فاعترضه الرجل الرحالة قائلا: «لا يحق لنا أن نشكو من حكم القوط على الإجمال، فإن بعضهم كان كثير الرفق بنا وبخاصة غيطشة الملك السابق؛ فإنه كان عازما على تحرير رقابنا وإطلاق حرية الدين لنا، ولكن المنية عاجلته أو هم عجلوها له، فخلفه الطاغية رودريك وهو من أظلمهم جميعا قبحه الله .»
يوليان
فانتبه الرئيس لوجود ابن غيطشة بينهم وأعجبه ما قاله الرحالة من إطراء أبيه فقال: «لقد نطقت بالصواب، وعلى كل حال فإننا وددنا لو أن هؤلاء العرب يأتون إلى إسبانيا، ولا نظنهم يلقون صعوبة كبرى في فتحها؛ إذ ما من طائفة من أهلها لا تشكو من الحكومة.»
فقال الرحالة: «إن هذا الأمر الذي تتمنونه وأنتم جلوس هنا قد سعى فيه إخوانكم هناك وأنا في جملتهم، وكثيرا ما حرضنا هؤلاء العرب على ذلك وحببنا إليهم هذه البلاد، وبينا لهم سهولة فتحها وهم يهابون ذلك، ولكن يظهر أنهم أوشكوا على أن يحملوا عليها.»
فابتدره الرئيس بلهفة قائلا: «هل تعني ما تقول حقيقة؟»
قال: «نعم يا مولاي، وهو الخبر الذي جئت من أجله وكنت عازما على مباغتتكم به فأخرجنا الحديث عنه. قلت لكم إن سبتة (في موريتانيا) في جملة ولايات الرومان، فلما فتح العرب أفريقيا أصبحت موريتانيا منفردة عن مملكة الروم، فانحاز صاحبها إلى إسبانيا ليكون في كنف دولة نصرانية وقاعدتها فرضة سبتة على بحر الزقاق (بوغاز جبل طارق). ولما خرجت أنا من إسبانيا إلى موريتانيا كان حاكمها رجل اسمه «يوليان»، فتظاهرت بالنصرانية وعمدت إلى تجارتي أشتغل بها وأنا أرتحل في البلاد وأعود إلى سبتة، وفي نفسي ما تعلمون من الغيظ لطائفتي لما تقاسيه من الفتك والعسف تحت نير القوط، فأتيح لي أن أنتقم لها من يوليان هذا انتقاما ليس هذا محل ذكره، وكنت مع ذلك من المقربين إليه يثق بي ويسر إلي بأموره، وأنا أظهر له الود وأغتنم الفرص لتحقيق بغيتي؛ وما هي إلا أن أحبب إلى العرب فتح هذه البلاد، ولكني أعلم أن السبيل إليها لا يكون إلا إذا فتحوا سبتة لوقوعها على بحر الزقاق، وهو أقرب سبل العرب إلى هذه البلاد.
وكان عامل العرب على أفريقيا في الأعوام الأخيرة رجلا منهم اسمه موسى بن نصير، وهو شجاع ذو همة، فبعث رجاله حتى فتحوا طنجة، وأقاموا فيها وحاصروا سبتة من البر، ويوليان ممتنع فيها صابر على ولاء القوط مع علمه أن صبره لا يجديه نفعا ، ولكنه لا يستطيع الخروج من طاعة رودريك لأسباب لا تجهلونها.»
فلما ذكر اسم يوليان خفق قلب ألفونس لعلمه أنه والد حبيبته فلورندا، وأصاخ بسمعه لعله يسمع شيئا يتعلق بها، فلما وصل الرجل إلى قوله: «إن يوليان لا يستطيع الخروج من طاعة رودريك لأسباب لا تجهلونها» أدرك أن أهم تلك الأسباب هو وجود فلورندا في بلاط رودريك، كأنها رهينة عنده يضمن بها طاعة والدها له، وتذكر حاله مع فلورندا وأنها خرجت من حوزة رودريك؛ فهب بدنه كأنه رش بالنار، ولكنه صبر ليسمع بقية الحديث، وكان الرئيس قد أجاب الرجل قائلا: «لا نجهل تلك الأسباب، ثم ماذا؟»
فقال الرجل: «وكنت أنا في أثناء ذلك الحصار في قصر يوليان أجالسه كثيرا، وهو يركن إلي ويقربني منه لثرائي وسعة تجارتي، لعله يحتاج إلى مال أو مئونة في أثناء الحصار، وأنا أشد منه رغبة في ذلك التقرب كما تعلمون. فأصبحت منذ أيام وأنا في منزلي وإذا برسول يوليان يدعوني إليه عاجلا، فمضيت حتى إذا دخلت قصره وأشرفت على باب غرفته، رأيت شابا خارجا منها يبدو من مظهره أنه قادم من سفر بعيد، وبدا من مظهر ملابسه أنه من أهل طليطلة وأحسب أنه من خدم الملك، فمر الرجل ولم يكلمني فسرت حتى دخلت الغرفة، وكنت أدخلها دائما بلا استئذان، فرأيت يوليان جالسا على كرسي بجانب نافذة تطل على البحر الكبير، وبيده شيء قد قبض عليه وهو غارق في الهواجس، فلما سمع خطواتي نهض بغتة ورمى إلي بما كان في يده، وقد أخذ الغضب منه مأخذا عظيما وهو يقول: «اقرأ هذا يا فلان وانظر مقدار شقائي وتعاستي، ما كفتني المصيبة التي أصابتني من أول عهد شبابي حتى بليت بأقبح منها، من رجل أنت تعلم أني أقاسي عذاب الموت في سبيل المحافظة على ولائه.» فالتقطت ما رماه فإذا هو قطعة من قماش، أظنها مقطوعة من قميص أو رداء، وعليها كتابة حمراء كأنها كتبت بالدم، ولما قرأتها اقشعر بدني استغرابا، ولكن قلبي كاد يطفح سرورا لعلمي أن في ذلك الكتاب حلا للمشكلة التي أصابتنا.»
وكان ألفونس في أثناء ذلك في منتهى الاضطراب، وكان سائر السامعين في غاية الإصغاء لما يتوقعونه من الخير الجديد، فقال الرجل: «فقرأت الكتاب فإذا فيه ما معناه:
Unknown page