قالت: «إذا أصبحت فتعال، فأدفع إليك الكتاب فتحمله إليه، وأرجو أن يكون نافذا بعون الله.»
فاستبشر سليمان بذلك ومضى، وكان الفجر قد دنا، فتوسد حصيرا في عريش صاحب الكرم التماسا للراحة، فغمضت عيناه، ولم يستيقظ إلا على أصوات الطبول والأبواق، فنهض وقد أجفل وأطل على المعسكرين، فرأى معسكر القوط يموج بالرجال، وقد أخذوا يصطفون للقتال وأمامهم الرايات والأعلام، وفي وسطهم موكب الملك رودريك بمظلته وسريره وفرسانه وأعوانه. والتفت سليمان إلى معسكر العرب فإذا هم في حركة كأنهم يهمون بالدفاع، فأسقط في يده وتشاءم من ذلك اليوم، وقال في نفسه: «فاتت الفرصة.» وقد زاد من تشاؤمه ما شاهده من الفرق العظيم بين عدد جند القوط وجند العرب، ومقدار ما عند القوط من العدة والخيل والمئونة، فوثب من مكانه وثوب النمر وأسرع منحدرا نحو معسكر العرب ليأخذ كتاب يوليان إلى ألفونس، فوصل إلى المعسكر وهو يلهث من التعب، فرأى المسلمين - وأكثرهم من البربر - وقد اصطفوا للحرب، وعلى رءوسهم العمائم البيضاء، تقيهم حر الشمس، وتتلقى عن رءوسهم مواضي السيوف وحداد السهام كأنها درع للرأس، وفيهم حملة الرماح وحملة الحراب ونقلة القسي العربية. وأما الفرسان فقد كانت عليهم دروع من الزرد وعلى رءوسهم الخوذات، لا يظهر من وجوههم غير الحدق، وفي مقدمتهم فرسان يحملون الرايات وعليها الآيات. ولم يصل إلى الخيام حتى سمع أصوات التكبير والتهليل، وما فيهم إلا من قرأ الفاتحة، والتفت سليمان في وجوه الناس فلم ير بينهم من يبالي بما سيلاقي في تلك المعركة من خير أو شر. وانصرف سليمان بذلك المنظر مدة عن يوليان، ثم تذكر ما جاء به، فانخرط في صفوف الجند وهو يتطلع ويتشوق، فلم يجد يوليان، فسأل عنه بعض الوقوف، فقالوا له: «إنه ركب في أثر طارق يستحثان الجند على الثبات.» ولم يكد يتدبر ما سمعه حتى رأى فرسانا قادمين من بعض أطراف المعسكر يتقدمهم فارس عليه درع سليمانية، وعلى رأسه عمامة كبيرة وليس على وجهه درع، فظهرت سماته وبانت ملامحه.
فنظر إليه فإذا هو طارق بن زياد قائد ذلك الجند، وكان سليمان قد رآه غير مرة وعرف هيبته، ولكنه لم يره من قبل مثلما رآه في تلك الساعة، فخيل له وهو ينظر إليه أنه جبل على فرس، وقد أزاح عمامته إلى ما وراء جبينه، فبان من تحتها جبين عريض، تحته حاجبان غليظان، تحتهما عينان قد احمر بياضهما من الجهد، وله شفتان غليظتان، وشعر لحيته شديد السواد إلا شعرات قليلة بيضاء. وكان العرق يتصبب من جبينه إلى لحيته وهو لا يبالي بمسحه، ولا يتلفت إلى شيء أو يتفرس في رجل، ولكنه كان ينظر إلى الجند إجمالا كأنهم رجل واحد. وقد أمسك عنان جواده بيساره، واستل حسامه بيمينه، وقد حسر عنها كمه، فبان زنده أسمر شديد السمرة. ولم يكن جواده أقل حماسة منه، بل كان يستوقفه طارق فلا يقف إلا وهو يتحفز للجري، وقد بلل العرق صدره ورأسه، وتصبب عن خديه حتى اختلط بزبد شدقيه، وكان لونه كلون الليل الحالك.
فتهيب سليمان من منظر ذلك البربري الهائل، ورأى بجانب طارق فارسا يختلف عنه لونا وسحنة ويشبهه حماسة وإقداما وبسالة، ولكنه أصغر منه سنا وأكبر نفسا، فتنحى سليمان جانبا ريثما يمر طارق ورفاقه لعله يرى يوليان بينهم فيخلو إليه ويطلب منه الكتاب، فإذا بطارق قد وقف وتحول بوجهه نحو الصفوف الواقفة بين يديه، ورفع يمناه والسيف مسلول في قبضته، فأدرك الناس أنه يهم بالكلام فأصغوا، فإذا هو يقول - بعد حمد الله والثناء عليه، وحث المسلمين على الجهاد وترغيبهم فيه: «أيها الناس، أين المفر؟ البحر من ورائكم، والعدو أمامكم، وليس لكم والله إلا الصدق والصبر.
واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام، وقد استقبلكم عدوكم بجيشه وأسلحته، وأقواته موفورة وأنتم لا وزر لكم إلا سيوفكم، ولا أقوات لكم إلا ما تستخلصونه من أيدي عدوكم، وإن امتدت بكم الأيام على افتقاركم ولم تنجزوا لكم أمرا ذهبت ريحكم، وتعوضت القلوب من رعبها منكم الجرأة عليكم، فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم بمناجزة هذا الطاغية، فقد ألقت به إليكم مدينته الحصينة، وإن انتهاز الفرصة فيه لممكن إن سمحتم لأنفسكم بالموت.
