الجزء الأول
بسم الله الرحمن الرحيم
الباب الأول: الحياة الاجتماعية في العصر العباسي الأول
مقدمة
1 - سكان المملكة الإسلامية في هذا العصر
2 - الصراع بين العرب والموالي
3 - الشعوبية
4 - الرقيق وأثره في الثقافة
5 - حياة اللهو وحياة الجد
6 - حياة الزندقة وحياة الإيمان
الباب الثاني: الثقافات في ذلك العصر
تمهيد
7 - الثقافة الفارسية
8 - الثقافه الهندية
9 - الثقافه اليونانية الرومانية
10 - الثقافة العربية
11 - الثقافات الدينية
12 - امتزاج الثقافات
أهم الأحداث في ذلك العصر
الجزء الثاني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحركة العلمية في العصر العباسي الأول
1 - وصف الحركة العلمية إجمالا
2 - معاهد العلم في العصر العباسي
3 - مراكز الحياة العقلية
4 - الحديث والتفسير1
5 - التشريع
6 - اللغة والأدب والنحو
7 - التاريخ والمؤرخون
الخلاصة
الجزء الثالث
ضحى الإسلام
الجزء الثالث
بسم الله الرحمن الرحيم
في العقائد والمذاهب الدينية في العصر العباسي الأول
تمهيد في نشأة علم الكلام
1 - المعتزلة
2 - الشيعة
3 - المرجئة1
4 - الخوارج1
خاتمة
الجزء الأول
بسم الله الرحمن الرحيم
الباب الأول: الحياة الاجتماعية في العصر العباسي الأول
مقدمة
1 - سكان المملكة الإسلامية في هذا العصر
2 - الصراع بين العرب والموالي
3 - الشعوبية
4 - الرقيق وأثره في الثقافة
5 - حياة اللهو وحياة الجد
6 - حياة الزندقة وحياة الإيمان
الباب الثاني: الثقافات في ذلك العصر
تمهيد
7 - الثقافة الفارسية
8 - الثقافه الهندية
9 - الثقافه اليونانية الرومانية
10 - الثقافة العربية
11 - الثقافات الدينية
12 - امتزاج الثقافات
أهم الأحداث في ذلك العصر
الجزء الثاني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحركة العلمية في العصر العباسي الأول
1 - وصف الحركة العلمية إجمالا
2 - معاهد العلم في العصر العباسي
3 - مراكز الحياة العقلية
4 - الحديث والتفسير1
5 - التشريع
6 - اللغة والأدب والنحو
7 - التاريخ والمؤرخون
الخلاصة
الجزء الثالث
ضحى الإسلام
الجزء الثالث
بسم الله الرحمن الرحيم
في العقائد والمذاهب الدينية في العصر العباسي الأول
تمهيد في نشأة علم الكلام
1 - المعتزلة
2 - الشيعة
3 - المرجئة1
4 - الخوارج1
خاتمة
ضحى الإسلام
ضحى الإسلام
تأليف
أحمد أمين
الجزء الأول
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
لعل أصعب ما يواجه الباحث في تاريخ أمة هو تاريخ عقلها في نشوئه وارتقائه، وتاريخ دينها وما دخله من آراء ومذاهب. ذلك أن مدار البحث في المسائل المادية وما يشبهها واضح محدود ، وما يطرأ عليها من تغير ظاهر جلي. أما الفكرة فإذا حاولت أن تعرف كيف نبتت، وكيف نمت، وما العوامل في إيجادها، وما العناصر التي غذتها، وما الطوارئ التي طرأت عليها فعدلتها أو صقلتها؛ أعياك ذلك، وبلغ منك في استخراجه الجهد؛ لأن الفكرة أول أمرها لا مظهر لها نستدل به عليها، وقد تتكون من عناصر قد لا تخطر ببال، ويعمل في تغييرها وتعديلها عوامل في منتهى الغموض. والمذاهب الدينية قد يكون الباعث عليها غير ما ظهر من تعاليمها؛ قد يكون الباعث عليها سياسيا، وهي في مظهرها الخارجي مجردة من كل سياسة، وقد يكون الباعث لها إفساد الدين، فتتشكل بشكل المتحمس للدين، وقد يكون المذهب صالحا كل الصلاح، ولكن يحكيه أعداؤه فيشوهونه ويلغون فيه فيفسدونه، فيقف الباحث حائرا ضالا، يتطلب بصيصا من نور يهديه، أو أثرا في الطريق سلكه من قبله فيحتذيه.
وفوق هذا، فالأفكار متنوعة، والآراء متعددة، وقضايا كل عصر تخالف ما قبلها، ويراها الباحث فيظنها أول وهلة جديدة، لم ترتبط بما قبلها برباط، ولم تتصل به أي صلة، فيعمل فكره فيما عسى أن يكون بينهما من قرابة أو نسب، وما قد يصل بينهما من سبب.
ففي سبيل الله ما يلاقي مؤرخ الفكر من عناء لا يتناسب وما يحصله من نتاج! •••
سرت في «ضحى الإسلام» سيري في «فجر الإسلام»، رائدي الصدق والإخلاص للحق، فإن أصبت فحمدا لله على توفيقه، وإن أخطأت فالحق أردت، ولكل امرئ ما نوى.
عنيت بضحى الإسلام المائة سنة الأولى للعصر العباسي (132-232ه)؛ أعني إلى خلافة الواثق بالله؛ فهو عصر له لون علمي خاص، كما أن له لونا في السياسة والأدب خاصا، امتاز بغلبة العنصر الفارسي، وبحرية الفكر إلى حد ما، وبدولة المعتزلة وسلطانهم، وبتلوين الأدب من شعر ونثر لونا احتذي على كر الدهور، واختلاف العصور. كما امتاز بتحويل ما باللسان العربي إلى قيد في الدفاتر وتسجيل في الكتب، وما باللسان الأجنبي إلى لغة العرب. وهو في كل هذا يخالف العصور قبله والعصور بعده، مخالفة تجعله حلقة قائمة بنفسها، يصح أن تسمى، وأن تدرس، وأن تميز. على أني أحيانا يدعوني إيضاح الفكرة إلى أن أربطها بما كان منها في العصر الذي قبله، كما قد يدعوني تسلسلها إلى أن أتجاوزه إلى العصر الذي بعده.
وقد رتبته أبوابا أربعة:
الباب الأول:
في الحياة الاجتماعية في ذلك العصر، واجتزأت منها بما له أثر قوي في العلم والفن.
والباب الثاني:
في الثقافات المختلفة؛ دينية، وغير دينية.
والباب الثالث:
في الحركات العلمية، ومعاهد العلم، وحرية الفكر، ومزايا البلدان في تلك الحركات.
والباب الرابع:
في المذاهب الدينية، وتاريخ حياتها، وأشهر رجالها، وأهم أحداثها.
وكنت أحزر أنه سيكون حجمه حجم «فجر الإسلام»، فلما شرعت في تأليفه اتسع علي موضوعه، وغرمتني مناحيه، وواجهت مسائل لم تكن خطرت لي، فتركت البحث على سجيته، والقول على طبيعته، فإذا هو ضعف فجر الإسلام أو يزيد، فاضطررت أن أجعله جزأين، في كل قسم بابان.
وأتقدم إلى القراء اليوم بقسمه الأول، راجيا ألا يفرغوا من قراءته حتى أقدم إليهم قسمه الثاني.
على أني لم أقل في كل موضوع إلا كلمته الأولى، ولم أنظر إليه إلا نظرة الطائر، ولو حاولت أن أستوفي الكلام في كل فصل لكان من كل فصل كتاب. فإن نجحت في إثارة الباحثين لنقده، وتصحيح خطئه، وتوسيع مباحثه، فذلك حسبي، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
23 رمضان سنة 1351
19 يناير سنة 1933
أحمد أمين
الباب الأول
الحياة الاجتماعية في العصر العباسي الأول
مقدمة
يصور بعض المؤرخين الحالة (وقد سقطت الدولة الأموية، وقامت الدولة العباسية) تصويرا يخيل إليك معه؛ أن هناك حدودا فاصلة بين الدولتين، وأن صفحة للتاريخ قد ختمت بانتهاء الدولة الأموية، وأن صفحة أخرى بدئت بقيام الدولة العباسية، وأنه ليس هناك كبير علاقة بين الأمة الإسلامية في عهدها الأول، والأمة في عهدها الثاني. وهذا التصوير أبعد ما يكون عن الصحة! وعلى الأخص من الناحيتين؛ الاجتماعية، والعقلية.
فقد حدثت حوادث في صدر الإسلام، وفي عهد الدولة الأموية، أخذت تعمل عملها منذ وجودها، واستمر تأثيرها مع سقوط الأمويين، وقيام العباسيين. خذ لذلك مثلا: تعاليم الإسلام؛ فقد ظلت تعمل وتنتشر، مؤثرة في البلاد المفتوحة ومتأثرة بها، وكذلك الشأن في انتشار لغة العرب؛ فلم يكن قيام الدولة العباسية صفحة جديدة لهذين العاملين، وإنما كانت مهدا لامتدادهما. ومن أوضح المثل على ذلك: عملية الامتزاج بين الأمم الفاتحة والمفتوحة؛ فقد بدأت من عهد عمر بن الخطاب، ووقفت وقفة صغيرة لما أصاب الأمم المغلوبة من الدهش. ثم بدأت تخضع للنظم الاجتماعية؛ من تزاوج، ودخول في الإسلام، وتعلم للعربية، ثم ظهور جيل جديد يحمل الدم العربي والأجنبي معا، بل يحمل مع ذلك خصائص الأمم المختلفة التي يتكون منها دمه، سواء كانت خصائص جسمية، أو عقلية، أو خلقية، أو روحية. وأخذ هذا الجيل في الظهور في عهد الدولة الأموية، وظل ينمو ويتعاقب في الدولة العباسية، وكان من نتائج هذا الامتزاج: أن كل جنس بدأ يتعلم من الأجناس الأخرى ما يشعر بأنها آخذة منه بحظ أوفر، فالعربي يأخذ من الفرس والرومان حضارتهم، والفرس تأخذ من العرب الدين، واللغة، وهكذا.. وهذه العمليات ظلت سائرة في العهد العباسي، كما كانت سائرة في العهد الأموي.
بل أستطيع أن أقول إن الدولة الأموية لو قدر لها أن تستمر في الحكم الزمن الذي حكمته الدولة العباسية؛ لظهر على يديها من الحركات العلمية والإصلاحات الاجتماعية؛ قريب مما ظهر على يد العباسيين. ودليلنا على ما نقول: (1)
أن الدولة الأموية نفسها، وهي هي. كانت الحركة العلمية، والمذاهب الدينية، والنظم الاجتماعية؛ في آخرها أرقى منها في أولها، فانتظمت تعاليم الخوارج، ونشأ الاعتزال، واعتنقه بعض الخلفاء الأمويين، ونظمت حلقات الدروس في المساجد، وأخذ العلماء يبحثون مسائل في القدر، وغير القدر، وتناقشوا مع اليهود والنصارى، وبدأت نواة التأليف، والترجمة، وظهرت الكتابة الفنية، إلى كثير من أمثال ذلك. ولو كان اتساع الحركة العلمية من عمل العباسيين وحدهم؛ لكان آخر الدولة الأموية يشبه أولها. (2)
أن الأمويين أنفسهم لما انتقلوا إلى الأندلس، وكونوا فيها مملكة عاصرت العصر العباسي الأول؛ لم يكن تشجيعهم للعلم ولحركة الترجمة والتأليف أقل كثيرا من عمل العباسيين، وكذلك مدنيتهم وحضارتهم، وأكبر فرق بينهما: نشأ مما أحاط بالعباسيين من مدنيات العراق القديمة، والفرس، واليونان، وما أحاط بالأمويين بالأندلس من مدنية لاتينية. فأما الميل إلى التوسع في الحضارة، ومنه العلم، والأخذ بأوفر حظ من النظم الاجتماعية التي تليق بهم؛ فكان حظ الدولتين معا.
ذلك بأن المملكة الإسلامية، كانت من أول عهدها تسير متنقلة في أطوارها الطبيعية. ويسلمها طور إلى طور، فتنتقل من طور تغلب فيه البداوة، إلى طور من الحضارة، ثم إلى طور آخر، وهكذا.. وجاءت الدولة العباسية، والأمة سائرة إلى الحضارة بطبيعة ما يحيط بها من ظروف، فسارت في هذا الاتجاه، والخطأ كل الخطأ أن يفهم أنها أوجدته من عدم!
نعم! إن هناك عوامل ظهرت مع العباسيين، وبعضها من عملهم؛ كغلبة النفوذ الفارسي، ونقل العاصمة من الشام إلى العراق. وكان لهذه العوامل أثر غير قليل في نمو الحركة العلمية والاجتماعية، ولكن هذه الحركات كانت حركات مساعدة فقط، ولو لم توجد لاستمرت الأمة في سيرها إلى الحضارة، وإن كان يكون سيرها أبطأ. فسلطة العنصر الفارسي كانت تنمو في الحكم الأموي، وعلى الأخص في آخره، ولو لم يتح لها فرصة الدولة العباسية، لأتيحت لها فرص أخرى مختلفة الأشكال. والعراقيون كان يصح أن يستخدموا في الحركة العلمية (والعاصمة في الشام)؛ بل نحن نرى بالفعل حركة الحسن البصري وتلاميذه الدينية بالبصرة تنمو وتقوى، والحركة اللغوية تنمو وتقوى؛ بمثل أبي عمرو بن العلاء، وقرينه عيسى بن عمر الثقفي بالبصرة أيضا في عهد الدولة الأموية. ولم يكن اتساع هاتين الحركتين في العهد العباسي إلا أثرا لهؤلاء وأمثالهم، وتقدما طبيعيا نتج من نشاط تلاميذهم.
