أبطال الرواية
مراجع هذه الرواية
الأندلس والقوط وطليطلة
فلورندا
ألفونس
لغة الحب
المحب كثير الشكوك
موكب الملك
الروم والقوط
المحاكمة
الزيارة
طارق
العفة
الصلاة الحارة
يعقوب
المطران أوباس
رباطة الجأش
فلسفة التاريخ
رأي أوباس
الوسيلة
سر جديد
كتاب فلورندا
كتاب آخر
عود إلى القصر
تجربة أخرى
الاستنجاد
اليأس
رشوها بالماء
خطوات غريبة
التمتمة
الانتقام
أوباس في قصره
البلاغ
توقع المصيبة شر من وقوعها
الموكب
افتتاح الجلسة
المحاكمة
التصريح
التحامل
ألفونس ويعقوب
ومبا
الخمر
الفلاحون
أستجة
يوم الأحد
الدرس والسرداب
الجلسة
كشف السر
طارق جديد
حديث ذو شجون
يوليان
الإغراء
بعد فتوح الإسلام
طارق بن زياد
رودريك وأوباس
شريش وكرومها
مارية
وادي ليتة
بدر ويوليان
الهروب
الكتاب
دير الجبل
فترة انتظار
حديث مع الرئيس
مهمة جديدة
غرفة الرئيس
حقيقة الحال
الثلوج والرسول
الخبر اليقين
القائد كوميس
سرجيوس وأوباس
المروءة ومعرفة الواجب
الإقرار على الحرب
السفر
كتاب أوباس
الحيلة
مغالبة العواطف
الحب غالب
فلورندا وبدر
التوبيخ
الخصام
كشف السر الأخير
تمام الفتح
أبطال الرواية
مراجع هذه الرواية
الأندلس والقوط وطليطلة
فلورندا
ألفونس
لغة الحب
المحب كثير الشكوك
موكب الملك
الروم والقوط
المحاكمة
الزيارة
طارق
العفة
الصلاة الحارة
يعقوب
المطران أوباس
رباطة الجأش
فلسفة التاريخ
رأي أوباس
الوسيلة
سر جديد
كتاب فلورندا
كتاب آخر
عود إلى القصر
تجربة أخرى
الاستنجاد
اليأس
رشوها بالماء
خطوات غريبة
التمتمة
الانتقام
أوباس في قصره
البلاغ
توقع المصيبة شر من وقوعها
الموكب
افتتاح الجلسة
المحاكمة
التصريح
التحامل
ألفونس ويعقوب
ومبا
الخمر
الفلاحون
أستجة
يوم الأحد
الدرس والسرداب
الجلسة
كشف السر
طارق جديد
حديث ذو شجون
يوليان
الإغراء
بعد فتوح الإسلام
طارق بن زياد
رودريك وأوباس
شريش وكرومها
مارية
وادي ليتة
بدر ويوليان
الهروب
الكتاب
دير الجبل
فترة انتظار
حديث مع الرئيس
مهمة جديدة
غرفة الرئيس
حقيقة الحال
الثلوج والرسول
الخبر اليقين
القائد كوميس
سرجيوس وأوباس
المروءة ومعرفة الواجب
الإقرار على الحرب
السفر
كتاب أوباس
الحيلة
مغالبة العواطف
الحب غالب
فلورندا وبدر
التوبيخ
الخصام
كشف السر الأخير
تمام الفتح
فتح الأندلس
فتح الأندلس
تأليف
جرجي زيدان
أبطال الرواية
رودريك:
ملك القوط.
ألفونس:
خطيب فلورندا وابن غيطشة ملك الإسبان.
فلورندا:
خطيبة ألفونس وابنة الكونت يوليان حاكم سبتة.
الكونت يوليان:
حاكم سبتة ووالد فلورندا.
طارق بن زياد:
والي طنجة وقائد الجيوش الإسلامية.
الأب مرتين:
أحد أتباع الملك رودريك.
الميتروبوليت أوباس:
عم ألفونس.
يعقوب:
خادم ألفونس.
سليمان:
من أتباع الكونت يوليان.
بربارة:
خالة فلورندا ومربيتها.
مراجع هذه الرواية
هذه المراجع هي التي اعتمد عليها المؤلف في تأليف الرواية ووقائعها التاريخية:
تاريخ إسبانيا لرومي.
دائرة المعارف البريطانية.
رومي.
كيزو، تاريخ تمدن أوروبا.
دوزي.
تاريخ التمدن الإسلامي.
مونتسكيو.
ابن خلكان.
ابن الأثير.
نفح الطيب.
التقويم العام.
علم الفراسة الحديث.
جبن، تاريخ المملكة الرومانية.
الأندلس والقوط وطليطلة
الأندلس إحدى مقاطعات إسبانيا، واسمها في الأصل «وندلوسيا» نسبة إلى الوندال أو الفندال، وكانوا قد استوطنوها بعد الرومان. فلما فتحها العرب سموها الأندلس، ثم أطلقوا هذا الاسم على إسبانيا كلها.
وكانت إسبانيا في جملة مملكة الرومان الغربية إلى القرن الخامس للميلاد، فسطا عليها القوط، وهم من القبائل الجرمانية الذين رحلوا من أعالي الهند إلى أوروبا طلبا للمرعى والمعاش، وأقاموا في بوادي أوروبا، كما أقام العرب في بوادي الشام والعراق. ثم سطا القوم على مملكة الرومان الغربية قبل سطو العرب على المملكة الشرقية ببضعة قرون، وأنشئوا الممالك في فرنسا وألمانيا وإنجلترا وغيرها، وهي الدول الباقية في أوروبا إلى الآن.
وكان في جملة تلك القبائل قبيلة القوط الغربيين «فيسيقوط» سطوا على إسبانيا في القرن الخامس وفصلوها عن الرومانيين، وأنشئوا فيها دولة «قوطية» انتهت بالفتح الإسلامي سنة 92ه/711م على يد طارق بن زياد القائد البربري الشهير.
وكانت عاصمة مملكة القوط في إسبانيا في ذلك الوقت مدينة «طليطلة» على ضفاف نهر التاج في أواسط إسبانيا. وكانت طليطلة في ذلك العهد مدينة عامرة، فيها الحصون والقلاع والقصور والكنائس والأديرة. وكانت مركز الدين والسياسة، وفيها يجتمع مجمع الأساقفة كل عام ينظر في الأمور العامة.
وكان ملك الإسبان عام الفتح الملك «رودريك» والعرب يسمونه «لذريق»، وهو قوطي الأصل، تولى الملك سنة 709م، ولم يكن من العائلة المالكة، ولكنه اختلس الملك اختلاسا، وترك أبناء الملك السابقين ناقمين عليه. وكانت إسبانيا تنقسم يومئذ إلى ولايات أو دوقيات، يتولى كل دوقية منها حاكم يسمى «الدوق» أو «الكونت»، ويرجعون في أحكامهم جميعا إلى الملك المقيم في طليطلة.
وطليطلة واقعة على أكمة مؤلفة من أكمات يحيط بها نهر التاج من كل جهاتها، إلا الشمال، بما يشبه حدوة الفرس تماما. ووراء النهر من الشرق والغرب والجنوب سلسلة جبال تحجب الأفق عن أهل المدينة، وفيها مغارس الزيتون وكروم العنب وغابات السنديان والصنوبر. وفي منتصف المدينة، الكنيسة الكبرى التي جعلها المسلمون بعد الفتح جامعا، وهي على جانب عظيم من الفخامة والمناعة. وكان الناظر إذا ألقى نظرة على أبنية طليطلة من علو شاهق تبين فيها من ضروب الأبنية مزيجا من الطرز الرومانية والطرز القوطية. وحول المدينة من الشمال ووراء النهر من الجهات الأخرى مغارس الفاكهة والثمار وسائر أصناف الأشجار، إذا أطل الواقف من إحدى نوافذ منازلها أشرف عليها جميعا.
فلورندا
وكان في جملة قصور الملك رودريك قصر في شرقي المدينة على أكمة تشرف على ضفاف النهر. ويحدق بالقصر صنوف الأشجار والرياحين والأزهار على مرتفعات تتخللها مجاري الماء على غير نظام؛ مما يزيدها جمالا. ومساحة تلك الحدائق واسعة يحيط بها كلها، إلا من جهة النهر، سور حوله الحراس في منازل بنوها لهم بجانب أبواب البستان.
وكان بجانب قصر الملك قصر صغير متصل به يؤدي إلى القصر من جهة، وله باب مستقل يؤدي إلى البستان من جهة أخرى. ناهيك بقصور متفرقة في جوانب ذلك البستان، بعضها للحاشية وبعضها للأمراء، وفي جملتها قصر كبير كان يقيم فيه أولاد الدوقات والكونتات حكام الولايات، جريا على العادة المتبعة عند ملوك القوط في ذلك الزمان؛ فقد كان من عاداتهم أن يجتمع في بلاطهم في طليطلة أبناء ولاتهم المشار إليهم وبناتهم، يقيمون هناك ويربون في البلاط الملكي معا، يتعارفون ويتعاشرون فيشبون على ما يرضاه الملك ويتأدبون في خدمته ثم يتزوجون .
ففي صباح الخامس والعشرين من ديسمبر عام 711 للميلاد، كان أهل طليطلة مشتغلين بالاحتفال بعيد الميلاد، والناس يتقاطرون إلى الكنائس والأديرة وهم يهنئون بعضهم بعضا، وأكثر الكنائس ازدحاما في ذلك اليوم الكنيسة الكبرى؛ لأن أكبر أساقفة طليطلة يصلي فيها، ويحضر القداس الملك رودريك بنفسه ومعه حاشيته وكبار رجال دولته؛ فغصت تلك الكنيسة على سعتها وامتلأ فناؤها وما حواليه من الشوارع والسطوح بالناس على اختلاف الأجناس والأعمار، تطلعا إلى رؤية الملك ومشاهدة موكبه الحافل. ومما زاد الناس شوقا إلى رؤيته أنه كان لا يزال قريب العهد بالملك وقلما رآه أهل طليطلة، فكيف بأهل البلاد المجاورة؟! فاغتنموا فرصة ذلك العيد وهرعوا لمشاهدة الرجل الذي اختلس الملك من غيطشة ملكهم السابق.
ولم تبق امرأة لم تخرج من بيتها، إذا لم يكن لسماع الصلاة فلمشاهدة موكب الملك رودريك إلا فتاة من أهل البلاط الملكي اغتنمت فرصة انشغال الملك ورعيته بذلك العيد لتخلو إلى نفسها وتفكر في أمرها. وكانت من جملة بنات الكونتات حكام الولايات، تقيم في القصر الذي يجمعهم جميعا بجوار قصر الملك، فنقلها الملك منذ بضعة أيام إلى القصر الصغير المتصل بقصره، وهو إكرام حسدها عليه كل رفاقها ورفيقاتها، ولكنه كان سببا كبيرا في تعاستها وانشغال بالها.
فلما خرج الملك ورجال دولته وسائر أهل البلاط للاحتفال بالعيد، اعتذرت هي بانحراف صحتها. وكان ذلك اليوم صحوا زاهيا يندر مثله في فصل الشتاء، وقد أطلت الشمس من وراء الآكام، وأرسلت أشعتها على نهر التاج وما على ضفافه من الحدائق، وفي جملتها حديقة قصر الملك، فبخرت ما كان على الأوراق والأزهار من الطل. ومثل هذا اليوم يحلو للناس الخروج فيه من المنازل إلى البساتين لاستقبال أشعة الشمس والتمتع بمناظر الطبيعة.
فانتهزت الفتاة فرصة غياب الملك وحاشيته ونزلت من القصر، وتمشت في طرق تلك الحديقة وقد تدثرت فوق ثيابها برداء من الحرير الأحمر مبطن بالفرو اتقاء للبرد. وقد غطى الرداء كتفيها ومعظم جسمها إلا ذيل ثوبها الأرجواني المزركش بالقصب، فإنه ظل يتلألأ في أشعة الشمس ويجر من ورائها جرا خفيفا. وأما رأسها فقد كان مكشوفا وعليه شبكة من الحرير الأبيض تضم شعرها الذهبي ضمة واحدة، وترسله إلى ظهرها مستعرضا كأنها خارجة من الحمام، وتلك عادة الرومان في لباس الشعر اقتبسها عنهم القوط في تلك العصور. وكان ذلك الشعر الذهبي يتلألأ من خلال تلك الشبكة، وخاصة إذا وقعت عليها أشعة الشمس في أثناء مرور الفتاة بين الأشجار، على أن تسربلها بذلك الرداء لم يخف جمال قامتها ورشاقة مشيتها. وأما وجهها فقد كان ممتلئا، ناصع البياض مشربا بحمرة يكاد يشف عما تحته، وقد زاده الانحراف والذبول هيبة وجمالا، وزاد العينين الزرقاوين حدة ومضاء. ولم تكن عيناها زرقاوين تماما، بل كان فيهما مع الزرقة شيء لا يعبر عنه بغير السحر. ولها فم مع صغره لا يبدو إلا مبتسما ابتسام الوقار والحشمة.
سارت الفتاة في الحديقة ومعظم أشجارها عار من الورق، وأكثر رياحينها خالية من الأزهار كأنها تشارك فتاتنا الذبول والانكسار، إلا الأرض فقد كانت كأنها بساط من العشب الأخضر، مرصعة ببعض الأزهار التي تتفتح في الشتاء، فمشت الفتاة وهي لا تبالي بما قد يعترض طريقها من الأغصان المدلاة، فربما لطم كتفها غصن ولطم صدرها آخر ورأسها ثالث. وبين يديها امرأة عجوز تحوم حولها وترعى حركاتها وتزيل العقبات من سبيلها. ولم تكن العجوز أقل منها قلقا، ولكن الزمان حنكها ومرور الحدثان علمها أن الدنيا لا تدوم على حال.
وكانت الفتاة تمشي وتلتفت نحو القصر، ثم ترسل نظرها من خلال الأشجار إلى ما يطل عليه ذلك البستان من الحدائق البعيدة، وفوقها جبال شامخة يعلو بعض قممها ثلج تنعكس عنه الأشعة كأنها جبال من الفضة. والفتاة تارة تنزل في واد وطورا تصعد على تل، والعجوز تقطف لها زهرة من هنا وثمرة من هناك، فتتناول الفتاة الزهور والثمار ولا تتكلم، كأنما قد حكم عليها بالصمت وأصبح الكلام عليها ذنبا.
وبعد أن سارت برهة انتهت إلى أكمة منبسطة تطل على النهر يكسوها عشب قصير كأنه بساط من الديباج، وقد تطاير عنه الندى بوقوع الأشعة عليه، فراق لفتاتنا الجلوس عليه والتعرض لأشعة الشمس التماسا للدفء وللتمتع بمنظر السماء الأزرق الصافي، فالتفتت إلى العجوز وقالت بصوت مختنق لطول السكوت: «ما قولك يا خالة؟ ألا نجلس على هذه الأكمة نتمتع بهذا الطقس الجميل؟»
فهرعت العجوز وهي تصلح نقابا كانت قد لفت به رأسها وأذنيها تجنبا للبرد وقالت: «اجلسي حيثما تشائين يا حبيبتي!» ثم أسرعت إلى كرسي من خشب كان في إحدى طرق الحديقة وجاءتها به، فأبت الجلوس عليه وقالت: «أفضل هذا العشب؛ فإن الجلوس عليه حسن في هذا اليوم.» فجلست، وجلست العجوز بين يديها وهي لا تزال ترقب حركاتها، وقلبها يحوم حولها، وقد سرها ارتياحها إلى مناظر الطبيعة، فجعلت ترغبها في إمتاع نظرها بما تشرفان عليه من مجرى النهر وما وراءه من التلال التي تكسوها غابات الصنوبر والزيتون والسنديان، ويتخلل الغابات بيوت متفرقة هنا وهناك. وكأن الناظر إلى تلك البقعة ينظر إلى لوحة فنية مكبرة، فقالت العجوز: «تأملي يا فلورندا في هذه المناظر الجميلة فينشرح صدرك، ودعي عنك الأوهام.»
وكانت تلك التعزية سببا في إثارة شجون فلورندا، فقالت: «لقد ذكرتني يا خالة بأمر أحاول أن أنساه، كيف ينشرح صدري وأنا أعاني كما تعلمين من الاضطراب والقلق، وقد زادني انشغالا انتقالي إلى هذا القصر؟!»
فقالت العجوز: «وماذا يخيفك من ذلك الانتقال، وقد أصبحت أقرب إلى قصر الملك وأعز جانبا؟»
فقالت فلورندا وهي تتطلع إلى أبعد ما يقع عليه بصرها من مجرى النهر وكأنها ترى قاربا بعيدا: «إن ذلك الانتقال هو الذي أخافني، ويا ليته نقلني إلى أطراف المدينة! بل يا ليته أرجعني إلى والدي!» قالت ذلك وشرقت بدموعها، فانصرفت عن النظر إلى ذلك القارب بما جال في خاطرها من أمر والدها وبعدها عنه ووقوعها في ذلك الخطر.
ألفونس
وكانت العجوز خالة أم فلورندا، وقد احتضنتها منذ طفولتها وربتها في بيت والدها، حتى آن مجيئها إلى بلاط الملك - على جاري عادتهم - فكلفها أبوها أن تكون معها، فقضت في عشرتها بضعة عشر عاما، ولم تكن تزداد إلا حبا لها وعطفا عليها لما فطرت عليه فلورندا من الجمال واللطف. ولما رأتها تبكي انفطر قلبها، وقالت: «إن الرجوع إلى والدك ميسور، ولكنني لا أرى بأسا في بقائك هنا وبخاصة لأجل ألفونس.»
فلما ذكرت العجوز اسم ألفونس ظهرت الدهشة على وجه الفتاة، وكأنها كانت في غفلة ثم أفاقت - على حين فجأة - فدق قلبها وصعد الدم إلى وجهها فزال ذبول لونها، ثم تنهدت والتفتت إلى العجوز، وقالت: «دعيني من ألفونس، حتى ألفونس نفسه، كان من أسباب شقائي، وقد كنت كما تعلمين أحسبه سبب سعادتي. آه! دعيني أبكي.»
فقالت العجوز: «ما لي أراك تحسبين الشقاء محيطا بك من كل ناحية، وأنت من أسعد خلق الله؟! كيف تقولين إن ألفونس من أسباب شقائك وهو خطيبك، ويتفانى في سبيل رضاك؟»
قالت فلورندا: «أعلم ذلك وهو الذي يزيد قلقي. أحبه ويحبني، ولكن ما الفائدة من هذا الحب؟ إن الذنب ذنبك يا خالة، أنت علقت قلبي به، وكنت خالية البال لا أعرف القلق. سامحك الله!»
قالت العجوز: «لم أندم - أبدا - على ما بذلته من الجهد في تقريب قلبيكما لأنكما متفقان خلقا وخلقا، وأنتما من عائلة واحدة، ولما سعيت في تقريبكما كان هو ولي عهد هذه المملكة الواسعة. ولما وفقت إلى ارتباطكما برباط الخطبة حسبت أنني بلغت بك أوج السعادة؛ لأن ألفونس كان على وشك أن يصير ملكا على إسبانيا كلها، فتكونين أنت ملكة القوط. ولم يخطر لي على بال أن يحدث ما حدث من الانقلاب، فيسعى أهل المطامع والأغراض في قتل أبيه ونزع الملك منه ليكون لأحد قواده.» ولما قالت ذلك خفضت من صوتها والتفتت إلى ما حولها مخافة أن يسمعها أحد، ثم عادت إلى إتمام حديثها، فقالت: «فإذا كنت تعتبرين ضياع الملك من بين يديه شقاء، فلا ألومك.»
فقطعت فلورندا كلام خالتها، وقالت: «لا، لا، ليس ذلك سبب شقائي، وإنما هو انقطاع ألفونس عن المجيء إلي، ها قد مضت أشهر ولم أشاهده، وأظنني لن أشاهده بعد أعوام وبخاصة بعد انتقالي إلى هذا القصر. أعوذ بالله من هذا الانتقال! إن قلبي يحدثني بسوء سيصيبني منه؛ ولذا ترينني منذ انتقلت إليه وأنا منحرفة الصحة لا يهنأ لي عيش.»
فقالت العجوز: «أراك واهمة يا حبيبتي، فما في هذا القصر إلا ما يدعو للانشراح. وأما سبب انقباضك فهو شوقك لألفونس، وهذا لا ألومك عليه، وإن يكن معذورا في تغيبه؛ لأن الملك يراقب حركاته وسكناته خوفا منه لعلمه بما اختلسه من قبضة يده.»
وكان القارب الذي وقع نظر فلورندا عليه في أعلى النهر قد توارى بين بعض الصخور، ثم ظهر من بينها - مرة أخرى - على مقربة من حديقة القصر. ولما وقع نظر فلورندا عليه خفق قلبها لأنها رأت فيه ألفونس واثنين من رجاله، فلم تعد تعلم ماذا تقول، واكتفت بالإشارة إليه، ثم اقترب القارب من الضفة ونزل ألفونس إلى البر، وأشار إلى الرجلين فنزل أحدهما ومشى في جهة أخرى، وظل الثاني في القارب. وأما ألفونس فحين وقع نظره على فلورندا أسرع إليها وعليه لباس القواد الرسمي، وهو عبارة عن: سراويل منتفخة قصيرة مبطنة بالفرو إلى الركبة، وحول صدره درع مقفل من الأمام وفوقه قباء قصير أرجواني اللون، وحول خصره منطقة من جلد عريضة، وعلى رأسه قبعة صغيرة لها جناحان من ريش الطير، ومن تحت القبعة شعره الأسود يسترسل على كتفيه. وكان ألفونس في العشرين من عمره، ولم يستطل شعر عارضيه وشاربه بعد. وكان أبيض الوجه، أسود العينين، إذا حدقت في عينيه تبينت فيهما الحب والوداعة مع النباهة، ولم تر فيهما شيئا من المكر. وكان قد تعلق بحب فلورندا منذ أن كان أبوه على عرش إسبانيا، وهو يومئذ ولي عهد المملكة لأنه أكبر إخوته. وكانت فلورندا تستبعد أن يكون لها يومئذ، ولكن خالتها العجوز سعت لدى الملكة والدة ألفونس قبل وفاتها بما لها من الدالة عليها، فنجحت فيما سعت إليه، وتعلق ألفونس بفلورندا تعلقا شديدا، وكان يتردد عليها كثيرا ويجالسها كل يوم تقريبا، ثم انشغل عنها بعد وفاة والده بما انتابه من ضياع الآمال. وأصبح رودريك الملك الجديد، وقد وضع عليه العيون والأرصاد، فخشي ألفونس أن يجيء إليها، ولكنه كان يترقب الفرص لرؤيتها والسؤال عن أحوالها، حتى سمع بانتقالها من القصر القديم إلى القصر الملاصق لقصر الملك، وأنها تقيم فيه وحدها؛ فهاجت فيه عوامل الغيرة، ولم يعد يستطيع صبرا عن مقابلتها للتمتع برؤيتها واستطلاع رأيها، فإذا رآها لا تزال على عهدها أسرع في عقد القران؛ لأنه كان يظنها قد زهدت فيه بعد خروج الملك من بين يديه. واتفق احتفال أهل طليطلة بعيد الميلاد في تلك الأثناء، وقد خرج الملك في موكبه إلى الكنيسة الكبرى، وألفونس في جملة الحاشية وعليه اللباس الرسمي، فخطر له - وهو في الطريق - أن يتخلف عن الموكب خلسة ويمضي إلى فلورندا لأنه كان قد بلغه انحراف صحتها، فرجح أنها لن تخرج إلى الصلاة في ذلك اليوم، ورأى أن يستقل القارب لئلا يراه أحد في أسواق المدينة، وجاء معه في القارب اثنان من خاصته، فلما نزل إلى البر أرسل أحدهما لاستقدام فرسه حتى يعود عليه راكبا إلى الموكب قبيل خروج الملك من الصلاة، واستبقى الآخر في القارب لحين الحاجة. أمر خادمه بذلك والتفت، فوقع بصره على فلورندا، فاندفع يسرع نحوها وهو يثب وثبا، والمسافة بينه وبينها نحو مائة متر.
لغة الحب
أما فلورندا فقد اندهشت حين رأت ألفونس قادما، وظهرت البغتة في عينيها، وأسرعت دقات قلبها، وارتعدت ركبتاها وأرادت أن تقف لتلقاه فلم تستطع من شدة التأثر، وامتقع لونها، وشخصت ببصرها إليه وهي لا تصدق أنها تراه. أما هو فلما دنا منها ولم تقف له ولا رحبت به، ثبت لديه ما كان يظنه من زهدها فيه. وبعد أن كان مسرعا بلهفة المشتاق، تباطأ وندم على مجيئه وتطفله. ثم ما لبث أن رأى العجوز تهرول إليه وهي تتعثر بطرف ثوبها حتى كادت تقع وهي تقول: «أهلا وسهلا بحبيب القلب ألفونس.»
فاطمأن قلبه ولكنه ظل خائفا، فمشى حتى اقترب من فلورندا فإذا هي لا تزال جالسة، وقد التفت بالرداء ويداها مختبئتان فيه، حتى إذا وقف بين يديها رفعت بصرها إليه ونظرت إليه نظرة خرقت أحشاءه، وقرأ في عينيها من تلك النظرة ما لو كتب على الورق لملأ عدة صفحات؛ قرأ فيهما العتاب والتعنيف، قرأ الشوق والوجد، قرأ فيهما الحب والغرام والاستعطاف والاستفهام ... فلم يستطع جوابا على تلك المعاني إلا بأن يخر راكعا على ذلك البساط الأخضر وهو يقول بنغمة المحب الولهان: «السلام يا فلورندا، السلام!» ومد يده وأحنى رأسه كأنه يسألها إحسانا، فظلت هي شاخصة فيه ويداها لا تزالان مختبئتين في ذلك الرداء، ولبث الاثنان شاخصين برهة وعيونهما تتخاطب وتتفاهم حتى غلب الدمع على فلورندا فغشى عينيها، فحجب عنهما وجه ألفونس؛ فأخرجت يدها من الرداء لتمسح عينيها، فسبقها ألفونس إلى إخراج منديله هو ومسحهما به، ثم مسح به وجهه وتنشق رائحته وتنهد تنهدا شديدا، وأعاد يده فمدها إلى فلورندا فلم تمد يدها إليه؛ ففهم أنها تتعمد ذلك دلالا وعتبا، فلم ينتظرها فمد يده وقبض على يدها قبضة ارتعدت لها فرائص الاثنين كأنهما أمسكا بتيار كهربائي قوي.
ومضت فترة وهما يتخاطبان بالنظرات، ولهما من قراءة الأفكار ما يغنيهما عن الألفاظ. وكانت العجوز تتشاغل عنهما بقطف بعض الأزهار والتواري بين الأغصان، رفقا بعواطفهما وإغضاء عما قد يبدو منهما في مثل هذه الحال. وظل ألفونس ساكتا وقد عول على الصبر حتى تكون فلورندا البادئة بالكلام، فقضيا برهة واليد باليد، والعين على العين، والقلبان يتسارعان كأنهما يتفاهمان بالخفقان، وقد غشى الأعين ماء لامع هو من أسمى علامات الهيام.
ثم بدأت فلورندا الحديث بنغمة الدلال والعتاب: «ما الذي جاء بك يا ألفونس؟»
قال: «لا أدري ما الذي جاء بي يا حبيبتي، فهل تعلمين أنت؟ أما الذي أعلمه فهو أني أسير هواك، وأني حي برضاك ميت بجفاك. حبيبتي فلورندا، هل عندك مثل ما عندي؟ نعم أعلم أنك كنت تحبينني، ولكن هل أنت باقية على ذلك أو على بعضه، أم غيرك ما غير من أحوالنا وأضاع من آمالنا؟»
فأدركت أنه يشير إلى ضياع الملك من يده، فسحبت أناملها من بين أنامله بلطف، وأظهرت أنها تحول وجهها عنه، ونظرها لا يزال ثابتا على نظره كأنها تقول له : «أهذا هو مبلغ علمك بالحب وعواطف المحبين؟» ففهم ألفونس مغزى تلك الإشارة فقال لها: «لم أكن أشك في صدق مودتك وقد امتزج قلبانا، ولكنني حسبت أن سوء حظي غيرك، وظننت أيضا أنني بعد أن خسرت أبي وملكي قد جرني سوء الطالع إلى خسارة ما هو أثمن من ملك العالم كله.» قال ذلك وقد أبرقت عيناه وانبسطت أساريره، وهو لا يزال ينظر إليها ويتوقع أن يسمع قولها، فعادت إلى الصمت والتفت بردائها وحولت نظرها إلى مجرى النهر وأصغت إلى صوت هديره، فاستولى على تلك الحديقة سكون لم يكن يتخلله إلا خرير الماء وزقزقة العصافير.
فلما طال سكوتها بحث ألفونس عن العجوز، فإذا هي قادمة وفي يدها بعض الأزهار، فناداها وهو يقول: «تعالي يا خالة، كلمي فلورندا عساها أن تتعطف علي بكلمة أبرد بها لظى وجدي.»
المحب كثير الشكوك
وكانت العجوز قد وصلت إليهما، فقدمت الزهور إلى فلورندا، وأجابت ألفونس قائلة: «إذا كنت لا تفهم بدون كلام، فما أنت من أهل الغرام. أيحتاج ما تراه في فلورندا إلى إيضاح؟ وهل تظن أن ما يليق بالشبان من التصريح بخلجات الحب يليق بالفتيات أيضا؟» ثم التفتت إلى فلورندا، وقالت: «هذا هو ألفونس، كلميه واسأليه، وقد سمعت منك شكا في محبته، فهل تحققت من صدق قولي في ثباته؟»
فرفعت فلورندا بصرها إليه، وقد أخذ الهيام منها مأخذا عظيما حتى ظهر ذلك جليا في عينيها لما اعتراهما من الذبول واللمعان، فشخصت ببصرها إليه برهة وهو يكاد يختطفها ببصره، وقد نسي مصيبته في الملك وضياع حقه فيه، وهان عليه أن ترضى فلورندا ولو خسر العالم بأسره. وفيما هو غارق في تلك الهواجس سمعها تقول: «هل شككت في حبي يا ألفونس؟»
قال: «نعم يا منيتي، والمحب كثير الشكوك ...»
فأطرقت وهي تقول: «صدقت، إن المحب كثير الشكوك، فقد خامرني من الشك مثل ما خامرك كما قالت خالتي، ولكن ...»
فقطع ألفونس كلامها قائلا: «لست أرى مبررا للشك في، وأنت تعلمين أنني أسير هواك. وأما أنا فيحق لي أن أرتاب في بقائك على عهدك لما أصابني من نوائب الزمان؛ فقد كنت وليا لعهد هذه المملكة، فأصبحت مثل سائر رجالها.»
فلما سمعت فلورندا ذلك أسرعت بالجواب قبل أن يتم ألفونس كلامه، فقالت: «لما أحببتك يا منيتي إنما أحببت ألفونس، ولم أحب ولي عهد مملكة القوط. إن الحب لا ينظر إلى الرتب ولا المناصب، والقلوب يا ألفونس تتعاقد وتتحد وهي لا تبصر، ولا تقيس، ولا تكيل، ولا تزن، وهي لا تتعارف بالتوصيات، ولا تعرف المجاملات، ولا تفرق بين الحقوق والواجبات. القلب يا ألفونس لا يرى علامات الشرف ولا يهوى التيجان ولا يخاف الصولجان، القلب يا حبيبي لا يهوى إلا القلب.»
قالت ذلك وقد توردت وجنتاها وبان الاهتمام على محياها، وأطرقت وسكتت وفي ملامح فمها أنها لم تتم الكلام بعد، فلم يشأ ألفونس أن يقطع سلسلة أفكارها، فظل صامتا وهو ينظر إليها نظر المستزيد، ولسان حاله يقول: «أتمي كلامك.» فلما رأته يتوقع سماع تتمة كلامها، قالت: «على أني آسفة لخروج هذا الأمر من يدك، لا لأني أحب أن أكون ملكة، ولكن ...» ثم غلب عليها الحياء والغضب معا؛ فتزايد احمرار وجهها وقد تقطبت ملامحها، والتفتت إلى القصر كأنها تخشى رقيبا، وسكتت. فانشغل بال ألفونس بذلك السكوت، وأدرك بعض ما تريد، ولكنه تجاهل وقال لها: «ولكن ماذا يا فلورندا يا حبيبتي؟ قولي، أفصحي!»
قالت فلورندا وهي تخفض صوتها: «ولكنني لولا هذا الانقلاب ما كنت أقاسي هذه المتاعب، وما كنت أحس بأني بين أنياب الأسد، وملاكي الحارس بعيد عني.» ثم خنقتها العبرات، ولكنها استمرت في الكلام فقالت: «لقد كنت أشعر بهدوء البال وراحته لو ظل غيطشة على كرسي الملك أو لو أنه عهد به إليك، فما كان لهذا المختلس سبيل إلى إقلاق راحتي.»
فقطع ألفونس كلامها، وقد ظهرت عليه البغتة واتقدت الغيرة في قلبه، وقال: «بماذا أقلق راحتك؟ هل خاطبك في شيء؟ هل بدا لك منه سوء؟ أخبريني، قولي!»
قالت فلورندا: «كلا لم يبد منه شيء، ولكنني لا أحسب نفسي في مأمن وبخاصة بعد أن نقلني إلى هذا القصر، ولم أفهم لهذا النقل معنى، فبقاء الملك في يدك أدى إلى سروري وسعادتي من هذه الناحية فحسب.»
فأدرك ألفونس الأمر الذي تشير إليه، مع ما توخته من المبالغة في تلطيف العبارة، وعلم أنها تقرعه لتقاعده عن المطالبة بحقوقه. وكان لا يزال إلى تلك الساعة جاثيا بين يديها، فلما سمع قولها أحس كأنها صبت على بدنه ماء يغلي، فوقف وقد غلب عليه الهيام وهان عليه كل شيء في سبيل رضاها، وقال: «يحق لك يا فلورندا أن تلوميني، فقد تقاعدت عن هذا الأمر، ولكن لكل أجل كتاب، وكنت أمسكت عن زيارتك، وقد عزمت ألا أزورك إلا بعد أن أحقق رغبتك، فطال سعيي ولم أصل إلى الغاية، فلم أعد أصبر على بعدك وأنا أخشى فتورك، ثم رأيت فيك من الثبات في الحب ما زادني ثباتا على مسعاي، فاعلمي يا فلورندا أن من يعتمد عليهم هذا المختلس من أحزاب الروم ليسوا سوى عصابة ضعيفة، وإنما تمكن الأساقفة من تنصيبه ملكا رغبة في خدمة رومية، وكذا أحزاب المملكة ضده وفيهم القوط واليهود وكل من يكره الظلم. وليس هذا موضع الإفاضة في هذا الشأن، ولكنني أقسم لك برأس أبي وإن كان ميتا، أن رودريك هذا لا يلبث أن ينزل ويعود الملك إلى أهله ...»
وكانت فلورندا تسمع كلامه وهي تنظر في وردة من ورد الشتاء كانت خالتها قد جاءتها بها، فتشاغلت بنثر أوراقها وهي تصغي لما يقول ألفونس، فلما بلغ إلى قوله: «ويعود الملك إلى أهله ...» رمت بما بقي بين أناملها من تلك الوردة، ورفعت بصرها إليه كأنها تتثبت من قوله أو تتفهم حقيقة ما يريد، ففهم مرادها فازداد تهورا في تصوره، وأوهمه غرامه أنه قادر على كل شيء، فمد يده ومس أطراف شعره المسترسل على كتفيه وقال: «وإذا كنت لا تثقين بقولي فإني أشهدك على نفسي، وأشهد هذه الخالة أيضا، أن بقاء هذا الشعر حرام علي إن لم أف بقولي.»
فتحققت فلورندا أنه يقسم صادقا، ولكنها لم تكن تجهل ما يحول بينه وبين تلك الأمنية من العقبات، فأرادت أن تخفف من عهده، فقالت: «لا حاجة بنا إلى هذه الأقسام، ولا تعرض نفسك للخطر من أجل الملك فإنه مجد باطل، وإنما المراد أن نكون معا في مأمن من أهل الاعتداء، ولو في كوخ من أكواخ هؤلاء العبيد الذين يشتغلون في الحرث والزرع.»
موكب الملك
فأراد ألفونس أن يجيبها فسمع صفيرا فبهت وأرهف السمع، فسمع قرع الطبول وقرقعة اللجم، فعلم أن موكب الملك راجع من الكنيسة. وقد وصل الموكب إلى القصر وهو لا يزال مستغرقا في حديثه مع فلورندا، فندم وتحقق أنه أخطأ ولا بد من أن يسيء رودريك الظن فيه. ورأته فلورندا قد بغت وسمعت هي مثل ما سمع، فأدركت أنه أبطأ عن الاحتفال، فقالت له: «اذهب الآن بسلام وليكن الله معك ...»
فأمسك يدها وودعها وهو يقول لها: «ادعي لي فإنك من الملائكة ودعاؤك مستجاب، واذكريني في صلاتك عساي أن أوفق لمرضاتك.» فأجابته بإشارة من أهدابها وحاجبيها، فانطلق نازلا نحو القارب ليبعد به عن الحديقة، ثم يركب فرسه إلى القصر من طريق آخر. وظلت فلورندا واقفة وهي تشيعه ببصرها حتى توارى، فعادت إلى هواجسها والعجوز بين يديها، فرجعتا نحو القصر وفلورندا لا تتكلم لعظم ما قام في نفسها بعد ذلك الحديث، وقد ندمت لتعريضها بأمر الملك، وخشيت أن يؤدي ذلك إلى ضرر يصيب حبيبها.
أما رودريك فقد سار بموكبه إلى الكنيسة في ذلك الصباح، وفي نفسه شاغل من أمر ألفونس؛ لأنه كان يتوقع أن يراه في الموكب في جملة الحاشية، وكانوا قد زينوا الكنيسة للملك زينة باهرة بالرياحين، وأضاءوا الشموع وأوقدوا البخور حتى انتشرت رائحته على ما جاور الكنيسة، وكانت أصوات المرتلين والمصلين تدوي فتسمع لمسافة بعيدة، والناس يتزاحمون لمشاهدة مركبة الملك حتى كادوا يدوسون بعضهم بعضا، والمطلون من الأسطح والنوافذ أكثر من المارين في الأسواق.
ولما أقبل الملك بموكبه، خرج الأساقفة لاستقباله ووراءهم وبين أيديهم الشمامسة والرهبان يحملون المشاعل من الشمع، وبعضهم يحمل الصليب، وآخر يحمل الكأس، وآخر غير ذلك من شارات النصرانية، فترجل الملك عن بعد وترجل من كان معه، فكان أول من استقبل الملك رئيس الأساقفة فحياه، فانحنى الملك على يده وقبلها وقبل صليبا مرصعا كان فيها، ومشوا جميعا في فناء الكنيسة الخارجي والأساقفة ورجال الكهنوت أمامهم حتى أقبلوا على واجهة الكنيسة من الغرب فدخلوا من بابها، وهو يتألف من ثلاثة أبواب: أوسطها أعظمها، عتبته العليا على شكل قنطرة مثلثة عليها نقوش محفورة تمثل الملائكة وبعض القديسين والأنبياء، فمشى الملك وعلى رأسه تاج من الذهب يشبه تاج الرومان، وشعره مسترسل على كتفيه وظهره، وشعر لحيته وشاربه مسترسل إلى صدره، وبين يديه كل أشراف المملكة بشعورهم المسترسلة وقبعاتهم المتشابهة، وهم مبتهجون بما يحسون به من الزهو في ذلك العيد. وساروا في صحن الكنيسة بين أعمدة فخمة من الرخام النقي أو المرمر، مقامة في ثلاثة صفوف من الغرب إلى الشرق يزيد عددها جميعا على ثمانين عمودا، وارتفاع الكنيسة من صحنها إلى أعلى قبتها 46 مترا، وطولها يزيد على مائة متر. وقد زادها فخامة في ذلك اليوم ما علقوه فيها من الثريات المضيئة بالشموع الملونة والقناديل المنارة بالزيت أمام الصور، وقد تصاعد البخور وعلت أصوات المرتلين يتخللها غوغاء الناس بالرغم مما كان يبذل الكهنة في سبيل إسكاتهم.
وظل الملك ماشيا حتى جلس على كرسي خاص به إلى جانب الهيكل، واستقر سائر حاشيته في مجالسهم وهم يرسمون علامة الصليب. أما الملك فكان يفعل مثلما يفعلون، وعيناه شائعتان في حاشيته من الجماهير كأنه يفتش عن شيء ضائع. وكان يجلس على كرسي عن يمينه قس كان يلازمه دائما، فيقيم معه في قصره ويصلي له صلاة النوم وصلاة الصبح، وهو الذي يوجهه ويرشده وينصحه. وكان الملك لا يذهب إلى احتفال إلا صحبه، ولم يكن يبرم أمرا إلا بمشورته، واسمه الأب مرتين، وكان طاعنا في السن وقد شاب شعره ودق عظمه وتجعد جلد وجهه، واستطالت أسرة جبهته، وغارت عيناه، وزادهما غورا واختفاء إرسال شعر حاجبيه فوقهما. وقد تساقطت أسنانه وانخفضت شفتاه حتى أصبح فمه واديا بين جبلين. وكان في شبابه وكهولته سريع الكلام، فلما سقطت أسنانه خالط كلامه تمتمة تتعب السامع في تفهم ما يقول، وكان قصير القامة منتصبها مثل قامة الشبان، وكان شديد التعلق بكرسي رومية لأنه ربي فيها، فشب روماني المبدأ والغرض. ولم يكن يحب جنس القوط على الإطلاق، فكان لذلك من أكبر المساعدين على تنصيب رودريك.
الروم والقوط
والتباغض بين الروم والقوط طبيعي لأن إسبانيا لما فتحها القوط في القرن الخامس للميلاد كانت رومانية المذهب والغرض، وكل أعيانها وأكابرها من الرومان، فتسلط القوط عليهم قرنين وبعض قرن، ولم تتحد قلوبهم ولا تآلفت أغراضهم، وظل القوطي يتكلم لغة الروماني، والروماني لغة أخرى، وربما كان القوطي أحوج إلى تعلم لغة الرومان «اللاتينية» من الرومان إلى اللغة القوطية؛ لأن اللاتينية لغة المملكة الرومانية، وكانت إسبانيا تابعة لها ففتحها القوط، ولم يستطيعوا استبدالها بلغتهم كما استبدل العرب لغات ما فتحوه من المملكة الرومانية الشرقية باللغة العربية. وشأن العرب والقوط في فتح مملكة الرومان متشابه؛ جاءها القوط من الشمال وجاءها العرب من الجنوب، وكلاهما أهل بادية وخشونة فاكتسحاها، واستولى كل منهما على جانب منها، ولكن العرب استطاعوا ما لم يستطعه القوط، فأنشئوا على أنقاض مدينة الروم مدينة خاصة بهم، وجعلوا الأمم التي دانت لهم بتوالي الأجيال أمة واحدة تتكلم لغة واحدة، وأما القوط فقضوا في إسبانيا نيفا ومائتي سنة، ثم خرجوا منها ولم يتركوا أثرا يذكر.
وزد على ذلك أن القوط لما فتحوا إسبانيا كانت ديانتهم الآريوسية على مذهب آريوس صاحب البدعة الشهيرة في النصرانية؛ لأن دعاة هذه البدعة لما أصابهم ما أصابهم من الاضطهاد وقاومهم الأباطرة أنفسهم، هاجروا من المملكة الرومانية وتفرقوا حواليها في الشمال والجنوب، وأخذوا يبثون هذا المذهب في القبائل المقيمة هناك، ومنهم قبائل الجرمان في شمالي أوروبا وفي جملتهم القوط. فلما فتح القوط إسبانيا كانوا يدينون بالآريوسية وظلوا على ذلك قرنا وبعض قرن، وظهرت في أثناء تلك الفترة شيع أخرى اتبعها بعض الإسبان والقوط في جملتها شيعة نسطور المشهورة، وشيعة باشينسيوش وغيرهما.
ففي أواخر القرن السادس ، تولى إسبانيا ملك من القوط اسمه «ريكارد» فاتبع المذهب الكاثوليكي سنة 587 للميلاد، فتبعته الأساقفة ثم الرعية، فعادت إسبانيا إلى مذهب كنيسة رومية، وصار الأساقفة أكثرهم من الرومان، وجعلوا في جملة شروط انتخاب الملك أن يكون قوطيا كاثوليكيا.
ولم يمض قليل حتى أحس القوط بالخطأ الذي ارتكبوه بالتخلي عن مذهبهم ولغتهم، وعلموا أن ذلك التخلي سيعصف بدولتهم، وكان أكثر ملوكهم شعورا بذلك غيطشة والد ألفونس بطل روايتنا؛ فعزم على التخلص من تلك القيود، فشعر الأساقفة بمقاصده، وكان النفوذ قد أفضى إليهم، فاتحدوا مع أعيان البلاد وهم يشايعون رومية، فعزلوا غيطشة وولوا رودريك، ويقال إنهم فعلوا ذلك بعد موت غيطشة. وبهذه الطريقة خرج الملك من بيت غيطشة إلى بيت رودريك وجماعة الأكليروس من حزبه. ويعتقد أصحاب غيطشة أن رودريك ليس من أصل قوطي، ولذلك عدوه مختلسا.
وكان الأب مرتين بين من سعى إلى تنصيب رودريك، وكان يكره غيطشة وأولاده بنوع خاص؛ لأن غيطشة كان يكرهه لشدة تعصبه لرومية، فكان مرتين من أكثر الناس سعيا في إخراج الملك من يديه إلى رودريك؛ ولذلك كان رودريك لا ينفذ أمرا إلا بمشورته. وكان في جملة مشورات مرتين على الملك أن يضيق على ألفونس ولا يسمح بغيابه عن القصر، وأن يكون دائما بين يديه خوفا من أن ينشئ الأحزاب للمطالبة بالملك.
فلما وصل الملك إلى الكنيسة في ذلك اليوم، كان أول شيء نبهه إليه مرتين هو أن ألفونس لم يكن في جملة فرسان الموكب، فتفرس الملك في الناس فلم يجده بينهم فانشغل خاطره، ولكنه ما لبث أن شغل عن ذلك بمراسيم الصلاة وما تقتضيه من الانتباه لحركات الكهنة في أثناء القداس، على أنه كان يعود برهة بعد أخرى إلى البحث عن ألفونس خلسة.
المحاكمة
فلما انقضت الصلاة وخرج الملك إلى موكبه، عاد إلى البحث عن ألفونس فلم يجده، فركب ودعا الأب مرتين للركوب معه، فقضيا مسافة الطريق يتساران في سبب تغيب ألفونس في ذلك اليوم. فلما دنا الموكب من القصر، رأى الأب مرتين ألفونس مسرعا على جواده من جهة القصر، وكان على علم بعلاقته بفلورندا فأدرك أنها هي سبب تغيبه، ولكنه اقتصر على تنبيه الملك إلى مجيئه في تلك اللحظة.
فوصل الملك إلى قصره وترجل عند الباب الكبير، وصعد على درجات عريضة من الرخام تؤدي إلى فناء القصر، ثم إلى باحة قائمة على أساطين، ومن بعدها إلى دهليز يتفرع إلى طرق تؤدي إلى أجزاء القصر المختلفة، وفي جملتها قاعة المجلس. فدخل الملك وقسه من طريق خاص إلى تلك القاعة، ودخل رجال الدولة - وفيهم وفود المهنئين - من الطريق العام، فجلس الملك على عرش مرتفع، قوائمه على شكل قوائم الأسد، وهو مصنوع من الفضة، والملك في الملابس الرسمية وعلى كتفيه بردة من الديباج موشاة بالذهب، وعلى رأسه تاج من الذهب مرصع بالحجارة الكريمة، وفي يده صولجان من الذهب ينتهي بصليب مرصع. وكان رودريك في نحو الأربعين من العمر، ممتلئ الجسم، بارز الصدر والبطن، قوي البدن، تلوح على وجهه أمارات البسالة، وعيناه جاحظتان كبيرتان، وحاجباه غليظان، وشعر شاربه طويل يزيد على طول لحيته وعلى طول شعر رأسه.
جلس رودريك على عرشه، وفوق العرش صورة كبيرة تمثل السيد المسيح مصلوبا، وعلى جدار القاعة صور عديدة دينية، وجلس بجانبه الأب مرتين وبين يديه رجال خاصته، ثم توافد الناس لتقديم التهاني وفي جملتهم ألفونس، فإنه دخل وحيا الملك وهنأه كما فعل الآخرون، وجلس في جملة الجلوس. فلما هم الناس بالانصراف، أراد ألفونس أن ينصرف، فأشار إليه رودريك أن يبقى، فأوجس ألفونس خيفة من ذلك الاستبقاء، ولكنه صبر حتى إذا خلا المجلس ولم يبق في القاعة غير الملك والقس، ناداه الملك فوقف بين يديه، فقال له الملك: «ما الذي أخرك عن مرافقة الموكب في هذا الصباح يا ألفونس؟»
فبغت ألفونس لأنه لم يكن يظن أن الملك يهتم لغيابه كل هذا الاهتمام، فعلت وجهه أمارات البغتة، ولكنه تجلد وأجاب: «كنت في شغل خاص، أعاقني عن القيام بفروض الصلاة بين يدي جلالة الملك.»
فقال الملك: «من الغريب أن يتفق لك هذا الشاغل في ذكرى عيد الميلاد وفي ساعة خروج الموكب.» قال ذلك وحول نظره إلى صورة في الحائط تمثل مريم العذراء تحمل طفلها، ثم تشاغل بتمشيط طرف لحيته بأنامله.
فقال ألفونس: «نعم إنه اتفاق غريب، ولكنه وقع ولا حيلة في وقوعه، وإني آسف لذلك.»
وكان الأب مرتين في أثناء ذلك منصرفا إلى تلاوة بعض الصلوات أمام صورة مريم العذراء بصوت منخفض لا يسمعه أحد، ولما فرغ من صلاته عاد وقد تزمل بردائه وأصلح قلنسوته وجلس إلى جانب الملك، وأصغى لما يدور بينهما، فلما رآه ألفونس مهتما بالأمر اختلج قلبه بما بينهما من الضغينة.
أما الملك فلما سمع الاعتذار لم يقبله، ولكنه رأى من الحكمة أن يؤجل حكمه في أقواله إلى ما بعد مشورة القس، فأراد أن يصرفه فسمع القس يقول له: «يظهر أن شغلك كان في قصر جلالة الملك، أو بجوار قصره.» قال ذلك وتنحنح وأخذ في مسح فمه بمنديله.
فزاد استياء ألفونس منه، ولكنه خشي إن أجابه أن يصرح بشيء آخر.
وأما الملك فإنه توسم في كلام القس شيئا كان يتردد في ذهنه لم يتحققه، فأراد أن يتفهم ذلك من مرتين على حدة، فلم يصبر على ألفونس حتى يجيب، فالتفت إليه لفتة الاستخفاف والتهديد والإغضاء معا، وقال: «انصرف الآن يا بني، واحذر من أن تفعل ذلك مرة أخرى.»
فأحس ألفونس عند ذلك بفرج سكن له جأشه، وكأن ثقلا كبيرا أزيح عن صدره، فسار إلى الباب، ثم خرج وهو لا يكاد يرى شيئا مما أمامه لشدة ما قام في نفسه من أسباب القلق، ولم يكد يخرج من باب القصر حتى انتبه لنفسه، وتمثل له مركزه وما آل إليه أمره بعد ضياع الملك من يده، فقد كان على عهد أبيه، إذا مر في طريق تسابق الناس إلى تحيته واحترامه، فلا يبقى أحد لا يقف له. فمر ذلك اليوم والناس يتزاحمون في فناء القصر، ولم ينتبه له أحد إلا الأصدقاء، وحتى هؤلاء أصبحوا يحذرون التظاهر بصداقته خوفا من الملك.
خرج ألفونس وقد هبت فيه عوامل الغيرة، وكانت ألفاظ فلورندا لا تزال ترن في أذنيه، فتذكر وعده إياها باسترداد الملك، فزاده غيظا من الملك، فركب جواده وسار توا إلى منزله وهو غارق في بحار الهواجس، وقد استصغر نفسه وهان عليه القيام بأي شيء في سبيل الانتقام لوالده واسترضاء فلورندا.
الزيارة
أما رودريك، فلما خرج ألفونس من مجلسه تظاهر برغبته في الاستجمام، فدخل غرفته الخاصة، فجاء بعض رجال القصر فنزعوا لباسه الرسمي وألبسوه ثيابه العادية، وهو لا يخاطب أحدا منهم في شيء لانشغال خاطره بالعبارة التي سمعها من الأب مرتين عن ألفونس والقصر. فلما فرغ من لبس الثياب دعا الأب للغداء معه فجاء، ولم يخاطبه الملك في شيء وهما على المائدة لوجود الملكة معهما، وهو يحب أن يبعد أمثال هذه المواضيع عن ذهنها لما يترتب عليها من الغيرة، فلما فرغوا من الطعام قال الملك: «يا أبتاه، أطلب إليك بعد ختام المائدة بالصلاة أن ترافقني إلى غرفتي.» ولم تكن هذه الدعوة غريبة على الملكة؛ لأن زوجها كثيرا ما كان يخلو إلى الأب مرتين مثل هذه الخلوة، لاستجلاء الرأي أو للمشاورة أو للاعتراف أو غير ذلك.
فلما خلوا في الغرفة قال رودريك: «ما قولك في صاحبنا اليوم؟»
قال: «إذا كنت تعني ألفونس، فأرى أن جلالة الملك قد بالغ في الحلم والرأفة في معاملته، كيف يتغيب عن موكب جلالتك لأعذار ما أنزل الله بها من سلطان؟» قال ذلك بنغمة الاستغراب، واستعجل في نطقها لتكون أكثر تأثيرا في نفس الملك، ولو لم يكن رودريك قد ألف ألفاظه وتمتمته لما فهم منها شيئا.
فقال له الملك: «ولكنني سمعتك تشير إلى عذره إشارة لم أفهمها جيدا.»
فأدرك الأب مرتين أن الملك يحتال في استطلاع ما بين ألفونس وفلورندا، وهو يتجاهل ويوهم «مرتين» أنه يسأله سؤالا بسيطا، فسايره الأب وأجابه قائلا: «لم أقل شيئا، وإنما قلت إنه تأخر في القصر.»
قال الملك: «وأي قصر؟»
قال القس: «وأي قصر؟ قصر جلالة الملك. كأن مولاي لا يعلم بعلاقته بذلك القصر ...»
قال الملك وهو يبالغ في التجاهل: «لا أعلم علاقة له بهذا القصر بعد أن خرج الملك منهم، ووضعت يدي عليه.»
فقال القس: «لا أعني علاقته بالملك، بل أعني علاقته بفلورندا بنت الكونت جوليان التي أمر جلالة الملك بنقلها إلى القصر الصغير منذ بضعة أيام ...»
فلما ذكر اسمها بغت الملك وخفق قلبه حبا وغيرة، ولكن أنفة الملك ثبتت عزيمته فتجلد كأن الأمر لا يهمه وقال: «أهي علاقة قرابة؟ أم ما هي؟»
فقال القس: «لا يخفى على جلالة الملك أن الكونت جوليان حاكم سبتة والد فلورندا، بينه وبين غيطشة قرابة أظنها نسائية، ولكنني أعني قرابة ألفونس من فلورندا بنوع خاص ...»
فقال الملك: «أية قرابة؟»
فضحك مرتين وقال: «كنت أحسب أن الملك يعلم بذلك؛ لأن خطبتهما معروفة من قبل أن تتولى جلالتكم عرش إسبانيا.»
فلما سمع رودريك ذكر الخطبة عظم عليه الأمر؛ لأنه كان يحب فلورندا كثيرا، ولم يكن يعلم بهذه الخطبة، ولكنه لم يكن يخشى خروجها من يده اعتمادا على ما له من السيطرة عليها وعلى خطيبها، وعول على أن يطمعها بالمال والسلطان، أو يتهددها حتى تترك ألفونس وتعيش معه. ولم يشأ أن يطلع القس على خواطره فتظاهر باقتناعه بهذا الجواب ووقف؛ فأدرك القس أن الملك يريد الانصراف فوقف هو وانسحب.
وكان بين غرفة الملك وغرفة فلورندا دهليز يؤدي إلى ذلك القصر، وليس إلى قصر فلورندا سبيل من قصر الملك سوى ذلك الدهليز، وقد بني قصرها على هذه الكيفية لمثل هذه الغاية، فعول رودريك على مكاشفتها بحبه لعلها تغضي عن حب ألفونس. ولم يشأ أن يستقدمها إلى غرفته لئلا تشعر الملكة بذلك، وهو أنما ينوي معاشرتها خفية عنها، فأغلق باب غرفته الذي يصل إلى قصره، وفتح الباب المؤدي إلى قصر فلورندا.
طارق
أما فلورندا فكانت بعد ذهاب حبيبها من الحديقة قد ذهبت هي والعجوز إلى القصر، وقد أخذ الهيام منها مأخذا عظيما، وركزت كل تفكيرها في مراجعة ما دار بينها وبين ألفونس في ذلك الاجتماع، وندمت على ما فرط من أقوالها التي تدفعه إلى طلب الملك، فمالت إلى الخلوة لتفكر فيما قالت، لعلها تهتدي إلى ما يخفف هواجسها، فدخلت غرفتها، وكانت تلك الغرفة تطل على الحديقة من جهة نهر التاج، ويحجبها عن النهر شجرة من أشجار اللوز، قد امتدت أغصانها وتشامخت، حتى أصبحت فلورندا إذا جلست إلى نافذتها لا ترى النهر إلا من خلال الأغصان، وخاصة في ذلك الفصل حينما تكون تلك الشجرة جرداء تقريبا، فجلست فلورندا على كرسي بجانب النافذة وأرسلت نظرها من خلال تلك الأغصان العارية إلى النهر وما وراءه، فرأت القارب قد ابتعد عن المكان، فتذكرت أنها رأت حبيبها فيه، ثم أرسلت أفكارها في فضاء الهواجس.
أما العجوز فإنها تركت فلورندا وهواجسها، وانصرفت إلى أيقونة بجانب سرير فلورندا فيها صورة السيد المسيح مصلوبا، وجثت أمام الصورة وقبلتها وجعلت تقرع صدرها وتطلب إلى السيد المسيح أن يحفظ ألفونس ويوفقه ويتم له الزواج بفلورندا. وبعد الفراغ من الصلاة، قبلت الصورة وخرجت وأغلقت الباب وراءها، وأوصت الخدم ألا يقربوا من الغرفة لئلا يزعجوها. على أن الخدم لم يكن يؤذن لهم بالصعود إلى الطبقة العليا من ذلك القصر حيث كانت فلورندا، بل كانوا يقيمون في الطبقة السفلى، فإذا أرادت شيئا بعثت إليهم مع العجوز.
واستغرقت فلورندا في هواجسها أمام تلك النافذة حتى نسيت نفسها، وقد أضناها التفكير فأحست بالنعاس، فاتكأت على سريرها، وسرعان ما استغرقت في النوم، فتراءى لها ألفونس في منامها قادما نحوها ووجهه يفيض نورا، وأحبت أن تقبله فلم تستطع، فانزعجت وأفاقت وهي منقبضة النفس.
وبينما هي تمسح عينيها لتتحقق من أنها كانت في حلم سمعت وقع خطوات، فنظرت فإذا بالعجوز تدخل من الباب وعلى وجهها مظاهر الخوف، فجلست فلورندا وقد بغتت، وقالت: «ما بالك يا خالة؟ ما وراءك؟»
قالت العجوز: «ما ورائي إلا الخير، لا تضطربي.» وسكتت.
فازداد قلق فلورندا، وصاحت بها: «ماذا جرى؟ هل أصاب ألفونس سوء؟»
قالت العجوز: «معاذ الله، ولكن الملك يدعوك إليه.»
فلما سمعت ذلك اضطربت ونسيت هواجسها بحبيبها، وتشاءمت من تلك الدعوة وقالت: «أين هو؟ وما الذي يبتغيه مني؟»
قالت العجوز: «لا أدري يا سيدتي، ولكني كنت في غرفتي أصلح بعض شأني، فرأيت الملك بنفسه يتسلل كالسارق فبغت لرؤيته، فسألني عنك وطلب إلي أن أدعوك إلى الغرفة الشمالية من هذا القصر، على أن تأتي حالا بالحالة التي تكونين عليها، فجئت لتنفيذ أمره.»
فوثبت فلورندا من فراشها وقد تحققت وقوع الخطر الذي كانت تخشاه، ولكنها اعتمدت على الله وثبتت جأشها ودنت من الأيقونة فقبلتها وصلت لله أن يشجعها وينقذها من مخالب الشرير، وطلبت إلى خالتها أن تصلي لها أيضا، ثم التفت بالرداء كما كانت، ومشت وهي تتوسل إلى الله من أعماق قلبها أن ينجيها من هذه التجربة. ولا يرتاح المرء في مثل هذه الحالة إلا بالتوسل إلى القوى العلوية غير المنظورة.
مشت فلورندا كالذاهب إلى القتل، فلا غرو إذا اصطكت ركبتاها وارتعدت مفاصلها، وودت أن تكون تلك الغرفة على مسافة أميال منها. على أنها تشجعت باتكالها على الله، حتى إذا دنت من الغرفة سمعت وقع خطوات، فإذا بالملك قد خرج لاستقبالها عند الباب وهو يبتسم لها ويرحب بها، وقد خيل له أن مجرد ابتسامة تجعلها طوع إرادته، وأنه حينما يظهر ارتياحه لمجالستها تندفع إلى مرضاته.
العفة
أما فلورندا فدخلت الغرفة بخطوات ثابتة، والأنفة والعفة يتسابقان إلى قلبها، والغضب والخوف يتجليان في وجهها، وهو يسير بين يديها حتى جلس على المقعد ودعاها للجلوس إلى جانبه، فقالت فلورندا وأمارات الحشمة والرزانة بادية على محياها: «لا يليق بمثلي أن تجلس في حضرة الملك.»
فقال الملك وهو يضحك: «اجلسي يا فلورندا، فإني لم أدعك إلي لأحملك مشاق التجمل، ولكنني أردت أن ألقاك وأنت في راحة وسعادة، اجلسي.»
قالت فلورندا: «العفو يا مولاي.»
فقطع الملك كلامها وأمسك بيدها وأجلسها، فأحست - لما لمست يدها يده - كأن شيطانا يلمسها، فأجفلت، وجذبت يدها من يده، وجلست وهي تحاذر أن يلمس ثوبها ثوبه، فأحس رودريك باجتذاب يدها، وقد شعر - حين لمس تلك اليد - بعكس ما شعرت هي به، وشق عليه ما بدا من نفورها، ولكنه حمل ذلك منها محمل الحياء فابتسم وقال: «لا ألومك يا فلورندا لما يبدو في وجهك من البغتة لأنك تتهيبين من موقفك بين يدي ملك الإسبان، وهي أول مرة وقفت فيها بين يديه، ولكن اعلمي - يا ملكة الجمال - أني لم آت إليك بنفسي إلا لأدعوك إلى السعادة، ولا أريد أن تخاطبيني كما تخاطبين الملك، بل خاطبيني كما تخاطبين رجلا يحبك ويهواك ويريد أن يجعلك أسعد فتاة في هذا العالم.»
فلما سمعت فلورندا قوله تحققت من قصده، ولكنها أحبت التخلص منه بالحسنى، فوقفت وهي تقول: «حاشا لمثلي أن تكون غير خادمة حقيرة بين يدي ملك الإسبان الذي يتمثل الناس بشدة بطشه ...»
فقطع الملك كلامها وقال: «وماذا يمنع أن تكوني حبيبتي أيضا، بل تكونين مولاتي ومالكة زمامي وزمام مملكتي؟» قال ذلك وقد ثارت عواطفه واحمرت عيناه ورجفت شفتاه، وهو يحاول التلطف في الكلام والإشارات، ولكن الخشونة كانت ما تزال تغلب على لفظه وخلقه.
فقالت فلورندا: «كلا يا مولاي، لا يمكن أن أكون كذلك، وأرى جلالة الملك قد فرط فيما وفق إليه في دنياه، فإن هذا الموقف لا يليق بمثلي.»
فظنها لا تصدق شدة حبه لها، وأنها تخشى أن يكون قد أراد خداعها، فوقف هو أيضا وقال: «يظهر لي أنك لم تصدقي قولي، ويحق لك أن تستغربي ما يبدو من تفريطي، ولكنني أعترف لك يا فلورندا أنك قد ملكت قلبي وروحي وتسلطت على كل مشاعري، فتعطفي علي وتلطفي بالقبول.»
قال ذلك وهو ينظر إليها وقد انحنى نحوها انحناء المتذلل المستعطف، وبسط يديه وهما ترتعدان من شدة الهياج.
أما هي فلم تعبأ بهذه الظواهر الخادعة، فظلت على هدوئها وثبات جأشها، وقالت بصوت هادئ: «أقبل ماذا؟» فتوسم الملك في سؤالها الرغبة في القبول، فقال: «تقبلين أن تكوني شريكة حياتي، فتعيشين معي عيشة السعادة والرفاء، وتكونين أنت الآمرة الناهية.»
فنظرت إليه فلورندا نظرة التوبيخ والاحتقار، وقالت: «وجلالة الملكة؟»
وكانت تلك العبارة أشد وقعا من الصاعقة على رأسه، ولم يكن يتوقع تلك الأنفة من فلورندا؛ لأنه لم يكن يعرف قيمة العفة ولا يدرك قيمة الحرية الشخصية ؛ ولذلك كان يظن أنه إذا ابتسم لفلورندا ابتسامة واحدة ترامت عند قدميه وسلمت نفسها له، وقد فاته أن العفة أثمن مما في خزائن الملوك وأسمى مما على عروشهم وأرقى مما تبلغ إليه مدنيتهم، بل هي سيف قاطع تقف به الفتاة أمام الملوك وتحسب أنها أقوى منهم سلطانا وأعز شأنا؛ ولذلك كان موقف فلورندا بين يدي رودريك موقف الملك أمام الملك، ولم يكن تواضعها في أول الأمر إلا رغبة في التخلص بالحسنى، فلما رأت استرساله في القول أجابته بكلمة اضطربت لها كل جوارحه، كلمة ذكرته بارتباطه بزوجته بالرباط المقدس الذي لا يجيز له مخاطبة سواها بمثل ذلك.
أما هو فقد ساءه أن تخجله بتلك العبارة لما تتضمنه من التوبيخ والتعنيف، ولكنه تجاهل ما تريد وظل على أسلوبه في الملاطفة، فقال: «يا للعجب من جهلك وغرورك، أدعوك إلى السعادة والشرف وأسهل لك الطريق إليهما وأنت تقيمين العقبات أمامك! ألا تعلمين يا فلورندا أن الأمر الذي أدعوك إليه ليس في هذه المملكة ولا في غيرها فتاة إلا وتنذر النذور للحصول عليه؟ تعقلي وارجعي إلى رشدك واعلمي أنك ترفضين سعادة لا ينالها إلا نفر قليل من خيرة الأنام، وشرفا تتطاول إليه أعناق ربات الحجال، وهل تجهلين أنك إذا أطعتني تنالين عزا لم يحلم به أحد من أهلك، وأنك إذا ظللت على غيك أسأت إلى أبيك؟ لأنني إذا رأيت منك الرضاء بما عرضته عليك جعلت والدك من أقرب المقربين في البلاط.»
فلما سمعت قوله لم تصبر عن الغضب وأحست بسلطان لها يفوق سلطانه، فخاطبته بما لا يخاطب به الملوك، قالت وهي تشير بأصبعها إلى نفسها: «تزعم يا رودريك أنك تدعوني إلى السعادة والشرف، وأنت إنما تدعوني إلى الشقاء والدناءة، وأنت حين تخاطبني بهذا القول - ولو تلميحا - قد أهنتني واستصغرتني، بل أنت إن توهمت قبولي لذلك تجعلني أدنى خلق الله، فأقلع عن ذلك ودعني وشأني، فإنك صاحب عز وسلطان ولك الرقاب والأموال، وأما أنا فليس لي إلا هذه الجوهرة، أفتسلبني إياها؟ وهل تظن أنك إذا أردت ذلك تستطيعه؟» وارتعشت يداها وارتجفت شفتاها وابيضتا من شدة التأثر، فاستطردت قائلة: «كلا، لا يستطيع أحد أن يسلبني هذه الجوهرة، فإنها أثمن من خزائن العالم بأسره، وهي سلاحي وترسي ودرعي، وهي سبيلي إلى السعادة الأبدية.»
فعظم على الملك ما سمعه من توبيخها حتى رقصت لحيته على صدره، ولكن هيبة الحق وسلطان العدل غلبا على غضبه، فلم يجسر على إهانتها، غير أنه كان ما يزال يرجو قبولها، فأراد أن يطيل معها الكلام بأن يخلط الجد بالهزل، فقال: «وهل ذلك الغلام أحق بك مني؟»
فلم يزدها قوله إلا عزيمة وثباتا، وقد أدركت أنه يريد الحط من قدر ألفونس، فقالت: «مهما يكن من أمره فإنه نصيبي في هذا العالم، وهو خطيبي بشرع الله.»
فازداد دهشة لجسارتها، وحدثته نفسه بأن يجافيها ويأخذها بالقسوة، ولكنه أجل ذلك إلى أن تفرغ جعبته من حيلة يحتال بها لإقناعها، فقال لها: «يظهر يا فلورندا أن صغر سنك لا يزال غالبا على عقلك، ولولا ذلك لم تفضلي غلاما لا شأن له ولا مقام على ملك ملوك الإسبان، ولكنني أعذرك على طيشك، وأبيح لك التفكير في أمرك حتى ترجعي إلى صوابك ولا ترفضي النعمة التي أبذلها لك، فلا تضيعي هذه الفرصة بما تتمسكين به من الأوهام الباطلة والاعتبارات الفارغة، وهذا آخر ما أبذله لك من النصيحة فتدبري أمرك.»
فلما رأت أن التوبيخ لم يجد معه نفعا، عمدت إلى إقناعه بنفس برهانه، فسكنت من اضطرابها، وقالت بنغمة التعقل والرزانة: «يقول جلالة الملك إني أتمسك بالأوهام الباطلة والاعتبارات الفارغة، فما قوله إذا علم أن جلالة الملكة تراود شابا عن نفسه، وتطلب إليه أن يعيش معها ويكون شريك حياتها؟»
فلما أيقن رودريك قوة حجتها، مع ما في ذلك البرهان من التحقير له، هاج غضبه ولاح له أن يستخدم العنف في إقناعها، وهم أن يأمر بالقبض عليها وتعذيبها لعلها ترعوي عن تمسكها بألفونس؛ لأنه ظنها لم ترفض طلبه إلا لتعلقها بألفونس، وتوهمها فيه القوة أو الثروة، وظل يعتقد أنها إذا تحققت من فقر ألفونس وضعفه تتركه، ولا ترى أفضل لها من ملك الإسبان.
ولقد توهم رودريك ذلك لأنه لا يفهم معنى الحب الطاهر، ولا يدرك منزلة العفة الحقيقية، وما درى أن القلبين إذا تعاهدا على الحب كانت السعادة كلها في ذلك العهد، ولا دخل للغنى أو المنصب في أسباب تلك السعادة. وتوهم رودريك أيضا أنه إذا حقر ألفونس في عيني فلورندا زهدها فيه، فقال لها: «ألا تعلمين يا فلورندا أن ألفونس من بعض أتباعي، وأن زمامه في يدي أفعل به ما شئت؟ يظهر أنك لا تعلمين ذلك، ولعلك لا تزالين على ما كنت تعلمينه قبل ضياع الملك من يده ...»
الصلاة الحارة
والواقع أن ذلك التعريض بمكانة ألفونس زادها تمسكا به وتشبثا بمحبته، والمحبة الطاهرة تزداد شدة بما تلاقيه من المقاومة، كما تزداد الحرارة بالاحتكاك، ولكن ساءها أن يكون لهذا الظالم سبيل إلى الكلام، وخافت إن أجابته جوابا عنيفا أن يغضب على ألفونس ويتعمد أذاه، فأحبت أن تقنعه باللطف لعلها تخفف من غضبه ريثما يفتح الله عليها بالفرج، فقالت: «إذا صح أن الإنسان ينبغي ألا يحب غير الذي يكسبه مالا أو رتبة، فما الذي حبب جلالة الملك في هذه الفتاة الحقيرة حتى أراد أن يجعلها سيدة أهل قصرها كافة؟! وإذا كانت القاعدة أن نهمل الفقراء وألا نحبهم، فما أجدرك يا مولاي الملك بأن تنبذني وتطردني من حضرتك؛ لأني لم أعد شيئا بجانب سلطانك ورفعة مقامك، فأرجو من مولاي أن يفعل ذلك فإنه أولى بمنصبه وأحفظ لكرامته.» قالت ذلك وقد توردت وجنتاها من عظم تأثرها واضطراب عواطفها، واصطكت ركبتاها حتى لم تعد تستطيع الوقوف، ولكنها تجلدت وتشاغلت بملاعبة أطراف جدائلها بين أناملها، ولبثت تنتظر جواب رودريك.
أما هو فلما تبين رباطة جأشها وقوة حجتها رأى أن يأتيها بالحيلة ويترك العنف إلى أن تنفذ حيلته، وذلك أنه حين أنس تمسكها بألفونس وتعلقها به، وتبادر إلى ذهنه أن إبعاده عنها يغيرها ويحملها على أن ترضخ لرغبته؛ فتظاهر بأمر طرأ على خاطره بغتة، فقال: «لا أزال أعتقد أن الوهم يسيطر عليك، وقد تذكرت أمرا يستلزم عودتي إلى القصر الآن، وذاك من حسن حظك؛ إذ يتيح لك فرصة تعملين الفكر فيها لعلك ترجعين إلى رشدك، فإذا لم ترجعي بعد هذه الفرصة، فلا تلومي إلا نفسك.» قال ذلك بلهجة شديدة ومشى حتى خرج من الغرفة، وترك فلورندا وحدها.
