إن مشاهد الطبيعة نفسها تقاس «روعتها» (لاحظ العلاقة بين الروعة والروع) بهذا المبدأ نفسه: يتوقع المشاهد أن يرى رتابة، فإن وجدها نام واستراح، وإن انكسرت الرتابة بالاختلاف والتباين، حدث أحد أمرين؛ فإن كان سبب الاختلاف مثيرا للاهتمام كان المنظر رائعا، وإلا كان قبيحا.
الحقيقة أن مبدأ السيمترية نفسه - أو إن شئت فقل مبدأ الإيقاع - يمكن اعتباره فرعا عن مبدأ أشمل في فطرة الإنسان وطريقة تكوينه، وذلك هو ميل الإنسان أن يرى وحدة في الشيء المدرك.
فإذا كان الشيء من الصغر بحيث تدرك العين وحدته بغير عسر، امتنعت ضرورة الإيقاع بين أجزائه، أما إذا كان من الكبر بحيث تحتاج رؤيته إلى انتقال العين من جانب إلى جانب، فعندئذ تريد العين أن ترى كل جزء وكأنما هو وحدة؛ ومن ثم وجب على الفنان أن يعين العين على ذلك في انتقالها من هذا الجانب إلى ذلك من جوانب الصورة أو البناء.
وأما إذا كان الشيء أكبر جدا من أن يدركه الإنسان وهو في موقف واحد، حتى إن دار برأسه في كل الجهات - كمدينة مثلا أو غابة - فلا ضرورة عندئذ أبدا أن تجيء المدينة أو الغابة متماثلة الجوانب، بل يكفي أن يكون هذا التماثل في كل جزء منها مما يمكن للرائي أن يدركه في وقفة واحدة؛ فالمماثلة في الشارع الواحد أو في الميدان الواحد مطلوبة، لكنها لا تطلب في المدينة باعتبارها كلا واحدا.
مبدأ الوحدة التي تضم كثرة العناصر في كائن واحد هو مبدأ أصيل في الفنون على اختلافها؛ هو المبدأ الذي بمقدار تحققه يكون للأثر الفني قيمته.
فالرائي الغافل الذي ينظر إلى زهرة مثلا فيرى وحدتها ويغفل عن الكثرة المكونة لهذه الوحدة، يفوته كثير من جمال ما يراه، والذي يفوته عندئذ هو إدراك الفورم الذي يربط الأجزاء.
غير أن مجرد الكثرة لا يكفي.
فالكثرة التي هي مجرد تكرار عددي كدقات الساعة أو قضبان السور الحديدي أو صفوف الجند، قليلة الجمال لقلة فاعلية المبدأ التوحيدي.
بل لا بد أن تكون الأفراد منوعة، ومع ذلك يكون بينها وحدة، كأعضاء الجسم الحي؛ فالأفراد في زحمة من الناس أجمل من الأفراد في صفوف، والأشجار في غابة أجمل منها في حديقة منسقة.
نعم إن للتكرار العددي جماله، لكنه جمال تكفيه لمحة، وليس هو الجمال الذي يزداد غزارة كلما عاودنا إدراكه.
Unknown page