كان فكري وفكر صديقي قد تقاربا إلى الحد الذي جعل كلينا يأنس إلى صحبة الآخر؛ ليجد فيه مرآته العقلية، ولم يكن تقاربنا الفكري دمجا لنا في خط واحد، بل كان كالتقارب الذي يحدث بين لاعبين، يتلاقيان ليقذف كل منهما الكرة في اتجاه مضاد للاتجاه الذي يقذف زميله الكرة فيه، فكل من اللاعبين يحتاج إلى الآخر لتتم بينهما اللعبة، وهي لا تتم على الوجه الأكمل إلا إذا تقاربت قدرتاهما؛ لأن القدرتين إذا ما تفاوتتا تفاوتا بعيدا، لم يكن هنالك تبادل بين اللاعبين يطول أمده ساعة أو نحوها، وإنما يكون هنالك صارع وصريع ينتهي بينهما اللقاء لحظة وقوعه.
كان بيني وبين صديقي ذاك اختلاف بعيد في وجهات النظر، لكن التقارب في القدرة العقلية هو الذي كان يكفل لنا أن يطول بنا الحوار الذي نتقاذف فيه الأفكار وأضدادها، فيخرج كلانا من الحوار وقد ازداد عمقا واتساعا. لا، لم نكن متشابهين في التخصص العلمي؛ فمجاله الطب، ومجالي الفلسفة، لكن التشابه بيننا يجيء من الفوقية الثقافية التي تكاد عندها تختفي الفوارق الفواصل بين فرع من التخصص وفرع، وإن هذه الفوارق لتزداد حدة وظهورا عند من ضاق أفقه فلم يعد يرى إلا جدران تخصصه العلمي. وكثيرون جدا هم أولئك الذين ضاقت آفاقهم على هذا النحو الغريب، فتكون النتيجة أن يضعف إدراكهم في ميدان تخصصهم العلمي ذاته؛ فالأمر هنا هو كالأمر الذي أشار إليه الشاعر الإنجليزي رديارد كبلنج حين قال مستحثا مواطنيه على السفر في أرجاء العالم؛ إذ قال: إن الإنجليزي الذي لا يعرف من دنياه إلا بلاده إنجلترا، لا يعرف إنجلترا نفسها. وهو يريد بقوله هذا أن ينبه الناس إلى أن الشيء إنما يعرف بمقارنته بسواه. إنك تستطيع أن تعرف كل تفصيلة من تفصيلات دارك من الداخل، ولكنك إذا لم تخرج عن نطاق دارك لتعرف أين تقع هذه الدار من القاهرة، وأين تقع القاهرة من مصر، وأين تقع مصر من العالم، كنت خليقا أن تضل عند أول خطوة تخرجك من بين جدرانك.
لقد استطردت فأطلت.
أردت أن أقول إنني قد التقيت بصديقي الذي أروي قصته، لا في محابس التخصصات العلمية، بل التقيت به في الأبهاء العلوية التي تجاوز الفواصل بين الغرفات وتغطيها جميعا بسقف واحد، ومع ذلك فقد كان اللقاء بيننا غالبا ما يتم على أرض الفلسفة؛ لأن الفلسفة - بطبيعتها - هي نفسها الملتقى الذي يجتمع عنده جذور المعرفة على اختلاف صفوفها، فكنت أنا أقرب من صديقي صلة بفرع دراسته، فكانت هنالك علاقة قوية بين مهنتي في الصباح محاضرا في الفلسفة، وأحاديث فراغي في المساء، وبرغم ذلك فقد كان صديقي من سعة الاطلاع، وحدة الذكاء، والقدرة على ربط الأفكار بعضها ببعض، بحيث وجدت في حديثه لفتات جديدة في ميدان الفلسفة ذاته، دون أن ندخل معا في التفصيلات التي عادة ما تسم التخصص الجامعي - أو قل التي تصمه - فتمتص منه عذوبة الرحيق.
إن الشجرة حين تخضر أوراقها وتينع، لا تدري من أين جاءتها الخضرة اليانعة، إنها لا تعي الارتواء الذي يرتوي به الجذع ويوزع به الماء على أليافها، وكذلك يكون الأثر المتراكم من لقاءات الأصدقاء حين يلتقون على حوار فكري خصب مثمر، فليس مثل هذا الحوار جدالا فيحاول به كل من الطرفين أن يهدم منافسه، وإنما هو محاورة تنتقل بها الكرة من زميل إلى زميل في طريقها إلى الهدف؛ فهي محاورة يتعاون بها الزميلان على البناء، وليست هي بالأداة التي يعملان بها على الهدم والتحطيم، وإنني لعلى يقين من أن لقاءاتي المتكررة مع صديقي ذاك طيلة أمد يقرب من عشرين عاما، قد أينعت أوراقي بالخضرة الحية، التي إذا استطعت أن أرى ثمارها فقد لا أستطيع أن أتعقب خطوات نهائها.