ولكن مما لا شك فيه أن الحياة الاجتماعية التي كانت تحياها الدولة العباسية لونت العلوم والآداب بلون خاص، وجعلت لها صفات خاصة، ما كانت تكون لو استمرت الدولة الأموية في حكمها.
وهذا ما سنحاول وصفه في الباب الآتي. وسنقتصر من وصف الحياة الاجتماعية، على ما له أثر كبير في العلم والفن.
الفصل الأول
سكان المملكة الإسلامية في هذا العصر
واضح أن الأمم تختلف في ميزاتها اختلافا كالذي بين أفرادها؛ فهي تختلف في عاداتها ، وتجاربها، وفي منهج تفكيرها، وكفايتها، ودرجة عقليتها، ومقدار ثقافتها، وحدة عواطفها، أو هدوئها.
وفوق ذلك؛ نرى أن لكل أمة «أدبا» يختلف عن أدب الأمم الأخرى، وأدب كل أمة منتزع من طبيعة إقليمها، وتاريخها، وخيالاتها، وملوكها وسوقتها، وعقلائها وسخفائها، وصلحائها ومجرميها، ومن نظامها السياسي، وعلى الجملة من كل شيء يتصل بحياتها.
نستطيع بعد ذلك أن نقول إن المملكة الإسلامية في هذا العصر كانت مكونة من أمم مختلفة؛ فقد كان من أجزائها المغرب حينا، ومصر والشام وجزيرة العرب، والعراق، وفارس، وما وراء النهر. وكانت هذه الأمم تختلف فيما بينها كل الاختلافات التي أبناها. وكلها خضعت للحكم الإسلامي، وتكون منها جميعا مملكة واحدة، وكان لكل أمة من هذه الأمم مزايا وصفات عرفت بها؛ فشهر العرب مثلا بالقدرة على الشعر؛ حتى قال أحمد بن أبي داود: «ليس أحد من العرب إلا وهو يقدر على قول الشعر، طبعا ركب فيهم، قل أو كثر
1 ». واشتهر أهل السند بالصيرفة، والعلم بالعقاقير. يقول الجاحظ: «إن السند لهم طبيعة في الصرف، لا ترى بالبصرة صيرفيا إلا وصاحب كيسه سندي، واشترى محمد بن السكن أبا رواح السندي، فكسب له المال العظيم، وقل صيدلاني عندنا، إلا وله غلام سندي، فبلغوا أيضا في الخبرة، والمعرفة بالعقاقير، وفي صحة المعاملة، واجتلاب الحرفاء مبلغا حسنا»،
2
واشتهر أهل مرو، وخراسان بالبخل؛ حتى قال في العقد الفريد: «أجمع الناس على بخل أهل مرو، ثم أهل خراسان؛ قال ثمامة بن أشرس: ما رأيت الديك قط في بلدة إلا وهو يدعو الدجاج، ويثير الحب إليها، ويلطف بها. إلا في مرو، فإني رأيته يأكل وحده! فعلمت أن لؤمهم في المأكل. ورأيت في مرو طفلا صغيرا في يده بيضة، فقلت له: أعطني هذه البيضة! فقال: ليس تسع يدك؛ فعلمت. أن اللؤم والمنع فيهم بالطبع المركب، والجبلة المفطورة.»
3
واشتهر اليمانون بالعشق، والحجازيون بالدل،
4
كما اشتهر العراقيون بالظرف. قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي:
إن قلبي بالتل تل عزاز
5
مع ظبي من الظباء الجوازي
شادن، لم ير العراق، وفيه
مع ظرف العراق دل الحجاز
وعدد الجاحظ مزايا كل أمة في عصره، فقال: «ميزة سكان الصين الصناعة، فهم أصحاب السبك، والصياغة، والإفراغ، والإذابة، والأصباغ العجيبة، وأصحاب الخرط، والنحت، والتصاوير، والنسج. واليونانيون يعرفون العلل، ولا يباشرون العمل، وميزتهم الحكم والآداب. والعرب لم يكونوا تجارا ولا صناعا، ولا أطباء، ولا حسابا، ولا أصحاب فلاحة، فيكونوا مهنة. ولا أصحاب زرع لخوفهم من صغار الجزية ... ولا طلبوا المعاش من ألسنة المكاييل، ورءوس الموازين، ولا عرفوا الدوانيق، والقراريط. فحين حملوا حدهم، ووجهوا قواهم إلى قول الشعر، وبلاغة المنطق، وتشقيق اللغة، وتصاريف الكلام وقيافة البشر، بعد قيافة الأثر، وحفظ النسب والاهتداء بالنجوم، والاستدلال بالآثار، وتعرف الأنواء، والبصر بالخيل، والسلاح، وآلة الحرب، والحفظ لكل مسموع، والاعتبار بكل محسوس، وإحكام شأن المناقب، والمثالب - بلغوا في ذلك الغاية. وميزة آل ساسان في الملك والسياسة، والأتراك في الحروب ... وليس في الأرض كل تركي كما وصفنا. كما أنه ليس كل يوناني حكيما، ولا كل صيني في غاية من الحذق. ولا كل أعرابي شاعرا، قائفا. ولكن هذه الأمور في هؤلاء أعم وأتم. وفيهم أظهر وأكثر.»
6
وقال في موضع آخر في الكلام على الزنج: «وهم أطبع الخلق على الرقص، والضرب بالطبل؛ على الإيقاع الموزون، من غير تأديب، ولا تعليم. وليس في الأرض أحسن حلوقا منهم.»
7 «واشتهر الهند بالحساب، وعلم النجوم، وأسرار الطب، والخرط، والنجر، والتصاوير، والصناعات الكثيرة العجيبة.»
8
كذلك كانوا يختلفون في الأهواء، والميول السياسية، يوضح ذلك ما رواه ابن قتيبة: «قال محمد بن علي بن عبد الله بن عباس لرجال الدعوة حين اختارهم للدعوة، وأراد توجيههم: أما الكوفة وسوادها، فهناك شيعة علي بن أبي طالب. وأما البصرة فعثمانية تدين بالكف، وتقول: كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل. وأما الجزيرة فحرورية مارقة، وأعراب كأعلاج، ومسلمون في أخلاق النصارى. وأما أهل الشام؛ فليس يعرفون إلا آل أبي سفيان، وطاعة بني مروان؛ عداوة لنا راسخة وجهلا متراكما. وأما أهل مكة والمدينة؛ فقد غلب عليهما أبو بكر وعمر. ولكن عليكم بخراسان فإن هناك العدد الكثير، والجلد الظاهر ، وصدورا سليمة، وقلوبا فارغة، لم تتقسمها الأهواء، ولم تتوزعها النحل، ولم تشغلها ديانة، ولم يتقدم فيها فساد، وليست لهم اليوم همم العرب، ولا فيهم كتحازب الأتباع بالسادات، وكتحالف القبائل، وعصبية العشائر. ولم يزالوا يذلون، ويمتهنون، ويظلمون ويكظمون، ويؤملون الدول، وهم جند لهم أجسام وأبدان، ومناكب وكواهل، وهامات ولحى وشوارب، وأصوات هائلة، ولغات فخمة تخرج من أفواه منكرة.»
9
كذلك كان في كل أمة من هذه الأمم طوائف مختلفة لها شعائر، وعادات خاصة؛ فمنهم يهود حافظوا على تقاليدهم، وحرموا التزاوج إلا منهم، ونصارى تمسكوا بشعائرهم وعاداتهم، ومجوس يقيمون هياكلهم، ويوقدون نيرانهم.
كما نجد خلافات في الآداب، ففرس لهم أدب هو نتيجة تاريخهم، وحياتهم الاجتماعية، وعراقيون لهم آداب قديمة ورثوها مما اعتورهم من الدول، ومصريون لهم أدب كذلك، وأدب هندي، وأدب شامي، وأدب يوناني روماني.
دع عنك الاختلافات الإقليمية؛ فأمة تعيش في جبل، وأخرى في سهل، وجو بارد شديد البرودة، وحار شديد الحرارة، وأمة ساحلية، وأمة صحراوية. وما يستتبع ذلك من خلاف بين الأمم في العادات، والطبيعة، والمزاج.
كل هذه الاختلافات التي لم نذكر منها إلا أمثلة قليلة؛ كانت تكون المملكة الإسلامية في العصر العباسي الأول، وكانت ساحتها وعاء تصهر فيه هذه المواد المختلفة، وتتفاعل فيه كما تتفاعل الأجسام المختلفة كيماويا. وقد كانت هناك عوامل قوية ساعدت على هذا الامتزاج ألممنا بها في الجزء الأول من كتابنا.
10
ولكن لابد أن نزيد هنا كلمة عن شيء كان ظاهر الأثر في هذا العصر؛ وهو «عملية التوليد».
ونعني بالتوليد؛ أن يتزاوج رجل من أمة وامرأة من أمة أخرى؛ فينشأ بينهما نسل يجري في عروقه دم الأمتين. وقد امتاز العصر العباسي الأول بكثرة هذا الجيل من الناس. وكان هذا التوليد ظاهرة قوية؛ نتجت عن اختلاط الأجناس، ومن نظام الرق والولاء الذي طبق عقب الفتح الإسلامي. فقد أصبح البيت الإسلامي - وخصوصا بيوت الخلفاء والأمراء والأغنياء - «عصبة أمم»، ينتج من النسل ما يحمل خصائص الأمم المختلفة. خذ لذلك مثلا: بيت أبي جعفر المنصور؛ فقد كان في بيته أروى بنت منصور الحميري، أولدها المهدي، وجعفرا الأكبر. وأمة كردية كان المنصور اشتراها فتسراها؛ فولدت له جعفرا الأصغر. وأمة رومية يقال لها «قالي» أولدها «صالحا المسكين»، وامرأة من بني أمية أولدها بنتا تسمى «العالية.»
11
هذا مع أن أبا جعفر المنصور لم يسرف في التسري إسراف من أتى بعده. «وكان للرشيد زهاء ألفي جارية من المغنيات والخدمة في الشراب؛ في أحسن زي من كل نوع من أنواع الثياب والجوهر.»
12 «ويقال: إنه كان للمتوكل أربعة آلاف سرية.»
13
وسيأتي من ذلك الشيء الكثير عند الكلام في الجواري.
كانت هذه الجواري المختلفة الأنواع توزع على الفاتحين، وتباع في أسواق النخاسين، وتهدى كما تهدى الطرف اللطيفة، وتمنح كما يمنح المال. وكانت الحرائر من الأمم المختلفة تتزوج من غير جنسها، وكان هؤلاء وهؤلاء ينسلن نسلا عديدا، وكان نسلهن أكثر من نسل العربيات الخالصات؛ لقلة عدد العربيات إذا نسب لغيرهن. بل كان ولوع الناس بالاختلاط بغير العرب أقوى وأشد، وميلهم إلى الإماء أكثر منه إلى الحرائر. ولذلك سببان:
الأول:
أن الجمال في كثير من نساء هذه الأمم المفتوحة أوفر، والحسن أتم؛ قد صقلتهن الحضارة، وجلاهن النعيم. هذا إلى ما حبتهن به طبيعة الإقليم؛ من بياض البشرة، وصفرة الشعر، وزرقة العيون، ونحو ذلك.
الثاني:
ما أشار إليه الجاحظ؛ من أن عادة التزوج بالحرائر كانت في عهده كعادتنا الآن! لا ينظر الرجل إلى من يريد أن يتزوج، ولكن تتوسط «الخاطبة»، فتروي له من محاسنها ما تشاء، وقد لا يتفق ذوقها وذوقه.. هذا إن صدقته! وليس ذلك هو الشأن في الأمة، فهو يراها قبل أن يقدم على تملكها. قال الجاحظ: «قال بعض من احتج للعلة التي من أجلها صار أكثر الإماء أحظى عند الرجل من أكثر المهيرات:
14
إن الرجل قبل أن يملك الأمة قد تأمل كل شيء منها، وعرف ما خلا حظوة الخلوة، فأقدم على ابتياعها بعد وقوعها بالموافقة. والحرة إنما يستشار في جمالها النساء، والنساء لا يبصرن من جمال النساء وحاجات الرجال، وموافقتهن قليلا ولا كثيرا! والرجال بالنساء أبصر.. وقد تحسن المرأة أن تقول: كأن أنفها السيف! وكأن عينها عين غزال! وكأن عنقها إبريق فضة ...! وكأن شعرها العناقيد ...! وهناك أسباب أخر، بها يكون الحب والبغض.»
15
ومن أقوال العرب المشهورة: «الأمة تشترى بالعين وترد بالعيب، والحرة غل في عنق من صارت إليه!» وقالوا: «عجبت لمن لبس القصير؛ كيف يلبس الطويل! ولمن أحفى شعره؛ كيف أعفاه! وعجبا لمن عرف الإماء؛ كيف يقدم على الحرائر!»
