141

Fath Andalus

فتح الأندلس

Genres

واجتمع قواد الجند أمام فسطاط طارق على بساط كبير افترشوه هناك، وهو من جملة الغنائم، فجلس طارق في صدر المكان وإلى يمينه الكونت يوليان وإلى يساره الأمير ألفونس، وبين يديه كبار القواد وفي جملتهم بدر. وكان ألفونس قد لقي يوليان ساعة انضمامه إلى جند العرب وتحادثا مليا في شأن المملكة وما كان من أمر أوباس، وذكرا فلورندا وأنها مقيمة في المستودع حتى يرسلوا في طلبها، وصمما على أن يستقدماها في صباح الغد بعد الفراغ من توزيع الغنائم والأسلاب. وكان ألفونس منذ انقضاء المعركة يتفرس في الأسرى لعله يرى أوباس بينهم، وهو لا يتوقع أن يراه أسيرا؛ لعلمه أنه يفضل الموت على الأسر.

فلما تكامل اجتماع القواد، وأسند طارق إلى كبير منهم أن يخمس الغنائم حسب العادة، فيختص بيت المال بخمسها، ويقسم الباقي بين القبائل على حسب تعدادها، وكان يقول ذلك وأمارات الاعتزاز والفخار بادية على وجهه، وألفونس ويوليان يتساءلان عن أمر أوباس هل قتل أو فر أو أسر، وكلاهما يستبعد وقوعه في الأسر، وإذا هم بجماعة من جند العرب يسوقون رجلا طويلا، شعره مسترسل على ظهره وكتفيه، ولما دنوا من الفسطاط تقدم أحدهم وهو يقول لطارق: «وجدنا هذا الأسير مغلولا في مضارب القوط فحللنا وثاقه وجئنا به.»

فقال: «إلي به.»

فأقبل أوباس وهو لا يزال كما كان في أثناء القتال محلول الشعر وعلى صدره صليب وبيده صليب. فلما وقع نظر ألفونس عليه نهض حتى وصل إليه، فجثا أمامه وأكب على يده وجعل يقبلهما ودموعه تتساقط بلا بكاء، وكذلك فعل يوليان، وقد امتزجت في وجهه أمارات السرور بالنصر بأمارات الخجل من الخيانة. وتغلب على ذلك كله انقباض النفس من السويداء. فانحنى على يد أوباس فقبلها وأمسك به، ودعاه للجلوس في صدر المكان. وكان طارق وبدر وسائر القواد قد تحولت أنظارهم إلى ذلك القادم، وقد زاد هيبة وجلالا باسترسال ذلك الشعر.

أما أوباس فإنه كان ينظر إلى الذين حوله بلا اكتراث. ولما دعاه يوليان للجلوس أمسك عن مجاراته، وظل واقفا في مكانه يتفرس في وجوه الناس. ولو استطاع ألفونس التفرس في عيني أوباس لرآهما تتلألآن، ولم يخطر بباله أنهما تتلألآن بالدمع لاعتقاده أن الطبيعة لا تستطيع قهره. وهي لا تستطيع قهر العاقل إذا استذل عواطفه، وأخضعها لعقله، فإنه لا يرى في أحداث الحياة ما يدعو إلى الحزن أو إلى الفرح، والحياة بجملتها نسمة من نسمات الوجود فما بالك بأعراضها، ولكن المرء لا يخلو من العواطف، فهو عرضة للحزن والفرح ... فلا تلومن أوباس على البكاء وقد رأى ذهاب دولة القوط من إسبانيا، بسوء تدبير رجل واحد رغم ما كان يؤمله هو من تفادي ذلك، حتى إذا كاد يدرك ما يريد ذهبت مساعيه أدراج الرياح وجوزي جزاء سنمار. على أن أسفه ما لبث أن تحول إلى انفعال، فلما دعاه يوليان للجلوس توقف هنيهة، ثم قال بصوت جهوري فيه خشونة من شدة التأثر: «تدعوني يا يوليان للجلوس في مكان تحسبه بيتك وأنت قد خسرت هذا البيت في هذا اليوم؟ بعته يا يوليان بأرخص الأثمان وأنت تزعم أنك فعلت ذلك انتقاما من رجل ساقه ضعفه إلى مس كرامتك، فسقت نفسك وأهلك وسائر رجال القوط والإسبان - إلى ضياع أنفسهم وأموالهم وأعراضهم - حتى ابنتك التي ارتكبت هذه الخيانة غيرة على عرضها، فقد ذهبت أسيرة في يد رجل لا هو من دينك ولا من أمتك ولا من لغتك.»

وكان أوباس يتكلم والحضور مطرقون حتى العرب مع أنهم لم يكونوا يفهمون ما يقول، ولكنهم تهيبوا صوته ومنظره. أما يوليان فإنه كاد يذوب خجلا، فلما سمع ما يقوله عن فلورندا وأسرها انتبه وأجفل، وكذلك ألفونس، وقالا بصوت واحد: «أين هي؟» ولم يستغربا اطلاعه على ذلك، ولا استخفا بقوله لأنه لا يقول عبثا، فلما سألاه عنها وجه خطابه إلى ألفونس قائلا: «ضاعت خطيبتك منك وما أنت لها، وقد ارتكبت ما لم يرتكبه رودريك لأنك خنت بلدك وأهلك وأضعتهم جميعا. فإذا كنت فعلت ذلك عقابا لرجل أراد أن يمس عرضك فما هو مقدار العقاب الذي تستحقه أنت وقد جعلت أعراض القوط وأموالهم وأرواحهم معرضة للسلب والقتل؟ احكم على نفسك!»

فلم يكن جواب ألفونس غير البكاء. وأما يوليان فإنه أحس بتبكيت الضمير ولا سيما حين سمع بضياع ابنته وأراد أن يسأل عنها فتهيب وظل مطرقا.

وكان طارق وبدر يسمعان كلام أوباس ويعجبان به، وهما لا يفهمان ما يقوله، فالتفت طارق إلى الذين كانوا حوله، يبحث عمن يترجم له أقواله، فرأى سليمان التاجر، فأدرك سليمان غرض طارق قبل أن يسأله، فتقدم وفسر له كلام أوباس وهو يتوقع أن يستاء منه، فإذا هو قد زاد إعجابا به، وخاطب أوباس عن طريق سليمان قائلا: «بورك فيك من رجل عاقل وشهم كامل. إني لأعجب من فشل جند القوط وفيهم رجل حكيم مثلك، مع كثرتهم واستعدادهم.»

فقال أوباس: «لا تعجب يا ولدي. إن للدول آجالا كما للناس، فإذا جاء أجلها أخفقت الحيل في استبقائها. على أني كنت أحسب أجل هذه الدولة أطول من ذلك، فعجله ضعف رأي الملك وفساد نيات أهل شوراه. وهكذا أراد الله.»

قال طارق: «فإذا كانت هذه إرادة المولى فلا يسوءك خروج هذه الدولة من أيدي القوط، فإن دخولها في حوزة المسلمين من أسباب سعادتها؛ لأن أهلها يعيشون في ظلنا، ندفع عنهم الأعداء، ونضمن لهم الأمن، ولا نكلفهم عن ذلك إلا جعلا قليلا هو الجزية، فإذا أدوها بات كل منهم آمنا على عرضه وروحه وماله.»

Unknown page