قال: «أظنك تعنين زفاف فلورندا إلى ألفونس، وهذا واجب علي لأني واضع عربون الخطبة، فأمهليني إلى مساء الغد» فلم تستطع الاعتراض .
ثم وقف طارق وقال: «يسرني أن يتم لكم هذا الاجتماع في يوم نصرنا الله فيه، وأنتم منذ الآن في ذمتي فتقيمون حيثما تشاءون آمنين مطمئنين مكرمين، أنتم ومن يلوذ بكم» وقضوا برهة يتحادثون في شئون مختلفة، وعينا فلورندا لم تنتقلا عن عينيي ألفونس، ناهيك بما دار بين العيون من الحديث الخفي. حتى إذا انقضى هزيع من الليل، قال يوليان: «هلم بنا ننصرف إلى مضاجعنا فإننا نحتاج إلى الراحة بعد ما قاسيناه من العناء في أثناء النهار» قال ذلك وخرج فتبعه أوباس وألفونس وفلورندا وبدر، ودل يوليان كلا على مكان ينام فيه. وتذكر ألفونس يعقوب فبحث عنه فلم يره بينهم، فظنه ذهب لينام في إحدى الخيام.
تمام الفتح
باتوا تلك الليلة ولا نظنهم استطاعوا نوما لفرط تأثرهم من ذلك اللقاء الغريب، ولما أصبحوا أحب أوباس أن يشرف على تلك الموقعة، ثم يمر بين المعسكرين ليعلم من مات من كبار الدولة ومن هرب، فمشى ورافقه يوليان وبدر وألفونس، فرأوا الجثث مبعثرة هنا وهناك، وعرفوا من القتلى جماعة من القواد، في جملتهم كوميس، فأسفوا عليه أسفا شديدا. ثم مروا بخيمة الملك، فرأوا بالقرب منها الأب مرتين مجندلا، فلم يشأ أوباس أن يتفرس فيه، ولما عادوا من ذلك الطواف طلب أوباس من طارق أن يأذن لهم بنقل بعض الجثث للصلاة عليها ودفنها.
فأجابه إلى طلبه، فنقل جثث القواد وجثة مرتين، وصلوا عليها ودفنوها، فلما رأتهم فلورندا يدفنون الموتى ذهبت إلى أوباس وأخبرته بمقتل أجيلا وشانتيلا، وطلبت إليه أن يصلي عليهما ويدفنهما، فأجابها إلى ما طلبت، وقد أسف لمقتلهما، فدفنهما ودفن معهما من قتل من أولاد الشيخ صاحب الكرم، ولما أخبرته بما كان من دفاع الشيخ وأولاده عنها أوصى طارقا به وبأهله خيرا.
ولما غربت الشمس تهيأ ألفونس لعقد إكليله على فلورندا في خيمة يوليان، فاحتفلوا بذلك على أبسط الطقوس، وقلوب الجميع تفيض سرورا لذلك اللقاء، ووجوههم تبتسم إلا أوباس، فإنه ظل ساكنا كعادته، لم يتغلب عليه فرح ولا حزن، وبعد تمام الإكليل سألهم أوباس عن المكان الذي يفضلون الإقامة فيه فقالوا : «حيثما تريد أنت.»
فقال: «أما أنا فاتركوني وشأني.»
فقالوا: «كيف نتركك وأنت حكيمنا ومرشدنا؟»
قال: «لو كنت كذلك لنفعتكم. اتركوني أقضي بقية هذه الحياة في العبادة والصلاة والانقطاع عن هذا العالم، فقد رأيت من شروره ما كفاني. وهل أتوقع أن أرى بعد هذه الموقعة غير ما يزيد أسفي ويضاعف حزني وأنا لا أستطيع العمل بما يدعوني إليه ضميري ويستحثني عليه الواجب؟ فالأجدر بي أن أقضي بقية هذه الحياة في مكان لا أرى فيه بشرا. ولا يراجعني أحد منكم في ذلك.»
فلم يستطع أحد أن يراجعه سوى رجل تصدى له من جملة الحضور وقال: «وأنا أين أذهب؟»
Unknown page