16
وقد اشتهرت الأصقاع المختلفة بميلهم إلى أجناس مختلفة من النساء، بحكم الجوار، وبحكم ما كانوا يأسرون ويسترقون «من ذلك: أن أهل البصرة أشهى النساء عندهم؛ الهنديات وبنات الهنديات، والأغوار،
17
واليمن أشهى النساء عندهم؛ الحبشيات وبنات الحبشيات، وأهل الشام أشهى النساء عندهم؛ الروميات وبنات الروميات. وكل قوم فإنما يشتهون جلبهم وسبيهم إلا الشاذ، وليس على الشاذ قياس.»
18
من هذا الاختلاط الذي أبنا طرفا منه؛ نشأ جيل جديد يحمل ميزات خاصة، حتى بعض الخلفاء أنفسهم كانوا من هذا الصنف؛ «فالخيزران سبية هي من خرشنة،
19
ولدت موسى الهادي، وهارون الرشيد، ابني محمد المهدي.. وشاهسفرم
20
بنت فيروز بن يزدجرد بن شهريار بن كسرى أبرويز ولدت للوليد بن عبد الملك يزيد بن الوليد الناقص، وإبراهيم بن الوليد المخلوع.»
21
ومروان بن محمد؛ ابن أمة كردية
22
وأبو جعفر المنصور، أمه بربرية اسمها سلامة. والمأمون؛ أمه أمة تسمى مراجل. والمعتصم، أمه أمة تسمى ماردة. والواثق؛ أمه أمة تسمى قراطيس، والمتوكل؛ أمه أمة تسمى شجاع.
23
ومثل ذلك في العلماء، والشعراء. قال الأصمعي: «كان أكثر أهل المدينة يكرهون الإماء، حتى نشأ منهم علي بن الحسين، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، ففاقوا أهل المدينة فقها، وعلما، وورعا، فرغب الناس في السراري.»
24
خضع هذا الصنف من المولدين لقوانين «الوراثة»، فكسب من آبائه وأمهاته صفات خاصة، وكان صنفا ممتازا. والعرب من قديم آمنوا بأن الزواج بالأباعد خير من الزواج بالأقارب. وروي في الخبر: «اغتربوا لا تضووا.»
25
وقال الشاعر:
فتى لم تلده بنت عم قريبة
فيضوى، وقد يضوى رديد القرائب
وقال آخر:
أنذر من كان بعيد الهم،
تزويج أولاد بنات العم
فليس بناج من ضوى وسقم!
ورووا: «إن عمر نظر إلى قوم من قريش؛ صغار الأجسام. فقال: مالكم صغرتم؟ قالوا: قرب أمهاتنا من آبائنا. قال: صدقتم؛ اغتربوا. فتزوجوا في البعداء فأنجبوا!»
والواقع أيد هذه النظرية؛ فالمولدون في العصر العباسي كانوا من أظهر العناصر، ولهم ميزات مختلفة في أجسامهم، وعقولهم، وصناعاتهم؛ وذلك باختلاف أمهاتهم. يقول أحد القواد: «ما في الدنيا أحد أشجع من أبناء خراسان المولدين، ولا أفتك منهم!»
26
ويقول الأصمعي: «بنات العم أصبر، والغرائب أنجب، وما ضرب رءوس الأبطال كابن الأعجمية!» «وسئل بعضهم عن ولد الرومية. فقال: صلف، معجب، بخيل. قيل: فولد الصقلبية؟ قال: طفس، زنيم. قيل: فولد السوداء؟ قال: شجاع، سخي. قيل: فولد الصفراء؟ قال: هم أنجب أولادا، وألين أجسادا، وأطيب أفواها. قيل: فولد العربية؟ قال: أنف، حسود
27 ... إلخ. ويقول الجاحظ: «رأينا الخلاسي من الناس؛ وهو الذي يتخلق بين الحبشي، والبيضاء، والعادة من هذا التركيب أنه يخرج أعظم من أبويه، وأقوى من أصليه ومثمريه. ورأينا اليسري من الناس؛ وهو الذي يخلق من بين البيض، والهند، لا يخرج ذلك النتاج على مقدار ضخم الأبوين، وقوتهما، ولكنه يجيء أحسن وأملح»
28
ويقول في العلة في ميزة النصارى على اليهود في الشكل والعقل: «إن الإسرائيلي لا يزوج إلا الإسرائيلي، فكانت الغرائب لا تشوبهم، وفحولة الأجناس لا تضرب فيهم.»
29
إن شئت؛ فانظر في كتاب الأغاني، تجد أن أكثر من نبغ من المغنيات في الحجاز، ثم في العراق؛ في العصر الأول العباسي من «مولدات المدينة»، أو من تلاميذهن. ومولدات المدينة؛ نساء نتجن من آباء عرب، وأمهات من غير العرب، أو شئت فانظر إلى كثير من العلماء، والأدباء، وتحر أجناس آبائهم وأمهاتهم، تجدهم من المولدين. وقد رأيت شهرة مولدي خراسان، ومولدي الأعجام عامة؛ بالشجاعة. وقديما ظهر باليمن عنصر ممتاز سماهم العرب «الأبناء»، «وهم الذين أرسلهم كسرى مع سيف بن ذي يزن لما جاء يستنجده على الحبشة؛ فنصروه، وملكوا اليمن، وتدبروها وتزوجوا في العرب، فقيل لأولادهم الأبناء، وغلب عليهم هذا الاسم ؛ لأن أمهاتهم من غير جنس آبائهم.
30 » ومن مشهوري العلماء من الأبناء: طاووس ابن كيسان، ووهب بن منبه التابعيان، غير أن هؤلاء الأبناء كانوا من أب فارسي وأم عربية يمنية. والمولدون في عصرنا العباسي كان أكثرهم من أب عربي وأم أعجمية. •••
وكما كان هناك «توليد» بين الأجسام، كان هناك توليد عقلي، فعقول الناس من الأمم المختلفة كان يتناوبها اللقاح، فالفارسي يحمل عقلا فارسيا، ثم يعتنق الإسلام، ويتعلم اللغة العربية، فينشأ مزيج من العقلين، تتولد منه أفكار جديدة، ومعان جديدة. واليوناني النصراني أو الرومي النصراني، أو العراقي اليهودي يخالط العربي المسلم، ويتبادلان الرأي والقصص والفكرة، فينشأ من ذلك فكر جديد، وهكذا، ومن ثم كان «الأدب العربي» بمعناه الواسع الذي يشمل كل ثقافة ليس في الحقيقة أدبا عربيا؛ وإنما هو «مزيج» طبع بالطابع العربي الإسلامي؛ فسمي أدبا عربيا. ولنذكر مثلا يوضح هذا: ذلك أننا نرى العرب في جاهليتها، أدبها أدب عربي بالمعنى الصحيح، وهو إن اقتبس شيئا مما حوله؛ فقد كان اقتباسه قليلا خفيفا. أما الروح الغالبة القوية فهي الروح العربية، فهو يمثل الحياة العربية أحسن تمثيل، ويصور حياتهم الاجتماعية أتم تصوير، فيه خيالهم، وفيه طريقة صيدهم، وفيه وصف حروبهم، ولهوهم، وجدهم، وبداوتهم. فإذا نحن طفرنا إلى العصر العباسي وجدنا الناس، وخاصة الفرس الذين دخلوا في الإسلام، وكانت لهم غلبة على مرافق الدولة لم يعودوا يتذوقون بذوقهم الفارسي الشعر العربي الجاهلي، وإنما يتذوقون ما ألفوا من التغني في شعرهم بالحب، والخمر. فظهر العباس بن الأحنف الخراساني البيئة، وأبو نواس الفارسي الأم؛ يشبعان ذوقهما. الأول: في عشقه، والثاني: في خمرياته. قد كان للعربي الجاهلي شعر في الحب، وشعر في الخمر. ولكن شتان بين خمريات طرفة؛ وخمريات أبي نواس، وشتان بين شوق امرئ القيس، وشوق العباس. ويعجبني في ذلك قول الجاحظ: كم بين قول امرئ القيس: «تقول وقد مال الغبيط بنا معا»، وبين قول علي بن الجهم:
سقى الله ليلا ضمنا بعد هجعة
وأدنى فؤادا من فؤاد معذب
فبتنا جميعا لو تراق زجاجة
من الراح فيما بيننا لم تسرب!
31
لم تكن الحضارة وحدها هي التي أنتجت هذا الفرق. ولكن كان من أكبر العوامل فيه: تزاوج الأجناس، وتزاوج الأفكار، كالذي كان في الشعر. فقد أخذ الفرس الوزن العربي، والقافية العربية، والأسلوب العربي، ولكن أخذوا بجانب ذلك الخيال الفارسي، والذوق الفارسي. انظر إلى القصيدة التي يقولها الخريمي: يذكر بغداد ويصف ما انتابها من الفتن أيام الخلاف بين الأمين والمأمون، والتي مطلعها: قالوا ولم يلعب الزمان ببغداد وتعبر به عوابرها!؟
32
تحس بنفس قصصي، ممتع طويل، لا عهد للعرب به من قبل. وانظر أنواع الحكم الهندية الفارسية العربية التي تجدها في أقوال ابن المقفع، وانظر القصص الذي في ألف ليلة وليلة، وكليلة ودمنة. وانظر أنواع المقامات التي تجلت في عمل البديع والحريري. كل هذا وأمثاله: أنواع لا يعرفها العرب الخلص، وإنما كانت من غير شك نتيجة عملية التوليد التي أشرنا إليها. وما كانت تكون لو عاش العرب وحدهم، أو الفرس وحدهم. ومثل ذلك يقال فيما ظهر من أنواع العلوم المختلفة، التي سنوضحها في فصول تالية.
والخلاصة أن لقاح العقول أنتج مخلوقات جديدة؛ لها ميزاتها الخاصة. كما كان الشأن في توليد الأجسام. •••
وبعد: فمع هذه الاختلافات المتنوعة - التي أبنا - كانت هناك روح واحدة، ترفرف على العالم الإسلامي. هي روح شرقية، توحد بين أفرادها، مهما اختلفت أجناسهم وأنواعهم. هذه الروح هي التي أخضعت الفلسفة اليونانية لما دخلت في بلادها، فأسبغت عليها ثوبا من روحانيتها، وإلهاماتها. وهي التي جعلت علماء التاريخ والاجتماع يدركون خصائص مشتركة بين الشرق، تخالف تلك التي للغرب. روح ورثها الشرقي من أجيال، وساعد على تكوينها بيئاتهم الطبيعية، والاجتماعية، وجعلتهم يتذوقون غير ما يتذوقه الغربي، ويدركون الأشياء على غير النمط الغربي، كما جعلت لهم مدنيات؛ تخالف - من وجوه كثيرة - المدنيات الغربية. جاءت الأديان المختلفة من: بوذية، ويهودية، ونصرانية. فصبغت هذه الروح صبغة خاصة، صبغة لا مادية، تؤمن بإله فوق هذا العالم، وترجو جنة، وتخاف نارا، وترى أن وراء هذه السعادة الدنيوية والشهوات الجسمية سعادة أخرى روحية! فلما جاء الإسلام ، ونشر سلطانه على الممالك الشرقية؛ زاد هذه الروح وقواها، وعمل في توحيدها، فقد كانت هذه الأمم المختلفة تخضع لقانون واحد، ولنظام في الحكم واحد، وتتكلم بلغة واحدة، ويدين أغلبها بدين واحد، ورحلات العلماء في منتهى القوة على صعوبة المواصلات، والرحالون يتبادلون الآراء والمعتقدات، ويدعون دعوات دينية وسياسية، والحكام يرسلون من مركز الخلافة مزودين بتعاليم واحدة في جوهرها.
كل هذا: وحد بين الأمم المختلفة، وكون منها ما يصح أن يسمى أمة واحدة، لها أدب واحد، وثقافة واحدة، وعلم مشترك.
الفصل الثاني
الصراع بين العرب والموالي
يظهر أن العرب في الجاهلية لم يكن لهم شعور قوي بأنهم أمة! إنما كان الشعور القوي عندهم؛ شعور الفرد بقبيلته، ذلك أننا إذا رجعنا إلى ما نرجح صحته من الشعر الجاهلي، وجدناه مملوءا بالشعور القبلي، فالعربي يمدح قبيلته، ويتغنى بانتصارها، ويعدد محاسنها، ويهجو القبيلة الأخرى من أجل قبيلته. ولكن قل أن نجد شعرا يتغنى فيه العربي بأنه عربي! ويفخر فيه على غيره من الأمم. والسبب في ذلك واضح، وهو: أن العرب في الجاهلية لم يكونوا أمة بالمعنى الصحيح. فلم يتحدوا لغة ولا دينا، وليست لهم آمال وطنية واحدة، ولا ما هو شرط أولي للأمة؛ وهو وجود شخص، أو هيئة مكونة من عدة أشخاص، لها قوة تنفيذ أوامرها على كافة أفرادها، وحملهم على طاعتها. وطبيعة المعيشة القبلية التي كانت تعيشها تأبى ذلك.