أما هي فقد سرها هذا التأجيل لعلها تجد سبيلا للنجاة. فلما خرج رودريك من الغرفة مشت نحو غرفتها، وقد فاضت أشجانها وعاد إليها الخوف وزاد اضطرابها، فلقيتها العجوز عند باب الغرفة، فابتدرتها بالسؤال عما جرى فلم تجبها، ولكنها ظلت في سيرها حتى أقبلت على أيقونة السيد المسيح، فجثت أمامها وقرعت صدرها وقد خنقتها العبرات، وتحول جلدها ورباطة جأشها - حين كانت بين يدي رودريك - إلى الحزن والكآبة، ولم تر لها فرجا غير البكاء، فجعلت تتضرع إلى صاحب تلك الأيقونة بدموع حارة، وبعبارات صادرة عن قلب يتدفق محبة وتقوى.
فلما رأتها العجوز جاثية جثت إلى جانبها وصلت معها، وكلما قالت فلورندا عبارة أمنت العجوز عليها، وكان في جملة صلاتها قولها: «أبعد عني أيها المخلص هذه التجربة، وغير قلب هذا الملك ليرجع إلى طاعتك ويشعر بفظاعة الأمر الذي ينوي ارتكابه. أرشدني يا رب إلى سبيل أنجو به من هذه الشباك، واحفظ عبدك ألفونس من كل شر واحرسه وكن معه، واجمعنا أيها المخلص لنعيش معا على تقوى الله ومرضاته، أسبغ الحنان على هذه المسكينة الغريبة، هذه الفتاة التعسة التي ليس لها ملجأ سواك. أنت ملجأ البائسين والضعفاء، لا تسمح يا رب بوقوع هذا الشر في تذكار ميلادك المجيد.»
وكانت كلما قالت عبارة تقرع صدرها، وخالتها تقول: «آمين.» وكلاهما تذرفان الدموع السخينة.
فلما فرغتا من الصلاة نهضتا، وأحست فلورندا بانبساط نفسها وارتياح ضميرها، وشعرت كأن الأخطار قد زالت عنها حين ألقت متاعبها على الله. ومثل هذه الراحة لا يشعر بها غير أهل الإيمان الوطيد، فإن أحدهم إذا أحدقت به مصائب العالم تحملها بالصبر وأزال آثارها بالصلاة. والبكاء شيء يزيح الانقباض، فكثيرا ما يشعر الإنسان بضيق، فإذا بكى زال ذلك الضيق، ويغلب هذا الشعور في النساء أكثر مما في الرجال.
فلما زال اضطراب فلورندا، جلست تفكر في السبيل إلى نجاتها، واستغرقت في التفكير، والعجوز جالسة القرفصاء تنظر ما يبدو منها.
يعقوب
فلنترك فلورندا في تأملاتها ولنرجع إلى ألفونس، لنرى ما كان من أمره بعد ذهابه إلى منزله، ولم يكن منزله بعيدا عن قصر الملك، فلما وصل إلى باب المنزل ترجل وسلم الجواد إلى أحد الخدم وهم بالدخول، فأحس كأن شيئا يستوقفه، فوقف لحظة ثم دخل وتوجه إلى غرفته، فرأى خادمه الخاص يقف ببابها ينتظر قدومه ليبلغ أوامره إلى من يريد.
وكان ذلك الخادم كهلا، قصير القامة، جاحظ العينين، أعقف الأنف، بارز الذقن، لحيته قصيرة تنقسم إلى شعبتين مخروطتي الشكل، بارزتين نحو الأمام، طرفاهما رأسا المخروط وقد دب الشيب في ذينك الرأسين، ولا يزال أصل اللحية عند الذقن أسود أو هو كستنائي اللون، وكان اسمه يعقوب، ولم يكن يعنى بتسريح شعره، فكان الإهمال ظاهرا في لحيته حتى لقد تحسبها جزازة نعجة تلبد صوفها وتشبك ثم نبشت أطرافها. على أن وجه الرجل كان بالاختصار مضحكا لبروز الأنف وجحوظ العينين وبروز اللحية على تلك الصورة، وكان مع ذلك كثير الحركة خفيف الروح لا ينفك وجهه ضاحكا. وكان قد ربي في بيت غيطشة قبل أن يكون ملكا، فلما تولى الملك قربه إليه وكان يثق فيه ويعهد إليه بأموره ويسر إليه بكثير من آرائه. وأهل القصر يحسدون يعقوب على ذلك التقرب وخاصة لأنه ليس قوطيا، ولم يكونوا يعرفون أصله ولا كيفية وصوله إلى ذلك المنصب، وقد تعجبوا من أمره.
أما غيطشة فقد كان يحبه ويقربه، ولما دنا أجله أوصى أولاده به وأوصاه بهم وخاصة ألفونس، فقد أوصاه بالاعتماد على يعقوب في كل ما يهمه. وكان ألفونس قد تعود احترامه والثقة به من عهد والده، ويعقوب يتفانى في خدمته، وقد لا يظهر لمن يراه لأول وهلة أنه ذو رأي أو همة لما يبدو في وجهه من ملامح المجون مع خفة الروح، ولكنه كان في مقام الجد من أكثر الناس حكمة وهمة.
فلما وصل ألفونس إلى غرفته استقبله يعقوب ضاحكا، وفتح له باب الغرفة، فدخل ألفونس ولم يكلمه على خلاف عادته من ممازحته ومداعبته، فأدرك يعقوب أنه في شغل هام، فوقف لا يخاطبه في شيء لئلا يقطع عليه مجرى أفكاره أو يثقل عليه بكلامه.
أما ألفونس فكان أول شيء فعله عند دخوله الغرفة أن خلع قبعته ونزع سيفه وعلقه بالحائط، وجلس على كرسي من الخشب بجانب نافذة تطل على مغارس طليطلة عن بعد، وأرسل بصره في ذلك الفضاء والنهار لا يزال صحوا والجو صافيا. وقد لبث برهة لا يتكلم، ثم حول بصره فجأة وصاح: «يعقوب!» فإذا هو بين يديه، فقال له: «هل جاء عمي إلى هنا في أثناء غيابي؟»
قال: «كلا يا مولاي إنه لم يأت، ألم تجده في الكنيسة؟»
فتذكر ألفونس الصلاة، فتبادر إلى ذهنه أن عمه كان في جملة المصلين لأنه مطران «متروبوليت»، ثم عاد فتذكر أنه - لما بين عائلته وبين عائلة الملك من التباعد - ذهب ليصلي في كنيسة أخرى، فقال ليعقوب: «أتظنه سار إلى الكنيسة؟ ولماذا لم تذهب أنت أيضا للصلاة؟»
قال يعقوب: «كنت مشغولا بأمور البيت، وقد صليت هنا، ألا يكفي ذلك؟»
قال ألفونس وكأنه قد تذكر أمرا كان قد ذهب عن باله: «سامحني، فإني نسيت وصية والدي ألا أسألك عن الصلاة. ما رأيك في عمي المطران؟ إني في حاجة إليه.»
فقال يعقوب: «قل وأنا أستقدمه على عجل، ولو كان في رومية.» قال ذلك وتبسم، فأدرك ألفونس أنه يلمح إلى ما بينهم وبين رومية من التنافر، فاستحسن منه هذا المجون وقال له: «لا أظنه بعيدا بهذا القدر، إلي به.»
فخرج يعقوب إلى غرفة الخدم، فبعث خادما يفتش عن المطران في الكنيسة، وآخر يفتش عنه في بيته، وآخر في مكان آخر من مظانه، ورجع وهو في هم من أمر ألفونس، ولكنه لم يجرؤ على استطلاع أمره، فلما وصل إلى الغرفة أخبر ألفونس بما فعله، وظل واقفا وهو يداعب أطراف لحيته بين أصابعه وينتظر أمره، فلم ينتبه ألفونس له لاستغراقه في هواجسه وقد تزاحمت الأفكار في مخيلته، وأكثرها وضوحا أمر الملك، وكيف استبد رودريك به واستخف بشأنه، وكيف أنه بعد أن كان مطمح أنظار وجهاء المملكة أصبح شبيها بأحقرهم، وفكر في وسيلة لاستلاب الملك منه، فإذا هو قاصر عن كل شيء، لا مال عنده ولا رجال، ولا شيء يقاوم به. ثم تذكر فلورندا وأنه عاهدها على استرداد الملك من رودريك، فكيف يرجع عن عهده عاجزا مقهورا؟ فتجسم لديه المصاب وثقل عليه الفشل، وندم على ما فرط منه بين يدي حبيبته من القسم؛ فضاق صدره، وصغرت نفسه، وغلب عليه اليأس، فتناثرت الدموع من عينيه بالرغم منه، والدمع يفرج الكرب إن عزت على المرء وسائل التخلص من الضيق.
وكان يعقوب لا يزال واقفا، فسمع تنهد ألفونس ثم لحظ من بعض الحركات أنه يبكي، فأدرك أنه يفعل ذلك وهو يحسب نفسه في خلوة، فانسل - ولم يشعر به ألفونس - حتى جلس على كرسيه بجانب الباب، وقد انشغل خاطره بألفونس، فعزم على استطلاع أمره من المطران بعد مجيئه، وقد كانت له عليه دالة كبرى.
المطران أوباس
ولم تمض برهة حتى عاد أحد الرسل وأنبأ يعقوب بقدوم المطران، فتذرع بذلك لمخاطبة ألفونس، فدخل عليه وأخبره بمقدم عمه. وكان ألفونس قد فرغ من بكائه وذهب بعض انقباضه، فلما علم بمقدم عمه، لم يصبر على الابتسام؛ لما كان له من الثقة فيه لأنه اشتهر بسداد الرأي والتعقل مع محبته لألفونس.
وكان اسمه أوباس (عباس) وهو طبعا مثل ألفونس يعتبر رودريك مختلسا، وكان قد بذل جهده في عدم انتخابه فلم يفلح؛ لأن حزب الأساقفة الرومانيين غلبه على رأيه، ولأنه المطران الوحيد من أمة القوط، أما سائر أساقفة طليطلة فهم من الرومان أو الذين ينتمون لرومية؛ ولذلك غلب رأيهم. وكان أوباس - منذ تولي رودريك - قد اعتزل الأعمال إلا عند الضرورة، وكان في ذلك اليوم قد صلى صلاة العيد في منزله، ثم خرج بعد الصلاة للجلوس في حديقة المنزل لأنه لم يكن يطيق أن يرى رودريك في ذلك الموكب بدلا من ابن أخيه، فلما جاءه الرسول يدعوه إلى ألفونس، لبس رداءه وقلنسوته وجاء مسرعا.
وكان أوباس حيوي المزاج، طويل القامة، طويل الأطراف، عريض المنكبين، عريض الجبهة، بارز الوجنتين والفكين، واسع الصدر، أسمر اللون، أسود الشعر غزيره، وخاصة شعر لحيته فقد كان مرسلا على صدره إلى أسفل منطقته، وأصحاب هذا المزاج في الغالب فيهم قوة الإرادة مع علو الهمة وقوة البدن وعظم الهيبة. وهم عظام في كل شيء: في الحرب، أو في التجارة، أو في السياسة، أو في أي شيء يقومون به، فهم يمتازون غالبا عن أصحاب الأمزجة الأخرى ويفوقونهم في كل شيء. وكان أوباس مع ذلك بطيء الخطوات، كثير التفكير، قليل الكلام، جهوري الصوت، وكان قوله سديدا ورأيه صائبا.
ولم تمض برهة حتى سمع ألفونس خطوات عمه، وكان يعرفها ببطئها وثباتها وشدة وقعها، فوقف لاستقباله، فلما دنا من باب الغرفة تقدم إليه وقبل يده فباركه، ثم تقدم يعقوب فقبل يده فباركه وهو يبتسم له، وكان أوباس قلما يبتسم لأحد.
دخل أوباس الغرفة مع ألفونس، فأسرع ألفونس للحال وأغلق الباب التماسا للخلوة، فنزع المطران قلنسوته، فاسترسل شعر رأسه إلى كتفه، وكان غزيرا جدا ولم يخطه الشيب مع أنه في نحو الخمسين من عمره. ونظر أوباس في وجه ألفونس، فرآه يبتسم ولكنه تبين الدمع في عينيه وأثر الانقباض في أساريره، فأثر منظره في نفسه، فقال له: «ما لي أراك كاسف البال يا بني؟»
فلم يمسك ألفونس نفسه عن إرسال دمعتين أخريين وهو لا يزال مبتسما، ولكنه تجلد وقد ارتاح إلى رؤية عمه، فقال: «لا أظنني أشكو إليك أمرا لا تعرفه، بل أظنك تشكو مثل شكواي أيضا ...»
فقال أوباس: «فهمت مرادك يا ولدي، ولكن الأمر الذي تشكو منه قد أصبح قديما، فلا بد من أمر حدث لك فجدد أحزانك.»
فقال ألفونس: «صدقت يا عماه، وأما ما جدد أحزاني فهو أني وقفت بين يدي ذلك الوحش الكاسر في هذا الصباح، وقفة خادم بين يدي سيده، وقفت وقد استصغرت نفسي حتى حسبتني ذبت حياء، ولو طال بي الوقوف فإني لا أدري ماذا كان يصيبني. ولما خرجت من القصر رأيت رجال الحاشية لا يعبئون بمروري بعد أن كانوا إذا مررت يتسابقون إلى تقبيل يدي.»
فقال أوباس: «وما الذي دعا إلى وقوفك هذا الموقف، وعهدي برودريك قلما يدعوك إليه؟»
فقال ألفونس: «لأني تأخرت عن موكبه في هذا الصباح، فلم أدركه إلا وهو راجع من الكنيسة.»
قال أوباس: «ما كان أغناك عن هذا التأخير، إذن لم تكن لتسمع تعنيفا ولا تتحمل لوما حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا! وما الذي أخرك عن الاحتفال؟»
فلم يخجل ألفونس من أن يقص على عمه سبب تأخيره لأن عمه مطلع على ما بينه وبين فلورندا من المحبة المتبادلة، وهو الذي وضع عربون الخطبة بينهما، فقال له: «سبب تأخيري أني زرت فلورندا في هذا الصباح بعد أن طال غيابي عنها، وأنت تعلم انقطاعي عن ذلك القصر وضواحيه منذ ابتليت بمصيبة أبي. وكنت أحسب فلورندا قد تغيرت، فزرتها لأتحقق من أمرها، فطال الحديث حتى نسيت الموكب، فلم أنتبه إلا وهم عائدون من الكنيسة، فأسرعت لأكون معهم، ولم أكن أظن أن الملك يراقب حركاتي إلى هذا الحد. فلما دخلت عليه استبقاني إلى ما بعد خروج المهنئين وعنفني تعنيفا لم يكن شديدا، ولكنه وقع على رأسي وقوع الصاعقة.»
قال ذلك وكاد يشرق بدموعه، فلم يبال أوباس بدموع ألفونس لاستصغاره مثل هذه الظواهر - ظواهر الضعف البشري - فظل ساكتا ينتظر تتمة الحديث. أما ألفونس فلما رأى عمه لا يزال مصغيا، استطرد في الكلام فقال: «ومما زادني ألما أن ذلك القس الهرم كان يحاول الإيقاع بي في الشرك، فقد نبه رودريك إلى علاقتي بفلورندا، وكنت أقرأ سوء القصد من خلال عينيه الغائرتين ومن وراء ألفاظه المختلطة.»
فقال أوباس: «أراك يا ألفونس مضطرب العواطف كثيرا، ولا فائدة من ذلك، ولا عبرة بلفظ تسمعه أو إشارة تراها؛ فإنها حركات طائرة في الهواء، وما هي من الحقيقة في شيء، فخفف عنك وارجع إلى صوابك وابحث في الأمر بحثا معقولا.»
رباطة الجأش
فعجب ألفونس لقول عمه وشعر بصغر نفسه وضعفه، ولكنه لم يستطع السيطرة على عواطفه، فقال: «كيف لا نعبأ بالأقوال؟ وكيف أستطيع الصبر على الإهانة والاحتقار؟ أترضى يا عماه أن نكون أرقاء لذلك المختلس؟» قال ذلك والحدة بادية في صوته.
فأجابه أوباس بصوت هادئ: «لا!»
فقال ألفونس: «فكيف تقبل هذه المعاملة، وتقول إنها حركات طائرة في الفضاء؟ إنني لا أستطيع الصبر على ذلك، وإن الموت خير لي من الحياة مع هذه الإهانة.»
فقال أوباس: «لا أقول إن الإهانة حركات في الهواء، ولكنني أرى الكلام الصادر عن الحدة والغضب بلا روية أشبه بحركات طائرة في الهواء لا فائدة منها.»
فخجل ألفونس من ذلك التوبيخ اللطيف، ولكنه ظل مندفعا في تيار العواطف، فقال: «أتلومني يا عماه على غضبي وقد قتلوا أبي واختلسوا ملكي، ثم ضيقوا علي في ذهابي ومجيئي كأني أحد عبيدهم؟ ماذا تريد أن أفعل بعد ذلك؟»
قال أوباس وصوته لم يرتفع: «أريد أن تنظر في الأمر بعين العقل والروية؛ لأن الحدة تذهب الرشد وتؤدي إلى الخطأ، وربما يخيل لك إذا رأيت هدوئي وصبري أني أقل منك استنكارا لأحوال هؤلاء، ولكنني أفكر كثيرا وأقول قليلا، وسترى متى سكن جأشك ودار الحديث بيننا أني قضيت العامين الماضيين وأنا أسعى في الأمر الذي لم يخطر ببالك إلا اليوم، وأنت إنما ذكرته على أثر انفعالك وغضبك بعد أن قابلت خطيبتك وعنفتك على ضعفك. وأما أنا فإني لا أندفع بالغضب ولا أغضب للكلام الفارغ، ولكنني أنظر بعين الحقيقة، وقد كنت أتوقع منك هذه الحمية في أول يوم خرج فيه هذا الملك من يدك، بغض النظر عما قد يلحق بك من الإهانة أو ما قد تسمعه من التعريض أو التوبيخ.»
فلما سمع ألفونس كلام عمه تهيب واتعظ لما آنسه فيه من الرزانة والجد وقوة العزيمة، وشعر بصغر نفسه لما تحمله عمه من الضيق في السنتين الماضيتين وهو لم يشك ضيقا، فأراد أن يصلح ما بدر منه من دلائل الضعف، فتحمس وقال: «لقد أصبت يا عماه، إني تهاونت في الأمر ولم أكن أحسبك على هذا العزم، أما الآن فأشر علي، أشر علي بالذي أفعله لاسترداد ما اختلسه منا هذا الرجل.»
وكان أوباس منذ شرع في هذا الحديث قد أخذت علامات الانقباض تبدو على محياه، فازداد هيبة وجلالا واستغرق في الأفكار، وقد أرسل بصره من النافذة إلى الفضاء، وكان من ينظر إلى وجهه يتبين استغراقه في الهواجس من ثبات بصره على لا شيء، كأنه ينظر إلى صور تمثلت في مخيلته وفيها الخوف والغضب والفرح والنشاط.
وكانت ظلال تلك العواطف تتجلى في عينيه البراقتين، ولو أحسن ألفونس الفراسة لقرأ أفكار عمه في عينيه وأسرته، وكفى نفسه مئونة الاستشارة والمداولة، ولكنه لم يكن على شيء من ذلك، فلما فرغ من كلامه صبر لسماع ما يقوله عمه.
فإذا هو ما يزال غارقا في الهواجس وهو يعبث بأطراف جدائل شعره، كأنه لم يسمع شيئا من ابن أخيه، فتهيب ألفونس من منظره، ولم يجسر على أن يشوش عليه أفكاره، فظل صامتا.
مضت لحظات قليلة وكلاهما صامت، ثم بدأ أوباس الحديث فقال: «هل أدركت يا ألفونس المشروع العظيم الذي تعرض نفسك له، وفهمت الأمر الذي تطمح إليه أنظارك؟»
قال ألفونس: «كيف لا؟ إني ألتمس أمرا هو حق لي لا ينازعني فيه أحد.»
فقال أوباس: «فهمت ذلك، ولكن هل دبرت الطريقة التي تستطيع أن تستعيد بها زمام الحكم.»
قال ألفونس: «أعرض عليك رأيي، وأنت صاحب الرأي.»
قال أوباس: «قل.»
فلسفة التاريخ
وعندئذ قال ألفونس: «لا يخفى على عمي العزيز أن القوة التي ساعدت رودريك على تسنم ذروة الملك إنما هم الرومان وخاصة الأساقفة، وأما رجال القوط أهلنا وأهل عشيرتنا فإنهم لا يريدونه، وهؤلاء جماعة كبيرة، إذا اتحدوا هم ورجالهم وأتباعهم تألف منهم جند كبير يتغلب على جند رودريك، فلا يصعب علينا إذ ذاك استرداد الحكم من يده، إما بالتنازل، وإما بالقتال.»
فابتسم أوباس ابتسامة متكلفة دلت على استخفافه برأي ذلك الشاب الذي بدا كأنه قليل التجربة، ثم قال: «صدقت يا ولدي، إن القوط على عهدنا ، ولكن هل تظن إذا دعوتهم إلى الحرب ينهضون؟ لا أظن أن شكواهم من هذا الملك تخرج عن حد الكلام، ولا لوم عليهم، فهم يخافون على أرواحهم وأموالهم، على أن أكثرهم لا يرون بأسا من بقاء رودريك وغيره من صنائع الرومان لاشتراكهم معهم في المذهب؛ فإنهم جميعا تابعون لكنيسة رومية، وقد تغلب الأساقفة الرومان على آرائهم وعلى قلوبهم كما تغلبوا على حكومتهم، حتى نسوا جنسيتهم.»
وكان أوباس يتكلم بصوت هادئ وتأن، ولم يبد الهياج في عينيه إلا عندما وصل إلى هذا القول، على أن الرزانة ظلت غالبة على حركاته، ولكنه سكت هنيهة وألفونس ينظر إليه ويتوقع بقية الحديث، فقال أوباس وهو يجدل شعر لحيته بين أنامله: «سامح الله ريكارد؛ فإنه هو الذي جر علينا هذا البلاء.»
فلم يفهم ألفونس معنى هذا اللوم؛ لأن ريكارد ملك من ملوك القوط حكم إسبانيا زمنا طويلا في أواخر القرن السادس للميلاد، وكان من رجال الحرب والسياسة، فقال ألفونس: «ما الذي ارتكبه ريكارد يا عماه حتى استحق هذا اللوم؟ والذي أعلمه أنه هو الذي حفظ لنا مملكة الإسبان ودفع الإفرنج (الفرنك) عنها.»
قال أوباس: «صدقت يا ولدي، إنه نجانا من الفرنك، ولكنه ألقانا فيما هو أعظم خطرا منهم.»
قال ألفونس: «وما هو ذاك؟»
قال أوباس: «ألا تعرفه؟ ألا تعرف أن ريكارد هو الذي أضاع جنسيتنا، وحل جامعتنا؟»
فلم يفهم ألفونس ما يهدف إليه، فقال: «كلا يا مولاي، إني لا أعرف ذلك، ما هو؟»
قال أوباس: «ألا تعلم يا ألفونس أن ريكارد هو الذي جعل مذهب كنيسة رومية (الكاثوليكية) هو مذهب حكومة إسبانيا؟»
قال ألفونس: «نعم، ألا تظنه فعل حسنا؟»
فقال أوباس: «نحن الآن على مذهب هذه الكنيسة أيضا، وقد ربينا في حبها، ولا بأس في ذلك، ولكنني أنظر في الأمر من وجهه السياسي، أنظر فيه من حيث جامعتنا القومية. جاء أسلافنا القوط منذ بضعة قرون، وكانت هذه البلاد في حوزة الرومان، فأخذوا الملك من أيديهم بالقوة وتسلطوا عليها، ولا يخفى عليك أن مذهب أسلافنا الذي جاءوا به إلى البلاد ليس الكاثوليكية مذهب كنيسة رومية، بل هو مذهب الآريوسي نسبة إلى آريوس الشهير، وكان ذلك مذهب معظم قبائل القوط قبل خروجهم على المملكة الرومانية، ففتحنا هذه البلاد وقضينا فيها نحو مائتي سنة ونحن على مذهب آريوس، وأهل البلاد على مذهب كنيسة رومية.
ولا أخفي عنك أن ملوكنا القدماء لم يهتموا بنشر مذهبهم ولم يتبينوا علاقة الدين بالسياسة، ولكن الرومان لم يغفلوا عن اغتنام الفرص لاسترداد سلطانهم بطريق الدين، فجعلوا يدسون أنوفهم في مصالح الدولة رويدا رويدا، ويبثون مذهبهم بين الرعايا بوسائل مختلفة حتى تولى ريكارد المذكور منذ قرن وبعض قرن، فاستولوا على عقله حتى نبذ ديانة أجداده، واعتنق المذهب الكاثوليكي وجعله مذهب المملكة فتم النفوذ لرومية، حتى أصبح مجمع الأساقفة الذي يجتمع في هذه المدينة يدير أمور الملك كما يشاء، وربما أتوا بالأوامر من رومية نفسها، ولا تزال الكاثوليكية ديانة هذه المملكة إلى اليوم، ولم يبق للآريوسية أثر إلا قليلا جدا. ولا ريب عندي أن الذين استبدلوا مذهبهم في أول الأمر إنما استبدلوه موافقة لرأي ريكارد، لا عن اقتناع بالبرهان؛ لأن مذهب آريوس أقرب إلى منطق العقل من سائر مذاهب النصرانية.»
فلما وصل أوباس إلى هنا، أحس بأنه استطرد في الكلام بين يدي ذلك الغلام، وقد تحقق من ذلك مما بدا على وجه ألفونس من دلائل الاستغراب، لما غرس في ذهنه منذ طفولته من ذم الآريوسية، حتى إنه كثيرا ما سمع ذمها من عمه نفسه، وأدرك أوباس ما جال في خاطر ابن أخيه، فاستدرك قائلا: «لا يغرب عن ذهنك يا ولدي أني لا أحبب إليك الآريوسية دون سواها، فإننا لا نفضل مذهبا على مذهبنا الحالي، ولكنني أخاطبك بلغة السياسة لا الدين؛ لأبين لك نتائج الخطأ الذي ارتكبه ريكارد - سامحه الله - لأنه باعتناقه المذهب الكاثوليكي أضاع الجنسية القوطية؛ لأن الدين - يا عزيزي - أثبت الجامعات وأشملها؛ إذ قد يجتمع القوطي والفندالي والروماني واليوناني والسكسوني والعربي وغيرهم في بلد وهم أخلاط، فإذا اعتنقوا مذهبا واحدا ضاعت جنسياتهم الأصلية بتوالي الأزمان وصاروا أمة واحدة.
وهناك جامعة أخرى ربما كانت مثل جامعة المذهب أعني بها جامعة اللغة، فهذه أيضا شاملة، ولكنها في الغالب تابعة للدين. ألا ترى أننا بعد أن اعتنقنا المذهب الكاثوليكي أصبحت اللغة اللاتينية هي الغالبة في كنائسنا ومجالسنا لأنها لغة ذلك المذهب، وأخذت لغتنا القوطية في الانقراض أو الضياع؟ فلو ظللنا على الآريوسية واستبقينا لغتنا وعممناها في الشعب، وحولنا أهل هذه البلاد عن مذهبهم الكاثوليكي إلى مذهبنا الآريوسي لكانت لغتهم لغتنا، ومذهبهم مذهبنا وصاروا من أنصارنا، ولكننا غفلنا عن ذلك فانعكس الأمر، وأصبح أولئك الرومان بعد أن أخرجونا من مذهبنا ولغتنا، يحاولون إخراجنا من سلطتنا بما اكتسبه الأساقفة الرومانيون من النفوذ في أمور الدولة، حتى لا ترى في أوروبا كلها مجمعا دينيا له على حكومة البلاد من النفوذ مثل ما لمجمع طليطلة هذا على حكومة إسبانيا.
وأول من أحس بهذا الخطر من ملوك القوط والدك - طيب الله ثراه - فإنه سعى في إنقاذ حكومته من نفوذ رومية، حتى كأني سمعته يصرح برغبته في الخروج عن مذهبها أو سلطانها الكنائسي، وكان معظم أساقفة إسبانيا ممن تثقف وتشرب حبها وحب أسقفها الأكبر، فأنكروا رغبة والدك، وما زالوا حتى حققوا أغراضهم التي أتحاشى التصريح بها؛ لأنها تؤلمني كما تؤلمك، ونصبوا رودريك هذا وهو روماني الغرض وإن ادعى أنه قوطي الأصل، ففعلوا ذلك إفسادا لما كان والدك قد أسسه.»
رأي أوباس
وكان ألفونس يسمع كلام «أوباس» بإصغاء وقد تلذذ بسماعه لذة عظيمة لما آنسه فيه من الفلسفة والحكمة، مما لم يكن يخطر له على بال من قبل، فلما بلغ إلى خروج الملك من يد أبيه لم يلبث أن سأل قائلا: «كيف استطاع هؤلاء تولية رودريك وأبناء غيطشة أحياء؟»
وقال المطران: «حجتهم في ذلك أن حق الملك عندنا انتخابي وليس وراثيا؛ إذ لو كان وراثيا لكنت أنت أولى الناس بهذا الأمر. على أن كونه انتخابيا لا يقضي بحرمانك منه، وكان يجب أن ينتخبوك لأنك ابن الملك، وقد فعلوا ذلك غير مرة. ثم لولا ما ظهر في خلال انتخابهم رودريك هذا من الأغراض القومية التي مرجعها ضياع جنس القوط قاطبة لما شق ذلك علينا ...»
ثم استأنف أوباس الحديث كأنه أفاق من غفلة وقال: «أراني خرجت من دائرة الموضوع الأصلي، وخلاصة ما قدمته لك أن الذين تعدهم قوطا وترجو أن ينصروك كي تتغلب على هذا الرجل قد ضاعت منهم جامعتهم الجنسية في الجامعة الدينية واللغوية، فربما كانوا أقرب إلى نصرة أولئك منهم إلينا، فمثل هؤلاء لا يعتد بأقوالهم ولا يعتد على أحزابهم.»
فلما سمع ألفونس نتيجة البحث خاب أمله لأنه إنما كان يتوقع شد أزره بأهل عشيرته، فلما تحقق من ضياع أمله أحس بضعف عزيمته وظل مطرقا لا يبدي حراكا ولسان حاله يقول: «عجزت عن الحيلة.»
فلما رآه أوباس مطرقا أدرك ضعف عزيمته فأراد أن يسبر غوره، فقال له: «كأنك يئست من النجاح!»
قال: «كيف لا وقد فرغت يدي من الرجال فضلا عن فراغها من المال، ولم يكتف هؤلاء باختلاس الملك بل أخرجوني منه صفر اليدين؟ فهل تعلم أين ذهبوا بأموال والدي؟»
فقال المطران: «إن أموال والدك قد أخذت بحق؛ لأن الملك «رسيسويت» الذي تولى هذا العرش منذ نحو ستين سنة، سن قانونا يقضي برجوع أموال الملك وكل ما يقتنيه إلى خزينة المملكة، فلا ينبغي لنا أن نبالغ في إلقاء التبعة على عدونا بالباطل. أما كيف نبلغ ما نتمناه، فإنه إذا أعجزتك الحيلة للوقوف عليه فأخبرني لأرى رأيي وأرجو أن يكون سديدا.»
فاستغرب ألفونس تواضع عمه، وأشار بيديه وعينيه بما قد يعجز عنه لسانه من تفويض كل الأمر إلى عمه، لأنه أكبر عقلا وأوسع تجربة، فأصلح أوباس مجلسه استعدادا لحديث طويل، والتفت إلى ما حوله كأنه يحاذر أن يسمعه أحد وإن كان على ثقة من انفرادهما هناك، ثم وجه كلامه إلى ألفونس قائلا: «اعلم يا بني أن الإنسان إذا عزم على أمر لا بد من النظر في عواقبه قبل الإقدام عليه، وإلا كانت العاقبة وخيمة عليه، أنت تعلم أن الناس في إسبانيا طبقات، منها : (1)
طبقة الأشراف: وهم أرباب الأموال والمناصب، ومنهم حكام الولايات، وحكام المدن، وأصحاب العقارات، وغيرهم. (2)
رجال الأكليروس. (3)
طبقة المستخدمين: وهم رجال البلاط وموظفو الحكومة. (4)
أهل الحرف: وهم من أواسط الناس وسكان المدن. (5)
الخدم والعبيد: وهم كل ما بقي من أهل المملكة، وهؤلاء هم القسم الأكبر، ومنهم الفلاحون وخدمة المنازل ومعظم رجال الحرب.
فإذا شئنا أن ننهض لاسترداد الحكم من هذا الرجل فلا بد لنا من الاستعانة ببعض هذه الطبقات. فلنبحث في أيها أقرب إلينا.
فالأشراف إما رومانيو الأصل أو قوطيون، فالرومان طبعا ضدنا، وقد بينت لك حال القوط، فهم قد أضاعوا قوتهم في مذهبهم الجديد. فالأشراف لا فائدة لنا فيهم وكذلك أهل البلاط، أما الأكليروس فأنت تعلم أنهم علة هذا التغيير. وأهل الحرف بالنظر إلى إقامتهم الطويلة في المدن، قد أضاعوا الحماسة اللازمة للقيام بمثل هذا الانقلاب، وزد على ذلك أن كلا منهم منصرف إلى عمله وتجارته ويخاف ضياع أمواله القليلة؛ إذ لا يخفى عليك أن بلاد أوروبا كلها تقريبا مؤلفة من المدن والحقول، فأهل المدن لا يكادون يهتمون بما هو خارج حدود مدنهم، وكل مدينة تهتم بنفسها، ونحن لا يكفينا الاستعانة بأهل مدينة واحدة؛ لأن رودريك صاحب جنود وأعوان، يستنجد علينا بحكامه في الولايات فتذهب جهودنا عبثا.
بقي علينا النظر في الطبقة الأخيرة من هذا الشعب، وهي طبقة الخدم والعبيد، فهؤلاء هم الجانب الأكبر ولا تستغني عنهم سائر الطبقات، ومع ذلك فإنهم مستبدون بهم استبدادا عظيما، ولا يخفى عليك أن معظم هؤلاء العبيد إنما دخلوا في الرق على أثر الحروب، وهم رجال أشداء ولا سيما بعد أن تعودوا العمل، وعانوا الشقاء لاشتغالهم في الحقول، فإن عقارات الأشراف وبيوتهم وأموالهم كلها في قبضة هؤلاء العبيد، ومع ذلك فإنهم مظلومون يقاسون من أسيادهم عذاب الذل، وناهيك بعذاب الرق، وأنت تعلم أن هؤلاء الأرقاء لا ينقصون عن أسيادهم من حيث المواهب الطبيعية، ولكنهم تعودوا الخضوع لهم والخوف من أصواتهم حتى أصبحوا أطوع لهم من ظلهم، فكل ما للعبد فهو لسيده، لا يستطيع أن يعمل عملا إلا بأمره، حتى الزواج. وكل ما اكتسبه العبد بالقصد أو بالاتفاق أو بالتجارة أو بالحرب - حتى الأولاد الذين يولدون له - فإنها كلها لسيده، وله أن يبيع العبد أو أمتعته أو أولاده بدون معارضة.
على أن أولئك الأسياد قد ينعمون على بعض عبيدهم بالحرية مكافأة لهم على عمل عظيم قاموا به، غير أن هذه الحرية قلما تتميز عن الاستعباد، فإن العبد ولو عتق فإنه يظل تحت أمر سيده، فإن عمل عملا فلسيده نصف ما يكسبه من ذلك العمل، وإن أراد أن ينتقل من خدمته وجب عليه أن يرد له كل ما معه من الأسلحة أو الأثاث، ولا يعد ذلك العبد من زمرة الأحرار الأصليين إلا في الجيل الرابع من أولاده. والخلاصة فإني لا أطيل عليك الكلام لأنك تعلم كثيرا من أفعال هؤلاء الأرقاء، ولكنك قلما فكرت فيما يقاسونه من الغبن والظلم، وربما لم يخطر لك على بال أنهم من جبلة مثل جبلتنا، فقد شببت وأنت تراهم على هذا الحال.»
الوسيلة
فلما بلغ أوباس إلى هذا الحد وقف وتنحنح وتفرس في ألفونس ليرى أثر أقواله فيه، فرآه منصتا بكل جوارحه لسماع ما يقوله عمه، فعاد أوباس إلى حديثه فقال: «فالأمر الذي أوجه التفاتك إليه يا ولدي هو أن أقوى طبقات الشعب هم أولئك الأرقاء المظلومون، وهم أكثر عددا وأقوى أبدانا وأصبر على الشقاء. فإذا اتخذناهم أعوانا لنا في هذه المهمة قلبوا المملكة رأسا على عقب. وقد لا نحتاج إلا إلى تظاهرهم بالتعاون معنا، فإن اتحادهم يرعب الملك وحكامه وأشراف مملكته، فننال المراد بغير حرب أو سفك دماء. ولكن ما الذي يجمعهم، أو كيف يمكننا أن نجعلهم حزبا مؤيدا لنا؟»
وكان ألفونس يرهف السمع لحديث عمه، وقد رأى الصواب يتألق في كل كلمة من كلماته. فلما وقف أوباس عند هذا الاستفهام ارتبك ألفونس فلم يحر جوابا؛ لأنه لم يكن يتوقع هذا السؤال. أما عمه فإنه لم يوجه إليه هذا السؤال وهو يتوقع منه جوابا، فقال: «اعلم يا بني أن الوسيلة التي يجب أن نتخذها لجمع كلمة هؤلاء الآدميين المظلومين تحت لوائنا إنما هي أفضل الوسائل وأشرفها، بل هي فضيلة تبقى لنا ذكرا مدى الدهور، ويحسدنا عليها كل من ملك هذه البلاد قبلنا، وننال عليها الجزاء الحميد من الله سبحانه وتعالى. أتعلم ما هي؟»
فلم يهتم ألفونس بالجواب هذه المرة لأن ملامح عمه كانت تشير إلى أن الجواب آت. ثم قال أوباس: «إن الوسيلة يا بني لجمع كلمة هؤلاء إنما هي أن نهبهم الحرية ونجعل لكل من ينضم إلينا منهم حقا في الظفر بحريته بعد أجل معين. وإذا نال تلك الحرية كان كسائر الأحرار دفعة واحدة، لا يقاسمه أحد في جهده أو كسبه، على أن يكون ذلك مرتهنا برجوع الملك إليك، وأنك متى توليت عرش إسبانيا هونت الإعتاق وسهلت الطريق إليه بوسيلة ترغب أولئك المظلومين في نصرتك.»
فانبهر ألفونس بما سمعه من عمه وأحس بما بينهما من التفاوت في الإدراك والقوى، وخيل إليه أن الأمر قد تم له على ما يروم حتى أصبح كأنه يرى زمام الملك ويهم بالقبض عليه. ولم يكن ألفونس بليد العقل إلا بين يدي عمه لما له من السلطان على عقله ورأيه. فلم يتماسك ألفونس فتناثرت من عينيه دمعتان من دموع الفرح، وانحنى على يد عمه ليقبلها فاجتذب أوباس يده، وهو لا تهزه عاطفة فرح أو غضب، ولكنه اصطنع ضحكة وألقى يده على كتف ألفونس، وقبض عليها بقوة؛ فأحس ألفونس بشدة تلك القبضة وتوقع أن يسمع شيئا بعدها، فإذا بأوباس يقول: «رأيتك اقتنعت بما سمعته، ولم تعمل فكرك للبحث فيما يحول دون عملنا هذا من الحواجز.»
فأجفل ألفونس وخشي أن تضيع آماله بعد أن أوشك أن يتراءى له أنه ظفر برغبته، وفكر فيما عسى أن تكون تلك الحواجز التي قد تقف في سبيل ذلك المشروع، ولكنه قبل أن يتوصل إلى الجواب سمع عمه يقول: «لا أظنك تجهل ما يحتاج إليه مشروعنا هذا من الأموال للإنفاق على الجند، وابتياع الأحزاب، وإنشاء المعاقل، وإغراء الأعداء ...»
سر جديد
فلما سمع ألفونس ذلك عاد إليه اليأس؛ لأنه لا يجد المال في يديه ولا يدي عمه ولا سائر أهله، واستغرب اغتراره برأي عمه الأول وتخيله وصوله إلى الغرض المقصود مع أن مسألة المال لم تكن لتخفى عليه، وقد كان منذ هنيهة يشكو إلى عمه خروجه بعد موت أبيه صفر اليدين. على أنه إنما اغتر بذلك لشدة اعتقاده بسداد رأي أوباس، وقد نشأ هذا الاعتقاد فيه منذ طفولته الأولى لأنه ما برح منذ أخذ يدب على الأرض يرى عمه يأتي إلى أبيه بلباس الكهنة، والكل يحترمون رأيه ويهابونه، فشب على استسلامه له، فإذا قال أوباس قولا سلم هو به واعتقد صوابه بلا روية ولا تبصر، كذلك كان شأنه معه فيما دار بينهما في ذلك اليوم. فلما سمع ألفونس ذكر المال تحقق أنهما يتداولان عبثا، فبدا أثر القنوط على وجهه، وظل ساكتا، وفي سكوته ما يغني عن الجواب.
أما أوباس فلما رأى أن ابن أخيه قد أسقط في يده وكاد أن ييأس، ابتسم ابتسامة أخرى وقال: «هل يئست يا ألفونس؟ ما أسرع ما ترجو وما أسرع ما تقنط! لا تيأس يا بني إني لا أدع ثقتك العمياء في عمك تذهب هباء، إني لم أقض هذين العامين نائما. نعم، إني أخاطبك على سبيل المداولة ولكنني - في الحقيقة - أعرض عليك مشروعا رتبته وسبرت أغواره ودبرت كل شئونه، ولولا ذلك لم أرض بالخوض فيه معك.» قال ذلك ونهض؛ فنهض ألفونس معه وهو لا يدري معنى ذلك النهوض، ولكنه أصبح شديد الميل إلى استطلاع تتمة المشروع، وأصبح فكره مضطربا قلقا يريد أن يرى ما دبره عمه من الوسائل للحصول على المال. على أنه لم يجسر على سؤاله فظل صامتا في انتظار الجواب. أما أوباس فإنه تناول قلنسوته فوضعها على رأسه فظنه ألفونس يهم بالخروج، ثم ما لبث أن سمعه ينادي: «يعقوب.» وما عتم أن رأى يعقوب داخلا يهرول ولحيته وأنفه يسبقانه حتى وقف بين يدي أوباس، وفي وجهه ابتسامة تدل على ما في نفسه من الاطمئنان. فلما دخل جلس أوباس وأشار إلى ألفونس أن يجلس ففعل، ثم قال ليعقوب: «اجلس.» فأظهر يعقوب البغتة وقال: «حاشا - يا مولاي - أن أجلس بين يديك أو يدي سيدي (وأشار إلى ألفونس)، وإنما يكفيني أن تأذن لي بالوقوف.»
فضحك أوباس، ويندر أن يضحك لغير يعقوب، ومد يده إليه حتى أمسك بإحدى شعبتي لحيته وشده بلطف حتى أقعده على طنفسة في أرض الغرفة، ثم تظاهر بالإجفال وأرجع يده ومسح أطراف أنامله بمنديله وهو يقول: «متى تغسل هذه اللحية يا يعقوب؟ أما آن لك أن تغتسل؟»
فلما سمع يعقوب ذلك السؤال تبدلت سحنته بغتة وذهبت عنها ملامح المجون وبدا الجد في عينيه وقال: «سيادتكم أعلم مني، ولكنني أرجو أن يكون ذلك قريبا.»
فلم يفهم ألفونس معنى هذا الجواب، ولا سيما بعد أن رأى ذلك التغير في وجه يعقوب، ولكنه صبر ليرى ما يبدو منه فسمع عمه يقول: «وأنا أرجو ذلك أيضا، ولكن غسل لحيتك يا صاح يكلف نفقات طائلة، فهل تدفعها؟»
قال: «نعم، إني لا أدخر مالا ولا ولدا ولا نفسا في سبيل غسلها كما تعلم.»
فلم يزد الأمر لدى ألفونس إلا غموضا وإبهاما، ولم يفهم لاستدعاء ذلك الخادم معنى، ولا لتلك الألغاز مغزى، وشق عليه أن يتحول موضوع المداولة من الجد إلى الهزل، وهو لا يعرف أن عمه يميل إلى المزاح إلا قليلا، وأكثر ما يفعل ذلك مع يعقوب. فحمل كلامهما محمل المزاح، وظل ساكتا يتوقع العودة إلى الموضوع الأصلي.
أما أوباس فقال: «إني أعلم ذلك يا يعقوب، وقد آن لي أن أسعى في غسل لحيتك، فهل أنت واثق من المال مهما كبر مقداره؟»
قال: «نعم يا سيدي، وأنت تعلم ذلك ...»
فقال أوباس: «قد كنت أعلمه، ولكن هل حدث تغيير أو تبديل؟»
فقال يعقوب: «كلا يا مولاي، نحن على ما نحن عليه.»
فأطرق أوباس مدة طويلة لا يتكلم واستغرق في الأفكار، كأنه يحل معضلة ويفكر في أمر طرق ذهنه في تلك الساعة، ثم وقف فوقف يعقوب وألفونس فقال للأول: «أحب أن أراك الليلة في منزلي .»
فأشار بيديه وعينيه وشفتيه أن: «سمعا وطاعة.» وخرج وأغلق الباب وراءه.
كتاب فلورندا
فتوقع ألفونس بعد خروج يعقوب أن يسمع من عمه ما يزيل ذلك القلق عنه، فلما رآه قد جلس، جلس هو الآخر وأصاخ بسمعه وهو ينظر إليه كأنه ينصت لما يقوله، فسمعه يقول: «طب نفسا يا ألفونس، إن المال تحت يدي عند الطلب، ولا بد من جلسة أخرى أشرح لك فيها التفاصيل، وأرتب الخطة التي يجب أن نسير عليها في هذا العمل الخطير.»
فقال ألفونس: «ولكنني لم أفهم علاقة ذلك بخادمنا هذا وبلحيته.»
فقال أوباس: «ستعرف السر في ذلك في هذه الليلة إن شاء الله. هل تأتي معي الآن إلى منزلي فنتناول الطعام معا؟ لا، بل الأفضل أن تبقى هنا وأسير أنا وحدي لأخلو بنفسي، وأرسم الخطة التي يجب اتباعها في هذا المشروع.» قال ذلك ونهض وسار إلى الباب وهو يمشي الهوينى على عادته، وألفونس من ورائه ليودعه عند خروجه. وقبل وصولهما إلى باب الغرفة سمعا قرعا عليه، ثم دخل يعقوب وفي يده كيس صغير من الحرير الأرجواني مسطح الشكل كأن فيه كتابا، وقد عقد بشريط من الحرير الأزرق. فلما رأى ألفونس الكيس خفق قلبه لعلمه أنه من فلورندا، وكثيرا ما كانت ترسل إليه الكتب فيه، فأسرع إلى الكيس وتناوله وسأل يعقوب عمن حمله إليه، فقال: «أحد خدم القصر الملكي.»
وكان قد شرع في فضه قبل أن يسمع الجواب، فلما فتحه أخرج منه قطعة من الخشب مربعة الشكل، قد كسي سطحها بالشمع وكتب عليها حفرا بقلم من حديد - وهذه من وسائل المكاتبة في تلك الأيام قبل أن يخترع ورق الكتابة بأجيال - فتناولها وتحول نحو النافذة وقد نسي وداع عمه وأخذ يتلوها بنفسه، ولم يكد يصل إلى آخرها حتى ارتعشت أنامله وتغيرت سحنته. وكان أوباس قد توسم في الكتاب شيئا جديدا فتغافل عن ألفونس ريثما يقرأ مكتوبه، لكنه ما لبث أن رآه يقلب تلك الصحيفة ويعيد تلاوتها وهو يوجهها نحو النور الداخلي من النافذة ويتفرس في الكتابة بعينيه، كأنه يشك في كلماتها ، وقد امتقع لونه وارتعدت أنامله وظهر الغضب في أسرته، فظل أوباس ينظر إليه ثم أغلق الباب ليخلو بألفونس ثانية، فشعر ألفونس بالباب وهو يغلق فانتبه، ونظر فإذا عمه يمشي نحوه بكل هدوء وسكينة، وكان نظره إليه قد خفف ما قام في نفسه على أثر تلاوة ذلك الكتاب، وقد حاول التجلد تشبها بما كان عليه عمه من سعة الصدر، ولكن التأثر كان قد غلب عليه. وتقدم نحو عمه وبيده تلك الصحيفة فقدمها له وهو يقول: «ويلاه! لا ننجو من شر إلا ونقع في شر أشد منه، وكل مصائبنا من ذلك المختلس السافل.»
فمد أوباس يده وتناول الكتاب بكل رزانة وتفرس فيه، فإذا هو مكتوب باللغة اللاتينية المشوشة بألفاظ قوطية حفرا في الشمع على الخشب، فقرأ فيه ما معناه:
حبيبي ألفونس
إن الأمر الذي خفته من انتقالي إلى هذا القصر قد أوشكت على الوقوع فيه، فأنا في خطر من براثن الأسد إلا إذا أسرعت إلى إنقاذي. أنت تزعم أنك تحب فلورندا فأسرع إلى إنقاذها قبل أن تفوت الفرصة، وإلا فإن ما بقي من حياتها لا يتجاوز ساعات قليلة، إذا انقضت قبل خروجها من هذا القصر. فإذا لم يكن لي نصيب من النجاة فإني أستودعك الله وأطمئنك أني ذاهبة شهيدة العفاف والطهر. اذكرني بين يدي أهلي. وموعدنا الأمجاد السماوية في أحضان الآباء القديسين.
كتبته فلورندا المسكينة
وما إن فرغ أوباس من قراءته حتى بدا عليه التأثر أيضا، ولكنه كان أثبت من ألفونس جأشا وأصبر على الطوارئ، وقد أحس أنه مسئول عما قد يصيب فلورندا من السوء، وهو الذي وضع عربون الخطبة بينها وبين ألفونس، ولكن ألفونس لم يعد يستطيع صبرا فقال: «اعذرني يا عماه فقد نفد صبري ونسيت كرسي الملك وأنت الذي باركت عربون الخطبة بيننا، فأنت مطالب بإتمام العقد فضلا عما أنت مكلف به من ذلك بواجب القرابة. ومهما يكن في الأمر من شيء فإني أطلب إليك أن تمدني برأيك.»
فالتفت إليه بهدوء ورزانة ويده على لحيته يسرحها بأصابعه ، وقال: «طب نفسا يا ولدي، إنني سأخرج فلورندا من قصر الملك وهي بخير إن شاء الله.» ثم أطرق وأعمل فكره وهو يصعد بحاجبيه، ثم يقطبهما بما يدل على استغرابه وحيرته، ثم قال: «إني لأعجب من أمر هذا الرجل وانشغاله عن أمور رعيته بما لا يرضي الله ولا عبيده، وأعتقد أن ذلك من الأدلة القاطعة على قرب سقوطه وذهاب ملكه؛ لأن الله لا يؤيد ملكا يخالف وصاياه.» وكان ألفونس غارقا في بحار الهواجس وقلبه يتقد غيرة على فلورندا. وحين تشاغل عمه عنه بمناجاة نفسه أخذ يعيد النظر في كتاب فلورندا فوقف بصره على قولها: «إني ذاهبة شهيدة العفاف والطهر.» وفكر فيما ينطوي تحت هذه العبارة من المعاني المثيرة للغيرة، ثم سمع عمه ينادي: «يعقوب.» فدخل وقبعته في يده وقال: «لبيك يا مولاي.»
فقال أوباس: «هل تعرف اثنين من خدم هذا المنزل يمكننا أن نثق في أمانتهما إذا كلفناهما بمهمة ولو كانت ضد هذا الطاغية صاحب كرسي طليطلة اليوم.»
فقال يعقوب: «أنا يا سيدي.»
فقال أوباس: «إننا ندخرك لأمر آخر، ولكننا نحتاج إلى شابين أو ثلاثة أنت تثق في أمانتهما ونشاطهما وبسالتهما؛ لأن الأمر الذي سنكلفهما به يحتاج إلى الإقدام والشجاعة والأمانة.»
فأطرق يعقوب وقد أمسك بطرف لحيته وجعل يفتله بين السبابة والإبهام حتى أصبح مثل طرف الحبل لما يتخلل الشعر من الأوساخ. فعل ذلك وهو مستغرق في التفكير، ثم حرك أنامله بغتة فأعاد اللحية إلى ما كانت عليه، والتفت إلى أوباس وفي وجهه أمارات البشر وقال: «قلما أثق بأحد من هؤلاء وإن يكن معظمهم نشئوا في بيت مولاي وعاشوا على مائدته؛ لأن الإنسان أضعف من أن يضحي بنفسه في سبيل الوفاء والأمانة، ولكنني أعرف اثنين فقط أظنهما أهلا لهذه الثقة.»
فقال أوباس: «ومن هما؟»
قال يعقوب: «هما أجيلا وشنتيلا.»
فقال أوباس: «وكيف اخترت هذين وليس أحدهما ممن ربي في بيت الملك؟»
فقال يعقوب: «اخترتهما لاعتقادي بقدرتهما على هذه المهمة، ولأنهما لا يزالان طامعين في العلى؛ إذ لا يخفى على مولاي أنهما كانا من طبقة العبيد، وقد حررهما أخوك قبل وفاته وألحقهما بحاشيته لما آنسه فيهما من الكفاءة والشهامة. وقد ظهر لي بعد تحررهما من العبودية أنهما يطمعان في الرقي، شأن من يذوق طعاما لا يعرفه، فإذا استطابه زاد في اشتهائه فيطلب المزيد منه، وأما من تعود طعاما حلوا فقلما يستزيد منه. وهذان الشابان ولدا في مهد العبودية ونفساهما من أنفس الأحرار، وقد لمس الملك المرحوم عظم نفسيهما في حديث يطول سرده فمنحهما الحرية، وألحقهما بحاشيته، وهما الآن يتطلعان إلى التقدم، فإذا كان في المهمة التي تنتدبهما لها ما يطمع في ذلك، استماتا في سبيلها وإلا اعتذرا عنها، وهما لا يخونان ...»
فقال أوباس: «أراك بارعا في فلسفة الأخلاق. فإذا كان الغروب، تعال إلى منزلي وهما معك.»
قال ذلك وحول وجهه إلى ألفونس، ففهم يعقوب أنه يطلب خروجه فخرج. أما ألفونس فكان قد عاد إلى هواجسه، فلما أقبل عمه إليه قال له: «بماذا نجيب على هذا الكتاب؟»
قال أوباس: «اكتب إليها أن تكون على أهبة السفر في الساعة الثانية بعد منتصف الليل، وأنك ستنتظرها في القارب بجانب القصر.»
فتناول ألفونس قطعة من نسيج غليظ كانوا يكتبون عليه أيضا وكتب إليها ويده ترتجف ما معناه:
إلى مليكة القلب فلورندا
لبيك يا حبيبتي. إني موافيك في القصر في الساعة الثانية من الليلة القادمة، فتهيئي للخروج بما تستطيعين حمله، وأشرفي من النافذة المطلة على النهر، فإذا رأيت نورا مثلثا فاعلمي أنني في انتظارك. تشددي وقوي قلبك ولا تخافي.
كتبه محبك الذي يفديك بروحه
وطوى الكتاب وخاطه، وجعله في الكيس الأرجواني وختمه ودفعه إلى يعقوب ليعيده إلى الرسول الذي جاء به، ويوصيه بالاحتفاظ به لئلا يطلع عليه أحد. فتناول يعقوب الكتاب وخرج.
كتاب آخر
وكانت الشمس قد تجاوزت الأصيل فأخذ ألفونس يتأهب للخروج مع عمه إلى منزله للتشاور هناك فيما يفعلونه، ومع شدة ما أصاب ألفونس من البغتة فإنه ظل مستغربا ما سمعه عن يعقوب من الأسرار الخفية، وكان الطقس قد تبدل فغامت السماء واشتد البرد؛ فلبس ألفونس قباء من الفرو السميك والتف عمه بردائه الأكليريكي وكان البرد قلما يؤثر فيه. وفيما هما يتأهبان للخروج وكل منهما يفكر في أمر على حدة، فتح الباب بغتة ودخل يعقوب وفي يده أسطوانة من جلد بلون القرمز، فعلم أوباس أن فيها كتابا من رودريك. وكانت كتبه إلى عماله وأمرائه تكتب على الجلد وتلف وتوضع في أسطوانة من جلد العجول مدبوغ بلون القرمز، فلما وقع نظر ألفونس على تلك الأسطوانة تقدم لاستلامها، فاعترضه عمه وتناولها وقال ليعقوب: «من جاء بها؟»
قال يعقوب: «جاء بها شرذمة من فرسان الملك، وقد سألني رئيسهم عن سيدي ألفونس هل هو هنا، فأردت استمهاله لأعود إليه بالجواب، فابتدرني قائلا: أخبرني حالا فإني مأمور بتسليم هذا الكتاب إليه على جناح السرعة حيثما كان، فقلت: هو هنا. فدفع إلي الكتاب وقال إنه ينتظر.»
فنظر أوباس في خاتم الأسطوانة فإذا هو خاتم الملك نفسه ففضه وأخرج الكتاب، فإذا هو قطعة من الرق مما كانت الحكومة تستخدمه لكتابة الأوامر، وكانت الرسالة ملفوفة على نفسها فنشرها وقرأ ما فيها، وألفونس واقف إلى يساره، فإذا هي أمر رسمي من رودريك إليه يقول فيه ما معناه:
من رودريك ملك القوط
إلى الشجاع الباسل عزيزنا ألفونس: سلام. وبعد فقد بلغنا أيها العزيز أن بعض العبيد والموالي في كونتية ... قد تمردوا وتضامنوا على مقاومة حكومتنا هناك، فإذا جاءك كتابي هذا فأسرع إلى مقر جنودنا في طليطلة، فإن فرقة من الجند في انتظارك لتذهب تحت قيادتك إلى تلك المدينة لإخماد الثورة، ولا بد من العجلة، ويدلك على استعجالنا أننا كتبنا هذا الأمر في يوم العيد الذي لا يجوز العمل فيه، فإن كنت واقفا فلا تجلس، وإن كنت ماشيا فلا تقف قبل إنفاذ أمرنا هذا، والسلام.
كتب في قصر طليطلة
في الخامس والعشرين من شهر ديسمبر سنة710
وما جاء ألفونس على آخر الكتاب حتى اسودت الدنيا في عينيه وصاح لشدة هياجه: «لا أذهب إلى مكان، لا أذهب.»
فالتفت أوباس إليه لفتة الاستصغار، وقال له: «كيف لا تذهب ؟ وهل تستطيع ذلك؟ ألا ترى أنه كتب إليك هذا الكتاب وفيه ما فيه من الملاطفة، فإذا عصيت أمره سببت لنفسك البلاء.»
قال ألفونس: «وأي بلاء أسببه لنفسي؟»
فقال أوباس: «إذا تخلفت عن المسير اتهمك بالعصيان وأمر بالقبض عليك، فهل عندك من الرجال ما تدفع به قوة الحكومة الآن؟ وعندئذ تكون النتيجة إيقاع الأذى بك وبنا جميعا؛ لأن المجمع المقدس يجد مسوغا لذلك بعصيانك. فالحكمة تقضي علينا باللين والمسايرة حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا ...»
ولم يكن ألفونس يجهل ذلك، ولكن غضبه لفلورندا ولخروجه من طليطلة وهي في ذلك الضنك أغلق ذهنه، فلما سمع كلام عمه قال له: «ولكن ما العمل؟ كيف أجتمع بفلورندا؟»
فقال: «اترك أمرها إلي، فإني أتولى إنقاذها الليلة وأخفيها في مكان ثم أكتب إليك حيثما تكون، وسنرى ما تأتي به الأقدار. ولا تجزع، بل أبشر بما ترجوه من وراء سفرك هذا من تمهيد السبيل لمشروعنا، وتوكل على الله، وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم.»
فالتفت ألفونس إلى يعقوب وقال له: «قل لحامل الرسالة إنني ذاهب بعد قليل ...»
فقال: «قلت لك يا مولاي إنهم كوكبة من الفرسان، وقد علمت أنهم مكلفون ألا يعودوا إلا بك.»
فقطع أوباس كلام يعقوب وقال لألفونس: «اذهب يا بني، اذهب الآن وسأتولى أنا كل شيء في غيابك، ولكن أنصح لك أن تصطحب يعقوب وتعتمد عليه، وسوف يطلعك على أمور تهمك.»
فقال يعقوب: «سمعا وطاعة.» وأسرع إلى ثيابه فلبس منها ما يصلح للسفر، وكذلك فعل ألفونس، وخرجا وألفونس يتجلد وقد ألقى كل حمله على عمه.
عود إلى القصر
فلندع ألفونس يتأهب للسفر ولنعد إلى قصر رودريك، إلى حيث تركنا فلورندا في غرفتها تفكر في أمرها بعد أن فرغت من الصلاة وألقت حملها على الله، وكان رودريك قد خرج من عندها وهو يضمر لها الشر العاجل. وكان أول ما عمل أنه لقي الأب مرتين في غرفته يتلو بعض الصلوات، وكان مرتين قد شعر بذهاب الملك إلى قصر فلورندا، وتحقق أنه لن يعود من هناك إلا وهو على نية التخلص من ألفونس أو إبعاده. فلما لقيه عائدا آنس الغضب والانفعال في عينيه وجبينه، حتى لقد يعجب من يراه لصبره عن قتل تلك الفتاة، وهو إذا غضب لا يبالي أن يقتل المئات، ولكن الحب، الحب يخفف الغضب ويلجم القلب والعقل، الحب يذل الأسود ويأسر الجبابرة، وهو الذي يبعث على الشفقة والعطف، فإذا رأيت رجلا في خلقه جفاء وخشونة فاعلم أن الحب لم يستول على قلبه بعد. نعم، إن حب رودريك لم يكن خالصا من شوائب المنكر، ولكن ذلك لا يمنع تأثيره على القلب؛ لأن سبب الحب واحد، ولكنه يظهر في الناس مختلفا باختلاف أخلاقهم وأحوالهم. ولا يبعد أن يكون رودريك قد هم بقتل فلورندا وهي تعنفه وتقاومه، ولكنه أمسك طمعا في استرضائها واستبقائها؛ فتحمل من آثار الكظم ما ظهرت علاماته في وجهه حتى خيل لمرتين - حينما رآه - أنه في أشد حالات الغضب، فاستقبله ضاحكا، فتجلد رودريك وحياه وهو يحاول عبثا إخفاء انفعاله، فلم ير خيرا من أن يشاغل الأب بالحديث، فقال له وهو يظهر الاستخفاف: «يظهر أن لذلك الغلام مأربا في بعض أهل القصر.»
فأجاب الشيخ وهو يتلجلج: «كأني بالملك لم يفهم إشارتي إلى ذلك في هذا الصباح.»
فقال رودريك: «بلى فهمت، ولكني ...» وسكت.
فأدرك القس أنه يضمر شيئا فظل ساكتا وهو ينقر بسبابته على شفته الغائرة، وعيناه تنظران إلى الملك كأنه يتوقع تتمة حديثه. أما رودريك فلم ير بأسا من إطلاع مرتين على قصده، ولا عجب فهو مستودع أسراره، إلا سر حبه فلورندا فإنه كان يكتمه حياء من الناس وخوفا من زوجته. ثم هو يعلم مقدار سيطرة القسس على النساء، فخاف أن يقع حبه لدى القس موقع الاستهجان فيطلع الملكة على ذلك فتقف في سبيله. على أنه أراد إطلاع مرتين على ما بقي من عزمه فقال: «أرى أن أسعى في إبعاد هذا الشاب عن هذه المدينة بالحسنى فنشغله عن القصر وأهله.»
فطأطأ الشيخ رأسه استصوابا كأنه رأى الجواب في تلك الإشارة أهون عليه من الكلام ، ثم قال: «وإذا أبعدته فقد ننتفع بخدمته ونتخلص منه. ولكن الحية لا تموت إذا ظل رأسها سالما.»
فعلم رودريك أنه يشير إلى أوباس ويود إبعاده، فقال: «إن إبقاء رأس الحية بين أيدينا أسلم عاقبة لنا، ولا سيما إذا كان الذنب بعيدا» ففهم مرتين إشارته وسكت.
فنهض الملك للحال وكتب ذلك الكتاب، وبعث به إلى ألفونس كما تقدم وصبر حتى أنبئوه بنفاذ أمره، وأن ألفونس جاء إلى المعسكر وتهيأ للسفر. وكانت الشمس قد توارت وراء الأفق وأقبل الظلام وكأن إقباله زاد الملك تعاميا عن فظاعة ما نواه ولم يعد يستطيع صبرا إلى اليوم التالي، فتناول طعام المساء مع زوجته وأكثر من تعاطي الخمر على تلك المائدة ليداري ما ثار في نفسه من النيران الشيطانية.
نهض رودريك عن المائدة وقد امتلأ جوفه، ودارت الخمر في رأسه، وتحول توا إلى غرفته، والقس لا يزال على المائدة مع زوجته. وعندما دخل رودريك الغرفة أغلق الباب وراءه، وفتح الباب الآخر وسار في الدهليز نحو غرفة فلورندا.
أما فلورندا فكانت بعد إعمال الفكرة قد كتبت ذلك الكتاب إلى ألفونس ودفعته إلى العجوز، فأرسلته مع خادم تعتقد في إخلاصه، وعادت ولبثت تنتظر الجواب، فشغلها الانتظار عن كل تفكير، فقضت في الانتظار ساعة ظنتها شهرا أو سنة، فكانت تارة تطل من الباب، وأخرى من النافذة المشرفة على النهر، وآونة تدعو خالتها وتستفتيها في سبب التأخير، وهي تهون عليها، حتى عاد الرسول بذلك الجواب فخفق قلبها سرورا، وأول شيء فعلته أنها قبلت الأيقونة وشكرتها على إجابة صلواتها، وأخذت تجمع ما خف حمله من الحلي ونحوها والعجوز تساعدها حتى غابت الشمس. وعند ذلك تركت فلورندا كل شيء وتحولت إلى النافذة وجلست إليها، وأرسلت بصرها إلى مجرى النهر تنتظر ظهور النور المثلث مع علمها أن الموعد المحدد لا يزال بعيدا، ولكن القلق أوهمها أنه قريب. وكان الطقس قد برد وتلبدت الغيوم فأغبرت السماء وعصفت الرياح وأومض البرق وقصف الرعد، ولم يمض قليل حتى تساقطت الأمطار، ولكن ذلك كله لم يشغلها عن التفرس في النهر وركبتاها ترتعدان أملا وفرحا. وكانت كلما لاح برق ظنته مشعال حبيبها، وقد تنفرج الغيوم فيقع بعض ظل الكواكب في مجرى النهر فتحسبها نورا مثلثا، وربما كانت عشرين كوكبا فتظن تعددها ناتجا عن تكسر سطح النهر بالأمواج، أو تتوهم أن السبب في ذلك هو اعتراض بعض أغصان الحديقة بينها وبين النهر، وبخاصة الأغصان الضخمة القائمة تجاه النافذة.
تجربة أخرى
وفيما هي تعلل نفسها بقرب الفرج، وقد وجهت كل حواسها وعواطفها إلى ما هو خارج تلك النافذة نحو النهر، انتبهت بغتة فسمعت وقع أقدام رودريك في الدهليز، فخارت قواها وتسارعت ضربات قلبها حتى كاد يغشى عليها، وأحست على الفور بما يحدق بها وكانت في غفلة عنه، فجلست على البساط وجعلت تتضرع إلى الله أن يساعدها وينقذها هذه المرة، ولم تجد إلا خالتها فقالت لها: «أليست هذه هي خطوات الملك؟» ولم تتم كلامها حتى خرجت العجوز ثم عادت وهي تقول: «الملك يدعوك إلى تلك الغرفة.»
فصاحت فلورندا: «ويلاه! ما هذا المصاب؟ يا إلهي.» ولطمت وجهها وأخذت في البكاء.
فتقدمت العجوز إليها وجعلت تخفف عنها وهي لا تدري بماذا تعزيها هذه المرة، على أنها لم تر خيرا من الرجوع إلى العزاء الأكبر - وهو الدين - فقالت: «توكلي على الله، فهو الذي أنقذك في المرة الماضية وسوف ينقذك الآن، وما ذلك على الله بعسير.»
وكانت فلورندا من أهل الإيمان الوطيد، فتضرعت إلى الله أن يعينها هذه المرة أيضا، والتفتت إلى خالتها وقالت لها: «أتوسل إليك يا خالة أن تصلي من أجلي وتطلبي إلى الله أن ينقذني من هذه التجربة.»
فقالت: «سأظل هنا جاثية أمام هذه الأيقونة إلى حين رجوعك؛ لأني لو صحبتك ما نفعتك، ولا يساعدنا على هذا العدو غير الله وحده.»
فاطمأن بال فلورندا لهذه العبارة، ومشت كالشاة وهي تساق إلى الذبح. مشت وهي تقدم قدما وتؤخر أخرى حتى دخلت تلك الغرفة، وكان رودريك جالسا في صدرها جلوس من لا يهمه النهوض، ورأت في وجهه من دلائل الغضب ما لم تره في المرة الماضية، وقد احمرت عيناه واربد وجهه من أثر الخمر، وتتابعت أنفاسه واشتدت حتى أصبح شخيرا؛ فظنت فلورندا لأول وهلة أنها ترى هذه الملامح في وجهه بسبب نور المصباح وهو ضئيل، ولكن حين وقعت عيناها عليه أسرع قلبها بالخفقان، ولكنها استعانت بالله وتجلدت وتقدمت حتى وقفت على بضعة أذرع منه وأطرقت. وكانت قد ضفرت شعرها ومشطته وغيرت ثوبها تأهبا للسفر؛ فرأى رودريك فيها ما زاد شغفه بها، وتضاعف ذلك الشغف حين نبه الخمر غرائزه، فخاطبها وهو لا يزال جالسا وقد مد ساقيه وبسط ذراعيه على الوسائد في الجانبين، فقال: «هل حدثتك نفسك بشيء جديد؟»
فظلت ساكتة، ولكنها بالغت في الإطراق.
فأعاد السؤال وقد توكأ على ركبتيه كأنه يتحفز للنهوض فقال: «أجيبي يا فلورندا ... يظهر أنك أدركت السعادة التي أدعوك إليها، وبخاصة إذا علمت أني أنقذتك من يدي ذلك الغلام الذي كان يغريك على حبه وهو لا يحبك ولا يستحق قلبك.»
فلما سمعت ذلك خافت أن يكون قد دبر شرا لألفونس، فرفعت بصرها إليه وتفرست فيه كأنها تستكشف مبلغ ظنها، ولكنها ردت بصرها عنه لأنها توسمت في عينيه معنى ارتعدت له فرائصها. رأت شيئا لو سئلت عنه ما استطاعت أن تسميه بغير «الشر»، ولكنها عادت إلى الإطراق وفي خاطرها أن تسمع منه ما يظهر الحقيقة، فإذا هو قد وقف بسرعة وتقدم نحوها، وقال وهو يلاعب شاربه بين الإبهام والسبابة ثم يسرح لحيته بأصابعه: «لماذا لا تجيبينني كأنك تخجلين من الندم بين يدي الملك. لقد سامحتك على ما مضى.» قال ذلك ويمناه مرفوعة كأنه يهم أن يلقيها على كتفها تحببا.
أما فلورندا فلما رأته يدنو منها تقهقرت ورفعت ذراعيها تتحاماه، ونفرت منه كأنه ذئب كاسر يهم بافتراسها؛ فتراجع رودريك وأظهر الاستغراب وهو يقول: «ما بالك تنفرين كأنك تخافين الأذى، وأنا إنما أتقرب إليك وأبغي رضاك؟!»
وكانت فلورندا لا تزال في ريب من أمر ألفونس، فأرادت أن تتحقق من ظنها. وكانت الأمطار قد اشتد تساقطها، واختلطت أصواتها بأصوات المياه المنحدرة من الميازيب وهبوب العواصف وقصف الرعد، وفلورندا في غفلة عن كل ذلك لشدة ما قام في نفسها من الخوف، على أنها لما أرادت أن تخاطبه تنبهت، فوجدت كل ذلك يحول بين صوتها المنخفض وأذن رودريك، فقالت بصوت عال لكنه مرتعش: «قد قلت لمولاي الملك إن هذا الموقف ليس موقفي، وإن الله قد جعل نصيبي سواه ...»
فقال لها: «كأنك لم تفهمي كلامي، قلت لك إن الغلام الذي تقولين عنه إنه نصيبك قد مضى ولا سبيل إليه ...»
