الإهداء
مقدمة
تصدير المؤلف
تصدير الطبعة الجديدة
1 - ما هو الفن؟
2 - الفن والحياة
3 - المنحدر المسيحي
4 - الحركة المعاصرة
5 - المستقبل
الإهداء
Unknown page
مقدمة
تصدير المؤلف
تصدير الطبعة الجديدة
1 - ما هو الفن؟
2 - الفن والحياة
3 - المنحدر المسيحي
4 - الحركة المعاصرة
5 - المستقبل
الفن
الفن
Unknown page
تأليف
كلايف بل
مراجعة وتقديم
ميشيل متياس
ترجمة
عادل مصطفى
الإهداء
إلى الأستاذ الكبير سعيد عقل دليلنا إلى عالم الشكل الدال وجناحنا إلى معارج الوجد.
د. عادل مصطفى
مقدمة
Unknown page
السؤال الأساسي الذي يعالجه بل
Bell
في هذا الكتاب هو: ما الصفة
quality
التي تميز العمل الفني عن الأعمال العادية والأشياء الطبيعية؟ إننا نشير إلى قطعة موسيقية لبيتهوفن، أو لوحة لسيزان، أو قصيدة لابن الرومي، أو رواية لنجيب محفوظ، أو تمثال لبرانكوزي، أو مسرحية لبرنارد شو، وأعمال أخرى مثل هذه - نشير إليها كأعمال فنية
works of art . ومن ناحية أخرى نحن نستخدم أو نتعامل مع الكثير من الأدوات التي تحيط بنا؛ كالبنايات، والسيارات، والأدوات المنزلية والصناعية والزراعية، بوصفها أعمالا «عملية». وفي العادة يتم «تذوق» الأعمال الفنية «جماليا» بينما يتم «استخدام» الأعمال العملية. إن كليهما يعتبر «عملا»؛ العمل الفني عمل، ولكن ليس كل عمل عملا فنيا، إن صورة والدي على الطاولة بقربي هي عمل، ولوحة «موناليزا» لليوناردو دافنشي هي أيضا عمل، الأولى عمل عادي، والثانية عمل فني، إذن ما «الصفة» التي تميز موناليزا كعمل فني؟
ظاهريا، تختلف الأعمال الفنية عن بعضها البعض، يبدو أن السيمفونية تختلف بجوهرها ووجودها الفيزيائي عن القصيدة أو المسرحية أو التمثال أو العمارة أو الفيلم السينمائي أو الحديقة، ويبدو أن جميع هذه الأشكال والأعمال التي تتضمنها تختلف عن بعضها البعض بجوهرها ووجودها الفيزيائي، ولكننا على الرغم من هذا الاختلاف نشير إليها جميعا بكلمة «فن» ونميزها عن الأشياء الطبيعية، والأدوات العادية التي نصنعها ونستعملها في تأمين حاجاتنا الإنسانية، فهل توجد صفة عامة مشتركة بين جميع هذه الأشكال والأعمال تشكل منها حقلا أو عالما يمكن تسميته «عالم الفن»؟ يرى «بل» أنه لو لم تكن هناك صفة مشتركة تشمل الأعمال الفنية جميعا لكان حديثنا عن «الأعمال الفنية» نوعا من الثرثرة . لا يمكن القول بأن هذه القطعة الموسيقية أو هذا التمثال ... إلخ هو فن ما لم توجد صفة مشتركة بين هذه الأعمال ترادف كلمة «فن»، وإن وجود هذه الصفة في العمل هو أساس الحكم: «هذا العمل عمل فني»، ولكن إذا كانت هناك صفة مشتركة، صفة تميز الأعمال الفنية عن الأعمال اللافنية، فما هي هذه الصفات؟ للإجابة عن هذا السؤال يأخذ «بل» الفن التشكيلي كنموذج في تحليل طبيعة الفن، ويرى أن هذا التحليل ينطبق مبدئيا إلى حد كبير على جميع الفنون الأخرى.
أولا: كيف تكتشف هذه الصفة؟ أو بأية طريقة أو منهج نستطيع اكتشاف هذه الصفة؟ يرى بل أن منهج اكتشاف هذه الصفة هو التجربة، وبالتحديد «التجربة الجمالية»، فليس بإمكاني أن أقول أو أحدد ما إذا كان عمل ما عملا فنيا إذا لم أختبره؛ أي إذا لم أدرك فيه حسيا تلك الصفة التي تميزه كعمل فني. هذه الخبرة هي مصدر معرفة الصفة الفنية، وهي أيضا أساس التنظير في طبيعة الفن عامة، ولا يمكن الحديث عن الفن؛ أي عن الصفة الجمالية أو الخبرة الجمالية أو الحكم الجمالي إن لم نتفاعل حسيا وخياليا مع الأعمال الفنية، ولكن الخبرة الجمالية هي دائما خبرة ذاتية؛ خبرة هذا المتذوق أو ذاك الناقد، أيعني ذلك أنه لا يمكن بناء نظرية تفسر وجود الصفة الجمالية وطبيعتها؟ في الحقيقة لا يمكن بناء نظرية جمالية إذا لم نفترض أن لهذه الصفة وجودا موضوعيا؛ أي إذا لم نفترض أنها توجد واقعيا في جميع الأعمال التي تشكل عالم الفن، يؤكد بل أن ذاتية الخبرة الجمالية ليست عائقا في بناء نظرية تفسر طبيعة الفن، ذلك أننا يمكن أن نختلف حول قيمة أو فقر بعض الأعمال الفنية، أو معظمها، روحيا واجتماعيا ونتفق رغم ذلك على كونها، أو عدم كونها، فنا، يمكن لشخصين مثلا أن يختلفا حول جمال أو بشاعة عمل ما ويتفقا رغم ذلك على كونه فنا، كون العمل فنا شيء، وكونه جميلا أو قبيحا، أو سيئا أو مضرا، شيء آخر، المهم بالنسبة للفيلسوف هو وجود (أو عدم وجود) الصفة الفنية في العمل وكيف نعرف بهذا الوجود.
نعرف أن عملا ما هو عمل فني إذا أثار فينا انفعالا خاصا يسميه بل «الانفعال الجمالي»
aesthetic emotion ، هذا الانفعال هو نوع من العاطفة نشعر به عندما ندرك أو نتذوق العمل الفني جماليا، أقول: «جماليا»؛
Unknown page
1
لأنه يمكن لي أن أدرك العمل الفني وأصف جميع نواحيه أو عناصره الحسية عاديا، كما أن العالم يصف الأشياء المادية لا جماليا، مثلا، عندما أقرأ «أنا كارنينا»
Anna Karenina
لتولستوي كحكاية فإنني لا أدركها جماليا، بل أختبرها في هذه الحالة كقصة، كتاريخ، لا كعمل فني. يشدد بل على أن الانفعال الجمالي ليس انفعالا جاهزا أو معطى أشعر به كلما اختبرت عملا فنيا، أو أن جميع الأعمال الفنية تثير فينا نفس الانفعال الجمالي عندما نختبر هذه الأعمال. كلا، إن الانفعال الجمالي هو نوع خاص من الانفعال؛ هو ذلك الانفعال الذي تثيره الأعمال الفنية بوصفها فنا؛ فالعمل الفني يمكن أن يثير فينا مشاعر وانفعالات مختلفة؛ أخلاقية، دينية، اجتماعية، سياسية، رومانسية، جنسية ... إلخ، ولكن الخاصة التي تميز العمل الفني كفن هي أنه يثير فينا انفعالا جماليا، يتميز هذا الانفعال عادة بالمتعة والانفتاح الخيالي والحدس المعرفي والنشوة، وبنفحة من الدفء الإنساني والأمل والعزة، وبمشاعر إنسانية أخرى يصعب علينا تسميتها، ويعتمد عمق وقوة وغنى الانفعال الجمالي على عمق وقوة وغنى الصفة الجمالية الكامنة في العمل الفني.