أضف إلى ذلك؛ أنه لم يكن هناك ما يشجع العرب على هذه الفكرة؛ لأنهم إذا نظروا هذا النظر لم يشعرهم ذلك بعظمة، ولا فخر، فحولهم الفرس من ناحية، والروم من ناحية، وعلاقة العرب معهم ليست علاقة تشعر بالقوة؛ فهم يتعاملون معهم تجاريا، ولكن ليست علاقة الند بالند، بل علاقة الفقير بالغني، والضعيف بالقوي، ومن تاجر منهم، وانتقل إلى فارس والروم ورأى عظمتهم، استضعف نفسه. نعم! وردت بعض قصص قد تنقض ما نقول؛ كالذي رواه القظامي عن الكلبي: من وفود العرب على كسرى
1
وافتخار النعمان بالعرب وفضلهم على جميع الأمم، لا يستثني فارس، ولا غيرها، وأن أمة لو قرنت بالعرب لفضلتها (العرب) بعزها ، ومنعتها، وحسن وجوهها، وبأسها، وسخائها، وحكمة ألسنتها، وشدة عقولها، وأنفتها، ووفائها ... إلخ، ولكنا نشك في هذا الخبر شكا كبيرا، فإنا لم نجد هذا الخبر إلا عن الكلبي، وهو مشهور بالوضع. ولأن هذا الحديث لم نجد أحدا رواه في العصر الأموي مع أهميته؛ إنما روي عن الكلبي وحده في العصر العباسي، هذا إلى أن ما فيه من الصنعة الفنية؛ دليل على وضعه، بل عندنا من الأخبار الصحيحة ما ينقضه، ذلك ما يقوله قتادة، وهو من مشهوري التابعين؛ وهو كذلك: عربي صميم، من سدوس. قال عند تفسير قوله تعالى
وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها : «كان هذا الحي من العرب أذل الناس ذلا، وأشقاه عيشا، وأبينه ضلالة، وأعراه جلودا، وأجوعه بطونا، معكومين على رأس جحر بين الأسدين؛ فارس والروم. لا والله ما في بلادهم يومئذ من شيء يحسدون عليه. من عاش منهم عاش شقيا! ومن مات ردي في النار! يؤكلون، ولا يأكلون! والله ما نعلم قبيلا يومئذ من حاضر الأرض، كانوا فيها أصغر حظا، وأدق فيها شأنا منهم، حتى جاء الله عز وجل بالإسلام، فورثكم به الكتاب. وأحل لكم به دار الجهاد، ووسع لكم به من الرزق، وجعلكم به ملوكا على رقاب الناس!!».
2
والعرب لما انتصرت قبيلة منهم على فرقة من الجيش الفارسي يوم ذي قار؛ عدت ذلك فخرا عظيما، مع أنه ليس بشيء ذي خطر، فأي فرقة لأي أمة عرضة للانهزام، ولكن العرب أحسوا بالفخر العظيم لانتصارهم، كأنهم ما كانوا يتوقعون أن تهزم حملة فارسية، بل في نفس هذه القصة مستند قوي لما نقول، وهو: أن العرب لما انتصروا يوم ذي قار لم يتغنوا بنصرة العرب على الفرس، إنما تغنوا بنصرة القبائل التي اشتركت في الحرب، وهم: الشيبانيون، والمجليون واليشكريون، ولم تتجل في الغناء روح عربية عامة.
ويخبرنا الطبري: أنه عندما أراد عمر فتح فارس تخوفوا من الفرس، وعجبوا كيف يستطيعون أن يحاربوهم! يقول: «وكان وجه فارس من أكره الوجوه إليهم (إلى المسلمين) وأثقلها عليهم؛ لشدة سلطانهم، وشوكتهم، وعزهم ، وقهرهم الأمم». وروى أن المثنى بن حارثة تكلم فقال: «يا أيها الناس، لا يعظمن عليكم هذا الوجه، فإنا قد تبحبحنا ريف فارس، وغلبناهم على خير شقي السواد، وشاطرناهم، ونلنا منهم، واجترأ من قبلنا عليهم، ولها إن شاء الله ما بعدها!!»
3
فالذي يظهر لنا من هذا كله: أن العربي في الجاهلية كان يعتز بقبيلته. والمحمدة التي يفتخر بها هي التي يأتي أفراد قبيلته، فلما رهن حاجب ابن زرارة قوسه عند كسرى ووفى ابنه بالرهن! كان الذي يفتخر بذلك قبيلة تميم،
4
والذي يفتخر بالشعر أو الشجاع قبيلته، وقل أن يتجاوزوا ذلك إلى عد المكرمة، مكرمة أمة!.
فلما جاء الإسلام، تكون العرب أمة، وكانت فيها خصائص الأمة التي أشرنا إليها؛ من اتحاد لغة ودين وميول، ومن وجود حكومة على رأسها، وأعقب ذلك الانتصار على أضخم أمتين كانتا في عصرها، وهما فارس، والروم. ولكن مع هذا لم تنمح الروح القبلية، فوجدت النزعتان معا: «نزعة العربي لقبيلته، ثم بطنه، ثم فخذه»، و«نزعته للدم العربي، والأمة العربية، والجنس العربي»، وسارت النزعتان جنبا إلى جنب، في صدر الإسلام، وصرنا نسمع العربي يفتخر بقبيلته في الإسلام، كما كان في الجاهلية، وزاد في الإسلام الافتخار بالجنس العربي، كالذي يقول:
إنا من النفر الذين جيادهم
طلعت على عاد بريح صرصر
وسلبن تاجي ملك قيصر بالقنا
واجتزن باب الدرب لابن الأصفر
5
فأما النوع الأول (وهو العصبية القبلية) فالحوادث التاريخية في العصر الأموي، والقصائد الأموية كلها تفسر هذه النزعة، ولا تفهم إلا بها. ولنسق لك أمثلة للدلالة عليها: يقول رجل من بني أسد بن خزيمة يمدح يحيى بن حيان:
ألا جعل الله اليمانين كلهم،
فدى لفتى الفتيان، يحيى بن حيان
ولولا عريق في من عصبية
لقلت وألفا من معد بن عدنان
ولكن نفسي لم تطب بعشيرتي،
وطابت له نفسي بأبناء قحطان
وروى المبرد عن شيخ من الأزد ثقة، عن رجل منهم: أنه كان يطوف بالبيت وهو يدعو لأبيه. فقيل له: ألا تدعو لأمك؟! فقال : إنها تميمية
6
ودعبل يفتخر باليمن، ويعدد مناقبهم ، ويرد على الكميت افتخاره بنزار، في قصيدة تبلغ ستمائة بيت، أولها:
أفيقي من ملامك يا ظعينا
كفاني اللوم مر الأربعينا
7
وقد ذكر المسعودي طرفا من القصيدتين،
8
وعقب ذلك بقوله:
ونمى قول الكميت في النزارية، واليمانية، وافتخرت نزار على اليمن، وافتخرت اليمن على نزار، وأدلى كل فريق بما له من من المناقب، وتحزبت الناس، وثارت العصبية في البدو والحضر، وتبع ذلك أمر مروان بن محمد الجعدي، وتعصبه لقومه من نزار على اليمن، وانحراف اليمن عنه إلى الدعوة العباسية.
وكان عند كثير من ولاة العرب هذه النزعة السيئة في الحكم، وقبيلته حوله ترى أنه إذا ولي الرجل فقد وليت قبيلته، فلما ولي ابن هبيرة العراق اعتقدت فزارة أنها وليت الحكم. فلما عزل وتولى خالد بن عبد الله القسري اشرأبت أعناق قسر، وذلت فزارة. وقال الفرزدق:
لعمري لئن نابت فزارة نوبة
لمن حدث الأيام تحسبها قسر
وفي العصر العباسي، لما تولى معن بن زائدة الشيباني اليمن قتل من أهلها تعصبا لقومه من ربيعة، وغيرها من نزار، فكان عقبة بن سالم (والي عمان والبحرين) يقتل من القيسيين تعصبا لقومه من قحطان، وكيدا لمعن لما عمله في اليمن.
9
والأمثلة على ذلك كثيرة لا حصر لها، والذي يهمنا في موضوعنا هنا هو النزعة الثانية، وهي نزعة العرب ضد الموالي:
اعتنق العرب الإسلام، وسمعوا قوله تعالى:
إن الدين عند الله الإسلام
ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين
وآمنوا بأن الإسلام خير الأديان، وأن الناس حولهم في ضلال، وأنهم حماة الإسلام، وحملة الدين القويم، وأن عليهم دعوة الناس كافة، ليتخلوا عن دياناتهم السابقة، ويدخلوا فيه، وكان من بعد ذلك الجهاد، فظفروا بفارس ودكوا عرشها، وانتصروا على الروم، وهزموا جيشها، واستولوا على كثير مما في أيديها. وعلى الجملة فقد رأوا: أن سيادة العالم كانت للفرس والروم، فانتقلت فجأة إليهم! وأن هؤلاء الفرس الذين كان العرب بالأمس يخشون بأسهم أصبحوا تحت حكمهم! وهؤلاء الروم الذين كان العرب يتمنون أن يفتحوا لهم باب الشام ومصر، ليتاجروا فيها قد هزموا، وفروا أمامهم إلى عقر دارهم! كل هذا رفع من نفسية العرب. وغلا كثير منهم في ذلك فشعروا بأن الدم الذي يجري في عروقهم دم ممتاز، ليس من جنسه دم الفرس والروم وأشباههم! وتملكهم هذا الشعور بالسيادة والعظمة، فنظروا إلى غيرهم من الأمم نظرة السيد إلى المسود. وكان الحكم الأموي مؤسسا على هذا النظر! والحق: أن العرب في هذا لم يطيعوا الإسلام في تعاليمه! فالله تعالى: يقول
إنما المؤمنون إخوة
ويقول النبي:
صلى الله عليه وسلم «لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى.» ويقول عمر: «لو كان سالم، مولى حذيفة حيا لوليته!!» وإذا قلت العرب؛ فلست أعني جميعهم، فقد كان هناك طائفة كبيرة من خيارهم تدين بتعاليم الإسلام، وتجعل مقياس الفضل التدين لا الدم؛ فقد كان علي بن أبي طالب لا يفضل شريفا على مشروف، ولا عربيا على عجمي، ولا يصانع الرؤساء وأمراء القبائل، فكان هذا من آكد الأسباب في تقاعد العرب عنه!»
10
وروى المدائني: أن طائفة من أصحاب علي مشوا إليه فقالوا: «يا أمير المؤمنين أعط هذه الأموال، وفضل هؤلاء الأشراف من العرب وقريش على الموالي والعجم، واستمل من تخاف خلافه من الناس.» وإنما قالوا له ذلك لما كان معاوية يصنع في المال. فقال لهم: «أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور؟!»
11
ولكن سواد العرب، وحكام بني أمية وولاتهم، كانت عندهم هذه العصبية العربية قوية، يحقرون معها من لم يكن منهم. وكتب الأدب وحوادث التاريخ مملوءة بالشواهد على ذلك: نزل جرير بقوم من بني العنبر فلم يضيفوه حتى اشترى منهم القرى! فانصرف وهو يقول:
يا مالك بن طريف، إن بيعكم
رفد القرى مفسد للدين والحسب!
قالوا نبيعكه بيعا فقلت لهم:
بيعوا الموالي واستحيوا من العرب!
قال المبرد: إن جلة الموالي أنفت من هذا البيت؛ لأنه حطهم ووضعهم، ورأى أن الإساءة إليهم غير محسوبة عيبا.
12
وقال المختار لإبراهيم بن الأشتر يوم خازر، وهو اليوم الذي قتل فيه عبيد الله بن زياد : «إن عامة جندك هؤلاء الحمراء (يريد الموالي )، وإن الحرب إن ضرستهم هربوا، فاحمل العرب على متون الخيل، وأرجل الحمراء أمامهم.»
13
وروى الأغاني: أن رجلا من الموالي خطب بنتا من أعراب بني سليم وتزوجها. فركب محمد بن بشير الخارجي إلى المدينة، وواليها يومئذ إبراهيم بن هشام بن إسماعيل، فشكا إليه، فأرسل الوالي إلى المولى، ففرق بين المولى وزوجته، وضربه مائتي سوط، وحلق رأسه ولحيته وحاجبيه!
فقال محمد بن بشير:
قضيت بسنة وحكمت عدلا،
ولم ترث الحكومة من بعيد!
وفيها يقول:
وفي المائتين للمولى نكال،
وفي سلب الحواجب والخدود!
إذا كافأتهم ببنات كسرى
فهل يجد الموالي من مزيد؟
فأي الحق أنصف للموالي
من إصهار العبيد إلى العبيد؟!
14
وكان الحجاج، أحد أركان الدولة الأموية، ينفذ هذه السياسة في شدة ودقة؛ فقد وسم أيدي النبط بالمشراط، وفي ذلك يقول الشاعر في مولى:
لو كان حيا له الحجاج ما سلمت
صحيحة يده من وشم حجاج
15
ولما نزل الحجاج واسطا نفى النبط منها، وكتب إلى عامله بالبصرة، وهو الحكم بن أيوب، يقول: إذا أتاك كتابي فانف من قبلك من النبط، فإنهم مفسدة للدين والدنيا. فكتب إليه: قد نفيت النبط، إلا من قرأ منهم القرآن، وتفقه في الدين. فكتب إليه الحجاج إذا قرأت كتابي فادع من قبلك من الأطباء، ونم بين أيديهم ليقفوا عروقك، فإن وجدوا فيك عرقا نبطيا فاقطعه! والسلام.
16
وأمر الحجاج أن لا يؤم الكوفة إلا عربي.
17
ولما قبض على سعيد بن جبير، وكان قد خرج مع ابن الأشعث على الحجاج؛ قال له الحجاج: أما قدمت الكوفة وليس يؤم بها إلا عربي، فجعلتك إماما؟! قال: بلى. قال: أفما وليتك القضاء فضج أهل الكوفة، وقالوا لا يصلح القضاء إلا لعربي! فاستقضيت أبا بردة بن أبي موسى الأشعري، وأمرته ألا يقطع أمرا دونك! قال: بلى. قال: أوما جعلتك في سماري وكلهم من رءوس العرب؟ قال: بلى. قال: فما أخرجك علي؟ ... إلخ.