فلما سمعت قوله توهمت أنه قتله، فصاحت في ذعر وهي ترتعش وقد أحست كأن شخصا صب ماء يغلي على جسمها: «ماذا تقول؟ ماذا فعلت بألفونس؟ ماذا؟ ماذا؟ هل قتلته؟»
الاستنجاد
فلما رأى رودريك ما أصابها خاف أن يقضي عليها بغتة وهو يريد استبقاءها لنفسه ولو ساعة، فقال: «ما هذه البغتة يا فلورندا؟ ماذا فعلت بألفونس؟ لا، لم أقتله ولكنه بين يدي وحياته طوع إرادتي إذا شئت قتلته بكلمة واحدة وأنا لا أخطو لذلك إلا خطوة واحدة. يظهر أنك لا تزالين تجهلين من هو الذي يخاطبك ومن هو ذاك الذي تقولين إنه نصيبك. نعم، إني لم أقتله، بل اكتفيت بإبعاده، ولكن إذا بقيت على إصرارك فإني أقتله، وإذا ظللت على غيك بعد قتله أقتلك أنت أيضا، وأنا الآن لا أسترضيك ولا أستعطفك بعد ما رأيته من وقاحتك، واعلمي أن هذه الساعة هي الحد الفاصل بين تمنعك وبين ما أريد.» قال ذلك بصوت عال ومشى مسرعا إلى باب الغرفة وأغلقه ثم رجع وهو يقول: «فاختاري إذن الباب الذي تريدينه واخرجي منه.» ثم ألقى بنفسه على المقعد وهو يلهث من الغضب كأنه ثور يخور، وقد زادت عيناه احمرارا وأوداجه انتفاخا.
أما فلورندا فلما سمعت تصريحه بالمنكر، وثبت لديها قرب الخطر، التفتت إلى ما حولها كأنها تفتش عن ضائع أو تستنجد برفيق. فعلت ذلك وهي لا تعلم لماذا فعلته، وهمت بالجواب، فقطع رودريك كلامها قائلا: «عمن تبحثين؟ إننا في غرفة ليس معنا ثالث، وليس على وجه الأرض من يستطيع أن يحول بيني وبين ما أريد، فأقبلي طائعة، فإنه أحفظ لحياتك وأدعى إلى سعادتك.»
وكانت فلورندا حين سمعت قوله: «وليس معنا ثالث» قد تذكرت ما كانت تقرؤه وتسمعه من آيات الكتاب المقدس، وأن من يتوكل على الله لا يفشل، وأن الله موجود في كل مكان. وقد تقدم أن فلورندا كانت من أقوى الناس إيمانا، فأحست للحال باطمئنان وكأنها محاطة بزمرة من الملائكة يحرسونها، وتشجعت ونظرت إلى رودريك وهي تتفرس فيه، وقالت: «تزعم أننا منفردان وأن الجو خال لك، وقد فاتك أن الله موجود في كل مكان، لا يدع لأحد سلطانا يغلب سلطانه، ثم إني سمعتك تهددني بالقتل، فاقتل، ثم اقتل. اقتلني فإني لا أبالي بحياتي، ولكن أتوسل إليك ألا تمس ألفونس بسوء. آه يا ألفونس!» قالت ذلك وقد خنقتها العبرات، وأطلقت لنفسها عنان البكاء.
فلما سمعها رودريك تبكي لم يزدد إلا حنقا، وبخاصة بعد أن سمع ذكر ألفونس. على أنه لما رأى توبيخها وثباتها مع شدة تعلقها بحبيبها ورغبتها في بقائه، تراءى له أن يعرض عليها استبقاءه فقال: «إذا كانت حياة ألفونس تهمك بهذا المقدار، فإني إكراما لعينيك أبقيه وأرقيه وأجعله من أسعد أهل طليطلة، ولا يكلفك ذلك إلا أن تقلعي عن عنادك.»
فابتسمت استخفافا بذلك الرأي، وقالت: «إن الأمر الذي يرضيك مني أن أبذله إنما هو أثمن ما لدي في هذا العالم، أثمن من حياتي، بل أثمن من ألفونس، من ألفونس نفسه؛ لأني بدون ذلك الإكليل المجيد، بدون تلك الجوهرة الثمينة، لا أستحق نظرة من ألفونس ولا من سواه، بل أنا لا أساوي شيئا، وهل تظنني - لولا ذلك - أستطيع مخاطبة الملك بهذه الجرأة؟»
فرأى رودريك أنها تطيل الجدال، وهو لا يجد ما يدفع به حجتها، ولا هو يريد الاقتناع بقولها؛ لأن ميوله البهيمية غلبت على عقله وإرادته، وقد يكون - وهو يجادلها ويراودها - مقتنعا بأنه يلتمس أمرا منكرا، وأنها محقة في توبيخه، ولكنه لا يملك عنان شهواته. وفي هذا الموقف الحد الفاصل بين الفضيلة والرذيلة؛ لأن الناس يتشابهون في ميولهم الجسمانية، وفي تمييزهم بين الفضيلة والرذيلة، ولكنهم يتفاضلون بقوة الإرادة على كبح الشهوات والعمل بما يقتضيه الضمير في مثل ذلك الموقف، وأقربهم إلى الفضيلة أقواهم إرادة؛ فأهل النزاهة والعفة لا يفضلون سواهم بالتمييز بين الخير والشر، ولا يفهمون من معنى الفضائل والرذائل أكثر مما يفهم سواهم، ولكنهم يفضلونهم بالقدرة على ضبط عواطفهم برهة قد لا تزيد على بضع دقائق، فإذا استطاعوا ضبطها حفظوا كرامتهم طول العمر وعاشوا في راحة وسعادة، يدل على ذلك أن الذين يعجزون عن كبح شهواتهم فيستسلمون لأهوائهم لا يلبثون أن يندموا حين لا ينفع الندم.
اليأس
وكان رودريك مع قوة بدنه ضعيف الإرادة، فلما سمع تقريع فلورندا أدرك خطأه، ولكنه تجاهل وتعامى وتصامم وعاد إلى المغالطة فأظهر الغضب ووقف بغتة، وقال لها: «أراك تريدين المدافعة بغير فائدة، ولم يبق لي صبر على أقوالك. ألا تشعرين بما تعرضين نفسك له من الخطر؟ ومع ذلك فما لا يمكن أن نناله برضاك لا بد منه برغم أنفك.» قال ذلك ودنا منها وقبض على ذراعها ويده ترتعش، فاقشعر بدن فلورندا وأحست كأنه ممسك ذراعها بقبضة من حديد، فصاحت: «ويلك يا ظالم! تبا لك يا فاسق! ألا تخاف يوم الحساب؟ ألا تخاف الله؟ قبح الله ملكا يتولى إنصاف المظلومين وهو أكبر الظالمين! ولعن الله رجلا يزعم أنه أقيم لكبح جماح المتمردين، وهو لا يقوى على كبح شهواته!» ثم أرسلت بصرها نحو السماء ورفعت يدها الأخرى، وقالت: «إليك أتوسل أيها المخلص الحبيب، وأعوذ بك من هذا الظالم الخائن.»
وكان رودريك في أثناء ذلك يحاول أن يمسك بيدها الأخرى وهي تحاول التخلص منه، فاقترب فمه من وجهها فاشتمت رائحة الخمر، فهمت أن تقول شيئا فاعترض قولها رعود قاصفة، توالت بضع ثوان أعقبها صوت صاعقة انقضت بالقرب من ذلك المكان فارتج لها القصر من أساسه، ونفذ وميض البرق من شقوق النوافذ كأنه حراب من نار، فكان لتلك الحركة تأثير شديد على نفس رودريك شغله لحظة عن فلورندا، وتولاه الرعب لأنه توهم لأول وهلة أن القضاء يتهدده، كما يفعل بعض الذين يربون في مهد الدين، فيعتقدون أن الأقدار تراقب حركاتهم وسكناتهم، وأن الطبيعة لا تعمل عملا إلا وهي تتعمد به خيرهم أو شرهم، إما ثوابا على حسنة، أو عقابا على سيئة، وربما اعتبر بعضهم العمل الواحد تارة ثوابا وطورا عقابا تبعا لما يوحيه إليه ضميره. والضمير يندر أن ينخدع إلا أن يكون قد مات بتوالي ارتكاب المنكرات أو غلب عليه تيار الشهوات، كما أصاب رودريك لما سمع قصف الرعد وانقضاض الصاعقة، فإنه تهيب لأول وهلة، وامتقع لونه واختلج قلبه، ولعله ندم وعول على الرجوع عن قصده. على أن ذلك الخاطر لم يمر في ذهنه إلا مرور البرق إلى ما كان عليه.
وأما هي فإنها اغتنمت تلك الفرصة ونزعت يدها من يده، وقد اعتبرت انقضاض تلك الصاعقة نصيرا لها عليه، إجابة لصوت دعائها، فالتفتت إليه وهي تقول: «ألا تعلم أن في الكون من ينتصر للضعيف على القوي؟ ألا يستطيع ذلك الجبار أن ينزل عليك وعلى قصرك صاعقة تذهب بكما إلى الفناء العاجل؟»
فأفحم رودريك لما رأى الأقدار تزيد حجة فلورندا عليه، ولكنه اعتبر نفسه في موقف انتقام، ولم يزدد إلا تماديا في غرضه، فتقدم إليها وقبض بإحدى يديه على كتفها ومد يده الأخرى ليقبض على يدها ثم يرفسها بقدمه، فتشددت هي وجذبت نفسها من بين يديه، فأفلتها بالرغم عنه لأنه لم يكن قد أمسكها بكل قوته. فلما أفلتت منه اشتد غضبه، فهجم عليها هجوم الثور وهو لا يبالي بما يكون من أمرها.
فلما رأته فلورندا قد هجم عليها والشرر يتطاير من عينيه لفرط غضبه أيقنت بالخطر العاجل، فعولت على الانتحار قبل وصوله إلى ما يريد، فجثت على ركبتيها ورفعت بصرها إلى السماء كأنها تستغيث، وهي لا تزال إلى تلك اللحظة تعتقد أن العناية الإلهية لا تتخلى عنها، ولكنها لما رأت رودريك يكاد يصل إليها، أسرعت هي فقبضت بكلتا يديها على عنقها وهمت أن تخنق نفسها وهي تقول: «الموت، الموت خير من العار. إليك أسلم روحي يا مخلصي الحبيب.» قالت ذلك وضغطت على حنجرتها فانحبس الدم في وجهها وجحظت عيناها، فعمد رودريك إلى رفع الضغط فأمسك بيديها وشدهما فأبعدهما عن عنقها، وكانت قد خارت قواها فسقطت، وقد استرخت عضلاتها واستلقت على ظهرها لا حراك بها.
رشوها بالماء
فلما شاهدها رودريك في تلك الحالة تنبهت فيه الحاسة البشرية لحظة، وعمد إلى تلطيف ما بها فجثها بجانبها وأمسك يدها وأنهضها يريد إجلاسها لتصحو من غيبوبتها، فإذا هي لا تزال مغمضة العينين مسترخية الأعضاء فخفق قلبه وتحرك ضميره، وتوهم أنها ماتت أو كادت تموت، فتركها وأسرع إلى الباب لعله يجد ماء فيرشها به، ففتح الباب وتوجه إلى حجرة فلورندا، فاستقبلته العجوز وهي خارجة من الحجرة وقد بغتت منذ سمعت فتح الباب؛ لأنها كانت لا تزال إلى تلك اللحظة جاثية تصلي وهي تطلب نجاة فلورندا من هذا الخطر. وكانت وهي مستغرقة في الصلاة لا تسمع شيئا مما حولها، وقد أقفلت النافذة المطلة على النهر لتحجب عنها العواصف، فلم تتنبه لقصف الرعد وهبوب الرياح إلا كما يشعر الراقد بصوت يسمعه بين اليقظة والمنام. ولكنها حين سمعت فتح الباب تنبهت كأنها استيقظت من نوم، وهرعت نحو الباب فاستقبلها الملك والبغتة بادية على وجهه وقال: «إلي بكوب من الماء، أسرعي حالا.» قال ذلك وعاد إلى الغرفة، فتبعته العجوز بالكوب وركبتاها ترتعدان من الخوف على فلورندا. فدخل رودريك وهو يقول للعجوز: «رشيها بالماء.» فلما رأت العجوز فلورندا صاحت: «فلورندا، ما الذي أصابك؟» وأسرعت فرشتها بالماء فأفاقت وجلست للحال وهي تنظر إلى ما حولها، فلما رأت رودريك صاحت: «ويلاه! إني لا أزال حية، ولا يزال هذا الشرير أمام عيني، كنت أحسب أني نجوت منه بالموت.»
أما رودريك فأغضى عن ذلك ووجه خطابه إلى العجوز قائلا: «أرأيت ما الذي فعلته فلورندا بنفسها لطيشها وغرورها؟ أعرض عليها السعادة فترفضها.»
فلم تجد العجوز جوابا غير البكاء لأنها توهمت أن نجاة فلورندا مستحيلة، على أنها لم تجد سبيلا غير التزلف، فجثت أمام رودريك وقالت ودموعها تتساقط: «أتوسل إلى مولاي أن يرفق بهذه الفتاة المسكينة ويتركها وشأنها، فإن في قصره وتحت أمره مئات مثلها.»
فاستاء رودريك من قولها وكان يتوقع مساعدتها، فرفسها بقدمه وهو يقول: «ابعدي عني يا عجوز النحس، وأنت أيضا؟» فخرجت العجوز وقد تذكرت الموعد الذي حدده لهما ألفونس، فقالت في نفسها: «لعل مع ألفونس رجالا يصعدون إلينا فينقذونها من بين يديه بالقوة.» فهرولت إلى الحجرة وفتحت النافذة قليلا فعصفت الريح في وجهها وبلها المطر، ونظرت إلى جهة النهر فلم تجد نورا مثلثا ولا غير مثلث، فأغلقتها وعادت إلى الصلاة.
أما رودريك فأقفل الباب وعاد إلى فلورندا وهي لا تزال جالسة على البساط في الغرفة، وقد استراحت وعادت إليها قوتها، وتصاعد الدم إلى وجهها فعاد إليه الإشراق، ولكن الكآبة ظلت غالبة على محياها. فدنا رودريك منها وهو يمد يده إلى منطقته ثم أخرجها وهو قابض بها على خنجر يبرق فرنده كأنه يقطر سما وبيده الأخرى شيء كالخاتم يلمع، ثم مد يده إليها وهو يقول: «لقد نفد صبري يا فلورندا فها أنا أعرض عليك السعادة لآخر مرة، فإما أن تقبليها وهذا خاتمي عربون على ذلك، وإما أن أغمد هذا الخنجر في صدرك في هذه اللحظة. أجيبي حالا.»
فنهضت للحال وتصدرت له وهي تقول: «أغمده، أغمد خنجرك في صدري وأرحني من هذه الحياة، ويا حبذا الموت الذي ألقى به وجه ربي بريئة طاهرة. اقتل يا رودريك، اقتل.»
فقال لها: «أمعني الفكر ولا تظني أني أقول ذلك لمجرد التهديد، إني فاعله حالا، وإن تعقلت وحققت رغبتي أخذت هذا الخاتم عربون محبتي لك، وكنت أسعد بنات طليطلة.»
قالت: «وأنت لا تظن أني أقول ما أقوله مزاحا، فإني لا أرهب الموت فداء عن العفاف والطهر. الموت خير لي، إلا إذا رجعت إلى رشدك وندمت قبل فوات الفرصة؛ لأنك نادم على أي حال. فإذا ندمت بعد ارتكاب هذا المنكر لا ينفعك ندمك شيئا، وإذا قتلتني فإنك تندم على قتل فتاة بريئة طاهرة لا ذنب لها إلا إصرارها على العمل بوصية الله.» ثم حولت وجهها نحو السماء وقالت: «يا أيها المخلص المجيد، ربي وإلهي، ألا كشفت لهذا الرجل فظاعة ما هو مقدم عليه؟ أقشع غشاوة الجهل عن عينيه.»
فضحك رودريك وقطع كلامها قائلا: «أظنك تتوقعين قصف الرعد ووميض البرق جوابا على كلامك كالمرة الماضية. لسنا في عصر المعجزات.»
خطوات غريبة
وفيما هو يريد إتمام كلامه، وقد أشهر الخنجر بيمينه كأنه يهم بأن يطعنها به، سمع وقع أقدام غريبة في دهليز القصر، فأنصت فسمع تلك الخطوات تقترب من الغرفة وهي تسرع، فخفق قلبه واقشعر بدنه، وعاد إليه الإحساس الديني الذي ربي فيه؛ فخيل له أن الله استجاب لدعاء فلورندا، فأرسل بعض ملائكته لإنقاذها، لأنه يعتقد أن البشر لا يستطيعون الدخول إلى قصره في تلك الساعة. وإذا دخلوه فلا يجرؤ أحد على الوصول إلى هذه الغرفة والأبواب موصدة والأوامر صارمة.
قضى رودريك وفلورندا لحظات قليلة في حيرة، وهما واقفان وأبصارهما شاخصة نحو الباب ينتظران ما يكون، وفلورندا ترتعش تخشعا وبغتة. وأما رودريك فإنه رد الخنجر إلى مكانه، ومشى إلى الباب وهو لا يزال يسمع خطوات القادم تقترب. وقبل الوصول إلى الباب سمع قارعا يقرعه قرعا عنيفا ارتجت له جوانب القصر وارتعدت فرائص رودريك، ثم أسرع إلى فتحه. ولا تسل عن دهشته واضطرابه لما رأى أوباس داخلا وهو على ما يعرفه فيه من الهيبة والرزانة ورباطة الجأش. دخل والماء يقطر من أردانه.
أما فلورندا فتوهمت لما رأته أنه ملاك يلبس ثوب أوباس وظلت واقفة وقد ملكت البغتة كل جوارحها حتى جف ريقها في حلقها وأمسكت أنفاسها.
أما رودريك فلم يسعه عند رؤية أوباس إلا إظهار الدهشة من جرأته إلى هذا الحد، فقال له: «ما الذي جاء بك إلى هنا في هذه الساعة؟ وكيف دخلت هذا القصر بغير استئذان؟»
فأجابه أوباس وهو لا يبالي، كأنه يخاطب غلاما: «أما الذي جاء بي فهو أمر يهم المملكة سأعرضه عليكم، وأما دخولي بلا استئذان فجلالة الملك يعلم أن أمثالنا لا يستأذنون في الدخول على الملوك أو مخاطبتهم، وهم يخاطبون الله بلا استئذان.»
ففهم رودريك أنه يعرض بسلطة الأكليروس وبخاصة الأساقفة فإنهم هم الذين أجلسوه على الكرسي. ولكن أوباس لم يكن منهم للأسباب التي قدمناها. فساءه ذلك التعريض، ولكنه كان يشعر أنه ارتكب ذنبا عظيما، والمذنب يغلب عليه الضعف والارتباك ولو كان ملكا ولا سيما بين يدي رجل مهيب مثل أوباس، فعمد رودريك إلى تغطية ذنبه بالمغالطة وقد عول على أن يصرف أوباس ثم يعود إلى فلورندا فقال له: «انتظرني في الدار العامة ريثما آتيك.»
قال أوباس: «لو كان الأمر الذي جئت من أجله يحتمل الانتظار ما جئتك في هذا الليل تحت سيول الأمطار.» قال ذلك ومد يده نحو فلورندا وهو يظهر أنه يخاطب الملك وقال: «وإذا فتحت النافذة المطلة على النهر تحققت الأمر الذي قلته لك، ورأيت الأمطار بل الثلوج تتساقط، فلو لم يكن مجيئي لأمر ذي بال ما عكرت على الملك راحته. إني لا أخرج من هذا المكان إلا معك.»
وكانت فلورندا كلها آذان وعيون لما يقوله أوباس أو يشير إليه، فلما سمعت ما ذكره عن النافذة أدركت أنه يشير إلى الموعد المضروب لإنقاذها ففرحت.
أما رودريك فالتفت إلى فلورندا وأشار إليها أن: «اذهبي إلى غرفتك ريثما أعود.» وخرج مهرولا وأوباس لا يغير مشيته ولا يكترث بانهماك الملك واستعجاله. فلما وصل رودريك إلى آخر الدهليز تأمل الباب فرآه مفتوحا فتذكر أنه نسيه بدون أن يغلقه، فلما خرج أوباس عاد الملك وأغلق الباب وراءه كأنه يحاذر أن يختطفوا فلورندا من بين يديه، ومشى أوباس لا يكترث بتلك الحركات حتى وصلوا إلى الدار العامة حيث ينعقد المجلس عادة فجلس ودعا أوباس إلى الجلوس، فقال: «إن الأمر الذي جئت من أجله لا يصح ذكره في هذه القاعة.»
فاستغرب رودريك جوابه وقال: «وأين إذن؟»
فقال أوباس: «في غرفة منفردة على حدة.»
فنهض رودريك وقد ساءه هذا التعنت ومشى معه إلى غرفة منفردة فيها مصباح نوره ضئيل، فجلس وجلس أوباس بين يديه ورودريك لا يستطيع صبرا عن سماع كلامه فقال: «قل يا حضرة الميتروبوليت.»
فقال أوباس: «جئتك بأمر دعاني الله أن أبلغك إياه.»
فأنصت رودريك وأرهف السمع إلى ما يقوله، فقال أوباس بصوت هادئ على جاري عادته: «إن الله خولك سلطانا على الناس تحكم فيهم وتنصف مظلومهم وتضرب على أيدي الظالمين، فلا تتخذ ذلك السلطان وسيلة إلى ما يغضبه.»
فبغت رودريك لما في خطاب أوباس من التوبيخ وقطب حاجبيه إشارة إلى استهجانه تلك الجسارة وقال: «هل عندك كلام في غير هذه الشئون؟»
فأدرك أوباس انفعاله وأنه إنما يريد تحقيره ورد التوبيخ إليه فلم يقبل منه ذلك فقال: «لعلك تظن ما أقوله وهما أو ليس هو بالأمر الهام.»
فقال رودريك وقد ظهر الغضب على وجهه: «لا أرى ما يسوغ لك الاعتراض على أعمالي في داخل قصري، فإذا كنت تعلم أمرا يتعلق بالحكم بين الناس أو بالأمن العام أو بسياسة البلاد فتكلم به.»
فابتسم أوباس باستخفاف وقال: «ألا تعلم أيها الملك أنك مسئول عن كل حركة تتحركها في منزلك أو في الخارج؟ وأن الصعاليك أقرب إلى الحرية في تصرفاتهم من الملوك؟ إنك مؤتمن على أرواح الناس وأموالهم وأعراضهم، وقد أعطاك الله هذا السلطان لصيانتها والدفاع عنها. أفتتخذه وسيلة لسلبها ثم تتولى سلبها بنفسك، وإذا جاءك ناصح انتهرته واحتقرته؟ هذه أشياء لا تتفق وأخلاق الملوك المؤمنين.»
فأعظم رودريك تلك الجسارة وازداد حنقا لرزانة أوباس ورباطة جأشه وقال: «هل كان أخوك المرحوم أقرب إلى تلك الأخلاق مني؟»
التمتمة
ففهم أوباس أنه يعرض بضياع الملك من أيديهم تحقيرا له، فلم يصبر على ذلك، فقال وقد ارتفع صوته ولكنه ظل هادئا: «دعنا من ذكر الأموات فلهم من يحاسبهم، وإنما نحن نحاسب الأحياء. على أني ما أظن غيطشة إذا كان حيا يفعل مثل فعلتك، بل أنا أجله عن الإقدام على مثل هذا المنكر.»
فوقف رودريك من شدة الغضب وقال: «دع عنك ذلك كله فما هو من شأنك؛ لأني أعلم الناس بواجبي.» قال ذلك وتحول عنه إشارة إلى رغبته في إنهاء الحديث.
فظل أوباس جالسا وقال: «لو كنت تعرف واجبك ما أردت السوء بفتاة طاهرة وأنت زوج، وبدلا من أن تستغفر عن هذه الخطيئة أراك تدافع عنها.»
ثم وقف وأتم كلامه قائلا: «واعلم يا رودريك أن انشغالك بهذه الأمور وإهمالك كلمة الله ووصاياه من أول الأدلة على قرب انقضاء هذه الدولة.»
فلما سمع رودريك تهديده بقرب انقضاء دولته التفت إليه وهو يقول: «أراك تهددني بخروج الملك من يدي، إنكم لن تستطيعوا ذلك ولو ملأتم الدنيا مؤامرات، واستعنتم بقوات السماء والأرض.»
قال أوباس: «إذا كان لنا مطمع في هذا الملك، فإن قوات السماء تقدر على نزعه من يدك.»
ولم يتم أوباس كلامه حتى رأى باب الحجرة قد انفتح ودخل الأب مرتين بغتة وهو يهرول ويتمتم كأنه يريد الكلام ويمنعه التلجلج من شدة التأثر، ثم نطق فخرج كلامه مقطعا موصلا مختلطا يشبه قوله: «ت ...؟ ت ...؟ ت ...؟ تهدد جلالة الملك ب ... بإخراج الملك من يده؟ يا للوقاحة وق ... ق ... قلة الأدب!» ولم يتم الأب هذه الجملة حتى امتلأت لحيته باللعاب المتطاير من فمه. فلما فرغ من الكلام تشاغل بمسح لحيته وجعل يذرع أرض الغرفة بسرعة وهو مطرق ولا يزال يتمتم.
فأدرك أوباس أنه يتهمه زورا ليوقع الشبهة عليه فسكت استخفافا.
وأما رودريك فإنه سر لهذه التهمة وتظاهر بالغضب والانتصار وقال: «لا بأس، يكفي الآن ما سمعناه من خير وشر.» قال ذلك وتحول من الغرفة فتبعه الأب مرتين، فنهض أوباس وهو لا يبالي بما رآه، وإنما كان كل همه إنقاذ فلورندا من بين يديه.
وكان السبب في مجيء أوباس إلى القصر، وكيف دخل، هو أنه لما دنت الساعة المعينة جاء أجيلا وشنتيلا إلى منزل أوباس فأمرهما بإعداد قارب للنزول به في النهر، فنزلوا به فتساقطت الأمطار وعصفت الرياح واضطرب الجو فهاج النهر، ولكنهم لم يبالوا بذلك بل عدوه - بادئ الرأي - مساعدا لهم على إخفاء خطواتهم، فوصلوا تحت القصر وفلورندا في الغرفة مع رودريك وخادمتها في الحجرة تصلي، وقد أغلقت النافذة، فصعد الشابان ومعهما أوباس لا يبالون بالأمطار والزوابع حتى وقفوا تحت حجرة فلورندا عند تلك الشجرة الجرداء، ولم ينتبه لهم أحد من الحراس ولا الحاشية. فأشار أوباس إلى شنتيلا أن يتسلق الشجرة ويقرع النافذة، فتسلق حتى وقف على الغصن المقابل للنافذة فقرعها بطرف حسامه قرعا خفيفا ثم اشتد القرع ولكن أحدا لم يجبه؛ لأن العجوز كانت قد خرجت بكأس الماء لترش فلورندا. فنزل شنتيلا وأخبر أوباس بأنه لم يسمع جوابا.
فوقف أوباس برهة يتأمل، وقال في نفسه: «لو كانت فلورندا مطلقة السراح لم يكن ليشغلها عن هذه النافذة شاغل، فلا بد من أن تكون في ضيق ولا بأس عليها إلا من رودريك.» فتخيل أنها في أشد الخطر وأنه إن تأخر عنها قد يقضي عليها، فأمر الرجلين أن يربطا القارب بجانب القصر، ويمكثا تحت القصر وحين يسمعان فتح النافذة يصعدان على الشجرة ويحملان فلورندا وما معها.
قال لهما ذلك وتحول إلى باب القصر العمومي، وسأل الحراس عن الملك فقالوا إنه في القصر، فدخل ولم يعترض طريقه أحد لأن الأساقفة كثيرا ما يدخلون على الملوك لمهام خاصة ولا سيما ملك طليطلة، لأن الأكليروس كانوا أكثر تدخلا في شئون إسبانيا مما في سائر ممالك أوروبا تقريبا، وعلى الأخص على عهد رودريك لأنه إنما تولى الملك بمعونتهم.
نعم، إن أوباس لم يكن من الذين انتخبوه ولكن الحراس الواقفين بالباب لا يهمهم التمييز بين أسقف وآخر، إذ يكفيهم النظر إلى الثوب الأكليريكي والزي بوجه عام. على أن هيبة أوباس تكفي وحدها لاحترامه وإطاعة أوامره وبخاصة في تلك الساعة وقد زاده الاهتمام جلالا ووقارا.
دخل أوباس من أبواب القصر الواحد بعد الآخر لا يعترضه أحد حتى وصل إلى غرفة الملك، وكان يعرفها جيدا لأنها كانت لغيطشة من عهد غير بعيد، فسأل الحراس عنه فقالوا: «إنه دخل غرفته ولا يدخل عليه أحد فيها.»
فلم يبال بأقوالهم، وكان قد نسيها مفتوحة فدخلها فلم ير فيها أحدا، ورأى باب الدهليز المؤدي إلى قصر فلورندا مفتوحا، فدخل ولم يكن في الدار أحد من الخدم، فمشى مشية من لا يهاب ملكا وجعل يبحث بنظره، فرأى تلك الغرفة مضيئة وسمع لغطا فطرق الباب ثم دخل. وهو إنما طرق الباب قبل دخوله مخافة أن يكون رودريك وفلورندا في حالة يقشعر لها بدنه فلا يستطيع إمساك غضبه. والحر أبي النفس يأنف من التجسس ومباغتة الناس في مخادعهم، ولو كان في استطلاع ذلك مصلحة له.
فلما دخل الغرفة أدرك من مجرد النظر إلى وجه فلورندا أنها مصونة سالمة، فلم يبق إلا أن يبعد رودريك عنها ريثما تستطيع الذهاب إلى حجرتها وتنجو من هناك، فطلب الخلوة بالملك على ما تقدم لغرضين؛ الأول: إطلاق سراح فلورندا. والثاني: توبيخه على ذلك الأمر العظيم، وهو لا يبالي أأغضبه ذلك أم أرضاه. ففعل وكان ما كان من غضب رودريك، وخروجه على تلك الصورة، وهو ينوي الانتقام وبخاصة بعد أن عاد إلى قصر فلورندا ولم يجد لها ولا للعجوز أثرا.
الانتقام
خرج رودريك من تلك الغرفة وقد أخذ الغضب منه مأخذا عظيما، والأب مرتين يتبعه وهو يتمتم ويهز رأسه على مرأى من الملك استغرابا من «وقاحة» أوباس. وكان يظن أن الملك لا يفارقه تلك الليلة حتى يتآمروا على الإيقاع بأوباس، ولكنه ما لبث أن رأى رودريك تحول عنه راجعا إلى غرفته، فجلس هو على مقعد في إحدى طرقات القصر لا بد للملك - إذا عاد - أن يمر بها، فلما أبطأ الملك سار مرتين إلى غرفته.
وأما رودريك فإنه رجع إلى قصر فلورندا وفؤاده يتقد حنقا وكيدا، ولا تسل عن حاله حينما لم يجد أحدا في كل ذلك القصر، ورأى حجرة فلورندا مشوشة بما حمل منها من الأدوات خفيفة الحمل غالية الثمن.
رجع رودريك إلى غرفته وهو يكاد يتميز غيظا، وبعث إلى قيم قصره في تلك الساعة فجاءه، فابتدره الملك بالسؤال عمن خرج من ذلك القصر في تلك الليلة، فاهتم القيم بالأمر وسأل الخدم، فقالوا إنهم يقيمون في الطبقة السفلى ولا يؤذن لهم بالصعود إلى فوق مطلقا، وهم على ثقة بأن باب القصر لم يفتح في تلك الليلة وإنهم لم يروا أحدا خارجا من مكان آخر؛ لأن الظلام كان مخيما، وقد منعهم سقوط المطر وهبوب العواصف من الانتباه لما يحدث في الخارج، فسألوا الحراس فكان عذرهم انشغالهم بالزوابع والعواصف عن كل شاغل. وأخيرا بحثوا في الطريقة التي يمكن الفرار بها، فإذا هي من النافذة المطلة على النهر، ورأوا على نواتئ الأغصان اليابسة نتفا من الفرو تناثر من أهداب قباء فلورندا.
فتحقق رودريك عندئذ أن أوباس ساعدها على ذلك الفرار فحمي غضبه عليه، وعزم على الإيقاع به، فعاد وقد أنهكه التعب وأثر الفشل في نفسه، فأحس كأنه أفاق من سكرة، وأحب الخلوة فآوى إلى فراشه ولكنه ظل يتقلب على مثل الجمر، ولم يستطع نوما وقلبه يتقد حنقا من أوباس، فلم ير ما يفرج كربته إلا باستدعاء مرتين، وهو مستودع أسراره، فنهض من الفراش حتى لقي أحد الحراس الواقفين ببابه فأمره أن يستقدم الأب مرتين على عجل ولو كان في فراشه.
فذهب الحارس إلى غرفة مرتين وطرق بابها، وكان قد خلع ثيابه وتدثر بقميص النوم وجلس في الفراش وبدأ بصلاة النوم، فوقف الرجل خارجا حتى فرغ الأب من الصلاة ثم دخل عليه وأبلغه أمر الملك باستقدامه؛ ففرح لعلمه أنه لم يدعه إلا للإيقاع بأوباس، فنهض في الحال وهو لا يزال بذلك اللباس، وتزمل فوقه برداء واسع من الفرو، ولم يضع القلنسوة على رأسه وكان شعره منفوشا أبيض كأنه كتلة من القطن فوق رأسه، ومشى حتى دخل على الملك، وكان رودريك أيضا في نحو ذلك من المظهر الغريب بعد أن تقلب في الفراش، وقد اختلطت ضفائر رأسه بشعر لحيته وشاربه، وأثر الغضب والفشل في سحنته. فلما دخل مرتين عليه شعر بارتياح لرؤيته فنهض لاستقباله، وقبل يده ودعاه للجلوس بجانبه فجلس وهو يقول: «أرجو أن يكون جلالة الملك قد دعاني لأمر يسره.»
فقال: «لا أظنك تجهل السبب الذي دعوتك من أجله، وقد كنت في هذا المساء ترى وتسمع ما كان من أوباس.»
فرأى مرتين أن يتملق الملك، فقطع كلامه قائلا: «إنها وقاحة غريبة وليس أغرب منها إلا صبر جلالة الملك عليها.»
فقال رودريك: «إنها في الحقيقة وقاحة لم أكن أتوقعها من قوم قد أذقناهم الذل وأخذنا الحكم من أيديهم. ألا يخاف أوباس من غضبي؟»
فقال مرتين: «أظن أن جلالة الملك لم ينتبه لفحوى أقواله، وأوباس مشهور بقلة الكلام وكثرة التفكير، وإذا قال كلمة يجب التمعن في فحواها لأنه لا يتكلم عن هوى ولا يلقي الكلام جزافا. ألم تسمع قوله لجلالتكم: «إذا كان لنا مطمع في الملك فإن قوات السماء تقدر على إخراجه من يدك»؟ إنها جسارة غريبة تدل على ما يعده من الشراك والمكايد. ولا أظنه إلا محاولا أن يعقد المجالس السرية ويتعاون مع الأعداء على خلع الملك، ولكنه سيبوء - ولا محالة - بالخيبة ...»
وأحس رودريك عند سماع هذا التعليل بارتياح لأنه اكتشف بابا لاتهام أوباس والقبض عليه وعلى من في منزله لعله يجد فلورندا بينهم، وقد غلب على خاطره أنها فرت إلى هناك؛ إذ ليس لها من الأقارب أحد، فقال: «ما الرأي يا حضرة الأب في هذا الخائن؟»
قال: «الرأي أن تقبض عليه حالا في هذه الساعة قبل أن يتأهب أو يدس الدسائس؛ لأنه خرج من قصرك وهو يهددك، فلا تكن هينا، والحلم في هذا المقام ضعف.»
ولم يكن رودريك في حاجة إلى هذا التحريض، وهو أكثر رغبة في ذلك، ولكنه زاد على رأي مرتين أن يقبض على أهل بيته أيضا ويسوقهم إلى السجن لعلهم يكشفون عن دسيسة جديدة، فقال: «إلي بقائد الحرس الملكي.»
فخرج مرتين وأمر بعض الحرس باستقدام القائد وعاد إلى غرفة الملك.
أوباس في قصره
أما أوباس فإنه لما خرج الملك من بين يديه، نهض وسار على عجل إلى منزله لموافاة فلورندا والخادمين، وتدبير وسيلة لإخراجهما من طليطلة، فلما وصل إلى منزله سأل الخدم: «هل جاء أحد للسؤال عني؟» فقالوا له: «كلا.» فانشغل خاطره لاعتقاده أنهم كان يجب أن يسبقوه إلى هناك لو لم يكن أصابهم سوء أو عاقهم عائق، فأعمل فكره وعلل نفسه بقرب وصولهم حتى مل الانتظار فعول على الخروج بنفسه للبحث عنهم في الطريق الذي كان يتوقع أن يجيئوا منه، ولكنه ما لبث أن سمع ضوضاء ووقع حوافر خيول أمام القصر، فظنهم جاءوا على أفراس، فنهض وأطل من شرفة القصر والظلام لا يزال حالكا فرأى جماعة من الفرسان دنوا من القصر وأحاطوا به عن بعد، ولم يخاطبوا أحدا من أهله. ولم يستطع لشدة الظلام أن يتبين الوجوه، ولكنه أدرك بفراسته أنهم من رجال رودريك وقد جاءوا لأمر يوجب قلقا، على أنه لم يخف على نفسه لرباطة جأشه ولاعتقاده ببراءة ساحته واعتماده على عزيمته وقوة حجته، ولكنه خاف على فلورندا ورفاقها إذا جاءوا في تلك الساعة فإنهم سوف يقعون في الشراك لا محالة.
وأعمل فكره هنيهة فرأى أن المبادرة إلى العمل أجدر به، فتحول إلى غرفته فتزمل بالقباء وخرج إلى الباب ونادى أقرب فارس إليه فجاءه وترجل وحياه باحترام، فقال أوباس: «ما الذي تفعلونه هنا؟»
قال: «إننا مكلفون بالوقوف هنا إلى الصباح.»
فقال أوباس: «ومن أمركم بذلك؟» •••
فسكت الرجل وحول وجهه إلى جهة أخرى ونادى ضابط تلك الكوكبة، فجاء وترجل وحيا أوباس وهم بتقبيل يده، فاجتذب أوباس يده بعنف وقال: «من أمركم بالوقوف هنا وما الغرض منه؟»
فقال الضابط: «أمرنا به من ينوب عن الملك. لماذا أقلقت راحتك وخرجت في هذا الليل من فراشك؟ نم مستريحا.»
فقال أوباس بنغمته الهادئة: «أفصح يا جندي عن الغرض من وقوفكم هنا أو ارجعوا من حيث أتيتم.»
فقال وهو يخفض صوته تهيبا من أوباس: «إننا مكلفون بالقبض على قداستكم حين تهمون بالخروج من هذا المنزل.»
فاستشاط أوباس غضبا ولكنه ظل هادئا وقال: «مكلفون بالقبض علي؟ ومن أمركم بذلك؟»
فقال الضابط: «يعذرني مولاي فإني مأمور ولا يسعني إلا الطاعة. إننا مكلفون من قائدنا الأكبر بناء على أمر جلالة الملك، فهل نستطيع مخالفة الأمر؟»
فقال أوباس: «كلا، بل أنا أحرضكم على الطاعة دائما.» قال ذلك وأعمل فكره في الأمر، وأراد أن يسرع خوفا من وصول فلورندا في تلك الساعة فقال: «إني خارج الساعة معكم، ولا حاجة بكم إلى الانتظار حتى الصباح.»
قال الرجل: «ليس في الأمر يا مولاي ما يدعو إلى هذا القلق، فلو مكثت في منزلك شهرا ما مسسناك.»
قال: «بل أخرج الساعة، هلم بنا.»
فأشار الضابط إلى فرسانه إشارة يفهمونها، فتجمهروا وأتوا بجواد ركبه أوباس، وساروا به وهو في وسطهم والجميع سكوت لا يجرءون على الكلام في حضرته. •••
أما هو فكان في أثناء الطريق يفكر في الأمر الذي ساقوه لأجله وقد عزم على الثبات والتعقل، غير أن ذهنه ظل منشغلا بفلورندا، وخشي أن يلتقوا بها في ذلك الطريق، لكنهم بلغوا القصر ولم يروا أحدا.
فلما وصل أوباس إلى قصر الملك هم بالترجل، فأشار إليه الضابط بأنهم مكلفون بمرافقته إلى مخفر بالقرب من القصر إلى الصباح، ثم قال الضابط: «ولهذا السبب قلت لقداستكم أن تبقوا في منزلكم إلى الصباح، وأردنا بذلك الحرص على راحتكم.» •••
ولكن أوباس رأى أنه أحسن صنعا بإخلاء الطريق لفلورندا ولو سبب له ذلك بعض الضيق ريثما يلقى الملك ويرى ما يريد، فدخل غرفة في بيت بجانب القصر وظل الحرس بالباب.
قضى أوباس بقية ذلك الليل يذرع تلك الغرفة ذهابا وإيابا، وهو يفكر فيما عسى أن يكون غرض الملك من تلك الدعوة على هذه الصورة. وخطرت له خواطر كثيرة وتهم شتى ربما يتهمه بها رودريك، ولكنه سر بما توهمه من نجاة فلورندا، وأما هو فلم يكن ليخاف موقفا أو يهاب خطرا في سبيل الحق والحرية. والرجل الحر لا يفزعه موقف ولا يتهيب من سؤال، وهو محترم حتى من أعدائه، إلا أنه قد يكون في خطر من دسائس الدساسين أو استبداد الظالمين.
البلاغ
وانفرجت الأمور في عيني أوباس بطلوع الفجر وتبدد جيوش الظلام، رغبة منه في الاطلاع على سر هذه الدعوة. ولكن النهار انقضى جانب منه ولم يطلبه أحد فازداد قلقه، واستدعى رئيس الحراس، وهو الضابط المنوط به هذا العمل، فمثل بين يديه، فقال له أوباس: «وماذا عسى أن يكون آخر هذا الأسر؟»
فقال: «لا أدري يا مولاي، فعسى أن يكون خيرا، وأنا لو عرفت سر ذلك ما أخفيته عن سيادتكم.»
قال أوباس: «إني في حاجة إلى الذهاب لمنزلي، فإذا لم يكن ثمة ما يدعو للسرعة في المقابلة، فأرى أن يطلقوا سبيلي لأذهب إلى منزلي، ثم إذا أراد الملك مني أمرا جئت إليه.» •••
فنظر الضابط إلى أوباس وفي عينيه خبر يتردد بين كتمانه وإظهاره، فأدرك أوباس ذلك فيه فقال: «ما الذي تضمره؟ قل.»
فقال: «إنك إذا ذهبت إلى منزلك لا تجد فيه أحدا.»
فبغت أوباس وقال: «وكيف ذلك؟»
فقال الضابط: «لأنهم قبضوا على كل من كان في ذلك المنزل من الخدم والعبيد، وهم في السجن الآن وأبواب المنزل مغلقة.»
فلما سمع أوباس قوله تحقق من عزم الملك على الفتك به جهارا، ولولا رزانته لبدت البغتة على وجهه. ومما زاد قلقه خوفه على فلورندا، وقد تبادر إلى ذهنه أنهم لم يقبضوا على أهل منزله إلا لأنهم رأوا فيه فلورندا. على أنه لم يبال بالوقوف على التفاصيل، فنظر إلى الضابط وقال بسكينة وتعقل: «لا ينفعهم ذلك شيئا.» ثم تحول إلى الداخل فخرج الضابط إلى مكانه.
وكان ذلك الضابط ممن يعرفون فضل أوباس وعائلته، ولكنه كان - كأكثر رجال الدولة - مندفعا مع التيار الأكبر يرى الحق ويقوله ولكنه لا يفعله، شأن الدولة في أدوار انحلالها وتقهقرها، فإنها لا تخلو في أثناء ذلك الانحلال من رجال عقلاء، يشعرون بما أصاب دولتهم من الخلل وينتقدون أعمال حكومتها فيما بينهم وهم خارج المناصب، ويزعمون أنه لو أتيح لهم الوصول إلى تلك المناصب لأدخلوا في الحكومة إصلاحا كبيرا، فإذا تولى أحدهم الحكم رأى نفسه مندفعا - برغمه - مع تيار الأحوال العامة كما فعل أسلافه، وإذا حاول مقاومة ذلك التيار عرض نفسه للخطر، ويندر أن يطول بقاؤه على عزمه القديم وهو في منصبه لعجزه وهو فرد عن مقاومة مجرى الأحوال. والدولة إنما بلغت تلك الدرجة من الانحطاط بتوالي الأجيال، والبدن إذا ابتلي بالضعف من الهرم لا يرجى عوده إلى الشباب، إلا أن يكون المصلح في أكبر المناصب، فقد يأتي بإصلاح ذي بال ولكنه يذهب بذهابه.
وقد كان في طليطلة كثيرون ممن يرون الخلل المتسرب إلى الدولة، ولكنه لم يكن لهم سبيل إلى مناصبها الكبرى. وأما صغار المستخدمين فليس لهم إلا التذمر والكظم كما كان شأن ذلك الضابط.
رجع أوباس إلى مقعد في تلك الغرفة، جلس عليه واستغرق في الهواجس حتى مضى بعض النهار. فلما رأى الخادم آتيا إليه بالطعام تحقق أن بقاءه سيطول هناك، وزاد قلقه فرفض أن يأكل ورد الطعام، واستقدم الضابط وقال له: «إني لا أستطيع أن أتناول طعاما قبل أن أعرف سبب هذه المعاملة، فهل لك أن تستطلع ذلك من أحد؟»
فقال: «أرى - يا مولاي - أن تكتب كتابا أحمله إلى مجلس الملك لعلي آتيك بالجواب الشافي.»
فأخرج أوباس من جيبه لوحا مشمعا كتب عليه بالمسمار ما معناه: «حملني جندك إلى هذا المكان بلا ذنب اقترفته، والملك يعلم أن رجال الكهنوت لا تجوز معاملتهم على هذه الصورة، وإنما هم تحت سيطرة الكنيسة، فلا أدري سبب هذا السجن، إلا أن يكون ذلك من جملة ما نخر في حياة هذه الدولة.»
فحمل الضابط الكتاب وسار به إلى القصر، ولم تمض برهة حتى عاد وهو يقول: «إن الأب مرتين قادم لمقابلة قداستكم.»
فلم يسر أوباس لذلك الخبر إلا على رجاء أن يعلم منه سبب ذلك الأسر، وقد علم أنه آت بأمر الملك، فظل أوباس جالسا فدخل مرتين مهرولا وهو يتمتم كأنه يتلو بعض الأدعية حتى وقف بين يدي أوباس فحياه، وهم كأنه يريد تقبيل يده لارتفاع رتبته الكهنوتية، فلم يبال أوباس بكل ذلك بل ظل ساكتا.
فجلس مرتين على كرسي تجاه مقعد أوباس وهو يبتسم ووجهه يتهلل فرحا، ولا يفرح الإنسان بشيء أكثر من فرحه بفوزه على عدوه.
وتنحنح الأب مرتين مرارا ومسح وجهه ولحيته غير مرة استعدادا للكلام كأنه يهم بالتلفظ، ولكن عقدة لسانه كانت تحول دون الإفصاح إلى أن فتح الله عليه، فقال وهو يقطع الكلام: «قد بعثني جلالة الملك لأبلغ قداستكم أنه يعلم امتيازات الكهنة، وأنه لا يجوز سجنهم أو محاكمتهم إلا في مجالس كهنوتية، ولكنه إنما أمر بالقبض عليك مؤقتا ريثما يجتمع مجلس الأساقفة وهم ينظرون في أمرك ...»
فلم سمع أوباس قوله زاد استغرابا ولم يفهم المراد تماما؛ لأن مجمع الأساقفة إنما يجتمع مرة في السنة أو مرتين، ولا يجتمع غير اجتماعاته المعينة إلا للنظر في أمور في غاية الأهمية، كانتخاب الملك أو البحث في خطر يتهدد المملكة أو غير ذلك. واجتماع هذا المجمع يقتضي مكاتبة أساقفة الأقاليم والمطارنة؛ مما يستغرق أياما عديدة. فأطرق أوباس وأعمل فكره في هذا الأمر ولم يجب.
وكان الأب مرتين قد ثبت بصره في أوباس ليستطلع ما يبدو منه، وكان يتوقع استياءه وغضبه ليشفي ما في نفسه؛ لأن من يتعمد إهانتك إذا لم ير قوله قد أغضبك شعر بالإهانة ترجع إليه ويشق ذلك عليه. فلما رأى مرتين أن أوباس لا يزال كما كان ولم تظهر عليه علامات الاضطراب، ولا احتد ولا أجاب باعتراض ولا استفهام توهم أن ذلك ناتج من عدم إدراكه لخطر الأمر الذي يترتب على ذلك الاجتماع فقال: «ولا يخفى على قداستكم أن جمع الأساقفة يقتضي زمنا طويلا، وأما الآن فلأن أكثرهم جاء إلى طليطلة لتهنئة جلالة الملك بعيد الميلاد فإن الانتظار لا يطول في جمع المجمع، فلا تضجر.» •••
فظل أوباس هادئا ولم يقل شيئا لأنه كان قد أدرك ذلك من تلقاء نفسه.
فلما رآه مرتين لا يزال ساكنا رابط الجأش، جاشت أحقاد صدره واشتد غيظه، فأراد أن يلمح له بالتهمة الموجهة نحوه فقال: «ويسوءني يا حضرة الميتروبوليت أن تصدر منكم أقوال تدعو إلى إساءة ظن الملك بكم كما فعلتم في مساء الأمس، فهل يليق بمثلكم أن يهدد جلالة الملك بالخلع؟ ولولا وجودي وسماعي ذلك القول بأذني ما صدقت، ثم إنكم لمحتم بمثل ذلك أيضا في كتابكم إليه الآن.»
توقع المصيبة شر من وقوعها
أدرك أوباس أنهم يريدون محاكمته بتهمة سياسية ضد الملك فاستعظم التهمة، ولكن باله ارتاح لاطلاعه على حقيقة الخبر، والإنسان يكون أكثر قلقا أثناء انتظار الخبر مما هو بعد سماعه، ولذلك قالوا: «توقع المصيبة شر من وقوعها.» فلما وقف أوباس على سر الأمر لم ير فائدة من الكلام مع مرتين في هذا الشأن فضلا عن أنه يشفي غله بذلك الكلام، فوقف بهدوء ورزانة وقال: «صبرا إلى يوم الاجتماع، وكأن رودريك لا يريد أن يبقى عندي شك في قرب سقوط دولته فزادني بعمله يقينا بدنو أجلها ...» قال ذلك ومشى ولم يترك للأب مرتين فرصة للجواب.
أما مرتين فإنه نهض بنهوض أوباس وقال وهو يظهر الشفقة عليه: «ألا تزال تقول ذلك؟! يا للعجب! كيف يطيعكم ضميركم على المؤامرة ضد الملك وسلطانه وحياته، وأنتم تعلمون أن الكنيسة هي التي نصبته بإجماع أساقفتها؟!»
فأدرك أوباس أنه يريد أن يستدرجه في الحديث ليضاعف التهمة عليه ويشفي غليله منه، فتركه يتكلم وتحول عنه وولى وجهه إلى نافذة تطل على الحديقة.
فلما رأى مرتين ذلك منه ضحك وهرول مسرعا نحو الباب وهو ينادي الضابط، فلما حضر بين يديه قال له: «يأمرك الملك أن تحتفظ بهذا السجين لأن أمره ذو شأن، واحذر أن يفلت منك.»
فأشار الضابط برأسه أن: «نعم.» وخرج الأب مرتين ظافرا منتصرا لولا ما ساءه من رباطة جأش أوباس وتأنيه وصبره، وكان يود أن يرى منه حدة أو غضبا ليوسعه تأنيبا ويشفي غليله منه.
أما أوباس فإنه عاد إلى التفكير، وهو لا يزال مشغولا على فلورندا، فتذكر ألفونس وخروجه بالأمس لقيادة الجند فأراد الاستفهام عن مقره، فعاد إلى الباب واستدعى الضابط فوقف بين يديه، فقال له: «هل علمت بخروج الأمير ألفونس من طليطلة؟»
قال: «علمت أن فرقة خرجت من طليطلة بالأمس، ولا أدري إذا كان الأمير معها أم لا.»
فرجح أوباس أن ألفونس سافر مع تلك الفرقة، ولكنه ظل مشغول الخاطر بفلورندا لا يدري ما آل إليه أمرها، وخشي أن تكون وقعت في الأسر في جملة أهل منزله، وأنهم إنما قبضوا عليهم من أجلها، وود لو استطاع استطلاع أمرها من أحد، وحدثته نفسه أن يسأل الضابط، ولكنه خشي عاقبة ذلك، ولم يخدعه ما بدا من رقة الضابط وحسن ظنه، لعلمه أن الذين يطابق ظاهرهم باطنهم قليلون، وأقل منهم الذين يثبتون على عزمهم فيما يدعوهم إليه ضميرهم؛ فخشي أوباس إذا كاشف الضابط بحديث فلورندا أو تظاهر أمامه بالاهتمام بها أن يبوح بذلك لدى أحد فيتخذوه حجة عليه مع اعتقاده أن الضابط مخلص له، ولكنه عول على سوء الظن واعتبار الناس كلهم جواسيس عليه.
قضى أوباس في سجنه بضعة أيام وهو ينتظر اجتماع المجمع، وفي ذلك الحين لم يوفق إلى سبيل للاستفهام عن فلورندا، ولا اتفق له سماع شيء عنها، فترجح لديه أنهم قبضوا عليها وعادوا بها إلى قصر الملك، فلما تصور ذلك اقشعر بدنه ونسي الخطر الذي يهدد حياته.
الموكب
أصبح أهل طليطلة ذات يوم وقد دقت فيها النواقيس وزينت الشوارع، وبخاصة الشارع الكبير الذي يصل بين قصر الملك والكنيسة الكبرى. واشتغل العبيد بكنس الشوارع وتنظيفها، ووقف الحرس صفين في القصر والكنيسة، وفي أيديهم الحراب وعليهم الملابس الرسمية التي يلبسونها في الاحتفالات الكبرى؛ فتساءل الناس عن سبب ذلك وتقاطروا إلى الشارع الكبير وأطلوا من النوافذ وأشرفوا من أسطح المنازل يتوقعون مشهدا جميلا أو منظرا ذا بال، وكان يومها صحوا تجلت فيه الشمس على أبنية طليطلة ونهرها وبساتينها.
وفي الضحى عج الشارع بالضوضاء، فالتفت الناس فإذا هناك فرقة من فرسان الحرس الملكي بملابس الجندية خرجوا من قصر رودريك، يأمرون المارة بإخلاء السبيل لموكب الملك، وعلى بضعة عشر مترا وراءهم زمرة من الشمامسة بالملابس الزاهية يتخللها الوشي المذهب، بعضهم يحملون صلبانا قائمة على عمد، والبعض يحملون الشموع، وقلما يظهر نورها لطلوع الشمس، على أن أكثرها قد انطفأ لهبوب الرياح؛ لأن طقس الشتاء في طليطلة - وإن كان صافيا - فإنه لا يخلو من الريح لوقوعها على جبل، وبعضهم كان يحمل أغصانا من الزيتون، وآخرون في أيديهم المباخر يتصاعد منها البخور وهم يترنمون بأناشيد لاتينية. وبعد حملة الشموع فرس عليه رودريك بتاجه وحوله الأساقفة بملابسهم الرسمية ووراءهم المطارنة والشمامسة وغيرهم من رجال الأكليروس، ووراء ذلك كله كوكبة من الفرسان. فلما رأى أهل طليطلة ذلك الموكب علموا أن الأساقفة قادمون للاجتماع، ولكنهم استغربوا اجتماعهم في ذلك الحين، وما هو بوقت الاجتماع؛ لأنهم كانوا يجتمعون اجتماعهم السنوي في وقت معين من العام، فاشتغلت الخواطر واضطرب الناس؛ لأن المجمع لا يجتمع في غير ميعاده إلا لأمر غاية في الأهمية.
وكانت المجامع الدينية في إسبانيا ثلاث درجات: (1) المجامع الكبرى. (2) المجامع الإقليمية. (3) المجامع الأبرشية. فالأولى تجتمع بأمر الملك في طليطلة للنظر في الأمور الهامة المتعلقة بالمملكة، كانتخاب الملك أو المصادقة على قانون أو نحو ذلك، مثل اجتماعه في ذلك اليوم للنظر في التهمة الموجهة إلى أوباس. والمجامع الإقليمية تجتمع في الأقاليم بأمر الأساقفة مرة أو مرتين في السنة، والمجامع الأبرشية يحضرها رؤساء الأديرة والقسس والشمامسة ونحوهم. فلما رأى أهل طليطلة الاهتمام بجمع هذا المجمع، خافوا أن يكون هناك ما يتعلق بحرب أو عزل أو تولية.
أما الموكب فظل سائرا حتى وصل إلى الكنيسة فتنحى الفرسان إلى الجانبين، ثم انقسم الشمامسة بشموعهم وصلبانهم ومباخرهم إلى قسمين، دخل كل قسم من باب جانبي، وترجل الملك والأساقفة والمطارنة ودخلوا من الباب الأوسط.
وكان خدمة الكنيسة قد نهضوا منذ طلوع الشمس واشتغلوا بالتنظيف، ووضعوا المقاعد والكراسي بالترتيب اللازم في هذا الاجتماع، وأناروا الشموع وفتحوا الأبواب، ووقفوا ينتظرون الموكب ويمنعون كل من أراد الدخول من العامة أو سواهم ممن لا يخول لهم حضور المجامع. والذين يجوز لهم حضورها هم: (1) أساقفة طليطلة والأقاليم المشتركة معها. (2) المطارنة الميتروبوليت. (3) رؤساء الأديرة. (4) الشمامسة والخوارنة. (5) بعض رجال البلاط الملكي. (6) الملك.
فلما دخل الموكب إلى الكنيسة اتخذ كل منهم مجلسه. وكانت المقاعد قد رتبت صفوفا متعاقبة، جلس الأساقفة على الصفوف الأولى منها بترتيب الأعمار، ووراءهم الأساقفة الصغار، وهؤلاء جلسوا بحسب الأعمار أيضا، وجلس وراءهم القسس، والشمامسة وقوف بين أيديهم، وفي وسط القاعة أمام تلك المقاعد كرسي خاص بكاتب سر المجمع، وهناك عرش مزخرف أعدوه للملك، وإلى جواره عدة مقاعد لمن يشهد الاجتماع من خاصة الملك. أما الأب مرتين فكان ينبغي أن يجلس - بوصفه قسيسا - بين القسس، وربما كان في مقدمتهم جميعا لكبر سنه، ولكنه فضل الجلوس بجانب الملك لسبب لا يخفى على القارئ.
افتتاح الجلسة
فلما استقر كل واحد في مجلسه، أغلقت أبواب الكنيسة وساد السكوت على تلك القاعة الكبرى، وظل السكوت سائدا برهة لا ينطق واحد بكلمة، ثم تكلم رئيس شمامسة الكنيسة من على كرسي بجانب الهيكل فقال باللاتينية
Oremus ؛ أي «فلنصل»، وكان لقوله صدى قوي. فلم يكد ينطق بتلك الكلمة حتى خر الجميع سجدا على ركبهم، وقد أخذ كل منهم يصلي لنفسه بصوت منخفض، ثم قطع صلواتهم أكبر الأساقفة سنا بصلاة قالها بأعلى صوته فأصغوا له، ولما فرغ منها صاح الجميع: «آمين.» ثم قال رئيس الشمامسة باللاتينية
Surgite fratres ؛ أي «انهضوا أيها الأخوة» فنهضوا وعاد كل إلى مجلسه، وعند ذلك افتتح الجلسة كاتب السر بتلاوة قانون الإيمان (نؤمن بإله واحد ... إلخ) على ما تقرر في مجامع القسطنطينية وختم التلاوة بعبارة تدل على الاعتراف بالمجامع المسكونية الأربعة.
ثم وقف شماس عليه ثوب أبيض ناصع وبين يديه كتاب ضخم على حمالة بجانب مجلس كاتب السر، وقد فتح الكتاب في مكان اختاره، وكان الأساقفة وسائر الحضور ينتظرون ما سيتلوه ذلك الشماس ليعرفوا منه موضوع الاجتماع؛ لأن ذلك الكتاب هو قانون المملكة، وكان من عادتهم إذا التأم المجمع أن يقرأ الشماس فقرات من ذلك القانون، تتعلق بالغرض الذي اجتمعوا من أجله، فإذا هو يتلو مواد متعلقة بانتخاب الملك وبمن يسعى في إفساد نيات الشعب عليه أو يتعمد خلعه ونحو ذلك؛ فأدرك الجمع الغرض من ذلك الاجتماع على وجه التقريب.
فلما فرغ الشماس من تلاوة تلك المواد، وقف كاتب الجلسة ووجه حديثه إلى الحضور قائلا: «ربما تستغربون ما تلوناه على مسامعكم، والأحوال على ما يتراءى لكم هادئة، ولكنني أبلغ قداستكم أننا اجتمعنا للنظر في تهمة موجهة إلى أخ من إخواننا، وللأسف إنه أسقف من الأساقفة. وربما استغربتم عدم حضوره هذه الجلسة مع أنه مقيم في طليطلة، ولا شك أنكم عرفتموه.»
فلما قال الكاتب ذلك ضج الأساقفة وتهامسوا في شأن أوباس، وأكثرهم لم يستغرب اتهامه بخلع رودريك، لما يعلمونه من علاقته بالملك السابق وطمعه في الملك لأبنائه. ثم قال الكاتب: «وسنقدمه كي يقف بين أيديكم وقفة المتهم، فإما أن يبرئ نفسه أو يجري عليه القصاص.» •••
فلما فرغ الكاتب من كلامه تكلم أحد الأساقفة الجالسين في المقعد الأول وقال: «لا بد لكل تهمة ممن يوجهها وممن توجه إليه، وقد علمنا أن المتهم هو أخونا الميتروبوليت أوباس، ولكننا لم نعلم من يتهمه بذلك ...»
فأجاب الكاتب: «إنكم ستعلمون ذلك متى حضر.»
فسكت الجميع ولبثوا ينتظرون قدوم أوباس وسماع محاكمته، وإذا بأحد الشمامسة يتوجه نحو غرفة تؤدي إلى باب سري، فتوجهت أنظار الأساقفة إلى تلك الجهة، ثم ما لبثوا أن رأوا أوباس داخلا بمشيته المعهودة، وقامته المعتدلة، وجلال محياه، وهيبته، وليس على وجهه شيء من دلائل الاضطراب أو الوجل. فلما وصل إلى الساحة الوسطى أمام مجلس الأساقفة أجال نظره فيهم، ثم التفت إلى مجلس الملك ولم يعر الأب مرتين انتباهه كأنه لم يكن موجودا هناك.
المحاكمة
وقف أوباس هناك وقفة قاض وليس وقفة متهم، وقف وهو ينظر إلى من حوله نظره إلى أناس ضعفاء، ولم يهمه عددهم ولا ما في أيديهم من السلطة والنفوذ، وخصوصا الملك؛ لأن أوباس كان يعده غلاما غرا، وزاد احتقارا له بعد ما شهد من أمره مع فلورندا. والرجل الحر يقدر الناس بفضائلهم لا بمناصبهم وإن كان الناس قد تعودوا احترام أهل المناصب والغنى والنفوذ، ولكنهم لا يزالون في أعماق نفوسهم يفضلون رجال الفضيلة ولا يعدون احترامهم لغيرهم إلا خوفا من الظلم أو التماسا للنفع. على أن منهم من يبالغ في إطراء أهل النفوذ حتى ينخدعوا عن أنفسهم ويزداد ضررهم، فإذا كثر أولئك المتملقون في بلاط ملك ضعيف اغتر بنفسه وانقاد لأهوائه وعمل بمشورتهم - والمتملقون لا يصلحون للشورى - فتسوء الأحوال، ويسود أهل الفساد، وتئول البلاد إلى الدمار والعياذ بالله.
وكان أوباس ممن لا يذعنون إلا للحقيقة ولا يخيفه إلا الخروج عن جادة الحرية، ولم يكن يشعر أنه حي لنفسه رغبة في الحياة الدنيا أو طمعا في مناصبها أو ملاذها، ولكنه كان يرى نفسه - منذ أن اعتزل العالم في سلك الكهنة - أنه إنما يعيش عبدا لمبدأ يراه مجسما في مخيلته، ويستغرب تغافل الناس عنه، كان يرى نفسه أسيرا للحق عبدا للحقيقة وحرية الفكر، لا يعرف المداهنة والمراوغة، فلا تعجب إذا رأيته واقفا في ذلك المجلس لا يهاب أحدا منهم؛ إذ كان يرى الحق أعظم منهم وأشد هيبة.
فلما وقف أوباس وقف الكاتب ووجه خطابه نحوه قائلا: «أبلغ سيادتكم أننا استقدمناكم إلى هذا المجمع يا حضرة الميتروبوليت لتهمة موجهة إليكم، وكل واحد منا يتمنى أن تكون باطلة وتبرأ ساحتكم. إنكم متهمون بالمؤامرة على خلع جلالة الملك ... ولا يخفى على سيادتكم أن مثل هذه التهمة لا تمس جلالة الملك فقط، بل هي تتناول هذا المجلس كله؛ لأنه هو الذي انتخبه وأقره ...»
وكان الأب مرتين في أثناء كلام الكاتب شاخصا بعينيه متطاولا بعنقه، فلما سمعه يقول ذلك أشار بإطباق جفنيه وهز رأسه أن: «أحسنت»؛ لأنه حسب أن ذلك يزيد نقمة الأساقفة وسائر أعضاء المجمع عليه.
أما أوباس فلم يكن يعبأ بما يبدو من أحد، فلما فرغ الكاتب من كلامه استولى السكوت على الجلسة وتطاولت الأعناق لسماع ما يقوله أوباس، فإذا هو يقول بصوت هادئ: «سمعت كلامك وما تقوله من أمر اتهامي، ولكني لا أجيب عليه قبل أن أعرف الرجل الذي اتهمني.»
فالتفت الكاتب نحو الملك وحنى رأسه كأنه يقول: «جلالة الملك نفسه.»
فقال أوباس: «وما هي أدلته على هذه التهمة؟» فأراد الأب مرتين أن يقلد أوباس في رباطة جأشه وتأنيه، فظل جالسا والتفت إلى الأساقفة لفتة الاستخفاف والتهكم وأخرج شفتيه من غورهما وزمهما، وأصعد حاجبيه وهز رأسه كأنه يقول لهم: «اسمعوا قول هذا الغبي كيف يطلب من الملك شاهدا على قوله.»
أما الكاتب فلم يسعه إلا أن يلتفت إلى رودريك كأنه ينتظر جوابه على قول أوباس، فأشار الملك إلى الأب مرتين أن يجيبه فوقف مرتين وقد نسي التأني ورباطة الجأش وعاد إلى فطرته العجولة، فلما رآه الأساقفة يهم بالكلام أصاخوا بسمعهم لما يقوله لئلا تفوتهم ألفاظه بالتمتمة فلا يفهمون ما يريد - وهم سيبنون حكمهم على جوابه - أما هو فقال: «أتطلب الأدلة على ثبوت التهمة عليك وكل القرائن تؤيدها؟ يكفي أنكم منذ كان الملك السابق حيا لا تزالون تسعون في خلع طاعة الكنيسة الكاثوليكية والرجوع إلى الآريوسية، وقد كان تنصيب جلالة الملك ضربة كبيرة عليكم جميعا، فأخذتم تبذلون كل رخيص وغال في مقاومته ولكنه مؤيد من الله والكنيسة. ومن عجيب أمرك أن تطلب الشهادة على صدق قول جلالته.» ولم يبلغ إلى هنا حتى تعبت آذان الحاضرين من كلامه المتقطع، فالتفت أوباس إلى الحضور وهو يبتسم وقال: «بل من الغرائب استغراب طلب الدليل على تهمة موجهة نحو أسقف له مكانته الدينية بين الناس، تهمة أقل ما يقال فيها أنها مختلقة، نعم مختلقة ولو قالها جلالة الملك؛ لأن الحق فوق الملوك والأساقفة. ثم لا أدري ما الذي يسوغ هذه التهمة، كيف يقال إني تآمرت على خلع هذا الملك؟ ومع من تآمرت؟ وأين؟ وكيف؟ وهل تكون المؤامرة أو التواطؤ إلا بين جماعة؟ فمن هم شركائي في التهمة؟ إنه قول غير معقول، لا أقول ذلك فرارا من العقاب؛ لأن العقاب لا يهمني.»
التصريح
فلم يصبر الملك على ما قال أوباس، فأجابه بنفسه وقد حملق عينيه وقطب حاجبيه: «يا للعجب من هذه الوقاحة! كيف تنكر هذا الأمر وقد سمعتك بأذني هذه وأنت تهددني بقرب انقضاء هذه الدولة، وإنه يهون عليكم إخراج هذا الأمر من يدي، هل تنكر ذلك؟ وقد سمعه الأب مرتين أيضا، فهل من دليل أوضح من هذا؟»
وكان الأساقفة وهم يسمعون الأقوال يميلون إلى التصديق لأسباب، منها أن أكثرهم يكرهون أوباس لحريته وصراحته وتمسكه بالحق، ولأنه قوطي، ناهيك بالقرائن التي تساعد على إثبات التهمة لأن أهل طليطلة كلهم يعرفون كراهية بيت غيطشة أجمعين لرودريك، وكل من يقول بقوله وبخاصة الأساقفة، لبواعث تقدم بيانها. فلما سمعوا شهادة الملك نفسه وشهادة قسه مالوا إلى الحكم على أوباس، وزد على ذلك أنه كان يمكنهم الحكم عليه بدون محاكمة، ولكنهم اجتمعوا ذلك الاجتماع ليقضوا به شبه واجب عليهم. فلما فرغ الملك من كلامه وجهوا أبصارهم نحو أوباس ليسمعوا قوله، فرأوه لا يزال على ثباته ورباطة جأشه، وقبل أن يشرع في الجواب اعترضه أحد الأساقفة قائلا: «إني لأعجب من نقمة بعض رجال القوط على تنصيب جلالة الملك، إنما كان تنصيبه بالانتخاب على مقتضى قوانين الدولة والكنيسة، والذين يدعون الحق لأبناء غيطشة أو غيره من أعضاء عائلته في الملك إنما هم مخطئون؛ لأن الملك في إسبانيا الآن انتخابي كما لا يخفى على سيادتكم، ولا يجلس على هذا العرش إلا الذي ينتخبه هذا المجمع المقدس، فهل تنكرون أن جلالة الملك منتخب على هذه الصورة؟»
فلما سمع أوباس ذلك أدرك أنهم يحاولون إيقاعه، فلم يبال وعزم على أن يجول في الموضوع إلى آخره، فقال وقد وجه خطابه إلى الأسقف: «إن هذا السؤال يا حضرة الأسقف خارج عن موضوع التهمة، ومع ذلك فإني أجيبك عليه: نعم، إن هذه المملكة أكثر ممالك أوروبا خضوعا للكنيسة، وأساقفتها هم الذين ينصبون الملك كما ذكرت، ولا أنكر أن جلوس هذا الملك كان بانتخاب هذا المجمع، فانتخابه كان قانونيا وإن كنت لا أعتقد أن المجمع توخى كل الطرق القانونية لنقل الصولجان من الملك السابق إليه، مما لا أخوض فيه الآن، ولكني لا أخفي عنكم أيها السادة أنني أرى الكنيسة قد تمادت بسلطتها في هذه المملكة دون سائر الممالك حتى تجاوزت حدها، أقول ذلك وأنا من أعضاء الكنيسة، ولا أظن أحدا منكم يقول هذا القول ولو كان يؤمن به؛ لأنه يغاير مصلحته.»
وكان الأب مرتين حينما سمع تعريض أوباس بالمجمع في الانتخاب أشار إلى الكاتب أن يدون ذلك القول أمامه ليطالبه به، ففعل.
أما الأسقف الذي كان الكلام موجها إليه فأجاب قائلا: «يظهر أنك تنكر فضل الكنيسة على المملكة، وهل يخفى عليك أن الكنيسة الكاثوليكية هي التي حفظت النظام والتمدن في هذه القارة، وقد جاء أجدادكم الجرمان على اختلاف قبائلهم وأكثرهم وثنيون فتغلبوا على المملكة الرومانية وتفشوا في مدنها، قبائل رحلا لا علم عندهم ولا تمدن، فجمعتهم الكنيسة في أحضانها وهذبت أخلاقهم وجعلتهم أمما وممالك ، وهي التي حفظت لهم العلم والحكمة، وهي التي دربتهم في كل شئونهم السياسية والإدارية والاجتماعية، ولولاها لكانت أوروبا فوضى لا علم فيها ولا نظام.»
فهم أوباس بالجواب فدق الكاتب جرسا أمامه إشارة إلى التماس السكوت فسكتوا، والتفتوا فرأوا الملك يهم بالكلام فأصغوا، فقال الملك وهو جالس على عرشه وصدره يتقدمه وشعره مرسل على كتفيه من تحت تاجه: «لا حاجة بنا إلى الخوض في مسائل لا علاقة لها بالموضوع، يكفي ما قد سمعتموه من كلامه الآن من استهجان أعمال المجمع في انتخاب الملك، وأنكم لم تنتخبوه بطرق قانونية، فمن يصرح بمثل ذلك في مجلس القضاء، هل يستغرب اتهامه بالمؤامرة؟»
فالتفت أوباس إلى رودريك قائلا: «لا علاقة أيها الملك بين استحساني الانتخاب أو استقباحه وبين مؤامرة تزعمون أني دبرتها لخلعكم. نعم، إني أشك في الطرق القانونية التي اتخذت في الانتخاب ولكنني لم أبن عليها مؤامرة، أو على الأقل أن السبب في وقوفي هذا الموقف هو اعتقادكم أني فعلت شيئا من ذلك.»
فاعترضه الأب مرتين قائلا: «وكيف لا يعتقد جلالته ذلك وقد سمعه من فمك كما سمعته أنا؟ يا للعجب!» قال ذلك والتفت إلى الملك وقال: «يظهر أن أمر المجادلة طال والتهمة صريحة واضحة.»