والآن ما هي هذه الصفة التي تثير الانفعال الجمالي؟ يقول: بل إنها «الشكل الدال»
significant form ، الشكل الدال هو الكيف الذي يميز الأعمال الفنية عن الأعمال العادية أو اللافنية، وهذا يعني أن العنصر المشترك بين جميع الأعمال الفنية التي تختلف عن بعضها البعض بالشكل والمادة هو امتلاك الشكل الدال. ماذا يعني بل ب «الشكل الدال»؟ إن ما يعنيه هو نمط، طريقة، أسلوب تنظيم العناصر الحسية للعمل الفني. كل عمل فني يمثل تشكيلا «فريدا»
unique ، إن طريقة هذا التشكيل الخاصة - وبإمكاننا القول المبدعة - هي التي تثير فينا الانفعال الجمالي، وعندما نتكلم عن الشكل الدال نعني جميع العناصر الحسية التي تدخل في تنظيم الشكل؛ الألوان والخطوط وعناصر اللمس والصوت والسمع والحركة، لا يمكن فصل هذه العناصر عن طريقة تشكيلها؛ فالعناصر الحسية جزء من الشكل كشكل؛ ولهذا يجوز لنا القول بأن الكيفيات الجمالية الكامنة في العمل الفني كالرقة والأناقة والمأساة والنعومة والجلالة والرعب والهيبة ... إلخ، توجد في العمل على مستوى الكمون وتنبثق من العلاقات الدينامية التي تكون الشكل الدال أثناء التجربة الجمالية.
كما نرى، يفصل بل بين الشكل الدال و«التمثيل»
representation ، ويشير التمثيل عادة إلى موضوع أو مضمون العمل الفني، الموناليزا، مثلا، تشكيل من الألوان والخطوط، ولكنها بالإضافة إلى ذلك موضوع، وهذا الموضوع يمثل وجه امرأة، والعنصر الذي يميز هذا العمل كفن ليس التمثيل بل الصورة الدالة أو الشكل الدال؛ أي نمط حبك الألوان والخطوط مع بعضها البعض، وهذا يعني أنني أختبر هذه اللوحة جماليا عندما أركز انتباهي الجمالي على الشكل، على طريقة الألوان والخطوط وتشابكها مع بعضها البعض، لا على التمثيل؛ أي على وجه المرأة وعما إذا كان رزينا أو تأمليا أو استهزائيا أو تهكميا أو لطيفا أو متواضعا أو واقعيا، وحتى الإشارة إليه تحبط إمكانية الخبرة الجمالية أو تصرف النظر عن البعد الجمالي للوحة. ليست اللوحة الفنية صورة تحاكي جانبا من الواقع الطبيعي أو الإنساني، ولو أن هدف الفنان محاكاة الواقع لكان من الأفضل له أن يستعمل آلة التصوير؛ فهي تعطي صورة أصدق للواقع من لوحة الفنان، الغاية من اللوحة الفنية إذن ليست محاكاة الواقع أو نقل رسالة سياسية أو دينية أو معرفية أو أخلاقية أو ثقافية معينة، ولكن كما يقول: بل في «الفرضية الميتافيزيقية» التعبير عن معنى إنساني معين؛ فالشكل الدال يعبر عن هذا المعنى، ومقدرته التعبيرية على هذا النحو هي التي تثير فينا أنواعا معينة من الانفعالات الجمالية، والفنان هو العقل الخبير في اكتشاف هذه الأنماط.
ومن ناحية أخرى، يرى بل أن العمل الفني موجود مستقل بذاته، عناصره متكاملة، ودلالته الشكلية تنجم عن هذا التكامل؛ ولهذا فعندما نركز انتباهنا على التمثيل فإن هذا التركيز يصرفنا عن البعد الجمالي للعمل، قد يكون سبب الاستمتاع بالموناليزا سببا معرفيا أو أخلاقيا أو نفسيا أو اجتماعيا أو تاريخيا أو تقنيا، ويعتقد بل أنه يمكن للعم الفني أن يرضينا في أي من هذه المجالات التجريبية، ولكن ها النوع من الرضا ليس جماليا.
Unknown page
ليس يعني ذلك أن الموضوع، بغض النظر عن عناصره، لا يمكن أن يكون جزءا من الشكل الدال؛ فهذا جائز وممكن وفي هذه الحالة علي كمدرك أن أختبر هذا العنصر أو هذه العناصر كجزء من الشكل لا كشيء مستقل عنه؛ ولهذا يشدد بل على أننا يجب ألا نجلب معنا إلى العمل الفني عندما نحاول إدراكه جماليا أي شيء من حياتنا أو اهتماماتنا العملية، أي يجب ألا نتذوق أو نقيم العمل الفني من وجهة نظر اهتماماتنا الشخصية أو اعتقاداتنا أو عواطفنا أو تحيزاتنا الثقافية، بل من وجهة نظر العمل نفسه وبناء على الصفات أو الكيفيات الكامنة في الشكل الدال؛ فالشكل الدال وحده هو أساس الخبرة الجمالية ومصدرها، وبعبارة أخرى، علينا أن نتذوق العمل الفني موضوعيا، من ذاته ولأجل ذاته، هذه المقولة هي أساس ما يسمى عادة «النزاهة الجمالية»
aesthetic disinterestedness .
تقودنا هذه النقطة الأخيرة إلى ناحية هامة في نظرية بل؛ فلقد قال: إن موضوع الانفعال الجمالي هو الشكل الدال، لا التمثيل الذي قد يكون مضمون هذا الشكل، هذه المقولة تستلزم تمييزا بين إدراك التمثيل كموضوع له أبعاد نفسية أو معرفية أو أخلاقية أو سياسية أو ثقافية من ناحية، وإدراك الشكل الدال من ناحية أخرى، إن إدراك التمثيل يقترح انفعالا معينا فينا أثناء الخبرة الجمالية، ويعتمد هذا الاقتراح على مدى ونوعية المضمون، قد يكون المضمون معرفيا أو أخلاقيا وقد يهمني، وفي هذه الحالة أتفاعل معه بصورة شخصية خاصة تتناسب مع شخصيتي الثقافية وقدراتها العقلية والشعورية، والنقطة المهمة هنا هي أن إدراك التمثيل يصرفني عن البعد الفني للعمل ويجرني إلى ذاتي الشخصية ... إلى اهتماماتي الذاتية، يصبح العمل مصدر خبرة ذاتية، يصبح وسيلة إلى غاية لا غاية بذاته، أما إدراك الشكل الدال فلا يقترح انفعالا ذاتيا؛ لأن موضوعه هو الشكل الدال بذاته، ومعنى الشكل الدال كامن في الشكل ذاته.