18
ويقول الأصفهاني: كانت العرب إلى أن عادت الدولة العباسية إذا أقبل العربي من السوق ومعه شيء فرأى مولى دفعه إليه ليحمله عنه، فلا يمتنع، ولا السلطان يغير عليه! وكان إذا لقيه راكبا، وأراد أن ينزل فعل، وإذا رغب أحد في تزوج مولاة خطبها إلى مولاها دون أبيها وجدها.
19
وطرب الموالي طربا شديدا لما مدحهم جرير بن الخطفى ببيت قال فيه:
فيجمعنا والغر أولاد سادة
أب لا يبالي بعده من تغدرا
فاجتمعوا حوله يسلمون عليه، ويسألونه كيف أنت يا أبا حزرة؟ وأهدوا له مائة حلة!
20
بل احتقر العرب طائفة المولدين الذين ذكرنا طرفا من نبوغهم، وخصائصهم في الفصل السابق، وسموا ابن العربي من الأمة «الهجين». قال في لسان العرب: الهجنة من الكلام ما يعيبك، والهجين: العربي ابن الأمة لأنه معيب.
21
قال ابن عبد ربه: «وكانت بنو أمية لا تستخلف بني الإماء، وقالوا: لا تصلح لهم العرب.» ويقول الأصمعي: في تعليله ذلك: «إن الناس يرون أن امتناعهم عن توليتهم كان للاستهانة بهم. وإن هذا غير صحيح؛ إنما كانوا يمتنعون عن توليتهم لأن بني أمية كانوا يرون أن زوال ملكهم على يد ابن أم ولد.» ونحن أميل إلى تعليل الناس من تعليل الأصمعي؛ لأن قولهم هو الذي يتمشى مع الواقع والمنطق الصحيح. وسياسة بني أمية كلها تؤيد ذلك؛ فهم إذا اختاروا واليا راعوا عربيته، وإذا اختاروا قاضيا أو إماما يصلي بالناس راعوا ذلك. وليسوا في هذا يرجعون إلى ضرب من التنجيم كما يزعم الأصمعي. وقد لاقى بنو أمية كثيرا من العنت لتعيين خالد بن عبد الله القسري واليا على العراق، ولاقى هو كثيرا من هجو الشعراء لأن أمه أمة رومية. وأكبر دليل على نقض قول الأصمعي: أنهم ولوا فعلا يزيد بن الوليد وإبراهيم بن الوليد، ومروان بن محمد، وأمهاتهم إماء! ولو كانوا يعتقدون بالتهجين ما ولوهم؛ إنما الحكمة في توليتهم أن الموالي بدءوا يقوون في آخر العهد الأموي، فاضطر الناس لضرب من الخضوع أمام قوتهم.
وذهب أعرابي إلى سوار القاضي، فقال: إن أبي مات، وتركني وأخا لي، وخط خطين ناحية، ثم قال: وهجينا لنا، ثم خط خطا آخر ناحية ، ثم قال: كيف ينقسم المال بيننا؟ فقال : المال بينكم ثلاثا إن لم يكن وارث غيركم. فقال له: لا أحسبك فهمت! إنه تركني، وأخي، وهجينا لنا. فقال سوار: المال بينكم سواء، فقال الأعرابي: أيأخذ الهجين كما آخذ ويأخذ أخي؟ قال: أجل! فغضب الأعرابي، وقال: تعلم والله إنك قليل الخالات بالدهناء!
22
وحكى الجاحظ قال: قلت لعبيد الكلابي، وكان فصيحا فقيرا: أيسرك أن تكون هجينا ولك ألف جريب؟ قال: لا أحب اللؤم بشيء! قلت: فإن أمير المؤمنين ابن أمة. قال: أخزى الله من أطاعه! ويقول الرياشي:
إن أولاد السراري
كثروا يا رب فينا
رب أدخلني بلادا
لا أرى فيها هجينا
وكتب محمد بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب يعير أبا جعفر المنصور: «واعلم أني لست من الطلقاء أولاد، ولا أولاد اللعناء، ولا أعرقت في الإماء، ولا حضنتني أمهات الأولاد! إلخ.»
فالحق أن الحكم الأموي لم يكن حكما إسلاميا، ويسوى فيه بين الناس، ويكافأ فيه من أحسن؛ عربيا كان أو مولى، ويعاقب فيه من أجرم؛ عربيا كان أو مولى، ولم يكن الحكام فيه خدمة للرعية على حساب غيرهم. كانت تسود العرب فيه النزعة الجاهلية لا النزعة الإسلامية؛ فكان الحق والباطل يختلفان باختلاف من صدر عنه العمل؛ فالعمل حق إذا صدر عن عربي من قبيلة! وهو هو باطل إذا صدر عن مولى أو عربي من قبيلة أخرى! ولسنا الآن بصدد أن نبحث إذا كان الموالي أسعد حظا تحت حكم العرب منهم تحت حكم الفرس أو الروم أو أشقى؟ فذلك ما يهم الباحث السياسي.
ولا بد أن نكرر هنا ما سبقت الإشارة إليه من أن هذا النظر القاسي الذي وصفناه ليس نظرا عاما كان عند العرب جميعهم، إنما كان هو النظر السائد بين البدو والولاة. أما نظر المساواة فقد كان سائدا في الأوساط العلمية والدينية، فالعالم يشرف بعلمه سواء كان مولى أو عربيا. ومن سادة التابعين من كانوا موالي، والناس منحوهم من الإجلال ما منحوا العرب، لا تفاضل بينهم إلا بالدين والعلم؛ فنجد الزهري، ومسروق بن الأجدع ، وشريحا، وسعيد بن المسيب، وقتادة من سادات التابعين، وهم من العرب، كما نجد الحسن البصري، ومحمد بن سيرين، وسعيد بن جبير، وعطاء بن يسار وربيعة الرأي، وابن جريج، من سادة التابعين، وهم من الموالي. والناس من عرب وموال يأخذون عنهم على السواء، وينتقلون من حلقة أحدهم إلى حلقة الآخر، حتى لترى الحسن البصري ينقد خلفاء بني أمية، وينقد يزيد بن المهلب! ويرى أن يزيد وصحبه وبني أمية وأصحابهم ضلال مارقون! ويقول: والله لوددت أن الأرض أخذتهم خسفا جميعا! ثم يأتي يزيد بن المهلب في رهط من قومه إلى الحسن، ويهم أحدهم بقتله، فيقول يزيد: «اغمد سيفك؛ فوالله لو فعلت لانقلب من معنا علينا!»
23
ولما مات تبع الناس كلهم جنازته حتى لم يبق بالمسجد من يصلي العصر، ولم يستنكر الناس عمل الحجاج في قتله الآلاف من العرب والموالي، كما استنكروا قتل سعيد بن جبير وهو مولى؛ لعلمه ودينه!
هذا الذي ذكرنا هو الذي يفسر لنا ما يروى في كتب التاريخ والسير من قصص مختلفة، تدل على احتقار الموالي حينا واحترامهم حينا. ويظن الظان لأول وهلة أن بينهما تضاربا، والحق أن لا تضارب، وأن الأوساط السياسية وأوساط أشراف القبائل وأوساط البدو كانت تحقر الموالي، وأن الأوساط الدينية والعلمية ما كانت تتعصب لجنس ولا دم، وإنما كانت تتعصب للدين والعلم، وتقومهما حيث كانا. •••
كان يقابل هذه العصبية العربية عصبية أخرى، من الموالي، وخاصة الفرس؛ فقد تملكهم العجب، كيف غلبهم العرب! وعبر بعضهم عن هذا المعنى: بأن حكم العرب لهم ضرب من سخرية القدر! وكانوا يفخرون على العرب بمجدهم القديم، وعزهم التالد، وأنهم أهل الحضارة العظيمة، ومن عرفوا كيف يسوسون الملك، ويدبرون الحكم. وأنهم لما حكموا لم يكن لهم إلى العرب حاجة، ولما حكم العرب لم يستطيعوا أن يحكموا إلا بمعونتهم.
لم تكن عند الفرس نزعة قبلية، ولم يكونوا يعنون بالأنساب عناية العرب بها،
24
وإنما كانوا يتعصبون أحيانا للبلدان؛ فقد كان أهل خراسان مثلا من أشد الناس عصبية بعضهم لبعض. وكانت العصبية القوية عندهم العصبية للأمة. وذلك طبيعي؛ لأنهم قطعوا من عهد بعيد طور البداوة، وتحضروا، وكانوا أمة بكل معناها الصحيح، وبدأوا يفخرون على العرب في العهد الأموي؛ كالذي رأيت من شعر إسماعيل بن يسار،
25
فقد كان يتغنى دائما بمجد الفرس، ودخل على هشام بن عبد الملك في خلافته، فاستنشده فأنشده قصيدة يقول فيها:
إني وجدك ما عودي بذي خور
عند الحفاظ، ولا حوضي بمهدوم!
أصلي كريم، ومجدي لا يقاس به!
ولي لسان كحد السيف مسموم!
أحمي به مجد أقوام ذوي حسب
من كل قرم بتاج الملك معموم
26
جحاجح سادة بلج مرازبة
جرد عتاق مساميح مطاعيم
27
من مثل كسرى وسابور الجنود معا
والهرمزان لفخر أو لتعظيم؟!
أسد الكتائب يوم الروع إن زحفوا
وهم أذلوا ملوك الترك والروم!
يمشون في حلق الماذي سابغة
مشي الراغمة الأسد اللهاميم
28
هناك إن تسألي تنبي بأن لنا:
جرثومة قهرت عز الجراثيم
فغضب هشام، وقال أعلي تفتخر، وإياي تنشد قصيدة تمدح بها نفسك وأعلاج قومك؟ غطوه في الماء، فغطوه في البركة حتى كادت نفسه تخرج، ثم أمر بإخراجه وهو يشر، ونفاه من وقته إلى الحجاز.
29
ولكن هذه النزعة صدها الأمويون صدا عنيفا، وعاقبوا عليها في قوة وجبروت، فتحولت من فخر ظاهر إلى دعوة سرية، وكانت الدعوة العباسية.
غير أننا نقرر هنا كالذي قررناه من قبل؛ وهو أن هذه النزعة لم تكن نزعة الفرس عامة، فمنهم من دخل الإسلام إلى أعماق نفوسهم، كمن سميناهم من التابعين، ولم ينسوا أن للعرب عليهم نعمة لا تقدر؛ وهي: أنهم هدوهم إلى الإسلام، واستنقذوهم من ضلال المجوسية إلى هداية الوحدانية. في الأوساط العلمية والدينية كان الفرس لا يؤمنون بعربية وفارسية، إنما يؤمنون بإسلام سوى بين الناس أجمعين، ولكن كثيرا من سواد الناس ومن أشارف الفرس كانوا يكرهون العرب، وخاصة الحكام والبيت الأموي. روى صاحب الأغاني: «أن إسماعيل بن يسار استأذن على الغمر بن يزيد بن عبد الملك يوما فحجبه ساعة، ثم أذن له، فدخل يبكي، فقال الغمر: يا أبا فائد تبكي؟ قال: وكيف لا أبكي ، وأنا على مروانيتي ومروانية أبي أحجب عنك. فجعل الغمر يعتذر إليه وهو يبكي. فما سكت حتى وصله الغمر بجملة لها قدر، وخرج من عنده فلحقه رجل. فقال له: أخبرني ويلك يا إسماعيل أي مروانية كانت لك أو لأبيك؟ قال: بغضنا إياهم، امرأته طالق إن لم تكن أمه تلعن مروان وآله كل يوم مكان التسبيح، وإن لم يكن أبوه حضره الموت، فقيل له: قل لا إله إلا الله، فقال: لعن الله مروان، تقربا بذلك إلى الله تعالى، وإبدالا له من التوحيد، وإقامة له مقامه!»
30
كره الموالي الحكم الأموي كراهة عميقة، فسعوا في إسقاطه، وقد كانت وجهة نظرهم أن الأمويين لم يعدلوا في حكمهم لنا، وترقبنا انتقال الأمر من خليفة إلى خليفة. فكان أمر الظلم على السواء، اللهم إلا إذا استثنينا عمر بن عبد العزيز؛ وهو فذ، وليس في الإمكان أن نحور الأمر من العرب إلى الفرس، فيكونوا هم الحاكمين؛ لأن السلطة الكبرى لا تزال في يد العرب، ولأنه إذا أثيرت هذه الدعوة تجمع العرب وغير الفرس من الموالي علينا. فلندع إذن إلى نقل الخلافة من يد الأمويين إلى يد الهاشميين، فنجد القلوب مستعدة لقبول الدعوة لأن الهاشميين عرب، ولأنهم أقرب إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم ،من الأمويين، وهذا يسرع في قبول الدعوة ويصبغها بصبغة دينية. وأخيرا فنحن إذا عضدنا الهاشميين رأوا أنهم وصلوا إلى الحكم بمعونتنا، ونجحوا بتدبيرنا. فيكون ظاهر الحكم لهم وباطنه لنا، نتولى المناصب العالية، وندير شئون الدولة ونترك لهم أبهة الخلافة، ومظهرها الخارجي؛ فلهم الشكل ولنا الجوهر. لعل هذا كان أهم ما يدور في خلد المؤسسين من الفرس للدعوة العباسية. قال نصر بن سيار يخاطب النزارية واليمانية ويحذرهم هذا العدو الداخل عليهم، بقوله:
أبلغ ربيعة في مرو وإخوتهم
فليغضبوا قبل ألا ينفع الغضب
ولينصبوا الحرب إن القوم قد نصبوا
حربا، يحرق في حافاتها الحطب
ما بالكم تلقحون الحرب بينكم
كأن أهل الحجا عن رأيكم عزب
وتتركون عدوا قد أظلكمو
مما تأشب، لا دين، ولا حسب
قدما يدينون دينا ما سمعت به
عن الرسول، ولم تنزل به الكتب
فمن يكن سائلا عن أصل دينهمو
فإن دينهمو: أن تقتل العرب
31
وكتب إبراهيم الإمام لأبي مسلم الخراساني: «إن استطعت ألا تدع بخراسان أحدا يتكلم بالعربية إلا قتلته فافعل! وأيما غلام بلغ خمسة أشبار تتهمه فاقتله، وعليك بمضر فإنهم العدو القريب الدار فأبد خضراءهم، ولا تدع على الأرض منهم ديارا.»