لم نكن متشابهين في أسلوب الحياة؛ فهو أحرص مني عليها، يخشى الموت أكثر جدا مما أخشاه، ويخاف الفقر أكثر جدا مما أخافه، ويسعى إلى زيادة الكسب وتكديس المدخر أكثر جدا مما أسعى، وكان بحكم مهنته الطبية يجد طريق الكسب ميسرا أمامه، ولم يكن الغريب أن تنهال عليه الأموال ألوفا ألوفا، ولكن الغريب هو أن تتراكم الألوف فوق الألوف، ثم لا يغير ذلك من حرصه شيئا، فلربما اشتد حرص الشباب في أعوام شبابه؛ لأنه لا يدري هل يجيئه الغد بمال بدل المال الذي ينفقه اليوم؛ وبهذا الخوف من المجهول لا يكون في حرص الشباب ما يدعو إلى العجب. وأما الشيخ الذي يذهب من عمره أكثره وأفضله، ولا يبقى منه إلا أقله وأرذله، والذي يجد المال قد أصبح أكداسا بين يديه، ثم يظل يزن القرش بالميزان نفسه الذي كان يزنه به في أول الطريق، فذلك هو موضع العجب.
كان ذلك هو موقف صديقي الذي أثار في عارفيه مثل هذا العجب، لكنه كان ينظر إلى ماله نظرته إلى حياته - وقد قالها لي مرة - إن ماله هذا هو حياته نفسها بعد أن ترجمت تلك الحياة إلى عمل ، ثم ترجم ذلك العمل إلى مال، فمن توقع منه أن يفرط في ماله، فقد أراد له أن يهدر حياته الماضية كلها هباء.
كان صديقي مصابا بداء الجمع - وما جمع المال إلا حالة واحدة من حالات أخرى كثيرة - فهو يجمع المال لذات المال، ثم يجمع الكتب لذات الكتب، ويجمع الأفكار لذات الأفكار، وها هنا كانت قوته، ولكن ها هنا أيضا كان ضعفه؛ لأنه إذا كان المال المتجمع الذي لا يجد سبيلا إلى الإنفاق هو في حقيقته كالعضو الأشل؛ يحتفظ بصورة العضو السليم لكنه لا يؤدي أداءه، فيفقد بذلك مبرر وجوده؛ فكذلك الأفكار التي تتجمع دون أن تتحول إلى قدرة على تشكيل الحياة العملية، ودون أن تكون عند صاحبها وجهة معينة للنظر إلى الكون، وإلى الإنسان، وإلى العلم والفن، فهي عندئذ موسوعة حافظة، لكنها ليست بذات مهمة تؤديها في الحياة اليومية الجارية؛ فقد يلجأ إليها الناس ليستمدوا منها المعارف الجزئية، وأما هي نفسها فقائمة هناك على رفوفها كقطع الجماد.
وهكذا كان صديقي واسع العلم بغير وجهة للنظر؛ ولذلك لم يكن هناك ما يمنعه من أن يدافع اليوم عن مذهب كان يهاجمه بالأمس؛ لأن المذهب في حد ذاته لا يعنيه، وإنما الذي يعنيه هو أن تزداد حصيلته الفكرية بكل ما تشتمل عليه من أضداد ومتناقضات؛ فلو أردت أن توجز الوصف لصديقي هذا، لقلت إنه ملتقى مجموعتين حصلهما بكده وكدحه طوال السنين؛ مجموعة أموال أودعت الخزائن، ومجموعة أفكار أودعت الدماغ؛ فلا المجموعة الأولى تتحول إلى وسائل عيش، ولا المجموعة الثانية تتبلور في وجهة للنظر، وكان حرصه على الأولى شبيها بحرصه على الثانية؛ فهو يستعرض الأولى كل يوم بالعد والحساب، ويستعرض الثانية كل ليلة بالكلام والشرح والحوار.
فهل تصدق أن تنزل به النازلة في المجموعتين معا في لحظة واحدة؟ فإذا المال كله يتبدد، لا أقول بين عشية وضحاها، بل أقول في عشية لم تشهد ضحاها، وإذا أفكاره كلها حبيسة رأسه لا ينطق عنها لسان!
Unknown page