وعندما نقول: إن الشكل الدال هو موضوع الانفعال الجمالي فنحن نعني أن هذا الموضوع يشكل بنية الانفعال عامة؛ إذ لا يمكن للانفعال أن يوجد بدون موضوع، وطبيعة هذا الانفعال تعتمد على طبيعة الموضوع، في هذه الحالة يكون موضوع الانفعال الجمالي هو الشكل الدال، أي الصفة الجمالية الكامنة في الشكل، ولا يمكن لهذه الصفة أن ترد إلى شعور باللذة أو إلى أية حالة نفسية أخرى أيا كان نوعها أو أهميتها؛ لأن هذا الرد يصرفنا عن العمل الفني ذاته، وبهذه الحالة تفقد التجربة صفتها الجمالية وتصبح تجربة نفسية أو عقلية، ومثلما قال جورج إدوارد مور
G. E. Moore
في «مبادئ الأخلاق» بخصوص «الخير» فإن الصفة الجمالية بسيطة ونحن ندركها بصورة مباشرة أثناء التجربة الجمالية؛ ولهذا السبب أكد بل على ضرورة تنمية «الذوق الجمالي» كشرط ضروري ليس فقط للتجربة الجمالية، ولكن أيضا للتنظير الجمالي في طبيعة الفن.
يبدو واضحا مما سبق أن هناك علاقة سببية بين الشكل الدال والانفعال الجمالي، وعندما نسأل بل: ما هو الانفعال الجمالي؟ يقول إنه الانفعال الذي يثيره الشكل الدال. وعندما نسأله: ما هو الشكل الدال؟ يقول إنه الشكل الذي يثير الانفعال الجمالي! وبذلك يقترف بل في تعريف هذين المصطلحين «مصادرة على المطلوب الأول»؛ لأننا لا نعرف إن كان الشكل الدال هو في الواقع سبب الانفعال الجمالي، ولكي نعرف إن كان هو السبب فلا بد من أن نؤكد سببيته بدون الإشارة إلى الانفعال الجمالي؛ أي يجب أن نبرهن على أن الشكل الدال هو فعلا سبب الانفعال الجمالي من غير إحالة (إشارة) إلى هذا الانفعال؛ ولهذا السبب ذهب بعض النقاد إلى أن بل لم يعطنا معيارا للتمييز بين الشكل والشكل الدال؛ لأن بإمكاننا أن نسأل: كيف نميز بين الشكل والشكل الدال؟ فمن المؤكد أن ليس كل شكل هو شكل دال. نعم؛ كل شكل دال هو شكل ولكن ليس كل شكل هو شكل دال، وعندما نقول: إن الشكل الدال هو الشكل الذي يثير الانفعال الجمالي فإننا لا نستطيع أن نكذب أو نصدق هذا القول؛ لأن بل لم يعطنا معيارا للتمييز بين الشكل العادي والشكل الدال.
ومن جهة ثانية، يؤكد بل أنه ينبغي للخبرة الجمالية أن تكون نزيهة؛ فالإدراك الجمالي هو إدراك للقيمة الجمالية الكامنة في الشكل الدال للعمل الفني وتذوق هذه القيمة من أجل ذاتها دون مزج هذا الإدراك بأي عنصر ذاتي أو شخصي، وكما رأينا فإن موضوع الخبرة الجمالية هو الشكل الدال فقط، وعندما ينحرف الإدراك الجمالي نحو التمثيل فإنه يفقد صفته الجمالية. من الواضح أن هذه المقولة تفصل بين الذات الشخصية وملكة الذوق الجمالي؛ فالذات الشخصية هنا تتراجع والذات الجمالية تفعل، ولكن هل هذا الانفصال ممكن؟ ترى هل يمكن لأي إنسان أن يقصي ذاته الشخصية أو العملية، أو يحجبها، أثناء الخبرة الجمالية؟ وبالتالي، هل يمكن للشكل الدال أن يحمل أي معنى إذا لم يمثل شرحه ولو بصورة غير مباشرة من الواقع الطبيعي أو الإنساني؟ ليس بوسعي الآن أن أمكث طويلا عند هذه الأسئلة الصعبة، ولكني سأكتفي ببضع ملاحظات:
أولا:
لا يمكن فصل الشكل الدال للعمل الفني عن مضمونه أو عن التمثيل، ولا يمكن إدراك الواحد بدون الآخر؛ لأنني أدرك دلالة الشكل من خلال التمثيل، وبمعنى أدق، الشكل الدال هو التمثيل، ولنلق نظرة أخرى على الموناليزا، ما هو الشكل الدال في هذه اللوحة؟ إنه نمط تشكيل الألوان والخطوط، والشيء الناجم عن هذا التشكيل هو التمثيل، وهذا التمثيل هو صورة المرأة المسماة «موناليزا»، فهل بإمكاني أن أشير إلى الشكل الدال هنا بدون الإشارة إلى التمثيل؟ إن هذا التمثيل هو الذي يعبر عن الصفات الجمالية والإنسانية التي تحدثت عنها سابقا، فهل يمكن لهذه اللوحة أن تكون شكلا دلاليا بدون هذه القدرة التعبيرية؟
Unknown page
ثانيا:
من الصعب جدا إن لم يكن من المستحيل إبعاد الذات الشخصية عن الإدراك الجمالي؛ أي لا يمكن الكلام بطريقة محددة عن إدراك جمالي خالص يحدث بين ذات جمالية خالصة وصفة جمالية خالصة، وحتى لو افترضنا أنه يمكن الكلام عن ذات جمالية خالصة وإدراك جمالي خالص، فإن ذلك أمر غير مرغوب فيه؛ لأن العمل الذي لا يثيرني ولا يساعدني على النمو كإنسان هو عمل يمكن الاستغناء عنه، ومن ناحية أخرى، لا تستلزم النزاهة الجمالية بحكم الضرورة افتراض وجود ذات جمالية خالصة تقوم بإدراك جمالي خالص، كلا، إن ما تطلبه النزاهة الجمالية هو استعداد الفرد لأن يدرك أو يستوعب المضمون الجمالي الكامن في العمل الفني كما هو موجود في العمل، بدون أي نوع من التشويه.
ترى هل يمكن للفنان، بغض النظر عن نوعية وكمية ولائه أو التزامه بالتجريد، أن يتخلى عن تمثيل الواقع؟ كلا! الفنان ابن ثقافته، إنه يرى ويفهم ويؤول الواقع حوله كفرد، كإنسان عيني موجود في ثقافة معينة وفي زمان ومكان معين، إن روح هذه الثقافة تنبض في عروقه؛ ولذا فإن طريقة انتقائه لمادته الفنية وطريقة تشكيلها تعبران دائما عن هذه الروح الثقافية.