32
كانت خراسان مهد الدعوة العباسية، وكانت قطرا عظيما، يبلغ نحو ضعف ما يطلق الاسم عليه الآن. وقد تولاها أمراء من العرب بين مضري ويماني؛ فكانوا يحكمون حكما عربيا، بل قبليا؛ فأجج ذلك نار الحقد بين العرب والفرس أولا، وبين اليمانيين والمضريين ثانيا، فالأزديون يمثلون اليمانيين، وتميم وقيس يمثلون المضريين، وكل يعمل للزعامة والغلبة، فإذا تولاها يماني واسى اليمانيين وحدهم، وحقر من شأن غيرهم، والعكس، والفرس بين هؤلاء وهؤلاء ضائعون، تولى خراسان المهلب ابن أبي صفرة وآله عهدا طويلا، وهم أزديون (أي يمانيون) فكانت السلطة بيدهم، وحكموا حكما عربيا قبليا، وكانوا في منتهى الثروة والغنى، فكانوا يمدون اليمانيين أولا بمالهم وبجاههم. قال المدائني: «باع وكيل يزيد بن المهلب بطيخا جاءه من مغل بعض أملاكه بأربعين ألف درهم، فبلغ ذلك يزيد؛ فقال له يزيد: تركتنا بقالين، أما كان في عجائز الأزد من تقسمه فيهن؟»،
33
وكان عمر بن عبد العزيز يبغض يزيد بن المهلب وأهل بيته، ويقول: هؤلاء جبابرة ولا أحب مثلهم.
34
وتولى قتيبة بن مسلم وكان باهليا أي مضريا؛ «فتنكرت له أمراء القبائل لإذلاله إياهم، واستهانته بهم، واستطالته عليهم.»
35
وأخيرا تولى خراسان نصر بن سيار، وكان مضريا كذلك؛ «فمكثت أربع سنين لا يستعمل في خراسان إلا مضريا.»
36
لهذا وأمثاله ساءت العلاقة بين اليمانيين والمضريين.
فلما شعروا باجتماع الفرس عليهم فكروا أن يجمعوا كلمتهم، ويوحدوا صفوفهم، فقد رأينا نصر بن سيار ينبه العرب إلى أن الفرس تريد أن تهلك العرب، فأولى أن يتحد العرب كما اتحد الفرس، بل نرى أن الأمر قد وصل إلى أكثر من ذلك؛ «فقد تواعدت قبائل العرب من ربيعة ، ومضر واليمن على وضع الحرب، والاجتماع على قتال أبي مسلم الخراساني.»
37
ولكن أبا مسلم وقومه بدهائهم أججوا نار الفتنة بين قبائل العرب من جديد، «فجعل أبو مسلم يكتب إلى شيبان الخارجي يذم اليمانية تارة، ومضر أخرى. ويوصي الرسول بكتاب مضر؛ أن يتعرض لليمانية ليقرءوا ذم مضر، والرسول بكتاب اليمانية؛ أن يتعرض لمضر ليقرءوا ذم اليمانية.»
38
ويرسل أبو مسلم لعلي بن الكرماني (أحد زعماء اليمانيين) من يقول له: أما تأنف من مصالحة نصر بن سيار، وقد قتل بالأمس أباك وصلبه؟ ما كنت أحسبك تجامع نصر بن سيار في مسجد تصليان فيه!
39
وأخيرا بعد حوادث ودسائس نجح أبو مسلم، و«تقدم نصر بن سيار إلى أبي مسلم يلتمس منه أن يدخل مع مضر، وبعثت ربيعة وقحطان إلى أبي مسلم مثل ذلك، فتراسلوا بذلك أياما، فأمرهم أبو مسلم أن يقدم عليه وفد الفريقين حتى يختار أحدهما ففعلوا. وقدم الوفدان، وسمع أبو مسلم وشيعته الخطب في ذلك» ثم أعلن أبو مسلم اختياره، فقال: «قد اخترنا علي بن الكرماني وأصحابه من قحطان، وربيعة ... فنهض وفد مضر، عليهم الذلة والكآبة.»
40
اجتمع على الدولة الأموية اليمنية والربعية والعجم، وكان في النقباء
41 (وهم القادة والزعماء الذين حاربوا الدولة الأموية) كثير من العرب؛ منهم قحطبة الطائي. وكان من أعظم العرب نفوذا في قومه، وقد خطب في أهل خراسان يحقر العرب، ويعظم الفرس؛ في لهجة غريبة، فكان فارسيا أكثر من الفرس أنفسهم! إذ يقول: يا أهل خراسان هذه البلاد كانت لآبائكم الأولين، وكانوا ينصرون على عدوهم لعدلهم، وحسن سيرتهم؛ حتى بدلوا وظلموا، فسخط الله عز وجل عليهم؛ فانتزع سلطانهم، وسلط عليهم أذل أمة كانت في الأرض عندهم، فغلبوهم على بلادهم ... واسترقوا أولادهم؛ فكانوا بذلك يحكمون بالعدل، ويوفون بالعهد، وينصرون المظلوم، ثم بدلوا وغيروا، وجاروا في الحكم، وأخافوا أهل البر والتقوى من عترة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فسلطكم عليهم لينتقم منهم بكم، ليكونوا أشد عقوبة؛ لأنكم طلبتموهم بالثأر.
42
وبعد أن أدى العرب عملهم نكل أبو مسلم بهم، وقتل زعماءهم . •••
سقطت الدولة الأموية، وقامت الدولة العباسية، ونال الفرس بعض أمنيتهم لا أمنيتهم كاملة، فأمنيتهم الكاملة أن تقوم دولة فارسية بملوكها وعمالها، ولكن ما نالوه ليس قليل الخطر، فالخلفاء العباسيون مقتنعون أن دولتهم قامت على أكتاف الفرس، وكذلك العلماء والمؤرخون، فداود بن علي
43
يخطب فيقول: يا أهل الكوفة، إنا والله ما زلنا مظلومين مقهورين على حقنا حتى أتاح الله لنا شيعتنا أهل خراسان، فأحيا بهم حقنا، وأفلج بهم حجتنا، وأظهر بهم دولتنا، وأراكم الله ما كنتم به تنتظرون، وإليه تتشوقون؛ فأظهر فيكم الخلفة من هاشم، وبيض به وجوهكم، وأدالكم على أهل الشام ... إلخ
44
وأبو جعفر المنصور يقول: «يا أهل خراسان، أنتم شيعتنا وأنصارنا، وأهل دعوتنا.»
45
ويقول الجاحظ: «دولة بني العباس أعجمية خراسانية، ودولة بني مروان عربية أعرابية.»
46
وكانوا يسمون باب خراسان في بغداد باب الدولة؛ لإقبال الدولة العباسية من خراسان.
47
وأوصى المنصور ابنه قبل وفاته فقال: «وأوصيك بأهل خراسان خيرا فإنهم أنصارك وشيعتك، الذين بذلوا أموالهم في دولتك، ودماءهم دونك، ومن لا تخرج محبتك من قلوبهم؛ أن تحسن إليهم، وتتجاوز عن مسيئهم، وتكافئهم على ما كان منهم، وتخلف من مات. منهم في أهله وولده»
48
استتبع هذا غلبة الفرس ونفوذهم، حتى عد المؤرخون من أهم خصائص هذا العصر النفوذ الفارسي، وضعف النفوذ العربي. ولكن إلى أي حد غلب العرب؟ وهل كان نفوذ الفرس في الدولة العباسية كنفوذ العرب في الدولة الأموية؟ وهل انتهى بذلك الصراع بين العرب والموالي؟ الحق أنه لم يكن كل ذلك، فالخلفاء العباسيون عرب هاشميون - ولو من قبل الأب - وهم يفخرون بذلك، ويعدونه من أكبر مناقبهم، وهم إن حفظوا للفرس معونتهم؛ فلن ينسوا عربيتهم، ويوم يشعرون بأن الفرس زاحموهم في سلطانهم سينكلون بهم كما نكل المنصور بأبي مسلم والرشيد بالبرامكة والمأمون بالفضل بن سهل؛ فالفرس في العصر العباسي الأول كان لهم نفوذ كبير، ولكن ليس معنى هذا انعدام نفوذ العرب. كانت أعظم المناصب كالوزارة في الفرس، ولكن كان الخليفة عربيا هاشميا، وكان له قواد من العرب كما له قواد من الفرس، وكان له ولاة من العرب، وولاة من الفرس، فجند المنصور كانوا أقساما أربعة: يمنية، ومضرية، وربعية، وخراسانية.
49
وفي اليوم الذي ولى فيه المأمون طاهرا الشرطة ولى جماعة من الهاشميين كور الشام.
50
وقد ولى المنصور محمد بن خالد بن عبد الله القسري الحرمين،
51
وولاة الرشيد للأمصار كان كثير منهم عربا،
52
واشتهر في هذا العصر من أمراء العرب وقوادهم سعيد بن سلم الباهلي، ومعن بن زائدة الشيباني، وأبو دلف العجلي، وروح بن حاتم بن قبيصة، والمهلب ابن أبي صفرة، وثمامة بن أشرس، إلى كثير من أمثال هؤلاء.
كل هذا جعلنا نقول: إن الانقلاب العباسي جعل كفة الفرس راجحة، ولكنه لم يعدم الكفة الأخرى العربية، وهذا ما جعل الصراع يستمر في هذا العصر، فلنتبعه في إيجاز:
نرى في هذا العصر أن الناس ما يزالون ينزعون إلى الفخر بالنسب العربي، والولاء العربي، حتى لنرى أبا مسلم الخراساني يصطنع لنفسه نسبا عربيا، فيزعم أنه من نسل سليط بن عبد الله بن عباس.
53
وكتاب الأغاني يحدثنا: أن إسحاق الموصلي (وهو من هو من القرب من الرشيد) تناظر مع ابن جامع بحضرة الرشيد فتغالطا فسبه ابن جامع، فمضى إسحاق إلى خازم بن خزيمة (وهو عربي) فتولاه،
54
وانتمى إليه، فقبل ذلك منه؛ فقال إسحاق:
إذا كانت الأحرار أصلي ومنصبي،
ودافع ضيمي خازم وابن خازم
عطست بأنف شامخ وتناولت
يداي الثريا قاعدا غير قائم
55
فهذه القصة تدلنا دلالة واضحة على حاجة الأعاجم في هذا العصر - حتى الأشراف منهم - إلى الانتماء إلى العربي بالولاء؛ ليحتمي به ويدافع عنه. ويحكي الأغاني أيضا أنه كان لعلي بن الخليل صديق فارسي، فغاب مدة وقد أصاب مالا ورفعة، ثم عاد إلى الكوفة، وادعى أنه من تميم فقال يهجوه:
يروح بنسبة المولى،
ويصبح يدعي العربا!
فلا هذا، ولا هذا
ك يدركه إذا طلبا!
إلى أن يقول:
يشم الشيح والقيصو
م جلفا جافيا، جشبا!
إذا ذكر البرير
56
بكى
وأبدى الشوق والطربا!
وليس ضميره في القو
م إلا التين، والعنبا
57 !
ويحكي في موضع آخر: أن والبة بن الحباب كان يدعي النسب إلى العرب فقال فيه أبو العتاهية:
أوالب أنت في العرب
كمثل الشيص في الرطب!
هلم إلى الموالي الصيد
في سعة وفي رحب!
فأنت بنا لعمر الله
أشبه منك بالعرب
58
وادعى رجل النسبة إلى العرب فقال فيه بشار:
ارفق بعمرو إذا حركت نسبته
فإنه عربي من قوارير!
ويقول فيه:
إن عمرا فاعرفوه
عربي من زجاج!
مظلم النسبة لا
يعرف إلا بالسراج
وقال مخلد الموصلي:
أنت عندي عربي
ليس في ذاك كلام!
عربي، عربي
عربي، والسلام!!!
شعر أجفانك قيصو
م، وشيح، وثمام!