التحامل
فالتفت الملك إلى الأساقفة وقال: «قد سمعتم ما قاله هذا، فإما أن يكون الملك رودريك قد جلس على عرش طليطلة بغير حق أو أن أوباس هذا قد لبس ثوب الكهنوت بدون استحقاق.» قال ذلك وقد أخذ الغضب منه مأخذا عظيما حتى نزل عن عرشه ومشى وهو لا يعي، ثم عاد إلى كرسيه وجلس بعنف.
ففهم أوباس أنه يعرض بتجريده من رتبته الكهنوتية قصاصا له فقال: «لا تظن أن هذا التهديد يضعف من عزمي في قول الحق؛ لأني لست أسقفا بهذه البدلة ولا أنت ملك بهذا التاج، وإنما الأعمال بالنيات، ومهما أردتم بي من القصاص فذلك لا يقلل شيئا من اعتقادي، ولكنه يزيد ذنبك يا رودريك أمام الديان العظيم؛ لأنه سبحانه وتعالى يعلم السبب الذي من أجله نقمت علي وسقتني إلى هذا المجمع. وأنت تعلم وهذا الأب المحترم أيضا يعلم السبب الذي نقمتما من أجله علي حتى سقتماني إلى هذا الموقف، ولست أهاب موقفا أراني فيه محقا ولو لم ينصفني الناس فإن الله نصيري وهو المطلع على القلوب ...»
فلما سمع الملك تعريضه بحديث فلورندا خاف أن يحرجوه فيصرح به ويذكر اسمها وقصتها، فتظاهر الملك بالغضب ووثب من مجلسه وصاح فيه: «ويلك! أبمثل هذا الكلام تخاطب ملك الإسبان؟» ثم التفت إلى المجمع وقال لهم: «إذا صبرتم على أقواله فها أنا أخلع نفسي أو هو مخلوع من ساعته.» قال ذلك وتشاغل بإصلاح منطقته المذهبة.
فقال أوباس وهو لا يزال رابط الجأش: «لا بأس أيها الملك إذا أنا خلعت هذا الثوب، غير أن ذلك لا يغسلك من الرجس الذي تعمدت الانغماس فيه، ومن أجله سمعت توبيخي فساءك الحق وثقل عليك، فأردت الانتقام مني، ولكن الله هو المنتقم.»
فقاطعه رئيس الأساقفة قائلا: «أدعوك يا حضرة الميتروبوليت باسم الكنيسة أن تسكت.» فلم يسع أوباس غير الإذعان.
واستولى على الجلسة الصمت برهة، والكل مطرقون، وربما تهامس البعض بكلام لا يسمع له طنين. وكان الأب مرتين في أثناء ذلك يجيل عينيه في الأساقفة يتأمل ما يبدو في وجوههم، فإذا وقعت عيناه على عين أحدهم أشار بحاجبيه وشفتيه إشارة الاستهجان وهو يومئ إلى أوباس كأنه يقول: «انظر، ما أوقح هذا الرجل! وما هذه الجرأة التي ارتكبها في مثل هذا الموقف المقدس!»
أما أوباس فكان واقفا وقوف رجل بريء الساحة واسع الصدر يرسل بصره إلى الأساقفة بلا إشارة ولا ملاحظة، ولكن يظهر من رباطة جأشه وما يتجلى من وجهه من الهيبة والسرور أنه غير مبال بما قد يكون من عاقبة تلك المحاكمة، لاعتقاده أنه سيق إليها زورا وبهتانا. على أنه تذكر ما دار بينه وبين ألفونس قبل سفره وما تواطأ عليه من أمر الملك ونحوه، فرأى التهمة تصدق عليه من هذه الناحية، ولكنه راجع ما صدر من أقواله في تلك الجلسة، فلم ير فيها ما يمنع إنكاره حق الملك على رودريك. وفيما هو يفكر في ذلك وقعت عيناه على صورة كبيرة معلقة على أحد جدران الكنيسة، تمثل السيد المسيح واقفا بين يدي بيلاطس للمحاكمة، فتذكر قبوله الصلب دفاعا عن الحق فزاد استمساكا به.
أما رودريك فكان قد عاد إلى كرسيه، ولما رأى المجلس ساكتا خشي أن يعودوا إلى البحث فيما وجهه أوباس من التهمة إليه فالتفت إلى رئيس الأساقفة، وقال وهو يظهر الهدوء كمن له سلطان يستطيع أن يدير آراء المجمع كما يشاء: «لقد كفانا ما سمعناه وإذا رأيتم المسألة تحتاج إلى نظر بعد كل ما بدا لكم من الأدلة الصريحة، فإني أحل هذه الجلسة ونؤجل البحث إلى جلسة أخرى.»
فوقف الأب مرتين وقال بلهجته المعروفة، موجها خطابه إلى رودريك: «لا يتبادر إلى ذهن مولاي من سكوت سيادتهم أنهم يشكون في حديث جلالة الملك أو يخامرهم أدنى ريب من ثبات التهمة على أخينا الميتروبوليت بعد الشهادة الصريحة التي نطق بها مولاي ولم ينكرها هو، بل إنه أيدها بما فرط منه من العبارات الصريحة التي تدل على غضبه من هيئة الحكومة الحاضرة وممن كان السبب فيها، كأنه قال بصريح العبارة: «إن هذا المجمع قد خان البلاد بانتخابه جلالة الملك».» قال ذلك وهو يمضغ الكلام مضغا ثم يقذفه من فمه، كأنه ينثر تبنا يتطاير على غير نظام فيقع على الثياب والوجوه، والناس يطبقون أجفانهم لئلا يقع على عيونهم فيؤذيها!
أما أوباس فلما سمع قوله وما فيه من إثارة الخواطر عليه وجه خطابه إلى رئيس الأساقفة قائلا: «قد سمعتم ما قاله الأب مرتين - ولا أضمن أنكم فهمتموه - وكأني بكم تتوقعون إنكاري ذلك خوفا من العقاب. كلا، إني أشك في قانونية انتخاب هذا الملك كما قلت لكم، ولو خيرت فلربما اخترت سواه، وأما الدعوى التي سقتموني من أجلها إلى هنا فما هي في شيء من ذلك. إن رودريك هذا الذي تسمونه ملكا إنما جمعكم لمحاكمتي واتهمني بهذه التهمة لأني نصحت له أن يرجع عن جريمة هم بارتكابها، ولولا خوفي من تدنيس هذا المكان المقدس بذكرها لكشفت القناع عنها، ولو فعلت ذلك وأنصفتموني لبدأتم برجم هذا الجاني بأيديكم.»
فضج المجمع وهاج غضب الملك وخشي زيادة التصريح، فتظاهر بالانفعال الشديد والاستغراب، ولم يدر ماذا يقول، فأنقذه الأب مرتين من تلك الورطة بقوله، مخاطبا كاتب الجلسة: «يرى جلالة الملك أن أخانا الميتروبوليت قد تهور في أقواله وخرج عن طوره إلى الخلط والهذر، كأنه جن لفرط ما خشيه من سوء العاقبة، فلم يعد يفقه ما يقول؛ ولذلك فجلالة الملك يأمر بانتهاء الجلسة حالا وتأجيل المحاكمة إلى جلسة أخرى، ولا يجوز بعد صدور هذا الأمر أن يتكلم أحد في هذه الجلسة بغير الصلاة الختامية.»
فنزل كلام الأب مرتين بردا وسلاما على رودريك، ولم يسع الكاتب إلا العمل بالإشارة؛ لأن للملك الحق في بدء الجلسة وإنهائها دون سواه. ولم يكترث أوباس بذلك بعد أن قال ما قاله ولو بالتلميح، ثم وقف رئيس الأساقفة فتلا الصلاة الختامية.
وانفضت الجلسة فخرجوا إلى منازلهم إلا أوباس فإنهم ساقوه تحت الحراسة إلى مخفر آخر، وأوصوا الحراس أن يشددوا عليه الرقابة.
ألفونس ويعقوب
فلنتركه وشأنه ولنعد إلى ألفونس وما كان من أمره بعد ذهابه بأمر الملك، فقد خرج من منزله ومعه يعقوب، وسارا إلى مقر المعسكر في بناء كبير بضواحي طليطلة وحولهما الفرسان الذين جاءوا بأمر الملك فأوصلوهما إلى المعسكر وعادوا.
فلما دخل ألفونس استقبله الجند بالاحترام فترجل ومشى، ويعقوب يسير بين يديه وليس معه من الخدم سواه، وقد استغربوا منظره بما ذكرناه من إهماله لحيته وثيابه، حتى وصلوا إلى غرفة خاصة بالقائد الكبير، فإذا بخادم واقف هناك وبيده كتاب عرف ألفونس من منظره الخارجي أنه من الملك، فخفق قلبه لفرط ما غاظه الكتاب الماضي، فدخل ولم يطلبه حتى جلس في صدر الحجرة، فاستأذن الرسول من يعقوب في الدخول على ألفونس، فلما أبلغ يعقوب ذلك لألفونس قال له: «لا حاجة إلى دخوله، هات الكتاب منه.» فأخذه منه وجاء به إلى ألفونس وهو يقول: «لا تغضب يا مولاي، لعل فيه أمرا بالرجوع إلى منزلك .»
فتناول ألفونس الكتاب وهو صامت، ثم فضه فإذا هو من الملك يقول فيه:
من رودريك ملك القوط إلى القائد الباسل ألفونس
أما بعد، فقد سبق أن كتبنا إليك بالذهاب إلى كونتية، ولم نعين لك المدينة التي تنزل فيها، فانزل مدينة أستجة
Astigia
من كونتية بتيكة وأقم برجالك في إحدى القلاع ريثما أكتب إليك عن الجهة التي تذهب إليها. وقد أرسلت إليك مع هذا كتابا تدفعه إلى كونت بتيكة ليتلقاك بالترحاب ويمدك بالمال عند الحاجة. والسلام.
كتب في قصر طليطلة
فلما فرغ ألفونس من قراءة الكتاب أمر يعقوب أن يأتيه من الرسول بالكتاب الآخر، فجاءه به ودخل عليه وأغلق الباب وراءه وقدم له الكتاب وهو يتفرس في وجهه، فلما رأى ما يبدو عليه من الانقباض واليأس أراد أن يخفف عنه فعطس عطسة ارتج لها المكان، فانتبه ألفونس ونظر إلى يعقوب فإذا هو ينظر إليه ويضحك ويهز رأسه ويحك ذقنه بأنامله، فاستغرب ألفونس ذلك منه وكاد ينتهره لو لم يسبق إلى ذهنه ما آنسه من احترام عمه أوباس له واعتماده على أقواله، وتذكر السر الذي توسمه في سيرته فابتسم له، وقال: «ما الذي يضحكك يا يعقوب؟ هنيئا لقلبك.» قال ذلك وتنهد.
فتنهد يعقوب تنهدا سمع له صفيرا، وقال له: «بل هنيئا لك أنت، كيف يخدمك الحظ على أهون سبيل؟»
فهز ألفونس رأسه وقال: «تبا لهذا الحظ، دعني وشأني.» قال ذلك ونهض وهو يقول: «لا يليق بنا البقاء هنا ونحن مكلفون بالذهاب الليلة، ولا بد لي قبل كل شيء من استدعاء القواد وإبلاغهم الأمر بالاستعداد، فامض إلى قائدي الخمسمائة واستقدمهما إلي.»
وكان الجند الإسباني في عهد القوط مؤلفا من فرق، كل فرقة ألف جندي يسمى قائدها رئيس المعسكر
، تحته قائدان كل منهما يرأس خمسمائة واسمه
Quingentenarus ، وتقسم الخمسمائة إلى مئات اسم قائد كل مائة
Centernarus
قائد المائة. وكل مائة تنقسم إلى عشرات اسم قائدها
Decanus ؛ أي قائد العشرة، فالقائد العام يبلغ أوامره إلى قائدي الخمسمائة وهما يتوليان تدبير الجند.
فخرج يعقوب ثم عاد وأخبر ألفونس أن القائدين قادمان، ثم جاءا وقد لبسا ملابس السفر وشعرهما - مثل شعور سائر القوط - مسترسل على أكتافهما ودلائل الصحة بادية على وجهيهما، وملامح النعم في قيافتهما، فلما دخلا سلما على ألفونس باحترام وهما يعرفانه منذ كان أبوه حيا ويحترمانه من أجل ذلك، وقد سرهما توليه قيادة تلك الفرقة لما يعلمانه من حسن أخلاقه وطيب عنصره. وكانا من أهل الغيرة على عصبية القوط لم يرضيا برودريك إلا مع الجماعة، فإذا خلوا تحدثا بما كان من تحول النفوذ إلى العنصر الروماني بعد تولي رودريك، ولكنهما لم يكونا يجسران على التصريح بذلك بين يدي أحد حتى ولا ألفونس نفسه؛ لأنه أصبح مثلهم في ذلك.
فلما رآهما ألفونس تذكر أنه شاهدهما من قبل، ولكنه استغرب تأهبهما للسفر قبل أن يصدر لهما الأمر بذلك فقال: «أراكما بملابس السفر؟»
ومبا
فتكلم أحدهما، واسمه «ومبا»، وكان طويل القامة، شديد سواد العينين والشعر، وقال: «لقد وردت إلينا الأوامر بذلك من جلالة الملك تعجيلا للرحيل، فالجند الآن كله على أهبة السفر، ولم يبق إلا أن يصدر الأمر من مولاي ألفونس.»
فلما سمعه يذكر اسمه استأنس به وشعر براحة إليه وقال: «نغادر هذا المعسكر الآن، فأرجو أن تتوليا تدبير الجند في رحيله وإقامته إلى أن نبلغ مقصدنا.»
فأشارا بإحناء الرأس أن: «سنفعل.» ثم تكلم ومبا، وكانت له جرأة وتقدم على رفيقه، قائلا: «ألا ينبئنا مولاي عن الجهة التي نحن ذاهبون إليها؟»
قال ألفونس: «إننا ذاهبون إلى أستجة على نهر السنجيل في كونتية بتيكة، فهل تعرف الطريق إليها؟»
قال: «أعرفها جيدا، فإن الطريق إليها نحو الشمال والغرب إلى مريدة على نهر أناس، فنعبره ونسير شمالا شرقيا إلى قرطبة، ثم ننحدر شمالا شرقيا إلى أستجة على نهر السنجيل، وقد عرفت هذه المدينة وصليت في كنيستها، وأقمت في قلعتها، وعبرت على جسرها، وعرفت أديرتها وأسواقها.»
قال ألفونس: «بورك فيك، لقد ألقيت الأمر إليكما في تدبير هذه الحملة في أثناء المسير، ولكنني أوصيكما بأمر يهمني كثيرا، وذلك أنني لا أريد أن يعتدي الجند في أثناء الطريق على أحد من الفلاحين، ولا يأخذوا لأحد مالا أو زرعا، ولا يسيئوا لأحد في معاملة، فإذا فعل أحد ذلك كان جزاؤه عندي الجلد أو القتل، وإذا كان من أرباب الرتب جردته من رتبه وأملاكه وأهنته، فإني أريد أن يسير هذا الجند بكل هدوء وسكينة.»
فلما سمع ومبا ذلك ظهر الإعجاب في عينيه البراقتين وقال: «بورك فيك وفي أصل أنت فرعه، لقد عودنا المرحوم أبوك مثل هذا العدل والرأفة ...»
فلما سمع قوله عض على شفته وأطرق، وكأنه يقول له: «ليس هذا وقت التصريح.» ثم أتم كلامه قائلا: «وأوصي الكهنة المرافقين لهذه الحملة أن يوصوا الجند بهذه الوصايا، ولا يخفى عليكم أن جندنا أكثر ما يحسنون الحرب مشاة، فلا تتعبوا المشاة بالمسير ولا تحملوهم أحمالا ثقالا، ويكفيهم ما يحملونه من الأدرع والأسلحة من السهام والحراب.»
فلما فرغ ألفونس من كلامه، لم يزد ومبا على إشارة الطاعة ثم قال: «ألا يأمر مولاي بحاشية من الأعوان والموالي تسير في خدمته خاصة؟»
فأراد ألفونس أن يصرح له بالتخفيف عن الموالي، فوقعت عيناه على يعقوب، فرآه يشير إليه إشارة خفية ألا يفعل، فانتبه وقال: «لا أحتاج الآن إلى أحد فإن معي خادمي هذا، وهو يدبر لي ما أحتاج إليه، وإذا احتجت إلى سواه طلبت.»
فخرج القائدان فرحين بمرافقة ألفونس، أما هو فلما خلا بيعقوب قال له: «رأيتك تشير إلي في أثناء الكلام ...»
قال: «خفت أن يسبق لسانك إلى قول تؤاخذ عليه ونحن بين يدي الأعداء، فاحتفظ بكل ما دار بينك وبين مولانا ونبراسنا أوباس لنرى ماذا يكون، واسمح لي أن أتمم ما كنت قد بدأت به من قبل. اعلم يا مولاي أنك موفق بإذن الله؛ لأن الأمر الذي كنت لا تستغني في الوصول إليه عن بذل الأموال واستخدام الرجال قد وصلت إليه عفوا.»
قال ألفونس: «وماذا تعني؟»
قال يعقوب: «أعني أن المشروع الذي فكرت فيه مع مولاي الميتروبوليت لقهر ذلك العدو الحاكم، قد أصبح السبيل للشروع فيه ممهدا منذ الآن، هذه فرقة من الجند الآن تحت أمرك فقربها منك وحببها إليك ببذل المال، المال.» قال ذلك وتلمظ كأنه يتلذذ بطعام شهي.
فقطع ألفونس كلامه قائلا: «ومن أين لنا بالمال يا يعقوب؟ ما أهون إبداء الرأي فيه وما أصعب العمل به!»
فوضع يعقوب كفه على صدره وأحنى رأسه وأطبق جفنيه، ولسان حاله يقول: «المال عندي وعلي إحضاره.»
الخمر
فتذكر ألفونس مثل ذلك الوعد بين يدي أوباس في ذلك الصباح، فتاقت نفسه إلى استطلاع سر هذا الرجل فقال: «لقد ذكرتني بوعدك السابق، ولا يخفى عليك أني شديد الرغبة في معرفة حقيقة أمرك ...»
فتحول وجه يعقوب إلى الجد مع بعض الانقباض وقال: «فليأذن مولاي بتأجيل ذلك إلى وقت آخر، وأما المال فإني سأبين له سبيل الحصول عليه بعد وصولنا إلى أستجة والأمور مرهونة بأوقاتها. طب نفسا وقر عينا وكن على يقين أني على قبح خلقتي وقذارة مظهري لا أخلو من حسنات نافعة، والآن لا بد لنا من الركوب لأني أسمع قرع الطبول إيذانا بالمسير.»
قال ألفونس: «إلي بالفرس فأركبه وتول أنت أمر الخدم وتدبير ما قد نحتاج إليه من الطعام ونحوه، وكن أنت نائبا عني في كل ذلك، ولا تدع أحدا يأتي إلي من الخدم، فإذا احتاج أحد منهم إلى شيء فليتصل بي بواسطتك.»
فخرج يعقوب وأحضر فرسا من أحسن أفراس الحملة وعليه سرج ثمين، وكان هو بملابس القواد وقد زينه شبابه وجماله. وقبل الغروب أذن بالرحيل فأقلعت الحملة فمرت في طريقها قبل خروجها من ضواحي طليطلة بمرتفع مطل على طليطلة، فالتفت ألفونس إلى المدينة وهي على مرتفع أيضا وقد بدت فيها الكنيسة الكبرى فوجه نظره إلى قصر رودريك على ضفاف التاج، ولما وقعت عيناه على قصر فلورندا خفق قلبه خفقانا سريعا وهاج به الوجد، وتذكر ما كان من لقائه إياها في ذلك الصباح، وما آلت إليه حاله في ذلك المساء، ونظر إلى السماء والغيوم تتكاثف وتتلبد أشبه بما يتكاثف على قلبه من سحب الهيام والشوق، وخيل له أن الطبيعة تشاركه في ذلك الشعور، والمرء مفطور على تفسير حوادث الطبيعة بما يوافق شعوره، وتعليلها بما يلائم اعتقاداته وأوهامه، ويغلب فيه أن يراها مسخرة له لا تأتي بحركة إلا لخيره أو شره، وأنها تفعل ذلك عمدا بعناية خاصة، فإذا أمطرت السماء وهو مسافر توهم أنها تفعل ذلك لتعوقه، وإذا كان يرجو الغيث لزرع أو نحوه، قال إنها تمطر خدمة له، فلا غرو إذا توهم ألفونس أن السماء تعبس وتتقطب غيومها شعورا بفراق حبيبته، والمحب كثير الأوهام سهل التطبيق لكل ما يوافق إحساسه من جهة حبيبه ولو كان ذلك مخالفا للنواميس الطبيعية.
ولم تغب الشمس حتى أظلمت الدنيا وتساقطت الأمطار وهبت الرياح ولم يعد المسير ممكنا لهم، فأمر ألفونس بالنزول هناك فنصبوا الخيام، وفي جملتها خيمة له نصبوها بسرعة، وجاء يعقوب فاستدعاه إليها ودخل هو معه. وكانت ليلة باردة، قاسى فيها ألفونس من هول الوحشة والشوق مثل ما قاسته فلورندا في تلك الليلة من العذاب، وألفونس غافل عن حاله لاعتقاده أنها على موعد معه ليأتي لإنقاذها في ذلك المساء، وقد وكل في ذلك عمه أوباس.
فلما دنا الوقت المعين لإنقاذ فلورندا تصورها ألفونس خارجة من قصر رودريك مع أجيلا وشنتيلا في القارب إلى منزل أوباس، وتوهم أنها أصبحت في مأمن هناك ريثما يبعث بها إليه حيثما يكون، ثم تذكر بغتة أن أوباس لا يعلم المكان الذي هم ذاهبون إليه، ففطن إلى السبب الذي من أجله غير الملك خطة مسيره، والتفت إلى يعقوب، وكان جالسا في أحد جوانب الخيمة وقد تزمل بقباء كثيف وتلملم وتجمع من شدة البرد، والرياح تهب والرعود تقصف، وقال له ولم يحاذر أن يعلو صوته لعلمه بانشغال الآذان بقصف الرعد عن سماع حديثهما: «هل علمت السبب الذي من أجله غير الملك خطة مسيرنا؟»
فرفع يعقوب رأسه وقال ولحيته ترتعش من البرد: «أظنني عرفت، وعرفت أشياء أخر لولا البرد الشديد لكنت أقصها عليك.»
قال: «وماذا عرفت؟ قل لي، وإذا كنت تشكو البرد فإليك بقدح من الخمر فاشربه فيدفئك.» قال ذلك وأشار إلى خرج كان في الخيمة يعرفه يعقوب، ثم قال: «وأعطني قدحا فأشربه أنا.»
فتشدد يعقوب ووقف وهو يرتعد من شدة البرد، ومشى حتى أخرج الوعاء، وصب منه الخمر في قدح من الفضة - كان هناك - ودفعه إلى ألفونس فشربه، وتناول قدحا آخر صب فيه لنفسه وشرب، ثم صب قدحا آخر لألفونس وآخر لنفسه، حتى إذا دبت الخمر في عروقه فأذهبت الرعدة، ملأ القدح وتناوله ووقف بين يدي ألفونس ورفع يده والقدح فيها، وهو ينظر إلى ما حوله كأنه يحاذر أن يراه أحد وقال: «اشرب هذه الكأس تذكارا للسر الذي بيننا، ونرجو أن ينجح سعينا فيه، وتذكارا للأمنية التي هي في خاطر مولاي ألفونس ويظن أن يعقوب غافل عنها، وإن كان لا بد له من أن يكاشفه بسرها؛ إذ لا غنى له عن خدمته في الحصول عليها.»
قال ذلك وشرب وهو يبتسم وألفونس ينظر إليه وقد استغرب تعريضه بالسر الآخر، وما هو إلا سر حبه فلورندا، فأراد أن يتحقق من ظنه فقال: «وأية أمنية تعني يا يعقوب؟»
فضحك يعقوب وقال: «لقد لعبت الخمر برأسي فاعذرني إذا حسرت حجاب التهيب ونطقت بالواقع. الأمنية يا مولاي في قصر رودريك، وهي التي جعلت ذلك الظالم يبعث بك في هذه المهمة، ولكن لا بد من الانتقام والرجوع بالنصر المبين.» قال ذلك وضحك وهو يمسح لحيته من آثار الخمر، وكانت قد تلوثت بنقط تساقطت عليها وهو يشرب القدح الأخير. ثم خطا خطوة إلى ألفونس وانحنى نحوه وهو يقول: «قد توهم رودريك أنه قد نفذ غرضه بإرسالنا إلى أستجة، وفاته أنه يخدم غرضنا؛ إذ لا بد لنا من الذهاب إلى هذه المدينة للمشروع الذي عزمنا عليه.»
فاستغرب ألفونس قوله وضجر من الأحاجي والألغاز، وقال له: «لقد أضجرتني يا يعقوب بإشاراتك وألغازك، لماذا لا تصرح لي بما في نفسك؟»
فانقبض وجه يعقوب مرة أخرى وقال: «قلت لمولاي إن موعدنا في ذلك قريب إن شاء الله، وأرجو ألا يلح علي في الأمر فإن الإلحاح مضر. اصبر يا مولاي وسأطلعك على كل شيء قريبا، واعلم أن رودريك هو الذي عجل بكشف هذا السر حين أرسلنا إلى هذه المدينة.»
فندم ألفونس على إلحاحه وضجره، وأصبح ليعقوب عنده منزلة رفيعة لما آنسه فيه من الحمية، فأراد أن يصرف عنه ذلك الانقباض فقال له: «ما رأيك في المهمة التي أنفذنا رودريك في قضائها؟»
قال: «أظنها ثورة نشبت في بعض المدن من أمثال ما يحدث كل عام بين الرعايا المظلومين، ولا أخفي عن مولاي، بعد ما تعاهدنا عليه، أن أهل هذه البلاد في غاية الضنك من استبداد حكامهم، وكانوا يشكون من ضغط الرومان عليهم، فلما جاءهم القوط توهموا فيهم النجاة من نير الرومان، فإذا هم تحت النيرين معا، وقد أصبحوا أرقاء لا حرية لهم ولا منزلة ولا عقار ولا مال. فلما لمسوا ضعف هذه الدولة كثر تمردهم وهياجهم، وقد سهل هذا الأمر عليهم خطأ ارتكبه ملوك القوط المتأخرين مع جماعة اليهود، فأكرهوهم على نبذ ديانتهم واعتناق النصرانية، فأصبح اليهود عونا عليهم.»
فقطع ألفونس كلامه قائلا: «ولكن اليهود قد انقرضوا من إسبانيا الآن، ولم يبق فيها يهودي كما لا يخفى عليك.»
قال: «أعلم ذلك يا مولاي وأعلم أيضا أن ملوك القوط قبل المرحوم والدك قد أسرفوا في اضطهاد اليهود، وخيروهم بين القتل أو النصرانية أو الهجرة، فهاجر بعضهم وتنصر الباقون، فاختفت اليهودية، ولكنها لم تندثر. وهب أنها اندثرت فاليهود لا يزالون موجودين.» ثم التف بعباءته لفا شديدا وهو يقول: «أرانا خرجنا من الموضوع قبل الأوان، وخلاصة الأمر أن المهمة التي نحن ذاهبون من أجلها، مهما يكن من أمرها فإني ضامن إخمادها بدون أن نجرد سيفا أو نرمي نبلا. طب نفسا واصبر حتى نصل أستجة فينكشف لك كل شيء.» ثم تحول إلى مجلسه الأول وهو يقول: «وقد آن وقت النوم، ألا يرغب مولاي في ذلك؟»
فابتدره ألفونس قائلا: «وقبل الذهاب إلى النوم اسقنا كأسا أخرى واشرب مثلها وهي خاتمة الحديث.»
فصب له قدحا وشرب مثلها وتوسدا، وألفونس يعد نفسه بالاطلاع على أسرار كثيرة بعد وصوله إلى أستجة.
الفلاحون
وناما تلك الليلة نوما عميقا على أثر ما عانياه من التعب بالرغم من البرق والصواعق وشدة هبوب الرياح، وأفاق يعقوب مبكرا وخرج لإعداد ما يحتاج إليه ألفونس، ولم تشرق الشمس حتى كانوا على أهبة الرحيل، فقوضوا الخيام وركبوا حسب النظام الموضوع، وألفونس ويعقوب سائران على انفراد وهما صامتان. أما ألفونس فقد كان يمشي ويلتفت إلى طليطلة وكان بعضها لا يزال ظاهرا، وبعد هنيهة عبروا الجسر فوق نهر التاج وكان عبورهم آخر عهد ألفونس بمرأى تلك المدينة لأنها توارت وراء التلال.
سارت الحملة بأثقالها وأحمالها نحو الجنوب الغربي، وقد صحا الجو وأشرقت الشمس وأرسلت أشعتها على البساتين والغياض والأودية والتلال، وألفونس يعجب لما يقع بصره عليه من البقاع الخصبة وفيها أصناف الأشجار والمغارس، ولكنه استغرب لخلو المزارع من الناس، ولم يكن يتوقع أن يرى فيها غير العبيد أو من جرى مجراهم من الفلاحين والحراثين، وكان الأشراف وأصحاب الضياع يعاملونهم معاملة الأرقاء، وهم يقيمون في المدن ويندر من يقيم منهم في المغارس. وكانت أوروبا في ذلك العصر مؤلفة من المدن والضياع؛ فالمدن مقر الحكام والأشراف، أما الضياع فكانت عبارة عن المغارس يقيم فيها الفلاحون ويعملون في الأرض، وهم والأرض وما عليها من الدواب والماشية ملك للأشراف.
وكان ألفونس قلما يخرج من المدن، ولم يكن يهمه التفكير في حال أولئك الفلاحين. ولكنه بعد ما دار بينه وبين أوباس بشأن الملك وما عزموا عليه من تحرير أولئك الأرقاء والاعتماد عليهم في تحرير المملكة، أصبح همه دراسة حال البلاد وأهلها، فإذا هم يمرون في أرض لا يظهر أهلها عناية بزراعتها واستثمارها، وقلما شاهدوا فيها أحدا من الناس. فلما تكرر ذلك المنظر حوله التفت إلى يعقوب، وكان راكبا جوادا وراء جواده، فلما رأى ألفونس يلتفت إليه ساق جواده حتى حاذاه ونظر إليه نظرة مستفهم، فقال ألفونس بصوت منخفض: «كنت أتوقع أن أرى المزارع آهلة بالناس وقد قطعنا مسافة طويلة في أرض عامرة ولم أشهد أحدا ...»
فقال: «إن الناس كثيرون ولكنهم تعودوا إذا رأوا جندا مارا أن يختفوا من وجوههم ؛ فرارا مما قد يكلفونهم به من الأعمال الشاقة وما قد يتطلبونه من المئونة ونحوها، ولم يخطر لهم أن جنودا يمكن أن يسيروا مثل سيرهم هذا لا يتعرضون لأحد منهم في شيء. والجند لم يسر بهذا الهدوء إلا بأمر مولاي.»
فتأثر ألفونس من ذلك القول وتمثل له الخطأ الذي ترتكبه الحكومات الظالمة في تكليف رعيتها فوق طاقتهم فتعود الخسارة عليها وعليهم.
قضى ألفونس وحملته في الطريق بضعة أيام قطعوا في أثنائها سهولا خصبة، وجبالا فيها كثير من مناجم الفضة والذهب، وأودية يسيل فيها الماء فيسقي الغياض والبساتين، وأرض الأندلس من أحسن البلاد خصبا وعمرانا، وإنما تحتاج إلى من يتعهدها بالغرس ويظللها بالعدل، فضلا عما كان فيها من المدن العامرة. وكانت أول مدينة كبرى مروا بها هي مريدة، فقطعوا نهر أناس وساروا بضعة أيام أخرى إلى قرطبة فعبروا نهرها وساروا إلى أستجة.
أستجة
وكانت أستجة مدينة آهلة بالسكان على الضفة اليسرى لنهر سنجيل حولها سور متين عليه الأبراج من صنع الرومان. ولا بد للقادم إليها من قرطبة أن يعبر على جسر فوق ذلك النهر، فلما دنوا من المدينة في الضحى بعث ألفونس رسولا بكتاب رودريك إلى حاكمها، فعاد الرسول ومعه نفر من جند المدينة وبيد كبيرهم أمر بتسليمهم القلعة الكبرى المشرفة على النهر من يمينه، والنهر بينهم وبين المدينة، وهي قلعة كبيرة بنيت لإقامة الجند، فاحتلوها وسار ألفونس إلى غرفة فيها، هي أحسن غرفها وأوسعها، وله نافذة مطلة على النهر والمدينة، وعلى ما وراءهما وبينهما من البساتين والمزارع.
صعد ألفونس إلى غرفته وكان يعقوب قد سبقه إليها وأعد له ما قد يحتاج إليه من لوازم الراحة، وأمر بعض الخدم فأعدوا طعاما حمله هو إليه فوضعه على مائدة في تلك الغرفة ودعاه إليها.
وكان ألفونس منذ صعوده إلى الغرفة قد جلس إلى النافذة وخلا بنفسه، فتذكر حبيبته وعمه ومجيئه إلى تلك المدينة رغم إرادته، وليس هناك ما يدعو إلى ذلك سوى سعي رودريك في إبعاده عن حبيبته. ثم تصور القصد من إبعاده عنها وما قد يكون في عزم رودريك بشأن فلورندا، فاقشعر بدنه وأحس كأن ماء يغلي يصب على رأسه، ثم تذكر الاحتياطات التي اتخذها لإنقاذ فلورندا من ذلك القصر فهدأ روعه.
وفيما هو في هذه الهواجس سمع وطء أقدام في الغرفة فالتفت فرأى يعقوب واقفا ويداه متقاطعتان على صدره كأنه يسمع صلاة، فلما وقع نظره عليه هرول يعقوب نحوه وهو يبتسم ويقول: «ألا يأمر مولاي بتناول الغداء؟»
فلم يصبر ألفونس عن الابتسام وقد انشرح صدره، فوقف وأسرع إلى المائدة بدون أن يتكلم، وسار يعقوب في أثره فجلس ألفونس وظل يعقوب واقفا مثلما يقف الخدم، فأشار ألفونس أن: «اجلس.» فأبى واعتذر، فقال ألفونس: «لم يعد يليق بي أن أعدك خادما بعد ما علمته من علو همتك وتمسكك بنصرة الحق.»
فقال يعقوب: «العفو يا مولاي، إنك لم تعلم عني شيئا بعد، وما هي إلا أقوال سمعتها، فإذا رأيت مني عملا كبيرا ورأيت بعد ذلك أنني أستحق مجالستك أو مؤاكلتك فعلت.»
فتذكر ألفونس وعده بكشف السر بعد وصوله أستجة، فلم يشأ أن يذكره بذلك لئلا يكون الجواب تسويفا، فصبر حتى يكاشفه هو من تلقاء نفسه، ولكنه قال له: «لك الخيار يا يعقوب فيما تفعل، ثم إني فهمت من بعض أقوالك أنك تعلم قصة فلورندا وحديثها.»
فأشار يعقوب برأسه أن: «نعم.»
فقال ألفونس: «فما رأيك في شأنها وشأننا وهي لا تعلم مقرنا، ولا عمي يعلمه، ألا ترى أن نبعث إليهم بالخبر كي يحضرا إلينا ونحن هنا بعيدون عن ذلك الطاغية؟»
فقال: «لا تقل إننا بعيدون، أتظن رودريك أبعدك عن قصره وأغفل أمرك؟ ألا تعلم أن معظم رجال هذا الجند عيون عليك يراقبون حركاتك، لعلهم يتقربون إلى البلاط الملكي بالإيقاع بك؟ وإذا هرمت الدولة واختلت شئونها كثر فيها الجواسيس وتعددت أسباب الوشاية، وفسدت النيات وأصبح الأخ عينا على أخيه، والابن عينا على أبيه، يساعدهم على ذلك انغماس الملك في الترف وانشغاله به عن سياسة رعيته مع ما يحول من أهل التملق بينه وبين المتظلمين، فلا تثق بأحد ولا تأمن أحدا إلا إذا رأيت له في إخلاصه منفعة أو كانت مصلحته ومصلحتك سواء، حتى يعقوب هذا.» قال ذلك وأشار بسبابته إلى صدره؛ فعجب ألفونس لما سمعه ولم يكن قد اختبر شيئا من شئون الناس، ولا اطلع على فساد الطبيعة الإنسانية، فسكت وعاد إلى الأكل حتى فرغ من الغداء ويعقوب لا يزال واقفا بين يديه.
فلما نهض ألفونس عن المائدة قال يعقوب: «استرح يا مولاي الآن، وائذن لي بالنزول إلى المدينة ثم أعود إليك قبل الغروب، وفي الغد ننزل إليها معا لنرى أسواقها وساحتها.»
فأدرك ألفونس بغتة أن الغد يوم أحد، فقال: «ونسمع القداس أيضا.»
فقال يعقوب: «نسمعه يا سيدي، وسنبحث في الأمر غدا. هل يسمح لي مولاي بالانصراف؟»
قال: «انصرف، وقبل انصرافك ابعث إلي بالقائد ومبا لأخاطبه في أمر الجند.»
قال يعقوب: «سمعا وطاعة.» وخرج.
وعاد ألفونس إلى مجلسه بجانب النافذة وهو لا يزال بملابس السفر، وعاد إلى التفكير في فلورندا وأوباس ورودريك حتى فطن إلى أقوال يعقوب، فانبسطت نفسه بقرب موعد المكاشفة. ثم سمع وقع أقدام بالباب فتحول لملاقاة ومبا، فدخل وألقى التحية ووجهه منبسط إشارة إلى ما يكنه من الاحترام لألفونس والغيرة عليه، فرد ألفونس التحية وسأله عن حال الجند، فقال: «إنهم في نظام وسلام يدعون للقائد الباسل بالرغد والظفر.»
فقال ألفونس: «هل سمعتم شيئا عن أحوال السكان هنا؟»
قال ومبا: «سمعنا أنهم في هدوء لا يبدون حراكا، ولعلهم ركنوا إلى السكينة على أثر سماعهم بقدومنا.»
قال: «أرجو، على كل حال، أن تسهروا لمراقبة الأحوال، وتواصلوا استطلاع الأخبار ولي في درايتكم ما يكفل الاطمئنان.»
وفهم ومبا عند ذلك من كلام ألفونس وإشاراته أنه فرغ مما يريده، فحياه وخرج من الغرفة، ولما خلا ألفونس بنفسه نهض فبدل ثيابه وعزم على البقاء بقية ذلك اليوم في الغرفة للاستراحة من متاعب السفر.
يوم الأحد
ولما مالت الشمس إلى الغروب ولم يرجع يعقوب، استبطأه ألفونس وانشغل خاطره عليه، وجلس إلى النافذة المطلة على الجسر - ولا بد لمن يخرج من المدينة إلى القلعة من المرور على هذا الجسر - ولم تمض برهة حتى رأى يعقوب قادما وقد تأبط صرة فظنه ألفونس قد جاءه بشيء من فاكهة المدينة، فصبر حتى وصل إلى القلعة ولبث ينتظر دخوله عليه، فأبطأ يعقوب ثم سمع خطواته، وبعد قليل دخل وحياه ويداه فارغتان.
فقال ألفونس: «ما الذي حملته إلينا من المدينة؟»
قال يعقوب: «لم أحمل منها شيئا لأننا ذاهبون إليها غدا.»
قال ألفونس: «رأيتك متأبطا شيئا فما هو؟»
فضحك يعقوب وقال: «لا شيء!»
فاشتدت رغبة ألفونس في استطلاع حقيقة ذلك الشيء فقال: «هل ثمة ما يمنع اطلاعي عليه؟»
قال: «انتظر إلى الصباح يا مولاي ولا بد من اطلاعك عليه.»
وفي الصباح التالي نهض ألفونس وهو شديد الشوق لمعرفة ما في الصرة، ولم يكد ينهض من الفراش حتى جاءه يعقوب بالثياب فغسل وجهه ومشط شعره ولبس ثوبه استعدادا للنزول إلى المدينة، وهو يتظاهر بالصبر على استطلاع ما في الصرة حتى يأتيه بها يعقوب من تلقاء نفسه. فلما فرغ ألفونس من كل شيء ولم يبق إلا الخروج، دخل يعقوب والصرة في يده، وأغلق باب الغرفة وراءه، فوقف ألفونس واستعد لمشاهدة ما فيها، ففتحها يعقوب وأخرج منها شيئا من نسيج أسود شبيه بأقبية الكهنة، وإذا هما ثوبان أسودان كل منهما جلباب طويل يغطي الساق إلى أسفل القدم، فتناول يعقوب أحدهما وبسطه وقدمه إلى ألفونس وهو يقول: «البس هذا الجلباب يا مولاي.» فوضعه ألفونس على كتفيه والتف به فغطى كل أثوابه، ولبس يعقوب الجلباب الآخر والتف به، ثم مد يده إلى طوق ذلك الجلباب من خلف العنق فأخرج منه شيئا كالكيس معلقا من أحد جوانبه بالطوق من الوراء، وأرسل ما بقي منه على رأسه حتى اشتمل على الرأس والوجه جميعا. وفي غطاء الوجه ثلاثة ثقوب: ثقبان للعينين وثقب للفم، فأصبح يعقوب شبحا أسود. وتقدم إلى ألفونس فأخرج الكيس من قفا عنقه وألبسه إياه حتى صار مثله، وكان يعقوب يفعل ذلك وألفونس صابر ليرى نهاية هذه العملية. فلما فرغ يعقوب من ارتداء الجلباب قال: «هذا الذي أتيتك به من أستجة فانزعه الآن إلى حين الحاجة.»
فاستغرب ألفونس مما عمله يعقوب، وقال: «ومتى نحتاج إليه؟»
قال: «قريبا إن شاء الله، لا تكن لجوجا.» قال ذلك ونزع جلبابه والجلباب الآخر عن ألفونس، وطوى كلا منهما على حدة وجعل أحدهما تحت درعه من جهة الصدر وأرخى الدرع عليه حتى اختفى تحتها، وأتى بالجلباب الآخر وطواه وطلب إلى ألفونس أن يخفيه تحت درعه، ففعل وهو لا يفهم الغرض من ذلك، ثم قال يعقوب: «هلم بنا إلى الكنيسة.»
وبينما كان يعقوب وألفونس في طريقهما للخروج من القلعة، التقيا عند الباب بومبا، فوقف للتحية فقال ألفونس: «إني ذاهب إلى الكنيسة فاحفظ ما عندك.» فأشار ومبا برأسه ويده بالسمع والطاعة.
سار ألفونس ويعقوب يتبعه، وليس معه من الخدم والأعوان سواه، حتى مرا على الجسر، ودخلا باب المدينة وهما لا يتكلمان لأن يعقوب لا يقدم على الكلام إلا جوابا على خطاب جريا على عادتهم في معاملة الملوك. وكان ألفونس غارقا في الهواجس لا ينتبه لشيء مما حوله، فقد كان مشغول البال بفلورندا ورودريك وحديث يعقوب وذلك الثوب الأسود، ولم يفق من تلك الخواطر حتى دخل الأسواق والناس يتسابقون فيها نحو الكنيسة. وبعد هنيهة أفضى بهما المسير إلى ساحة كبيرة في وسط المدينة هي ملتقى الناس من كل ناحية، ولم يكن ألفونس يعرف الطريق إلى الكنيسة وإنما كان يقتفي خطوات يعقوب أو إشاراته. وبعد أن قطعا تلك الساحة أطلا على باب فخم تزاحمت عنده الأقدام بين داخل وخارج، فوقف يعقوب هناك وقال: «هذا باب الشارع الأعظم وهذه هي الكنيسة.» وأشار بيده إلى باب كبير بجواره، فاتجها نحوه ودخلا مثل سائر الداخلين والناس لا يعلمون من هو ألفونس، ولكنهم تبينوا من استرسال شعره ونوع لباسه أنه من الأشراف وأصحاب المناصب.
قضيا فروض الصلاة في تلك الكنيسة وهما لا يزالان صامتين، فلما انقضت الصلاة وخرج الناس، خرجا وألفونس لا يدري إلى أين يذهب، فتأخر حتى مشى يعقوب ثم تبعه حتى خرجا من باب المدينة من الجهة الأخرى. فاستغرب ألفونس ذلك، ولم يستطع أن يمسك نفسه عن السؤال، فالتفت إلى يعقوب وقال له: «إلى أين نحن ذاهبان في هذه المدينة؟»
قال: «إننا ذاهبان إلى هذه الأكمة.» وأشار إلى تل قريب لا شيء من العمارة فيه. وما لبثا أن وصلا إليه حتى صعدا إلى قمته وألفونس لا يفهم ماذا وراء ذلك، فقال يعقوب: «انظر يا مولاي إلى أستجة أمامنا وانظر إلى سورها، فإنك ترى على هذا السور برجا عاليا.»
وكان ألفونس يرى ذلك البرج جيدا لأنهما على مقربة من المدينة فقال: «نعم.»
فقال يعقوب: «إذا جئت هذا المكان في الليل فلا تخطئ هذا البرج لارتفاعه فوق السور وليس على السور برج سواه. احفظ هذا، واتبعني الآن.» قال ذلك وانحدر على التل إلى الجهة الأخرى فإذا هو أمام كهف مهجور وقف ببابه وألفونس إلى جانبه فقال له: «أرأيت هذا الكهف؟»
فقال ألفونس: «نعم رأيته.»
قال يعقوب: «فلنرجع إلى المدينة نقضي بقية النهار ثم نعود إلى هنا.»
الدرس والسرداب
وكان ألفونس يتوقع الاطلاع على شيء من السر، فلم يزدد إلا حيرة واستغرابا، فقال: «وأين نقضي هذا النهار، فإنه طويل عندي؟»
قال: «سأجعله قصيرا جدا.» ومشى، فمشى ألفونس في أثره حتى دخلا المدينة، وألفونس ينظر إلى البرج ويتأمله. وما زالا سائرين في الأسواق حتى انتهيا إلى درب ضيق يؤدي إلى باب صغير فقال يعقوب: «انتظرني يا مولاي هنا ريثما أعود.» ودخل ثم عاد وأشار إليه فدخل، وعلم مما رآه من الأدوات المنزلية أن البيت مأهول لكنه لم ير فيه أحدا، فدخل يعقوب غرفة من غرف البيت وألفونس معه، وقد مل الانتظار وكاد الحنق يخرجه عن جادة الصبر.
أما يعقوب فإنه أغلق باب الحجرة، ثم أجلس ألفونس على بساط وجثا إلى جانبه وقال: «سأتلو عليك يا مولاي ألفاظا غريبة لا بد لك من حفظها.»
قال: «ولماذا؟»
فقال يعقوب: «إن ما ستتعلمه الآن من الألفاظ والإشارات إنما هو مفتاح السر وطريق العمل.»
فأصغى ألفونس إليه وقال: «قل ما تريد ...»
فقال يعقوب : «قل: شالوم عليخم.» فقالها ألفونس ولسانه يتعثر بالعين والخاء، فكررها يعقوب عليه حتى حفظها ثم قال له: «قل: أوهيل موعيد.» فقالها وكررها حتى تعلمها. ثم نهض يعقوب وأمسك ألفونس بيده وقال له: «قف يا مولاي.» فوقف فتقدم يعقوب أمامه بضع خطوات على نسق غير مألوف بين الناس، وقال له: «اخط يا سيدي مثل هذه الخطوة.» ففعل وكررها حتى أتقنها. ثم علمه إشارات يجريها بيديه أو أصابعه وغير ذلك وألفونس كالببغاء يتعلم الألفاظ ويخطو الخطوات ويقوم بالإشارات وهو لا يفهم لها معنى.
قضى بقية اليوم في نحو ذلك، فلما غربت الشمس خرجا وألفونس لا يزداد إلا استغرابا، وقد نسي كل مشاغله بفلورندا وأوباس في أثناء ذلك. وما زالا حتى خرجا من باب المدينة وكانت ليلة صاحية لكنها شديدة البرد، فصبرا على بردها حتى بلغا الأكمة وصعدا إليها والتفتا إلى السور، ثم تفرسا فيما حولهما فلم يجدا أحدا؛ لأن الناس يأوون في الليل إلى منازلهم داخل السور. فنزل يعقوب إلى الكهف وألفونس يتبعه حتى وقفا ببابه ولم يريا بداخله سوى الظلمة الحالكة، فدخل يعقوب ويده بيد ألفونس فمشى به بضع خطوات وألفونس يتلمس ويخطو كأنه يمشي على الشوك وهما صامتان، ثم وقف يعقوب وقال لألفونس: «أخرج جلبابك.» فأخرجه وساعده يعقوب على لبسه، فلما لبسا الجلبابين أصبحا سوادا في سواد، ومشيا خطوات أخرى ويعقوب يقود ألفونس ثم وقف يعقوب بغتة، فشعر ألفونس بوقوفه المفاجئ فخشي أن يكون عليهما بأس من ذلك، ثم أحس أن يعقوب قد انحنى نحو الأرض، وما لبث أن سمع خربشة كأن يعقوب يبحث بأنامله في الأرض، ثم ترك يعقوب يد ألفونس فظل ألفونس واقفا وقوف الصنم لا يدري إلى أين يتجه لاشتداد الظلام.
وكان يعقوب قد ترك يد ألفونس لتتفرغ يده لرفع حجر ثقيل، فمضت بضع دقائق وألفونس واقف لا يتحرك، ثم سمع صوت اقتلاع الحجر، وأحس بنسيم بارد خرج من الفتحة، وإذا بيعقوب يقول له بصوت منخفض: «اتبعني يا مولاي في هذه الفوهة على مهل.» ونزل وتبعه ألفونس ونزل سبع درجات، فانتهيا إلى سرداب يسع الإنسان واقفا، فمشيا فيه ويعقوب يقود ألفونس وهما يتلمسان طريقهما، وشعر ألفونس كأنهما يسيران في دائرة، ثم سارا في خط مستقيم مع انحدار خفيف والظلام يتكاثف. وبعد هنيهة وقف يعقوب وقال لألفونس: «امكث هنا يا مولاي ولا تغير مكانك ريثما أعود إليك.» وتركه ومشى، لا يسمع لخطواته وقع، فأحس ألفونس بوحشة غريبة. ومضى على غياب يعقوب دقائق ظنها ألفونس ساعات حتى مل الانتظار، وحدثته نفسه أن يخطو في أثره ولكنه تذكر وصيته إياه بالبقاء هناك، فوقف ولكن الإنسان يهوى استطلاع المخبآت ولو ألقى بنفسه في الخطر، على أنه نسي الجهة التي كانا سائرين فيها ومد يده إلى ما حوله فلم تلمس شيئا فتوهم أنه في خلاء واسع. وفيما هو في هذا الارتباك رأى نورا خفيفا عن بعد، ورأى ذلك النور يقترب منه حتى تبين حامله، فإذا هو رجل بجلباب أسود مثل جلبابه فظنه يعقوب فناداه باسمه فلم يسمع ردا، فحسب أن سكوته تسترا، ثم رأى وراء ذلك الشبح شبحا آخر في مثل ملابسه وقد كشف عن وجهه فإذا هو يعقوب، فعلم ألفونس أنه اقترب من المكان المقصود.
ولم يكد يفكر في الأمر حتى أسرع يعقوب إليه وأمسك بيده فنظر ألفونس في وجهه على نور المصباح، فرأى لحيته قد ازدادت اضطرابا وقذارة وازداد وجهه غرابة لما تولاه من الاضطراب، فخشي ألفونس أن يكون عليهما بأس من ذلك المكان، ولكنه أسلس قياده إلى يعقوب، فأمسكه وسار به والرجل الثالث يسير بين يديهما بالمصباح ويعقوب يحذر ألفونس مما بين يديه، فنظر في الأرض فرأى فيها حفرا جمة يخشى الماشي السقوط فيها حتى على النور فكيف في الظلام، وأدرك السبب الذي حمل يعقوب على إحضار المصباح، فمشى مشية الحذر والتأني بضع دقائق ثم انطفأ المصباح، وعاد الظلام كما كان، فصاح ألفونس في غير انتباه: «لا.» فضغط يعقوب على يده أن: «اسكت.» وهمس في أذنه «لقد وصلنا.»
الجلسة
وكان ألفونس قد ضاقت أنفاسه من القناع المنسدل على وجهه فرفعه وتنفس الصعداء ثم أرخاه، وإذا بيعقوب قد وقف وهمس في أذنه أن يفعل مثلما فعل بعد فتح الباب، ومهما رأى فلا يخاف، ثم قرع بابا قرعا متواليا سبع مرات على أسلوب خاص، ولبث برهة ثم طرقه ثانية ثلاث مرات بنسق آخر، فانفتح الباب عن دهليز قصير فيه نور ضعيف، وإلى كل من جانبي الباب رجل بمثل جلبابيهما، وبيده سيف مسلول، والسيفان كالقوس فوق عتبة الباب، فأجفل ألفونس وتقهقر، فسمع يعقوب يقول: «شالوم عليخم» فقالها هو أيضا، ودخلا والسيافان لا يتحركان كأنهما صنمان، فمشى يعقوب في ذلك الدهليز المشية الخاصة التي علمها لألفونس في ذلك النهار، فمشى ألفونس مثلها وهو يتعثر لاضطرابه وارتباكه، حتى وصل إلى باب مغلق فقرعه بنسق خاص خمس قرعات، فانفتح الباب وانطفأ النور معا، فأجفل ألفونس ولكنه تذكر وصية يعقوب فثبت جنانه، وسمع صوتا يخاطبه بلغة لم يفهمها، وسمع «يعقوب» يقول له: «أوهيل موعيد» فقالها هو أيضا، ومشيا في تلك الظلمة وألفونس يحسب نفسه صاعدا على سلم، ثم انفتح لهما باب آخر وعند فتحه أحس ألفونس بهواء دافئ خارج منه تخالطه رائحة الأنفاس، فشعر بالدفء ونسي ما كان يشعر به من البرد في السرداب، ودخلا من الباب فأشرفا منه على قاعة كبيرة في وسطها شبه مائدة عليها سراج مضيء وبجانبه درج كبير، وحول الجدران مقاعد عليها أشباح سوداء بمثل جلبابه ووجوههم مغطاة بمثل نقابه، وأمام كل منهم سيف مسلول وفرنده يلمع بنور السراج الضعيف؛ فاضطرب لذلك المنظر الهائل، وظن نفسه في حال مزعج إذ لم يخطر له أن يرى مثل ذلك المنظر في حياته ولا الدخول في مثل هذه المخاطرات.
على أنه التفت إلى جانبه فإذا بيعقوب قد مشى بخطوات كان قد علمه إياها، فمشى مثله حول المائدة والسراج مرتين، وقبل الدرج هو عبارة عن لفافة غليظة من جلد، ثم مشيا إلى كرسيين في صدر القاعة خاليين، فجلسا عليهما وأمامهما سيفان مسلولان.
فالتفت ألفونس إلى ما حوله فلم ير إلا أشباحا سوداء بشكل واحد وقيافة واحدة ، وندم لمجيئه على تلك الصورة مخافة أن يكون في خطر، ثم تذكر ثقته بيعقوب، فاطمأن باله ولبث ساكتا والجميع سكوت برهة، ثم نهض أحد الحضور عن كرسيه وتقدم إلى المائدة وتناول الدرج وفتحه أمام المصباح، فرأى ألفونس عليه كتابة لا يفهمها، ولما أخذ الرجل في القراءة وقف الجميع وألفونس في جملتهم حتى إذا أتم قراءته قبل الدرج ورجع إلى مكانه، وجلس فجلس الباقون لا ينطق واحد منهم بكلمة.
ثم تكلم الرجل بذلك اللسان كلاما طويلا أجابه عليه بعض الحضور، ثم تكلم يعقوب باللسان القوطي قائلا: «يسمح حضرة الرئيس فيعقد جلسة خاصة يحضرها هو ومن شاء للمداولة في أمر هام ...»
فوقف الرجل الأول وبيده سيف صغير وأشار به إشارة خاصة فوقف الجميع، ثم تقدم منهم ثلاثة وقفوا بإزائه وتقدم يعقوب وألفونس حتى وقفا معهم، ثم اتجه الرئيس إلى باب وراءه ففتحه ودخل وتبعه الباقون إلى دهليز مظلم وصلوا منه إلى باب فتحه بيده ودخل إلى حجرة مظلمة، ووقف ببابها وتكلم فجاءه من بين الجماعة رجل بشمعة مضيئة مرتكزة على طبق من البرونز، فتناولها منه ورجع الرجل وأغلق الباب وراءه، فدخل الرئيس بالشمعة حتى وضعها على حجر مرتفع في أحد جوانب المكان.
كشف السر
ونظر ألفونس في ذلك المكان فإذا هو حجرة صغيرة جدرانها سوداء، وسقفها أسود، وفي أرضها صندوق كالتابوت الكبير فوقه درج صغير، وحول التابوت بساط جلسوا عليه، والتابوت في وسطهم. فتأثر ألفونس من ذلك المنظر الرهيب وخفق قلبه لهول ما شاهده من الغرائب في تلك الليلة، وقد نفد صبره لمشاهدة أشباح سوداء لا يرى لها وجوها ولا يدري من يكونون.
فلما جلسوا تكلم يعقوب بالقوطية قائلا: «هل يظن الرئيس أن الطعام قد نضج؟»
قال الرئيس: «أنت أدرى منا بنضجه لأنك موقد ناره.»
فقال يعقوب: «أرجو أن يكون قد نضج ولكنه يحتاج إلى أدم كثير لأن الطعام بلا أدم لا يؤكل ...»
فقال الرئيس: «الأدم كثير، ومنه في هذا الصندوق ما يطبخ به طعام العالم بأسره، فضلا عن أمثاله مما يحمل إلى المطبخ عند الحاجة .»
فلم يفهم ألفونس مغزى تلك الرموز ولم يصبر عن الكلام فقال: «أما وقد خلونا في هذا المكان ونحن بضعة رجال فأرجو أن يكون الكلام صريحا ...»
فتنهد الرئيس ولم يجب، أما يعقوب فإنه جثا منتصبا على ركبتيه والتفت إلى ألفونس وقال: «الصريح أن المادة التي تنقصك لإتمام مشروعك إنما هي في عشرات من أمثال هذا الصندوق، جمعت فيها منذ أعوام ولكنها لا تبذل إلا عند الحاجة.» قال ذلك وأومأ إلى الرئيس، فأخرج من جيبه مفتاحا فتح به التابوت، وحين رفع الغطاء أبرق ما تحته أصفر زاهيا، فنظر إليه ألفونس فإذا هو نقود ذهبية خالصة، ثم أغلقه الرئيس وأعاد المفتاح إلى جيبه.
فاندهش ألفونس لمنظر ذلك الذهب، وأدرك أنه بين جماعة من ذوي المقدرة، وأحب أن يستطلع حقيقتهم فقال: «أراكم تبالغون في التستر ونحن إنما اجتمعنا لنتداول في هذا الأمر المهم فمن أنتم؟»
فالتفت إليه الرئيس وقال: «لا تطمع في الكشف عن شيء غير الذي تراه، واعلم أنك عرفت شيئا لم يعرفه أحد من الذين رأيتهم في الحجرة الأخرى، وهم يجتمعون معنا منذ أعوام، وفيهم من يبذل ماله وروحه في سبيل ذلك الغرض.»
فتكلم عند ذلك يعقوب وقال: «يكفي مولاي ما قد شاهده، وليعلم أن في إسبانيا ألوفا من أمثال هؤلاء المظلومين وعندهم الأموال المختزنة في الصناديق، وهم على استعداد لأن يبذلوا أنفسهم في خدمتك فضلا عن أموالهم.»
فلما سمع ألفونس قوله: «المظلومين» أدرك أنه بين يدي جمعية سرية تتواطأ على قلب الحكومة، وتذكر ما كان يسمعه من كلامهم الغامض، فخطر له أن يكونوا يهودا، ولكنه يعلم أن اليهود قد انقرضوا من تلك المملكة، إما بالنفي أو بالقتل أو باعتناق النصرانية، فقال ليعقوب: «قد فهمت السر فالأولى أن تفصح وأنت أعلم الناس بعزيمتي وقصدي وقصد والدي من قبلي.»
فعند ذلك التفت يعقوب إلى الرئيس وقال: «ينبغي لي أن أكاشف كلا منكما بسر الآخر، اعلم يا حضرة الرئيس أن الرجل الذي جئتكم به الليلة هو نصيرنا الوحيد في هذه الديار، وإذا قلت لكم من هو هان عليكم مكاشفته بأمرنا، إنه ألفونس ابن المرحوم غيطشة ملك إسبانيا، وهذا يكفي.»
ولم يتم كلامه حتى ابتدره الرئيس قائلا: «لعله على عهد والده تماما؟»
قال: «نعم هو نصير المظلومين، وقد عول على السعي في إنقاذنا من هذا الطاغية اللعين الذي يسمي نفسه ملكا، وإنما يعوزه المال وهو عندنا، فاسمح لي بعد هذا التصريح أن أنبئه بحقيقة الأمر.» قال ذلك وحول خطابه إلى ألفونس قائلا: «اعلم أيها الملك - وأنا أدعوك ملكا لأننا لا نعرف ملكا على إسبانيا سواك - اعلم أنك في جمعية إسرائيلية، وكل الذين رأيتهم في هذه الجلسة يهود لا يزالون على دين آبائهم وأجدادهم، ينوبون عن ألوف من أهل هذا الدين، منتشرين في أنحاء المملكة الإسبانية، يتظاهرون بالنصرانية فيحضرون القداس في الكنائس، ويتناولون القربان، ويقومون بسائر الفروض المسيحية، رياء منهم، وهم في الحقيقة يهود يصلون في خلواتهم سرا، وكان منهم في الكنيسة في صباح هذا اليوم مئات، وقد رأيناهم يسجدون أمام الأيقونات، ويتلون الصلوات تظاهرا محضا، وربما سمعناهم يدعون بنصر رودريك وهم يودون قتله، وقد صبروا على هذا الظلم وكظموا الغيظ أعواما، وهم يجمعون المال ويختزنونه لاغتنام مثل هذه الفرصة لرفع هذا النير عن كواهلهم، حتى إذا كادوا يبلغون بغيتهم على يد والدك المرحوم استبدله أهل المطامع بهذا الطاغية، وهو لا يستحق هذا المنصب، بل أنت هو صاحبه الشرعي، فنرجو أن تكون النجاة على يدك.»
فلما سمع ألفونس قوله انجلت له الأسرار التي ما برح يود الاطلاع عليها منذ خاطب عمه أوباس بهذا الشأن، فاكتفى بما رآه وسمعه، وأجل استطلاع ما بقي من الغوامض إلى فرصة أخرى، ولبث صامتا يراجع ما مر به من الألغاز، فرأى أنه ينقصه أن يعرف وجوه أولئك الناس ولا سيما بعد أن عرفوه باسمه، وكان يعقوب قد أدرك غرضه فقال له: «ولا يطمع مولاي الآن في الاطلاع على ما وراء ذلك.»
فقطع ألفونس كلامه قائلا: «لا أطلب الاطلاع على شيء سوى معرفة هؤلاء الأفاضل الذين أنا في حضرتهم ولا سيما بعد أن عرفوني.»
فقال يعقوب: «كلا يا مولاي، إن ذلك ممنوع عندهم حتى فيما بينهم، وقد لجئوا إلى هذا التستر خوفا من أن يبوح أحد بأمرهم حتى من إخوانهم، فأنت الآن بعد أن اطلعت على هذه الأسرار المهمة تمسي - إذا خرجت من هذا المكان - كأنك لم تدخله؛ لأنك لم تر وجوه الأشخاص، فلا يمكنك أن تتهم أحدا من الناس، وربما كان بعض هؤلاء من رجال الجند أو الكهنة أو العمال أو المزارعين، وكلهم في عداد المسيحيين، ويكفيك أن تعرف واحدا منهم وهو أنا.»
فأعجب ألفونس بهذا اللون من الاحتياط، وعلم أن يعقوب يهودي، وتذكر ما كان يطلبه من التساهل في أداء الفروض الدينية من الصلوات ونحوها، وأن عمه أوباس كان يساعده على ذلك، وخطرت له خواطر كثيرة تدور كلها حول علاقة يعقوب بوالده، واعتزم أن يستطلع سر هذا الأمر فيما بعد. ثم قطع تيار أفكاره دبيب توالت أصواته فوق رءوسهم فانذهل ألفونس، والتفت نحو السقف فابتدره يعقوب قائلا: «لا تستغرب يا مولاي ما تسمعه؛ لأن فوقنا شارع من شوارع المدينة، والناس يمرون عليه ليل نهار، وليس في أهل أستجة من يعلم بوجود هذا البناء تحت الشارع إلا أعضاء هذه الجمعية.» فازداد ألفونس استغرابا لما شاهده تلك الليلة من طرق التحفظ ومظاهر الدهاء، وقال في نفسه: «إن قوما هذا مبلغ دهائهم وتعلقهم وصبرهم لجديرون أن ينالوا بغيتهم.»
طارق جديد
كان ألفونس يفكر في ذلك حين سمع قرعا بعيدا يشبه أن يكون على الباب الذي ينتهي إليه السرداب، ولكنه وجد أن عدد الطرقات وطريقة ضربها يختلفان عما فعله يعقوب، ثم ما لبث أن رأى الرئيس ويعقوب وسائر الجالسين معه قد أنصتوا وأصغوا لما عساه أن يعقب ذلك الطرق، فخشي أن يكون وراء إنصاتهم ما يدعو إلى القلق، ولو كانت وجوههم مكشوفة لاستطلع ذلك في عيونهم وجباههم، ثم سمع قرعا ثانيا على الباب الآخر بطريقة أخرى، ولم يفرغ القارع من القرع حتى تحول إنصات رفاقه إلى الحركة وسمع الرئيس يقول : «لقد جاءنا رسول بخبر جديد، عساه أن يكون قادما من إخواننا في الشام أو مصر أو من أفريقيا.»
فاستغرب ألفونس أن يتنبأ الرئيس بالرجل بمجرد سماعه وهو يقرع الباب، وأدرك من قوله أن لهذه الجمعية علاقات واسعة في الشام ومصر وغيرها، فاندفع يقول: «كيف عرفت الرجل من مجرد سماع القرع عن بعد، وهل لهذه الجمعية من أعضاء في تلك البلاد؟»
قال: «عرفته من قواعد موضوعة لهذا الغرض يعرفها أعضاء هذه الجمعية، وأما سؤالك عن اتساع الجمعية فإن لها أعضاء في أنحاء بعيدة أرسلتهم للبحث عن طريقة نتخلص بها من هذا الرق.» وسكت هنيهة ثم قال: «ومن هؤلاء الأعضاء أناس قد تصدروا في مجالس الدولة وتقلدوا مناصبها، ومنهم من يعمل عمل الخدم ويقاسي مرارة الذل والشقاء وهو ليس من فئة الخدم، بل قد يكون من أهم أعضاء الجمعية ومن أكثرهم بذلا في سبيلها، وإنما يتزيا بزي الخدم تحقيقا لغرض يعود على الطائفة بالخير.»
وكان ألفونس وهو يسمع كلام الرئيس يشعر بنور يضيء بصيرته، فأدرك في الحال أن خادمه يعقوب من بعض كبار هذه الطائفة، ومن أهم أعضاء هذه الجمعية، ولكنه ظل يتوق إلى استطلاع علاقته بأبيه وعمه لأنهما كانا يعرفان سره على ما ظهر له من كلام أوباس، فأجل ذلك إلى فرصة أخرى، ولبث ينتظر دخول الرسول القادم. ولم تمض برهة، وهم سكوت يسمعون صدى الحركات في القاعة الكبرى، حتى سمعوا قارعا يقرع باب تلك الحجرة السوداء قرعا خاصا، فنهض يعقوب وفتح الباب فدخل منه رجل طويل القامة عليه ذلك الجلباب الأسود، وعند دخوله توجه نحو الرئيس وكلمه بالعبرية كلاما لم يفهمه ألفونس فأجابه الرئيس. وتخاطبوا برهة بتلك اللغة وألفونس لا يفهم، ولكنه استغرب أن يوجه القادم كلامه للرئيس ساعة وصوله، وهو لا يرى فرقا بين مظهر الرئيس وبين سائر الجالسين لأنهم بملابس واحدة ولون واحد، فتوسم في ذلك سرا سأل يعقوب عنه في أثناء الحديث بين الرئيس والرسول بالعبرية، فقال يعقوب: «لو أمعنت النظر في ثوب الرئيس لرأيت على كتفه علامة تميزه عن سائر الأعضاء، ولا تظهر هذه العلامة إلا عند التأمل. وفي هذه الجمعية علامة لكل من أصحاب المناصب فيها كالكاتب والخازن وغيرهما، غير أن هذه العلامات ضعيفة لا يراها غير المتأمل.»
فتفرس ألفونس في كتف الرئيس فرأى عليها عقدة سوداء بجانب العنق، ونظر إلى أكتاف الرفاق فرأى على كتف يعقوب عقدة تشبه عقدة الرئيس ولكنها بشكل آخر، فأراد أن يستفهم منه عن دلالة علامته، فسمع الرئيس يخاطب القادم بالقوطية قائلا: «لقد سرني قدومك الليلة لنسمع حديث رحلتك، وعندنا الآن من يهمه سماعها ويهمنا إطلاعه عليها، ونحن في حجرة الخلود وما فينا إلا عمدة الجمعية، فمن أين أنت قادم الآن؟»
وكان الرجل قد جلس في جملة الجالسين حول التابوت فقال: «إني قادم من سبتة وخبري طويل لا يسمح الوقت بتفصيله، ولكني أروي لكم منه ما يهمكم ويهمنا، ولو كشفت لكم وجهي لرأيتم البشر ظاهرا عليه؛ إذ يظهر لي أن زمان أسرنا وذلنا قد انقضى أو قارب الانقضاء.»
فلما قال ذلك ظهر الاهتمام في حركات الجالسين وأصغوا وقد تطاولوا بأعناقهم إلى المتكلم، وقال الرئيس: «بشرك الله بالخير، عسى أن يكون قد انقضى أسرنا كانقضاء أسر أجدادنا في بابل منذ بضعة عشر قرنا.»
حديث ذو شجون
فقال الرسول وقد وجه خطابه إلى الرئيس: «لا يخفى على حضرة الرئيس أني مقيم منذ أعوام في سبتة على شاطئ أفريقيا (في مراكش) وهي وما يليها تابعة لهذا الطاغية صاحب طليطلة الآن مع أنه يجب أن تكون تابعة لمملكة الروم الشرقية؛ لأنها جزء من أفريقيا، ولكن الروم تقلص ظل سلطانهم عن أفريقيا بما قام به العرب من الفتوح، ففتحوا كل سواحل أفريقيا تقريبا إلا سبتة وما يليها فإنهم لم يفتحوها، فالتجأ صاحبها إلى إسبانيا وصارت سبتة ولاية من ولاياتها كما تعلمون.»
فقطع الرئيس كلامه قائلا: «يظهر أن أبناء إسماعيل قد أفلحوا في دينهم الجديد.»
فأجاب الرجل: «نعم يا مولاي.» ولم يفهم ألفونس معنى هذا السؤال ولا من هم بنو إسماعيل، ولكنه لم يستحسن أن يقطع الحديث ليستفهم فسكت. وأما الرجل فإنه أتم كلامه قائلا: «إن أبناء عمنا هؤلاء قد قلبوا العالم بأسره ومدوا سلطانهم على العراق والشام وأفريقيا وفارس وخراسان إلى أقصى المعمورة.» فازداد ألفونس استغرابا لقوله: «أبناء عمنا» فالتفت نحو يعقوب في دهشة، فأدرك يعقوب ما يريد قبل أن يتكلم، فقال له: «إن العرب الذين قاموا بالدين الجديد هم أبناء إسماعيل بن إبراهيم واليهود أبناء أخيه إسحق فهم بهذا الاعتبار أبناء عمنا.»
فأصاخ ألفونس السمع لحديث المتكلم لإتمام الخبر فإذا هو يقول للرئيس: «وقد تنقلت في أسفاري للتجارة وخدمة الجمعية إلى الشام ومصر واختلطت بالناس، ورأيت كثيرين من إخواننا اليهود الذين استطاعوا التخلص من هذا الذل بالهجرة من هذه البلاد، وهم الآن في أفريقيا ومصر والشام ويقيمون في سلام وسكينة لا يتعرض لهم أحد في دينهم. يصلون كيف شاءوا ومتى شاءوا، ويقومون بأعمالهم وتجاراتهم في أمان وسهولة، وليس ذلك شأن اليهود الغرباء فقط، بل هو شأن كل السكان من كل الطوائف؛ لأن اليهود كانوا مضطهدين أيضا في تلك البلاد تحت نير الحكم الروماني يذوقون العذاب ألوانا، كما كنا نذوقه منذ بضعة قرون قبل أن يجبرونا على النصرانية أو الهجرة أو القتل، واضطررنا إلى الفرار أو التظاهر بالنصرانية كما تعلمون. وأما إخواننا في مملكة الروم فكانوا أحسن حالا منا ومع ذلك فإنهم لم يصبروا على ذلك الضيم، وكثيرا ما كانوا يفتكون بالنصارى ويقاومون الحكومة، فلما جاء أبناء إسماعيل لفتح بلادهم كانوا من أعوانهم على ذلك، وقد أحسنوا صنعا لأنهم تحرروا من رق الروم واستبدادهم، وأمنوا على أرواحهم وأموالهم وخفت عنهم الضرائب وهم في نعيم.»