ثالثا:
إن نظرية بل الصورية
Formalism
التي تعتبر الشكل أو الصورة
form
الصفة المميزة للعمل الفني بوصفه عملا فنيا، ترتكز على افتراض ميتافيزيقي، وهذا الافتراض هو وجود ماهية
essence
Unknown page
مشتركة بين جميع الأعمال الفنية، وتفترض أن هذه الماهية هي الشكل الدال، وهذا الافتراض قد ساعد بل على تمييز الأعمال الفنية كصنف
class
بذاته وعلى عزل هذا الصنف عن الأعمال والأشياء الأخرى، وبهذه الطريقة أسس بل استقلالية الفن عامة والعمل الفني خاصة، ولكن السؤال الذي يجب طرحه هو: هل يمكن رسم خط دقيق يعزل أو يفصل الأعمال الفنية كصنف من الأعمال مستقلة عن ميدان الحياة الإنسانية الاجتماعية الواقعية؟ تاريخيا كان الفن مرتبطا بحياة الإنسان الدينية والسياسية والأخلاقية والاجتماعية والتربوية والثقافية عامة، لقد كان العمل الفني وما زال قوة تأنيسية
humanizing
تخاطب مختلف حاجيات الإنسان كإنسان؛ ولذا فإن النظرية التي تعتبر الشكل مبدأ التفسير الفني تقترف مغالطة الردية
reductionism ؛ لأنها ترد فنية العمل الفني إلى الشكل فقط وتعمل أبعاده ووظائفه الأخرى التي هي ضرورية جدا لتفهم هذه الصفة الفنية. إن ما أريد أن أؤكده هنا هو أننا لا نستطيع شرح أو تفسير البعد الفني إن لم نأخذ بعين الاعتبار مختلف الوظائف التي يقوم بها هذا العمل في حياة الإنسان.
ومن ناحية أخرى، عندما نقول إن الشكل الدال هو الذي يحدد الطبيعة الفنية فإننا بذلك نحبط أي إمكانية لتقييم جودة العمل الفني؛ ذلك أن كل عمل يمتلك شكلا دالا هو، بحسب نظرية بل، عمل فني، ولا تقر هذه النظرية بوجود أي جانب آخر في العمل الفني يمكن الارتكاز عليه في تقييم جودة العمل. إن هذا النقص في نظرية بل، والصورية بعامة، أدى إلى حد كبير إلى تطوير التعبيرية
Expressionism
في الربع الثاني من القرن العشرين.
ولا يسعني أن أختتم هذه المقدمة بدون أن أعبر عن مزيد شكري وإعجابي للجهد العلمي الذي بذله د. عادل مصطفى في ترجمة هذا الكتاب. يعد هذا الكتاب من أهم الأعمال الفلسفية التي كتبت في فلسفة الفن، ولا يمكن لأي مفكر، الآن أو في المستقبل، التنظير في طبيعة الفن بدون استيعاب سليم لنظرية بل، وحتى النظرية التعبيرية التي تلتها انطلقت من الحدس الأساسي لصورية بل وأخذته بعين الاعتبار. لقد نجح د. عادل، حسب اعتقادي، في ترجمة هذا الكتاب بصورة دقيقة وبلغة سلسة، ونقل المعنى بصدق وإخلاص للنص الأصلي.
Unknown page
د. ميشيل متياس
هذا الكتاب
«ثمة لحظات في الحياة هي غايات ليس بالكثير عليها أن يكون تاريخ البشرية بأسره وسيلة إليها.» «لم يكن هم سيزان الحقيقي في حياته هو أن يصنع لوحات، بل أن يصنع خلاصه.» «أعرف رجلا واسع الاطلاع ذكيا؛ رجلا لم تكن حياته الجافة أفضل من نزلة برد طويلة بالرأس، رجلا لم يدخر ذلك الممسوس فان جوخ جهدا لإنقاذه.»
كلايف بل ***
هذا الكتاب أنشودة في الفن صدح بها في أوائل القرن العشرين صوت من أعذب الأصوات الفلسفية وأعمقها، فوجد فيها أهل زمانه ترجمة صادقة لتلك الروح التي كانت آنذاك تدأب لكي تعي ذاتها، وتلوب لكي تقبض على هويتها، ووجدت فيها الأجيال التالية معنى لا يغيب صداه، وهديا لا تضل بعده في فهم طبيعة الفن وكنهه وحقيقته النهائية.
هذا كتاب كلاسيكي نقل النظرية النقدية في الفن من جاهلية القرن التاسع عشر إلى بصائر القرن العشرين، ولولا ما لحق بتعبير «ثورة كوبرنيقية» من ابتذال منذ وصف بها إمانويل كانت، بحق، ثورته الإبستمولوجية، لقلنا: إن هذا الكتاب يمثل ثورة كوبرنيقية في مجال الإستطيقا
aesthetics
1
بنقله محور الارتكاز في الفن من الترديد الأمين إلى الشكل الدال، ومن المحاكاة إلى الخلق.
كان كلايف بل
Unknown page
Clive Bell ، مؤلف هذا الكتاب، نجما متفردا بين جماعية «بلومزبري»
Bloomsbury
التي نبه شأنها في العشرينيات، ويعد، بجانب هربرت ريد وروجر فراي، عضوا في أوسع الجماعات تأثيرا في نظرية النقد الفني بالمملكة المتحدة، وكان «بل» فوق ذلك من «الأسلوبيين»
stylists
الرفيعي المستوى في النثر الإنجليزي، يعالج بكياسة وسخرية ماكرة مناقب ومثالب معاصريه من الفنانين، ومناقب ومثالب جميع الفنانين منذ العصر الحجري إلى اليوم.
لعل أهم إسهام لكلايف بل في نظريات الجمال والأسلوب الحديثة هو مفهومه عن «الشكل الدال»
Significant Form
الذي دفع به لأول مرة عام 1913م في هذا الكتاب الذي بين يديك، والذي تولت الفيلسوفة الأمريكية سوزان لانجر
Susanne Langer
إعادة تقييمه والتوسع فيه، فتخطى تأثيره مجال النظريات الفنية وصار حجر الأساس لقدر كبير من العمل الفلسفي، لقد نجح مفهوم «الشكل الدال» على سبيل المثال في تثوير دراسة الشكل والبناء الرمزيين في جميع الفنون، ولعب دورا هاما في تطوير المنطق والإبستمولوجيا المعاصرين.
Unknown page
يقدم هذا الكتاب خلاصة النظرية الشكلية في الفن، والتي أرى أنها أعمق النظريات الفنية وأقربها إلى الصواب وأشدها إمساكا بجوهر الفن لو أنها أخذت بمعناها الحقيقي وفهمت على وجهها الصحيح، وأرى تطرفها الظاهري تطرفا في الحق، وترياقا ناجعا يعدل ويعادل تطرفنا في الباطل وتخلفنا الفاجع في فهم معنى الفن ومقصده وجدواه.
