التي لا رأي لها في شأن ما أمام زوجها، ولكن الرجل نزل عن حقوقه راضيا ورفعها إلى مستواه فصار لها رأي في البرلمانات وسائر المجالس النقابية، وقد كان من الحوادث الجميلة في عصرنا الحديث أن نرى أمة كبيرة تبلغ نحو 130 مليونا من السكان، نعني بها الولايات المتحدة، ينزل فيها الرجال عن حقهم في شرب الخمور ويحرمونها على أنفسهم بشرعة خاصة وفي الوقت نفسه يمنحون المرأة حق التصويت للهيئات النيابية أسوة بهم. أليس هذا ارتقاء في الأخلاق؟
ومن الظواهر التي تدل على التقدم في الأخلاق تلك العناية التي نراها لمصلحة العمال، وتعليمهم، وإسكانهم في مساكن نظيفة، وتحديد ساعات العمل لهم، ومنحهم المعاشات عندما يبلغون سن الشيخوخة، فهذه العناية قد قام بها الأغنياء لمعاونة الفقراء، وكان الدافع إليها تلك الأريحية التي يشعر بها الرجل المهذب فتسخو نفسه بالإصلاح ولو كان فيه بعض الخسارة أو المشقة عليه، وقد قامت أحزاب الأحرار في أوروبا وأمريكا بضروب من الإصلاح لم تتحقق للآن في روسيا نفسها، بل الواقع أن في إنجلترا من الاشتراكية أكثر مما في روسيا، وليس ذلك إلا لأن في إنجلترا طبقة من الأغنياء المهذبين نزلوا عن كثير من حقوقهم راضين للعمال، ولم يكن لهم من باعث سوى أخلاقهم.
وثم وسيلة ثالثة نراها في التعليم وارتقائه بين الأمم المتمدنة، فمعظم الأمم الراقية الآن لا تقنع بالتعليم الابتدائي الإجباري، بل تتجاوزه إلى جعل التعليم الثانوي أو بعضه إجباريا، ولم يعد التعليم يجري على التقاليد القديمة، بل هو يماشي حاجات الثقافة الحديثة، ففي ألمانيا يتعلم التلاميذ في إحدى المدارس الابتدائية كيف يصنعون الطيارات ويركبونها، وفي معظم المدارس الألمانية أيضا يتعلم الصبي صناعة التصوير بالفتوغرافية.
هذه الأمثلة للتقدم، أي التقدم في الصناعة والأخلاق والتعليم، تدل على رقي محسوس لا يمكن أحدا منا إنكاره، وقد يمكننا أن نذكر بعد ذلك تقدم العالم في الصحة وفي العلاقات الأممية، كما يدل على ذلك ميثاق كيلوج وعصبة الأمم ومحكمة لهاي، وكلها ترمي إلى محو الحروب فلا نشك بعد ذلك في أن العالم يتقدم.
الفصل الرابع والخمسون
الاجتهاد
يستخدم علماء الشريعة الإسلامية السمحاء لفظة «الاجتهاد» لمعنى آخر غير المعنى اللغوي الذي هو استفراغ الجهد في تحصيل أمر من الأمور، فالمجتهد، في حدود الشريعة واصطلاح الأصوليين، هو ضد المقلد. أو هو الذي يستنبط الأحكام بذهنه ومنطقه حين يجد أن التقيد بالتقليد لا يعود بالمصلحة المنشودة للأمة.
وما أحرانا نحن بأن نكون «مجتهدين» أيضا، فلا نقلد الأدب أو العلم أو الحياة ذاتها وإنما «نجتهد» في استنباط الأساليب المثلى للمعيشة، فنلبس ونأكل ونسكن كما تلهمنا عقولنا، وكما يثبت لنا الاختبار والتجربة أن هذا الأسلوب أو ذاك هو خير ما يضمن لنا الراحة والصحة والسلام والطمأنينة، فليس علينا أن نقلد آباءنا وأسلافنا بلا روية ونعيش كما كانوا يعيشون، نلبس ملابسهم ونلزم أخلاقهم ونبني منازلنا على طرائقهم، وإنما علينا أن «نجتهد» ونستنبط ونصطنع أمثل الطرق التي تضمن لنا الفوز والراحة في هذه الدنيا، فتسير حياتنا في تجدد مستمر ولا تركد ذلك الركود الآسن الذي يرى الآن في الأمم الميتة .
