وكأن ابن خلدون فهم أن الذي يصلي مائة ركعة، ويجالس الفضيل بن عياض لا يتأتى منه أن يجلس مجالس لهو يسمع فيها الغناء، يظهر فيها مظاهر الترف على أتم وجوهها. إن كان فهم ذلك كان خطأ، والطبيعة الإنسانية لا تأباه.
وفي رأينا أن الرشيد كان يجد فيمعن في الجد، ثم يلهو فيمعن في اللهو خضوعا لحدة العاطفة مع الميول المختلفة.
قال أبو البختري وهب بن وهب القاضي: كنت عند الرشيد يوما واستدعى ماء مبردا بالثلج، فلم يوجد في الخزانة ثلج، فاعتذر إليه بذلك، وأحضر إليه ماء غير مثلوج، فضرب وجه الغلام بالكوز، واستشاط غضبا. فقلت له: أقول يا أمير المؤمنين وأنا آمن؟ فقال: قل، قلت: يا أمير المؤمنين قد رأيت ما كان من الغير بالأمس (يعني زوال دولة بني أمية)، والدنيا غير دائمة ولا موثوق بها، والحزم ألا تعود نفسك الترفه والنعمة، بل تأكل اللين والجشب، وتلبس الناعم والخشن، وتشرب الحار والقار. فنفحني بيده، وقال: لا والله لا أذهب إلى ما تذهب إليه؛ بل ألبس النعمة ما لبستني فإذا نابتني نوبة الدهر عدت إلى نصابي غير خوار.
28 •••
جاء الأمين فزاد في اللهو نغمة بل نغمات. ومها قال محققو المؤرخين من أن كثيرا من الأخبار وضعت في عهد المأمون لتشويه سمعة الأمين، والحط من شأنه، وتبرير ما فعل به، فإن ميله إلى الإفراط في اللهو والشراب والغلمان مما لا يسهل إنكاره.
روى الطبري قال: لما ملك محمد (الأمين) طلب الخصيان، وابتاعهم وغالى بهم، وصيرهم لخلوته في ليله ونهاره، وقوام طعامه وشرابه، وأمره ونهيه ورفض النساء الحرائر والإماء، حتى رمي بهم،
29
ففي ذلك يقول بعضهم:
لهم من عمره شطر، وشطر
يعاقر فيه شرب الخندريس
Unknown page