الفرضية الإستطيقية: الشكل الدال
تبدأ الإستطيقا الشكلية من «واقعة»
fact
محددة، يقينية لا شك فيها، هي أننا (أو أن أصحاب الحساسية
sensibility
منا) ننفعل بإزاء أشياء معينة نطلق عليها «الأعمال الفنية»
works of art
انفعالا شديد الخصوصية والتميز نطلق عليه «الانفعال الإستطيقي»
aesthetic emotion ، ورغم أن هذا الانفعال هو خبرة ذاتية شخصية، إلا أن ارتباطه بموضوعات عينية من جهة، واتفاقنا الوثيق في حدوثه من جهة أخرى، يجعل منه شأنا واقعيا صلبا ويصبغه بصبغة موضوعية
Unknown page
2
صارمة.
إننا ننفعل حقا تجاه أشياء متباينة نطلق عليها أعمال «الفن»
Art
انفعالا غامرا عميقا «فريدا في نوعه»
sui generis
نعرفه جميعا ونعرف «ماذا يشبه أن يكون»
what it is like ، وكلنا إذ يتحدث عن «الفن» فهو يعكس بذلك تصنيفا ضمنيا مدمجا بذهنه يفرق به بين فئة «الأعمال الفنية» وجميع الفئات الأخرى، فما هو المبرر العقلي لهذا التصنيف؟ ما هي الصفة التي تجمع بين اللوحات والسيمفونيات والأواني والقصائد والمنحوتات والرقصات والتراجيديات والكاتدرائيات والمنسوجات، وتحملنا على أن ندرجها جميعا تحت مقولة «الفن»؟ ما هي «الخاصية الجوهرية»
essential property
التي بها يكون الشيء عملا فنيا وبدونها يكون أي شيء آخر؟ يقول كلايف بل بجسارة وحسم: إنها «الشكل الدال»
Unknown page
Significant Form ، ويعني به في الفنون البصرية تلك التجمعات والتضافرات من الخطوط والألوان، أو حبكة الخطوط والألوان، التي من شأنها أن تثير في المشاهد انفعالا إستطيقيا، وبوسعنا أن نعمم مفهوم «الشكل الدال» ليشمل جميع الفنون، فنقول إن الشكل الدال لعمل من أعمال الفن هو ذلك التنظيم الخاص الذي يتخذه «الوسيط»
medium
الحسي لذلك العمل، والذي من شأنه أن يثير في المتلقي (الذي يتمتع بالحساسية الفنية ويتخذ الموقف الإستطيقي) انفعالا إستطيقيا.
والحق أن الفنان في نهاية المطاف، وآخر الجدل: ليس هو الشخص العميق الفكر، ولا هو الشخص المشبوب الانفعال، ولا الثري التجارب، فكل هذه صفات توجد في أناس بعدد الحصى دون أن تتخايل في أحدهم بارقة فن واحدة، إنما الفنان هو ذلك الشخص الذي يفكر ويحس من خلال وسيط فني معين، وأيا ما كانت انفعالاته وأفكاره، ملتهبة أو باردة، عميقة أو سطحية، فإنها تتمثل لذهنه متجسدة في وسيطه الخاص، ويعلم كل مزاول للفن أن العملية الفنية في عامة الأحوال ليست حالة أو فكرة مجردة يبلغ إليها في مرحلة منفصلة ثم يحاول الاهتداء إلى ثوب فني يكسوها به في مرحلة ثانية، إنها ملتحمة بالوسيط منذ البداية، وكثيرا ما تكون العملية الفنية هي عملية تنمية لحن أو التوسع في تصميم بصري أو تعقب تركيبة لفظية ورؤية ما تسفر عنه.
3
الشكل الدال في مقابل المحاكاة والتمثيل
في كتابه البعيد الأثر «الشعر»
، عرف أرسطو التراجيديا بأنها «محاكاة»
mimesis
لشخصيات معينة أو أفعال بشرية معينة، فقد لاحظ أرسطو أن الناس يمتعها أن تقلد أو تشاهد تقليدات ناجحة، ومن الإنصاف للمعلم الأول أن نقول إن المحاكاة التي نادى بها هي محاكاة انتقائية خلاقة تعبر عن «الكلي» بحق في التجربة البشرية ولا تكتفي بالترديد الحرفي للمجرى المألوف للتجربة، غير أنه منذ دفع بنظريته أصبح عامة الجمهور يعتقدون أن مهمة الفن هي محاكاة الواقع وصنع نسخ طبق الأصل لما يجري بالحياة، ولا يزال العامة في كل مكان يثنون على الأعمال الفنية لأنها شبيهة بالحياة أو «واقعية» ولا يزالون يعتبرون الفن مرآة للطبيعة، ويرون أن اللوحات الفنية وسيلة «إيهام»
Unknown page
illusion
تخيل للناظر أنه يرى الطبيعة نفسها، وتبلغ ذروة الفن إذا عجز المشاهد عن أن يفرق بينها وبين الواقع.
ولكن إذا كان الفن تمثيلا أو نسخا للواقع، فأي نفع نناله من تمثيل ما هو ماثل؟ وأي جدوى تعود علينا من الحصول على «نسخ» ولدينا «الأصل» طوع يدنا؟ يقول أرسطو إن الناس تجد متعة في رؤية الشبيه؛ لأن في الاستدلال والتعرف على الأنموذج
model
متعة، غير أن بل والشكليين يرون أن متعة التعرف ليست متعة إستطيقية؛ فحين يكون اهتمام المتلقي منصرفا إلى التعلم أو الاستدلال أو التعرف، فإن إدراكه لا يقع على العمل الفني ككل، وإنما يقع على «موضوعه» فقط؛ أي على الشيء الذي يمثله العمل، حينئذ تكون صورة فوتوغرافية تافهة أوفى بالغرض من أي لوحة عظيمة، وبنفس القياس تكون الأعمال الوصفية التي لا هم لها إلا التمثيل الدقيق عبثا لا طائل منه و«إهدارا لساعات رجال ذوي اقتدار من الأجدى أن يستخدموا في أعمال أوسع نفعا»، إنما الفن عالم آخر مستقل نوعيا عن العالم الخارجي، ولا سبيل إلى رده إلى عالم الواقع، إنه عالم إنساني منبثق عن ذهن الإنسان ونشاطه الخالق، إنه إبداع بشري خالص غير ملزم بترديد الحقيقة الموضوعية أو نسخ الوجود الخارجي، وما كان لتمييز التشابه بين أشكال العمل الفني والأشكال المألوفة في الحياة أن يخلق انفعالا إستطيقيا، فليس غير «الشكل الدال» ما يقوى على ذلك، وليس هناك ما يمنع بطبيعة الحال أن تكون الأشكال الواقعية دالة إستطيقيا وأن يخلق منها الفنان عملا رائعا، غير أن ما يعنينا منها عندئذ هو قيمتها الإستطيقية لا قيمتها المعرفية، فبإمكان العنصر المعرفي أو التمثيلي في العمل الفني أن يكون مفيدا كوسيلة إلى إدراك العلاقات الشكلية وليس بأي طريقة أخرى.
لذا يؤكد بل على أن التذوق الفني الصحيح ينبغي أن يقع على الشكل، وهنا يكون العنصر التمثيلي عبئا على الإدراك الفني وحائلا بينه وبين دلالة الشكل، ولا يصبح العنصر التمثيلي مفيدا إلا إذا اقتصر دوره على أن يكون مفتاحا متروكا في العمل نفتح به - حين تعوزنا الخبرة الذوقية الكاملة - بابا خلفيا إلى عالم الشكل الدال، ولا يكون مفيدا ما لم يكن مدمجا ومستوعبا في الشكل، أما أن تستلفتنا «المشابهة» وتصرف انتباهنا عن العلاقات الشكلية، فنحن بنفس الدرجة نكون قد أدرنا ظهرنا لعالم الفن وطفقنا راجعين إلى عالم الحياة.