فقال الرئيس: «وكيف كان ذلك؟ ألم يخرجوا من سلطان إلى سلطان، ومن ضريبة إلى ضريبة؟ ألم يحكم العرب فيهم سيوفهم أو نفوذهم؟ ألم يفرضوا عليم الضرائب؟»
قال: «بلى يا مولاي، إن العرب فتحوا تلك البلاد بالسيف أو بالصلح وصارت تحت سلطانهم، ولكنهم في الحقيقة قلما يمارسون شيئا من أمورها حتى إنهم لا يقيمون في المدن ولا يختلطون بالرعايا إلا نادرا وفي أوقات معينة ولأغراض وقتية .»
فقطع ألفونس كلامه قائلا: «وكيف يكون ذلك؟ وأين يقيمون؟ وكيف يحكمون البلاد وهم لا يقيمون فيها؟»
قال: «لا ألومك على استغرابك ذلك لأنه غير مألوف فيما تعرفونه في هذه البلاد حيث يدس الحكام أنوفهم في كل حركة من حركات الناس، بل هم يعدون الرعايا عبيدهم. وأما هؤلاء العرب فإنهم بعد أن فتحوا تلك البلاد وفرضوا عليها الجزية والخراج نزلوا في ضواحيها، وابتنوا لأنفسهم مدنا لا يقيم فيها سواهم، كالقيروان في أفريقيا، والفسطاط في مصر، والبصرة والكوفة في العراق، وتركوا أهل البلاد الأصليين على ما كانوا عليه في أيام الروم أو الفرس، كل منهم على دينه واعتقاده يقوم بعمله ولا يهمه إلا ما يستحق عليه من الخراج أو الجزية كل عام، وهي ضرائب زهيدة لا تقاس بما كان الروم يسومون رعاياهم من أمثالنا. وكان الناس عند أول الفتح أهنأ عيشا منهم الآن، وذلك لظلم بعض عمال بني أمية، ومنهم عامل في العراق اسمه الحجاج، شديد الوطأة على أهل البلاد؛ يطالبهم بالخراج الكثير لحاجته إليه في الحروب، ولكن الملك الأكبر الذي يسمونه الخليفة يقيم في دمشق الشام، وكثيرا ما يبعث إلى عماله أن يعودوا إلى الرفق، ومع كل ذلك فإن الرعايا من اليهود أو النصارى أحسن حالا تحت سلطان العرب مما تحت سواه، وخاصة إذا عاد العرب إلى ما كان عليه خلفاؤهم الأولون من العدل والرفق والمساواة. ولولاها لم يسهل عليهم الفتح حتى امتد سلطانهم على معظم العالم المعمور في الشرق.»
فقال الرئيس: «يا حبذا لو أنهم يأتون إلينا فيستولون على هذه البلاد؛ لأنهم إذا كانوا أخف وطأة من بطارقة الروم فهم إذن أفضل لنا من حكومة القوط ...»
فاعترضه الرجل الرحالة قائلا: «لا يحق لنا أن نشكو من حكم القوط على الإجمال، فإن بعضهم كان كثير الرفق بنا وبخاصة غيطشة الملك السابق؛ فإنه كان عازما على تحرير رقابنا وإطلاق حرية الدين لنا، ولكن المنية عاجلته أو هم عجلوها له، فخلفه الطاغية رودريك وهو من أظلمهم جميعا قبحه الله .»
يوليان
فانتبه الرئيس لوجود ابن غيطشة بينهم وأعجبه ما قاله الرحالة من إطراء أبيه فقال: «لقد نطقت بالصواب، وعلى كل حال فإننا وددنا لو أن هؤلاء العرب يأتون إلى إسبانيا، ولا نظنهم يلقون صعوبة كبرى في فتحها؛ إذ ما من طائفة من أهلها لا تشكو من الحكومة.»
فقال الرحالة: «إن هذا الأمر الذي تتمنونه وأنتم جلوس هنا قد سعى فيه إخوانكم هناك وأنا في جملتهم، وكثيرا ما حرضنا هؤلاء العرب على ذلك وحببنا إليهم هذه البلاد، وبينا لهم سهولة فتحها وهم يهابون ذلك، ولكن يظهر أنهم أوشكوا على أن يحملوا عليها.»
فابتدره الرئيس بلهفة قائلا: «هل تعني ما تقول حقيقة؟»
قال: «نعم يا مولاي، وهو الخبر الذي جئت من أجله وكنت عازما على مباغتتكم به فأخرجنا الحديث عنه. قلت لكم إن سبتة (في موريتانيا) في جملة ولايات الرومان، فلما فتح العرب أفريقيا أصبحت موريتانيا منفردة عن مملكة الروم، فانحاز صاحبها إلى إسبانيا ليكون في كنف دولة نصرانية وقاعدتها فرضة سبتة على بحر الزقاق (بوغاز جبل طارق). ولما خرجت أنا من إسبانيا إلى موريتانيا كان حاكمها رجل اسمه «يوليان»، فتظاهرت بالنصرانية وعمدت إلى تجارتي أشتغل بها وأنا أرتحل في البلاد وأعود إلى سبتة، وفي نفسي ما تعلمون من الغيظ لطائفتي لما تقاسيه من الفتك والعسف تحت نير القوط، فأتيح لي أن أنتقم لها من يوليان هذا انتقاما ليس هذا محل ذكره، وكنت مع ذلك من المقربين إليه يثق بي ويسر إلي بأموره، وأنا أظهر له الود وأغتنم الفرص لتحقيق بغيتي؛ وما هي إلا أن أحبب إلى العرب فتح هذه البلاد، ولكني أعلم أن السبيل إليها لا يكون إلا إذا فتحوا سبتة لوقوعها على بحر الزقاق، وهو أقرب سبل العرب إلى هذه البلاد.
وكان عامل العرب على أفريقيا في الأعوام الأخيرة رجلا منهم اسمه موسى بن نصير، وهو شجاع ذو همة، فبعث رجاله حتى فتحوا طنجة، وأقاموا فيها وحاصروا سبتة من البر، ويوليان ممتنع فيها صابر على ولاء القوط مع علمه أن صبره لا يجديه نفعا ، ولكنه لا يستطيع الخروج من طاعة رودريك لأسباب لا تجهلونها.»
فلما ذكر اسم يوليان خفق قلب ألفونس لعلمه أنه والد حبيبته فلورندا، وأصاخ بسمعه لعله يسمع شيئا يتعلق بها، فلما وصل الرجل إلى قوله: «إن يوليان لا يستطيع الخروج من طاعة رودريك لأسباب لا تجهلونها» أدرك أن أهم تلك الأسباب هو وجود فلورندا في بلاط رودريك، كأنها رهينة عنده يضمن بها طاعة والدها له، وتذكر حاله مع فلورندا وأنها خرجت من حوزة رودريك؛ فهب بدنه كأنه رش بالنار، ولكنه صبر ليسمع بقية الحديث، وكان الرئيس قد أجاب الرجل قائلا: «لا نجهل تلك الأسباب، ثم ماذا؟»
فقال الرجل: «وكنت أنا في أثناء ذلك الحصار في قصر يوليان أجالسه كثيرا، وهو يركن إلي ويقربني منه لثرائي وسعة تجارتي، لعله يحتاج إلى مال أو مئونة في أثناء الحصار، وأنا أشد منه رغبة في ذلك التقرب كما تعلمون. فأصبحت منذ أيام وأنا في منزلي وإذا برسول يوليان يدعوني إليه عاجلا، فمضيت حتى إذا دخلت قصره وأشرفت على باب غرفته، رأيت شابا خارجا منها يبدو من مظهره أنه قادم من سفر بعيد، وبدا من مظهر ملابسه أنه من أهل طليطلة وأحسب أنه من خدم الملك، فمر الرجل ولم يكلمني فسرت حتى دخلت الغرفة، وكنت أدخلها دائما بلا استئذان، فرأيت يوليان جالسا على كرسي بجانب نافذة تطل على البحر الكبير، وبيده شيء قد قبض عليه وهو غارق في الهواجس، فلما سمع خطواتي نهض بغتة ورمى إلي بما كان في يده، وقد أخذ الغضب منه مأخذا عظيما وهو يقول: «اقرأ هذا يا فلان وانظر مقدار شقائي وتعاستي، ما كفتني المصيبة التي أصابتني من أول عهد شبابي حتى بليت بأقبح منها، من رجل أنت تعلم أني أقاسي عذاب الموت في سبيل المحافظة على ولائه.» فالتقطت ما رماه فإذا هو قطعة من قماش، أظنها مقطوعة من قميص أو رداء، وعليها كتابة حمراء كأنها كتبت بالدم، ولما قرأتها اقشعر بدني استغرابا، ولكن قلبي كاد يطفح سرورا لعلمي أن في ذلك الكتاب حلا للمشكلة التي أصابتنا.»
وكان ألفونس في أثناء ذلك في منتهى الاضطراب، وكان سائر السامعين في غاية الإصغاء لما يتوقعونه من الخير الجديد، فقال الرجل: «فقرأت الكتاب فإذا فيه ما معناه:
والدي العزيز
سلمت ابنتك إلى رجل يسمي نفسه ملكا وهو وحش كاسر لا يرعى ذماما ولا حرمة ولا عرضا، ولولا العناية الإلهية لذهبت فريسة بغيه وفسقه. أكتب إليك هذا على قطعة من ثوبي وأنا هائمة على وجهي، لا أدري أين أختبئ من بغي هذا الظالم الخائن، ولا أدري متى ألتقي بك، فما جزاء من أراد بابنتك سوءا؟ وحامل هذا الكتاب - إذا استطاع الوصول به إليك - أنبأك شفويا بما قد يصعب عليك فهمه.
كتبته فلورندا
الإغراء
فلا تسل عن ألفونس واضطرابه وخفقان قلبه، ولولا ذلك اللثام لافتضح أمره لاستغرابه قولها: «إنها هائمة على وجهها» وقد كان يظنها في مأمن عند عمه فعظم عليه الأمر، ولكنه كتم عواطفه وصبر ليسمع بقية الحديث، وكان يعقوب يشعر معه بالبغتة لأنه كان مطلعا على علاقته بفلورندا.
أما الرجل فإنه أتم حديثه قائلا: «فلما فرغت من قراءة الكتاب أظهرت الغيظ وقلت له: إلى متى البقاء على ولاء رجل لا يرعى ذماما ولا يحفظ حرمة ولا يستبقي عرضا؟ أأنت تعرض نفسك للخطر وتصبر صبر الأبطال في الدفاع عن سلطانه، وهو يفعل مثل هذا الفعل مع ابنتك؟» وكان يوليان قد استولت عليه السويداء منذ أعوام على أثر مصيبة انتابته وثقل عليه حملها فجعلت أستحثه وأثير عواطفه حتى قال: «لا بد لي أن أنتقم من هذا الخائن وأسلم هذه البلاد لهؤلاء العرب، فإنهم أحفظ منه للجميل. ولا يكفي ذلك، بل سأحرضهم على فتح إسبانيا حتى يتمكنوا من قتل رودريك فأشفي غليلي.» فسرني عزمه على ذلك وهو الغرض الذي طالما تمنيته وسعيت إليه، فجعلت أقوي من عزيمته وأهون عليه الأمر حتى قلت: «وإذا أحببت فإني أسعى عنك في مخابرة العرب وأجعل تسليمك على سبيل الخدمة لك ولهم، وليس عن ضعف أو جبن.» فرضي مني بذلك وخرجت فخابرت موسى بن نصير أمير العرب فسر ورحب بيوليان، فعرض عليه يوليان عبور بحر الزقاق إلى العدوة الأخرى وفتح الأندلس، على أن يكون هو معهم يطلعهم على عورات القوط فرضي موسى. وعند سماعي ذلك لم أستطع صبرا فتقدمت إليكم بهذا الخبر، فما قولكم؟»
فلما بلغ الرجل إلى هذا القول استولت الدهشة على الجميع وبخاصة ألفونس فإنه وقع بين عاملين: عامل الغرام بفلورندا وقد انشغل خاطره بشأنها بعد أن علم أنها ليست في بيت عمه، وعامل اليأس من الملك إذا فتح العرب هذه البلاد؛ لأنها تخرج من سلطان القوط جميعا. وأدرك يعقوب ما يخطر ببال ألفونس وخشي أن يكون لذلك تأثير على رأيه في مقاومة رودريك، ثم تذكر مسألة فلورندا، وما بذرت في نفس ألفونس من الحقد على رودريك، فعلم أنه لا يمكن أن يصفو له قلبه، ولا سيما بعد أن سمع شكاية فلورندا لأبيها، على أنه أحب أن يثبت ألفونس على عزمه، فقال وقد وجه خطابه إلى الرئيس: «إن الخبر الذي جاءنا به أخونا هذا من الأهمية بمكان عظيم، ولا نظن العرب إلا فاتحين هذه البلاد، وبخاصة لأن يوليان معهم يدلهم على الطريق، وطبعا سنكون نحن عونا لهم أيضا لأننا نخدم مصلحتنا، ولا يغير ذلك شيئا من غرضنا الأول في جعل الحكم بيد مولانا الملك (وأشار إلى ألفونس)؛ لأننا قد سمعنا الآن أن العرب يستبقون البلاد على ما هي عليه، ولا نظنهم إذا علموا نصرة ملكنا هذا لهم إلا أن يسلموا إليه مقاليد الحكم ويكتفوا بالخراج والجزية والسيطرة الخارجية.»
وكان ألفونس يسمع ذلك وقد همه الخبران، ولكن خبر فلورندا غلب على خاطره وأصبح شديد الرغبة في الخروج من ذلك المكان للبحث عنها، على أنه أراد قبل الانصراف أن يثق من الأمر الذي جاء من أجله فقال: «ظن صاحبي يعقوب أن غرضي من النقمة على رودريك هو مجرد رغبتي في السلطة، والحقيقة أن الهدف الأول هو إنقاذ هذه البلاد من استبداده وإطلاق سراح اليهود الذين أجبروا على النصرانية ظلما . ثم إني أريد أن يعلم هذا الطاغية أن على الباغي تدور الدوائر، فإذا حدث ذلك لا يهمني بعده من يتولى الملك.»
فقال الرجل: «أؤكد لمولاي الملك أن المسلمين إذا فتحوا هذه البلاد فعلوا كما ذكرت، ولا أظنهم يستغنون عن مولاي الملك في حكومة هذه البلاد بعد فتحها، فقد ولوا على طنجة رجلا بربريا اسمه طارق مع أن البرابرة لم يذعنوا لسلطانهم إذعانا تاما حتى الآن - يفعل العرب ذلك لقلة عددهم بالنسبة إلى سعة البلاد التي فتحوها، فيضطرون إلى الاستعانة بغير العرب في إدارة شئون الحكم - فهل يعينهم على تصريف شئون إسبانيا خير من ملكها؟ وعلى كل حال فإننا لا نألو جهدا في إقناعهم بذلك.»
فلما سمع ألفونس قوله اطمأن خاطره من ناحية الملك وتركزت هواجسه على فلورندا، وود أن تنتهي الجلسة بسرعة، فالتفت إلى الرئيس وقال: «هل من كلام يلقى علينا، أم تأذنون في انصرافنا؟»
فوقف الرئيس ووقف الجميع، فقال الرئيس: «إذا شئت الانصراف فالأمر أمرك، ولكننا نأمل أن تؤمن بصدق إخلاصنا في خدمتك، وأن اليهود في كل هذه البلاد يضحون بأموالهم وبأنفسهم في مصلحتك، وعهد الله في ذلك بيننا وبينك.»
فشكره ألفونس وقال: «قد ذكرت لكم غرضي من التعاون معكم، والله ولي التوفيق.»
ثم سار يعقوب نحو الباب، وأشار إلى ألفونس فتبعه، وخرجا من تلك الحجرة إلى الغرفة الكبرى، وفيها المقاعد حول المنضدة كما تقدم، فمشيا مشية خاصة وخرجا من باب إلى باب حتى انتهيا إلى السرداب ومنه إلى الكهف. فلما أطلا على الخلاء رأيا الفجر قد لاح، فعلم ألفونس أنهم قضوا طول الليل هناك وأحس ببرد الخلاء. ثم نزعا الثوبين الأسودين، وخرجا من الكهف يلتمسان المدينة، وكان بابها قد انفتح فدخلاها وسارا يقطعانها نحو الجسر، وألفونس لا يتكلم لما تزاحم في مخيلته من الصور التي شاهدها في ذلك الليل، وأصبح لا يدري كيف يعامل يعقوب بعد أن عرف أنه من أعيان اليهود، لكنه ظل على شوقه في كشف بقية سره. على أنه كان قد استولى عليه الصداع بعد خروجه من السرداب إذ استقبله النسيم البارد على أثر سهره الطويل، فأصبح لا يستطيع البحث في شيء، ولكن صورة فلورندا لم تبرح مخيلته. أما ما سمعه من أقوالها إلى والدها فلم تغب عن سمعه.
وصلا إلى القلعة وألفونس لا يزال ساكتا ويعقوب يراقب حركاته وسكناته، وكان قد أدرك شيئا مما يجول في خاطره، ولكنه لم يشأ أن يحادثه في شيء غير الاستفهام عما يريده من طعام أو نحوه، وصعدا إلى غرفة ألفونس فأعد له يعقوب كل ما يحتاج إليه وهيأ له الفراش فنام، ونام يعقوب أيضا.
فلنتركهما نائمين بجوار أستجة ولنذهب بالقارئ إلى أفريقيا (وهي بلاد البربر، وهي اليوم شمالي أفريقيا وفيها: برقة وطرابلس الغرب وتونس والجزائر ومراكش) ونبحث عن أحوال العرب هناك حتى فتح الأندلس.
بعد فتوح الإسلام
توفي الخليفة عبد الملك بن مروان سنة 85ه، فخلفه ابنه الوليد بن عبد الملك، وكان عبد الملك قد تولى الخلافة عشرين سنة قضى معظمها في محاربة منافسيه عليها، وكثيرا ما خشي خروجها من يديه، ولكنه كان ذا سياسة ودهاء، وقد نصره الحجاج بن يوسف أدهى عمال المسلمين وأشدهم وطأة فخلصت الخلافة لعبد الملك، فلما مات خلفه ابنه الوليد وقد نجا من المنافسين؛ فانصرف همه إلى توسيع المملكة الإسلامية، فبعث قتيبة بن مسلم نحو الشرق لفتح ما وراء النهر، فأوغل في بلاد الترك حتى أدرك حدود الصين، وبعث أخاه مسلمة بن عبد الملك شمالا لغزو بلاد الروم ففتح عمورية وهرقلة وقمونية وغيرها، وأنفذ موسى بن نصير إلى أفريقيا فولاه إياها وأمره أن يتم فتحها.
وكانت أفريقيا قد فتحت في صدر الإسلام وألحقت بمصر وأهمل شأنها لبعدها ومشقة المسير إليها. وأهل أفريقيا الأصليون قبائل البربر، لهم ألسنة خاصة وعادات خاصة، وهم قبائل عديدة جدا وبلادهم كثيرة الماشية والمرعى، وكانوا - حين اشتغل الأمويون عن أفريقيا بأنفسهم أيام عبد الملك - قد اغتنموا الفرصة وحاولوا التخلص من حكم المسلمين فتمردوا وشقوا عصا الطاعة؛ فبعث إليهم عبد الملك حسان بن النعمان فحاربهم وأخضعهم ونشر الإسلام بينهم، ولكنهم كانوا أقواما أشداء، فما لبثوا أن عادوا إلى الاضطراب. فلما تولى الوليد بلغه أنهم في انقسام فيما بينهم، فرأى أن يغتنم الفرصة لتأييد سلطانه هناك وإتمام فتح تلك البلاد، فبعث موسى بن نصير - وهو عربي لخمي - وكان قائدا باسلا، شديد الإيمان؛ فنزل القيروان ثم تتبع البربر إلى بلاد السوس الأدنى وهم يفرون من بين يديه، حتى إذا يئسوا من النصر جاءوا إليه مستسلمين، وبذلوا له فروض الطاعة، فولى عليهم أناسا من رجاله ينظمون أحوالهم ويعلمونهم القرآن وفرائض الإسلام.
وكان في جملة مواليه رجل من البربر اسمه طارق بن زياد، وكان شجاعا قد اعتنق الإسلام وأظهر غيرة عليه ورغبة في تأييده. فلما اتسعت فتوح موسى في أفريقيا ولى مولاه طارقا على طنجة وأعمالها وترك عنده 19000 فارس من البربر ممن أسلموا وحسن إسلامهم، ورجع موسى إلى أفريقيا ولم يبق في تلك البلاد إلا مدينة سبتة لم تخضع لحكم المسلمين، وهي تدخل قليلا في البحر وتشرف على بحر الزقاق المسمى الآن بوغاز جبل طارق. وكان حاكم سبتة هو الكونت يوليان المتقدم ذكره، ويقول مؤرخو العرب إنه ظل ثابتا على ولائه لرودريك (لذريق) حتى أساء رودريك إلى ابنته فنقم عليه وحرض العرب على فتح إسبانيا. وينكر مؤرخو الإفرنج ذلك السبب، ويقولون إنه إنما أعان العرب على فتحها لأنه من أقارب غيطشة، وقد فعل ذلك انتقاما من رودريك لأنه سلب الملك منه.
وكان جماعة البربر في المغرب يعبدون الأوثان إلا بعض من خالط الروم على شواطئ البحر فإنهم اعتنقوا النصرانية وهم قلة، وكان لكل قبيلة أصنام وعبادات، وكهنة يديرون شئونها ويتولون الأحكام بين أهلها، ويحلون المشاكل التي تقع فيها كما كان يفعل الكهان عند العرب في الجاهلية، غير أن الكاهن يسمى عند البرابرة «ماربوط» فيأتون إليه للاستشارة في حرب أو سلم، ويحملون إليه الهدايا من الماشية أو الحنطة أو الرقيق الأسود أو الأبيض.
وكان التجار وغيرهم من الروم والقوط يسطون على قبائل البربر، فيخطفون الأطفال والغلمان ويحملونهم إلى الآفاق يتجرون ببيعهم، كما كانوا يتجرون بغلمان البيض من أهل إسبانيا وغيرها ، والغالب أن يكون هؤلاء من أسرى الحرب. وكان بيع الأسرى شائعا في تلك العصور، واشتهر برابرة المغرب بركوب الخيل.
طارق بن زياد
وكان في جملة قبائل البربر قبيلة الصدف ومنها طارق بن زياد؛ ولذلك قيل له الصدفي. وقد نشأ طارق في الجبال وعاش عيشة البدو وتدين بالوثنية مثل سائر أهله ورفاقه، وقد شب قوي البنية شديد البطش شجاعا، وكان منذ نعومة أظفاره مشهورا بين رفاقه بالفروسية والقوة.
وكان من بين رفاقه غلام أبيض اللون بخلاف سائر البرابرة، وتقاطيع وجهه تختلف عن تقاطيع وجوههم: فالبرابرة ضخام الشفاه، عراض الوجوه، قصار الأنوف، سود الشعر، شديدو السمرة. وهذا الغلام أبيض الوجه، أشقر الشعر، أزرق العينين، ولكنه بسبب معيشة البدو في البراري وركوب الخيل والغزو، حال لونه إلى السمرة قليلا وتضخمت أعضاؤه كلها فأصبح غليظ العنق والذراعين، واسع الصدر، خشن الكف، كث الشعر، وكانوا يسمونه «بدرا» إشارة إلى صباحة وجهه دون سائر الرفاق، وكان البرابرة يحبونه لخفة روحه وبسالته لاعتقادهم أن الشجاعة من خصائص السمر وأن البيض ضعفاء جبناء.
شب طارق وهو يرى هذا الغلام في بيت أبيه، ويعلم أنه ليس أخاه لأن رئيس قبيلتهم دفعه إلى زياد، وأوصاه برعايته والاعتناء بتربيته لأنه توسم فيه الخير، فتصاحبا وتحابا. وكان طارق لا يهنأ له عيش إلا إذا كان بدر معه، وبدر يعجب بطارق ويحبه كثيرا، ويعد نفسه أخا له، ولا يتخاطبان إلا بروح الأخوة وهما معروفان بذلك عند سائر قبيلة الصدف.
ولما جاء موسى بن نصير إلى أفريقيا وصار عاملا عليها كان في جملة من اتخذهم من الموالي طارق بن زياد، ولما رأى شجاعته وحسن إسلامه رقاه حتى جعله قائد حامية طنجة كما تقدم. وكان بدر رفيق طارق في كل أعماله ولكنه لصغر سنه لم يتنبه له موسى، على أنه أظهر في الوقائع التي شهدها بسالة الأبطال المحنكين؛ لأنه لم يكن يهاب الموت ولا سيما إذا كان مع أخيه طارق.
فلما عرض يوليان على موسى فتح الأندلس ويكون هو عونا له في ذلك، بعث موسى إلى الخليفة الوليد يستأذنه، فأذن له على أن يخوضها بالسرايا (ولا يغرر بالمسلمين في بحر شديد الأهوال)؛ فرأى موسى أن يجرب ذلك برجال من الموالي المسلمين غير العرب يرسلهم لفتحها، ولم ير خيرا من طارق يوليه قيادة تلك الحملة، فأعد سبعة آلاف من الموالي والبربر وفيهم بعض العرب، وسلم قيادتهم إلى طارق وأمره أن يعبر بهم بحر الزقاق إلى الأندلس.
فعبره في سفن أعدها لهم يوليان حتى نزلوا جبلا على شاطئ ذلك البحر سمي بعد ذلك باسم طارق (جبل طارق إلى اليوم)، ولم يلق طارق مشقة في الاستيلاء على الجبل، ثم بلغه أن رودريك صاحب طليطلة يتأهب لملاقاته في جند عظيم، فكتب طارق إلى موسى فأمده بخمسة آلاف بربري، فصار جنده اثني عشر ألفا، وفيهم يوليان صاحب سبتة يدلهم على نواحي الضعف، ويتجسس لهم الأخبار، ويبث في أهل البلاد أن العرب جاءوا الأندلس لا للفتح والاحتلال، وإنما يريدون أن يملئوا أيديهم من الغنائم ويخرجوا، وحبب إلى الإسبان أن يسهلوا لهم التغلب على رودريك حتى يتخلصوا منه ويعيدوا الحكم إلى من يريدون من ملوكهم الأصليين. وما زال طارق يزحف بجنده على هذه الصورة حتى وصل إلى وادي لكة (قرب قادس) وهناك التقى جنده بجند رودريك على ما هو مدون في كتب التاريخ.
ووادي لكة أو وادي ليتة ويسميه الإفرنج (جوادى ليتي)
Guadalete
في جنوبي الأندلس ما بين أستجة وجبل طارق، يصب في خليج قادس.
على ضفاف هذا النهر التقى جيش طارق بجيش رودريك في أوائل سنة 92ه، وهناك جرت الموقعة التي قضت على جند القوط وأيدت الفتح للمسلمين على يد طارق بن زياد البربري كما سيأتي.
رودريك وأوباس
كان المسلمون على ما ذكرنا من تيقظهم ونهوضهم للفتح، والتوفيق حليفهم، ورودريك في بلاطه على نحو ما تقدم من انصرافه إلى الترف والرخاء، وقد تركناه وهو يكاد يتمزق غيظا من أوباس لإخراج فلورندا من بين يديه بعد أن كادت تقع فريسة له؛ فطلب محاكمته في مجلس الأساقفة، فلما رأى منه ما كاد يفضح أمره أسرع إلى إنهاء الجلسة بحجة تأجيل النظر في تهمة أوباس إلى جلسة أخرى كما تقدم، وهو لا ينوي العود إلى ذلك وإنما اتخذه ذريعة للتحفظ على أوباس في السجن ريثما يبحث عن فلورندا.
فلما انقضت الجلسة عاد رودريك إلى قصره والأب مرتين إلى جانبه يطنب فيما كان من تغلبهم على أوباس وإرغام أنفه، والملك مع اقتناعه بتغلب أوباس عليه في تلك الجلسة صدق ما تزلف به مرتين إليه، وحسب نفسه مخطئا بحكمه على نفسه بالضعف واقتنع بفوزه المبين، وكأنه نسي ما كان من الصواعق التي أنزلها أوباس على رأسه في أثناء المحاكمة، وعمي عما كان من سقوط عرشه لو لم يتدارك الأمر بإنهاء الجلسة، والأساقفة الحاضرون يميلون إلى تبرئته حفاظا لكرامة مناصبهم، ولكن الإنسان يتفانى في حب الذات؛ لذلك يسهل انقياده إلى الاقتناع بفضله على سائر الناس عقلا ورأيا وقوة، ويقوى فيه هذا الاعتقاد كلما ضعف عقله وأظلمت بصيرته؛ لأن حب الذات يدعونا إلى الاعتقاد بأننا أمضى الناس عزيمة وأصوبهم وأصحهم مذهبا، بل هو يوهمنا بأن كل ما هو لنا خير مما لسوانا، فأصبح كل منا يعتقد أن ابنه أحسن من أبناء سائر الناس، وزوجته خير من نساء العالمين. وإذا كان مؤلفا كانت كتابته أبلغ ما كتبه الكتاب، ونظمه أحسن ما نظمه الشعراء، والمرء مفتون ببنات أفكاره، إلا إذا كان من أهل الرأي السديد والبصيرة النقادة، فإن حكمه يقترب من الحقيقة بقدر ما أوتي من تلك المواهب. ولكن يندر أن نقدر أنفسنا حق قدرها تماما، ولا سيما إذا منينا بمن يتملقنا أو يمدح أعمالنا لمجرد رغبته في إرضائنا لا لاستحقاق فينا. وأكثر الناس تعرضا لهذه الأخطار هم الملوك وغيرهم من أهل المناصب الرفيعة، فإن الناس يتسابقون إلى استعطافهم بالتملق والمدح الكاذب التماسا لنفع أو تنفيذا لغرض كما تبين لنا من أمر مرتين ورودريك.
فوصل رودريك إلى القصر وهو مقتنع بفظاعة ذنب أوباس وأنه يستوجب أضعاف تلك النقمة، فعزم على إبقائه في السجن ريثما يدبر وسيلة لاستطلاع خبر فلورندا ثم ينتقم منه . ولم يعجل بقتله خشية أن يحتاج إليه في البحث عنها، وأول شيء قام به أنه بث العيون والأرصاد في ضواحي طليطلة وفي الطرق المتشعبة منها، ووعدهم بمكافأة كبيرة إذا قبضوا عليها وعلى من عساه أن يكون معها.
أما أوباس فإنه ذهب إلى سجنه وهو منشرح الصدر لاعتقاده ببراءة ساحته وسلامة طويته ونبالة مقصده، وخصوصا بعد أن أتيح له أن يكشف عن أعمال رودريك للمجمع ولو تلميحا. وهو مع ذلك لم يكن يرجو أن ينقلب المجمع على رودريك، وإنما كان يهمه الانتصار للحق والإذعان لصوت الضمير الحي، شأن الذين ينتظمون في سلك الرهبنة رغبة عن ملاذ هذا العالم، فهؤلاء إذا أخلصوا النية في تعبدهم، لم يكن بين الناس أقدر منهم على نصرة الحق؛ لزهدهم في الشهرة أو الثروة، ولاحتقارهم زينة هذا العالم، وهم إنما عمدوا إلى الرهبنة نفورا منها، وقد كان أوباس من أمثال هؤلاء، ولم يكن سعيه في رد الملك لابن أخيه إلا من قبيل نصرة الحق.
أقام أوباس في سجنه المؤقت بضعة أسابيع وهو لا يبالي لو أقام فيه أعواما لولا انشغال خاطره بفلورندا؛ لأنه لا يعلم أين هي ولا أين ذهب بها أجيلا وشانتيلا، ولكنه رجح من قرائن مختلفة أنهم لم يقعوا في قبضة رودريك، وكان لثقته ببسالة ذينك الشابين وغيرتهما وصدق نيتهما في خدمته مطمئن البال على فلورندا، على أنه كان شديد الرغبة في معرفة مقرها ومصير أمرها. وكان من ناحية أخرى يفكر في ألفونس وفي المهمة التي أنفذه رودريك إليها، وما قد يتعمده من أذيته إذا علم بسعيه في إنقاذ فلورندا وطلب الملك لنفسه، ولكنه لانطباعه على نصرة الحق لم يكن يخشى بأسا على أهلها، فهو يعتقد أن الحق يعلو ولا يعلى عليه، وأن على الباغي تدور الدوائر؛ ولذلك فإنه كان يتوقع وقوع رودريك في شر أعماله، وقد صرح بذلك غير مرة حتى بين يدي رودريك نفسه.
والإنسان العاقل إذا تدبر مصير الحياة الدنيا مع ما تحفل به من الأخطار ، يرى الرجوع إلى غير الحق ضربا من الجنون؛ لأن الحق هو الغالب، وهو وحده الذي يبقى.
شريش وكرومها
«شريش» مدينة في جنوبي إسبانيا تابعة لولاية قادس، على الطريق بينها وبين أشبيلية، بينها وبين مدينة قادس 17 ميلا، وهي تقع بالقرب من نهر صغير هو وادي «ليتة»، والنهر المذكور ينبع من جبال ولاية قادس في الشمال ويسير نحو الجنوب والغرب فيترك مدينة شريش إلى يمينه ويجري حتى يصب في البحر الأطلانطي في خليج بالقرب من مدينة قادس. ومدينة شريش تقع في منبسط من الأرض بين جبلين يكتنفانها من الشرق والغرب، وبينها وبين مجرى النهر كثير من المغارس ولا سيما الكروم؛ لأن هذه المدينة مشهورة بكرومها وخمرها المعروفة باسمها «خمر شري» الشائعة في أوروبا وهي ثمينة يعتقونها ويتعاطونها على موائدهم. ومعظم ما يصدر إلى العالم من خمر شري الجيد يعصر من كروم ضواحي هذه المدينة.
وكروم شريش تشغل مسافة كبيرة من ضواحيها إلى النهر وما وراءه على أكمات مسطحة أو مائلة، وبين الكروم بيوت المزارعين وبينها أبنية غريبة الشكل، هي عبارة عن غرف كبيرة قائمة على صفوف من الأساطين الدقيقة، والغرف عالية السقوف، في جدرانها منافذ عديدة يتخللها الهواء، وهي مستودعات يختزن الكرامون خمورهم فيها لتعتيقها بمرور الأعوام.
وبجوار وادي شريش مما يلي وادي ليتة سهل سماه المقريزي «فحص شريش»، التقى فيه طارق البربري ورودريك القوطي، وفيه كانت الضربة القاضية بفتح الأندلس، وتمتع العرب بغنائمها ومحصولاتها، وهان عليهم الفتح بعد ذلك حتى طمعوا في أوروبا كلها، وكانت في غاية الاضطراب والضعف، فلو ظلوا سائرين لما لقوا من يصد سيوفهم أو يقف في سبيل نبالهم، ولكنهم أجلوا المسير فضاعت الفرصة منهم.
ففي صيف سنة 710 للميلاد؛ أي بعد الحوادث التي ذكرناها في طليطلة ببضعة أشهر، كانت مغارس الكروم في شريش وضواحيها وعلى جانبي وادي ليتة قد نضجت أعنابها، وأخذ بعض الفلاحين في قطافها، وأخذ البعض الآخر في عمل دعامات تحمل ما ثقل حمله من الدوالي لكبر العناقيد، واشتغل آخرون في إعداد المعاصر، وغيرهم في نقل بعض ما اختزنوه من خمور العام الماضي لاختزان خمر هذا العام.
ويشتغل في كل ذلك عائلات من أهل البلاد الأصليين، أو ممن قضي عليهم بالأسر في بعض الحروب فأصبحوا في مصاف العبيد، وفيهم من كان بين قومه من أهل الوجاهة، وقد صبروا على مضض الذل، وهو غير ثقيل على أهل ذلك الزمان؛ لأنه كان عادة يكابدها الجميع، لكنه لم يكن يمنع تذمر أولئك الفلاحين من تلك الحال، وأكثرهم يشكون من صاحب تاج طليطلة. على أن الرأي العام لم يكن راضيا عن رودريك لأسباب تقدم ذكر بعضها.
وكانوا من الناحية الأخرى قد سمعوا بنزول العرب إلى بلادهم عند بحر المجاز (بوغاز جبل طارق) ولم يكترثوا بنزولهم ولا علقوا عليه كثير أهمية. وكان في جملة هؤلاء شيخ طاعن في السن قضى حياته في الأسفار بإسبانيا وما يقابلها من الناحية الأخرى بأفريقيا حتى وصل إلى مصر والشام، وشاهد بعض أحوال العرب في أوائل ظهور الإسلام، فكانوا إذا ذكروا العرب بين يديه يقول: «لا ينجينا من هذا الملك إلا هؤلاء.» فلما قيل له إنهم عبروا البحر قال: «لقد قرب الفرج.»
مارية
وكان شيخنا المذكور في أواخر يوليو من ذلك العام (سنة 170)، الموافق رمضان سنة 92ه، جالسا في كوخه وحوله أولاده وأحفاده، يشتغل النساء منهم بإعداد الطعام وصناعة الألبان والجبن، والأولاد يشتغلون في علف الماشية أو صنع السلال لحمل العنب عند قطافه، ولا حديث لهم إلا تقدير موسم ذلك العام من العنب والخمر، وإن لم يكن لهم في تقديره فائدة كبرى؛ لأنه ليس ملكا لهم، فلم يكن للفلاحين ونحوهم أن يقتنوا عقارا أو يملكوا بنيانا وإنما الملك والسيادة لطبقة الأشراف، وأكثرهم من الرومانيين والقوط، وللفلاحين حصة قليلة من المحصول. ولكن الإنسان ميال للبحث عن المجهول؛ ولذا فقد اشتغل الشيخ وأولاده معظم ذلك النهار في تقدير غلة السنة حتى احتدم الجدال بينه وبين أحدهم وشغلوا بذلك عما حولهم. وكانوا جالسين في ظل دالية كبيرة قد نصبوا بأغصانها خيمة على شكل العريش، وأجروا الماء من تحتها بقناة تقف عندها الماشية للشرب، والناس للاستقاء، ويستظل بظلها أهل تلك العزبة وما فيهم غير الشيخ وأولاده وأحفاده ونساء المتزوجين منهم.
أقبل المساء وهم في ذلك، وقد رجع من كان غائبا في أثناء النهار في إصلاح الدالية أو تسنيدها، أو تنظيف المستودعات أو صنع السلال، أو نقل الأغصان اليابسة للوقود، فربما جاء الرجل وعلى رأسه سلة، وعلى كتفه حزمة، وتحت إبطه جرة، وفي جيبه صرة، وفي يده رغيف، وفي فمه لقمة يجر وراءه صبية: هذا يقود خروفا، وذاك يسوق حمارا، وذلك يحمل عنقودا قطعه قبل تمام النضج وفيه حموضة قليلة، وقد منعه أبوه عن ذلك فخبأ العنقود في جيبه وجعل يأكله خلسة، وأخوه بجانبه يهدده بالشكوى إلى أبيه إذا لم يطعمه بعضه، فيهرع هذا إلى والدته يختبئ في ثنايا ردائها وفي زعمه أن ذلك الرداء يحميه من كوارث الدهر وطوارق الحدثان، كأنما هو راية كسرى أنوشروان. تلك عيشة السذاجة الفطرية، أن يقتات المرء من ثمار ما يغرسه وألبان ما يرعاه لا مطمع له إلا أن يجمع من ذلك ما يكفي أهله بقية العام للكساء والطعام. هناك النيات السليمة والقلوب الطاهرة، هناك الإخلاص وصدق اللهجة. إذا سمعت أحدهم يقول لك إنه مشتاق لرؤيتك فهو يعني ذلك حقيقة ولا يقوله على سبيل العادة التي أساسها الخداع والتملق. والسعادة الحقيقية - إذا صح وجودها - إنما تكون في تلك المنازل الحقيرة وبين تلك المغارس التي تتجدد أوراقها في كل عام وتتجدد قلوب أهلها معها. ليس هناك ضغينة ولا حقد ولا طمع ولا نميمة ولا رياء لقلة حاجات الإنسان وسهولة نيلها؛ فالمرء إذا قلت مطالبه وهان عليه اكتسابها قلما يداخل قلبه حسد أو حقد أو غيرهما من الرذائل؛ لأن الحسد والحقد والرياء والنميمة إنما يلجأ إليها الضعيف إذا كثرت مطالبه وعجز عن الحصول عليها بجده وسعيه ... ولذلك كانت الرذائل من جملة أدران المدنية.
على أن الفلاح الساذج إنما يكون سعيدا في ظل الأمن والعدالة، وإلا فهو من أتعس خلق الله؛ لأن الظلم يقضي على سعادته قضاء مبرما ؛ إذ يسلبه ينبوع تلك السعادة وهو غلة أرضه، فكيف إذا لم يكن هو صاحب الأرض كما كان شأن فلاحي إسبانيا في الأجيال الوسطى؟ فلا يلام شيخنا المشار إليه إذا تمنى استبدال حكومته بغيرها ولو كان غريبا.
غربت الشمس وهي ترسل أشعة ذهبية تشرح الصدر ويتطاول أهل المدن لرؤيتها وقلما يتفق لهم ذلك. ولو أراد الفلاحون لرأوها كل ليلة، ولكنهم في شغل عنها وعن سواها من مناظر المساء بإعداد العشاء والاجتماع تحت سقف المنزل أو تحت بعض الأشجار. فلما غابت الشمس اجتمع أفراد تلك العائلة وهم يعدون بالعشرات وفيهم الأطفال والأحداث والشبان والشابات، وأصغرهم سنا أكثرهم فرحا.
وكان أعظمهم اهتماما ذلك الشيخ؛ لأنه لم يكن يهدأ له بال إلا بعد أن يرى أولاده وأحفاده تحت ذلك العريش في آخر النهار، وخصوصا بعد أن جند أمير تلك الناحية بعضهم بأمر رودريك ليكونوا له عونا في محاربة العرب القادمين عليهم من جهة البحر.
فلما ظن الشيخ أن الاجتماع قد اكتمل تفرس في أولاده فإذا إحدى بناته لا تزال غائبة، وكانت أعزهم على قلبه للطفها وحنوها، فصبر هنيهة أخرى لعلها تأتي، فلما استبطأها نادى زوجته قائلا: «أين مارية؟» سمعته يسألها عنها بغتت وصاحت: «ألم تأت بعد؟»
قال: «كلا، أين تركتموها؟»
قالت: «تركتها في المستودع الكبير فوق الرابية تغسل بعض الأواني، وتنقل بعض الجرار الملآنة إلى جانب آخر ومعها أخوها بطرس.» قالت ذلك والتفتت إلى ما حولها ونادت: «بطرس» فجاء الغلام مسرعا فابتدرته قائلة: «أين تركت مارية؟»
قال: «تركتها في المستودع الكبير، ألم تأت بعد؟»
قالت الأم: «لا ...»
ولم تتم العجوز قولها حتى وثب بطرس من العريش وأسرع نحو ذلك التل وهو يقول: «سأعود بعد قليل.» وإنما دفعه إلى تلك العجلة شعوره بأنه أخطأ برجوعه وحده دون أخته.
وكان القمر في أواخر أيامه والليل مظلم والطرق بين الكروم شاقة وعرة، إلا على أهل الكروم فإنهم يمشون بينها وأعينهم مغمضة لا يعثرون بعود ولا حجر. ولبث الشيخ وأهله ينتظرون رجوع بطرس على مثل الجمر، وهم يعدون خطواته ويقدرون الأماكن التي يمر بها ويتنبئون بوصوله إلى كل منها، حتى ظنوا أنه وصل وعاد، فإذا هو لم يرجع بعد، فانشغل خاطرهم وصبروا أنفسهم حتى طال غيابه، فلم يعد الوالدان يستطيعان صبرا، فوثب الوالد الشيخ كأنه شاب في عنفوان الشباب، واقتفى أثر ابنه عن طريق مختصر لا يعرفه الابن، ولم تكن المسافة بين العريش وذلك المستودع تزيد على مائة متر شرقا من جهة النهر، والمستودع مشرف على ضفاف النهر وعلى معظم كروم تلك الناحية.
وادي ليتة
وصل الشيخ إلى المستودع وصعد على السلم حتى بلغ بابه وهو يلهث من التعب، فوجد الباب مغلقا وليس عنده أحد، فطرقه طرقا متواصلا، فلم يسمع جوابا، فتأمل في الباب وكيفية إغلاقه فرأى أنه مغلق من الخارج كعادته دائما، فبدا له أن مارية خرجت منه وأغلقته، فوقف بأعلى السلم ليستريح والتفت إلى ما حوله فأطل على مدينة شريش إلى ضفاف النهر من جهة، وعلى كرومها من جهة أخرى، والظلام يغشى بصره. على أنه رأى أنوارا على ضفة النهر من تلك الجهة عرف من بعثرتها وتعددها أنها نيران جماعة كبيرة، ولم يكن يعهد أن في تلك الجهات أناسا غير الفلاحين وعمال الحقول وهم لا يوقدون نارا على هذه الصورة، فاضطرب خاطره ونسي غياب ابنته ووقف هنيهة ينظر إلى تلك النيران، ويرى ظلالها على صفحة النهر تتلألأ كأنها مصابيح موقدة تحت الماء وأشعتها تهتز باهتزاز أمواجه، ولولا تلك الظلال لم يعرف أن تلك النيران على ضفاف النهر.
وعاد الشيخ بغتة إلى وجدانه فتذكر ابنته التي غابت، فخطر له أن تكون قد عادت إلى البيت، أو لعل أخاها قد عثر عليها أثناء رجوعه. ثم ما لبث أن سمع حركة ركض لأناس يمرون بين الدوالي، فأنصت فسمع صوت زوجته ومعها بعض أولاده فعلم أنهم جاءوا لاستطلاع خبر مارية، فناداهم فكان أول صوت سمعه منهم هو صوت زوجته وهي تقول: «أين مارية؟» فلما سمع الشيخ ذلك اقشعر بدنه وزاد اضطرابه وقال: «أين بطرس؟ هل عاد إليكم؟»
وكانت العجوز قد وصلت إلى أسفل السلم فأجابت وهي تمد يدها إلى أخمص قدمها وتخرج شوكة أصابتها في أثناء جريها: «عاد بطرس ولم يجدها.»
فنزل الشيخ عن السلم حتى التقى بزوجته ومعها عدد من أولاده فقال لهم: «يظهر لي أن مارية ضلت الطريق أثناء رجوعها من هنا، فلنتفرق ويسير كل منا في طريق حتى نلتقي في البيت، فمن يجدها منا فلينبه الباقين بالنداء حتى يكفوا عن البحث، ولتكن العلامة فيما بيننا هذه الكلمة (يامار بطرس)، أما أنا فإذا أبطأت بالرجوع فلا تقلقوا لغيابي.» فأرادت زوجته أن تعرف السبب فلم يصبر لسماع كلامها، وانحدر نحو النهر وهو يثب بين الكروم من تل إلى تل، يتعثر تارة بالعليق وطورا بالحجارة، وهو يتطلع نحو النهر مخافة أن يخطئ الجهة لاشتداد الظلام، وكان إذا توارى النهر عن عينيه وراء بعض الدوالي العالية أو وراء التلال خشي أن ينحرف عن الجهة فتبعد المسافة عليه، على أن النهر قلما كان يغيب عن بصره. فلما قرب من النهر رأى النور على ضفتيه ثم سمع جعجعة عرف أنها أصوات الجمال، وكان قد سمع مثلها في أثناء أسفاره ولم يعهد لها مثيلا في إسبانيا. فلما سمع الجعجعة تنسم رائحة العرب وأدرك أنه على مقربة منهم، وتذكر ما سمعه عن نزولهم ببلاد الأندلس؛ فتحقق أنه بجانب معسكرهم ولكنه استبعد سهولة وصولهم إلى ذلك المكان.
وبعد هنيهة وصل إلى أكمة وقف عندها وتفرس فيما بين يديه، فإذا هو مطل على سهل كبير ينتهي إلى النهر، وعلى الضفة البعيدة خيام تتخللها النيران، ورأى على الضفة القريبة في طرف السهل نارا وبالقرب منها خيمة كبيرة لم يتبين لونها لشدة الظلام. فلبث برهة يفكر في ابنته مارية حتى هم بالرجوع للبحث عنها في مكان آخر، ثم حدثته نفسه بالنزول إلى تلك الخيمة واستطلاع خبر هؤلاء القوم قبل رجوعه، ولم يخش بأسا مما علمه في أثناء أسفاره في أفريقيا والشام من عدل العرب ورفقهم بأهل البلاد التي يفتحونها، وكان قد تعلم بعض الألفاظ العربية مع غرابة تلك اللغة عنده وبعدها عن لغته، وكانت السنون قد علمته الشجاعة ورباطة الجأش، فنزل من الأكمة وسار يلتمس تلك الخيمة وهو يعجب لانفرادها هناك مع كثرة الخيام على الضفة الأخرى، فتبادر إلى ذهنه أن القوم قد وصلوا إلى النهر في ذلك المساء وأخذوا في عبوره، فأظلمت الدنيا قبل إتمام العبور فأجلوه إلى الغد.
سار الشيخ حتى دنا من الخيمة فطرق أذنه صوت ارتعدت له فرائصه بغتة واستغرابا، سمع ابنته مارية داخل الخيمة تتكلم وصوتها مختنق بالبكاء، فلم يصبر عن الوثوب نحو الخيمة وهو لا يخشى أحدا ولا يعي شيئا من فرط ما هاج من عواطفه، خوفا على ابنته، فاقترب من النار، وإذا هو بباب الخيمة، فاعترضه رجل واقف هناك وقد تقلد سيفا ورمحا، وهم بالقبض عليه وهو يقول باللغة العربية: «من أنت؟» ففهم الشيخ ما يريده، فأجابه بكلمات متقطعة أنه يريد الدخول إلى الخيمة، فاستمهله الرجل ريثما يدخل، ثم عاد وأشار إليه، فدخل الشيخ ولحيته ترتعش في وجهه، وكان على شيخوخته وبياض شعره تتجلى الصحة والنشاط في عينيه شأن أمثاله من أهل القرى والفلاحين.
بدر ويوليان
دخل الشيخ وأخذ يجيل بصره في أطراف الخيمة للبحث عن ابنته، فرآها جالسة في أحد جوانبها على الأرض، ولما وقع بصرها على أبيها، مع ضعف نور المصباح هناك، وثبت نحوه وهي تصيح: «أبي، أبي.» فاستقبلها الشيخ بين ذراعيه وقد دمعت عيناها من البغتة والفرح، ونظر إلى صدر الخيمة فإذا هناك رجل كبير الهامة عليه العمامة والجبة، فعرف أنه من البربر، وبجانبه رجل بملابس القوط لم يحدق فيه إلا قليلا حتى عرف أنه يوليان صاحب سبتة، فلم يستغرب ذلك لأنه كان قد سمع عن اتفاقه مع المسلمين على القوط، وكان يحسب ذلك إشاعة كاذبة، فلما رآه تحقق من الأمر وأيقن أن العرب غالبون لا محالة.
مرت كل هذه الخيالات في ذهن الشيخ في لحظة وهو معانق ابنته يخفف عنها، وسمع صاحب سبتة يقول له بلغة الإسبان: «لعل هذه الفتاة ابنتك؟»
قال الشيخ: «نعم يا مولاي.»
قال يوليان : «لا خوف عليها فإنها في أمان، ولا تظن أن مجيئك غير شيئا من عزمنا في شأنها، فقد كان الأمير عازما على إرجاعها إليك آمنة سالمة، وأما بكاؤها الذي تراه فإنما هو من خوفها. وقد ظنت هؤلاء العرب يرتكبون مثل ما يرتكبه حاكمكم رودريك، فإنه بمثل هذا الفعل الشنيع سيخرج سلطانه من يديه إن شاء الله.» قال ذلك وانقبضت أسارير وجهه للحال فلم يدرك أحد سبب ذلك الانقباض. على أنه استطرد في الكلام قائلا: «وأما سبب مجيئها إلينا، فإن أحد رجال الأمير خرج في أصيل هذا اليوم لحاجة فرآها في الطريق فجاء بها وهو يحسبها من السبايا، فلما علم الأمير بذلك أنكره عليه، وقد كانا في جدال عنيف في هذا الشأن إلى ساعة دخولك.»
ولم يتم يوليان كلامه حتى وثب إلى وسط الخيمة شاب بملابس العرب وعلى رأسه عمامة صغيرة، ولكن سحنته غير سحنة العرب ولا البرابرة، وهو في مقتبل العمر تتدفق الصحة من عينيه وجبينه ونظر إلى يوليان وهو يقول: «أراك حرمتني من غنيمتي رغبة في مرضاة أبناء عشيرتك.»
فأجابه طارق، وهو يبتسم، قائلا: «لا تتعجل يا بدر، فإنك ستصيب كثيرا من الغنائم، فنحن في أول الطريق، وغدا تلتقي بجند طليطلة فما تظفر به من غنائم أو سبايا فهو لك، أما الآن فإننا لسنا في حرب، ولا يمكننا أن نعد هذه الفتاة سبية، وهذا أبوها شيخ قد طعن في السن، وقد رأيت ما كان من لهفته عليها، فهل يليق بنا أن ننغص عيشهما بلا حق؟ والإسلام إنما يدعو إلى الرفق والعدل، وأما السبايا التي تؤخذ بالحرب فهي حلال لأصحابها، ومن كان في مثل بسالتك وجهادك يظفر بأحسن الغنائم وأجمل السبايا.»
ثم التفت طارق إلى الشيخ وقال: «انصرف أيها الشيخ إلى منزلك وأنت في أمان حتى تصل إليه، واعلم أننا لم ندخل هذه البلاد إلا رحمة بأهلها، وإن ديننا يأمرنا بالرفق والإحسان، فكن أنت وكل أهل الأندلس على يقين من أن من يكف يده عن حربنا فهو في ذمتنا ولا خوف عليه. وأما الذين يجسرون على مناوأتنا فما دواؤهم إلا السيف.» ثم نادى: «يا غلام.» فدخل رجل بربري من أعوان طارق فقال له: «اصحب الشيخ وابنته حتى يصلا إلى مسكنهما.»
فهم الشيخ بتقبيل يد طارق، فمنعه وطيب خاطره وصرفه. فخرج وهو يثني على ما لاقاه من طارق وقال في نفسه: «بمثل ذلك يملك الأمير الرعية ولا يملكهم بالعنف أو الظلم.»
أما بدر فإنه سكت احتراما لطارق وفي نفسه حزازة على يوليان لاعتقاده أنه هو الذي منعه من غنيمته، ولكنه كظم ما في نفسه وخرج من الخيمة إخفاء لعواطفه.
الهروب
تركنا فلورندا وخالتها والرجلين - أجيلا وشانتيلا - هائمين على وجوههم في ضواحي طليطلة، وكان السبب في ذلك - كما علمت من سياق الرواية - أن أجيلا وشانتيلا كانا في انتظار فلورندا عند أسفل القصر في تلك الليلة الباردة المرعدة، فلما تيسر لها الإفلات من بين يدي رودريك، بعد أن بغته أوباس كما تقدم، أسرعت إلى النافذة وحملت ما استطاعت حمله من الثياب وأيقونة صغيرة للسيدة العذراء، كانت شديدة الاعتقاد بكرامتها، فخبأتها بين ثيابها والتفت بالقباء، وخالتها العجوز تساعدها على التأهب. فلما أتما الاستعداد بقدر الإمكان أطلت العجوز ونادت، وكان الرجلان على أهبة العمل فتسلقا الشجرة وتكاتفا على إنزال فلورندا سالمة، ثم العجوز وما بقي من الأمتعة الضرورية، ونزلوا جميعا من الحديقة والرياح تهب والرعود تقصف وهم من الخوف في شغل عن كل ذلك حتى نزلوا إلى القارب. وكانت فلورندا تتوقع أن ترى ألفونس فيه لأنه هو الذي كتب إليها أن توافيه إليه، فلما رأت القارب خاليا اضطربت وقلقت، واستحيت أن تسأل عنه، فخاطبت خالتها بالأمر، فالتفتت العجوز إلى الرجلين وقالت: «وأين الأمير ألفونس؟»
فقال شانتيلا: «لم يأت معنا يا سيدتي.»
قالت: «وأين هو؟»
فخشي شانتيلا أن يكون في قوله ما يسيء إلى فلورندا لعلمه بما بينها وبين ألفونس من الحب المتبادل؛ لأن الرجلين كانا قد أدركا سر المهمة التي انتدبهما لها أوباس وإن كان هو يحسبهما آلة صماء يستخدمهما في تحقيق غرضه. ولم يكن ألفونس يتوهم أن أحدا يعرف ما بينه وبين فلورندا؛ ذلك شأن المحبين حيثما كانوا، يحب الشاب الفتاة وهي تحبه ويطول بينهما زمن الترداد وهما يحسبان أن الناس في غفلة عنهما، وقد يكون بين الناس من يعرف كل جملة وكل كلمة مما يدور بينهما. وأعلم الناس بذلك خدم المنازل؛ فهم يوهمونك أنهم يشتغلون في إعداد الطعام، أو ترتيب أدوات المائدة، وآذانهم تسترق ما يدور بينك وبين ضيوفك أو جلسائك من الأحاديث السرية وغيرها، ويتفاخرون بتناقلها والمبالغة فيها على ما تقتضيه عواطفهم نحو صاحب ذلك الحديث، فإن كانوا يحبونه جعلوا سيئاته حسنات - وأفضل ما يحببهم فيه الكرم - وإلا فإنهم يجعلون الحسنة سيئة. أما أجيلا وشنتيلا فلم يكونا من طبقات الخدم، وإنما كانا من الأسرى كما تقدم وقد اطلعا على ما بين ألفونس وفلورندا من الحب المتبادل، وعلما مما كانا يسمعانه من أحاديث الخدم أن رودريك أيضا يحبها. فلما طلب إليهما أوباس أن يذهبا إلى هذه المهمة أدركا السر، وأقدما على العمل وهما شديدا الغيرة على مصلحة ألفونس؛ لأنهما يكرهان رودريك وأهل بلاطه. وكانا قد رأيا ألفونس خارجا على رأس حملة من الفرسان بأمر من الملك، فأدركا أنه ذاهب إلى مهمة.
فلما رأى شانتيلا ما كان من اضطراب فلورندا وسؤالها عن ألفونس وهو ليس معهم، خشي أن يكون في الجواب ما يزعجها والوقت لا يساعد للتمهيد، فاشتغل بالتجذيف مع أخيه لدفع القارب إلى مجرى النهر، وكان المصباح قد انطفأ من شدة الرياح، على أنه لم يجد مندوحة عن الجواب على سؤالها فقال لها: «نظنه في منزل الميتروبوليت لأنه هو الذي أمرنا أن نذهب بك إلى هناك.»
فسكن روعها، ولكنها ظلت مضطربة الخاطر إذ لم تكن تتوقع أن يعهد ألفونس إلى أحد سواه بإنقاذها مع ما يظهره لها من الاندفاع في حبها، فأحست بعتب يمازجه شك، ولكنها صبرت ريثما تلتقي بحبيبها وتعاتبه، والعتاب احتكاك بين القلوب يزيدها حرارة وتجاذبا.
سار بهم القارب وهم يطلبون ضفة قريبة من بيت أوباس؛ لأنهم كانوا معه على ميعاد ليذهبوا إليه ومعهم فلورندا.
فطال بهم المسير في النهر لهياجه واضطرابه ومقاومة الرياح لهم فضلا عن شدة الظلام، وكانت فلورندا كلما خافت من خطر استعانت بالله وأخرجت الأيقونة وقبلتها فيرتاح خاطرها ويطمئن بالها، تلك من ثمار الإيمان وليس أفضل منه وسيلة لتعزية الإنسان. ومضى هزيع من الليل قبل نزولهم إلى البر، فلما نزلوا إليه تشاوروا فيما يجب أن يفعلوه، فقال أجيلا وكان أسرع خاطرا وأكثر إقداما من أخيه: «أرى أن تمكثوا هنا وأذهب أنا إلى بيت الميتروبوليت ثم أعود بمن يحمل هذه الأحمال.» فاستصوب الجميع رأيه فمضى حتى أشرف على المنزل، فرأى حوله فرسانا من جند الملك، فأجفل وتراجع وقد شغل باله سبب وجود ذلك الجند هناك. ثم ما لبث أن رأى بعضهم يخاطب أوباس فتربص في أحد المنحنيات ليسمع ما يدور بينهما، ففهم من خلال الحديث أن الملك بعث بهم للقبض عليه، فلم يخامره خوف على أوباس لفرط اعتقاده بقدرته. والناس شديدو الاعتقاد في قسسهم ومعلميهم وآبائهم؛ فكل تلميذ يعتقد أن أستاذه أمهر الأساتذة، وأن كاهنه أقدس الكهنة، وأن أباه أقدر الآباء حتى يكاد يكون قادرا على كل شيء، ولو لم يكن في هؤلاء من المواهب ما يدعو إلى ذلك الاعتقاد، فكيف بأوباس وهو على ما وصفناه من الهيبة والجلال والتعقل؟ فلم يخامر ذهن أجيلا خوف عليه قط، ولكنه أوجس خيفة على فلورندا لاعتقاده أن فرارها هو سبب القبض عليه، فلما توارى الركب عنه تحول نحو القصر على أمل أن يخاطب بعض الخدم، فمشى وهو يسترق الخطى استراقا ويحسب الدخول سهلا بعد ذهاب الحرس، فإذا هو بكوكبة أخرى قد أحدقوا بالقصر واستخدموا القوة لإخراج الذين فيه، وبالغوا في التخريب والتعذيب.
فلما رأى أجيلا ذلك أيقن بالخطر الذي أصبح معرضا له هناك وبما يهدد فلورندا من الأخطار الجسام إذا اطلع الملك على مقرها فهرول مسرعا ولم يعد له شاغل سوى فلورندا، وخاصة حينما تصور منزلتها عند ألفونس وأوباس؛ فاعتزم أن يبذل كل ما في وسعه ووسع أخيه في سبيل إنقاذها وحمايتها إلى آخر نسمة من الحياة.
الكتاب
وكانت فلورندا جالسة على الأرض وفي حجرها صرة قد اتكأت عليها بكوعيها، والتفت بطرفها التفافا شديدا لشدة البرد والريح، وكان التعب قد أخذ منها مأخذا عظيما لما مر بها تلك الليلة من الانفعالات النفسية، وما قاسته من الأهوال وما خافته من الفضيحة، كل ذلك غلب على قواها حتى مالت إلى النعاس، ولا سيما بعد أن ظنت أنها قد نجت من حبائل ذلك الرجل الشرير، فأسندت رأسها على كفها وأغمضت جفنيها فنامت. ولما رأتها بربارة نائمة أجازت لنفسها الارتياح هنيهة، أما شانتيلا فإنه ظل ساهرا قلقا وقد استبطأ أخاه وحسب لغيابه ألف حساب، وربما لامه لإبطائه ومغادرته إياهم عرضة للهواء والبرد، وتوهم أنه لو ذهب هو في تلك المهمة لكان أقدر منه على إتمامها وتقدير ما قد ينجم عن البطء من الأضرار، على أنه ما لبث أن رآه عائدا وحده فذعر لانفراده، فإذا هو يقول: «هلم بنا سريعا حتى نخرج من هذه الضواحي الليلة لأني أعتقد أن الملك سيبث علينا العيون والأرصاد ابتداء من صباح الغد.»
فأفاقت فلورندا من نومها مذعورة، وصاحت: «ويلاه! وإلى أين نذهب؟ نجني يا مخلصي. أين ألفونس؟»
فقال: «ليس في المنزل أحد يا سيدتي.»
قالت: «ولا أوباس. هل رأيت ألفونس هناك؟»
فقال: «إن ألفونس لم يكن هناك يا مولاتي.»
فذعرت وقالت: «أين هو إذن؟ يا إلهي أين ألفونس؟ وكيف عرفت أنه ليس هناك؟»
قال: «لأني رأيت أوباس وهو بين يدي الجند الملكي يسير إلى قصر الملك، ثم رأيت الجند قد دخلوا بيته وأخرجوا كل من كان فيه من الخدم، ولم أسمع ذكرا لسيدي ألفونس بينهم فلعله لا يزال في منزله ...»
فقطع شانتيلا كلام أخيه وقال: «إن سيدي ألفونس لم يرجع إلى قصره قبل خروجنا منه.»
قالت: «أين كان قبل خروجكم؟»
قال: «كان قد ذهب في مهمة بأمر خاص من الملك.» فتذكرت للحال ما سمعته من رودريك في تلك الليلة عن إبعاد ألفونس، وكانت تحسبه يقول ذلك على سبيل التهديد، فأيقنت عند ذلك صدق قوله، ولكنها لم تكن تدري هل أبعده أو حبسه، فأعادت السؤال قائلة: «هل أنت واثق من ذهابه؟ وهل تعلم إلى أين؟»
قال: «إني واثق من خروجه من قصره ومن ورائه الحرس الملكي، وأما إلى أين ذهب فلا أعلم، ولكن الغالب أنه سار في مهمة إلى بعض البلاد.»
فعاد أجيلا وقطع كلام أخيه قائلا: «أظنه أرسل في قيادة حملة إلى بعض البلاد لإخماد ثورة أو مخابرة بعض الكونتية مما يحدث كثيرا في هذه الأيام، ولا بأس عليه بإذن الله، ومتى استقر بنا المقام وأمنا العيون والأرصاد، بحثنا عن مكانه، وبذلنا كل ما يؤدي إلى راحتك وراحته فإننا صنيعته وأرواحنا له. والآن لا بد لنا من مغادرة هذا المكان حالا، والفرار من الظلم فضيلة، ولنترك البحث في مصيرنا إلى وقت آخر، دعونا نرجع إلى القارب ونسير مع مجرى النهر حتى نخرج من حدود هذه المدينة، وأهلها وحراسها في شغل عنا بالأمطار والزوابع، فإذا صرنا في مأمن بحثنا فيما نفعله.» قال ذلك وتقدم إلى فلورندا يريد مساعدتها في النهوض، فنهضت واتجهت إلى القارب وقد عادت إليها مخاوفها وتبعتها خالتها وهي تحمل صرة الثياب، وبقي هناك صندوق تعاون الرجلان على حمله، ونزلا إلى القارب وأخذا في التجديف. وكانت الزوابع قد خفت حدتها، وساعدهم التيار حتى خرجوا من ضواحي المدينة، وأصبحوا في مكان لا يرون فيه أحدا، ولا يسمعون صوتا غير نقيق الضفادع. وكان قد مضى معظم الليل فآووا بالقارب إلى منعطف وراء تل يداريهم من الرياح. وقال أجيلا عند ذلك لفلورندا: «نحن الآن في مأمن يا سيدتي، فإذا شئت النوم إلى الصباح فلا بأس عليك، وكذلك الخالة. وأما نحن فإننا نتناوب الحراسة ريثما يطلع النهار ونبحث عن الجهة التي نسير إليها.»
نامت فلورندا بقية ذلك الليل نوما مضطربا، وتراكمت عليها الهموم فتذكرت حبيبها ومصيره، وكيف كان رودريك سببا في تشتيت شملهما، وتذكرت والدها ومقدار تعلقه بها منذ حداثتها، وماذا عسى أن يكون من غضبه إذا بلغه خبرها، وكم يكون فشله وخيبة أمله مع صبره على رودريك وإغضائه عن تعديه على الملك، فحدثتها نفسها أن تشكو أمرها إليه وتستحثه على الانتقام لها. فلما استيقظت تناولت قطعة من نسيج كتبت عليها الكتاب الذي تقدم ذكره، واستدعت أجيلا فوقف بين يديها فدفعت الكتاب إليه، والدمع يترقرق في عينيها من شدة تأثرها وهي تكتب الكتاب، وقالت: «لقد رأيت من مروءتك ومروءة أخيك ما يوجب سروري وامتناني كثيرا، وقد وعدتني بالبحث عن ألفونس، وأطلب إليك فوق ذلك أن توصل هذا الكتاب إلى أبي، فهل تعرف من هو؟»
قال: «نعم يا سيدتي، إنه الكونت يوليان صاحب سبتة.»
قالت: «هو بعينه، هل تسير إليه بهذا الكتاب؟»
فأشار بيديه ورأسه وعينيه أنه يفعل ذلك من كل قلبه، ثم قال: «ولكنني أرى يا مولاتي - قبل كل شيء - أن نعمل على تهيئة مكان أمين لك، أعرف الطريق إليه إذا أنا عدت بالجواب إليك.»
فالتفتت فلورندا إلى خالتها وقالت: «ما رأيك يا خالة؟ أين تكون إقامتنا أقرب إلى الأمن والسلامة؟»
وكانت العجوز مطرقة فبالغت في الإطراق ولم تجب، فأعادت السؤال عليها فرفعت رأسها وفي وجهها ملامح البشر، وقالت: «أظنني عثرت على طريقة لا ترون خيرا لنا منها في هذه الأحوال.»
قالت فلورندا: «وما هي؟»
قالت: «لا يخفى عليكم أن في هذه البلاد أديرة ينقطع فيها الرهبان عن العالم تعبدا لله تعالى، وتكون هذه الأديرة غالبا في البراري أو في الجبال، ومنها ما لا يدخله الناس إلا نادرا، فالرهبان منقطعون عن العالم بأسره، فإذا أقمنا في أحد هذه الأديرة كان في ذلك ستر لحالنا ريثما يتيسر أمرنا ...»
دير الجبل
فتقدم أجيلا وكأنه تذكر أمرا ذا بال، وقال: «لقد أعاد كلام الخالة إلى ذاكرتي أديرة للنساء العذارى. إن الإقامة فيها أولى لمولاتي لأنها تكون بين عذارى مثلها.»
فقطعت العجوز كلامه قائلة: «صدقت يا أجيلا، ولم أكن أجهل وجود هذه الأديرة ولكنني لم أتم كلامي بعد. إن أديرة العذارى مناسبة لي ولفلورندا، ولكننا لا نستغني عن أحدكما معنا، فأين يقيم وإقامته معهن محظورة؟» قالت ذلك وصبرت لحظة وفي ملامح وجهها أنها لم تنته بعد من الكلام، ثم قالت: «في إسبانيا من الأديرة ما يجتمع فيها الرهبان والراهبات معا في دير واحد بدون اختلاط، وذلك أن بعض الأرامل من النساء يرغبن بعد موت أزواجهن في الانقطاع عن العالم والتعبد، فيقمن في أديرة خاصة بهن وقد يكون معهن بعض العذارى، ولكن بعضهن يبالغن في التنسك والرغبة عن العالم، فيقمن في أديرة لا يخرجن منها على الإطلاق، ومثل هذه الأديرة كثيرة في هذه البلاد ولا أظنكم تجهلون وجودها، ولكني أعرف ديرا بين هذه الجبال (جبال طليطلة) خصص جانب منه للرهبان والجانب الآخر للراهبات، وكل طائفة منهما في قسم من الدير لا علاقة لها بالطائفة الأخرى ولا بسائر العالم إلا نادرا، ولا يلتقي الراهبات والرهبان معا إلا في الكنيسة في أوقات الصلاة. وقد علمت من قواعد هذه الرهبنة أن الراهبة لا يمكنها مخاطبة أحد من الناس حتى رئيس الدير أو وكيله إلا بوجود راهبتين أخريين، وهذا التدقيق نافع في منع المحظورات، فأرى - إذا استحسنت فلورندا - أن نذهب إلى ذلك الدير فنقيم أنا وهي في قسم الراهبات، وأنت وأخوك تقيمان في قسم الرجال. نقيم هناك ضيوفا لنرى ماذا يكون.»
فالتفتت فلورندا وقد أشرق وجهها وقالت: «بورك فيك يا خالة، لقد نطقت بالصواب. هلم بنا إلى ذلك الدير، هل هو بعيد عنا؟»
قالت: «لا أظنه يبعد عنا إلا مسيرة يوم وبعض يوم، وطريقنا إليه غير مطروق فلا نخاف عينا ولا رقيبا.»
قالت فلورندا: «هل تعرفين الطريق بنفسك؟»
قالت: «أظنني أعرفه، وقد مررت بذلك الدير منذ بضعة أعوام. سيروا بنا على بركة الله.»
قالت فلورندا: «أرى يا خالة - قبل كل شيء - أن يذهب أجيلا بالكتاب إلى أبي، فإذا عاد منه بخبر جاءنا إلى ذلك الدير.»
قالت: «لك الأمر فافعلي ما تشائين.»
فالتفتت فلورندا إلى أجيلا وقالت: «سر في حراسة المولى، ومتى رجعت تعال إلى دير الجبل الذي سمعت خبره، وإذا استطعت معرفة خبر الأمير ألفونس فإنك أحصف من أن أوصيك بالذي ينبغي أن تفعله.»
فانشرح صدر أجيلا لهذا الإطراء وانحنى بين يديها وودعهم وانطلق، أما هم فخرجوا من القارب وحمل كل منهم ما يستطيع حمله وأوغلوا بين التلال والجبال، ودليلهم العجوز وهي تسير أمامهم كأنها تلتمس منزلا تذهب إليه كل يوم.
قضوا عدة ساعات لم يلتقوا في أثنائها بعابر ولا جالس، وأكثر التلال التي قطعوها جرداء إلا ما كان على جوانب الأودية من شجر ملتف مهمل قلما امتدت إليه يد الإنسان، وكانت الأمطار قد أغرقتها في الليل الماضي وتخللتها السيول، فلما صحا الجو في ذلك الصباح وأشرقت الشمس ساد الدفء. على أن وعورة الطريق أتعبتهم وخصوصا فلورندا، وهي لم تتعود هذه المشاق، ناهيك بما في قلبها من لعواعج الحب وما ينتابها من الهواجس والأشواق.
