ماذا عساه أن يكون أكثر هراء؟ وفي قريض شاعرنا الثاني ملتون (العظيم بحيث إن كلمة «الثاني» قبل اسمه تبدو زائفة كضحكة الأبله) فإن الأفكار ضحلة مرارا، والوقائع كاذبة عادة، وعند دانتي إذا كانت الأفكار عميقة أحيانا والانفعالات رهيبة فإنها، كقاعدة، ليست موافقة لأفضل مشاعرنا؛ فالوقائع أشبه بمحفوظات امرأة هابطة سليطة. إن موسيقى الشكل هي التي تصنع معجزة الشعر العظيم؛ فالشاعر يعبر في شكل لفظي عن انفعال لا يتصل بالألفاظ التي وضعها إلا صلة بعيدة، غير أنه يتصل بها على أية حال، وهو من ثم ليس انفعالا فنيا خالصا. إن الشكل ودلالته ليسا كل ما في الشعر؛ فالشكل والمضمون في الشعر ليسا شيئا واحدا، ورغم أن بعض أغنيات شكسبير تقترب من الفن الخالص فهي لا تخلو من واقع الأمر من أشابة. إن الشكل في الشعر مثقل بمضمون فكري، وهذا المضمون هو حالة نفسية تمتزج بانفعالات الحياة وتستند إليها، ومن هنا يعجز الشعر، رغم ما فيه من مواجد، عن أن ينقلنا إلى تلك الذرى العالية من الغبطة الإستطيقية التي ينقلنا إليها الشكل البصري والموسيقي الخالص بفضل انفصاله عن الحياة البشرية.
كانت «النهضة الكلاسيكية» قراءة جديدة للحياة الإنسانية، وما أضافته إلى رأس المال الانفعالي لأوروبا كان حسا جديدا بروعة الشئون الإنسانية، وإذا كان رجال النهضة ونساؤها قد اهتزوا ب «الفن» و«الطبيعة»؛ فلأنهم في «الفن» و«الطبيعة» رأوا انعكاساتهم الخاصة، لم تكن «النهضة الكلاسيكية» إعادة ميلاد بل إعادة اكتشاف؛ وذلك الخليط الرائع من الفكر والملاحظة والتوق والبلاغة والحذلقة - الذي نسميه أدب «النهضة» هو أفضل وأميز آثارها، والذي أعاد اكتشافه هو الأفكار التي من عليائها اكتسب القدماء رؤية للحياة، اقتبست «النهضة» هذه الرؤية، وبفعلها هذا نزعت الوخزة من الموت الروحي للعصور الوسطى المتأخرة. لقد بينت للناس أنهم نجحوا أيما نجاح بدون روح، وجعلت المادية محتلمة بأن بينت كم يمكن أن يعمل بالمادة والذهن، ذلك كان عملها الفذ. لقد علمت الناس كيف يبذلون غاية جهدهم رغم المصاعب، وأثبتت أنه بتثقيف الحواس وجعل الذهن يتفكر فيها تتسنى إثارة انفعال ما من صنف رديء، فعندما فقد الناس إبصار الروح سربلت الجسد برداء من فتنة.
كانت «النهضة الكلاسيكية»، جوهريا، حركة فكرية، مما يثبت ذلك، في اعتقادي، حقيقة أنها لم تمس الطبقات غير المتعلمة تقريبا. لقد عانوا من جرائها، ولم تقدم لهم أي شيء، وبينا موجة من الانفعال تفيض على الحدائق الخلفية، بقي تيار ذهني داخل في قنوات الري، لقد أتمت «النهضة الكلاسيكية» الانفصال بين العلية والعامة. كان اللورد القروسطي في قلعته والفلاح القروسطي في كوخه صنوين روحيين يفكران ويشعران نفس الشيء، ويضمران نفس الآمال والمخاوف ، ويتقاسمان إلى حد عجيب آلام ومسرات مجتمع بسيط وقاس نوعا ما، جاءت «النهضة» فغيرت كل ذلك. دخل اللورد عالما جديدا من الأفكار والحسية الرفيعة، وبقي الفلاح حيث هو، أو تدنى أكثر حيث بدأت بقايا الدين الروحي في الزوال عند الطغام. لم يتغير الفن الشعبي إلا ببطء شديد بحيث إننا في أواخر القرن الخامس عشر وفي القرن السادس عشر لا نزال نجد في الأركان القصية أشياء خاما ولكن بالغة الإثارة. كان بناء القرية لا يزال بوسعه أن يخلق بالحجر في الوقت الذي كان فيه جاك كور يبني لنفسه أول «مقام جدير بمليونير» يتم إعلاؤه منذ أيام هونوريوس
Honorius ، ولكن تدهور الفن الشعبي ببطء مع تقدم الفن البلوتوقراطي عدوا، ذلك حدث غريب سرعان ما ضاعت آثاره. أما الحقيقة الجليلة فهي أن أوروبا النهضة بالتأكيد قد أدارت ظهرها للرؤية الروحية للحياة، بهذا التخلي تصبح القدرة على خلق الشكل الدال هي الموهبة الملغزة للعبقرية العارضة، فينتج فرد من هنا وهناك عملا فنيا؛ ومن ثم صار الفن يعتبر شيئا متفرقا في الصميم وغريب الأطوار. يعد الفنان أعجوبة، ها نحن أولاء في عصر الأسماء والفهارس وعبادة العبقرية، ألا إن عبادة العبقرية هي علامة لا تخطئ على عصر غير خالق، أما في العصور العظيمة فقد لا نكون جميعا عباقرة ولكن كثيرا منا فنانون، وحيثما كان هناك كثرة من الفنانين يميل الفن إلى أن يصير غفلا (من الاسم).
كانت «النهضة الكلاسيكية» شيئا مختلفا في النوع عما قد أسميته «النهضة المسيحية»، وهي تقع بالضرورة في موضع ما بين سنة 1350 و1600م، ضعها حيث شئت، أما أنا فأتصورها دائما كثوب رائع وجيد التفصيل قد من السنوات الواقعة بين 1453 و1594م، بين سقوط القسطنطينية ووفاة تينتوريتو
Tintoretto ؛ وهي عندي عصر ليوناردو، وشارل الثامن، وفرنسيس الأول، وقيصر بورجيا، وليو العاشر، ورفائيل، ومكيافيللي، وإرازموس الذي ينتقل بنا إلى المرحلة الثانية، فترة السياسة الكنسية الغاضبة لكليمنت السابع
Clement VII ، وفونتينبلو
Fontainebleau ، ورابيليس
Rabelais ، وتيتيان
Titian ، وبالاديو
Unknown page