فهل لنا أن نطلب إلى الشيخوخة المسنة أن تتمهل وتتسامح مع نشاط الشباب، وأن تعرف أن الأمة تحتاج على الدوام إلى النظر إلى الأمام وإلى المستقبل كما تحتاج أحيانا إلى النظر إلى الخلف وإلى الماضي؟
لن يضير الأمة أن يؤلف أحد شبابها كتابا يخالف رأي شيوخها لأن هذا الكتاب ستتناوله العقول بالنقد والتمحيص، فيزول غثه ويبقى ثمينه على مدى الزمن، فلنقتل الكتاب بحثا وفحصا، ولكن يجب أن نترك المؤلف فلا نطلب أن نقطع رزقه؛ لأن هذا الطلب الأخير هو من الخطط التي اندثرت بزوال القرون الوسطى حين كانت «محكمة التفتيش» تصادر من تتهمه بالزندقة في أملاكه وتصفيها.
إننا لا نزال جهلة بحقائق هذا العالم، وجهلنا هذا يمنعنا من البت والحزم؛ ولهذا يجب أن نتسامح فيما يقوله غيرنا؛ لأننا لسنا من الثقة بآرائنا بحيث نستطيع أن نقطع بسخافة آراء الغير أو ضررها، ويجب أن نتذكر أن لكل جديد صدمة تشبه ما تلاقيه النفس لأول ما تسمع لحنا جديدا، فقلما نستطيب اللحن الجديد لأول سماعنا إياه ولكن الاستطابة تعقب المعاودة، وكذلك الآراء الجديدة تصد عنها النفس كما تصد عن الزي الجديد ثم تستحسنه بالمعاودة والألفة، والتقدم والرقي كلاهما مستحيل ما لم نقبل الجديد ونتسامح فيه.
الفصل الثالث
كيف وماذا نقرأ
الناس رجلان: أحدهما يحتال للانتفاع من وقته، كأنه يجعل من الساعة ساعين، والآخر يحتال لإضاعة وقته بحيث يحيل الساعة إلى نصفها أو إلى العدم، وهناك وسائل عديدة عند هذا الفريق الأخير لقتل الوقت وتضييع الفرص وتقصير العمر، حتى لتشعر من إتقانهم معرفة هذه الطرق أنهم يندمون على أنهم قد ولدوا إلى هذا العالم، ويمكنك أن تحيل النظرات في القهوات وتدرس بعض الألعاب حتى تتأكد أنها كلها تمارس هربا من الحياة وسآمة من الدنيا وندما على الوجود.
لسنا بسبيل الكلام مع هؤلاء وإنما نريد أن نتحدث إلى الفريق الأول الذي يحتال للانتفاع من وقته، والذي لا يندم على وجوده في هذا العالم، فمن ضروب الانتفاع بالوقت واكتساب القوة بإثارة الذهن نجد القراءة في المكان الأول، وقد كانت القراءة من وسائل الرقي في الأزمنة الماضية ولكنها كانت من الوسائل الثمينة التي لا ينالها إلا المبالغون في الجد وأبناء الأثرياء. أما الآن فهي ميسرة للجميع لا يتكلف طالبها سوى أقل المال أو لا يتكلف شيئا مطلقا.
وسيأتي زمن ما يعيش فيه الإنسان ليقرأ ولا يكاد يجد عملا في العالم يكده ويملأ فراغه. بل يمنح كل وقته تقريبا لمثل القراءة والدرس.
ولكن كيف يجب أن تكون القراءة؟ هل يجب أن نسير فيها ونسلك سبيلها على النحو الذي يسلكه لاعب النرد أو الشطرنج، تزجية للوقت وفرارا من الحياة، فنقرأ القصص تلو القصص وعشرات المقالات «السياسية» يرادف معناها في الواحدة معاني الأخرى؟
كلا، إنما يجب أن نقرأ لننتفع، فالمعرفة قوة والجهل عجز، فلنقرأ إذن كي نعرف ونزداد علما بالأشياء، كي نزداد بذلك إدراكا للحياة وإحساسا بها، وليس في مقدرة كل منا أن يختبر جميع شئون هذه الدنيا اختبارا مباشرا، إنما في مقدورنا جميعا أن نكتسب علما بها عن سبيل الآخرين الذين اختبروها وأثبتوا اختبارهم بأقلامهم لمنفعتنا.
Unknown page