والتجديد في الحياة يرمي إلى وضع العقل فوق النقل، وإلى العناية بالحاضر أكثر من الماضي، وإلى رعاية الخلف القادم أكثر من السلف البائد، وهو دليل على أن الأحياء ينبضون قوة ونشاطا يمرحون من حرية الحياة في ميدان فسيح لا تحوطه الأسوار ولا تقيدهم الأغلال.
وما أحرانا بأن «نجتهد» في الأدب فنستنبط فيه الوسائل التي تلائم حياتنا الجديدة وتجعله صورة لهذه الحياة يعمل في نقدها وبسطها، والتوسع فيها، غير قانعين منه بالتقليد ولزوم الطرق القديمة.
أجل إننا في حاجة إلى «المجتهدين» في الأدب وإلى المجتهدين في الأخلاق، ولكن أساس ذلك كله يجب أن يكون «الاجتهاد» في الحياة، ولن يكون ذلك إلا بأن نعمل عقولنا في طرق العيش الشائعة فنصلح ونستبدل منها غيرها ولا نرضى بشيء مما خلفه لنا السلف إلا ما يتفق والمنطق والعقل والمصلحة.
إن العلوم لم تتقدم إلا عندما خرج العلماء من التقليد إلى العقل، أي من التقليد إلى الاجتهاد، فبعد أن كانت الجامعات تعاقب الطالب إذا أخطأ في شيء نص عليه أرسطوطاليس صارت تكافئه إذا استطاع أن يقع على غلط لهذا المعلم الأول، ومما يروى بهذه المناسبة أن طالبا وجه نظر أستاذه عند بدء استعمال التلسكوب إلى أعلى أن على الشمس بقعا، فكتب إليه الأستاذ يقول: «لا يمكن أن يكون على الشمس بقع؛ لأني قرأت كتاب أرسطوطاليس مرتين من أوله إلى آخره، وهو قد قال إنه لا بقع على الشمس، فنظف منظارك فإذا لم تكن البقع عليه فهي على عينيك.»
ولكن الطالب لم يقلد مثل أستاذه بل صدق عينيه، ونحن نعرف أن الطالب كان محقا وأرسطوطاليس مخطئا.
وبمثل هذا الطالب تقدمت العلوم هذا الحد العظيم حتى بتنا أحيانا نخشاها ونرى أننا لا نستطيع اللحاق بها؛ لأن سرعة تقدمها تفوق وتعدو حدود النظم الاجتماعية الراهنة التي مهما تطورت فإنها دون التقدم العلمي وأبطأ منه.
فنحن في حاجة إلى مثل هذا النظر في الأدب، حتى نعمل كما عمل هذا الطالب في اعتماده على العقل دون النقل، بحيث لا نخشى أن نقول إن ذلك الشاعر أو الكاتب كان مخطئا، وأن ذلك الأسلوب البليغ في عرف القدماء هو في نظرنا معقد عويص بلا داع إلى تعقيد أو تعويص. كذلك نستطيع أن نجهر بأن تلك الأخلاق القديمة لم تعد توافقنا فنحن في حاجة إلى «الاجتهاد» فيها والخروج من التقليد.
وبعبارة أخرى يجب أن نتجدد في أخلاقنا وأدبنا وشرائعنا، وأن ننزل هذه الأشياء كلها منزلة العلم الذي لم يتقدم إلا بالخروج على السنن القديمة والتقاليد العتيقة.
وقد يخشى بعض الناس أن الإفراط في ترك التقاليد يؤدي إلى الفوضى، ولكنهم ينسون أن الإنسان بطبيعة الوسط الذي يعيش فيه محافظ يكره التبديل ويرى فيه ما يجهد ذهنه وأعصابه، فاللغة التي نتكلمها هي لغة ألوف السنين الماضية، وهي تطبعنا بالرغم منا بطابع السلف، وعاداتنا وأدياننا ومعظم أحوالنا المعيشية هي عادات الآباء التي لا نستطيع الخروج منها إلا قليلا مهما اجتهدنا.
ولكن على هذا القليل يتوقف تقدم الناس ورقيهم وتفوقهم.
Unknown page