قضوا معظم النهار في المسير وباتوا وشانتيلا حارسهم وعونهم في كل ما يحتاجون إليه من الطعام ونحوه، ومشوا معظم اليوم التالي ولا حديث لهم إلا تكرار ما فات، حتى إذا مالت الشمس نحو الأصيل وصلوا إلى سفح جبل أطلوا منه على بناء شامخ أشبه بالحصون منه بالأديرة، فلما شاهدته العجوز صاحت «هذا هو، قد وصلنا، ولكن لا بد لنا من الصعود.»
قالت فلورندا: «فلنصعد.» ولملمت أثوابها مشمرة وهرولت إليه، فعلت ذلك لشدة رغبتها في الوصول والاستراحة وإرسال شانتيلا لاستطلاع الأخبار من طليطلة عن مصير ألفونس وعن حال أوباس، ورأي رودريك في فرارها ... كذلك هرولت العجوز وشانتيلا بين يديهما حتى وصلوا إلى الدير، فإذا هو في ساحة في سفح ذلك الجبل، وهو بناء قديم العهد غريب الشكل، حوله سور من الحجارة الضخمة الكبيرة، وربما زادت مساحة ذلك الدير على ثلاث قصبات أو أربع، وشكله مربع طوله نحو خمسمائة قدم، والسور عظيم الارتفاع ليس فيه من النوافذ سوى شقوق مستطيلة في أعلاه، وباب واحد في أحد جوانبه، والباب صغير جدا بالنسبة إلى ضخامة ذلك السور، يراه الناظر كالنقطة في الصفحة. وفي أعلى السور فوق ذلك الباب برج حصين كأنه قلعة، وهو مكان للمراقبة يقيم فيه حارس الباب.
وقفت فلورندا وخالتها وشانتيلا وهم يلهثون من التعب ويعجبون من منظر ذلك الدير، فلما استراحوا قال شانتيلا: «هل تأذن مولاتي بأن أقرع الباب وأستأذن في الدخول؟»
قالت: «افعل.»
فتقدم شانتيلا حتى وقف بالباب، فإذا هو مصفح بالحديد تصفيحا متينا، وقد استدل على سمك ذلك الحديد من ضخامة رءوس المسامير التي كانت بارزة فوق سطح الباب، ولا يزيد ارتفاع الباب على قامة الإنسان إلا قليلا، فتفرس في جوانبه لعله يرى حلقة يدق بها فلم يجد شيئا، ثم وقع بصره على حبل مرسل من ثقب في أعلى الباب نحو الخارج، فأمسكه وشده فسمع جرسا يدق في الداخل فعلم أنه قد أصاب، ثم انتظر بعد الدق هنيهة فرأى رأسا أطل من نافذة صغيرة في البرج المذكور، وقد كساه شعر ناصع البياض حتى لم يظهر من وجهه إلا أنف بارز، وعينان تتلألآن في غورين فوقهما حاجبان بارزان، وفوق الحاجبين جبين أصبحت تجاعيده كالميازيب أو الأخاديد. أطل الشيخ برأسه ولبث برهة لا يتكلم، فلم يصبر شانتيلا على سكوته لعلمه بما ألم بفلورندا من التعب فصاح فيه: «أما من مأوى عندكم للغرباء ولو إلى حين؟»
وما أتم شانتيلا كلامه حتى تراجع الشيخ من النافذة واختفى ولم يبد جوابا، ولم تمض برهة حتى سمعوا قلقلة مفتاح وراء الباب توسموا منها قرب الفرج. وطال زمن القلقلة ثم سمعوا صريرا فتدانوا إلى الباب يتوقعون فتحه، فإذا هو لا يزال مغلقا فلبثوا ينتظرون، فعادت القلقلة ثم سمعوا الصرير ولم ينفتح شيء فملوا الانتظار وخشوا أن يكون وراء ذلك ما يوجب الخوف ولا سيما فلورندا، فإنها كانت واقفة وبصرها مثبت على ذلك الباب.
وأما العجوز فقد كانت جالسة على حجر وقد ذبلت عيناها من أثر التعب من مسير ذلك اليوم حتى كادت تنام، وإذا بصرير عنيف استرعى انتباهها، فنظرت فرأت الباب ينفتح بتثاقل كأن فاتحه يجر ثقلا كبيرا، فظلت فلورندا في مكانها وتقدم شانتيلا نحو الباب، فاستقبله ذلك الشيخ وعليه لباس الرهبان في أبسط أحواله، وهو رداء أشبه شيء بالعباءة يستر بدنه إلى الركبة، وساقاه عاريتان، وقدماه حافيتان، وقد أصبح أخمصاهما كالنعال لطول ما مر بهما من مصادمة الأحجار والاحتكاك بجذوع الأشجار. خرج الشيخ الراهب وبيده عكاز أعقف الطرف قبض على عقفته بأنامل كأنها عظام عارية، وقد تصلبت مفاصلها ونتأت من أعلى الكف، حتى أصبح بسط تلك الكف مستحيلا، وكأنها خلقت للقبض على ذلك العكاز، وما زالت قابضة عليه حتى تصلبت وهي متقبضة.
وكانت تلك العباءة قصيرة الأكمام، وقد ظهر كوع الراهب وقد خشن جلده حتى لتحسبه إذا نظرت إليه كأنه أخمص القدم، وكأن الشيخ قضى عمره يدب على أخمصيه وكوعيه.
فترة انتظار
أطل الشيخ عليهما وظل واقفا بالباب، فأسرع الجميع إليه وأولهم شانتيلا فإنه نزع قبعته عن رأسه وهم بيد ذلك الشيخ فقبلها وفعلت ذلك فلورندا وخالتها.
فقال الراهب الشيخ، وفي نغمات صوته خشونة البرية: «ما الذي جاء بكم إلى هذا المكان؟»
فقال شانتيلا: «جئنا نلتمس البركة من صاحب هذا الدير، فهل هناك ما يمنع؟»
قال: «كلا، ولكن هذا الدير قسمان: قسم للرهبان، وقسم للراهبات، فأيهما تريدون؟»
قال شانتيلا: «كما تشاءون ...»
قال: «وعلى كل حال فإن ذلك يرجع إلى رأي الرئيس العام.»
ثم اتجه إلى الداخل وأشار إليهم أن يتبعوه، فدخلوا في أثره، فإذا بالباب يؤدي إلى دهليز قصير فيه بابان آخران مصفحان بالحديد مثله، وانتهيا من الدهليز إلى فناء واسع سقفه القبة الزرقاء. ولم يطئوا الفناء حتى سمعوا الأبواب تغلق، ونظروا إلى ما حولهم فرأوا جدران ذلك الدير هائلة الارتفاع، وهم في باحة مرصوفة بالحجارة الصلبة أو لعلها من صخر الجبل نفسه، وأحست فلورندا كأنها في سجن حصين.
فمشى بهم الراهب بضع خطوات نحو اليسار، فانتهى إلى باب يلي الجدار الذي دخلوا منه ففتحه وأدخلهم فيه، فإذا هي غرفة تؤدي إلى عدة غرف، فأشار الراهب إلى الغرفة وقال: «هذه دار الضيافة فأقيموا فيها ريثما أقابل حضرة الرئيس وأخبره بأمركم، وما يأمر به يكون.» قال ذلك وتحول يريد الخروج، فسمعوا جرسا يدق ورأوا الراهب حين سمع دقات الجرس يلقي العكاز من يده ويرسم إشارة الصليب ويقف باحترام، ففعل الجميع مثل ما فعل دون أن يدركوا السر في ذلك.
على أن الراهب ما لبث أن التفت إليهم وهو يقول: «لا سبيل لنا إلى مخاطبة الرئيس الآن؛ لأن الصلاة قد آن أوانها، وقد نزل الجميع إلى الكنيسة، وأنا أيضا سأذهب، وبعد الصلاة نرى ماذا يكون.»
فلما سمعت فلورندا ذكر الصلاة انشرح صدرها وتذكرت ما كان من صلاتها الحارة منذ بضعة أيام، وكيف أنقذها الله بها، فتقدمت إلى الراهب وهي تخاطبه بلسانها العذب وصوتها الرخيم: «ألا يسوغ لنا حضور القداس واستماع الصلاة يا سيدي؟»
قال: «الصلاة لا تحجب عن مسيحي، والكنيسة لا تغلق أبوابها في وجه أحد.»
فمشى الراهب أمامهم وهم يتبعونه في وسط تلك الباحة، حتى انتهوا في صدرها إلى باب كبير، وقبل الوصول إليه اشتموا رائحة البخور، فعلموا أنه باب الكنيسة، فدخلوا منه في أثر الراهب فأطلوا على مذبح في صدره، وقد قسم صحن الكنيسة إلى شطرين: شطر للراهبات، وشطر للرهبان، فهداهم الراهب إلى مكان وقفوا فيه لاستماع القداس، وكان أكثرهم تخشعا فلورندا، فكم قرعت صدرها، وكم توسلت إلى الله، وإلى السيد المسيح أن ينجي خطيبها من المهالك ويعيده إليها سالما.
فلما انقضت الصلاة تفرق الجمع، فخرجت الراهبات من باب، وخرج الرهبان من باب آخر، وعاد الراهب العجوز بفلورندا وصاحبيها نحو دار الضيافة. ولاحظ، وهم خارجون، أن فلورندا أخرجت من جيبها نقودا وضعتها أسفل الأيقونة التي كانت تصلي أمامها، ورأى النقود صفراء لامعة، فاستدل من ذلك على أن الضيوف من أهل الثراء، وربما تبرعوا بمال كثير لصندوق الدير، فرافقهم إلى دار الضيافة، وهرول راجعا وهو يتوكأ على عصاه حتى وصل إلى الرئيس، وقص عليه ما كان من مقدم هؤلاء الغرباء إلى أن قال: «ويبدو من مظهرهم ولهجتهم أنهم من أهل طليطلة، ويؤيد ذلك ما رأيته من كرمهم، فهل تأذن لهم بالمثول بين يديك؟»
فقال الرئيس: «بل أرى أن أذهب أنا إليهم.»
قال ذلك ونهض وعليه رداء بسيط أيضا، ولكنه أرقى حالا من رداء الراهب البواب ، وهو عبارة عن عباءة أطول قليلا من تلك، وقد تمنطق عليها بحبل واحتذى نعلا من خشب وعلى رأسه شبه قبعة سوداء. وكان الرئيس كهلا بدينا ربع القامة، حسن الطلعة، صحيح الجسم، نير البصيرة، وكان كثير المطالعة والبحث، فصيح اللسان؛ ذلك ما رفعه إلى درجة الرئاسة وهو كهل، وتحت سيطرته عشرات من الرهبان معظمهم شيوخ مثل راهبنا العجوز. والرقي في رتب الكهنوت يغلب أن يكون عن أهلية، إذ لا تأثير هناك لدالة القرابة أو نفوذ العصبية، والكل سواء في الاغتراب والاعتزال لا يتفاضلون بميراث ولا بصنيعة، ولكل منهم نصيبه من اجتهاده وسعيه وكفايته، فإذا ارتقى راهب إلى الرئاسة أو نحوها في سن مبكرة، كان ذلك دليلا على تفوقه على رفاقه فيما يؤهله إلى تلك الرتبة. ويغلب في هذه الأحوال أن يكون السابق محسودا أو مكروها، أما رئيس دير الجبل فقد كان على العكس من ذلك لما فطر عليه من اللطف والدعة وكرم الخلق، بدليل أنه لما سئل عن مجيء أولئك الضيوف إليه فضل أن يذهب هو إليهم بنفسه تلطفا منه وتواضعا.
وكانت فلورندا حين عادت من الكنيسة جالسة على مقعد في إحدى غرف الضيافة، وقد هاجت أشجانها وتنبه ذهنها للتفكير في ألفونس، فاستغرقت في الهواجس، والعجوز إلى جانبها صامتة لا تتكلم وقد غلب عليها النعاس لفرط التعب، وشانتيلا واقف بجوار الباب ينتظر عودة الراهب، وكانت الشمس قد أشرفت على المغيب. ولمغيب الشمس في الجبال هيبة ورهبة، ولا سيما حيث يقل الناس.
حديث مع الرئيس
لم تمض برهة حتى أقبل الرئيس وبيده رق كان يطالع فيه حين حدثه الراهب، فلما رآه شانتيلا تأدب في وقفته، وقد توسم فيه رجلا يعرفه أو أنه يشبه رجلا يعرفه، على أنه لم يكن يستطيع التفكير طويلا في تلك الفرصة الضيقة. فلما دنا الرئيس من دار الضيافة أشار شانتيلا إلى فلورندا أنه قد أتى، وتقدم هو حتى جثا بين يديه وتناول أنامله فقبلها، والرئيس يظهر عدم ارتياحه إلى ذلك المجد الباطل. ولما دنا من الباب خرجت فلورندا لاستقباله وجثت وقبلت يده وكذلك فعلت خالتها . وكان الرئيس عندما استقبل الفتاة لم يمعن نظره فيها على جاري العادة فيمن يتأدب من الرهبان، على أنها حين جلست بين يديه تذكر أنه رآها قبل الآن فقال لها: «هل هذه السيدة والدتك؟»
قالت: «كلا يا مولاي، بل هي خالتي.» قالت ذلك واستعاذت بالله من تلك الأسئلة، وخشيت أن يسألها عن اسمها ونسبها، ولا مندوحة لها عن الجواب الصريح لأنها تكره الكذب كرها شديدا، وودت لو يوجه الرئيس أسئلته إلى شانتيلا لأنه أقدر منها على التخلص من الصدق الصريح. على أنها تذكرت ما للناس من الثقة في جماعة الكهنة، فهم يعلنون لهم أسرارهم بالاعتراف ويقصون عليهم كل ما اقترفوه ولو كان عظيما، فهان عليها الأمر وعزمت على أن تجعل حديثها مع الرئيس من باب الاعتراف إذا رأت ما يدعو إلى ذلك.
مرت كل هذه الخواطر في ذهنها في لحظة، فلما سألها الرئيس السؤال الثاني كانت قد تهيأت للجواب فقال لها: «ومن أين أنتم قادمون؟»
فالتفتت فلورندا إليه وقالت: «إذا أذن لي حضرة السيد، تجاسرت بعبارة أرجو ألا تثقل عليه.»
قال: «كلا، قولي.»
قالت: «إذا لم يكن لسيادتكم بد من الاستفهام عن كل ما يتعلق بنا، فإني أرجو أن تجعل ذلك على سبيل الاعتراف؛ لأن في قصتنا سرا لا يمكن التصريح به لأحد إلا عن هذا السبيل.»
فحنى الرئيس رأسه مطيعا وقال: «لا يهمني البحث عن أحوالكم إلا لأنني أرجو أن أتمكن من خدمتكم في شيء، فأنتم مخيرون في الكلام أو السكوت، وعلى كل حال فإنكم ضيوف مكرمون.»
فقالت فلورندا وقد أعجبت بلطف الرئيس: «نشكرك، ولا نقبل مع ذلك إلا إطلاعك على سرنا لما توسمناه فيك من اللطف، ومكاشفة أمثالك بالأسرار فرج ورحمة، فهل نغلق الباب؟»
وكان شانتيلا قد سمع شيئا من كلام فلورندا فابتعد عن الباب فخف الرئيس بنفسه إلى الباب كأنه يهم بإغلاقه، ولكنه أشار إلى العجوز ولسان حاله يقول: «وهل تبقى هذه المرأة لسماع الاعتراف؟»
فأدركت فلورندا قصده فقالت: «إن هذه الخالة مستودع أسراري فلا بأس من بقائها .»
فأغلق الرئيس الباب فأظلم المكان فعاد ففتحه وصفق، فجاء راهب وبيده مصباح مضيء بالزيت، فوضعه على مسرجة في الحائط وانصرف، فأغلق الرئيس الباب وجلس وأصاخ بسمعه لما تريد فلورندا أن تقصه عليه، ولم تكد تبدأ بالحديث حتى اهتم بالوقوف على بقية الحديث وإن لم تكن قد صرحت له بكل شيء، وإنما قالت له: «نحن من طليطلة وقد خرجنا للتخلص من أناس أرادوا اغتيالنا فلم نجد وسيلة للنجاة غير الفرار.»
فقال الرئيس: «ولماذا لم تلجئوا إلى جلالة الملك فإنه المكلف بنصرة المظلومين؟»
فلم تدر فلورندا بماذا تجيب، وأدرك الرئيس ارتباكا فتوسم شيئا أحب أن يقف على حقيقته، فقال: «يظهر أن الملك أيضا من جملة من تخافون؟»
فتصدت العجوز للجواب وقالت: «نعم، ولماذا الكتمان؟ بل كان خوفنا من الملك نفسه.»
فبغتت فلورندا لهذا التصريح، ولكنها اطمأنت لاعتمادها على سر الاعتراف وهو مقدس لا يباح به. ولحظ الرئيس بغتتها فقال لها: «ومن هو الرجل الذي جاء معكما؟»
قالت فلورندا: «هو من أتباع بعض أهلنا.»
فابتسم الرئيس وقال: «أليس هو من أتباع الأمير ألفونس؟»
فلما سمعت فلورندا ذكر ألفونس تصاعد الدم إلى وجهها حتى كادت تختنق، وتلعثم لسانها والتفتت إلى خالتها كأنها تتوقع مخرجا من عندها، فإذا بالعجوز تقول: «بلى يا مولاي، إنه من خدم الأمير ألفونس بن غيطشة ملك الإسبان السابق. وهل تعرفه؟»
فتحول الرئيس من الابتسام إلى الانقباض، ولم يستطع التوقف عن الجواب فقال: «نعم أعرف غيطشة وأعرف أولاده وكل أهله. ومن من كهنة إسبانيا لا يعرف أخاه الميتروبوليت أوباس؟! ومن لم يستفد من عظاته أو قدوته أو حكمته أو درايته؟! ذلك الرجل الذي لا أظن الزمان يجود بمثله، ولكن ...»
فلما سمعت فلورندا إطراءه أوباس اطمأن بالها إلى أن الرجل ميال إلى حزب الملك السابق فلا خوف منه على سرها، ولكنها لاحظت منه أنه يحاذر أن يكاشفها بما في ضميره للسبب الذي تخافه هي في مكاشفته، لولا الاعتراف، فعزمت على استطلاع حقيقة رأي الرجل وهي في مأمن على ما تقوله في ظل سر الاعتراف فقالت: «ألا تدري أين هو أوباس الآن؟»
قال: «كلا، وأين هو؟»
قالت: «إنه في ظلمات السجن منذ يومين.»
قال: «ومن ساقه إلى السجن؟»
قالت: «ساقة الملك رودريك، بعث إلى بيته بكوكبة من الفرسان فأخرجوه من فراشه.»
فوقف الرئيس مذعورا وظهرت على وجهه أمارات الغضب وقال: «ساقوه إلى السجن، أمثل أوباس يسجن؟ قبح الله الجهل. كيف تجرءوا على مس يده لغير التقبيل، وكيف خاطبوه بغير الاحترام والتبجيل؟»
فتحققت فلورندا عند ذلك أن الرئيس من مؤيدي أوباس وأهله، فتاقت نفسها إلى الاستنجاد به أو مشورته في أمر ألفونس، ولكنها استحيت فأطرقت، فراحت خالتها تواصل الحديث نيابة عنها قائلة: «وألفونس، هل ... تعرفه؟»
قال: «كيف لا وقد عرفته منذ طفولته، وكثيرا ما كنا نلتقي في طليطلة أيام المواسم والأعياد على عهد المرحوم أبيه.»
فوقفت العجوز ونظرت إلى الرئيس نظر المتفرس وقالت: «أما وقد برح الخفاء فأخبرك أن الفتاة التي تراها بين يديك هي خطيبة ألفونس، وأراد ملك طليطلة أن يحرمه منها بالقوة فأرسله في مهمة إلى أقصى بلاد الإسبان، فلما رأت عزمه وفهمت مراده خرجت من قصره فرارا، ثم علمنا أن رودريك ألقى القبض على أوباس لأنه ساعد على إنقاذها من بين مخالبه، هذه واقعة الحال كما هي.»
مهمة جديدة
فتفرس الرئيس في فلورندا وقال: «أليست هذه بنت يوليان حاكم سبتة خطيبة ألفونس؟ إني أول الشاهدين على خطبتها، وقد كان أهلها يتحدثون بخطبتها إلى ألفونس وهما طفلان، ثم خطبها، وأوباس هو الذي سعى إلى ذلك العقد، فكيف يتجرأ رودريك على حله؟»
فلما سمعت العجوز كلامه تذكرت أنها كانت تراه يتردد على قصر طليطلة على عهد غيطشة بلباس غير هذا اللباس فقالت: «ألست الأب سرجيوس؟»
قال: «أنا سرجيوس وكنت كاهنا أتردد على طليطلة بالنيابة عن هذا الدير، فلما رأيت الدسائس تتعاظم ضد المرحوم غيطشة ولم أجد سبيلا إلى نصرته، أقمت في هذا الدير حتى توليت رئاسته. ولو أطاعني أوباس لأقمنا هنا معا في أمن وسلام.» ثم التفت الرئيس إلى فلورندا وقال لها: «كوني مطمئنة يا ابنتي أن سرك محفوظ في بئر عميقة، واعلمي أني نصيرك ونصير أوباس في كل شيء. سامحه الله، كم قلت له: دع طليطلة وتعال إلى هذا الدير نعبد الله فيه ونبتعد عن دسائس العالم وشرور أهل المطامع، وعندنا من المئونة والأموال ما يكفينا طول العمر، فأبى إلا البقاء هناك، وأظنه بقي لرعاية أبناء أخيه ولا سيما ألفونس، ثم أطرق وهز رأسه وقال: «أفأوباس في السجن الآن؟»
قالت فلورندا: «علمنا أنهم ساقوه إلى السجن ولا ندري أسجنوه أم قتلوه؟ وكان في عزمنا بعد نزولنا في هذا الدير أن نبعث هذا الشاب إلى طليطلة كي يحاول أن يعرف الحقيقة ثم يعود إلينا بالأنباء الصحيحة.»
فقطع الرئيس كلامها قائلا: «لا، لا يصلح هذا لذلك؛ لأنهم يعرفونه ويعرفون أنه من أتباع الأمير ألفونس أو الميتروبوليت أوباس، وربما قبضوا عليه وسجنوه أو قتلوه، دعوا ذلك إلي فقد أصبح البحث في هذا الأمر من واجباتي. كونوا في راحة حتى تأتيكم الأخبار صاغرة.» قال ذلك ونهض وهو يقول: «وقد آن لكم أن تستريحوا من عناء السفر، واعلموا أن الدير ومن فيه تحت إشارتكم؛ لأننا جميعا صنيعة الملك غيطشة، ونحن وقف على خدمة ابنه وكل من يلوذ به، فهل تقيمون في شطر الدير الخاص بالراهبات ويبقى خادمكم شانتيلا في هذا القسم، أم تفضلون البقاء معا في هذه الدار ولا يدخل إليها أحد سواكم؟»
فنهضت فلورندا وقد أحست بحمل ثقيل يزاح عنها، وشكرت الله لأنه استجاب لصلواتها، وعلقت آمالها بقرب الفرج فأثنت على الرئيس سرجيوس وقبلت يده واستشارت خالتها في الإقامة فقالت: «أرى البقاء هنا بعيدين عن الناس وشانتيلا معنا حتى نرى ماذا يكون.»
فقال الرئيس: «ذلك لكم.» ثم خرج وكان الليل قد أسدل نقابه، وأوقد الرهبان نيرانا في بعض جوانب تلك الباحة للدفء والإنارة. وكان شانتيلا قد اختلط بالرهبان وهم يسألونه عن أحواله ولا يسمعون منه جوابا مفيدا. فلما خرج الرئيس من دار الضيافة سكنت الغوغاء وتشاغل الرهبان بإعداد الطعام ، وبعث الرئيس إلى قيم الدير وأمره بأن يعد للضيوف ما يحتاجون إليه من الطعام وسائر لوازم الراحة.
صعد الرئيس إلى غرفته وهو يشعر بالضيق مما سمع عن أوباس؛ لأنه كان يحترمه ويحبه ويغار عليه، شأن كل من يعرف أوباس لما فيه من تعقل ورزانة وإباء، فأخذ يفكر في سبيل إلى إنقاذه، ثم تذكر أنه ليس على يقين من حقيقة حاله، فعول على أن يتولى البحث عن ذلك بنفسه. وكان سرجيوس بعيدا عن هذه الأحداث لأنه لم يذهب منذ زمن إلى طليطلة، ولا في عيد الميلاد لحضور القداس الأعظم وتهنئة الملك لشواغل خاصة اقتضت تخلفه، ولعله لم يكن يتخلف لو لم يكن هو ميالا إلى الابتعاد عن الملك وحاشيته لما في نفسه من النقمة لغيطشة، فقد كان حاضرا في المجمع الذي دبر استبدال رودريك به، ولم يكن هذا الاستبدال من رأيه، ولكنهم غلبوه على أمره بالأكثرية، ثم أصبح يخشى التظاهر بما يعتقده لئلا يناله غضب الملك، ولم يكن يحتمل مشاهدة ما يغاير اعتقاده، فجعل سفره إلى طليطلة نادرا. فلما أقبل عيد الميلاد الأخير تعلل بما يمنعه عن الذهاب فلم ير شيئا مما حدث لأوباس، ولو كان هناك لشهد محاكمته وسمع حجته، وإن كان حضوره لا ينفع أوباس شيئا لأنه لا يستطيع التغلب على حزب الملك وهم الأغلبية.
فخطر لسرجيوس أن يذهب إلى طليطلة بنفسه فيعتذر للملك عن تخلفه في العيد، ولكنه خشي أن يتهمه أو يشك في سبب مجيئه، وأول من يثير شكوكه هو الأب مرتين؛ لأنه لا يغفل عن مثل ذلك، فرأى تأجيل الزيارة إلى يوم رأس السنة فيذهب لتهنئة الملك بالعيدين، ولا يكون ثمة ما يدعو الملك إلى الشك في سبب مجيئه، ولكنه لم يكن ليصبر عن استطلاع حال أوباس طول هذه المدة، فعول على إرسال راهب يستطلع ذلك من حاشية الملك من غير أن يشاهد أوباس أو يسمع كلامه. قضى سرجيوس معظم الليل يضطرب في مثل هذه الهواجس.
غرفة الرئيس
فلما أصبح بعث إلى فلورندا، وكانت قد باتت تلك الليلة في راحة على أثر ما قاسته من تعب في البدن واضطراب في العواطف، وبخاصة بعد ما آنست من الرئيس سرجيوس ما آنسته من مشاركة لشعورها وعزم على مساعدتها. وأفاقت في الصباح على صوت الناقوس، فنهضت وأخذت تهتم بالذهاب إلى الكنيسة، وبينما هي في ذلك سمعت وقع أقدام بجانب غرفتها تخالف ما تعلمه من وقع خطوات شانتيلا، ثم سمعت قرعا على الباب، فنهضت خالتها وفتحته، فرأت راهبا لم تعرفه فسألته عن غرضه فقال: «إن حضرة الرئيس يدعوكما إليه.»
فمضتا والراهب يسير أمامهما وفلورندا تقول في نفسها: «لم تنقض أيام شقائي بعد، يبدو أن الرئيس قد غير عزمه على مساعدتي.»
وتقدمهما الراهب في تلك الباحة حتى دار من وراء الكنيسة إلى درجات سلم صعدوا عليها إلى حجرة طرق الراهب بابها ودخل قبل أن يؤذن له بالدخول، ثم عاد ودعا فلورندا وخالتها فدخلتا، فإذا هما في غرفة بسيطة الأثاث حسنة الترتيب، على جدرانها أنواع من صور القديسين مختلفة الأشكال والأحجام، وفيها صور كبيرة الحجم من صنع مصوري رومية تمثل أهم حوادث الإنجيل، مثل ولادة المسيح في بيت لحم، وعماده في النهر، وصلبه وصعوده إلى السماء. فلما أجالت فلورندا بصرها في الغرفة انشرح صدرها لتلك المناظر، وتأثرت لها تأثرا عظيما لما فطرت عليه من التقوى، وقد زادتها المصائب تمسكا بحبل الدين فتخشعت عند دخولها تلك الغرفة مثل تخشعها عند دخول الكنيسة، فخف الرئيس لاستقبالها ودعاها للجلوس، فلم تنس قبل الجلوس أن تقبل أيقونة للمسيح المصلوب كانت قريبة منها، ثم جلست فابتدرها الرئيس قائلا: «لم يبق بيننا حجاب وقد اطلع كل منا على أسرار الآخر، فلنبسط الكلام صريحا. وعدتك يا فلورندا أن أستطلع حال أوباس، وكنت على عزم أن أتولى ذلك بنفسي، ثم خطر لي أن ذهابي إلى طليطلة اليوم بعد أن تخلفت عن حفلة العيد يدعو إلى الشك، وربما أدى إلى عرقلة مساعينا، فرأيت أن أؤجل ذهابي إلى رأس السنة وهو قريب، فما قولك؟»
فخفق قلب فلورندا، وعدت ذلك التأجيل فاتحة للعراقيل ، وبدا أثر ذلك في وجهها، ولم يخف اضطرابها على الرئيس، فاستأنف الكلام قائلا: «ولكنني سأرسل أحد الرهبان اليوم ليتفقد الحالة من حاشية رودريك، فإذا اطلعنا عليها ساعدنا ذلك على تدبير الوسائل قبل ذهابي إلى طليطلة.»
فاطمأن بال فلورندا واكتفت بانتداب الراهب وأرادت أن تبين له ما تود الاطلاع عليه من أمر ألفونس فضلا عن أوباس، ثم هي تريد أن تعرف رأي رودريك في فرارها، وهل يتفانى في البحث عنها، ولكن الحياء منعها من الكلام في هذا الشأن صراحة فقالت: «إذا كان الراهب الذي ستنتدبه ذكيا وجاءنا بالخبر اليقين كان ذلك خيرا من ذهاب حضرتك قبل الاطلاع على شيء.»
فقال الرئيس: «فلنبحث فيما يطلب الاطلاع عليه.»
فقالت العجوز: «لا أخفي عن مولاي - الرئيس المحترم - أن أهم النقط التي يطلب البحث عنها إنما هي أوباس وحاله، ثم يهمنا الاطلاع على رأي رودريك في فرارنا لأننا هربنا من قصره رغم أنفه، ثم نحب الاطلاع على المكان الذي بعث إليه الأمير ألفونس.»
قال: «فهمت المطلوب وسأوصي الرسول به ونظنه يعود إلينا بالخبر اليقين.»
فنهضت فلورندا وقبلت يد الرئيس وكذلك فعلت العجوز، واستأذنتا في الذهاب رغبة في تفرغ سرجيوس لقضاء تلك المهمة، فأذن لهما فانصرفتا.
أما هو فإنه صفق فجاءه الراهب الذي يتولى خدمته فأمره أن يستدعي راهبا سماه، فجاءه ذلك الراهب وكان له به ثقة كبرى، وكثيرا ما كان يكاشفه برأيه في رودريك، فأوصاه بما يطلب الاطلاع عليه، واستحثه على أن يسرع في العودة.
حقيقة الحال
سافر الراهب على دابة من دواب الدير وعليها الخرج، كأنه منصرف إلى المدينة على نية شراء ما يحتاج إليه أهل الدير من الأدوات والأمتعة. وكانت عادة ذلك الدير أن يرسل رسولا لمثل هذا الشأن مرتين أو ثلاث مرات كل سنة، والغالب أن يكون ذلك في الصيف لأنهم يفضلون عدم الخروج في الشتاء كما يفعل سائر أهل الجبال. على أن ذلك لم يكن ليمنع سفرهم إلى المدن في هذا الفصل في بعض الأحايين.
قضى رسول الدير في مهمته خمسة أيام عاد بعدها، وكانت فلورندا قد ملت الانتظار وحسبت تلك الأيام أجيالا. وكانت في أثناء الانتظار تصعد مع خالتها وشانتيلا إلى سطح الدير تشرف منه على الأودية والتلال لعلها تجد الرسول عائدا. واتفق أن كان الجو صحوا صافيا كل تلك المدة، فكانوا إذا جلسوا على السطح أطلوا على جبال أكثرها عار من النبات الأخضر، وبعض رءوسها وكهوفها مكسوة بالثلج، وكانوا يشاهدون الضباب في كل صباح يغشى الأودية، يحسبه الناظر بحرا تتلاطم أمواجه، ويحسب ما يبرز في وسطه من قمم الجبال جزرا يفصل الماء بينها، فإذا ارتفعت درجة حرارة الجو قبل الظهر عاد الضباب بخارا وعادت تلك الجزر جبالا. فكانت فلورندا تعلل نفسها في أثناء انتشار الضباب أن يكون الرسول على مقربة والضباب يحجبه عن بصرها.
وكانت تستأنس بذلك الشيخ الهرم بواب الدير لأن غرفته أو برجه يؤدي إلى السطح، فيخرج في بعض الأحيان فيجالسها ويقص عليها ما مر به من الغرائب في أثناء عمره الطويل، وهي ترتاح إلى سماع حديثه لأنه على شيخوخته لم يكن يكثر من الكلام الذي لا يلذ للسامعين ولو كانوا شبابا.
ففي أصيل اليوم الخامس رأت وهي على السطح راكبا أطل من بين أكمتين، وحدقت في القادم فإذا هو الراهب، فخفق قلبها ونادت خالتها قائلة: «ها هو قد أتى، فلنمض إلى الرئيس لنسمع حديثه.»
قالت: «هلم بنا إليه.» وتحولتا نحو غرفة الرئيس، وكان جالسا ببابها يطالع في درج باللغة اللاتينية، فلما رأى فلورندا والعجوز قادمتين نهض لهما ورحب بهما، فقرأ على محيا فلورندا أمارات الدهشة والقلق فأدرك أنها تكتم شيئا، فقال لها: «خيرا يا بنية، ما الذي حدث؟»
قالت: «أرى رسولك قد قدم فاستدعه لنسمع حديثه.»
قال: «وهل أتى؟ إني أشد قلقا منك في انتظاره ولا أقلب هذه الكتب إلا تعللا وتشاغلا.» ونهض لساعته وأوصى خادمه بأن يسرع في استقدام الرسول، فهرول الرجل وعاد بعد قليل والرسول في أثره وهو لا يزال بملابس السفر. فلما وصل سلم وبارك وجلس، فقال له الرئيس: «قص علينا ما رأيته على عجل، وابدأ بأوباس.»
قال الراهب: «أما حضرة الميتروبوليت فإنه مسجون في حجرة على حدة.»
قال: «وما سبب سجنه؟»
قال الراهب: «اتهموه بالتآمر على خلع الملك وحاكموه في مجمع الأساقفة.»
فقطع الرئيس كلامه قائلا: «وكيف ذلك ولم نسمع باجتماع ذلك المجمع؟»
قال: «فعلوا ذلك في عجلة، فألف الملك مجمعا من الأساقفة الذين كانوا في طليطلة يوم العيد.»
قال الرئيس: «وماذا كانت نتيجة المحاكمة؟»
قال: «لا أدري، ولكنني سمعت أن الميتروبوليت أبدى من البسالة والحمية في أثناء المحاكمة ما أفحم به خصومه.»
وكانت فلورندا ترهف السمع لقول الراهب، وتود أن تصل إلى خبر ألفونس.
فقال الرئيس: «وهل تظن أن تلك التهمة صحيحة؟»
قال الرسول: «هل أقول كل ما سمعته؟»
فقال الرئيس: «نعم، قل.»
قال الرسول: «بلغني من أهل القصر الملكي أن لمحاكمة الميتروبوليت أوباس سببا سريا، لم يطلع عليه إلا قليلون.»
فقال الرئيس: «وما ذلك؟»
فقال الرسول: «بلغني أن الأمير ألفونس كان خاطبا فتاة من أهل القصر الملكي، وأن رودريك زاحمه عليها وأرادها لنفسه فوبخه أوباس على ذلك، فغضب عليه وأراد الانتقام منه.»
فقال الرئيس: «وماذا تم بألفونس وخطيبته؟»
قال: «أما ألفونس فقد أرسله الملك في مهمة حربية إلى بلد بعيد ليخلو له الجو بعده، فكان ذلك سببا لتدخل أوباس. أما الخطيبة فقد بلغني أنها فرت من طليطلة والناس يستغربون فرارها من القصر الذي كانت فيه والحراس من حوله. وأما الملك فقد اشتد غضبه على تلك الفتاة وعول على الانتقام منها حين يظفر بها.»
فقالت العجوز: «وكيف يظفر بها، وأين هي؟»
ولا نظن أن الراهب لم يلحظ من قرائن الأحوال أن تلك الفتاة هي الخطيبة التي فرت، ولكنه تجاهل الأمر مجاراة لما أراده الرئيس فقال: «أكد لي بعض العارفين أن الملك سد عليها الطرق وأقام الأرصاد وبث العيون في كل أنحاء المملكة، ولا يكاد يمر يوم من غير أن يحملوا إلى قصره فتاة أو فتيات ممن يعثرون عليهن في أثناء التفتيش، فإذا وقع بصره عليهن أطلق سراحهن لأنهن غير تلك الفتاة .»
فلما سمعت فلورندا ذلك اضطرب قلبها لأول وهلة، ثم شكرت الله لدخولها هذا الدير في كنف ذلك الرئيس المحب، وعولت على البقاء هناك حتى يعود أجيلا من عند والدها.
ولكنها أحبت السؤال عن مقر ألفونس فأومأت إلى خالتها أن تسأل عنه فقالت: «وهل عرفت المكان الذي ذهب إليه الأمير ألفونس؟»
قال: «لم أستطع الوقوف عليه صريحا، ولكنني سمعت أن الملك أنفذه مع فرقة من الجند إلى أستجة، ولم أتحقق تماما لأني لم أدقق في البحث عنه.»
فأومأ الرئيس إلى فلورندا أن تكتفي بما تقدم ريثما يتاح له الذهاب إلى طليطلة والبحث عن كل ذلك، فسكتت ثم وقف الرئيس وصلى صلاة وجيزة، فلما فرغ انصرفت فلورندا وهي غارقة في لجج التأمل لما سمعته عن أوباس وسجنه وعن اندفاع رودريك في البحث عنها، فلم تر لها مندوحة عن البقاء مستترة في ذلك الدير لترى ما يأتي به القدر، على أنها عللت نفسها بالاطلاع على تفاصيل أخرى بعد رجوع الرئيس من طليطلة.
ولكن الطبيعة أبت إلا معاكستها فتغير الطقس وتوالت الأمطار وتكاثرت الثلوج حتى سدت طرق الجبال، وانقطعت السابلة فمنعت الرئيس من السفر أياما عديدة، وهو على مثل الجمر، فكيف بفلورندا والجمر يتقد في قلبها وفي رأسها، وخصوصا بعد أن مضى شهر وبعض الشهر ولم يرجع أجيلا من مهمته إلى والدها فزاد اضطرابها وتضاعف قلقها، وانقبضت نفسها حتى تصورت أن الدنيا قد سدت في وجهها، فقد فقدت خطيبها وابتعدت عن والدها، وسجن نصيرها وأصبحت طريدة شريدة ثم سيقت إلى ذلك الدير، فأقامت فيه قيام المجرمين في السجون. وما كادت تفرح بعطف ذلك الرئيس حتى حالت الطبيعة دون خروجه، وأقامت بينه وبين طليطلة سدودا من الثلج. ولكنها كانت إذا تراكمت عليها الهموم وغشت بصيرتها السويداء لجأت إلى الصلاة، فإذا صلت انفرجت كربتها وعادت إليها آمالها، فإذا فرغت من الصلاة وكان الطقس صحوا، صعدت إلى السطح مع خالتها تتطلع إلى الطرق البعيدة لعلها ترى شبحا قادما تتوسم في مقدمه فرجا، ولكنها لم تكن ترى سوى جبال من الثلج تنتهي لدى باب الدير ، ولولا انشغال الرهبان بجرفه في كل صباح لغاب كله فيه.
وكان الرئيس يتردد إليها فيطمئنها ويعدها خيرا ويريها أبواب الفرج، ومرجع كلامه إلى ثقته الكبرى بتعقل أوباس وحسن درايته وعظم سطوته على العقول والقلوب. ولم تكن هي أقل منه إعجابا به لأنها شبت وهي لا تسمع حديثا عن أوباس إلا مشفوعا بعبارات الإطراء والتبجيل حتى خيل لها أنه قادر على كل شيء، ولم تصدق أن أحدا يستطيع أن يصيبه بأذى أو أن يتغلب على رأيه. وكان سرجيوس يفكر في طريقة لإخراج أوباس من السجن، فإذا خرج جاء به إلى الدير ليقيم بسلام وسكينة، ولكنه لم يهتد إلى سبيل أمين بعد أن بلغه من تشديد الملك في الاحتفاظ به والسهر على حراسته.
الثلوج والرسول
وأفاقت فلورندا في صباح يوم من أواخر فبراير على هبوب العواصف وهطول المطر وأكثره من الثلج أو البرد، واشتدت الأنواء والرعود والبروق نحو ساعتين، ثم انقطع المطر وسكنت الرياح بغتة - وذلك ما يحدث في هذا الشهر في البلاد المعتدلة، فإن الجو يتقلب في اليوم الواحد من أيامه تقلبات شتى بين صحو ومطر ونوء وصفاء - فلما توقفت الأمطار وأطلت فلورندا من باب الغرفة، فإذا بفناء الدير قد غمرته الثلوج حتى باب غرفتها، ومع ذلك فالشمس قد أشرقت على ذلك الثلج، فتكسرت أشعتها عليه وانحل النور في بعض الأخاديد، فبدا الطيف الشمسي بألوان قوس قزح، فوقفت فلورندا وهي تتأمل ذلك المنظر الجميل، ثم ما لبثت أن رأت الرهبان يتقاطرون من كل جانب وفي أيديهم المجارف والمعاول، وأخذوا في جرف الثلج وحمله إلى الخارج، فأعجب فلورندا ذلك المنظر وأحست بانبساط نفس لم تشعر بمثله منذ أشهر. والإنسان إذا أمطرت السماء ثم صحت وصفا جوها يشعر بانبساط وخاصة إذا سبق المطر ضباب متكاثف أو غيوم متلبدة، ولكن البرد يشتد في ساعة الصفاء عما كان عليه في ساعة الكدر؛ ولذلك فإن فلورندا لم تطل الوقوف لدى ذلك الباب، فدخلت والتفت بقبائها المبطن بالفرو وأحكمت الالتفاف به وعادت وإذا بالراهب الشيخ - حارس الباب - مقبل وقد استبدل العكاز بمجرفة يجرف بها الثلج بنشاط الشباب، وكان إلى ذلك لا يزال عاري الساقين والزندين، واكتفى من وسائل الدفء بلف كوفية من الصوف حول صدغيه وأذنيه.
فلما رأته فلورندا على تلك الحال أعجبت بتأثير العادة على الإنسان، ولبثت واقفة تنظر إلى شيخنا الراهب وغيره من الرهبان وهم يشتغلون وشانتيلا يشتغل معهم. فلم تمض برهة حتى نظفت الباحة، وكان بعضهم يجرف الثلج عن السطح أيضا. فلما فرغ الرهبان من العمل خرجت فلورندا وبربارة، وقد أعجبها صفاء الجو وإشراق الشمس، وصعدتا إلى السطح وأطلتا على الجبال على سبيل الفرجة، ولم تقفا على السطح برهة حتى أثر الزمهرير في فلورندا ولم يغن القباء ولا الكساء شيئا. ثم تغير وجه السماء بغتة وتكاثفت الغيوم وأوشكت السماء أن تمطر، فهمت فلورندا بالرجوع فرأت الشيخ الراهب لدى باب حجرته على السطح وهو يشير إليها أن تأتي إليه، فتحولت وتبعتها خالتها حتى أقبلتا على الغرفة، فإذا هناك نار موقدة في إناء يشبه الموقد، فلما دخلت أحست بالدفء وشعرت بلذة غريبة، فقال لها الراهب: «اجلسي يا بنية إلى جانب المدفأة فإن البرد شديد جدا اليوم.» فجلست وخالتها إلى جانبها، وكان جلوسهما إلى جانب النافذة، وجلس الراهب أمام النار وأخذ يقص على ضيفتيه أحاديث شبابه وكهولته على سبيل التسلية، والخالة العجوز تشاركه في تحقيق بعض النقط وإن كانت هي أصغر منه سنا.
وكانت فلورندا في أثناء ذلك تنظر من تلك النافذة إلى ضواحي الدير ولا يقع بصرها على غير الثلوج إلا قليلا، والراهب والخالة مشغولان في الأحاديث، وهما يحسبان أن فلورندا مصغية لما يقولان، ثم وجهت الخالة الكلام إلى فلورندا وتوقعت الجواب، فرأت فلورندا في شغل عنها لأنها تتفرس في شيء وراء النافذة وقد ظهر الاهتمام على وجهها، فالتفتت الخالة فإذا هناك دابة تمشي صاعدة نحو الدير وعليها راكب، فأمعنت النظر فيه كأنها تعرفه، فسمعت فلورندا تقول: «أجيلا، أجيلا.» فلما سمع الراهب قولها نظر إلى القادم، ولم يكن يعرفه فقال: «ومن هذا يا بنية؟»
قالت: «هو رسول أرسلناه في مهمة وقد عاد إلينا، فهل تسرع في فتح الباب له حتى لا يضر به البرد؟»
فقال: «سمعا وطاعة.» وتناول عكازه ونزل، وظلت فلورندا وخالتها مطلتين من النافذة لتتحققا من الأمر، فإذا هو أجيلا بعينه على جواد. ولما دنا من الدير وقف الجواد وأجيلا ينظر إلى الدير ويضحك ضحكا شديدا، فلما رأته فلورندا يضحك استبشرت وانبسطت نفسها، ثم نادته قائلة: «أجيلا ...» فلم تسمع جوابا وكأنها لا تخاطب أحدا، فظنت أن هبوب الريح قد أضاع صوتها قبل وصوله إليه، ثم رأت الراهب الشيخ قد خرج من الدير حتى إذا أقبل عليه شهر عكازه وأخذ يضربه ضربا عنيفا وأجيلا لا يتحرك، والراهب يزداد عنفا في الضرب ويصيح ويستغيث بالرهبان الآخرين، فخرج اثنان منهم وفي يد كل منهما عصا غليظة، فأمسك أحدهما بزمام الفرس وعمل الآخر على ضرب الراكب حيثما اتفق وهو ساكت، فاستغربت فلورندا ذلك وتولتها الدهشة لما رأته من خشونة ذلك الضرب لغير سبب يدعو إليه، فجعلت تصيح بالرهبان تستمهلهم وتستفهم عن سبب تعديهم وهم لا يبالون بكلامها، فغضبت وتحولت من تلك الغرفة تريد غرفة الرئيس لتشكو إليه قسوة رهبانه، وسارت الخالة في أثرها حتى إذا نزلتا إلى باحة الدير قالت فلورندا لخالتها: «اذهبي أنت إلى الرئيس وأنا أخرج لمخاطبة أولئك الرهبان.» ثم نادت شانتيلا فلم تسمع جوابا، فأسرعت إلى باب الدير حتى خرجت منه، فرأت شانتيلا مع الرهبان يضرب أخاه أيضا، وقد أنزلوه عن الفرس وأمسك أحدهم برجليه، والآخر بيديه، وأخذ الاثنان الآخران يضربان على القدمين والكتفين ضربا موجعا، فازدادت دهشة واستغرابا وصاحت: «شانتيلا، ما هذا العمل؟» وهو لا يرد عليها ولا يبالي بقولها. وبعد هنيهة رأتهم قد هموا بأجيلا فحملوه وأسرعوا به إلى الدير، فوقفت فلورندا على حافة الطريق فإذا هو بين أيديهم لا يبدي حراكا، فظنته قد مات من شدة الضرب فكادت تبكي لغيظها وأسفها، ولكن الاستغراب ظل غالبا عليها، فلما دخلوا به سارت هي في أثرهم فصعدوا إلى غرفة حارس الباب، فتعقبتهم وهي لا تجسر على الكلام لئلا يصيبها حظ من ذلك الضرب، ولكنها كانت تتلفت يمينا وشمالا لعلها تجد الرئيس قادما لتستنجد به أو تستفهم منه، فإذا به قد أقبل مسرعا على السطح من جهة أخرى والعجوز في أثره وهي تشير إلى فلورندا أن تطمئن.
فأسرعت فلورندا إلى الرئيس وسألته عن سبب ذلك فقال: «لا تجزعي، فإنهم إنما يفعلون ذلك لحفظ حياته.»
قالت: «وكيف يحفظون حياته وقد أماتوه من الضرب؟»
فضحك الرئيس وقال: «يظهر أنك لم تسمعي (بالدنق).»
قالت: «وما الدنق، يا مولاي؟»
قال: «هو الموت من البرد الشديد، فالظاهر أن رسولك هذا أوشك على أن يدنق من البرد، فعمدوا إلى ضربه ليتحرك دمه وتعود إليه الحرارة فلا يموت ...»
قالت: «لم يكن يشكو بردا مطلقا، بل رأيته يضحك سرورا.»
فضحك الرئيس حتى قهقه وقال: «والضحك في البرد من علامات الدنق.» قال ذلك ودخل الحجرة وهو يقول: «اسقوه قليلا من الخمر وأدنوه من النار.»
فأسرع الراهب حارس الباب إلى إبريق في أحد أركان الحجرة، صب منه في كأس ودنا من الرجل، وتقدمت فلورندا نحوه أيضا وتفرست في وجهه فرأته قد فتح عينيه، ولكنه لا يزال منحل القوى، فتحققت مما قاله الرئيس وشكرت الله على إسعافه بالوسائل الفعالة.
الخبر اليقين
قضوا ساعة في علاج أجيلا بالدفء وشرب المنبهات حتى صحا وعاد إلى رشده، فاستأذنت فلورندا في نقله معها إلى دار الضيافة فأذن لها، فنزلت به ومعهما شانتيلا والخالة. فلما استقروا في الغرفة سألته عن سبب غيابه، فأخبرها أنه قاسى في أثناء عودته عذابا أليما من مقاومة الطبيعة وعيون رودريك، حتى اضطر أن ينام في النهار ويسافر في الليل خوفا من أن يقع كتاب يوليان في أيديهم، وهذا هو السبب في وصوله على هذه الحالة من البرد الشديد حتى كاد يموت.
ثم سألته عن والدها فأخذ يقص عليها ما كان من وصوله إليه، وما أصابه من الغيظ واليأس حينما قرأ كتابها، إلى أن قال: «وقد صمم على الانتقام من رودريك انتقاما لم يسبق له مثيل في تاريخ الإسبان.»
فأبرقت أسرة فلورندا اعتزازا بوالدها، وأحست ببرء قلبها بعد أن تصورت أنها مهملة لا يسأل عنها أحد، لكنها أحبت الاطلاع على طريقة ذلك الانتقام، فقالت: «وكيف ذلك؟»
قال: «لقد عول على إخراج هذه المملكة من يد رودريك.»
قالت: «يا حبذا السبيل إلى ذلك، ولكن ...»
قال: «وهل تحسبين سيدي الكونت يوليان يقدم على هذا الأمر إلا وهو واثق من نفسه؟» ثم أخبرها عن اتفاقه مع جند العرب على المسير معهم إلى إسبانيا ليكون عونا لهم على فتحها كلها.
فلما سمعت فلورندا قوله أكبرته، وظنت أجيلا يقول ذلك ليطمئنها فقالت: «هل تقول الصدق؟»
فمد يده إلى جيبه وأخرج أنبوبا مختوما سلمه إليها، ففضته فرأت فيه لفافة من القباطي (نسيج مصري قديم) ففتحتها فإذا هي كتاب من والدها إليها، رأت فيه خط يده فخفق قلبها وتذكرت حنانه فدمعت عيناها، ولم تستطع قراءة ذلك الكتاب إلا بعد أن سكن جأشها ومسحت دموعها، ثم تناولت الكتاب وقرأته فإذا فيه:
من الكونت يوليان إلى ابنته الحبيبة فلورندا
قرأت كتابك أيتها العزيزة فانهمرت الدموع من عيني؛ لما هاجه في نفسي من المصائب الكامنة، وقد ساءني ما اقترفه ذلك الوحش الكاسر من الإساءة إلى الدين وإلى الفضيلة وإلى يوليان. أما الأولان فالله كفيل بالقصاص عنهما، وأما ما أراده من مس عرضي فأنا أتولى الانتقام له بنفسي. وأبشري، إنني سأنقض عليه وعلى بلاده بجند من العرب، لا شك أن الله ناصرهم على ذلك الخائن لما نعلمه من غضب الإسبان والقوط عليه. وإن العمل الذي أشرت إليه في كتابك يكفي وحده لغضب السموات والأرض على ذلك الدخيل في القوطية. ولا أطيل الشرح لأن ناقل هذا الكتاب سيوضح ما يشكل عليك، وإنما كتبت هذه الأسطر تثبيتا لأقواله ولكي أبشرك بالفرج القريب. وسوف ترين رودريك الخائن قتيلا أو أسيرا مكبلا، فامكثي حيث تأمنين حتى آتي إليك، وإذا احتجت أن تتصلي بي، فأنا مع كبير جند العرب حيثما يكون. والسلام.
كتب في سبتة
فلما فرغت من قراءة الرسالة، نهضت تريد الرئيس، وكان قد ذهب إلى غرفته، فسارت وحدها وهي لا تفقه شيئا مما يمر بها لفرط تأثرها من ذلك الخبر الفجائي، وقلبها يرقص طربا لما حواه ذلك الكتاب من بشائر الانتقام، والانتقام من أقوى ملذات الإنسان.
فلما أقبلت على الرئيس أنكر ما يبدو على محياها من آثار البغتة مع شيء من الخفة فوقف لها فدخلت فحيته، وقالت: «جئتك بأمر ذي بال وفيه القضاء المبرم على رودريك.»
فانذهل لتلك المباغتة وقال: «وما ذلك؟»
قالت: «إن الشاب الذي وصل في هذا الصباح وكاد يموت من البرد إنما هو رسول كنت قد بعثت به إلى والدي في سبتة، وبعثت معه كتابا مختصرا شكوت فيه ما أصابني من رودريك، فعاد الرسول اليوم بهذا الكتاب.» ومدت يدها وقدمت الكتاب إلى الرئيس.
فتناوله سرجيوس وقرأه وهو لا يصدق أنه في يقظة، وأعاد قراءته ثانية وثالثة وفلورندا صامتة تتوق لمعرفة ما يبدو منه. فلما انتهى من تلاوته رفع بصره إليها وقال: «إن والدك سيعمل عملا يغير به وجه هذه الجزيرة، سيعمل عملا يقضي به على هذه الدولة، وسيعلم رودريك عاقبة ما كان من خرقه حرمة الدين. نعوذ بالله من غضب الله.» وصمت برهة ثم قال: «وهل نقل الرسول إليك شيئا من التفاصيل؟»
قالت: «أخبرني بعض الشيء ولم أستطع صبرا على نقل هذا الخبر إليك، فإذا أذنت بعثنا إلى أجيلا ليقص علينا ما شاهده بعينيه ...»
قال: «أحب سماع ذلك.» ثم صفق فجاء خادمه فقال: «إلي بالرجل الذي جاءنا في هذا الصباح، وهو في دار الضيافة.»
فمضى الرجل وعاد بأجيلا، فانحنى أجيلا أمام الرئيس وقبل يده ثم جلس متأدبا، فجعل الرئيس يسأله عما شاهده بعينيه، فقص عليه ما شاهده من شجاعة العرب واتحاد كلمتهم، وصبرهم في الحرب، ومواظبتهم على الصلاة، وطاعتهم لرؤسائهم، إلى أن قال: «وزد على ذلك أن مولاي الكونت يوليان عون لهم في إرشادهم إلى المسالك، فضلا عما سيلقونه من مساعدة اليهود المتسترين في أثواب النصرانية، وهؤلاء لا يدخرون وسعا في نصرة أي داخل كان؛ لأنهم يكرهون هذا الملك ويكرهون حكومته، لما يقاسونه فيها من الاحتقار والذل.»
فلما سمع الرئيس ذلك هز رأسه، وقال في نفسه: «قد انقضت دولة هذا الباغي وربما انقضت بانقضائها دولة القوط كلها.» ثم التفت إلى فلورندا وقال: «إذن لو ذهبت الآن إلى أوباس أخبرته بهذا الخبر الجديد وأطلعته على هذا الكتاب، ولا أظن أهل البلاط قد علموا به بعد، ثم نحتال في إخراجه من ذلك السجن ونأتي به إلى هذا الدير يقيم فيه معنا، وطالما كان أبوك مع العرب فنحن في مأمن منهم إذا هم غلبوا، وإذا غلبوا فلا يكون علينا بأس من رودريك لأننا لم نتعرض لحربه.»
فتضاعف سرور فلورندا لما سمعت عزم الرئيس على استقدام أوباس إليه. وبعد بضعة أيام ذابت الثلوج وانكشفت الطرق فركب سرجيوس بغلته ومشى خادمه في ركابه إلى طليطلة.
القائد كوميس
أما رودريك فقد جاءه كتاب صاحب بوتيكة ينبئه بنزول العرب بلاده، فأطلع الأب مرتين عليه قبل عرضه على رجال دولته، فأوهمه الأب المذكور أن العرب إنما يريدون الغزو لا الفتح، فإذا أصابوا غنيمة عادوا على أعقابهم، وأنهم لا يجسرون على مناوأة ملك القوط، وفي الحقيقة إن العرب كثيرا ما كانوا يسطون على ما يلي مملكتهم من الثغور فيغزون البلاد ويعودون بما يقع في أيديهم من ماشية أو نحوها؛ فارتاح رودريك لذلك الرأي لقربه من المعقول ولم يطلع رجال حكومته على الكتاب. ثم جاء طليطلة بعض الذين شاهدوا العرب بخيلهم وإبلهم، وقد ملكوا الجبل (جبل طارق) ومعهم يوليان صاحب سبتة يدلهم على عورات البلاد ويسهل عليهم الفتح، وأخبروا قائد الجند العام بذلك.
وكان قائد جند رودريك رجلا باسلا دموي المزاج حاده، اسمه الكونت كوميس، له وجاهة وسطوة عند رودريك. وكان قد لحظ فيه ميلا إلى فلورندا، فنصحه أن يتركها، فلم يكترث بقوله فتركه وشأنه وفي نفسه شيء عليه، فلما سمع بفرار الفتاة ومحاكمة أوباس نصح له سرا أن يعدل عن محاكمة هذا الرجل لئلا يفضحه. وكان من جملة نصائحه له ألا يصغي إلى مرتين وغيره من جماعة الأكليروس ، فلما جاءه الخبر بنزول العرب إسبانيا ومعهم يوليان، اعتز بفوزه فيما أشار به على رودريك من أمر فلورندا فزاده ذلك جرأة عليه واستخفافا به، واستغرب كتمانه نزول العرب عنه، وكان يستبعد ألا يكون على علم بنزولهم، فذهب إليه ذات صباح وهو في مجلس حضره كبار الموظفين وكلهم كونتات. وكان أصحاب مناصب الدولة الكبرى عند القوط لا يزيدون على عشرة منهم: (1) ناظر الأرضين الملكية واسمه كونت الوطن. (2) رئيس الإصطبلات ويسمى كونت الإصطبل. (3) كاتب سر المملكة واسمه كونت السجلات. (4) رئيس القضاة وهو كونت النعم. (5) قائد الجند. (6) صاحب الخزنة. (7) قيم القصر الملكي. ومن أصحاب رتبة الكونتية عندهم أيضا رئيس السقاة ونحوه ممن يخدمون الملك.
كان مجلس الملك حافلا بهؤلاء والأب مرتين بجانبه، فدخل الكونت كوميس وسلم كالعادة، وأمارات الغضب بادية على وجهه، وبعد أن استقر به المجلس سأل الملك إذا كان قد بلغه شيء من أخبار بوتيكة.
فقال الملك: «لا أدري، هل سمعت شيئا مهما؟»
فقال بصوت خشن: «سألت حضرة الملك: هل جاءه خبر مهم من تلك المقاطعة؟»
فغضب رودريك لهذه المراجعة بما فيها من الجسارة والقحة فقال: «ما معنى هذه المراجعة بعد ما سمعته من جوابي؟» واعتدل وتصدر وجعل يداعب شعر رأسه المرسل على كتفيه وقد بدا الغضب في عينيه، وأصبح سائر الكونتية ينظرون بعضهم إلى بعض وإلى كوميس ورودريك، ويتساءلون عن سبب هذه الجسارة.
أما كوميس فلما رأى الحضور ينتظرون ما يقوله، وقد شخصت أبصارهم نحوه بعد ما أبداه رودريك من الجفاء، عظم الأمر عليه. وقواد الجند من أعظم الناس أنفة وشدة، إذا حمي غضبهم لا يبالون بالتيجان ولا بالصوالجة ولا يعبئون إلا بشدة بطشهم، وخصوصا في ذلك العصر والكلمة النافذة لصاحب الجند القوي. وكان كوميس فوق كل ذلك قد استصغر شأن الملك مما علمه من تهوره في مسألة فلورندا وأوباس. فلما سمع كلامه بتلك اللهجة الشديدة قال: «أظن حضرة الملك لا يجهل معنى سؤالي ولو تجاهله. معنى سؤالي أيها الملك أنه حدث في المملكة ما يدعو إلى إطلاعنا عليه وقد كتمته، وهو من الأهمية بحيث يجعل المملكة في خطر.»
فضج الحضور ومالوا إلى الاطلاع على جلية الخبر، فلم يكن من الأب مرتين إلا أنه وقف بهيئته المعهودة، وتولى الجواب عن الملك ووجه خطابه إلى كوميس قائلا، وهو يتكلف التأني ويظهر الاستخفاف: «أظنك تعني ما جاء من أمر أولئك العرب الذين نزلوا سواحل بوتيكة، فهؤلاء إنما نزلوا للغزو والنهب ولا يلبثون أن يرجعوا إلى بلادهم، ولو كان هذا الخبر مهما لعرضه جلالته على مجلس الأساقفة أولا.»
وكان كوميس يحتقر الأب مرتين ولا يعبأ بأقواله، فوجه جوابه إلى الملك قائلا: «أما الاستخفاف بأولئك العرب فمن الخطأ الفادح، وخصوصا إذا عرف جلالته أنهم قادمون ورائدهم الكونت يوليان صاحب سبتة (قال ذلك بنغمة خاصة). وأما إطلاع المجمع المقدس على أمثال هذه الأخبار قبلنا فللملك الرأي فيه، ولكنني أظن أن قائد الجند أولى بالاطلاع على ذلك من سواه، وعليه هو حماية المملكة. وأما السادة الأساقفة فما عليهم إلا الصوم والصلاة.» وكان يتكلم والتهكم ظاهر في كل عبارة، ولم يشأ أحد من الحضور التدخل في هذا الحديث لدقته، وفيهم من أدرك إشارة كوميس إلى يوليان صاحب سبتة وما وراء ذلك التعريض والتلميح، ولكنهم ظلوا صامتين.
أما الملك فاشتد غضبه وأحس بما رماه كوميس من السهام الحادة، وأدرك خطورة مركزه، كما أدرك أنه في حاجة إلى قائد الجند أكثر من حاجته إلى سائر رجال الدولة، ولكن عظم عليه الإغضاء بعد مبادأته بالجفاء، فقال له: «لم يكن من حقك يا حضرة الكونت أن تخاطبني بمثل هذا الكلام، بل كان الأجدر بك أن تتفاهم معي بأسلوب آخر.»
فقال القائد: «إن الملك لم يترك لنا سبيلا للتفاهم معه، وقد جعل هذا القس لسان حاله والمتكلم عنه، والكل يعلمون أن هذا وأمثاله لا يصلحون لغير العبادة، وقد جعلهم الملك شركاءه في مهام المملكة. ولو أخلصوا له النصيحة لما بلغت بنا الحال إلى هذا الحد.»
ولا يخفى أن مثل هذا التصريح في ذلك العصر، وبخاصة في طليطلة، كان يعد ضربا من الكفر لما علمناه من سطوة الأكليروس هناك، ولولا تغلب الحدة على ذلك القائد ما صرح بما صرح به، ففتح بهذه الجسارة بابا يؤاخذه منه رودريك ويتغلب عليه بحجته؛ فحول وجهة الكلام إلى الدفاع عن الأساقفة، وقد أراد بذلك أن يخفي خطأه، فقال: «ألم تكتف بالجسارة على مقام الملك حتى تجاسرت على مقام الأساقفة؟ إن ذلك خارج عن حدود منصبك.»
وكان الأب مرتين يرتعد من شدة الغضب، فلما رأى الملك لا يزال على ثباته تدخل وخاطب كوميس قائلا: «ولا أظنك تجهل يا حضرة الكونت أن كلمة من جلالة الملك أو من أحد الأساقفة تكفي لتجريدك من هذا المنصب.»
ولم يكن كوميس يتوقع هذا الاستخفاف من الملك نفسه، فكيف به من ذلك القس؟ فوقف ويده على قبضة سيفه وقال: «لقد خسرتم بهذا الكلام سيف كوميس وأنتم في أشد الحاجة إليه.» وخرج وقد أخذ منه الغضب مأخذا عظيما.
أما رودريك فقد كان يجادل هذا القائد مدافعة، ولم يكن يريد أن يغضبه في هذا المقام؛ ولذلك فإن عبارة مرتين ساءت الملك أكثر مما أساءت إلى كوميس. ولم يجسر أحد من الحضور على التوسط في الأمر لئلا يشتد الخصام وقد وقع ما كانوا يخشونه ثم وقف الملك فعلموا أنه يريد فض الجلسة فخرجوا إلا مرتين. فلما انفردا التفت الملك إليه وقال: «أهكذا أغضبت قائدنا وصاحب جندنا ونحن في أشد الحاجة إليه؟»
قال: «أتلومني أيها الملك لأنني نهرته بعد أن أهانك وأهان السادة الأساقفة جميعا؟ إن الصبر على ذلك ذل لا يطاق.»
فقال الملك: «أنت تعلم أن كوميس أعظم قوادنا، ولم نكن في وقت من الأوقات أشد حاجة إليه مما نحن الآن، والعدو ببابنا وولاتنا يدلونه على نواحي الضعف عندنا، سامحك الله على هذا الخطأ. ألا يكفي ارتكابنا الخطأ الأول بإخفاء تلك الأخبار عنه وعن سائر رجال الدولة حتى نرتكب خطأ آخر شرا منه؟»
فاستاء الأب مرتين من هذا التعريض وقال: «كأنك تقول إني أنا سبب ذلك الخطأ، فإذا كنت قد أشرت عليك بمشورة فاسدة، فقد كان الأجدر بك ألا تقبلها.» قال ذلك ومشى في وسط القاعة ويده اليسرى وراء ظهره، والأخرى يمسح بها ما تناثر من اللعاب على شفتيه ولحيته.
فشق ذلك على الملك وعدها إهانة أخرى وقال: «أتكون مخطئا وتضيع منا أحسن قوادنا ثم تنقم علينا وتستخف بأقوالنا ويكون الذنب مع ذلك ذنبنا؟»
فأجابه مرتين وهو يهز رأسه ويمشي دون أن يلتفت إليه: «صدقت أيها الملك، إن الذنب ذنبي، والخطأ كله خطئي، وكل هذه الشرور من نتائج أعمالي؛ لأني لو لم أسئ إلى بنت صاحب سبتة ما حاول والدها أن يكون عونا للعرب على فتح بلادي.» ثم وقف بغتة وحول وجهه إليه، وقد اشتد غيظه وارتعدت أطرافه وزاد لسانه تلعثما وتمتمة وقال: «أتخطئ يا رودريك ثم تلصق الخطأ بشيبتي، ثم إذا أهين الأساقفة كان الدفاع عنهم لا يعنيك وهم الذين ولوك هذا المنصب ونصروك وعضدوك؟ ألم يكونوا هم الذين دافعوا عنك بالأمس وسط المجمع واتهموا رجلا بريئا بتهمة لا أساس لها؟ ثم تقول إني كنت سببا في خسارة ذلك القائد، وأنت إنما خسرته بسوء تدبيرك وانهماكك فيما لا ينفعك. وبسوء تدبيرك أيضا خسرت الأب مرتين الذي لم يكن ينبغي أن تنسى تعبه في مصلحتك ودفاعه عنك.» قال ذلك والتف بردائه وخرج من القصر.
فلما خرج مرتين ظل رودريك وحده وقد خلا بنفسه وتصور عظم الخطر المحدق به، فجلس على كرسيه وألقى رأسه على كفيه وراجع ما مر به من الأحداث في الأشهر الأخيرة، وتذكر فلورندا ووالدها، فتحقق لديه أن يوليان إنما انحاز إلى العرب غضبا لها، فاشتد حنقه وتراكمت عليه الهواجس وعظم عليه الأمر، ولا سيما بعد أن فقد قائده وأساء إلى قسه فتشاءم من هذين الحادثين.
سرجيوس وأوباس
واتفق وصول الرئيس سرجيوس ثاني يوم الخصام، فنزل في الكنيسة الكبرى على جاري عادة الأساقفة ورؤساء الأديرة إذا جاءوا طليطلة، فلقي هناك الأب مرتين وعهده به في قصر الملك، فسلما وتخاطبا مليا في شئون مختلفة، والرئيس يستطلع ما في نفس مرتين. وكان الأب مرتين على كبر سنه حاد المزاج سريع التأثر متسرعا فيما يخطر له كما تبين لك من وصف أخلاقه، فلم يخف عن سرجيوس شيئا مما وقع بالأمس له وللكونت كوميس. وحملته حدة مزاجه وتسرعه على الإيقاع برودريك والتنديد بفساد رأيه كأنه من ألد أعدائه، وهو انقلاب غريب لا يحدث إلا عند أصحاب المزاج العصبي أو الدموي الحاد.
أما سرجيوس فقد جاء طليطلة وهو لا يتوقع سبيلا إلى مقابلة أوباس أو إنقاذه، فلما لقي مرتين هان عليه ذلك، فذكر أوباس بين يديه وزعم أنه سمع بسجنه. فلما سمع مرتين اسم أوباس تذكر ما كان من اعتدائهم عليه وأنه سجن ظلما، أو على الأقل أسيء إليه بتهمة لم تثبت عليه. ونظرا لغضبه على رودريك رأى في انتصاره لأوباس ما يشفي بعض غليله انتقاما من ذلك الملك، فقال لسرجيوس: «إن أخانا أوباس سجن لتهمة اتهمه بها رودريك، وقد حوكم فلم تثبت عليه التهمة فأجلت المحاكمة وسجن إلى أجل غير مسمى ريثما تعاد محاكمته، ولكن يظهر أن الملك لن يطلب العود إليها.»
فقال سرجيوس: «وهل تظن أنه يظفر بالبراءة إذا استأنفوا محاكمته؟»
فقال مرتين: «لا ريب عندي في ذلك.»
قال: «ولماذا لم يطلب الاستئناف؟»
فابتسم مرتين وهز رأسه وهو يقول: «وكيف يطلب ذلك وهو محجور عليه في غرفة لا يرى فيها أحدا؛ لأن رودريك منع الناس من الدخول إليه.»
فقال سرجيوس: «وهل من سبيل إلى رؤيته بغير إذن الملك؟»
فقال مرتين وهو يبتسم: «إن ذلك هين علي. فهل ترى أن نحرض أخانا المذكور على طلب الرجوع إلى المحاكمة؟» لم يقل ذلك رغبة في نصرة أوباس ولكنه توهم أن رودريك يضطر لاسترضائه كجاري عادته كلما أغضبه؛ ولذلك فإنه لما خرج من حضرته بالأمس كان يتوقع ألا تغيب الشمس قبل أن يبعث إليه ليسترضيه، فلما أصبح الصباح ولم يأته من قبله أحد اشتد حنقه، فلما خاطبه سرجيوس بشأن أوباس أراد أن يستنهضه لاستئناف المحاكمة، لاعتقاده أن رودريك يخاف ذلك الطلب ولا سيما بعد ما ظهر من غضب يوليان وكوميس، وعندئذ لا يرى له مندوحة عن استرضاء مرتين لتدارك الأمر. وليس في ذلك من مصلحة لأوباس لأنهم لو رضوا بإعادة المحاكمة لاقتضى أن يجمعوا الأساقفة من أقطار المملكة كلها، ولا يتأتى اجتماعهم إلا بعد أسابيع.
أما سرجيوس فاستبشر بما سمعه وقال: «إذا أدخلتني إليه نبهت ذهنه إلى ذلك.»
فنهض مرتين للحال وأتى بدواة وقلم وكتب رقعة إلى الضابط الموكل بحراسة أوباس أن يأذن للرئيس سرجيوس بمقابلته، فأخذ سرجيوس الرقعة وهو لا يصدق أنه فاز بها وسار مسرعا إلى أوباس.
أما أوباس فكان لا يزال في سجنه وقد قطعوا كل علاقة بينه وبين سائر العالم، وقد تلقى ذلك بصدر رحب، فهو يغالب المصائب بالصبر، ولم يكن يشعر بوحشة الانفراد لما في ذهنه من المسائل التي لا يستطاع التأمل فيها إلا بالاعتزال عن الناس. ولم يكن يعد نفسه مسجونا لاعتقاده ببراءة ساحته، ولكنه كان يأسف لضعف الطبيعة البشرية؛ لأنها علة متاعب بني الإنسان، وبخاصة إذا كانت في الرؤساء وأولي الأمر؛ لأن غلطة أحدهم تجر الويل إلى المئات والألوف من الأبرياء. وكان إذا فكر فيما سجن من أجله أشفق على رودريك وأمثاله لما هم فيه من الغرور وما يرتكبونه من الجرائم والمعاصي التماسا للذة وقتية أو سعيا في وهم زائل. فكانت هذه التأملات وأمثالها من غرائب ما يجري في الطبيعة تستغرق منه الساعات والأيام، وهو سابح في عالم الفلسفة، يحسب نفسه في نعيم وسائر الناس في شقاء، لولا ما كان يعترض تأملاته من أمر فلورندا وألفونس. على أنه وكل أمرهما إلى الله؛ إذ لا حيلة له في مساعدتهما أو في معرفة السبيل إليهما.