الفرضية الميتافيزيقية
لماذا تتأثر مشاعرنا كل هذا التأثر حيال الأشكال الدالة؟
لماذا نطرب كل هذا الطرب؟ ونجد كل هذا الوجد؟
يبدو ممكنا في رأي بل أن الشكل المبدع يهزنا بهذا العمق لأنه يعبر عن انفعال مبدعه ويوصل إلينا هذا الانفعال، فتجاه أي شيء إذن يشعر الفنان بذلك الانفعال الذي يفترض أنه يعبر عنه؟ يبدو من وجهة نظر بل أن الفنان في لحظات إلهامه يحس انفعالا تجاه الأشياء بوصفها «أشكالا خالصة»؛ أي بوصفها غايات في ذاتها، لا بوصفها وسائل ملفعة بالارتباطات؛ أي إن الفنان في لحظة الرؤية الإستطيقية يرى الأشياء مبرأة من كل ضروب الاهتمام السببي والطارئ، ومن كل ما يمكن أن تكون قد اكتسبته من طيلة صحبتها لبني البشر، ومن كل دلالة لها كوسيلة؛ ومن ثم يحس دلالتها كغاية في ذاتها.
Unknown page
وحين يتحدث بل عن دلالة الشيء بوصفه غاية في ذاته، فإنه يقترب كثيرا من مفهوم المثاليين عن «الشيء في ذاته» أو عن «الواقع النهائي»، ويكون جوابه عن سؤاله الميتافيزيقي «لماذا نطرب كل هذا الطرب لتجمعات معينة من الخطوط والألوان؟» هو: «لأن بقدرة الفنانين أن يعبروا بتجمعات الخطوط والألوان عن انفعال نحو الواقع يكشف عن نفسه من خلال الخط واللون.» ويترتب على ذلك أن «الشكل الدال» هو الشكل الذي نظفر من ورائه بحس بالواقع النهائي.
الشكل - المضمون
يظن بعض الناس ممن يلقون الكلام على عواهنه أن الشكلية تعني صدارة الشكل، أي شكل، على المضمون، ويتوهمون أن الشكلية هي التركيز على الزخرف والزينة والقوالب الخارجية دون اكتراث كبير بالمعنى والوظيفة، وهو تعسف لم يقل به أحد، وقلب للقضايا لا يرتكبه إلا مأفون، وليت النقاد وفلاسفة الفن قد تعارفوا على تسمية نظرية بل «الشكلية الدالة» بدلا من «الشكلية» فأراحوا واستراحوا؛ ذلك أن الشكل الذي ألح عليه بل هو الشكل الدال، و«الدلالة»
significance
مفهوم «قصدي»
intentional
بامتياز؛ فالشكل لا بد أن يدل على شيء ويشير إلى شيء ويقول شيئا، على أن يقول ويشير ويدل بالشكل وفي الشكل، ونقول بالشكل وفي الشكل لأن الشكل الدال، ببساطة، هو وحده ما يقوى على إحداث الانفعال الإستطيقي وغيره لا يحدث إلا انفعالات الحياة.
فليحمل العمل الفني من الحقائق ما وسعه أن يحمل، وينقل من المعارف ما شاء أن ينقل؛ فالمعرفة والحقيقة، ككل شيء آخر يعبر عن الفن، لا بد أن ترتبطا ارتباطا وثيقا بالقوام الحسي والعرض الشكلي للعمل. إن الفن لن ينافس العلم في مضماره، إنما تلح الشكلية على أن يكون الفن فنا - أي شكلا دالا - كيما يتسنى له أن يقبض على الحقيقة التي يعجز العلم عن القبض عليها.
هل الاهتمام بالشكل يأتي على حساب المضمون؟ كلا بل يأتي لحسابه، باعتبار نوعية المضمون الذي أوكلنا إلى الفن أن يحمله، الشكل هو كل شيء في العمل الفني، الشكل هو المضمون في حضوره الإستطيقي، والشكل الدال هو الشكل الصائب الذي تطابق مع انفعال مبدعه تجاه الواقع النهائي، والذي وجد فيه هذا المضمون الانفعالي جسدا للمثول الموضوعي ومنفذا إلى الذوات الأخرى، وآيته في ذلك أنه يثير في المتلقين انفعالا إستطيقيا مضاهيا لانفعال مبدعه، وهذا الانفعال الناجم هو معرفة ونشوة معا، هو كشف كبير ومتعة عالية في آن.
الشكل الدال حق متى جاء، ونحن نعرفه متى صادفناه ونعرف أنه حق، إنه هو ... يحمل آية صدقه (الوجد الإستطيقي) ويومئ إلى رصيده الأنطولوجي (الواقع النهائي)؛ ومن ثم فهو نقيض اللعب والتبطل، فأنت في كل الأحوال لكي تأتي بشكل دال فلا بد أن يكون لديك ما تقوله، الشكل الدال ليس زينة بل نقيض الزينة، وهو بالتأكيد تقشف وتبسيط وكفاف من التمثيل والتفصيل، وطرح للزائد ونبذ لكل ما ليس له دلالة، الشكل الدال ليس لهوا أو فراغا أو «عجة بلا بيض».
Unknown page
لقد تعرض مفهوم الشكل حقا لابتذال كثير وسوء فهم فادح، والتصقت به دلالات سلبية ليست منه وليس منها، وتقول عليه المتقولون وكأنه نقيض المضمون لا جسده، أو كأنه ضد التجديد لا شرطه وحاديه وروحه الحارس، ليس لمفهوم الشكل الدال علاقة بالصراع الأزلي بين الجموح والعقل، بين التلقائية والنظام، بين الجانب الديونيزي والجانب الأبولوني في الفن؛ ففي ذلك خلط بين الشكل الخارجي الآلي والشكل الداخلي العضوي، فليتمرد من شاء على القوالب القديمة المستهلكة، وليجدد ما شاء له تدفقه واندفاعه؛ فكل تجديد يحمل في ثناياه شكله الخاص، ولن يتسنى لأحد أن يتمرد على الأشكال القديمة إلا بأشكال جديدة، ولن يكون له أن يجدد في الشكل إلا بالشكل.
