أما بعد، فمن الذي أنشأ لنا هذا الكائن العجيب ابتداء، ثم رعاه تطورا ونماء؟ وأعني الكتاب. هذا الكتاب الذي يحدد للرائي معالم الطريق الحضاري من أوله إلى آخره إذا كان له أول وآخر. فكر في أي حضارة شئت، أو في أي مرحلة من حضارة، تجدها بدأت بكتاب وانتهت بكتاب، ثم أخذت سبيل حياتها فيما بين الكتابين بمجموعات من كتب تبث فيها الأنفاس وتملأ خلاياها بالغذاء. سل: متى بدأت حضارة اليونان الأقدمين ومتى انتهت؟ الجواب: بدأت بإلياذة هومر، وانتهت بالأناجيل. ثم سل: متى بدأت أوروبا الحديثة ومتى انتهت؟ الجواب: بدأت بكتاب نيوتن في مبادئ الفيزياء، وانتهت بظهور فلسفة هيجل. وكذلك بدأ الإسلام بكتاب الله، وإن الله لحافظه بإذنه فلا ينتهي بكتاب سواه.
وأعود فأسأل من ذا الذي أنشأ لنا صناعة الكتاب، فلا يكون الجواب عندي إلا أن أقول: إنها الإنسانية بأسرها؛ فلقد ألفنا أن نرى الكتاب مطبوعا، فننسى أن مرحلة الطباعة هذه لا تزيد على جزء من عشرين جزءا هي تاريخ صناعة الكتاب. قبل الكتاب المطبوع كان النساخون ينسخون بأيديهم ما شاءوا هم، أو شاء لهم أصحاب المال أن ينسخوه لهم، وإنها لمقارنة ممتعة أن توازن بين العهدين في تاريخ الكتاب، ما بعد المطبعة وما قبلها؛ فقبلها ندر الغث وكثر النفيس؛ لأنهم - بالبداهة - لم يريدوا أن يضيع عناء النسخ فيما لا يستحق العناء، وأما بعد المطبعة فقد قل النفيس وكثر الغث، حتى لتبحث عن ذلك النفيس فتجده واحدا من كل ألف كتاب. وقبل المطبعة كانت المادة المكتوب عليها من المتانة بحيث تضمن لها ما يشبه الخلود، وأما بعدها فالورق كثيرا ما يفسد لأول شعاع من الضوء يقع عليه. وعرف الناس ذلك، فعوضوا عن سرعة الفساد بكثرة النسخ المطبوعة، كأنه عالم الذباب، يعوض ضعف البنية بسرعة التكاثر، ولكن هل كان من هذا التكاثر السريع بد؟ إن قراء الكتب اليوم لم يعودوا كما كانوا، قلة قليلة ممتازة، بل هم الكثرة الكثيرة التي تشمل الناس جميعا أو تكاد. لقد انقضى عهد كانت القدرة على الكتابة والقراءة فيه كالكهانة، مقصورة على من يستطيع بالكلمة أن يستنفر ملائكة الرحمة أو شياطين العذاب كلما أراد، وجاء عهدنا هذا وفيه الأمية ممحوة عن معظم أهل الأرض؛ فالكل قارئون؛ ومن ثم تفاوتت مادة القراءة في الكتب من البساطة البسيطة في أدنى الهرم إلى العمق العميق عند قمته؛ فليس هو من قبيل النقد الساخر أن نقول إن النفيس من الكتب قد بات كتابا واحدا من كل ألف كتاب، بل هو من قبيل الوصف الذي يقرن الظاهرة بعصرها. ولم يكن الكتاب ليؤدي دوره الحضاري خير أداء، لو ترك الجماهير القارئة في عصر الديمقراطية هذا بغير مقروء، متعاليا وحده هناك في صلف لا يخاطب إلا رءوس القمم، وكل ما يحق لنا أن نطالب به هنا هو أن يجود الكتاب عند كل طبقة قارئة بما يناسبها، كسنة الحياة في سلم الأنواع؛ فليس يعيب القط أن يكون قطا ولا يكون أسدا. وإنني لأذكر هذه الملاحظة عابرا لمن يتحدثون عن الكم والكيف في الكتب، بغير دقة ولا حساب.