59
أفلو كان العرب قد ذلوا في هذا العصر، وحقر شأنهم على الوصف الذي يصفه بعض المؤرخين؛ كانت هذه الحركة (أعني حركة الانتساب إلى العرب والاعتزاز بهم) تبلغ هذا المبلغ؟
إنما الذي نشاهده كذلك أن الحركة العربية دوفعت بحركة أخرى فارسية، وأن الصوت الخافت الذي كنا نسمعه من مثل إسماعيل بن يسار في العهد الأموي فيعاقب عليه؛ أصبح الآن شديدا وقويا حرا. ونرى بشارا زعيم هذه الحركة يفخر مرة بخراسان ويقول:
وهجاني معشر كلهمو
حمق، دام لهم ذاك الحمق
ليس من جرم، ولكن غاظهم
شرفي العارض قد سد الأفق
من خراسان، وبيتي في الذرى،
ولدى المسعاة فرعي قد سمق
60
ويفخر مرة بالعجم فيقول:
ونبئت قوما بهم جنة
يقولون من ذا؟ وكنت العلم!
ألا أيها السائلي جاهدا
ليعرفني أنا أنف الكرم!
نمت في الكرام بني عامر؛
فروعي، وأصلي: قريش العجم!
ويقول ذلك أمام المهدي فلا يعاقبه كما فعل هشام بابن يسار؛ بل يسأله: من أي العجم أنت؟ فيقول: من أكثرها في الفرسان، وأشدها على الأقران، أهل طخارستان. بل كان يتبرأ من الولاء، ويقول:
أصبحت مولى ذي الجلال، وبعضهم
مولى العريب! فخذ بفضلك فافخر
مولاك أكرم من تميم كلها
أهل الفعال، ومن قريش المشعر!
فارجع إلى مولاك غير مدافع
سبحان مولاك الأجل الأكبر!
بل كان يدعو الموالي إلى نبذ ولائهم للعرب، فيروي الأغاني: أن رجلا من بنى شريف، قال لبشار : «يا بشار، قد أفسدت علينا موالينا تدعوهم إلى الانتفاء منا، وترغبهم في الرجوع إلى أصولهم، وترك الولاء وأنت غير زاكي الفرع، ولا معروف الأصل! فقال له بشار: والله لأصلي أكرم من الذهب، ولفرعي أزكى من عمل الأبرار، وما في الأرض كلب يود أن نسبك له بنسبه.»
61
وقال له عربي: ما للموالي والشعر؟ فقال يهجو العرب:
أحين كسيت - بعد العري - خزا،
ونادمت الكرام على العقار؟
تفاخر يا ابن راعية وراع
بني الأحرار، حسبك من خسار!
تريغ
62
بخطبة كسر الموالي،
وينسيك المكارم صيد فار
وكنت إذا ظمئت إلى قراح؛
شركت الكلب ولغ الإطار
63
وتغدو للقنافذ تدريها
ولم تعقل بدراج الديار!
64
وتتشح الشمال للابسيها،
وترعى الضأن بالبلد القفار!
65
ولبشار كثير من هذا الضرب، يدلنا على ما نقول من أنه كان زعيم الحركة العدائية للعرب، كما يرينا ما كان له ولأمثاله من حرية - في هجاء العرب - لم يكونوا يعهدونها في العصر الأموي.
وكثر ادعاء الناس للانتساب إلى كسرى كذلك حتى قال جحظة:
وأهل القرى كلهم ينتمو
ن لكسرى ادعاء! فأين النبيط؟
66
مما لا شك فيه أن نفوذ الفرس قد قوي في عهد العباسيين الأولين، وكان هذا النفوذ يزداد قوة يوما فيوما.
قد كان استخدام الموالي في العهد الأموي نادرا، وكان يقابل بامتعاض. قد استخدموا - مثلا - رجاء بن حيوة، وكان مولى كندة. واستخدم عمر بن عبد العزيز مولى، وجعله واليا على وادي القرى، فعوتب على ذلك. ولكن ما كان شاذا في العصر الأموي صار هو المألوف في العصر العباسي. ابتدأ المنصور يكثر من استخدام الموالي، يقول السيوطي: «إن المنصور أول من استعمل مواليه على الأعمال، وقدمهم على العرب. وكثر ذلك بعده حتى زالت رياسة العرب وقيادتها.»
67
وليس معنى هذه العبارة أن أحدا قبله من خلفاء بني أمية لم يستعمل مولى قط، وإنما المعنى أن المنصور اتخذ استعمال الموالي مبدأ له وقاعدة، ورأسهم على العرب. وهو بهذا المعنى أول من فعل ذلك، والجهشياري في كتابه تاريخ الوزراء يروي لنا ما يفهم منه أن أكثر من تولى الأعمال للمنصور موالي.
68
ويقول المسعودي في المنصور : إنه أول خليفة استعمل مواليه وغلمانه، وصرفهم في مهماته، وقدمهم على العرب، فاتخذت ذلك الخلفاء من بعده (من ولده) سنة؛ فسقطت وبادت العرب، وزال بأسها، وذهبت مراتبها.
69
ويروي الطبري: «أنه كان للمنصور خادم أصفر على الأدمة، ماهر لا بأس به؛ فقال المنصور يوما: ما جنسك؟ قال: عربي يا أمير المؤمنين. قال: ومن أي العرب أنت؟ قال: من خولان، سبيت من اليمن، فأخذني عدو لنا فجبني فاسترققت، فصرت إلى بعض بني أمية، ثم صرت إليك. قال: أما إنك نعم الغلام، ولكن لا يدخل قصري عربي يخدم حرمي. اخرج عافاك الله فاذهب حيث شئت!»
70
ويروي الأغاني: أن أبا نخيلة وقف على باب أبي جعفر، واستأذن فلم يصل، وجعلت الخراسانية تدخل، وتخرج فتهزأ به، فيرون شيخا أعرابيا جلفا فيعبثون به. فقال له رجل عرفه: كيف أنت يا أبا نخيلة؟ فأنشأ يقول:
أصبحت لا يملك بعضي بعضا
تشكو العروق الآبضات
71
أيضا!
كما تشكى الأزجي الفرضا
كأنما كان شبابي قرضا!
فقال له الرجل: وكيف ترى ما أنت فيه في هذه الدولة؟
فقال:
أكثر خلق الله من لا يدرى
من أي خلق الله حين يلقى!؟
وحلة تنشر ثم تطوى،
وطيلسان يشترى فيغلى
لعبد عبد، أو لمولى مولى
يا ويح بيت المال! ماذا يلقى؟
72
ولكن مع هذا كله استخدم المنصور بعض العرب؛ فقد ولى سلم بن قتيبة الباهلي البصرة كما ولى مولى كور البصرة والأبلة
73
ورأيت قبل أن جند أبي جعفر كانوا عربا وعجما، فلما جاء الرشيد زاد نفوذ الفرس بفضل البرامكة، وقد كانوا المصرفين للدولة وشئونها، فاستتبع نفوذهم نفوذ جنسهم، واتخذوا لذلك سياسة محكمة؛ منها: ما يرويه لنا الطبري: أن الفضل بن يحيى (البرمكي) اتخذ بخراسان جندا من العجم سماهم «العباسية»، وجعل ولاءهم لهم (للعباسيين)، وأن عدتهم بلغت خمسمائة ألف رجل، وأنه قدم منهم بغداد عشرون ألف رجل، فسموا ببغداد «الكرنبية» وخلف الباقي منهم بخراسان على أسمائهم ودفاترهم.
74
وزاد نفوذهم كذلك في عهد المأمون، فقد انتصر الفرس نصرة ثانية كالتي كانت بين العباسيين والأمويين؛ لأن أغلب الفرس تعصب للمأمون، وأكثر العرب تعصبوا للأمين، فعدت غلبة المأمون نصرة فارسية، فطيفور يذكر لنا في تاريخه: «أن العرب كانوا يركبون ومعهم القسي والنشاب بين يدي المأمون.»
75
ويروي الطبري: «أن رجلا تعرض للمأمون بالشام مرارا فقال له: يا أمير المؤمنين، انظر لعرب الشام كما نظرت لعجم أهل خراسان، فقال «المأمون»: أكثرت علي يا أخا أهل الشام! والله ما أنزلت قيسا عن ظهور الخيل إلا وأنا أرى أنه لم يبق في بيت مالي درهم واحد! وأما اليمن فوالله ما أحببتها ولا أحبتني قط، وأما قضاعة فسادتها تنتظر السفياني وخروجه فتكون من أشياعه، وأما ربيعة فساخطة على الله منذ بعث نبيه من مضر، ولم يخرج اثنان إلا خرج أحدهما شاريا أعزب، فعل الله بك.»
76
فلما جاء المعتصم أحل الترك محل الفرس، فنكل الترك بالفرس والعرب جميعا، كما سيتضح ذلك عند الكلام على العصر الثاني إن شاء الله. •••
كان لنفوذ الموالي، وخاصة الفرس مظاهر عدة: (1)
إن قصور الخلفاء ملئت بالموالي يستخدمون في أعمال شتى، وبيوت الحريم ملئت بالخصيان، وقد أخذ المسلمون ذلك عن البيزنطيين، ولم تكن هذه العادة معروفة عند العرب. (2)
قصر المراكز الكبيرة كالوزارة على الفرس تقريبا. (3)
نفوذ العادات والتقاليد الفارسية كإحياء يوم النيروز، ولبس القلنسوة. (4)
انتشار الثقافة الفارسية وسنفرد له بابا خاصا.
لم يستسلم العرب لقوة الموالي ونفوذهم بل قاوموا، وكان بين الجانبين صراع عنيف حينا، وهادئ حينا، واتخذ هذا الصراع أشكالا مختلفة، فمثلا: يعتمد الصراع على الدس عند الخليفة فيكيد العرب للموالي، ويكيد الموالي للعرب. ومن أجل هذا كان تنكيل الخلفاء بالوزراء من حين إلى حين، حتى قال قائلهم:
إن الوزير وزير آل محمد
أودى، فمن يشناك كان وزيرا
وكان تاريخ الوزراء سلسلة نكبات، ولسنا نستبعد أن كثيرا منها كان سببه ما يشعر به الخلفاء - تحت تأثير الدسائس - من نفوذ الفرس، وقوة سلطانهم، واستبدادهم بالأمور دونهم. يقول ابن خلدون: «وإنما نكب البرامكة ما كان من استبدادهم على الدولة، واحتجابهم أموال الجباية، حتى كان الرشيد يطلب اليسير من اليسير من المال فلا يصل إليه، فغلبوه على أمره، وشاركوه في سلطانه، ولم يكن معهم تصرف في أمور ملكه، فعظمت آثارهم، وبعد صيتهم، وعمروا مراتب الدولة وخططها بالرؤساء من ولدهم وصنائعهم، واحتازوها عمن سواهم من وزارة وكتابة، وقيادة وحجابة، وسيف وقلم.» ويقول: «إن البرامكة مدحوا بما لم يمدح به خليفتهم! وأسنوا لعفاتهم الجوائز والصلات، واستولوا على القرى والضياع ... حتى آسفوا البطانة، وأحقدوا الخاصة، فكشفت بهم وجوه المنافسة والحسد، ودبت إلى مهادهم الوثير من الدولة عقارب السعاية، حتى لقد كان بنو قحطبة (أخوال جعفر) من أعظم الساعين عليهم!»
77
ويتناقش نعيم بن حازم العربي مع الفضل بن سهل الفارسي بين يدي المأمون، فيحسن الفضل نقل الخلافة إلى العلويين، فيقول نعيم للفضل: إنك إنما تريد أن تزيل الملك عن بني العباس إلى ولد علي، ثم تحتال عليهم ثم تصير الملك كسرويا.
78
وكثير ممن تولى المناصب الكبيرة من الفرس كان ينكل بمن استطاع من العرب؛ كالذي كان بين الأفشين وأبي دلف العجلي، فقد كان الأفشين فارسيا من «أشروسنه» بآسيا الصغرى، وكان قائد جيوش المعتصم، وكان يكره العرب من أعماق نفسه، وكان يقول: «إذا ظفرت بالعرب شدخت رءوس عظمائهم بالدبوس.»
79
وسيأتي له ذكر عند الكلام في الزندقة. وأبو دلف العجلي عربي من نزار، وكان يعيش عيشة عربية، كريما شجاعا ممدحا، وبابه مفتوح للشعراء والأدباء والسؤال، وماله مقسم عليهم، وكان أحد قواد المعتصم أيضا «وكان سيد أهله، ورئيس عشيرته من عجل وغيرها من ربيعة. وكان شاعرا مجيدا شجاعا بطلا مغنيا.
80
فيحدثنا التنوخي في كتابه «الفرج بعد الشدة»: أن الأفشين هم بقتل أبي دلف وصفده بالحديد، وأجلسه على نطع بين يديه يقرعه ويخاطبه بأشد غضب، ويهم بقتله! فيعلم أحمد بن أبي داود (وهو عربي وقاضي المأمون والمعتصم) فيسرع إلى الأفشين ويدخل عليه من غير استئذان خيفة أن يعجل عليه، ويقول له: إن أبا دلف فارس العرب وشريفها؛ فاستبقه وأنعم عليه، فإن لم تره لهذا أهلا فهبه للعرب كلها، وأنت تعلم أن ملوك العجم لم تزل تفضل على ملوك العرب! ومن ذلك ما كان من كسرى إلى النعمان حتى ملكه، وأنت اليوم بقية العجم فأنعم على شريف من العرب بالعفو عنه! فيأبى ذلك الأفشين ثم يشعر ابن أبي داود بمكانته عند المعتصم حتى ليستطيع أن يتكلم على لسانه، فيقول للأفشين: إني رسول أمير المؤمنين إليك، وهو يقول: لا تحدث في القاسم بن عيسى حدثا فإنك إن قتلته قتلت به! وذهب إلى المعتصم فأخبره الخبر فأقره عليه، وبذلك نجا أبو دلف سيد العرب من سيد العجم!