فلما كان اليوم الذي جاءه فيه سرجيوس، دخل عليه حارسه وقال له: «إن رئيس دير الجبل يريد مقابلتك.» فلما سمع اسم ذلك الرجل عرفه وخفق قلبه خفقان المفاجأة لطول عهده بالاعتزال، وأذن له وهو يستغرب مجيئه وحصوله على الإذن في الدخول عليه.
وكان سرجيوس يتوقع أن يرى تغييرا في ملامح أوباس بعد ما سمعه من طول حبسه. فلما دخل عليه رآه مقبلا لاستقباله بثوبه الكهنوتي؛ لأنه لم يبدله منذ أقام هناك، إلا قلنسوته فلم يكن يلبسها. فمشى إلى سرجيوس وشعره مرسل على ظهره وكتفيه، وقد زادته إقامته في تلك الخلوة هيبة وجلالا.
فلما تلاقت الأبصار أسرع سرجيوس وأكب على يد أوباس كأنه يريد تقبيلها فمنعه من ذلك، وعانقه وضمه إليه ثم تصافحا وسرجيوس لا يستطيع إمساك دموعه، وأوباس ينظر إليه ويده على كتفيه لطول قامته بالنسبة إليه. ثم دعاه للجلوس، فجلسا على مقعد متحاذيين وسرجيوس يتأهب للكلام فسبقه أوباس قائلا: «أهلا بصديقي وأخي سرجيوس، من أين أتيت الآن ولماذا؟»
قال: «أتيت من دير الجبل ولا غرض لي إلا رؤية الميتروبوليت أوباس فأحمد الله على سلامته. ولا بأس عليه مما قاساه من البلاء، فإن الله يجرب عباده الصالحين.»
فقال أوباس: «أنت من أهل العلم والحكمة وتحسب حبسي في هذه الغرفة بلاء، أليس الناس جميعا محبوسين على هذه الأرض، وآجالهم قصيرة، وقواهم محدودة، وأعمالهم لا ترضي ضمائرهم؟ وهل من فرج إلا في العالم الباقي لمن أحسن عملا وكان من الصالحين؟ وأما أهل الظلم منهم فإنهم يشقون في الدنيا والآخرة، فلا حاجة للإشفاق على سجين بريء نقي السريرة، فإن سجنه وإن طال قصير، ولكن ابك أناسا منحهم الله السلطة على إخوانهم من بني الإنسان ليحكموا بينهم بالعدل ويكونوا عونا لهم على دنياهم، فظلموهم وأساءوا إليهم وأهرقوا دماء الألوف منهم في سبيل لقمة يأكلونها أو جيفة ينغمسون فيها، ولكنهم إنما يظلمون أنفسهم ولا يعلمون.» قال ذلك بصوت هادئ لا يتخلله اضطراب ولا حدة ولا شيء من عواقب الانفعال النفسي.
فلا تسل عن إعجاب سرجيوس بما سمعه من الحكمة والموعظة، على أنه أراد أن يؤدي المهمة التي جاء من أجلها فقال: «لقد صدق مولاي. ولكن الله كثيرا ما يعاقب الظالمين ويثيب المحسنين، وهم في هذه الدنيا عبرة لسواهم. وقد أتيتك الآن بأخبار جديدة لا ريب أنك مشتاق للاطلاع عليها؛ ألا تريد الاطلاع على ما كان من أمر فلورندا بعد فرارها من بين يدي رودريك؟»
فلما سمع اسمها تحركت فيه عاطفة الحنان وبدأ الاهتمام في وجهه ونسي ما كان من فلسفته واستخفافه بحوادث الطبيعة. والإنسان مهما يكن من تعقله وزهده لا يلبث إذا تحركت فيه عاطفة الحب أن يهتم بالحياة وأهلها. ولولا الحب لانحلت عرى المجتمع البشري كما ينحل نظام الكون وتتبعثر الأجرام السماوية إذا فقدت الجاذبية العامة. وأوباس أحب فلورندا من أجل ألفونس وزاد حبه لها وعطفه عليها بعد ما أصابها من الضنك وكان إنقاذها على يده، والمرء يزداد تعلقا بالصغير كلما زاد ضعفه. فلما سمع أوباس اسم فلورندا هبت عواطفه من رقادها وإن لم يبد ذلك على محياه إلا قليلا وقال: «وهل تعلم شيئا عنها؟ وأين هي الآن؟»
قال سرجيوس: «هي في دير الجبل.»
فقال أوباس: «وكيف وصلت إلى هناك؟»
فقص عليه ما علمه من خبرها منذ خروجها من قصر رودريك في طليطلة حتى جاءت إلى الدير، إلى أن قال: «وهي مقيمة عندنا في أمان وسكينة، ولكنها في قلق شديد عليك وعلى ألفونس لأنها لا تعرف مقره، وهي - لو عرفته - لا تستطيع الذهاب إليه لما أقامه رودريك من العيون والأرصاد في سبيلها.»
فاطمأن بال أوباس على فلورندا، ولكن ساءه تضييق رودريك عليها فقال: «ألا يزال هذا الرجل يتعقب هذه الفتاة ويضيق عليها؟»
فابتسم سرجيوس وقال: «ولكنه لا يلبث أن يقع هو في الضيق ويفرج عن الناس ولا سيما حضرة الميتروبوليت.» ورأى أوباس في عيني سرجيوس ما يدل على أمور مهمة يريد التصريح بها فأبدى الاهتمام وقال: «وكيف ذلك؟»
المروءة ومعرفة الواجب
فمد سرجيوس يده إلى جيبه وأخرج كتاب يوليان وهو لا يزال في أنبوبته وقال: «ولما خرجت فلورندا من طليطلة كما قدمت لسيادتكم كتبت إلى أبيها كتابا تشكو فيه ما حل بها من الشقاء في قصر رودريك وما أراده منها، وبعثت بالكتاب مع أجيلا فجاءها جواب حاسم لما نحن فيه، وهذا هو.» ودفع الأنبوبة إليه، فتناولها أوباس وسحب منها الكتاب ملفوفا، وفضه وقرأه وأعاد قراءته، وسرجيوس ينظر إلى ما يبدو من آثار ذلك على وجهه فلم ير تغييرا يذكر، فلم يستغرب ذلك لأنه علامة من علامات رباطة الجأش وسعة الصدر. ولكنه توقع أن يسمع ما يدله على ذلك الأثر فإذا هو يقول: «هل زادكم أجيلا إيضاحا؟»
قال سرجيوس: «نعم، إنه رأى جند العرب ينزلون على شواطئ إسبانيا ويوليان معهم يدلهم على عورات البلاد.»
قال أوباس: «وهل علم رودريك بذلك؟»
قال سرجيوس: «نعم، جاءته الأخبار منذ أيام، فلم يعبأ بها ولا أطلع أهل مجلسه عليها، فآل ذلك إلى زيادة الخرق اتساعا، وبات رودريك في أشد الضيق وأصبح خروج الملك من يده أمرا محتوما.»
فقال أوباس: «وما سبب هذا الانقلاب؟»
قال: «لأن الكونت كوميس قائد الجند العام علم بنزول العرب إلى شواطئ إسبانيا من أناس أتوا إلى طليطلة من هناك، وثبت لديه أن رودريك أخفى ذلك الخبر عنه، فعاتبه في مجلس حضره كبار الموظفين فآلت المعاتبة إلى المنافرة، فخرج كوميس من الجلسة غاضبا من رودريك ومن قسه مرتين. وبعد انفضاض المجلس عاتب رودريك القس مرتين فتخاصما، وخرج مرتين وأقام في الكنيسة الكبرى، وهناك لقيته وفهمت منه أنه ناقم على رودريك، وساعدني - من أجل ذلك - في الوصول إليك برقعة كتبها إلى الحارس. ويرى الأب مرتين أنك لو طلبت استئناف النظر في قضيتك فلا ريب في خروجك بريئا، وعلى كل حال فإن الله قد رد كيد الظالمين في نحورهم، وهذا رودريك الذي كان بالأمس يستبد في رجل مثل أوباس أصبح وقد هجره قائد جنده وأخص أخصائه، وبات سخرية بين الناس. ألا ترى أن ذلك من تدبير العزيز الحكيم؟»
وكان سرجيوس يتكلم ويتفرس في وجه أوباس ليتبين ما يبدو عليه، وأوباس مطرق يمشط لحيته بأنامله وهو مستغرق في الأفكار، وقد قطب حاجبيه وبان الاهتمام في عينيه. فلما فرغ سرجيوس من الكلام رفع أوباس بصره إليه وهو لا يزال مستغرقا في الأفكار وجعل يحدق ببصره في وجه سرجيوس كأنه يستطلع ما في نفسه، فلم يستطع سرجيوس احتمال أشعة تينك العينين أو الصبر على التحديق فيهما وكأنهما منفذ للسيال الكهربائي المتولد في الدماغ من أعمال الفكر، فكلما زاد الدماغ عملا زاد ذلك السيال قوة. وظل كلاهما صامتا بضع دقائق، ثم تكلم أوباس قائلا: «أتستحسن الانتقام من رودريك في هذه الفرصة؟»
قال: «وهل تتوقع فرصة أثمن منها؟ إنه في أشد الضيق، أعداؤه يهددونه وأصدقاؤه يتوعدونه.»
فنهض أوباس وجعل يخطر في أرض الغرفة ذهابا وإيابا، وأنامله في لحيته يمشطها وشعر رأسه يجلل كتفيه، وقد زاده ذلك السكوت وقارا وهيبة وسرجيوس ينظر إليه ولا يتكلم. ثم وقف أوباس بغتة أمام سرجيوس، فنهض هذا وأصغى لما سيقوله أوباس فإذا هو يقول: «أمن المروءة يا سرجيوس أن نغتنم ضعف عدونا ونحمل عليه وهو في أشد الضنك؟ وهل من الحكمة والتعقل أن نساعد الغريب على القريب؟ إن رودريك مهما قيل فيه فهو منا ونحن منه، نشرب من ماء واحد، ونقرأ في كتاب واحد، ونتكلم لسانا واحدا، ونصلي صلاة واحدة، ونتناول القربان المقدس من كأس واحدة، ونجتمع في كنيسة واحدة، فكيف نغتنم ساعة ضعفه ونعين عليه أناسا لا نحن منهم ولا هم منا، ولا دينهم من ديننا ولا وطنهم وطننا؟ وزد على ذلك أن الانتقام من رودريك في هذه الفرصة يجر البلاء على كل بلاد الإسبان، إذ نخرجها من حضن دولة ربتها وعاشرتها إلى دولة جديدة لا نعرف شيئا عنها، ولا ندري ما يصير إليه أمر هذه البلاد إذا فتحها أولئك العرب، ألم يسفك أجدادنا دماءهم في فتح هذه الجزيرة واستغلالها؟ فيكف نسلم بذهابها هدرا؟ أما ما في أنفسنا من إنكار حق رودريك في الملك فإنما هو من قبيل ما يحدث من التنازع بين الأخ وأخيه أو الأب وابنه، فلا يجوز أن يستعين أحدنا على الآخر بأمة غريبة جنسا ومذهبا ووطنا. وأما ما ارتكبه رودريك من الشطط في الإساءة إلي فيكفيه من ضميره ما يعذبه، والله يتولى أمره، فنحن يا سرجيوس في موقف يقتضي أن ننبذ فيه الضغائن ونتحد على العدو المهاجم رغبة في سلامة المملكة، ويجب أن نغضي عما أساء به أحدنا إلى الآخر، وها أنا أبدأ بنفسي فأذهب إلى رودريك وأستحثه على الاتحاد في سبيل الوطن.» قال ذلك ومشى إلى رف كانت قلنسوته عليه فوضعها على رأسه، وهم بالخروج وقد ظهر التأثر في وجهه ونسي أنه في سجن ولا سبيل إلى خروجه إلا بإذن الملك.
وكان سرجيوس في أثناء ذلك الخطاب يتصاغر في عيني نفسه، فما أتى أوباس على آخر أقواله حتى اعتقد سرجيوس أنه من أحقر الناس وأن أوباس من طينة أسمى من طينة البشر، فأكب عليه وضمه إلى صدره وقبل لحيته وعارضيه، وقال له: «بورك فيك من بشر. وما أنت بشر إنما أنت ملك كريم، لقد حقرتني في عيني وجعلتني مرذولا عند نفسي، فأنا تابع لك فيما تصنعه عامل بما تأمر به.»
وكان أوباس في أثناء ذلك يلبس قلنسوته ويصلح شعره تحتها ثم مشى نحو الباب، وما إن أدركه حتى انتبه إلى أنه لا يستطيع الخروج بغير إذن الملك، فتراجع وقد خجل لذهاب ذلك من ذهنه، وتناول لوحا من ألواح الكتابة (مكسوا بالشمع) فكتب عليه ما يأتي:
من أوباس الميتروبوليت إلى رودريك ملك طليطلة
أكتب إليك من سجني لا لرحمة أرجوها ولا لنكبة أخافها، ولكنني علمت بمصيبة تهدد المملكة، فأردت أن أكون شريكا في دفعها وأن أضع رأسي بين رءوس جندها، ولي كلام أحب أن ألقيه على مسامعك، فمر حارس سجني أن يحملني إليك، والسلام.
وخرج فدفع الكتاب إلى الحارس وأمره أن يوصله إلى الملك وعاد إلى مجلسه، فحمل الضابط الكتاب وسار.
وكان رودريك قد أصبح في حيرة من أمره بعد أن هجره قائد جنده، فلا هو يستطيع أن يتنازل لاسترضائه ولا ذاك يعود إليه من تلقاء نفسه، ولو كان الأب مرتين عنده لاستعان به في فض هذا الخلاف، فقضى معظم اليوم في غرفته وإذا بخادمه الخاص يحمل إليه كتاب أوباس، فتلاه وهو لا يصدق أنه يقرأه، فأعاد قراءته غير مرة. ولما فرغ من ذلك أمر أن يكتب باستقدام أوباس وخرج لانتظاره في قاعة المجلس.
وبعد هنيهة دخل أوباس بقدم ثابتة وجأش رابط، فلبث رودريك صامتا ساكنا ليرى ما يبدو منه، فبدأ أوباس بالكلام قائلا: «لا تخف أيها الملك، إني لم آتك لعتاب أو توبيخ، إنما جئت لأمر يتعلق بمصلحة المملكة. جئت على أثر ما بلغني من نزول العرب في شواطئها وعزمهم على فتحها، وأن قائد جندك أغضب نفسه وأغضبك واغتنم ساعة حاجتك إليه وهجرك ... وهو ضعف شبيه بضعف يوليان صاحب سبتة، فإنهما غضبا من أحد رجال القوط، فعمدا إلى الانتقام من المملكة كلها ومن نفسيهما لأنهما من أفرادها ... على أن خطأهما لا يبرئ الملك من الخطأ الذي اقترفه مما لا نخوض فيه الآن.» قال ذلك بسكينة ورزانة، والجد باد في وجهه، فاستغرب رودريك ما سمعه وارتاب في إخلاصه لأنه لا يستطيع أن يتصور مثل هذه الخصال لبعدها عن خصاله هو، كما يستبعد الشهم الوفي وجود أناس يكافئون على الحسنة بالأذى، فأراد أن يتبين حقيقة ما يريد أوباس فقال: «وما الذي تراه؟»
قال: «لقد أحسنت في اقتصارك على الموضوع الذي نحن فيه، فالذي أراه أن نبعث إلى الكونت كوميس وإلى الأب مرتين، فإذا حضرا أوبخهما وأحرضهما على الرجوع إليك والعمل معك على إنقاذ هذه المملكة من غارة المهاجمين.»
فأمر رودريك أحد الحرس أن يذهب في استقدامهما حالا، فسار الرجل وأشار رودريك إلى أوباس بالجلوس وهو لا يصدق أنه يقول ما يقوله عن إخلاص وحمية. وظل صامتا يخشى أن تبدو منه بادرة يلام عليها؛ لأن أوباس بهره بمروءته وجسارته.
وأما أوباس فجلس ولم يعبأ بمن في حضرته، وبعد قليل عاد الرسول وأنبأ الملك بقرب مجيئهما. ثم أقبل كوميس فحيا باحترام وجلس بإشارة الملك، وقد استغرب وجود أوباس هناك، ثم جاء مرتين فبدا عليه الانفعال حين وقع بصره على أوباس. أما أوباس فالتفت إلى رودريك واستأذنه في الكلام فأذن له، فوجه كلامه إلى كوميس قائلا: «قد بلغني يا حضرة الكونت أنك خرجت بالأمس من مجلس الملك غاضبا، فكيف حالك الآن؟»
فقال: «لم أغضب من جلالة الملك إلا غيرة على المملكة ، ولكنني لم أبلغ منزلي وأخل بنفسي حتى رأيتني قد تعجلت في الأمر؛ لأننا في حالة تدعو إلى الاتحاد لدفع الأعداء.»
ولم يتم كلامه حتى ابتدره أوباس قائلا: «يا لك من شهم صادق! ذلك رجائي فيك لعلمي بحدة مزاجك، وحاد المزاج سريع الرجوع إلى الصواب.» ثم التفت إلى مرتين وكان جالسا مطرقا، وقال: «ولا أظن الأب مرتين إلا فاعلا مثل ذلك أيضا.» فظل مرتين مطرقا ولم يجب، فالتفت أوباس إلى رودريك وقال: «لا ريب عندي في رغبة قداسة الأب في الوفاق والوئام ونبذ البغضاء عملا بوصية السيد المسيح؛ ولذلك فإننا لا نطيل الكلام في هذا الشأن بل نبادر إلى العمل، فيأمر جلالة الملك بعقد المجلس من كبار رجال الدولة للنظر في الوسائل اللازمة.»
فرفع مرتين رأسه عند ذلك ووجه خطابه إلى الملك قائلا: «كيف تبرمون مثل هذا الأمر قبل عرضه على مجمع الأساقفة، وجلالة الملك يعلم أن قوانين المملكة تقضي بذلك.»
الإقرار على الحرب
ولم تكن تلك القوانين تخفى على أوباس، ولكنه أراد السرعة لأن جمع الأساقفة يستغرق بضعة أسابيع. على أنه خاف إن أنكر جمعهم أن يفسد مرتين ما أصلحه، فعذر الرجل على تعنته، فقال: «لم أطلب إبرام شيء دون رأي المجمع ولكنني أردت اجتماع مجلس الملك للبحث فيما يعرضونه على المجمع.» وقد فاته أن مرتين إنما أراد عرض ذلك على المجمع ليشكو إليه خروج أوباس من السجن؛ لأنه اغتاظ من جلوسه في حضرة الملك، وزاد غيظه أن رآه جالسا مجلس المشير أو الخطيب.
فاستحسن رودريك عقد مجلسه فبعث إليهم، وهم الكونتات الذين تقدم ذكرهم، فحضروا. وقبل عقد الجلسة طلب الكونت كوميس أن تتبع في عقدها نصوص القوانين الرسمية، وهي تقضي بإخراج مرتين منها؛ لأنه ليس من رجال الدولة، فخرج وهو يكاد يتميز غيظا.
فلما التأمت الجلسة، وقف أوباس ورفع يده وبارك وصلى صلاة حارة شفعها بالتوسل إلى الله تعالى أن يجمع قلوب القوط ليتحدوا على حماية بلادهم، ثم خاطب الحضور قائلا: «أنتم تعلمون الإساءة التي لحقت بي من جلالة الملك ومن مجلس الأساقفة حتى سجنوني سجن المجرمين شهرين كاملين، لم أر فيهما غير حراس. حكموا علي بذلك لغير ذنب اقترفته، أو على الأقل إني أعتقد ببراءة ساحتي من كل ذنب، ومع ذلك فحين علمت بما يهدد المملكة من الأخطار استأذنت في مقابلة الملك، وعرضت نفسي للعمل في جملة العاملين على إنقاذها، فبالأحرى يجب أن تكون رغبتكم في ذلك صادقة قوية، ولا سيما وأنتم رجال الدولة ومدبرو شئونها. إنني لا أنبهكم إلى أمر تعلمونه، ولكنني أبث لكم عواطفي في هذا الشأن، وأنا أصغر العاملين في هذا السبيل.»
فقال الكونت كوميس: «إن شهامة أوباس ومروءته وتعقله أشهر من أن تذكر، ولكننا لم نكن نحسب في البشر مثل هذه العواطف. فكيف نرى ما سبقنا به هو ولا نتفانى نحن في خدمة الملك؟ ولكنني لا أرى تأجيل العمل حتى يجتمع الأساقفة لئلا يضيع الوقت بلا طائل.»
فقال أوباس: «ولكن لا بد من استشارتهم في مثل هذا الأمر، وهم - كما لا يخفى - أصحاب الفضل الأكبر في تنظيم هذه الحكومة ووضع قوانينها وأحكامها وتدبير شئونها.»
فقال رودريك: «لا يمكننا اتخاذ قرار نهائي في التجنيد والحرب إلا بعد مشورتهم.»
فقال كوميس: «لا بأس من استشارتهم، ولكن الوقت قصير والفرصة ثمينة.»
فخشي أوباس أن يحتد كوميس فيذهب سعيه هدرا، وتذكر أن مرتين خرج من الجلسة حاقدا، وخشي - إذا لم يسترضوه - أن ينقلب عليهم ويحرض الأساقفة على الملك، فتنقسم المملكة على نفسها فتكون المصيبة الثانية شرا من الأولى، فعمد إلى تلافي ذلك فقال لكوميس: «أراك ضيقت الفرصة ودققت في الطلب؛ فالأساقفة - كما قلت - لا بأس من استشارتهم، بل أرى احترامهم واجبا لأنهم هم واضعو أساس هذه النظم، فضلا عما قد يترتب على نصائحهم من الفوائد، وزد على ذلك أن الاتحاد يقضي علينا باستشارتهم؛ لأن غضبهم يفضي إلى الشقاق لا محالة. ولا يخفى عليك أيضا ما يترتب على ذلك من عدم تحقيق الهدف الذي تسل سيفك وتشحذ قريحتك في سبيله. فرجائي لك أن تتلافى هذا الخطر، ولا شك عندي أنك ستتلافاه، فألتمس أن تبدأ بذلك من هنا (وأشار إلى باب القاعة حيث خرج مرتين)؛ لأن حضرة الأب إذا رضي هان الأمر.» ثم وجه كلامه إلى رودريك قائلا: «هل يأذن مولاي باستقدام الأب مرتين ليحضر هذه الجلسة ونجعل له حظا من هذا البحث؟»
وكان كلام أوباس نافذا بلا مراجعة لأنه بهرهم بما أوتي من الحمية والمروءة، فضلا عما فطر عليه من قوة العارضة؛ فأمر رودريك للحال باستقدام مرتين، وكان منفردا في إحدى غرف القصر. فلما دخل، وقف أوباس وبش له، وقال: «ليس فينا يا حضرة الأب من يجهل حق سيادة الأساقفة في شئون مملكة القوط، ولكن ولدنا الكونت كوميس رجل حرب يحب المبادرة، وغيرته على حماية هذه الدولة حملته على التسرع. وهو مصيب بالنظر إلى قوانين الحرب، ولكنني أصوب رأي حضرة الأب بالنظر إلى وجوب استشارة الأساقفة. على أني أخشى أن يتسبب ذلك في التأخير، فتفوت الفرصة ويذهب سعينا هباء. ولا أظن أن السادة الأساقفة إذا اجتمعوا واستشيروا يشيرون بغير المبادرة إلى الحرب، بل أحسبهم يلوموننا على تأخير التجنيد إلى اجتماعهم. فالذي أراه - والأمر لجلالة الملك - أن نبدأ بالتأهب للحرب ومخابرة الأطراف في حشد القوات والأموال، ونبعث إلى الأساقفة فنجمعهم ونتلو عليهم قرار هذا المجلس، أو نبعث إليهم بخلاصة أعمالنا وهم في أبرشياتهم؛ لأننا أحوج ما نكون إليهم الآن وهم هناك، وإذا أذن لي الملك قلت كلمة في هذا الشأن، والرأي راجع إليه على كل حال، وذلك أني أرى أن ينتدب قداسة الأب مرتين لينوب عن جلالته في تبليغ الأساقفة قرار هذه الجلسة، وإذا رأيتم أني أليق لهذه الخدمة قدمت نفسي لها، أو كما تشاءون.»
فلما فرغ أوباس من الكلام، لم ير مرتين سبيلا للرد عليه لعلمه أن أمر المجلس نافذ لا محالة، وقد أعجبه رأي أوباس بانتدابه للاتصال بالأساقفة ليتمكن من بث ما في نفسه إليهم، لكنه أساء الظن في ذلك الانتداب، وظن أن أوباس يريد إبعاده عن مجلس الملك أو أن يفر هو من سجنه لغرض له، وكلا الأمرين لم يرضه، فلم ير خيرا من الرضوخ لقرار المجلس، فعمد إلى المغالطة فقال، وهو يحاول كظم غيظه من تغلب أوباس على رأيه: «لا أظن حضرة الملك يسيء الظن بقصدي إذا التمست جمع الأساقفة، فإنه طلب قانوني. وأما الحرب فإنها كما قال أخي الميتروبوليت تدعو إلى العجلة، وللملك أن يبلغ الأساقفة بالطريقة التي يختارها. وأما أنا فإني أعد تلك المهمة شرفا لي، ولكنها تبعث على التطويل لما يقتضيه ذلك من الانتقال من أبرشية إلى أخرى، وكذلك انتداب حضرة الميتروبوليت، فالأنسب أن ينتدب جلالة الملك من يشاء من حاشيته ويرسلهم جميعا دفعة واحدة فيصل الخبر إلى السادة الأساقفة في وقت واحد.»
ولم يجهل أوباس ما ينطوي تحت تلك الملاينة من الكظم والحقد، ولكنه تجاهل ذلك رغبة في النتيجة، وأغضى عن كل سيئة في سبيل الوصول إليها، فأبدى استحسانه لموافقة مرتين، والتفت إلى رودريك وهو يبتسم وقال: «لقد تم الاتفاق بعون الله، فما على جلالة الملك إلا أن يتعاون مع مجلسه في التأهب للحرب ونحن في كل حالة خدم المملكة المطيعون.»
فلم يسع الملك بعد ما شاهده من مساعي أوباس في نصرته إلا أن يحترمه ويتصاغر في عيني نفسه فقال له: «بورك فيك يا أوباس.» فقطع أوباس كلامه خوفا من إثارة حسد مرتين، وحجته في قطعه أنه لا يريد أن يسمع المديح يكال له، ثم وقف وطلب إلى الملك أن يأذن له في الانصراف إلى سجنه، فقال رودريك: «امكث معنا يا أوباس فإنك نعم المشير، ودع السجون لأهلها.»
فقال أوباس: «أشكرك على ذلك، ولكنني أستأذن في الانصراف من هذه الجلسة على أن أعود بعد قليل.»
فأذن له فخرج أوباس وقد حمد الله على نجاح مسعاه فلقيه سرجيوس فقص عليه ما كان، فازداد إعجابا بتلك الصفات النبيلة، وتداولا في شئون كثيرة وعاد سرجيوس بعد بضعة أيام إلى الدير.
وكانت فلورندا تنتظر رجوعه بفارغ الصبر، فلما عاد وقص عليها ما فعله أوباس إلى آخر الحديث، أحست بانقباض في نفسها لاعتبارها ذلك مخالفا لما كانت تتوقعه من سقوط هذه الدولة على يد والدها، وما تخافه على نفسها وعليه إذا لم يفز العرب في هذه الحرب؛ فوقعت في حيرة ولكنها لم تستطع تخطئة أوباس لأن نواميس الشرف والمروءة تؤيده وتنصره، ولولا ضعف المرأة وإيثارها الانتقام لما تخيرت فلورندا غير ما أراده أوباس، ولكنها لم تكن ترى سبيلا إلى السعادة إلا بقتل رودريك ولا سيما بعد أن جاهر والدها بعدائه، فانتصار رودريك يعود بالويل والثبور عليهما. وسألت الرئيس عن ألفونس فأخبرها أنه في أستجة مع فرقة من الجند ينتظر أوامر رودريك؛ فتاقت نفسها للذهاب إليه لعلمها أنه لو كان عالما بمقامها لسعى إليها أو بعث في استقدامها، ولكنها خافت العيون والأرصاد، واستشارت الرئيس في ذلك مرة فقال لها: «امكثي عندنا ريثما نرى ماذا يكون من أمر هذه الحرب.»
السفر
قضت فلورندا في ذلك الدير بقية فصل الشتاء وكل فصل الربيع وهي تتنسم الأخبار بواسطة أجيلا وشانتيلا والرئيس، فلم تسمع إلا بانتصارات العرب ووالدها معهم، وقد دخلوا إسبانيا وأوغلوا في مقاطعة بوتيكة. وكان رودريك قد أعد جنده وتأهب للخروج معهم، فسمعت أنه برح طليطلة بنفسه ومعه العدة والرجال، واضطربت إسبانيا كلها وفيها الخائف والشامت والآسف والناقم لاختلاف الأحزاب وتضارب الأغراض كما علمت.
أما أهل دير الجبل فقد كانوا يسمعون الأخبار وهم يرون الخطر بعيدا عنهم لبعدهم عن ساحة القتال، وفلورندا قد تراكمت عليها الهواجس والمخاوف على أبيها وخطيبها، وهي لا تدري هل تسير إلى أحدهما أو كليهما، أو تبقى في الدير. وكانت ترجح بقاءها هناك راجية أن يبعث والدها فيستقدمها كما قال. فلما أقبل الصيف أصبح دير الجبل عليل النسيم، عذب الماء، نشيط الهواء وقد اكتست أوديته حلة خضراء.
ففي يوم من أيام يوليو أفاقت فلورندا باكرا وهمت بالخروج من الدير للتجول في بساتينه على جاري العادة، وقبل أن تخرج جاءها أجيلا يدعوها إلى الرئيس، وقد مضت مدة لم يدعها إليه، فاختلج قلبها وأسرعت حتى أقبلت على غرفته فرأت عنده كهلا لا تدل سحنته على أنه من القوط أو من الرومان، ورأت عليه ملابس تذكرت أنها كانت ترى مثلها وهي عند والدها في سبتة، ولما دنت من الرجل رأت آثار السفر على وجهه بما غطى لحيته وشاربه من الغبار حتى حاجبيه وأهدابه فإن الغبار غلب على لونها جميعا، فتوسمت فلورندا من ذلك القادم خبرا جديدا، فدخلت وحيت فرحب بها الرئيس وقال: «هذا رسول من أبيك.»
فلما سمعت ذلك خفق قلبها وتوردت وجنتاها بغتة والتفتت إلى الرجل وقالت: «ما وراءك؟»
قال: «إني من أصدقاء أبيك ومحبيه والمطلعين على أسراره، وقد علمت بكتابك إليه وما ترتب على ذلك كله من الانقلاب الذي سيعود على رأس ... ألا تعرفينني يا فلورندا؟»
فلما سمعت فلورندا صوته وتأملت ملامحه تذكرت أنها شاهدته غير مرة في صباها، وأنه كان كثير التردد على بيت والدها في سبتة، فاستبطأها الرجل وقال: «ألا تعرفين سليمان التاجر؟»
فانتبهت للحال وقالت: «أنت سليمان؟ نعم أعرفك جيدا، وكنت تتردد وتحمل إلينا الهدايا والأحمال وتبتاع لنا الآنية والثياب. هل أنت آت من عند والدي؟ وأين هو الآن؟»
قال: «هو مع جند العرب على مقربة من وادي ليتة.»
قال ذلك واستأذنها بعينيه هل يقول كل شيء في حضرة الرئيس، فأجابته بالإشارة أن يفعل، فقال: «وقد أوغلوا في بوتيكة ولم يلقوا معارضة إلا قليلا، وقد عدهم أهل البلاد رحمة، ولا يلبثون أن يتملكوا البلاد كلها.»
فبغت الرئيس وقال: «وماذا جرى لجند الإسبان؟»
قال: «لم يلتق العرب برودريك بعد، ولكننا سمعنا بخروجه من طليطلة بجند كثير، وسيعود خاسرا فأبشرا.»
فظهرت البغتة على وجه الرئيس وقال: «هل تعتقد ذلك؟ وكيف تكون حالنا إذا صح قولك؟»
قال: «تكون على أي حال أحسن مما أنتم فيه الآن؛ لأن العرب إذا فتحوا بلدا قلما يتعرضون لأهلها في شيء غير ما يفرضونه عليهم من الجزية أو الخراج، وأما الرهبان وجماعة الأكليروس فإنهم معفون من كل ضريبة، يقيمون في ديارهم سالمين آمنين. ذلك ما شاهدناه بأعيننا في البلاد التي فتحوها في مصر والشام.»
فأطرق الرئيس وسكت، فقالت فلورندا: «وما الذي جئت من أجله الآن؟»
قال: «كلفني مولاي الكونت والدك أن آتي كي أزورك، وإذا أردت الذهاب إليه سرت في خدمتك.»
فانبسطت نفس فلورندا لذلك وقالت: «ألا تخاف علينا بأسا في أثناء الطريق؟»
قال: «لا بأس علينا من أهل إسبانيا ونحن منهم، ولا من الملك وهو في شغل من نفسه وجنده.»
فالتفتت فلورندا إلى الرئيس كأنها تستطلع رأيه فقال: «إذا لم يكن بد من ذهابك فهذه فرصة لا تضيعيها، ونحن ندعو لك بالوصول إلى والدك سالمة.»
فعادت فلورندا إلى خالتها واستشارتها فأشارت عليها بالذهاب، وتأهبوا في الغد وسافروا ودليلهم سليمان ومعه أجيلا وشانتيلا، وأما فلورندا فطلبت إلى سليمان أن يجعل طريقهم بأستجة.
فساروا أياما لا يمنع مسيرهم نوء ولا مطر، والأرض كلها مكسوة بالأشجار والأعشاب، والطقس جميل، حتى أطلوا على أستجة فخفق قلب فلورندا عند مشاهدة تلك المدينة، وكانوا قد أشرفوا عليها من مرتفع، فرأت كنيستها فتبركت بها عن بعد وجعلت تناجي نفسها عن مقر ألفونس فلم تجد بدا من سؤال سليمان، فقالت له: «إذا أنفذ رودريك جندا إلى مدينة مثل أستجة فأين يقيم؟»
فقال لها: «أظنك تبحثين عن مقام الأمير ألفونس؟»
فبغتت فلورندا وقالت: «نعم، وكيف عرفت ذلك؟»
قال: «عرفته منذ بضعة أشهر؛ إذ جئت إلى هذه المدينة وبلغني قدوم الأمير وجنده، وكانوا يقيمون في هذه القلعة قرب الجسر. هل أبحث عنه هناك؟»
فاستأنست به فلورندا وقالت: «افعل يرحمك الله، وأتنا بالخبر.»
فتركهم وتحول بأسرع من لمح البصر، وترجلت فلورندا وخالتها ولبثوا جميعا ينتظرون الخبر وفلورندا تهنئ نفسها بلقاء ألفونس، وكلما تصورت أنها لقيته يختلج فؤادها، وهي لا تزال تذكره كما شاهدته المرة الأخيرة في حديقة القصر في طليطلة وعليه ملابس الشتاء والفرو والمنطقة، وقد خرج من الحديقة مسرعا مبغوتا عند سماعه الصفير، تلك آخر صورة ارتسمت له في ذهنها. ولم يطل زمن اضطرابها وهواجسها لأن سليمان عاد سريعا، فلما رأته مقبلا شخصت إليه ببصرها، وقد منعها الحياء من مبادرته بالسؤال قبل وصوله، فلما وصل ابتدرها قائلا: «لم أجد أحدا في القلعة.»
قالت: «أتظنهم لم ينزلوا فيها؟»
قال : «لا ريب عندي أنهم كانوا فيها، وقد سألت أحد حراس القلعة فأخبرني أن رودريك بعث إلى مولاي الأمير ألفونس أن يوافيه إلى وادي ليتة بمن معه من الجند لملاقاة العرب.»
فبغتت فلورندا، وأطرقت وهي تتجلد وتمسك عواطفها أمام ذلك الرجل، ولكنها أصبحت قلقة البال على ألفونس؛ لأنه ذهب إلى ساحة الحرب وهو في جانب وأبوها في الجانب الآخر، فإذا فاز الواحد غلب الآخر، وكلاهما عزيزان. وربما لم يفت سليمان ما مر بخاطرها من هذا القبيل فقال لها: «أظننا نلاقي الأمير ألفونس في الطريق إذا أسرعنا، وإلا فإننا نلاقيه في وادي ليتة، فإذا وصلنا إلى هناك بحثت عنه وأتيتك بما تريدينه.»
فاطمأنت فلورندا بذلك الوعد، وأشارت إلى الركب بالمسير، فركبوا وساروا حتى تواروا عن أستجة وقطعوا نهرها، وما زالوا سائرين جنوبا وهم يمرون بالكروم والبساتين، وكلما اقتربوا من وادي ليتة قل الناس العاملون في الحقول.
وأقبلوا في صباح اليوم التالي على طريق، رأوا فيها جماعة من أهل القرى يهرعون كأنهم يفرون من عدو يتعقبهم، فقالت فلورندا في نفسها: «يظهر أننا على مقربة من معسكر العرب أو أن العرب قادمون.» ثم التفتت إلى سليمان فإذا هو ينظر إلى الأفق ويتفرس كأنه يرى شيئا غريبا، فنظرت، فرأت غبارا يتصاعد، فرجح لديها قدوم العرب، فخفق قلبها، وقالت لسليمان: «يظهر أن العرب قريبون منا، أليس أبي معهم؟»
فقال: «لا أظن أن القادمين عرب؛ لأنهم سائرون من الشمال إلى الجنوب.» ثم التفت إلى أحد المارة من الفلاحين، وسأله عن سبب فرارهم، فقال الرجل: «ألا ترى جند الملك قادمين؟ إنهم لم يتركوا أذى إلا ألحقوه بالفقراء أمثالنا، ولا يتركون ثمرا إلا قطعوه، ولا زرعا إلا داسوه، ولو اكتفوا بذلك لهان علينا الأمر، ولكنهم يلحقون الأذى بالناس.» قال ذلك وسار مسرعا في طريقه لئلا يكون مخاطبه من حزب الملك فيقبض عليه.
وكانت فلورندا تسمع كلام الرجل، وتأسف على تلك الحال، وأرادت أن تعلم إذا كان الملك نفسه مع ذلك الجند، فقالت لسليمان: «وهل تظن أن رودريك مع هذا الجند؟»
قال: «أظنه معهم.»
فلما سمعت ذلك تصورت قرب الخطر منها، وسليمان يستشف عواطفها وملامحها، فلما رأى اضطرابها قال لها: «لا تخافي يا مولاتي فإنك في أمان، تعالي نختبئ في مكان ريثما يمر هذا الجند.»
قال ذلك ومشى، فتبعه الجميع حتى دنوا في مكان خرب مهجور فوق تل بعيد عن الطريق، فدخلوه فقالت فلورندا: «أرى أن أتنكر بثوب رجل.» فأعطوها ثوبا من أثوابهم، وأعطوا مثله للخالة العجوز؛ حتى لا يشك من يراهم عن بعد أنهم رجال، ثم اختبئوا في ذلك المكان، وفلورندا شديدة الميل إلى مشاهدة تلك الحملة، فاهتدت إلى شق نظرت منه إلى جهة الغبار، فإذا هي بالبنود قد ظهرت، والفرسان بينها عليهم الملابس الملونة والدروع. ورأت في وسط الحملة بنودا كثيرة قد تجمعت، تحملها فرسان بملابس مرصعة، وفي وسطهم موكب يتلألأ كالشمس، فعلمت أنه موكب رودريك فأصابها الاضطراب، ولم يقترب الموكب من مكانها حتى اصطكت ركبتاها وارتعدت فرائصها، فرسمت إشارة الصليب، فتشجعت وثبتت قدميها، ثم شغلها ما سمعته من قرع الطبول وخفق البنود وصهيل الخيل وقرقعة العجلات وعليها المئونة والذخيرة، وضوضاء الناس وهم يمرون بين يديها. ثم أقبل الموكب ورودريك فيه على سرير بين دابتين بما يشبه الهودج، وفوق رأسه مظلة من الديباج المزركش مرصعة بالدر والجوهر، في مقدمتها صليب مغروس في أحد أعمدتها، ورودريك جالس وعلى رأسه التاج يتلألأ بالحجارة الكريمة، وقد ارتدى وشاحا مزركشا وردي اللون، وتصدر تصدر الملوك على عروشهم، ويده في لحيته وهو يجيل نظره ذات اليمين وذات الشمال، ينظر إلى جنوده وكثرة ما معه من العدة والرجال. وقد جلس معه في ذلك السرير الأب مرتين وهو يخاطبه ويشير بيده ورودريك ينظر إلى الأعلام المحيطة بموكبه ودلائل الإعجاب بادية على وجهه.
فلا تسل عن حال فلورندا لما وقع نظرها على وجه رودريك، وكان سليمان واقفا بجانبها، فلما مر الموكب التفت، فرأى لونها قد أصبح مثل لون التراب، فأراد أن يشغلها عن الخوف فقال: «ما ظنك في عدد هذا الجند يا مولاتي؟»
قالت: «لا أدري ولكنني أراه كثيرا، هل تظن أن جند العرب أكثر منه؟»
قال: «إن العرب لا يزيد عددهم على خمس هؤلاء، وناهيك بما سينضم إلى جند رودريك من الرجال قبل أن يلتقي بالعرب، ولا سيما جند مولاي الأمير ألفونس فإنه سينضم إليه.»
فقالت: «إذن فالعرب في خطر وضعف؟»
قال: «لو كانوا ضعفاء ما استطاعوا دخول هذه البلاد، فإن القوة ليست في الكثرة وإنما هي في الشجاعة. إن العرب يا مولاتي لا يزيد عددهم في هذه الجزيرة على 12 ألفا، ومع ذلك فلم يقف في سبيلهم أحد.»
فقطعت كلامه قائلة: «ولكنهم لم يلاقوا مثل هذا الجند بعد.»
فقال سليمان: «هذا صحيح، ولكنني رأيت من شجاعتهم واتحادهم وصبرهم ما لا أخشى معه عليهم شيئا، ومع ذلك فإن النصر من عند الله يؤتيه من يشاء.» وفي أثناء هذا الحديث مرت بقية الحملة، فمكثوا هناك إلى آخر ذلك اليوم. وخرج سليمان وحده للبحث عن المكان الذي نزل فيه العرب، ثم عاد فأخبر فلورندا بأن العرب قد نزلوا في وادي ليتة قرب مدينة شريش، فقالت له: «وهل عرفت مكان معسكر ألفونس؟»
قال: «هو على مقربة من ذلك المكان.»
فقالت: «وما العمل الآن؟»
قال: «إذا شئت الذهاب توا إلى مولاي الكونت والدك أوصلتك إليه حالا.»
فأصبحت فلورندا في حيرة؛ كيف تسير إلى معسكر العرب قبل أن ترى ألفونس وتدبر طريقة للاجتماع به أو رؤيته، فلبثت صامتة، فأدرك سليمان سبب صمتها، فقال لها: «يظهر أنك تريدين البحث عن الأمير ألفونس قبل كل شيء؟»
قالت: «نعم.»
فقال: «أعرف كرما من كروم شريش لعائلة من أهل هذه البلاد، وفي الكرم بناء مرتفع يطل على سهول شريش كلها، فتقيمين هناك مع خالتك والخادمين، وأمضي أنا للبحث عن ألفونس وآتيك بالخبر اليقين أو أستشير والدك.»
كتاب أوباس
فاستصوبت فلورندا رأيه وشكرته، وساروا حتى أطلوا على مدينة شريش وحولها الكروم، وفي جملتها كرم صاحبنا الشيخ والد بطرس، وهو الذي عناه سليمان، فصعدوا إليه واخترقوه يلتمسون العريش، فلم يجدوا في الكرم أحدا. وكان سليمان لا يمر من هناك إلا ويرى أولاد الشيخ وأحفاده وأحفاد أولاده يسرحون في الكرم، إما للعمل أو للعب، فقال سليمان في نفسه: «إن لهذا سببا ذا بال.» ومشوا حتى وصلوا إلى العريش في أحد أطراف الكرم، وقبل الوصول إليه سمعوا صوتا يناديهم تعودوا سماع مثله من نواطير الكروم، فتقدم سليمان ولم يبال حتى دخلوا العريش، فرأى هناك الشيخ وكل ذريته معا، والقلق باد على وجوههم أجمعين. فلما رأوه مقبلا ذعروا، ونهض له بطرس فقال: «ماذا تريد؟» ولم يتم سؤاله حتى عرفه فقال: «سليمان، مرحبا بسليمان التاجر.» فلما سمع الشيخ اسم الرجل وقف له ورحب به، وكان لذكر اسمه تأثير في سائر أفراد تلك العائلة؛ لأنهم كانوا يسمعون به وبعضهم كان يراه عند قدومه إلى شريش؛ لابتياع الخمر في الموسم، وذهب عنهم بعض الاضطراب لدى رؤيته. وأهل القرى مهما بلغ من ذكائهم واقتدارهم فإنهم يعتقدون بفضل أهل المدن عليهم. فلما رأى سليمان أنهم احتفوا به هذا الاحتفاء بالغ في ملاطفتهم، وتقدم إلى الشيخ فسلم عليه، وسأله عن سبب انزوائهم في ذلك العريش في أثناء النهار والكرم لا يستغني عمن يتعهده، فقال الشيخ: «يظهر أنك لم تعلم بما طرأ علينا.»
قال: «أظنك تعني قدوم العرب؟»
قال: «نعم، ولا ندري ما يئول إليه حالنا بعد هذه الحرب، ورأينا بالأمس جند الملك قد عسكر مقابل جند العرب، ولا تلبث الحرب أن تنشب، وعندنا أطفال لا نستطيع الفرار بهم، وإن استطعنا فما نحن بقادرين على ترك مغارسنا.» قال ذلك وصوته يكان يختنق حنانا على أهله وولده.
فابتسم سليمان وقال: «لا بأس عليكم يا عماه، إني أكفل لكم كل ما يحميكم ويحمي أولادكم من كل شر، ومعي أناس من أهلي سأعهد بهم إليكم كي يقيموا عندكم الليلة، فهل من مكان لهم؟»
قال: «على الرحب والسعة.» وأشار بيده إلى جهة مستودع الخمر في قمة الجبل وقال: «هناك.» وهرول مسرعا ومعه بعض أولاده، حتى أقبلوا على فلورندا ورفاقها، فتناولوا أزمة الخيل وقادوها إلى ذلك المستودع، وكان بعضهم قد سبق إليه ، فكنسه وغسله ونظفه، فصعدت فلورندا على سلم المستودع وهي لا تزال بملابس الرجال، وصعدت خالتها وخادماها ثم سليمان، وظل أولاد الشيخ أسفل المكان ينتظرون أمرا لخدمته، فنزل سليمان فدفع إليهم قطعا من الذهب، وطلب إليهم أن يأتوهم بالطعام، وأظهر السخاء، فازداد أولئك الغلمان رغبة في خدمته.
أما فلورندا فلما صعدت إلى ذلك المستودع أطلت من بعض نوافذه، فرأت تحت ذلك الكرم وإلى شرقيه سهلا واسعا على مدى البصر يخترقه نهر على ضفتيه الأشجار والأعشاب، وفي أحد طرفي السهل إلى يمينها خيام على نمط لم تتعود مثله، وفي وسطها خيمة كبيرة حمراء اللون أمامها علم كبير. وأمام الخيام الأخرى أعلام أصغر منه، ورأت وراء تلك المضارب خياما منفصلة عنها وفيها الدواب وبينها الجمال، وهي لم ترها منذ زمان طويل؛ فعلمت أنها ترى معسكر العرب فتنسمت ريح والدها من هناك، وكان سليمان قد فرغ من صرف أولاد الشيخ وصعد، فلما رأته قالت: «أليس هذا معسكر العرب؟»
قال: «بلى يا مولاتي، والخيمة التي ترينها في وسط المعسكر هي خيمة الأمير طارق بن زياد، ومولاي الكونت يوليان والدك يقيم فيها معه.»
قالت: «وما تلك المضارب البعيدة؟»
قال: «هي أخبية النساء ومراتع الماشية؛ لأن العرب إذا ساروا إلى الحرب أخذوا معهم نساءهم وأولادهم وماشيتهم ويجعلونهم وراءهم، فإذا ضعفوا في الحرب وحدثتهم أنفسهم بالرجوع أو الفرار لقيهم أهلهم فيعودون وقد تشددوا وتحمسوا.»
فحولت نظرها إلى السهل من جهة اليسار، فرأت هناك خياما أخرى عرفت أنها مضارب الإسبان، وفيها خيمة رودريك وخيمة ألفونس. أما فسطاط رودريك فعرفته من كبره ومما فوقه من الأعلام والبنود وما أمامه من الخدم والأعوان، وإن كانوا لا يظهرون - إلا قليلا - لبعد المسافة. وأما خيمة ألفونس فلم تستطع معرفتها لتشابه خيام القواد وهم كثيرون، فأشارت إلى خيمة رودريك وقالت: «أليست هذه هي خيمة الملك؟»
قال: «بلى، وأظنك تريدين معرفة خيمة الأمير ألفونس، إنه لا سبيل إلى معرفتها إلا بالبحث، وقد عقدت النية على أن أبحث عن ذلك بنفسي لما لوالدك من الفضل علي .»
فشكرت له فضله ثم قالت: «ومتى تذهب للبحث؟»
قال: «في هذه الساعة بعد أن أهيئ لك ما تحتاجين إليه من الطعام، ولا بأس عليك هنا ومعك خالتك والشابان وهما نشيطان.»
قالت: «ومتى تعود إلينا؟»
قال: «أما الرجوع فلا يمكن تحديده، وسأبذل الجهد في الإسراع.» وبعد أن دبر كل شيء ودعهم ونزل وقد دنت الشمس من المغيب.
وكان سليمان كثير الاختلاط بالإسبان، يجيد لغتهم فضلا عن لغة القوط، فإذا كلم أحدا بإحدى اللغتين ظنوه من أهلها، هذا إلى أنه كان يعرف العربية والبربرية. ونظن أن القارئ أدرك مما تقدم أنه هو الرجل الذي جاء إلى الجمعية اليهودية في أستجة منذ بضعة أشهر وألفونس فيها وأنبأهم بما عزم عليه يوليان.
فلما فارق فلورندا عاد إلى الطريق التي جاء منها ونزل إلى معسكر الإسبان من الخلف؛ لئلا يشك أحد في قدومه من بعض القرى أو المدن، وما زال يتجسس وهو لا يتوقع أن يرى ألفونس هناك، فطال تجسسه ولم يعثر عليه، فسأل بعض العارفين، فدلوه عليه، فإذا هو في الطرف وراء معسكر رودريك، فجعل همه البحث عن يعقوب وعنده كل الأسرار. وكانت الشمس قد غابت قبل وصوله إلى المعسكر، فزعم أنه مار من هناك عرضا والجند في شغل عنه بالتأهب للحرب. ولما دنا من خيمة ألفونس وجد ببابها بعض الحراس، ولم ير يعقوب بينهم فمر من وراء الخيمة، وتظاهر أنه شرق بريقه، وتنحنح نحنحة خاصة ما لبث أن سمع جوابا عليها من الداخل، فعلم أن يعقوب هناك وأنه فطن له، فظل ماشيا في طريقه، ولم يمش قليلا حتى سمع نحنحة دلته على مكان يعقوب، والتقيا فسلما بعبارات خاصة يتعارفون بها، ثم قال سليمان: «أراكم لا تزالون هنا، ألم تنجح في إقناعه؟»
قال يعقوب: «كدت أنجح لولا أوباس وكتابه.»
فقال سليمان: «وأي أوباس تعني؟»
قال يعقوب: «الميتروبوليت أوباس عم ألفونس.»
قال سليمان: «ألم يكن ألفونس هو رجاؤنا في النجاة من هذه الدولة؟»
قال يعقوب: «بلى، هو بعينه ، وقد أطلعتكم على ما دبرناه منذ بضعة أشهر، ورأيتم ألفونس نفسه في تلك الجلسة يوم أريناه الدنانير في ذلك التابوت.»
فقال سليمان: «وقد رأيت من ألفونس اتحادا معنا على هذا الأمر، فما الذي حدث بعد ذلك؟»
فقال يعقوب: «خرجنا من تلك الجلسة وكله اقتناع بنجاح مشروعنا، وقد أفهمته أن العرب إذا أخذوا البلاد أبقوا له كل أمواله وأعادوا الحكم إليه، وأن في فوزهم على رودريك سعادته، وأما إذا فاز رودريك فالعاقبة تكون على رأسه ورأس عمه وسائر أهله. وأخبرته بأن سقوط رودريك يتوقف على أمر واحد لا يقدر عليه أحد سواه، وذلك بأن ينضم هو ومن معه إلى جانب العرب يوم المعركة الأولى، فاقتنع وتعاهدنا على ذلك.»
فقال سليمان: «ثم ماذا؟»
فمد يعقوب يده إلى جيبه وأخرج لوحا مشمعا - من ألواح الكتابة عندهم في ذلك العصر - ودفعه إلى سليمان، وقال: «وفيما نحن مطمئنون بذلك جاءه هذا الكتاب من عمه أوباس.»
فتناول سليمان اللوح ونظر إليه، فلم يستطع قراءته لشدة الظلام، فابتدره يعقوب قائلا: «لا تتعب نفسك في قراءته فإني قد حفظته حرفا حرفا؛ لكثرة ما قرأته وأعدت قراءته، من شدة غيظي من أوباس، مع فرط إعجابي به، وها أنا أتلو عليك نص الكتاب كما هو، فأصغ إلي.» ثم قال:
من الميتروبوليت أوباس إلى الابن المحبوب ولدنا ألفونس
أما بعد فقد بلغني ما ارتكبه ولدنا الكونت يوليان من الخطأ في حملته على رودريك بجند العرب، ولا أظنه فعل ذلك إلا انتقاما لابنته، وكأني بك لما بلغك الخبر سررت به لأنه يشفي ما في نفسك، فأخشى أن يسوقك الغضب البشري إلى ما ساق إليه ولدنا المذكور فتوافقه على ما يضيع هذه المملكة ويبيد هذه الدولة، فتهدمون في يوم واحد ما بناه أجدادكم في أجيال، وتدور الدوائر علينا وعليكم جميعا، فإذا كان قد خطر ببالك شيء من ذلك فانزعه عنك فإنه من حبائل الشيطان، واتحد مع ملك القوط للدفاع عن مملكة القوط. وأما ما بيننا وبين رودريك من التباغض فإننا نتنازع عليه بعد الفراغ من محاربة الغرباء، فرجائي أن تصغي إلى نصحي ولا تقبل قول سواي، والسلام.
فلما سمع سليمان نص الكتاب قال: «والله إنه قول رجل عاقل، ولكنه إذا عمل به فالضربة تعود علينا نحن اليهود، ولا سيما إذا فاز رودريك وسأل بعض الأسرى وعلم بجمعياتنا ودسائسنا ومساعينا ضده، والذي أراه من قلة جند العرب مع بسالتهم وصبرهم أن ألفونس إذا لم ينضم إليهم فالكفة راجحة في جانب رودريك، والعياذ بالله.»
فقال يعقوب: «ذلك هو اعتقادي ولكنني قد استنفدت الحيل في سبيل إقناعه، وأنت تعلم يا سليمان كم بذلت من الوقت والسعي من أيام غيطشة لإنقاذ شعب الله من هذا الجور، فتركت منصبي وتنازلت عن أموالي، وتظاهرت بالنصرانية وجعلت نفسي خادما أهيئ الطعام وأخدم على المائدة. صبرت على ذلك أعواما حتى إذا بدا لي أن الفرج قد أقبل، أتانا أوباس باعتراضاته بعد أن كان أكبر نصير لنا، بل هو المحرك الأعظم لمشروعنا.»
فقال سليمان: «أما أوباس فإنه يحمد على هذا العمل بالنظر إلى العدل والحق، فهو لا يريد أن تخرج هذه المملكة من يد بني وطنه ودينه ولغته، ولا يريد أن يسلمها إلى أناس غرباء عنه دينا ووطنا ولغة. أما نحن فيهمنا إخراجها من هؤلاء القوط على الإجمال؛ لأن المسلمين خير لنا منهم، لما شاهدته من معاملتهم لليهود والنصارى في الشام ومصر، فإنهم يطلقون لهم الحرية، فيقوم كل منهم بطقوس ديانته كما يشاء، على أن يدفع مالا قليلا يسمونه الجزية، وزد على ذلك أننا أقرب نسبا للعرب؛ لأننا وإياهم من جد واحد هو إبراهيم كما تعلم، فهم يرفقون بنا بنوع خاص، فيجدر بنا، والحالة هذه، أن نكون عونا لهم في استيلائهم على هذه البلاد، نفعل ذلك سعيا لمصلحتنا، ولا يهمنا كلام أوباس ولا غيره.»
فقال يعقوب: «هذا هو الأمر الذي نتمناه، ولا سبيل إليه إلا بانحياز ألفونس إلى العرب؛ لأن ذلك يقلل من جند رودريك ويضعف من عزيمته، ولا يخفى عليك أن معظم رجال هذه الحملة يحاربون مع رودريك رياء وهم لا يحبونه، فإذا رأوا ابن ملكهم ينحاز إلى العدو هموا بأن يتبعوه أو أن يتقاعدوا عن الدفاع على الأقل.» قال ذلك ويده في لحيته يلاعب طرفيها بأنامله وشعرها لا يزال ملبدا بالأوساخ. وسكت هنيهة وسليمان ساكت، ثم قال يعقوب: «فالخلاصة أننا إن لم نستطع إغراء ألفونس على الخروج إلى معسكر العرب ذهبت مساعينا وأرواحنا وأموالنا أدراج الرياح، والسلام.»
فقال سليمان: «هذا هو الصواب، ولو كان يتحقق هذا الأمل بالمال لهان علينا أمره، ولكن الرشوة لا دخل لها في هذا المشروع؛ إذ لا نستطيع أن نرشو ألفونس ولا أوباس، وإذا رشونا أحدا من رجاله فإنه لن يستطيع التغلب على رأيه، وأنت أقرب الناس إليه ولم تستطع شيئا مع كثرة دهائك ومكرك.» قال ذلك وابتسم.
فأجابه يعقوب: «دعنا من المجون فإننا في معرض جد وخطر، والوقت قد سبقنا.»
قال سليمان: «ومتى ينوي رودريك القتال؟»
قال: «سمعت أنه ينوي مهاجمة العرب غدا.»
فبغت سليمان وقال: «غدا! لقد سبقنا الوقت وفاتتنا الفرصة، ألا تستطيع تأجيل الهجوم يوما أو يومين؟»
فقال يعقوب: «لا أظنني أستطيع ذلك، وما الفائدة من التأجيل؟»
قال سليمان: «سأسعى في طريق أظنني أبلغ منه المراد.»
فقال يعقوب: «وما هو؟»
قال سليمان: «لا أقول لك إلا بعد قليل، فأسعفني أنت بتأخير المعركة يوما أو يومين.»
فقال: «لا أظن أنني أستطيع ذلك يا سليمان؛ لأن رودريك يرى أن يسرع في الهجوم على العرب قبل أن تأتيهم نجدة فيقوى ساعدهم، أشار عليه بذلك أوباس.»
فقطع سليمان كلامه قائلا: «سبحان الله! ما أوباس هذا؟ كيف انقلب هذا الرجل من الشيء إلى ضده؟»
فقال يعقوب: «إذا كانت عندك حيلة فهاتها قبل فوات الوقت.»
قال: «إني ذاهب الساعة، وسأعود إليه غدا صباحا بالأمر الذي دبرته، فإذا وفقت إلى سبيل لتأخير المعركة فافعل. أستودعك الله.» قال ذلك وهم بالرجوع من حيث أتى ويعقوب واقف ينظر إليه حتى توارى عنه، فتحول إلى خيمة ألفونس وقد مضى هزيع من الليل.
الحيلة
أما سليمان فإنه سافر توا إلى معسكر العرب والليل حالك حتى وصل إلى خيمة يوليان، فلم يعترضه أحد لأنه كان يعرف كلمة السر عندهم، وكان يوليان قد أوى إلى خيمته للنوم، وقلما كان يستطيعه لما تراكم في مخيلته من المشاغل القديمة والحديثة، فلما وصل سليمان كان يوليان جالسا في الفراش، وقد زاده الأرق انقباضا، ولو رآه سليمان على نور المصباح لرأى السويداء مرسومة في وجهه بخطوط واضحة، وبخاصة بعد أن رأى جنود رودريك بالأمس، فقد هاله ما رآه من كثرتها واستعدادها، وجند العرب لا يزيد على خمسها، فخشي أن يغلبهم القوط وتعود العاقبة عليه وعلى ابنته وسائر أهله، وكلما تصور ذلك اقشعر بدنه.
وبينما هو في ذلك إذ قيل له: «سليمان بالباب.» فأذن له بالدخول، فلما دخل حياه، فابتدره يوليان بالسؤال: «أين فلورندا؟»
قال: «هي بخير وستأتي في صباح الغد أو بعد الفراغ من المعركة.» وأخبره بالمكان الذي تقيم فيه وطمأنه.
فقال يوليان: «وما الذي حملك على المجيء الآن؟»
قال سليمان: «حملني عليه أمر ذو بال لا أظنه قد غاب عن بصيرة مولاي.»
فقال يوليان: «ما في بصيرتي شيء الآن غير جنود رودريك، فإني استكثرتها وخشيت على جند العرب منها، وإذا غلب العرب عادوا ولا يهمهم شيء، وتقع المصيبة على رءوسنا ورءوس أهلنا وكل من قال بقولنا.»
قال: «ذلك ما جئتك من أجله، ولكن اعلم يا مولاي أن الأمر على خطورته يتوقف حله على أمر هين.» وقص عليه حال ألفونس وما دار بينه وبين يعقوب بشأنه إلى أن قال: «وقد جئت الآن ألتمس منك كتابا إلى ألفونس تدعوه فيه إلى التسليم وتضمن له أمواله وضياعه وضياع أهله أجمعين، وتحرضه فيه على إغاظة رودريك مما لا يخفى عليك، وأعطني الكتاب فأبعثه إليه بطريقة أختارها.»
فأطرق يوليان هنيهة ثم قال: «عد إلي في الصباح فأعطيك ذلك الكتاب.»
قال: «سمعا وطاعة.» وخرج يلتمس مستودع الخمر، وكانت فلورندا في انتظاره على مثل الجمر، تتقاذفها الهواجس، وتترامى بها الأوهام، لم تغمض عيناها إلا قليلا، وكيف تنام وحبيبها قريب منها وهي لا تستطيع الوصول إليه؟
وأمر ما لاقيت من ألم الجوى
قرب الحبيب وما إليه وصول
مضى معظم الليل وهي في هذه الهواجس، وكلما هب النسيم وسمعت حفيف أوراق الأشجار توهمت سليمان قادما، وكان شوقها يوحي إليها بأنه سيأتي وألفونس معه. وبينما هي في ذلك إذ سمعت وقع خطوات وخشخشة الأعشاب اليابسة بقرب المستودع، فأصاخت بسمعها، وقد أسرعت دقات قلبها واشتدت حتى كادت تسمعها بأذنها، فإذا بالخطوات تقترب، ثم سمعت همسا، فوقفت ودنت من النافذة وأطلت، فرأت سليمان يخاطب أجيلا، ثم صعد سليمان على السلم، ففتحت له فلورندا واستقبلته وهي تقول: «ما وراءك يا سليمان؟»
قال: «ما ورائي إلا الخير.» وكانت نغمة صوته تدل على شيء في نفسه، فاضطربت فلورندا وابتدرته قائلة: «يظهر أنك تضمر شيئا، قل لي ما الخبر.» فاستيقظت خالتها على هذا الصوت، فجلست وهي تمسح عينيها بأطراف أناملها وقالت: «ما الخبر يا سليمان؟ هل رأيت الأمير ألفونس؟»
قال: «كلا يا مولاتي.»
فلما سمعت فلورندا ذلك انشغل خاطرها وقالت: «وأين هو إذن؟»
قال: «هو في هذا المعسكر.»
قالت: «وكيف عدت من هناك ولم تره؟ قل. أفصح.»
قال: «لأن رؤيتي إياه لا تفيدني ولا تفيدك شيئا.»
قالت: «وكيف ذلك؟»
قال: «لأنه في حال لا تساعده على سماع كلام أحد غير عمه أوباس وهو يأمره أن يتفانى في سبيل رودريك.»
فلما سمعت ذلك تصاعد الدم إلى وجهها واقشعر بدنها، وصمتت برهة ثم قالت - وهي تبتسم استخفافا بما قاله سليمان ووثوقا بانصياع ألفونس لقولها دون سائر العالمين: «أظنه يسمع قولي، ولكن ما الذي يهمنا من هذا السماع الآن؟ وما علاقة ذلك بتوقفك عن مقابلته؟»
قال: «إن لذلك علاقة كبرى بحياتك وحياة مولاي الكونت يوليان، وحياة كل قوطي ينتمي إلى غيطشة، وكل من لا يرضى أن يعيش ذليلا بين يدي رودريك.»
فقالت: «وما معنى ذلك؟»
فوضح لها الحقائق باختصار إلى أن قال: «اعلمي يا مولاتي أن بقاءك وبقاء والدك وبقاء الأمير ألفونس نفسه يتوقف على انتصار العرب وخذلان رودريك، وذلك معلق بإرادة ألفونس، فإذا غادر معسكر رودريك وانضم إلى العرب هو ومن معه انخذل رودريك لا محالة، وخلصت البلاد من شره، ولكن يظهر أنه مطيع لعمه، وهذا يطلب إليه أن يناضل مع رودريك، فإذا أطاعه كانت العاقبة وبالا علينا جميعا، والعياذ بالله.»
فأعظمت فلورندا أمر ألفونس، ولكنها ظلت ترجو أن ينصاع لقولها، فعزمت على أن تكتب إليه كتابا شديد اللهجة تستجمع فيه كل عبارات التحريض والتوبيخ والاستعطاف، فقالت لسليمان: «سأكتب إليه كتابا فهل تحمله إليه؟»
قال: «نعم يا مولاتي، إني رهين هذه الخدمة.»
قالت: «إذا أصبحت فتعال، فأدفع إليك الكتاب فتحمله إليه، وأرجو أن يكون نافذا بعون الله.»
فاستبشر سليمان بذلك ومضى، وكان الفجر قد دنا، فتوسد حصيرا في عريش صاحب الكرم التماسا للراحة، فغمضت عيناه، ولم يستيقظ إلا على أصوات الطبول والأبواق، فنهض وقد أجفل وأطل على المعسكرين، فرأى معسكر القوط يموج بالرجال، وقد أخذوا يصطفون للقتال وأمامهم الرايات والأعلام، وفي وسطهم موكب الملك رودريك بمظلته وسريره وفرسانه وأعوانه. والتفت سليمان إلى معسكر العرب فإذا هم في حركة كأنهم يهمون بالدفاع، فأسقط في يده وتشاءم من ذلك اليوم، وقال في نفسه: «فاتت الفرصة.» وقد زاد من تشاؤمه ما شاهده من الفرق العظيم بين عدد جند القوط وجند العرب، ومقدار ما عند القوط من العدة والخيل والمئونة، فوثب من مكانه وثوب النمر وأسرع منحدرا نحو معسكر العرب ليأخذ كتاب يوليان إلى ألفونس، فوصل إلى المعسكر وهو يلهث من التعب، فرأى المسلمين - وأكثرهم من البربر - وقد اصطفوا للحرب، وعلى رءوسهم العمائم البيضاء، تقيهم حر الشمس، وتتلقى عن رءوسهم مواضي السيوف وحداد السهام كأنها درع للرأس، وفيهم حملة الرماح وحملة الحراب ونقلة القسي العربية. وأما الفرسان فقد كانت عليهم دروع من الزرد وعلى رءوسهم الخوذات، لا يظهر من وجوههم غير الحدق، وفي مقدمتهم فرسان يحملون الرايات وعليها الآيات. ولم يصل إلى الخيام حتى سمع أصوات التكبير والتهليل، وما فيهم إلا من قرأ الفاتحة، والتفت سليمان في وجوه الناس فلم ير بينهم من يبالي بما سيلاقي في تلك المعركة من خير أو شر. وانصرف سليمان بذلك المنظر مدة عن يوليان، ثم تذكر ما جاء به، فانخرط في صفوف الجند وهو يتطلع ويتشوق، فلم يجد يوليان، فسأل عنه بعض الوقوف، فقالوا له: «إنه ركب في أثر طارق يستحثان الجند على الثبات.» ولم يكد يتدبر ما سمعه حتى رأى فرسانا قادمين من بعض أطراف المعسكر يتقدمهم فارس عليه درع سليمانية، وعلى رأسه عمامة كبيرة وليس على وجهه درع، فظهرت سماته وبانت ملامحه.
فنظر إليه فإذا هو طارق بن زياد قائد ذلك الجند، وكان سليمان قد رآه غير مرة وعرف هيبته، ولكنه لم يره من قبل مثلما رآه في تلك الساعة، فخيل له وهو ينظر إليه أنه جبل على فرس، وقد أزاح عمامته إلى ما وراء جبينه، فبان من تحتها جبين عريض، تحته حاجبان غليظان، تحتهما عينان قد احمر بياضهما من الجهد، وله شفتان غليظتان، وشعر لحيته شديد السواد إلا شعرات قليلة بيضاء. وكان العرق يتصبب من جبينه إلى لحيته وهو لا يبالي بمسحه، ولا يتلفت إلى شيء أو يتفرس في رجل، ولكنه كان ينظر إلى الجند إجمالا كأنهم رجل واحد. وقد أمسك عنان جواده بيساره، واستل حسامه بيمينه، وقد حسر عنها كمه، فبان زنده أسمر شديد السمرة. ولم يكن جواده أقل حماسة منه، بل كان يستوقفه طارق فلا يقف إلا وهو يتحفز للجري، وقد بلل العرق صدره ورأسه، وتصبب عن خديه حتى اختلط بزبد شدقيه، وكان لونه كلون الليل الحالك.
فتهيب سليمان من منظر ذلك البربري الهائل، ورأى بجانب طارق فارسا يختلف عنه لونا وسحنة ويشبهه حماسة وإقداما وبسالة، ولكنه أصغر منه سنا وأكبر نفسا، فتنحى سليمان جانبا ريثما يمر طارق ورفاقه لعله يرى يوليان بينهم فيخلو إليه ويطلب منه الكتاب، فإذا بطارق قد وقف وتحول بوجهه نحو الصفوف الواقفة بين يديه، ورفع يمناه والسيف مسلول في قبضته، فأدرك الناس أنه يهم بالكلام فأصغوا، فإذا هو يقول - بعد حمد الله والثناء عليه، وحث المسلمين على الجهاد وترغيبهم فيه: «أيها الناس، أين المفر؟ البحر من ورائكم، والعدو أمامكم، وليس لكم والله إلا الصدق والصبر.
واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام، وقد استقبلكم عدوكم بجيشه وأسلحته، وأقواته موفورة وأنتم لا وزر لكم إلا سيوفكم، ولا أقوات لكم إلا ما تستخلصونه من أيدي عدوكم، وإن امتدت بكم الأيام على افتقاركم ولم تنجزوا لكم أمرا ذهبت ريحكم، وتعوضت القلوب من رعبها منكم الجرأة عليكم، فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم بمناجزة هذا الطاغية، فقد ألقت به إليكم مدينته الحصينة، وإن انتهاز الفرصة فيه لممكن إن سمحتم لأنفسكم بالموت.
وإني لم أحذركم أمرا أنا عنه بنجوة، ولأحملنكم على خطة أرخص متاع فيها النفوس، أبدأ بنفسي. واعلموا أنكم إن صبرتم على الأشق قليلا استمتعتم بالأرفه الألذ طويلا، فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي، فما حظكم فيه بأوفى من حظي. وقد بلغكم ما أنشأت هذه الجزيرة من الحور الحسان من بنات اليونان، الرافلات في الدر والمرجان، والحلل المنسوجة بالعقيان، المقصورات في قصور الملوك ذوي التيجان، وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين من الأبطال عربانا، ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهارا وأختانا؛ ثقة منه بارتياحكم للطعان، واستماحكم بمجالدة الأبطال والفرسان؛ ليكون حظه منكم ثواب الله على إعلاء كلمته وإظهار دينه بهذه الجزيرة، وليكون مغنمها خالصا لكم من دونه ومن دون المؤمنين سواكم، والله تعالى ولي إنجادكم على ما يكون لكم ذكرا في الدارين.
واعلموا أني أول مجيب إلى ما دعوتكم إليه، وأني عند ملتقى الجمعين حامل بنفسي على طاغية القوم لذريق فقاتله إن شاء الله تعالى، فاحملوا معي، فإن هلكت بعده فقد كفيتكم أمره ولم يعوزكم بطل عاقل تسندون أموركم إليه، وإن هلكت قبل وصولي إليه فاخلفوني في عزيمتي هذه، واحملوا بأنفسكم عليه واكتفوا الهم من فتح هذه الجزيرة بقتله فإنهم بعده يخذلون.» وما فرغ طارق حتى تعالت أصوات الناس بالتهليل، وقد تشددت عزائمهم. وشعر سليمان عند سماعه ذلك الكلام بما فيه من بواعث الحماس، ولكنه قلق لضياع الوقت. وأوغل في الناس يسأل عن يوليان، فرآه في جملة الركب مع طارق ، فأسرع إليه، فرآه يوليان، فاستدناه منه، فجاءه، فقال يوليان: «استبطأناك فبعثنا الكتاب مع رسول آخر.»
