فقال يعقوب: «كلا يا مولاي، إن ذلك ممنوع عندهم حتى فيما بينهم، وقد لجئوا إلى هذا التستر خوفا من أن يبوح أحد بأمرهم حتى من إخوانهم، فأنت الآن بعد أن اطلعت على هذه الأسرار المهمة تمسي - إذا خرجت من هذا المكان - كأنك لم تدخله؛ لأنك لم تر وجوه الأشخاص، فلا يمكنك أن تتهم أحدا من الناس، وربما كان بعض هؤلاء من رجال الجند أو الكهنة أو العمال أو المزارعين، وكلهم في عداد المسيحيين، ويكفيك أن تعرف واحدا منهم وهو أنا.»
فأعجب ألفونس بهذا اللون من الاحتياط، وعلم أن يعقوب يهودي، وتذكر ما كان يطلبه من التساهل في أداء الفروض الدينية من الصلوات ونحوها، وأن عمه أوباس كان يساعده على ذلك، وخطرت له خواطر كثيرة تدور كلها حول علاقة يعقوب بوالده، واعتزم أن يستطلع سر هذا الأمر فيما بعد. ثم قطع تيار أفكاره دبيب توالت أصواته فوق رءوسهم فانذهل ألفونس، والتفت نحو السقف فابتدره يعقوب قائلا: «لا تستغرب يا مولاي ما تسمعه؛ لأن فوقنا شارع من شوارع المدينة، والناس يمرون عليه ليل نهار، وليس في أهل أستجة من يعلم بوجود هذا البناء تحت الشارع إلا أعضاء هذه الجمعية.» فازداد ألفونس استغرابا لما شاهده تلك الليلة من طرق التحفظ ومظاهر الدهاء، وقال في نفسه: «إن قوما هذا مبلغ دهائهم وتعلقهم وصبرهم لجديرون أن ينالوا بغيتهم.»
طارق جديد
كان ألفونس يفكر في ذلك حين سمع قرعا بعيدا يشبه أن يكون على الباب الذي ينتهي إليه السرداب، ولكنه وجد أن عدد الطرقات وطريقة ضربها يختلفان عما فعله يعقوب، ثم ما لبث أن رأى الرئيس ويعقوب وسائر الجالسين معه قد أنصتوا وأصغوا لما عساه أن يعقب ذلك الطرق، فخشي أن يكون وراء إنصاتهم ما يدعو إلى القلق، ولو كانت وجوههم مكشوفة لاستطلع ذلك في عيونهم وجباههم، ثم سمع قرعا ثانيا على الباب الآخر بطريقة أخرى، ولم يفرغ القارع من القرع حتى تحول إنصات رفاقه إلى الحركة وسمع الرئيس يقول : «لقد جاءنا رسول بخبر جديد، عساه أن يكون قادما من إخواننا في الشام أو مصر أو من أفريقيا.»
فاستغرب ألفونس أن يتنبأ الرئيس بالرجل بمجرد سماعه وهو يقرع الباب، وأدرك من قوله أن لهذه الجمعية علاقات واسعة في الشام ومصر وغيرها، فاندفع يقول: «كيف عرفت الرجل من مجرد سماع القرع عن بعد، وهل لهذه الجمعية من أعضاء في تلك البلاد؟»
قال: «عرفته من قواعد موضوعة لهذا الغرض يعرفها أعضاء هذه الجمعية، وأما سؤالك عن اتساع الجمعية فإن لها أعضاء في أنحاء بعيدة أرسلتهم للبحث عن طريقة نتخلص بها من هذا الرق.» وسكت هنيهة ثم قال: «ومن هؤلاء الأعضاء أناس قد تصدروا في مجالس الدولة وتقلدوا مناصبها، ومنهم من يعمل عمل الخدم ويقاسي مرارة الذل والشقاء وهو ليس من فئة الخدم، بل قد يكون من أهم أعضاء الجمعية ومن أكثرهم بذلا في سبيلها، وإنما يتزيا بزي الخدم تحقيقا لغرض يعود على الطائفة بالخير.»
وكان ألفونس وهو يسمع كلام الرئيس يشعر بنور يضيء بصيرته، فأدرك في الحال أن خادمه يعقوب من بعض كبار هذه الطائفة، ومن أهم أعضاء هذه الجمعية، ولكنه ظل يتوق إلى استطلاع علاقته بأبيه وعمه لأنهما كانا يعرفان سره على ما ظهر له من كلام أوباس، فأجل ذلك إلى فرصة أخرى، ولبث ينتظر دخول الرسول القادم. ولم تمض برهة، وهم سكوت يسمعون صدى الحركات في القاعة الكبرى، حتى سمعوا قارعا يقرع باب تلك الحجرة السوداء قرعا خاصا، فنهض يعقوب وفتح الباب فدخل منه رجل طويل القامة عليه ذلك الجلباب الأسود، وعند دخوله توجه نحو الرئيس وكلمه بالعبرية كلاما لم يفهمه ألفونس فأجابه الرئيس. وتخاطبوا برهة بتلك اللغة وألفونس لا يفهم، ولكنه استغرب أن يوجه القادم كلامه للرئيس ساعة وصوله، وهو لا يرى فرقا بين مظهر الرئيس وبين سائر الجالسين لأنهم بملابس واحدة ولون واحد، فتوسم في ذلك سرا سأل يعقوب عنه في أثناء الحديث بين الرئيس والرسول بالعبرية، فقال يعقوب: «لو أمعنت النظر في ثوب الرئيس لرأيت على كتفه علامة تميزه عن سائر الأعضاء، ولا تظهر هذه العلامة إلا عند التأمل. وفي هذه الجمعية علامة لكل من أصحاب المناصب فيها كالكاتب والخازن وغيرهما، غير أن هذه العلامات ضعيفة لا يراها غير المتأمل.»
فتفرس ألفونس في كتف الرئيس فرأى عليها عقدة سوداء بجانب العنق، ونظر إلى أكتاف الرفاق فرأى على كتف يعقوب عقدة تشبه عقدة الرئيس ولكنها بشكل آخر، فأراد أن يستفهم منه عن دلالة علامته، فسمع الرئيس يخاطب القادم بالقوطية قائلا: «لقد سرني قدومك الليلة لنسمع حديث رحلتك، وعندنا الآن من يهمه سماعها ويهمنا إطلاعه عليها، ونحن في حجرة الخلود وما فينا إلا عمدة الجمعية، فمن أين أنت قادم الآن؟»
وكان الرجل قد جلس في جملة الجالسين حول التابوت فقال: «إني قادم من سبتة وخبري طويل لا يسمح الوقت بتفصيله، ولكني أروي لكم منه ما يهمكم ويهمنا، ولو كشفت لكم وجهي لرأيتم البشر ظاهرا عليه؛ إذ يظهر لي أن زمان أسرنا وذلنا قد انقضى أو قارب الانقضاء.»
فلما قال ذلك ظهر الاهتمام في حركات الجالسين وأصغوا وقد تطاولوا بأعناقهم إلى المتكلم، وقال الرئيس: «بشرك الله بالخير، عسى أن يكون قد انقضى أسرنا كانقضاء أسر أجدادنا في بابل منذ بضعة عشر قرنا.»
Unknown page