6
وعند هذا الموضع من الحديث يجيء ذكر القراءة، فماذا تجدي خزائن الدنيا من الكتب إذا لم يكن لها قارئ؟ قال الله - عز وجل - لنبيه - عليه السلام -
اقرأ ... ، ثم جعل هذا الأمر قرآنا، بل جعله أول التنزيل ومستفتح الكتاب، إلا أن الشوط لا تتم مراحله إلا بقارئ؛ فأول الطريق فكرة، وثانيها قلم ولوح، وثالثها ضروري قارئ يتلو ما قد خطه القلم. كان الكتاب في كل عصور التاريخ هو الشرر الذي يلهب الأفئدة، فتثور لتغير الجانب القبيح من وجه الحياة بجانب أفضل منه. اقرأ تاريخ الثورات في شتى أوضاعها وكل ألوانها، تجد الثورة مسبوقة دائما بكتاب؛ وهل كانت الثورة الفرنسية - مثلا - لتشتعل بغير فولتير، أو الثورة الأمريكية بغير جون لوك وتومس بين؟ وهل كانت الثورات العربية ليضطرم لها أوار بغير حملة الأقلام في الكتب والصحف، أو بغير سادة الكلمة من خطباء المنابر ومن الشعراء؟ ولكن ذلك كله يحتاج بالضرورة إلى عين تقرأ، وأذن تسمع، وعقل يفهم ويعي.
على أن الكتب ليست كلها سواء، لا في الوسيلة ولا في الهدف؛ فقد تكون آنا وسيلة تسلية للمعتزل، ينشد بها أزجاء الفراغ، وآنا آخر للدعي المتظاهر، يريد أن يجد ما يزهي به في حلقات السمر، لكن أهمها ما يكون لزيادة القدرة في جانب من جوانب الحياة النافعة. وإن من الكتب - كما قال فرانسيس بيكون - ما يكفيه أن يذاق بطرف اللسان، ومنها ما ليس يحتاج إلى أكثر من أن يزدرد ابتلاعا، ولكن منها كذلك ما لا بد فيه من التمهل في المضغ الجيد والتمثل؛ ليسري غذاؤه في شرايين الجسم وخلاياه؛ فأما ما يكفيه أن يذاق بطرف اللسان، فهو الكتاب الذي تقرأ منه صفحة وتهمل صفحات، حين تراه يمط القول مطا سقيما، وأما ما يزدرد ابتلاعا، فهو الذي تتصفحه سريعا، فيقع بصرك منه على كل صفحة من صفحاته، ولكنه يقع في عدو سريع، وأما النوع الثالث الذي هو حقيق بأن يقرأ على مهل وفي يقظة واعية، فهو القلة النادرة التي من شأنها آخر الأمر أن تبدل وجه الأرض تبديلا.
7
نعم! لم تكن الحضارات كلها قائمة على كتاب، لكن أدومها أثرا وأرسخها جذورا هو ما كان؛ ففي المراحل الحضارية التي اعتمدت على روايات الرواة، لم يسلم الأمر من التشويه والضياع؛ هذا هو الشاعر العربي ذو الرمة يقول مخاطبا عيسى بن عمر (مولى خالد بن الوليد، وكان إماما في النحو واللغة): «اكتب شعري؛ فالكتاب أحب إلي من الحفظ؛ لأن الأعرابي ينسى الكلمة، وقد سهر في طلبها ليلته، فيضع في موضعها كلمة على وزنها، ثم ينشدها الناس ؛ والكتاب لا ينسى، ولا يبدل كلاما بكلام.»
واسمحوا لي أن أقرأ لكم أسطرا مما قاله عن الكتاب علم من أعلامه القدامى، وهو الجاحظ؛ فقد قال مما قال: ... إن شئت ضحكت من نوادره، وإن شئت عجبت من غرائب فرائده، وإن شئت ألهتك طرائفه، وإن شئت أشجتك مواعظه؛ ومن لك بواعظ مله، وبزاجر مغر، وبناسك فاتك، وبناطق أخرس، وببارد حار؟ ... من لك بشيء يجمع لك الأول والآخر، والناقص والوافر، والخفي والظاهر، والشاهد والغائب، والرفيع والوضيع، والغث والثمين؟ ... متى رأيت ناطقا ينطق عن الموتى، ولا ينطق إلا بما تهوى، آمن من الأرض، وأكتم للسر من صاحب السر، وأحفظ للوديعة من أرباب الوديعة؟
ثم يخاطب الجاحظ رجلا عاب الكتاب، فيقول له:
Unknown page