الفن خير
يقدم كلايف بل في فصل «الفن والأخلاق» تحليلا لمفهوم «الخير» يسترشد فيه بحدسية جورج مور
G. Moore
في كتابه الذائع الصيت «مبادئ علم الأخلاق»
، ويخلص منه إلى نتيجة مفادها أن الحالات الذهنية الخيرة هي وحدها خير كغاية في ذاتها، ويترتب على ذلك أن علينا لكي نبرر أي نشاط إنساني تبريرا أخلاقيا أن نتساءل: هل هذا النشاط هو وسيلة إلى حالات ذهنية خيرة؟ أما في حالة الفن فإن جوابنا سيكون فوريا وقائما على خبرة وجدانية حقيقية؛ فالفن ليس فقط وسيلة إلى حالات ذهنية خيرة، بل ربما يكون أقوى الوسائل التي في حوزتنا وأكثرها مباشرة، إنه أكثرها مباشرة؛ لأنه لا شيء أسرع منه تأثيرا في الذهن، وأكثرها قوة لأنه لا توجد حالة ذهنية أكثر امتيازا وشدة من حالة التأمل الإستطيقي، وأنت حين تعد أي شيء عملا فنيا فإنك تقيم حكما أخلاقيا خطيرا؛ لأنك بذلك تعده وسيلة مباشرة وفعالة إلى الخير بحيث لا يعوزنا أن نكرث أنفسنا بأي شيء من نتائجه المحتملة.
الفن والمجتمع
للفن آثار اجتماعية هائلة، فهو يغير شخصيتنا وتجربتنا في المجالات غير الإستطيقية للحياة، ويجعلنا أكثر حكمة وسموا، ويعمق رؤيتنا لذواتنا وذات الآخرين، إن للفن وجها موضوعيا أساسيا وبعدا «بينذاتيا»
intersubjective
يدخل في صميم ماهيته؛ فالمبدع والمتلقي «متضايفان»
Unknown page
correlatives
يأخذ كل منهما من الآخر حقيقته ومعناه، بل إن البشر جميعا في اللحظة الإستطيقية يغدون ذوبا من تضايف عام وامتزاج كلي.
إن الفن يطلعنا على دينامياتنا النفسية وديناميات الآخرين، ويعتقنا من مركزية الذات
egocentrism
ويؤهلنا للمواجدة
empathy ؛ أي القدرة على اتخاذ الإطار المرجعي للآخرين بسهولة ويسر، ومشاركتهم وجداناتهم مشاركة حقيقية مبرأة من إسقاطاتنا الخاصة، الفن هو أقدر صنوف النشاط البشري تعبيرا عن التواصل بين الأفراد وبين الأجيال وبين الأمم؛ لأن الوجد الإستطيقي لا يحده الزمان ولا ترده التخوم الجغرافية، إنه انعتاق من كل صنوف المركزية وانطلاق من كهوف التحيز والتعصب والتحزب، وأذان للأرواح بأن تنعطف وتأتلف وتتقاسم رحابة الوجود.
والفن بوظيفته المعرفية التي أشار إليها بل وسوزان لانجر وهربرت ريد وغيرهم يفتح لنا مغاليق العالم الوجداني، فإلى جانب العلم الذي يزيد من تمكننا الفكري والتصوري للعالم، فإن الفن يزيد من تمكننا الإدراكي والانفعالي؛ فبفضل كتاب من طراز شكسبير وبروست أمكننا أن نفطن إلى دقائق سيكولوجية ما كان لنا أن نراها، وبالتالي نحسها، لولا قدرتهم على اقتناصها والتعبير عنها، وبفضل مصورين من طراز سيزان ومانيه تعلمنا كيف ننظر إلى الأشياء ونلاحظ العالم، وكيف ننتشي بالتحامنا بالوجود والتقائنا بماهية الأشياء.
ولا يفوتنا في هذا المقام أن ننبه إلى أن التماس أي منفعة للفن من طريق آخر غير الدلالة الإستطيقية هو إبطال للفن ونفي لماهيته ذاتها؛ فالفن الدعاوي والإرشادي والتزييني ليس فنا، بل تناقض ذاتي ، شأنه شأن «النقطة الممتدة» أو «المربع المستدير»، والإصرار على توظيف الفن لخدمة أغراض حياتية مباشرة هو خسران لوظيفة الفن الحقيقية التي لا يقدر على الاضطلاع بها أي نشاط آخر، وتحميله في الوقت نفسه دورا تستطيع مرافق أخرى - كالإعلام والفكر والسياسة والجامعة ومراكز البحث - أن تقوم به على نحو أفضل.
قيمة القيم
يقولون ما فائدة نظرية علمية بلا تطبيق عملي فهي تئود الذهن ولا تريح الكاهل؟ وما فائدة نغمة لا تغمس لقمة ... وكلمة لا تدفع نقمة؟
Unknown page
وأزيدهم: وما فائدة تمسيدة حنان، في ميناء الحياة، على جبين مكدود لن أراه مرة ثانية؟
وأقول إن السؤال الصحيح لم يسأل: ما فائدة عمل طاحوني يبدأ من حيث ينتهي؟
وما فائدة لقمة لا يزال يجادلها الجوع؟
وسلامة هي حسبك من داء دفين، ما دمنا في الحياة زائرين غير مقيمين.
لا فائدة في العمل واللقمة والسلامة، ما لم تنته بنا سلاسلها إلى نهايات من معدن آخر ... نهايات تقوم في ذاتها قيمة.
الحق والجمال والخير ليست سلاسل بل نهايات.
ليست وسائل بل غايات.
إنها قيم.
إنها مطلقات.
بعد الوجد
Unknown page
يقول كلايف بل: «إن من قدر له أن يعرف الوجد ويتبدد في «أوه ... ألتيتودو»
O Altitudo
واحدة، لن يكون له أن يؤخذ بإثارات العمل الفارغة ويغالي في تقديرها، ومن وهب القدرة على أن يأوي إلى عالم الوجد سيعرف كيف يتعامل مع الوقائع الخارجية بحجمها، جدير ذلك الذي يختلف كل يوم إلى عالم الوجد أن يعود إلى عالم الشئون البشرية مسلحا لمواجهتها بشجاعة، وربما بشيء من الازدراء.»
وبعد فإن دخول العمل الفني ليس مثل خروجه.
ربما يكون دخولك تزجية للوقت.
أو دفعا للسأم أو محض صدفة.
غير أنك تخرج دائما من الرائعة الفنية بكيمياء مختلفة.
وخطوة مختلفة.
وطريق مختلف.
د. عادل مصطفى
Unknown page
تصدير المؤلف
في هذا الكتاب الصغير حاولت أن أنشئ نظرية مكتملة في الفن البصري، لقد قدمت فرضية يمكن بالإحالة إليها أن تختبر وجاهة (وإن لم يكن صواب) الأحكام الإستطيقية جميعا، وفي ضوئها يغدو تاريخ الفن من العصر الحجري إلى اليوم مفهوما، وبتبنيها نقدم دعما فكريا لقناعة عالمية، تقريبا، وموغلة في القدم، يطوي كل منا جوانحه على اعتقاد بأن هناك فرقا حقيقيا بين الأعمال الفنية وجميع الأشياء الأخرى، هذا الاعتقاد تبرره فرضيتي. إننا جميعا نشعر بأن الفن هام غاية الأهمية، وفرضيتي تقدم السبب في اعتباره كذلك، والحق أن الميزة الكبرى لفرضيتي هذه أنها تبدو مفسرة لما نعرف أنه حق، ومن يهمه اكتشاف السبب الذي يجعلنا نطلق على سجادة فارسية أو جدارية لبييرو دلا فرانشيسكا عملا فنيا، ونطلق على تمثال نصفي أو لوحة شعبية تعالج مشكلة عملا ساقطا؛ من يهمه اكتشاف ذلك فسوف يجد هنا ضالته، وسيجد أيضا أن الرواسم المألوفة في النقد، من مثل «رسم جيد»، «تصميم رائع»، «آلي»، «غير محسوس»، «غير منظم»، «حساس»، سيجد هذه المصطلحات قد أخذت ما تفتقر إليه أحيانا: معنى محددا، وباختصار فإن فرضيتي تعمل بنجاح، ذلك شيء غير معتاد، وبدت للبعض لا ناجعة فحسب بل صحيحة، تلك شبه أعجوبة.