وإني لم أحذركم أمرا أنا عنه بنجوة، ولأحملنكم على خطة أرخص متاع فيها النفوس، أبدأ بنفسي. واعلموا أنكم إن صبرتم على الأشق قليلا استمتعتم بالأرفه الألذ طويلا، فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي، فما حظكم فيه بأوفى من حظي. وقد بلغكم ما أنشأت هذه الجزيرة من الحور الحسان من بنات اليونان، الرافلات في الدر والمرجان، والحلل المنسوجة بالعقيان، المقصورات في قصور الملوك ذوي التيجان، وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين من الأبطال عربانا، ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهارا وأختانا؛ ثقة منه بارتياحكم للطعان، واستماحكم بمجالدة الأبطال والفرسان؛ ليكون حظه منكم ثواب الله على إعلاء كلمته وإظهار دينه بهذه الجزيرة، وليكون مغنمها خالصا لكم من دونه ومن دون المؤمنين سواكم، والله تعالى ولي إنجادكم على ما يكون لكم ذكرا في الدارين.
واعلموا أني أول مجيب إلى ما دعوتكم إليه، وأني عند ملتقى الجمعين حامل بنفسي على طاغية القوم لذريق فقاتله إن شاء الله تعالى، فاحملوا معي، فإن هلكت بعده فقد كفيتكم أمره ولم يعوزكم بطل عاقل تسندون أموركم إليه، وإن هلكت قبل وصولي إليه فاخلفوني في عزيمتي هذه، واحملوا بأنفسكم عليه واكتفوا الهم من فتح هذه الجزيرة بقتله فإنهم بعده يخذلون.» وما فرغ طارق حتى تعالت أصوات الناس بالتهليل، وقد تشددت عزائمهم. وشعر سليمان عند سماعه ذلك الكلام بما فيه من بواعث الحماس، ولكنه قلق لضياع الوقت. وأوغل في الناس يسأل عن يوليان، فرآه في جملة الركب مع طارق ، فأسرع إليه، فرآه يوليان، فاستدناه منه، فجاءه، فقال يوليان: «استبطأناك فبعثنا الكتاب مع رسول آخر.»
فانشرح صدر سليمان لعدم ضياع الفرصة، وقفل راجعا إلى الكرم ليأخذ كتاب فلورندا، وكان يعتمد عليه في تغيير تفكير ألفونس؛ لما سيحويه من عبارات مثيرة للعواطف، فوصل إلى المستودع فرأى فلورندا واقفة على السلم والكتاب في يدها، فتناوله ولم يفه بكلمة؛ محافظة على الوقت، وهرول لا يلوي على شيء وهو في قيافة وهيأة لا يشك الذي يراه أنه من رجال رودريك، وكانت الشمس قد تكبدت السماء، وأطلت على معسكر القوط، فانعكست أشعتها عن ملابسهم وبنودهم وخوذهم، ولا سيما عن موكب رودريك، فجعل سليمان طريقه من وراء الجند والناس في شغل لما هم فيه من التأهب، فرأى جند القوط قد ترتب على هيئة كراديس مثل نظام جند الروم. وكان العرب إلى ذلك العهد لا يزالون ينظمون جيوشهم صفوفا متراصة، وكان جند رودريك مؤلفا من ميمنة وميسرة، يقود كلا منهما قائد كبير، أحدهما ألفونس قائد الميسرة، وأما القلب فكان قائده رودريك نفسه ومعه الكونت كوميس، وقد جلس رودريك على سريره وفوق رأسه رواق من ديباج يظلله، وهو في غابة من البنود والأعلام، وبين يديه المقاتلون بالسلاح، وفيهم الفرسان بالثياب المزركشة. وأما ثياب رودريك فقد كانت مرصعة بالدر والياقوت والزبرجد، حتى خفه فإنه كان من الذهب المرصع.
فأعجب سليمان بالفرق بين بساطة العرب وبذخ هؤلاء القوط، وأين جلوس رودريك على ذلك السرير من ركوب طارق على ذلك الجواد؟ على أنه رأى في موكب رودريك رجلا طويلا واقفا على دكة مرتفعة عليه ملابس الكهنوت، وقد رفع يديه نحو السماء وفي إحداهما صليب مرصع، ورفع صوته في الصلاة ليتضرع إلى الله لينصر جند القوط، فعرفه سليمان من طول قامته وقوة عارضته، إنه أوباس، فوقف بالرغم عنه فرآه لما فرغ من الصلاة والتضرع قد أخذ في حث الناس على الصبر والاتحاد، وذكرهم بمجد آبائهم وشدة بطشهم، وكيف فتحوا هذه البلاد بدمائهم.
ولم يقدر سليمان على الصبر هناك، فسار مسرعا حتى وصل إلى مسيرة الجند، وكانت عيناه مضطربتين تبحثان عن يعقوب ليدفع الكتاب إليه، فلم يجده في مصاف الجند، فتحول للتفتيش عنه في الخيمة، فلما وصل إلى الخيمة رأى ببابها رجلا في مثل زي الجند، لكنه لم يكد يتفرس فيه حتى عرف أنه من رجال يوليان، فعلم أنه هو الذي نقل رسالة يوليان إلى ألفونس، فلما وصل إليه قال له - بحيث لا يسمعه أحد سواه: «هل أتيت برسالة يوليان؟» قال: «نعم، وألفونس في هذه الخيمة يتلوها وعنده خادمه.»
Unknown page