فرفع مرتين رأسه عند ذلك ووجه خطابه إلى الملك قائلا: «كيف تبرمون مثل هذا الأمر قبل عرضه على مجمع الأساقفة، وجلالة الملك يعلم أن قوانين المملكة تقضي بذلك.»
الإقرار على الحرب
ولم تكن تلك القوانين تخفى على أوباس، ولكنه أراد السرعة لأن جمع الأساقفة يستغرق بضعة أسابيع. على أنه خاف إن أنكر جمعهم أن يفسد مرتين ما أصلحه، فعذر الرجل على تعنته، فقال: «لم أطلب إبرام شيء دون رأي المجمع ولكنني أردت اجتماع مجلس الملك للبحث فيما يعرضونه على المجمع.» وقد فاته أن مرتين إنما أراد عرض ذلك على المجمع ليشكو إليه خروج أوباس من السجن؛ لأنه اغتاظ من جلوسه في حضرة الملك، وزاد غيظه أن رآه جالسا مجلس المشير أو الخطيب.
فاستحسن رودريك عقد مجلسه فبعث إليهم، وهم الكونتات الذين تقدم ذكرهم، فحضروا. وقبل عقد الجلسة طلب الكونت كوميس أن تتبع في عقدها نصوص القوانين الرسمية، وهي تقضي بإخراج مرتين منها؛ لأنه ليس من رجال الدولة، فخرج وهو يكاد يتميز غيظا.
فلما التأمت الجلسة، وقف أوباس ورفع يده وبارك وصلى صلاة حارة شفعها بالتوسل إلى الله تعالى أن يجمع قلوب القوط ليتحدوا على حماية بلادهم، ثم خاطب الحضور قائلا: «أنتم تعلمون الإساءة التي لحقت بي من جلالة الملك ومن مجلس الأساقفة حتى سجنوني سجن المجرمين شهرين كاملين، لم أر فيهما غير حراس. حكموا علي بذلك لغير ذنب اقترفته، أو على الأقل إني أعتقد ببراءة ساحتي من كل ذنب، ومع ذلك فحين علمت بما يهدد المملكة من الأخطار استأذنت في مقابلة الملك، وعرضت نفسي للعمل في جملة العاملين على إنقاذها، فبالأحرى يجب أن تكون رغبتكم في ذلك صادقة قوية، ولا سيما وأنتم رجال الدولة ومدبرو شئونها. إنني لا أنبهكم إلى أمر تعلمونه، ولكنني أبث لكم عواطفي في هذا الشأن، وأنا أصغر العاملين في هذا السبيل.»
فقال الكونت كوميس: «إن شهامة أوباس ومروءته وتعقله أشهر من أن تذكر، ولكننا لم نكن نحسب في البشر مثل هذه العواطف. فكيف نرى ما سبقنا به هو ولا نتفانى نحن في خدمة الملك؟ ولكنني لا أرى تأجيل العمل حتى يجتمع الأساقفة لئلا يضيع الوقت بلا طائل.»
فقال أوباس: «ولكن لا بد من استشارتهم في مثل هذا الأمر، وهم - كما لا يخفى - أصحاب الفضل الأكبر في تنظيم هذه الحكومة ووضع قوانينها وأحكامها وتدبير شئونها.»
فقال رودريك: «لا يمكننا اتخاذ قرار نهائي في التجنيد والحرب إلا بعد مشورتهم.»
فقال كوميس: «لا بأس من استشارتهم، ولكن الوقت قصير والفرصة ثمينة.»
فخشي أوباس أن يحتد كوميس فيذهب سعيه هدرا، وتذكر أن مرتين خرج من الجلسة حاقدا، وخشي - إذا لم يسترضوه - أن ينقلب عليهم ويحرض الأساقفة على الملك، فتنقسم المملكة على نفسها فتكون المصيبة الثانية شرا من الأولى، فعمد إلى تلافي ذلك فقال لكوميس: «أراك ضيقت الفرصة ودققت في الطلب؛ فالأساقفة - كما قلت - لا بأس من استشارتهم، بل أرى احترامهم واجبا لأنهم هم واضعو أساس هذه النظم، فضلا عما قد يترتب على نصائحهم من الفوائد، وزد على ذلك أن الاتحاد يقضي علينا باستشارتهم؛ لأن غضبهم يفضي إلى الشقاق لا محالة. ولا يخفى عليك أيضا ما يترتب على ذلك من عدم تحقيق الهدف الذي تسل سيفك وتشحذ قريحتك في سبيله. فرجائي لك أن تتلافى هذا الخطر، ولا شك عندي أنك ستتلافاه، فألتمس أن تبدأ بذلك من هنا (وأشار إلى باب القاعة حيث خرج مرتين)؛ لأن حضرة الأب إذا رضي هان الأمر.» ثم وجه كلامه إلى رودريك قائلا: «هل يأذن مولاي باستقدام الأب مرتين ليحضر هذه الجلسة ونجعل له حظا من هذا البحث؟»
Unknown page