ربما يؤسس المرء نظرية في خمسين أو ستين ألف كلمة تأسيسا كافيا، ولكنه لا يمكن أن يدعي أنه تأسيس مكتمل، إن كتابي تبسيط؛ فقد حاولت أن أجترح تعميما عن طبيعة الفن يتكشف أنه صحيح ومتسق وشامل في آن معا، لقد التمست نظرية يتعين أن تفسر خبرتي الإستطيقية كلها وتومئ إلى حل لكل مشكلة، ولكني لم أحاول أن أجيب بالتفصيل عن جميع الأسئلة التي طرحت نفسها، أو أن أقتفي أي واحد منها إلى أدق تفريعاته، إن علم الإستطيقا شأن معقد، وكذلك هو تاريخ الفن، وقد أملت أن أكتب فيهما شيئا بسيطا وصائبا، فرغم أني، مثلا، قد أشرت بوضوح شديد، بل بتكرار كثير، إلى ما أعتبره جوهريا في العمل الفني، فأنا لم أتناول العلاقة بين الجوهري وغير الجوهري بالإفاضة التي كان يسعني تناولها؛ فقد بقي الكثير الذي لم يقل عن عقل الفنان وطبيعة المشكلة الفنية، وبقي لمن هو فنان وسيكولوجي وخبير بالعجز الإنساني أن ينبئنا إلى أي مدى يكون غير الجوهري وسيلة ضرورية إلى الجوهري؛ أن ينبئنا ما إذا كان من السهل أو الصعب أو المستحيل على الفنان أن يدمر كل درجة في السلم الذي يرتقي عليه إلى النجوم.
الفصل الأول من كتابي يوجز مناقشات ومداولات وخيوطا طويلة من التأمل الغامض تظل جديرة، حين تتكثف إلى حجاج صلب، أن تملأ مجلدين ضخمين أو ثلاثة، ولعلي أكتب واحدا منها ذات يوم إذا كان نقادي مندفعين اندفاعا كافيا لاستفزازي، أما عن فصلي الثالث - مخطط تاريخ أربعة عشر قرنا - فمن نوافل القول: إنه تبسيط، وفيه استخدمت سلسلة من التعميمات التاريخية لكي أوضح نظريتي، وفيه، مرة أخرى، أعتقد في صحة نظريتي، وأقتنع بأن كل من سيتأمل تاريخ الفن في ضوئها سيجد ذلك التاريخ أكثر وضوحا من ذي قبل، وأنا أعترف في الوقت نفسه أن الفروق في الحقيقة أقل عنفا، أن التلال أقل تحدرا مما تبدو عليه في خريطة من هذا الصنف، وسيكون جميلا بدون شك لو أن هذا الفصل أيضا قد توسع إلى نصف دستة من المجلدات الممتعة، إلا أن هذا لن يتسنى حتى يتعلم السدنة المثقفون أن يكتبوا أو يتحلى كاتب ما بالصبر.
تلك المداولات والمناقشات التي هذبت وصقلت النظريات المطروحة في الفصل الأول جرى معظمها مع السيد روجر فراي
Roger Fry
الذي أدين له، من أجل ذلك، دينا يعجزني أن أحصيه، وأنا أشكره في المقام الأول كمحرر مشارك في البرلنجتون ماجازين لسماحه بإعادة طبع جزء من مقال أسهمت به في هذه الدورية، وبعد إذ أؤدي هذا الواجب آتي إلى حساب أكثر تعقيدا، في المرة الأولى التي التقيت فيها بالسيد فراي، في عربة سكة حديد تصل بين كمبردج ولندن تجاذبنا أطراف الحديث حول الفن المعاصر وعلاقته بكل فن آخر، ويبدو لي أحيانا أننا ظللنا منذ ذلك الوقت نتحدث عن نفسي الشيء، ولكن أصدقائي أكدوا لي أن الأمر ليس بهذا السوء، أذكر أن السيد فراي كان حديث عهد بالأساتذة الفرنسيين المحدثين - سيزان وجوجان وماتيس، وأني كنت أتمتع بمعرفة أطول بهم، غير أن السيد فراي كان قد أصدر لتوه كتابه «مقال في الإستطيقا» الذي يعد ، من وجهة نظري، أرشد إسهام تم في هذا العلم منذ زمن كانت
Kant ، لقد تحدثنا كثيرا عن هذا المقال، ثم تناقشنا في احتمال إقامة معرض «بعد انطباعي»
في صلات عرض جرافتون، نحن لم نسمه آنذاك «بعد انطباعي»، فقد ابتكر السيد فراي هذه اللفظة بعد ذلك، الأمر الذي يجعلني أرى شيئا من الإجحاف من جانب النقاد الأكثر تقدمية إذ يكثرون من توبيخه لجهله بما تعنيه «بعد الانطباعية»!
وقد جعلت أجادل السيد فراي بعض السنوات، جدالا سلميا إلى حد ما، حول مبادئ الإستطيقا، غير أننا نختلف اختلافا جسيما، وإنني لأود أن أرى أنني لم أتزحزح عن موقفي الأصلي قيد أنملة، إلا أن علي أن أعترف أن الشكوك والتحفظات الحذرة التي دست نفسها في هذا التصدير كلها نتائج غير مباشرة لنقد صديقي فراي، لم يكن حديثنا مقصورا على أفكار عامة وأشياء أساسية، فقد تنازعنا أنا والسيد فراي ساعات حول أعمال فنية بعينها، في مثل هذه الحالات يتعذر تقدير مدى تأثير الواحد منا على حكم الآخر، ولا نحن يلزمنا هذا التقدير؛ فلا أحد منا، في اعتقادي، يشتهي المراسم الظنية للاهتداء، من المؤكد أن من يقدر عملا فنيا رفيعا تتاح له تلك المتعة الشديدة - متعة افتراض أنه قد اجترح اكتشافا، ورغم ذلك، فحيث إن كل النظريات الفنية تقوم على أحكام إستطيقية؛ فمن الواضح أنه إذا أثر أحد في أحكام آخر فإنه قد يؤثر، بطريق غير مباشر، في بعض نظرياته، ومن المؤكد أن السيد فراي قد عدل بعض تعميماتي التاريخية بل قوضها، لم تكن مهمته شاقة، فلم يكن عليه إلا أن يواجهني بعمل فني معين هو على يقين من أنه سيبلغ بي النشوة، ثم يبرهن بأشد الأدلة كراهة وإفحاما أن هذا العمل ينتمي إلى فترة كنت قد خلصت، على أسس «قبلية»
Unknown page