فانشرح صدر سليمان لعدم ضياع الفرصة، وقفل راجعا إلى الكرم ليأخذ كتاب فلورندا، وكان يعتمد عليه في تغيير تفكير ألفونس؛ لما سيحويه من عبارات مثيرة للعواطف، فوصل إلى المستودع فرأى فلورندا واقفة على السلم والكتاب في يدها، فتناوله ولم يفه بكلمة؛ محافظة على الوقت، وهرول لا يلوي على شيء وهو في قيافة وهيأة لا يشك الذي يراه أنه من رجال رودريك، وكانت الشمس قد تكبدت السماء، وأطلت على معسكر القوط، فانعكست أشعتها عن ملابسهم وبنودهم وخوذهم، ولا سيما عن موكب رودريك، فجعل سليمان طريقه من وراء الجند والناس في شغل لما هم فيه من التأهب، فرأى جند القوط قد ترتب على هيئة كراديس مثل نظام جند الروم. وكان العرب إلى ذلك العهد لا يزالون ينظمون جيوشهم صفوفا متراصة، وكان جند رودريك مؤلفا من ميمنة وميسرة، يقود كلا منهما قائد كبير، أحدهما ألفونس قائد الميسرة، وأما القلب فكان قائده رودريك نفسه ومعه الكونت كوميس، وقد جلس رودريك على سريره وفوق رأسه رواق من ديباج يظلله، وهو في غابة من البنود والأعلام، وبين يديه المقاتلون بالسلاح، وفيهم الفرسان بالثياب المزركشة. وأما ثياب رودريك فقد كانت مرصعة بالدر والياقوت والزبرجد، حتى خفه فإنه كان من الذهب المرصع.
فأعجب سليمان بالفرق بين بساطة العرب وبذخ هؤلاء القوط، وأين جلوس رودريك على ذلك السرير من ركوب طارق على ذلك الجواد؟ على أنه رأى في موكب رودريك رجلا طويلا واقفا على دكة مرتفعة عليه ملابس الكهنوت، وقد رفع يديه نحو السماء وفي إحداهما صليب مرصع، ورفع صوته في الصلاة ليتضرع إلى الله لينصر جند القوط، فعرفه سليمان من طول قامته وقوة عارضته، إنه أوباس، فوقف بالرغم عنه فرآه لما فرغ من الصلاة والتضرع قد أخذ في حث الناس على الصبر والاتحاد، وذكرهم بمجد آبائهم وشدة بطشهم، وكيف فتحوا هذه البلاد بدمائهم.
ولم يقدر سليمان على الصبر هناك، فسار مسرعا حتى وصل إلى مسيرة الجند، وكانت عيناه مضطربتين تبحثان عن يعقوب ليدفع الكتاب إليه، فلم يجده في مصاف الجند، فتحول للتفتيش عنه في الخيمة، فلما وصل إلى الخيمة رأى ببابها رجلا في مثل زي الجند، لكنه لم يكد يتفرس فيه حتى عرف أنه من رجال يوليان، فعلم أنه هو الذي نقل رسالة يوليان إلى ألفونس، فلما وصل إليه قال له - بحيث لا يسمعه أحد سواه: «هل أتيت برسالة يوليان؟» قال: «نعم، وألفونس في هذه الخيمة يتلوها وعنده خادمه.»
مغالبة العواطف
وكان ألفونس منذ أتاه كتاب أوباس وهو يغالب عواطفه ويقدر عواقب تلك الحرب، فلا يرى في ذلك الثبات خيرا، ناهيك بما فيه من الخطر على فلورندا وأبيها، وكان كلما تصور فلورندا مصابة بسوء اقشعر بدنه. وكان منذ قرأ كتابها إلى والدها في تلك الغرفة المظلمة وهو يبحث عنها، فلم يقف على خبرها، ولم يكن يستطيع الاستمرار في البحث خوفا من رودريك، ثم سمع بقدوم العرب وإيغالهم في بوتيكة، ويوليان رائدهم، وكان في عزمه أن ينضم إليهم إذا لم يكن انتقاما من رودريك فإكراما لفلورندا. ثم جاءه كتاب أوباس فأثر على تفكيره تأثيرا عظيما كأنه استهواه بالتنويم المغناطيسي. على أن عند بعض الناس قوة يتسلطون بها على آراء من يخاطبونهم، لا يعبر عنها بغير الاستهواء. وكان أوباس من أكثر الناس تسلطا على الآراء ولا سيما على ابن أخيه ألفونس مع ما علمت من ضعفه.
فأصبح ألفونس بعد تلاوة ذلك الكتاب كأنه في بحر لا قرار له، يشعر من جهة بأنه يجب أن ينزل عند مشورة عمه، ويرى ذلك من الجهة الأخرى مخالفا لعواطفه ومناقضا لمصلحته، حتى إذا أتاه الأمر من رودريك أن يوافيه إلى شريش، زاد تمكنه من رأي عمه واشتغل بالحرب والاستعداد لها، وصورة فلورندا مع ذلك لم تبرح مخيلته، ولكن عواطفه كانت مقيدة بسلطان عمه، وأصبح بسبب ذلك منقبض النفس ضيق الصدر، وقد نسي الابتسام وأغفل الاجتهاد وسلم أمره إلى الأقدار.
ولما جاء رودريك بالأمس وعسكر هناك، سلم إلى ألفونس قيادة ميسرة الجند، وأمره أن يكون على استعداد للهجوم في صباح ذلك اليوم، فبكر ألفونس في الفجر وأمر قواده، فرتب كل منهم فرقته في موضعها، ودخل ألفونس خيمته ليلبس درعه، وكان يعقوب يرافقه وعيناه شائعتان يترقب مجيء سليمان أو خبرا من عنده حتى خشي أن تضيع الفرصة، فإذا هو برجل من بين الناس لحظ يعقوب من عينيه أنه يحمل خبرا سريا، وكان ذلك الرجل يعرف يعقوب، فطلب إليه مقابلة ألفونس فقال: «وهل معك كتاب إليه؟ وممن؟»
قال: «معي رسالة من الكونت يوليان.» ومد يده ودفع إليه لفافة من جلد، فتناولها يعقوب، ودخل وحده، ولم يكن في الخيمة غير ألفونس، فلم ينتبه له، فأقبل يعقوب حتى دنا منه وتنحنح نحنحة تعود ألفونس أن يكون من ورائها خبر هام. وكان قد خلع قباءه ونزع قبعته وأخذ في لبس الدرع، فبدأ بالجزء الذي يكسو الصدر والظهر وهم بلبسه وقد علقت حواشيه بأطراف ضفائر شعره المسترسل على كتفيه فأخذ في تخليصها. فلما سمع نحنحة يعقوب التفت إليه، فإذا هو يحمل بيمناه لفافة مختومة، وقد جعل يسراه على صدره، فتناول ألفونس اللفافة وفضها، فأخرج منها ورقا مكتوبا، وما إن قرأ فيه اسم يوليان حتى خفق قلبه واستيقظت عواطفه وتصاعد الدم إلى وجهه، وبانت البغتة فيه وبخاصة بعد أن أتم تلاوته. وكان يعقوب واقفا أمامه وقد أسند يديه متصالبتين على صدره، فدفع ألفونس ذلك الكتاب إليه كأنه يستشيره في أمره، فتناول يعقوب الكتاب وقرأه فإذا فيه:
من يوليان كونت سبتة إلى الأمير ألفونس
لا حاجة بي أيها العزيز إلى إطالة الشرح في المصائب التي توالت على هذه الجزيرة منذ تولاها هذا الباغي، فضلا عما تعلمه من تعديه على الملك وإخراجه من أيدي أهله بقتل المرحوم والدكم، فكرسي الملك لبيت غيطشة وأنت أرشدهم جميعا.
ولم يكتف بتعديه على الحقوق ولكنه تجاوزها إلى الأعراض، فمن كان هذا شأنه فكيف يطاع أمره؟! والعرب يا ألفونس دولة جديدة ملكت الخافقين بالعدل والرفق، وهي ستنتصر على رودريك لا محالة؛ لأن أهل مملكته كلهم ضده، حتى أقرب أقربائه، والذي ينصره إنما ينصر الظلم والغدر ... وأنت تعلم أني ضنين بك شفيق عليك؛ لما بيننا من رابطة النسب الصحيح، فإذا أطعتني وانضممت إلى جند العرب فإني ضامن لك كل ضياع المرحوم والدك في الأندلس، وهي ثلاثة آلاف ضيعة قد سلبكم رودريك إياها، وعندئذ تعود أنت وسائر آل غيطشة إلى ما كنتم عليه من العز قبل استبداد هذا الطاغية، وإنما كتبت هذا إليك رفقا بك وشفقة عليك، والسلام.
وكان يعقوب يتلو الكتاب وألفونس مطرق وشعره لا يزال مسترسلا على كتفيه وقد علق بعضه بهداب الدرع، فلما فرغ يعقوب من قراءته نظر إلى ألفونس وقال: «وما الرأي يا مولاي؟»
قال: «الرأي؟ أنت أدرى مني بما كتب به إلينا عمي الميتروبوليت أوباس، فهل أعصي عمي وأطيع يوليان؟»
فقال يعقوب وهو يحك قفاه: «لا أشير عليك بشيء؛ فإنك أدرى بالصواب وأنا معك إلى الممات، ولكنني أستغرب ذلك الرأي من أوباس وهو أعلم الناس بما أصابك وأصاب سائر القوط من هذا الطاغية، ولولا اعتقادي بقوة عقل أوباس وصحة بدنه لقلت إنه يتكلم عن خرف. على أني لا أحسبه إلا كتب ذلك الكتاب ثم ندم عليه، وعلى كل حال فالرأي لك.»
فقال ألفونس: «كيف تقول إنه ندم وأنا لا أجتمع به إلا حرضني على الثبات، ولا يزال صوت خطابه يرن في آذاننا وهو يحرضنا على الاتحاد والصبر في ساحة الحرب، وأوباس - يا يعقوب - لا يقول قوله جزافا، ولولا اعتقاده بحسن عاقبة هذا الاتحاد لم يدعني إليه.»
فقال يعقوب: «عمك الميتروبوليت - يا مولاي - حكيم وفيلسوف، ولعلك إذا سمعت مني ذلك نقمت علي وشككت في أمري، ولكن دع ذلك عنك واعمل بمشورة الكونت يوليان فإنه والد فلورندا، وهو إنما ركب هذا المركب الخشن في سبيل الدفاع عن ...»
فمد ألفونس يده وسد بها فم يعقوب بلطف وهو يقول: «يكفي يا يعقوب فإني عامل برأي عمي لأنه لا يجهل شيئا نحن نعلمه، وهو أدرى مني ومنك بالأسباب التي حملت يوليان على ذلك. وقد آن لي أن أخرج لقيادة الجند.» وعاد إلى لبس الدرع، فيئس يعقوب منه، وظل واقفا وهو يحك أنفه بطرف سبابته، فسمع نحنحة سليمان خارج الخيمة، فاستبشر وخرج، فدفع إليه سليمان كتابا قال له: «إنه من فلورندا.» فدخل به على ألفونس، فتناوله وفضه، وحين وقع نظره على الخط علم أنه من فلورندا، فاختلج قلبه وتزايدت ضرباته، وظهرت البغتة في وجهه، وارتعشت أنامله، حتى ظهر ذلك في اهتزاز الكتاب، ثم امتد الارتعاش إلى كل أطرافه، وهو يتجلد ويتظاهر بعدم التأثر، ويعقوب يرى كل ذلك ويتجاهل. أما ألفونس فقرأ الكتاب فإذا فيه:
أكتب إليك على قطعة من ردائي بمداد من دمي، وهو الرداء الذي قابلتك به في حديقة القصر، وقد تمزق تلك الليلة بين يدي رودريك دفاعا عن جوهرة هي لألفونس أكثر مما هي لي، وقد أرسلت إليك مع حامل هذا بعض ما تناثر من شعري في أثناء ذلك الدفاع، ناهيك بما علق منه بتلك الشجرة اليابسة تجاه نافذة قصري وأنا هاربة من الوحش الكاسر. هذا هو رودريك الذي أراك اليوم تحارب بسيفه وتدافع عن عرشه لتحفظ له ملكا اختلسه من أبيك، وتستبقي له يدا سيمدها ثانية إلى خطيبتك، إلى فتاة تزعم أنك تحبها وقد فاتك أنك ذاهب بها وبأبيها وسائر أهلك وأهلها إلى الدمار. وكأني بك لم تعلم بما ارتكبه رودريك أو عزم على ارتكابه، فاعلم أنه أراد ابتذال عفتي وهتك عرضي، فهددني وخوفني وأملني ومناني وأراني السعادة في طاعته، والشقاء في عصيانه، ولم يصغ إلى بكائي، ولم يرق لتضرعي، فعصيته وآثرت الشقاء حبا لألفونس ومحافظة على وده، ولعل طول البعد أنساك عهودك على ضفة نهر التاج يوم مسست شعر رأسك بأناملك، وقلت: إن بقاء هذا الشعر حرام عليك إن لم تف بقولك، أهذا هو الوفاء؟ كأنك تعهدت بقتلي وقتل والدي وسائر أهلك وأهلي، وكأنك أقسمت أن تؤيد سلطان هذا الباغي ... فإذا علمت ما ذكرته لك وتذكرت ماضي عهودك ورأيت البقاء عليها فاترك رودريك وجنده وتعال إلي فوق هذه الرابية في مستودع الخمر بين المعسكرين أو إلى والدي في معسكر العرب. وأما إذا كنت لا تزال على نصرة ذلك الظالم وكان لحب فلورندا بقية في قلبك فلا تتركني أموت قبل أن أراك وأشكو إليك جفاك وأخاطبك وأعاتبك، والعين على العين، وأتزود منك بنظرة أنسى بها ذلك الشقاء. وإذا ضننت حتى بهذا فأستودعك الله إلى أن نلتقي بين يدي الديان العظيم ومعنا رودريك يشهد على نفسه وعليك، والسلام.
فلورندا
ما قولك في ألفونس بعد تلاوة ذلك الكتاب ومشاهدة شعر فلورندا وقد علمت حبه لها واستسلامه لهواها؟ إنه ما إن فرغ من تلاوته حتى أحس كأنه استيقظ من نوم، أو هي عواطفه تنبهت من غفلتها أو انحلت من قيود الاستهواء، فاستولى عليه سلطان الغرام، فأنساه أوباس وكتابه وحكمته وآدابه. والحب سلطان نافذ الكلمة ماضي القضاء، غالب على كل سلطان، يستذل الملوك ويحطم سيوف القواد ويحير عقول الفلاسفة والحكماء.
ظل ألفونس بضع دقائق مطرقا كأنه غائب الرشد، ولم يبق في مخيلته إلا صورة فلورندا بثوبها الأرجواني الذي رآها فيه المرة الأخيرة، وبشعرها الذهبي داخل تلك الشبكة وفي يده من كليهما بعضه. وتذكر ما دار بينهما من التشاكي والعتاب، وما تعهد لها به من أسباب السعادة بإخراج الملك من رودريك. وتعاظم خجله واضطرابه حتى توهم أنه يسمع صوت توبيخها وتعنيفها ويرى دموعها. وكان يعقوب واقفا بين يديه، فلما رأى اضطرابه وتأثره خرج من الخيمة تأدبا؛ ليخلو ألفونس لنفسه، فلما خرج لقيه سليمان، وكان واقفا هناك على أحر من الجمر، فسأله بالإشارة فأجابه يعقوب بإطباق عينيه أن الحيلة أوشكت أن تنجح، وفيما هما واقفان رأيا فارسا مسرعا نحوهما وفي يده شيء، فتقدم يعقوب نحوه للسؤال عن غرضه، فإذا هو من أتباع أوباس، فلما تلاقيا تعارفا، فسأله يعقوب عن غرضه، فقال إنه قادم بكتاب من أوباس إلى ألفونس، فاستعاذ يعقوب بالله من ذلك الكتاب مخافة أن يكون فيه ما يفسد تلك الحيلة، فعمد إلى الاحتيال فقال: «إن مولاي الأمير يغير ثيابه ولا يستطيع أحد الدخول عليه.»
قال: «إني مكلف بتسليمه هذا الكتاب حالا.»
قال: «هاته وأنا أدخله عليه بعد قليل.»
فدفعه إليه وانصرف، وهو لا يشك أنه أتم مهمته. أما يعقوب فإنه تظاهر بدخوله الخيمة، ودار من ورائها وفض الكتاب فإذا هو بخط أوباس ونصه:
لا يخدعنك اليهود بدسائسهم، فإنهم إنما يريدون مصلحتهم وليست هي في بقاء المملكة للقوط. اثبت في الدفاع عن الوطن كما هو ظني فيك، وأصغ إلى قولي فإني بمنزلة أبيك.
فلما قرأ يعقوب الكتاب أصبح الضياء في عينيه ظلاما، وعجب لتيقظ أوباس وانتباهه، وأدرك أنه إذا لم تنفذ حيلته في تلك الساعة ذهبت مساعيه ومساعي سائر اليهود هباء منثورا. فاستقدم سليمان وأطلعه على ذلك الكتاب وتفاوضا، فأقرا كتمانه عن ألفونس، وأن يعجلا بالعمل قبل أن ينشب القتال، فدخل يعقوب فرأى ألفونس جالسا على وسادة هناك، وهو لا يزال مطرقا، ولم يتم لبس الدرع، وشعره لا يزال مسترسلا على كتفيه. فلما دخل يعقوب انتبه ألفونس لنفسه، فوقف وفي خاطره أن يطلع يعقوب على كتاب فلورندا ولكن الحياء منعه، فابتدره يعقوب قائلا: «إن الرسول لا يزال واقفا في انتظار الجواب، وقد أمره صاحب الكتاب أن يعود سريعا.»
فخطر لألفونس أن يرى الرسول ويسأله شيئا لعله يتخلص من ذلك التردد فقال: «أدخله علي.»
فخرج واستقدمه، فدخل سليمان وسلم متأدبا، فسأله ألفونس قائلا: «هل رأيت كاتب هذا الكتاب؟»
قال: «نعم يا مولاي.»
قال ألفونس: «ومن هو؟ وماذا تعرف عنه؟»
فأشار سليمان بعينيه نحو يعقوب كأنه يخفي أمرا لا يريد التصريح به بحضوره، فأشار ألفونس إلى يعقوب فخرج، فتقدم سليمان إلى ألفونس وقال: «أتسمح لي يا مولاي أن أصرح بما أعلمه؟»
قال: «قل.»
فقال سليمان: «إني من أصدقاء الكونت يوليان صاحب سبتة، وقد كلفني أن أصحب ابنته فلورندا من دير كانت فيه قرب طليطلة فوصلنا بالأمس.»
فقال ألفونس: «وأين هي الآن؟»
فقال سليمان: «هي على مقربة من هذا المعسكر.»
قال: «ولماذا لم تذهب إلى والدها؟»
فأطرق سليمان وتظاهر بشيء يمنعه الحياء من ذكره، فازداد ألفونس رغبة في الاطلاع عليه، فقال: «قل كل ما تعرفه ولا تخف شيئا.»
فرفع سليمان نظره إلى ألفونس وقد تباكى حتى ظهر الدمع في عينيه وقال: «ماذا أقول يا مولاي؟! إن فلورندا أصبحت في حال يرثى لها من الضعف، ولم أرها يوما واحدا في أثناء رجوعها غير مبللة العينين. وكنت أظنها تفعل ذلك شوقا إلى والدها، فجعلت أمنيها بقرب لقائه فلا تزداد إلا بكاء، ولما صرنا على مقربة من معسكر العرب حيث يقيم والدها أبت الذهاب إليه حتى كاد يغمى عليها. ثم فهمت من خالتها العجوز ومن قرائن أخرى أنها مخطوبة لك وسمعتها تقول إنها تريد المجيء إليك ولو كنت في ساحة الحرب ... لم أر في حياتي مثل هذا الحب، فإنها لم تبال بأبيها في سبيل لقائك. ولا أخفي على مولاي أنني عرفت ذلك رغم كتمانها إياه عن كل البشر. وهي التي سلمت هذا الكتاب إلي وأوصتني بأن أعود إليها بالجواب حالا وهي تبكي.» قال ذلك وتساقطت عبراته كأنه يبكي بكاء صادقا.
فلم يستطع ألفونس غير إرسال الدمع، ثم سمع دق الطبول ونفخ الأبواق في المعسكر فعلم أنهم شرعوا في القتال، فدق قلبه، ورأى أنه لا بد له من القطع في أحد الأمرين، فتشاغل بلبس درعه وإصلاح ثيابه وقد غلب عليه أن يتبع هوى قلبه ويطيع فلورندا، ولكن الحياء كان يمنعه.
الحب غالب
وبينما هو في تلك الحيرة إذ دخل الخيمة رجل بملابس الكهنوت، وهو يهرول ويتمتم، فنظر ألفونس إليه فإذا هو الأب مرتين بملابسه الرسمية الملونة الموشاة، وعلى صدره صليب مرصع والغضب باد على وجهه، ولم يكن ألفونس يحبه ولا يحترمه، فلما رآه داخلا على تلك الصورة تلقاه بالسؤال قائلا: «كيف تدخل خيمتي قبل أن تنبهني إلى ذلك مع خادمي؟»
فقال مرتين وهو يتمتم كالعادة: «أي خادم تعني؟ ومتى كان الأب مرتين يستأذن قبل الدخول؟ أين الكتاب الذي جاءك من عمك الآن؟ ولماذا تخلفت عن القتال وأنت قائد ميسرة الجند؟»
فأكبر ألفونس أسئلته على تلك الصورة وكبر عليه أن يعتذر عن سبب تخلفه أو أن يصرح بعدم وصول الكتاب إليه فقال: «وما شأنك وحضوري القتال أو ما يرد علي من الكتب من عمي أو من غيره؟»
فحمي غضب مرتين ولم يعد يعي ما يقوله، وقال: «إن لي فيه شأنا تعلمه، وإذا كنت لا ترى ذلك من شأني فلا أظنك تنكره على جلالة الملك، صاحب هذا الجند وقائده الأكبر.»
وكان سليمان واقفا في أحد أطراف الخيمة بحيث تقع عيناه على عيني ألفونس، وكلما قال مرتين قولا أشار سليمان بشفتيه وحاجبيه إشارة الاستخفاف والاستياء، وإذا رد عليه ألفونس أبدى سليمان استحسانه وإعجابه بحميته وعزة نفسه، فازداد ألفونس استمساكا بذلك، فلما عرض مرتين بذكر رودريك وسلطانه زال حياء ألفونس مما كانت نفسه تحدثه به، ولم يكن جوابه إلا الخروج من الخيمة مسرعا إلى جواده، فامتطاه وحول شكيمته نحو ميسرة الجند وهو يقول: «سوف ترون من هو صاحب هذا الجند وما هو مصير أهل البغي، وقد كنت أتردد في الذهاب وحدي فها أنا ذاهب مع جندي.»
وكان القتال قد بدأ وتطايرت السهام وتلألأت السيوف وعلا ضجيج الرجال وصهيل الخيول وصلصلة اللجم ودبدبة العجلات ومقارعة السيوف. والملك في قلب الجيش وحوله فرسانه وأعلامه وبنوده، وأوباس يطوف بالجيش على جواده وقد نزع قلنسوته، فاسترسل شعره على كتفيه وظهره، وأمسك بزمام الجواد بيسراه، ورفع يمناه يحمل بها صليبا مرصعا، وهو يستحث الجند على الثبات والصبر.
وكان ألفونس حينما ركب جواده وقعت عيناه على أوباس عن بعد، فخشي أن يدركه قبل الفرار فيثنيه عن عزمه، فساق جواده ولم يلتفت يمنة ولا يسرة حتى وصل فرقته، فلاقاه ومبا وزميله قائدا الفرقة بعده، فحدثهما ووعدهما خيرا، وقد علمت أنهما كانا يحبانه ويكرهان رودريك، فأطاعاه وأمرا الجند بالخروج من المعركة، فتحولت ميسرة القوط كلها نحو معسكر العرب، فضعف جند القوط واضطربت جوانبه.
أما مرتين فإنه ما انفك منذ خروج الجند من طليطلة وهو يراقب حركات أوباس، ويلقي الشكوك لدى رودريك في إخلاصه وصدق نيته. فلما نزلوا سهل شريش واصطف الجند للقتال رأى ألفونس قد تأخر عن الخروج للحملة، ثم رأى أوباس يدفع إلى أحد حاشيته كتابا سار به إلى خيمة ألفونس فظن سوءا، وأسرع إلى الملك فأراه الرسول راكبا إلى تلك الخيمة، وهرع هو إليها كما تقدم، فلما خرج ألفونس وسليمان وبقي هو في الخيمة وحده عظم عليه ما كان من استخفاف ألفونس به، فالتفت إلى ما حوله فوقع نظره على رق ملفوف، فتناوله وهو يحسبه كتاب أوباس، فإذا هو كتاب فلورندا وقد نسيه ألفونس هناك لغضبه وتسرعه، ففرح مرتين بذلك الكتاب فرحا شديدا، وعرف منه أين تقيم فلورندا. ولكنه ظل يعتقد (أو يريد أن يعتقد) أن أوباس كتب إليه بالانضمام إلى العرب.
وخرج مرتين من الخيمة ونظر إلى الجند، فرأى ألفونس وفرقته يسيرون نحو معسكر العرب، فركض إلى رودريك وكان لا يزال على سريره في وسط موكبه، فنظر إلى مرتين فإذا هو يشير بأصبعه إلى ألفونس ورجاله، فلما رآهم رودريك يسوقون خيولهم إلى معسكر العرب استشاط غضبا وقال: «ما الذي غيرهم؟»؟»
قال: «غيرهم كتاب حضرة الميتروبوليت، وقد قلت لك إني لم أكن أطمئن بظواهره، فأمر بالقبض عليه الآن واسجنه قبل أن يفر هو أو يحرض باقي الجند على الفرار.» فأمر رودريك رئيس حرسه أن يقبض على أوباس حالا، فأسرع رئيس الحرس ومعه كوكبة لتنفيذ أمر الملك.
أما مرتين فلم يشتف غيظه بالقبض على أوباس، فأراد أن ينتقم من ألفونس، فاغتنم فرصة غضب رودريك ودفع إليه كتاب فلورندا فتلاه وهو ينتفض من شدة الغيظ؛ لما حواه من الطعن فيه والتحريض على أذاه. فلما فرغ من تلاوته أصبحت لحيته ترقص على صدره وأنامله ترتجف، وصاح في مرتين: «أين هو المستودع الذي تقيم فيه هذه الفاجرة؟»
فأشار مرتين إلى المستودع وهو يقول: «أظنه هذا.»
فأمر رودريك كوكبة من فرسانه أن يذهبوا للقبض على من فيه ويسوقونهم إليه أحياء أو أمواتا.
فلورندا وبدر
أما فلورندا فظلت بعد ذهاب سليمان من عندها في ذلك الصباح جالسة إلى النافذة تراقب حركات الجند وسكناته، وكان أكثر اهتمامها بالميسرة لعلمها أن ألفونس هناك، ولا تسل عن اضطرابها وقلقها. فلما رأت الميسرة تهرع إلى معسكر العرب اطمأنت وأيقنت بالفرج ورقص قلبها طربا. وكانت الخالة واقفة إلى جانبها ونظرها قصير فأخبرتها بما رأته فشاركتها الفرح. وكان أجيلا وشانتيلا واقفين على مرتفع بجانب المستودع يراقبان حركات القتال، فلما رأيا ميسرة القوط انضمت إلى العرب أسرعا إلى فلورندا فأخبراها، ففرحوا جميعا، ووقفوا يتحدثون بما شاهده كل منهم في أثناء المعركة مما لم ينتبه له الآخر.
وبينما هم في ذلك إذا بالشيخ صاحب الكرم قد أسرع ومعه بعض غلمانه وأطفاله يركضون حتى صعد المستودع وهو يصيح: «أين سليمان التاجر؟ فإنه وعدنا بالحماية.»
فأطلت فلورندا من النافذة فرأت كوكبة من فرسان القوط يدفعون خيولهم بين الدالية، ولا يبالون بتكسيرها، حتى وصلوا إلى المستودع وفي أيديهم السيوف مسلولة، فلما رأتهم فلورندا علمت أنهم من رجال رودريك، فاصطكت ركبتاها وارتعدت فرائصها وصاحت: «أجيلا. شانتيلا.»
وكانا قد جاءا للدفاع قبل سماع صوتها ولم يباليا بكثرة الفرسان القادمين عليهما، وساعدهما على ذلك أولاد الشيخ ونساؤه، وعلت ضوضاء النساء والأطفال وفلورندا واقفة في النافذة مع خالتها وهي تقرع صدرها وتصلي إلى الله أن ينجيها، وتتوسل إلى السيد المسيح وإلى العذراء مريم أن يدفعا عنها ذلك الشر. ثم نظرت إلى أسفل المستودع فرأت أجيلا وشانتيلا قد وقعا قتيلين بعد أن قتل بضعة من رجال رودريك، فحزنت عليهما حزنا شديدا. ولكنها أصبحت في شغل من نفسها، ولم تجد من تستغيث به غير الله، فجثت في وسط المستودع وكشفت صدرها وحلت شعرها، ونظرت إلى السماء وجعلت تقول - وهي تلطم وجهها وتقرع صدرها وصوتها مختنق من شدة البكاء: «إلهي أنت نصير الضعفاء، يا إلهي أنت منقذ المظلومين. اللهم اشفق على صباي واحمني من هؤلاء الظالمين إكراما لدم ابنك المسفوك على الصليب.» ثم اختنق صوتها وبلعت ريقها، وعادت إلى الصلاة وهي لا تبالي بدبدبة الأقدام على السلم الخشبي المؤدي إليها، ولم تلتفت إلى شيء مما حولها، وإنما وجهت حواسها وعواطفها وأفكارها كلها إلى السماء وهي على ثقة تامة أن الله لا يتخلى عنها، وكانت خالتها جاثية بجانبها تعيد طلباتها وتؤمن عليها.
أما الفرسان فإنهم قتلوا الشابين وبضعة من أولاد الشيخ، وصعدوا إلى المستودع صعود الذئاب الخاطفة ورئيسهم يتقدمهم وهو من أهل بلاط رودريك، وكان قد شاهد فلورندا في طليطلة غير مرة، فلما رآها في المستودع لم يعرفها لما طرأ عليها من التغيير بسبب الأسفار، ثم ما كان من تغيير حالها في تلك الساعة وهي محلولة الشعر مكشوفة الصدر حاسرة الزندين، وقد توردت وجنتاها من اللطم والصفع، واحمرت عيناها وتكسرت أهدابها من البكاء، وكان الدمع قد بلل وجهها وامتزج بالعرق المتساقط على صدرها، فتبلل شعرها وقميصها. فلما رآها الفارس على تلك الحال وقد دخل ولم تنتبه له، ناداها فلم تجبه، فتقدم إليها وأمسكها بزندها وجذبها نحوه، فالتفتت إليه فرأت بيده الأخرى سيفا لا يزال يقطر دما، وقد تلطخت أنامله الأخرى بالدم، فلما شاهدت ذلك ازدادت رعبا ولكنها تجلدت وقالت: «ماذا تريدون؟»
قالوا: «نريد أن نمضي بك وبمن معك إلى الملك رودريك.»
فلما سمعت اسمه صاحت: «لا. لا. لا أذهب إليه.»
فقال لها الفارس: «سيري برضاك، وإلا أخذناك قهرا ولا أظنك تستطيعين النجاة من أيدينا ونحن جماعة» قال ذلك وصاح في رجاله فقبضوا عليها بيديها وجروها، والعجوز تصيح فيهم وتستعطفهم وما من مجيب، حتى نزلوا من المستودع، فأركبوها فرسا وأركبوا خالتها فرسا آخر وساقوهما، وفلورندا لا تزال محلولة الشعر مكشوفة الصدر محمرة الوجه دامعة العينين، وهي تستغيث بالله وتستنصره على القوم الظالمين، والفرسان لا يبالون بصياحها ونحيبها حتى انحدروا من تلك الأكمة وانتهوا إلى ساحة الحرب. فوقع نظر فلورندا على رودريك في موكبه وقد حمي وطيس الحرب والتحم الجيشان بين فارس وراجل، واختلط المسلمون بالقوط. والمسلمون يعرفون بعمائمهم البيضاء. وقد ضعف القوط حتى اضطر رودريك للنزال والدفاع بنفسه.
وكانت فلورندا قد يئست من النجاة، فودت لو أن نبلا من النبال المتساقطة يصيب صدرها فينجيها من رؤية رودريك، ثم التفتت فرأت فارسا من جند المسلمين يجول في المعمعة على مقربة منها وهو صبوح الوجه متناسب الملامح، ولولا عمامته وملابسه العربية لظنته قوطيا، وقد شد عمامته على رأسه شدا وثيقا واستل سيفه وأخذ يهاجم صفوف القوط فيبددها، ثم التفت إلى فلورندا فلما وقعت عيناه على عينيها صاحت فيه واستنجدته بلغة لم يفهمها، ولكنه فهم ما تريد بإشاراتها وملامحها، ووقعت من نفسه موقعا عظيما من أول نظرة وأسرع للدفاع عنها، فحول شكيمة جواده نحوها، وشهر سيفه وصاح: «أبشري يا مليحة أتاك بدر. لا تخافي.»
وجاء في أثره بضعة من فرسان البرابرة يتلون آية التوحيد وفي أيديهم السيوف، فلم يستطع فرسان رودريك الثبات أمامهم طويلا، فلما خشوا إخفاق مسعاهم أسرع أحدهم إلى الملك يستنجد به، فلم يلبث رودريك أن جاء بنفسه وقد غادر سريره إلى جواد مثقل بالزخارف، وفيها المجوهرات على تاجه ونطاقه وسيفه وقبائه حتى نعاله، وكذلك عدة الفرس فقد كانت مرصعة، والجواد من أجمل الخيول شكلا وقواما، ولكن جواد بدر يفضله خفة وسرعة مثل سائر خيول العرب.
وكان بدر قد شتت شمل الفرسان عن فلورندا حتى أوشكت أن تنجو، وإذ برودريك قد أقبل بأثقاله، فلما وقعت عيناها على عينيه صاحت هي وخالتها بصوت واحد: «هذا هو طاغية القوط.»
فتحول بدر إليه فعرفه من قيافته أنه الملك، وتبارزا، وكان بدر أنشط بدنا وأخف حركة فتجاولا وتصاولا، وكان رودريك من القواد المعروفين. وكانت فلورندا على جوادها وعيناها شاخصتان إلى الرجلين تتتبع كل حركة من حركاتهما، وقد حبست أنفاسها لئلا يشغلها التنفس عن مراقبة تلك المبارزة لعلاقة ذلك بحياتها أو مماتها. فإذا هجم رودريك شاركت بدرا بتلقي ضربته وربما رفعت يدها لتتلقاها وإذا هجم بدر أحست كأنها تهجم معه، وهي في الحقيقة واقفة في مكانها، ولكن جوارحها كانت تشارك نصيرها بكل حركة. ثم ما لبثت أن رأت رودريك يستمهل بدرا بالإشارة، وكان بدر يود أن يقبض عليه ويسوقه إلى طارق أسيرا لينال بأسره فخرا. ولما رآه يستمهله أجابه بالإشارة أيضا أن يمضي معه إلى معسكر المسلمين، فأجابه أنه سيفعل ذلك بعدئذ، ففهم بدر أنه ينوي قضاء حاجة قبل التسليم، فأطاعه على غير حذر، وقد يكون استمهاله خدعة ينوي الفرار بها، ولكن بدرا كان مستخفا بالرجل ومعتدا بنفسه. فحول رودريك شكيمة جواده نحو خيامه فالتفت بدر إلى رفاقه وكلمهم بالبربرية أن: «خذوا هذه الفتاة إلى خيمتي» واقتفى أثر رودريك.
وكان القوط قد ضعفت عزائمهم، فلما رأوا ملكهم فارا ركنوا هم أيضا إلى الفرار. أما بدر فما زال يتعقب رودريك، ورودريك يجول في معسكره كأنه يفتش عن ضائع وبدر يتبعه ويعجب من مسيره على تلك الصورة، حتى انتهيا إلى خيمة خرج منها كاهن امتطى فرسا وهم بالفرار، فصاح رودريك فيه: «مرتين.» فالتفت مرتين واقترب من رودريك، فابتدره رودريك بسيف كان مسلولا في يده وهو يقول: «كل هذا البلاء من فساد سريرتك وضعف رأيك» فأصابت الضربة عنقه فوقع مضرجا بدمه، فتركه صريعا وساق جواده نحو الوادي وبدر يتبعه حتى وصل ضفة النهر، وأظهر أنه لم يعد يقوى على رد جماح جواده فأرسله في الماء فغرقا معا. ويقال إنه فعل ذلك عمدا وفضل الموت غرقا على أن يقتله أحد من أعدائه.
فرجع بدر وهو يصيح: «قتل الطاغية. قتل الطاغية.»
فازداد المسلمون جرأة وأوغلوا في معسكر أعدائهم. ولم تمل شمس ذلك اليوم إلى الأصيل حتى خلا المعسكر من القوط إلا من وقع قتيلا أو أخذ أسيرا، واستولى المسلمون على ما فيه من العدة والذخيرة والزاد، والأمتعة والخيول والماشية، وغير ذلك.
وكان طارق بن زياد في أثناء المعركة يجول على جواده ويحرض المسلمين على الثبات ويكافح ويجالد ويقاتل، لا يبالي بقلة رجاله بالنسبة إلى رجال القوط، وهو لم يكن يعلم بما كتبه يوليان إلى ألفونس. ولكنه صمم على التفاني في سبيل الفتح كما رأيت من خطابه الذي ذكرناه. على أنه كان قد صمم على الفناء في هذا السبيل منذ وطئ الأندلس، فأحرق سفنه ليبذر اليأس من احتمال التراجع، في نفسه وفي نفوس رجاله، فتنمحي فكرة التعلق بها أو الالتجاء إليها إذا غلبهم القوط. ولذلك لم يكن يبالي بكثرة أعدائه أو قتلهم، وإنما كان همه وهم من معه الصبر والثبات.
فلما رأى ألفونس ورجاله ينضمون إليه شكر الله على ذلك، وازداد ثقة بالنجاح وحرض المسلمين على الثبات، حتى قضي على القوط بالفرار كما رأيت. وكانت تلك الموقعة الضربة القاضية على مملكة القوط، قتل فيها ملكهم ونخبة من قوادهم.
التوبيخ
فلما فرغ الجند من الحرب وتراجعوا إلى خيامهم، أمر طارق بحمل الغنائم والسبايا والأسرى إلى ما بين يديه على جاري العادة بعد كل قتال. فحملوا كل ما غنموه من العدة والسلاح والآنية والذخيرة والجواهر والتحف، وأكثرها من الصلبان والخواتم، وفيها الفضة والذهب بين مرصع وغير مرصع، وجاءوا بالأسرى وفيهم المقيد والموثق والسليم والجريح. فتجمع من ذلك كله شيء كثير، حتى أصبحت الأسلاب ركاما أمام الفسطاط، والأسرى جماعات مشدود بعضهم إلى بعض بأعناقهم أو أيديهم أو أرجلهم، والرجال لا يزالون يأتون بهم زرافات ووحدانا.
واجتمع قواد الجند أمام فسطاط طارق على بساط كبير افترشوه هناك، وهو من جملة الغنائم، فجلس طارق في صدر المكان وإلى يمينه الكونت يوليان وإلى يساره الأمير ألفونس، وبين يديه كبار القواد وفي جملتهم بدر. وكان ألفونس قد لقي يوليان ساعة انضمامه إلى جند العرب وتحادثا مليا في شأن المملكة وما كان من أمر أوباس، وذكرا فلورندا وأنها مقيمة في المستودع حتى يرسلوا في طلبها، وصمما على أن يستقدماها في صباح الغد بعد الفراغ من توزيع الغنائم والأسلاب. وكان ألفونس منذ انقضاء المعركة يتفرس في الأسرى لعله يرى أوباس بينهم، وهو لا يتوقع أن يراه أسيرا؛ لعلمه أنه يفضل الموت على الأسر.
فلما تكامل اجتماع القواد، وأسند طارق إلى كبير منهم أن يخمس الغنائم حسب العادة، فيختص بيت المال بخمسها، ويقسم الباقي بين القبائل على حسب تعدادها، وكان يقول ذلك وأمارات الاعتزاز والفخار بادية على وجهه، وألفونس ويوليان يتساءلان عن أمر أوباس هل قتل أو فر أو أسر، وكلاهما يستبعد وقوعه في الأسر، وإذا هم بجماعة من جند العرب يسوقون رجلا طويلا، شعره مسترسل على ظهره وكتفيه، ولما دنوا من الفسطاط تقدم أحدهم وهو يقول لطارق: «وجدنا هذا الأسير مغلولا في مضارب القوط فحللنا وثاقه وجئنا به.»
فقال: «إلي به.»
فأقبل أوباس وهو لا يزال كما كان في أثناء القتال محلول الشعر وعلى صدره صليب وبيده صليب. فلما وقع نظر ألفونس عليه نهض حتى وصل إليه، فجثا أمامه وأكب على يده وجعل يقبلهما ودموعه تتساقط بلا بكاء، وكذلك فعل يوليان، وقد امتزجت في وجهه أمارات السرور بالنصر بأمارات الخجل من الخيانة. وتغلب على ذلك كله انقباض النفس من السويداء. فانحنى على يد أوباس فقبلها وأمسك به، ودعاه للجلوس في صدر المكان. وكان طارق وبدر وسائر القواد قد تحولت أنظارهم إلى ذلك القادم، وقد زاد هيبة وجلالا باسترسال ذلك الشعر.
أما أوباس فإنه كان ينظر إلى الذين حوله بلا اكتراث. ولما دعاه يوليان للجلوس أمسك عن مجاراته، وظل واقفا في مكانه يتفرس في وجوه الناس. ولو استطاع ألفونس التفرس في عيني أوباس لرآهما تتلألآن، ولم يخطر بباله أنهما تتلألآن بالدمع لاعتقاده أن الطبيعة لا تستطيع قهره. وهي لا تستطيع قهر العاقل إذا استذل عواطفه، وأخضعها لعقله، فإنه لا يرى في أحداث الحياة ما يدعو إلى الحزن أو إلى الفرح، والحياة بجملتها نسمة من نسمات الوجود فما بالك بأعراضها، ولكن المرء لا يخلو من العواطف، فهو عرضة للحزن والفرح ... فلا تلومن أوباس على البكاء وقد رأى ذهاب دولة القوط من إسبانيا، بسوء تدبير رجل واحد رغم ما كان يؤمله هو من تفادي ذلك، حتى إذا كاد يدرك ما يريد ذهبت مساعيه أدراج الرياح وجوزي جزاء سنمار. على أن أسفه ما لبث أن تحول إلى انفعال، فلما دعاه يوليان للجلوس توقف هنيهة، ثم قال بصوت جهوري فيه خشونة من شدة التأثر: «تدعوني يا يوليان للجلوس في مكان تحسبه بيتك وأنت قد خسرت هذا البيت في هذا اليوم؟ بعته يا يوليان بأرخص الأثمان وأنت تزعم أنك فعلت ذلك انتقاما من رجل ساقه ضعفه إلى مس كرامتك، فسقت نفسك وأهلك وسائر رجال القوط والإسبان - إلى ضياع أنفسهم وأموالهم وأعراضهم - حتى ابنتك التي ارتكبت هذه الخيانة غيرة على عرضها، فقد ذهبت أسيرة في يد رجل لا هو من دينك ولا من أمتك ولا من لغتك.»
وكان أوباس يتكلم والحضور مطرقون حتى العرب مع أنهم لم يكونوا يفهمون ما يقول، ولكنهم تهيبوا صوته ومنظره. أما يوليان فإنه كاد يذوب خجلا، فلما سمع ما يقوله عن فلورندا وأسرها انتبه وأجفل، وكذلك ألفونس، وقالا بصوت واحد: «أين هي؟» ولم يستغربا اطلاعه على ذلك، ولا استخفا بقوله لأنه لا يقول عبثا، فلما سألاه عنها وجه خطابه إلى ألفونس قائلا: «ضاعت خطيبتك منك وما أنت لها، وقد ارتكبت ما لم يرتكبه رودريك لأنك خنت بلدك وأهلك وأضعتهم جميعا. فإذا كنت فعلت ذلك عقابا لرجل أراد أن يمس عرضك فما هو مقدار العقاب الذي تستحقه أنت وقد جعلت أعراض القوط وأموالهم وأرواحهم معرضة للسلب والقتل؟ احكم على نفسك!»
فلم يكن جواب ألفونس غير البكاء. وأما يوليان فإنه أحس بتبكيت الضمير ولا سيما حين سمع بضياع ابنته وأراد أن يسأل عنها فتهيب وظل مطرقا.
وكان طارق وبدر يسمعان كلام أوباس ويعجبان به، وهما لا يفهمان ما يقوله، فالتفت طارق إلى الذين كانوا حوله، يبحث عمن يترجم له أقواله، فرأى سليمان التاجر، فأدرك سليمان غرض طارق قبل أن يسأله، فتقدم وفسر له كلام أوباس وهو يتوقع أن يستاء منه، فإذا هو قد زاد إعجابا به، وخاطب أوباس عن طريق سليمان قائلا: «بورك فيك من رجل عاقل وشهم كامل. إني لأعجب من فشل جند القوط وفيهم رجل حكيم مثلك، مع كثرتهم واستعدادهم.»
فقال أوباس: «لا تعجب يا ولدي. إن للدول آجالا كما للناس، فإذا جاء أجلها أخفقت الحيل في استبقائها. على أني كنت أحسب أجل هذه الدولة أطول من ذلك، فعجله ضعف رأي الملك وفساد نيات أهل شوراه. وهكذا أراد الله.»
قال طارق: «فإذا كانت هذه إرادة المولى فلا يسوءك خروج هذه الدولة من أيدي القوط، فإن دخولها في حوزة المسلمين من أسباب سعادتها؛ لأن أهلها يعيشون في ظلنا، ندفع عنهم الأعداء، ونضمن لهم الأمن، ولا نكلفهم عن ذلك إلا جعلا قليلا هو الجزية، فإذا أدوها بات كل منهم آمنا على عرضه وروحه وماله.»
قال ذلك وأمسك بيد أوباس ومشى به وهو يقول: «هلم بنا إلى الفسطاط ريثما يفرغ القواد من تقسيم الغنائم.»
فمشى أوباس ويوليان وألفونس وبدر، ومعهم سليمان ويعقوب، حتى دخلوا الخيمة، وكانت كبيرة، فجلس طارق في صدرها، وجلس أوباس إلى يمينه ويوليان وألفونس إلى يساره، وجلس بدر في جانب من جوانب الخيمة، وهو لا يزال يرتدي الثوب الذي حارب به وعليه السيف والدرع. ولم يكد يوليان يستقر في مكانه، حتى ذهب تهيبه من أوباس، فعاد إلى السؤال عن فلورندا قائلا: «سمعتك يا مولاي تقول إن فلورندا ذهبت أسيرة، فهل تعني ذلك حقيقة؟»
قال: «ومتى كان أوباس يتكلم جزافا؟»
فزاد اهتمام يوليان واستغرابه، وأراد الإيضاح، فسبقه ألفونس قائلا: «وكيف ذلك؟ ومن أسرها؟»
فقال أوباس: «لا أعرف اسم الرجل ولكنني رأيتها وأنا مسجون في الخيمة. رأيتها من شق في تلك الخيمة وهي محلولة الشعر تستنجد طيور السماء ودواب الأرض لتنقذها من رودريك وكان قد بعث يستقدمها إليه، فجاءها فارس عربي لكنه غير بربري، عليه عمامة بيضاء فأنقذها وتعقب رودريك لا أدري إلى أين، ولكنه أمر رجاله أن يحملوها فحملوها إلى هذا المعسكر، ولا ريب في أنها أسيرة، وهي ملك للذي أسرها.»
فقال يوليان: «هل تعرف ذلك الرجل إذا رأيته؟ يظهر أنه أخذها إليه وأخفاها عن الأمير طارق لأني لم أرها بين الأسرى.»
فقال أوباس: «أظنني أعرفه. إنه يمتاز عن كل هذا الجند ببياض لونه وشقرة شعره.»
فلما سمع يوليان ذلك اتجه فكره إلى بدر، فالتفت إليه وكان جالسا على بعد عدة خطوات من يوليان يسمع كلامه ولا يفهمه لأنه لا يعرف القوطية. على أنه لو فهم أن أسيرته ابنة يوليان لم يبال؛ لأنه ظل حاقدا عليه منذ أن حرمه بنت الشيخ صاحب الكرم ليلة نزولهم سهل شريش. وكان يوليان خشن المعاشرة بسبب ما تسلط عليه من السويداء منذ بضعة عشر عاما لمصيبة ألمت به، فأذهبت صبره على مرارة الحياة، وأصبح ضيق الخلق سريع الانفعال، فكان رفقاؤه لا يسرون بمعاشرته، ولا سيما بدر؛ لما بينهما من الفارق في السن. فلما نظر يوليان إليه كان هو يتشاغل ببند سيفه يلاعبه بين أنامله وفكره في فلورندا؛ لأنه كان قد افتتن بجمالها. فلما رآه يوليان منشغلا عنه، التفت إلى طارق وأفهمه خلاصة حديثه مع أوباس وأنه يظن بدرا هو الذي أسرها، وطلب إليه أن يطلبها منه، فالتفت طارق إلى بدر وناداه: «بدر.»
وكان بدر قد سمع كلام يوليان لطارق وفهم قصده، فلما سمع طارق يناديه أجابه وهو لا يزال جالسا: «نعم.»
وكان طارق شديد التعلق ببدر، يحبه ويدلله، ويعامله معاملة الأب لابنه أو الأخ الأكبر لأخيه الأصغر. فلما رأى أنه أجابه بغير اكتراث ابتسم له وقال: «أراك لا تزال جالسا، أظنك لم تسمع ندائي؟»
فقال، وهو يلاعب بند سيفه: «سمعتك وأجبتك.»
فقال طارق: «قم إلي لأسألك سؤالا.»
فوقف وقال: «وما سؤالك؟ اسأل كل ما تريده واطلب ما شئته إلا أسيرتي، فإنها لي ولا حاجة إلى كثرة الكلام.» قال ذلك وهو يصلح عمامته كأنه يستعد للنزال.
فضحك طارق حتى بانت نواجذه وقال: «لا أدري ما سبب غضبك ونحن لم نخاطبك في شيء بعد. ألا سمعت قولنا ثم قلت ما تقوله؟»
قال بدر: «قل فإني سامع.»
فقال طارق: «احك لنا كيف عثرت على هذه الأسيرة؟»
الخصام
فقص عليهم بدر القصة باختصار حتى انتهى إلى فرار رودريك، وكيف أنه قتل الأب مرتين ثم غرق هو في النهر. وكان ألفونس وأوباس لا يفهمان ما يقول، فتقاربا واستدعيا سليمان ليترجم لهما. فلما وصل إلى مقتل مرتين بيد رودريك قال أوباس في نفسه: «لم يكن يليق قتله بغير تلك اليد.» ولما فرغ بدر من قصته قال له طارق: «لا شك أنك استأثرت بهذه الأسيرة وأنت لا تعلم أنها ابنة الكونت يوليان.»
قال: «نعم. إني لم أكن أعلم ذلك ولكن علمي لا يغير شيئا من عزمي.» قال ذلك وتحول يريد الرجوع إلى مقعده فناداه طارق بصوت فيه الجد وقال له: «كيف لا يتغير عزمك والكونت يوليان هو الذي أكسبنا هذا النصر، ولولاه لم ندخل هذه البلاد؟ أيليق بنا أن نسيء إلى ابنته ووحيدته؟ فأرجعها إليه ولك ما شئت من أسرى هذه الجزيرة وغنائمها ...»
فقال: «لا أريد شيئا غير هذه. وهي غنيمتي في الحرب وهو الذي منعني بالأمس غنيمتي الأولى لأنها لم تؤخذ في أثناء القتال، وهذه؟ ألم أغنمها في ساحة الوغى؟ ألم أحارب ملك القوط من أجلها؟ وقد قتلته وكان قتله سببا في فشل جنده. أتستكثرون علي فتاة أسرتها وقد تركت لكم نصيبي من سائر الغنائم؟»
فقال طارق، وهو لا يزال يرجو إقناعه: «إذا كنت تفعل ذلك مكيدة في الكونت يوليان للانتقام منه فانتقم من غير هذا السبيل. وأنت تعلم يا أخي أن عملك هذا يخالف حق الجوار والعرفان بالجميل. ماذا يقول المسلمون إذا علموا فضل الكونت في هذا الفتح، ثم قيل لهم إننا أخذنا ابنته أسيرة؟ فارجع إلى ما هو أجدر بك من كرم الخلق، افعل ذلك إكراما لي وعملا بحقوق الأخوة.»
وكان بدر شهما لا يرضى ارتكاب هذا العار ولكنه أحب الفتاة منذ رآها، وزاد تعلقا بها لأنه تعب في إنقاذها، والمرء إذا تعب في سلامة شيء أحبه، فشق عليه التخلي عنها. فأطرق هنيهة، ثم رفع رأسه وعلى وجهه دلائل البشر وقال: «صدقت أيها الأمير إن اتخاذ هذه الفتاة أسيرة يعد غدرا وخيانة ولكنني أحببتها ولا يمكنني التنازل عنها، فليزوجني الكونت يوليان إياها بسنة الله. فهل له بعد ذلك عذر؟»
فالتفت طارق إلى يوليان كأنه يستطلع رأيه فقال يوليان: «إن الفتاة مخطوبة وهذا خطيبها» وأشار إلى ألفونس.
فقال بدر: «لا يهمني؛ فإن الخطبة يسهل حلها.»
فحمي غضب يوليان لهذا الجدال وضاق صدره فقال: «لقد أطلت الكلام بلا طائل، إن ابنتي مخطوبة وهذا خطيبها. وهب أنها غير مخطوبة فلا نصيب لك فيها، والسلام.»
فوثب بدر ويده على قبضة حسامه وقال: «إنها أسيرتي في ساحة الوغى أخذتها بحد هذا السيف فلا أتخلى عنها لأحد ولو كان أمير المؤمنين، إلا أن يأخذها مني بالسيف كما أخذتها.»
وكان سليمان يترجم لألفونس وأوباس كل ما يدور من الجدال، فلما بلغ إلى طلب المبارزة وقف ألفونس ويده على قبضة سيفه وقال: «أنا أولى الناس بمنازلة هذا الشاب وكلانا طالب فأينا غلب فهي له.»
فوقف يوليان وأمسك ألفونس وهو يقول: «بل أنا أولى بذلك منك، فإذا قتلت هذا الغلام فقد أنلته الجزاء الذي يستحقه، وإن قتلني فموتي خير من وقوعي في مصيبة ثانية شر من مصيبتي الأولى، ولا طاقة لي على احتمال الاثنين معا» قال ذلك وتقدم ويده على قبضة حسامه، فسبقه بدر واستل الحسام، فناداه طارق فلم يصغ ونادى أوباس يوليان فلم يطعه؛ لأنهما خرجا من طور التعقل لشدة الغضب، وأقسم كل منهما أنه لن يرجع حتى يقتل صاحبه أو يقتل هو. فعلا الضجيج في الخيمة ويعقوب وسليمان في ناحية منها يتساران.
وبدأ بدر فأطلق حسامه على يوليان بعزم شديد ولولا عمود الخيمة لقتله - لا محالة - ولكن السيف غاص في العمود ووقف فيه وتصدعت يد بدر لشدة الصدمة ولم يعد يستطيع إخراج السيف من العمود، فاغتنم يوليان انشغاله بذلك وانقض عليه للفصل بينهما بالقوة، فرأى سليمان التاجر قد سبقه وتوسط بينهما وأمسك زند يوليان وهو يقول: «تمهل يا كونت بحياة طوماس.»
ولم يكد سليمان يتلفظ بذلك الاسم حتى رمى يوليان السيف من يده واستلقى على الأرض وأخذ في البكاء، فبغت الجميع حتى بدر، والتفتوا إلى سليمان كأنهم يسألون عن السبب، فأشار إليهم أن يتمهلوا، فوقفوا جميعا. وتقدم سليمان إلى يوليان وأمسكه بيده، وجعل يخفف عنه وهو منخرط في البكاء، ثم التفت إلى سليمان وقال: «لماذا ذكرتني بهذه المصيبة يا سليمان؟»
فقال: «هل كنت ناسيا إياها؟»
فقال يوليان: «كلا، ولكنني لم أسمع هذا اللفظ منذ أعوام ولو لم تحلفني به لكنت قضيت على هذا الغلام وخلصت الناس من وقاحته.»
فقال سليمان: «لو عرفته ما تمنيت التخلص منه.»
قال يوليان: «وماذا يهمني من معرفته؟ يكفي للدلالة على أصله ما ظهر الآن من وقاحته وحماقته.»
قال: «لا تبالغ في شتمه وانظر إلى وجهه وتفرس فيه، فإنك تذكر به حبيبا تحبه وتتوهم أنك فقدته وهي حي بين يديك.»
كشف السر الأخير
فلم يفهم يوليان مغزى تلك الإشارة، وكان قد جلس وتحول غضبه إلى حزن، ولا يزال أوباس وطارق وألفونس واقفين وقد علتهم البغتة مما شاهدوه، وهم ينتظرون ما يقوله سليمان. فلما سمع يوليان إشارته تنبه، وتفرس في سليمان ليرى هل يقول الجد أو الهزل، فرأى الجد باديا في كل جارحة من جوارحه، وقبل أن يقول كلمة نهض سليمان والتفت إلى الحاضرين، وأشار إليهم أن يجلسوا ليسمعوا حديثا يريد أن يقصه عليهم، فجلسوا إلا بدرا فإنه اغتنم فرصة اشتغالهم وخرج لاستبدال سيفه استعدادا لمنازلة يوليان ثانية ... أما سليمان فجلس وقال: «اسمعوا فأقص عليكم سرا حفظته منذ أعوام وفيه موعظة وحكمة» وأخذ يقص قصته بالقوطية ويترجمها إلى العربية. قال وقد وجه خطابه أولا إلى أوباس:
لا يخفى على مولاي الميتروبوليت ما قاساه اليهود في إسبانيا من ظلم حكامهم القوط من صنوف الاضطهاد والجور حتى أجبروهم أخيرا على النصرانية أو الرحيل من بلادهم، فكان منهم من رحل ومنهم من تظاهر بالنصرانية وبقي في البلاد يسعى في إفساد أمرها على الحكومة، ولا أخفي عليكم أني واحد من هؤلاء المتنصرين، وقد قضيت مع الكونت يوليان أعواما وهو يحسبني نصرانيا، والحقيقة أني لا أزال على دين آبائي وأجدادي. وأظن مولاي الميتروبوليت يعلم أن يعقوب (وأشار إليه) حبر من أحبار اليهود ومن كبار أغنيائهم، وقد تظاهر بالنصرانية وأدخل نفسه في خدمة البلاط الملكي من أيام المرحوم غيطشة، وسعى لديه في رفع الضغط عن اليهود، وكاد ينجح لو لم يحل دون ذلك انتهاء أجل غيطشة، فلما تولى رودريك عاد الضغط إلى ما كان عليه، ونحن نعقد الجمعيات السرية ونبذل الأموال في مقاومة هذه الحكومة الظالمة وهدم أركانها. ولم نكن ندخر وسعا في معاكستها ومعاكسة رجالها من الكونتات أو القواد أو غيرهم. ولكننا لم نكن نستطيع ذلك جهارا فكنا نفعله سرا - والآن وصلنا إلى جوهر القصة - وأتيح لي بعد تظاهري بالنصرانية الرحلة إلى الآفاق، فنزلت سبتة منذ بضعة عشر عاما وتقربت من حضرة الكونت، وبذلت ما في وسعي لاكتساب ثقته، ففزت بذلك، وصرت أتردد إلى منزله كواحد من أهله. وكان له ولدان، أحدهما انثى وهي فلورندا، والثاني ذكر كان اسمه طوماس. واتفق في أثناء ذلك أن جددت الحكومة اضطهاد اليهود، وأتتنا التعليمات السرية أن ننتقم لهم بأية وسيلة كانت. فتهيأ لي أن أحرم الكونت أعز ولديه وهو الصبي، ولم تسمح نفسي بقتله فاحتلت في سرقته وحمله معي في أثناء أسفاري إلى بعض قبائل البربر، وبعته لأحد كهنتهم الوثنيين (ماربوط) بثمن زهيد، ولم أقل له من أين أتيت به، فاشتراه ثم سلمه إلى زياد والد الأمير طارق، فرباه مع أولاده، فشب الغلام لا يعرف والده، ولا أحد يعرفه سواي، وسموه بدرا لبياضه. وهو هذا الشاب الذي كان بين يديكم. وبما أن الكونت يوليان قد انقلب على حكومة القوط الآن ونصر أعداءهم حتى أصبح من أنصارنا، فلذلك وجب علينا كشف هذا السر له.
وكان سليمان يتكلم وهم يتطاولون بأعناقهم، ولا سيما يوليان، فقد حسب نفسه في حلم، وكان وهو يسمع الحديث يبحث ببصره عن بدر في جوانب الخيمة وقلبه يخفق. وكانت الشمس قد غابت وأظلمت الخيمة، وأحس طارق من تلك الساعة كأن غشاوة أزيحت عن عينيه؛ إذ عرف أصل هذا الغلام والتفت ونادى: «بدر.» فلم يجبه أحد ثم انشق باب الخيمة ودخل بدر وقد استبدل سيفه.
فلما رآه يوليان وثب وهو لا يدري ماذا يقول، ونادى: «طوماس، طوماس» وهرع نحوه. فلما رآه بدر مسرعا إليه تراجع ويده على قراب سيفه كأنه يهم أن يضربه أو يتلقى ضربة به. فوقف سليمان وقال: «تعال يا بدر وقبل يد الكونت وهو يقبلك فإنه أبوك.»
فبغت بدر واتخذ الكلام هزءا حتى تقدم إليه طارق وقال له: «نحمد الله. أنك وجدت أباك وقد كنا منذ عرفناك ونحن نتساءل عنه.»
فنظر بدر إلى طارق وهو يقول: «الكونت يوليان أبي، وفلورندا أختي؟ من أين أتت هذه القرابة؟»
وكان يوليان في أثناء ذلك واقفا أمام بدر، وهو يتفرس فيه على نور الشفق، ثم جاءوا بمصباح تناوله يوليان بيده وجعل يتفرس في بدر، ويتأمل ملامحه ومعاني وجهه، فتذكر بعد قليل أن لتلك الصورة شبها في ذهنه، فثار الحنان في قلبه، فأكب على بدر وضمه إلى صدره، وجعل يقبله ويتنشق ريحه ويبكي بكاء الفرح، والناس وقوف، وما فيهم إلا من تحركت عواطفه لذلك المنظر الغريب. ولم يتحقق بدر أنه في يقظة إلا بعد قليل، فقبل يد والده ووقف كأنه أصيب بالجمود.
مضت دقائق قليلة وأهل الخيمة يتبادلون عبارات الاستغراب، ويحمدون الله على نجاة بدر من سيف والده، والفضل في ذلك لسليمان، ثم التفت أوباس وهو لا يزال إلى ذلك الحين مكشوف الرأس محلول الشعر كما جاء، وقال لطارق: «يأمر الأمير طارق - حفظه الله - أن تأتي ابنتنا فلورندا إلى هنا ليتم التعارف.»
فقال طارق: «وأين هي فلورندا يا بدر؟»
قال: «هي في خيمتي» فأمر سليمان أن يأتي بها.
وكانت فلورندا بعد أن جاءت تلك الخيمة قد أصلحت من نفسها وهي تتوقع أن يأخذوها إلى أبيها، فلما أبطئوا طلبت من الحراس ذلك، فلم يفهموا ما تريد، على أنهم أفهموها بالإشارات أنها لن تبرح تلك الخيمة، فمكثت ومعها خالتها إلى العشاء إذ جاءها سليمان، فلما رأته استأنست به وهشت له وقالت: «أين والدي؟ أين ألفونس؟»
فضحك وقال: «إن والدك مشتاق إلى رؤيتك وسترينه قريبا، وأما ألفونس فلا أرب لك فيه بعد الآن لأن الفارس العربي الذي أنقذك من يدي رودريك لم يقبل إلا أن تكوني له عروسا.»
فبغتت وقالت: «وهل قبل والدي ذلك؟»
قال: «وماذا يفعل؟»
قالت: «وألفونس ماذا فعل؟ لا أقبل أحدا غيره إلا. يظهر يا سليمان أنك تمزح؟»
قال: «تعالي وانظري منزلة ذلك الشاب من أبيك.»
فخرجت فلورندا وخالتها بجانبها ومعها سليمان حتى أقبلوا على خيمة طارق، فدخل سليمان وأشار إليهم أن لا يتكلموا، فدخلت فلورندا والبغتة تغلب فرحها بلقاء والدها، فسبقها سليمان إلى بدر، وأخذه بيده، وجاء به إليها، وقال له: «قبل فلورندا يا بدر.»
فأجفلت هي وتراجعت فصاح بها أبوها: «قبليه يا فلورندا» فلما سمعت ذلك وتحققت أن أباها أراده لها زوجا حولت وجهها عنه وأخذت في البكاء وهي تقول: «لا. لا حاجة لي بذلك.»
فوقف عند ذلك يوليان وضم ابنته بيمينه، فقبلت يده وقبلها، ثم ضم بدرا بيساره وقبله وقال: «قبليه يا فلورندا إنه أخوك طوماس الذي فقدناه منذ بضعة عشر عاما.»
وكانت فلورندا تسمع وهي طفلة أنه كان لها أخ وفقد، وقد قطعوا الأمل في حياته، فلما قال لها أبوها ذلك تفرست في بدر وهي لا تعرف صورته، وما زال الخجل يمنعها من تقبيله حتى نهض أوباس ونادى: «فلورندا» فأجفلت لأنها لم تكن تتوقع أن تسمع صوته هناك، والتفتت، فلما رأته هرولت إليه وأكبت على يده فقبلتها، والعبرات تتسابق إلى عينيها، وهي لا تعلم ماذا تقول.
أما هو فباركها وقال: «نحمد الله على سلامتك وعلى وجود أخيك بعد أن قطع الأمل من لقائه، ونحمده على التقائك بألفونس ونجاتك من الشراك.»
فتصدى ألفونس وقال: «إن نجاتها يا عماه يرجع الفضل فيها إليك وحدك فإنك بركتنا ونعمة من الله لنا.» واختنق صوته.
فتنهد أوباس وقال: «ليتني استطعت تحقيق ما أتمناه، ولكنني لو استطعته ما التقى بدر بأبيه وأخته، ولا التقيت أنت بخطيبتك. المرء يسعى في سبيل والله يدبر من سبل أخرى. هذه إرادة الله فما علينا إلا أن نشكر الله على ما حدث.»
وكانت الخالة العجوز واقفة، فلما قيل لها إنهم وجدوا طوماس ودلوها عليه، ضمته إلى صدرها وقبلته وتنشقت رائحته حتى تضايق هو، وسلمت على يوليان وألفونس، ثم تناولت يد أوباس فقبلتها وقالت له: «بقي علينا أمر لا يتم سرورنا إلا به. ولا يقدر عليه سواك.»
قال: «أظنك تعنين زفاف فلورندا إلى ألفونس، وهذا واجب علي لأني واضع عربون الخطبة، فأمهليني إلى مساء الغد» فلم تستطع الاعتراض .
ثم وقف طارق وقال: «يسرني أن يتم لكم هذا الاجتماع في يوم نصرنا الله فيه، وأنتم منذ الآن في ذمتي فتقيمون حيثما تشاءون آمنين مطمئنين مكرمين، أنتم ومن يلوذ بكم» وقضوا برهة يتحادثون في شئون مختلفة، وعينا فلورندا لم تنتقلا عن عينيي ألفونس، ناهيك بما دار بين العيون من الحديث الخفي. حتى إذا انقضى هزيع من الليل، قال يوليان: «هلم بنا ننصرف إلى مضاجعنا فإننا نحتاج إلى الراحة بعد ما قاسيناه من العناء في أثناء النهار» قال ذلك وخرج فتبعه أوباس وألفونس وفلورندا وبدر، ودل يوليان كلا على مكان ينام فيه. وتذكر ألفونس يعقوب فبحث عنه فلم يره بينهم، فظنه ذهب لينام في إحدى الخيام.
تمام الفتح
باتوا تلك الليلة ولا نظنهم استطاعوا نوما لفرط تأثرهم من ذلك اللقاء الغريب، ولما أصبحوا أحب أوباس أن يشرف على تلك الموقعة، ثم يمر بين المعسكرين ليعلم من مات من كبار الدولة ومن هرب، فمشى ورافقه يوليان وبدر وألفونس، فرأوا الجثث مبعثرة هنا وهناك، وعرفوا من القتلى جماعة من القواد، في جملتهم كوميس، فأسفوا عليه أسفا شديدا. ثم مروا بخيمة الملك، فرأوا بالقرب منها الأب مرتين مجندلا، فلم يشأ أوباس أن يتفرس فيه، ولما عادوا من ذلك الطواف طلب أوباس من طارق أن يأذن لهم بنقل بعض الجثث للصلاة عليها ودفنها.
فأجابه إلى طلبه، فنقل جثث القواد وجثة مرتين، وصلوا عليها ودفنوها، فلما رأتهم فلورندا يدفنون الموتى ذهبت إلى أوباس وأخبرته بمقتل أجيلا وشانتيلا، وطلبت إليه أن يصلي عليهما ويدفنهما، فأجابها إلى ما طلبت، وقد أسف لمقتلهما، فدفنهما ودفن معهما من قتل من أولاد الشيخ صاحب الكرم، ولما أخبرته بما كان من دفاع الشيخ وأولاده عنها أوصى طارقا به وبأهله خيرا.
ولما غربت الشمس تهيأ ألفونس لعقد إكليله على فلورندا في خيمة يوليان، فاحتفلوا بذلك على أبسط الطقوس، وقلوب الجميع تفيض سرورا لذلك اللقاء، ووجوههم تبتسم إلا أوباس، فإنه ظل ساكنا كعادته، لم يتغلب عليه فرح ولا حزن، وبعد تمام الإكليل سألهم أوباس عن المكان الذي يفضلون الإقامة فيه فقالوا : «حيثما تريد أنت.»
فقال: «أما أنا فاتركوني وشأني.»
فقالوا: «كيف نتركك وأنت حكيمنا ومرشدنا؟»
قال: «لو كنت كذلك لنفعتكم. اتركوني أقضي بقية هذه الحياة في العبادة والصلاة والانقطاع عن هذا العالم، فقد رأيت من شروره ما كفاني. وهل أتوقع أن أرى بعد هذه الموقعة غير ما يزيد أسفي ويضاعف حزني وأنا لا أستطيع العمل بما يدعوني إليه ضميري ويستحثني عليه الواجب؟ فالأجدر بي أن أقضي بقية هذه الحياة في مكان لا أرى فيه بشرا. ولا يراجعني أحد منكم في ذلك.»
فلم يستطع أحد أن يراجعه سوى رجل تصدى له من جملة الحضور وقال: «وأنا أين أذهب؟»
فتوهم ألفونس أنه يسمع صوت يعقوب ولكن الزي غير الزي. أما أوباس فعرفه فقال: «هذا يعقوب وقد وفى بنذره وأصلح لحيته واغتسل.»
فتذكر ألفونس شيئا من ذلك منذ اجتمع بعمه في طليطلة، فنظر إلى يعقوب فإذا هو حسن الهندام، وقد أصلح لحيته وتزيا بزي حاخامي اليهود تماما، فقال له: «وما ذلك يا يعقوب؟»
قال: «قد آن لي الوفاء بالنذر والتحرر من ربقة الذل؛ إذ أصبح الناس بعد هذا الفتح أحرارا يتبع كل رجل دينه. وأنا من نعم الله يهودي جنسا ودينا، فأحب الرجوع إلى مذهبي فأصلي في كنيستي وأقرأ كتابي.»
وباتوا تلك الليلة، فلما أصبحوا لم يجدوا أوباس في خيمته ولا في سائر المعسكر، ولا عثروا عليه من ذلك الحين، فعلموا أنه ذهب للتنسك كما قال.
وأما ألفونس ويوليان فظلا عونا لطارق وجنده حتى أتم فتح الأندلس، وقلما لاقى مشقة بعد تلك الموقعة إلا في أستجة، فإنهم ساروا إليها توا بعد موقعة شريش، وحاربوا هناك حربا شديدة، فلما فتحوها وقع الرعب في قلوب الناس، وهربوا إلى طليطلة، فأشار يوليان على طارق أن يفرق جيوشه في مدن الأندلس لأن الناس أخلوها وساروا إلى العاصمة، فبعث جيشا إلى قرطبة وجيشا إلى غرناطة وجيشا إلى مالقة وجيشا إلى تدمير، وسار هو ومعظم الجيش إلى طليطلة، فوجدها خالية لأن أهلها هاجروا إلى مدينة خلف الجبل. أما الجيش الذي سار إلى قرطبة فقد دلهم راع على ثغرة فدخلوا منها البلد وملكوه. والذين قصدوا تدمير فتحوها بالسيف وفتحوا غيرها من المدن. أما طارق فلما رأى طليطلة فارغة ضم إليها اليهود وترك معهم رجالا من أصحابه، وسار لإتمام الفتح كما هو مفصل في كتب التاريخ.
Unknown page