81
وكان أحمد بن أبي داود من ناحية أخرى يستخدم منصبه فيقضي حوائج العرب، «فيقول للمعتصم «فلان الهاشمي»، وفلان القرشي، وفلان الأنصاري، وفلان العربي.» ولا يزال يتلطف حتى تقضى مطالبه.
82
وشكل آخر من شكل الصراع (وهو الصراع الأدبي الذي كان معروفا في العصر الأموي) وهو الافتخار بالأنساب من طريق الأدب؛ كالذي كان بين عبد الله بن طاهر (الفارسي) يفتخر بنسبه في الفرس، فيرد عليه محمد بن يزيد (العربي الأموي) يفتخر بالعرب، فقد قال عبد الله بن طاهر قصيدة يفخر بها بمآثر أبيه وأهله ويفخر بقتلهم الأمين، يقول فيها:
أقصري عما لهجت به
ففراغي عنك مشغول
أنا من قد تعرفي نسبي
سلفي الغر البهاليل
ومنها:
وأبي من لا كفاء له
من يساوي مجده؟ قولوا!
ومنها:
انظر المخلوع كلكله
وحواليه المقاويل
فثوى والتراب مضجعه
غال عنه ملكه غول
قاد جيشا نحو نائلة
ضاق عنه العرض والطول
من خراسان مصمصهم
كليوث ضمها غيل
وهبوا لله أنفسهم
لا معازيل، ولا ميل
83
ويقول محمد بن يزيد: لما بلغتني هذه القصيدة امتعضت العرب، وأنفت أن يفخر عليها رجل من العجم لأنه قتل ملكا من ملوكهم بسيف أخيه لا بسيفه. فيفخر عليها هذا الفخر، ويضع منها هذا الوضع، فرددت عليه قصيدته، ومطلعها:
لا يرعك القال والقيل
كل ما بلغت تضليل
يا ابن بيت النار موقدها
ما لحاذيه سراويل
من حسين من أبوك ومن
مصعب غالتكمو غول
نسب في الفخر مؤتشب،
وأبوات أراذيل
قاتل المخلوع مقتول
ودم المقتول مطلول
ومنها:
ما جرى في عود أثلتكم
ماء مجد فهو مدخول
قدحت فيه أسافله
فأعاليه مهازيل
ويقول قائل من الفرس:
بهاليل غر من ذؤابة فارس
إذا انتسبوا لا من عرينة أو عكل!
همو راضة الدنيا، وسادة أهلها
إذا افتخروا لا راضة الشاء والإبل
فيقول آخر عربي:
لا تغترر أنك من فارس
في معدن الملك وديوانه
لو حدثت كسرى بذا نفسه
صفعته في جوف إيوانه!
وهناك شكل ثالث من أشكال الصراع؛ هو الصراع العلمي، وسنعرض له بعد.
كانت نتيجة هذا الصراع هزيمة العرب، وغلبة الموالي، ولكن يجب أن نقرر أن هزيمتهم التامة كانت من الناحية السياسية والإدارية، فأما دينيا ولغويا فقد انتصر العرب فلم تستطع المجوسية أن تساير الإسلام، ولم تستطع لغات الموالي أن تضع من شأن لغة العرب بل خدمتها وعملت على ترقيتها من نواح مختلفة، وظل الموالي الذين يخدمون أغراضهم السياسية، وينجحون فيها، يخدمون في الوقت نفسه الدين واللغة؛ يضعون قواعدهما، ويضبطون شواردهما، وحركات الزندقة التي كانوا ينفثونها من حين لآخر أخمدت في قوة، وإن كانت قد تركت أثرا ضئيلا، كما أن سعي بعضهم لإحلال اللغة الفارسية محل العربية لم يصادف في عصرنا الذي نؤرخه آذانا سميعة، وظلت اللغة العربية هي اللغة الرسمية، وهي لغة الدين، ولغة العلم، وأقبل الموالي على تعلمها، وإجادتها إجادة تقرب من إجادة أهلها، وحسبك دليلا أن أبا مسلم الخراساني كان يجيد العربية، ويفهم أراجيز رؤبة.
84
وأن أكثر الكتاب المجيدين في العربية في هذا العصر كانوا فرسا، وأن الأصمعي يحكي عن عصره: إن مما يخل بالمروءة التكلم في مصر عربي بالفارسية.
85
الفصل الثالث
الشعوبية
نستطيع بعد الذي ذكرنا في الفصل السابق أن نقول: إن عصرنا الذي نؤرخه كانت تسود فيه ثلاث نزعات:
النزعة الأولى:
تذهب إلى أن العرب خير الأمم، ولهم في ذلك حجج، نجملها فيما يأتي: (1)
أنهم عاشوا حياتهم متمتعين باستقلالهم؛ فهم في جاهليتهم جاوروا دولتي الفرس والروم، وكلتاهما دوخ البلاد وأسس ملكا عظيما، وكلتاهما كان له من الجند والعدد والعدة ما لا يحصى كثرة، ومع هذا فلم تجرؤ كلتاهما أن تمس استقلال العرب، وأن تطأ ديارهم، تملقوهم، واستعانوا باللخميين في الحيرة، والغسانيين في الشام، ومنحوهم المال، وقدموا لهم الديار ليحموهم من غارات عرب الجزيرة عليهم؛ فهم كانوا أحوج إلى العرب من حاجة العرب إليهم!
ولم يشأ أصحاب هذه النزعة أن يعتقدوا أن زهد الفرس والروم في أرضهم، وعدم إقدامهم على إخضاعهم منشؤه أن أرض الجزيرة ليس فيها من الخيرات والثروة ما يطمع، بل اعتقدوا أن انصراف الفرس والروم عنهم إنما كان لشجاعة العرب، وإقدامهم وصبرهم، وأن لهم من أرضهم منعة تجعل حربهم حرب عصابات، لا يستطيع الجيش المنظم أن يجاريهم في أشكال حروبهم، ولا أن يقف أمامهم. وأما في إسلامهم؛ فقد حافظوا على استقلالهم، بل أضاعوا استقلال الفرس، وأخضعوهم لحكمهم، وكسروا جيوش الروم، وطردوهم من أملاكهم! (2)
أن لهم صفات خلقية امتازوا بها؛ فهم أكرم الناس لضيف، وأنجدهم لمستصرخ، يعقر أحدهم ناقته التي لا يملك سواها للطارق ينزل به، وهو ممسك بعنان فرسه؛ كلما سمع هيعة
1
طار إليها! وهم أوفى الأمم؛ يتكلم أحدهم الكلمة فتكون صكا، ويلجأ إليه لاجئ فيفي بحق جواره، حتى ليحتكم فيه جاره حكم الصبي في أهله، وهم على ذلك قادة الأمم في البيان، وحسن التعبير، وهم معدن الشعر، ولهم في حسن البديهة، وقول الأمثال السائرة، وإبداع الكلام ما ليس لغيرهم، وهم أحفظ الناس لأنسابهم فليس أحد منهم إلا يعرف نسبه، ويسمي آباءه، وإذا انتسب أحدهم إلى غير آبائه عرفوا أنه دعي؛ حفظوا أنسابهم، وبنوا على ذلك أحسابهم! (3)
بينهم نشأ الإسلام، ورسول الله من أنفسهم، وهم الناشرون له بين الأمم، والداعون إليه، والحامون لدعوته، فكل من أسلم من العجم ففي عنقه منة من العرب لا تقدر؛ هم الذين أنقذوه من دينه القديم، وهم الذين أخرجوه من الشرك إلى التوحيد، وهم الذين اصطلوا نار الحروب لهدايته، وهم الذين قتلوا أنفسهم لحياته.
هذه هي أهم حجج الذاهبين إلى هذا الرأي.
ويروون أن جماعة اجتمعوا بالمربد، ومعهم ابن المقفع، فسألهم: أي الأمم أعقل؟ فنظر بعضهم إلى بعض؛ فقالوا لعله أراد أصله من فارس، فقالوا: فارس. فقال ابن المقفع: ليسوا بذلك إنهم ملكوا كثيرا من الأرض، ووجدوا عظيما من الملك، وغلبوا على كثير من الخلق، فما استنبطوا شيئا بعقولهم، ولا ابتدعوا باقي حكم في نفوسهم. قالوا: فالروم؟ قال: أصحاب صنعة. قالوا: فالصين؟ قال: أصحاب طرفة. قالوا: الهند؟ قال: أصحاب فلسفة. قالوا: السودان؟ قال: شر خلق الله ... إلخ. قالوا: فقل، قال: العرب. فضحكوا! قال ابن المقفع: إني ما أردت موافقتكم، ولكن إذا فاتني حظي من النسب فلا يفوتني حظي من المعرفة. إن العرب حكمت على غير مثال مثل لها، ولا آثار أثرت، أصحاب إبل وغنم، وسكان شعر وأدم، يجود أحدهم بقوته، ويتفضل بمجهوده، ويشارك في ميسوره ومعسوره، ويصف الشيء بعقله فيكون قدوة، ويفعله فيصير حجة، ويحسن ما يشاء فيحسن، ويقبح ما يشاء فيقبح، أدبتهم أنفسهم، ورفعتهم هممهم، وأعلتهم قلوبهم وألسنتهم، وافتتح الله دينه وخلافته بهم إلى الحشر، فمن وضع حقهم خسر، ومن أنكر فضلهم خصم.
2
ويروى لابن المقفع أيضا أنه قال وقد جرى ذكر الشعر وفضيلته: «أي حكمة تكون أبلغ أو أغرب أو أعجب من غلام بدوي لم ير ريفا، ولم يشبع من طعام؛ يستوحش من الكلام، ويفزع من البشر، ويأوي إلى ما لم يره، ولم يعهده، ولم يعرفه، ثم يذكر محاسن الأخلاق ومساوئها، ويمدح ويهجو ويذم، ويعاتب ويشبب، ويقول ما يكتب عنه، ويروى له ويبقي عليه؟!»
3
ونحن مع شكنا في هذه الرواية عن ابن المقفع - لأسباب ليس هذا موضعها - فإننا نثبتها لأنها تمثل هذه النزعة.
4
ويقول الجاحظ: «ليس في الأرض كلام هو أمتع، ولا أنفع، ولا آنق، ولا ألذ في الأسماع، ولا أشد اتصالا بالعقول السليمة، ولا أفتق للسان، ولا أجود تقويما للبيان من طول سماع حديث الأعراب العقلاء الفصحاء.»
5
وهذه النزعة كان يمثلها أشراف العرب وبدوهم، كما كان يمثلها قوم من العجم أسلموا إسلاما عميقا، وأحبوا رسول الله
صلى الله عليه وسلم
من أعماق نفوسهم، وأحبوا العرب؛ لأن النبي منهم، ولأنهم أسلموا على أيديهم .
النزعة الثانية:
تذهب إلى أن العرب ليسوا أفضل من غيرهم من الأمم، ولا أي أمة أفضل من أي أمة، «والناس كلهم من طينة واحدة، وسلالة رجل واحد.» وإنما التفاضل بين الأفراد لا بين الأمم، «وليس تفاضل الناس فيما بينهم بآبائهم وأحسابهم، ولكن بأفعالهم وأخلاقهم، وشرف أنفسهم وبعد هممهم؛ ألا ترى أن من كان دنيء الهمة ساقط المروءة لم يشرف، وإن كان من بني هاشم في ذؤابتها، ومن أمية في أرومتها، ومن قيس في أشرف بطن منها! إنما الكريم من كرمت أفعاله، والشريف من شرفت همته.»
6
يقف هؤلاء موقفا على السواء بين الأمم، فلا عربي أفضل من أعجمي لأنه عربي، ولا أعجمي أفضل من عربي لأنه أعجمي، وليست العربية ولا الأعجمية عاملا من عوامل التفاضل، إنما عامل التفاضل الدين وحده عند قوم، والشرف وسمو الخلق عند آخرين، وفي هذا المعنى جاء القرآن الكريم:
يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم . وفي الحديث: «ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى.» و«المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم.» ويقول المأمون: «الشرف نسب؛ فشريف العرب أولى بشريف العجم من وضيع العجم بشريفهم، وشريف العجم أولى بشريف العرب من وضيع العرب بشريفهم.»
7
وابن قتيبة بعد أن دافع عن العرب وأبان فضلهم على غيرهم من الأمم، عاد فنقد كل ذلك وقرر المساواة فقال في آخر كتابه «تفضيل العرب»: «وأعدل القول عندي، أن الناس كلهم لأب وأم؛ خلقوا من تراب، وأعيدوا إلى التراب، وجروا في مجرى البول، وطرأ عليهم الأقذار، فهذا نسبهم الأعلى الذي يردع به أهل العقول عن التعظيم والكبرياء والفخر بالآباء، ثم إلى الله مرجعهم فتنقطع الأنساب، وتبطل الأحساب إلا من كان حسبه التقوى، أو كانت ماتته طاعة الله.»
8
وحجة هؤلاء أن في كل أمة الطيب والخبيث، ولكل أمة محاسنها ومساوئها، وخير ميزان توزن به الأعمال الدين أو الخلق. ولسنا نستطيع ذلك في الأمم إنما نستطيعه في الأفراد؛ ففرد خير من فرد بدينه أو بخلقه، ولا شيء غير ذلك، وهذا الصنف من الناس يسمون «أهل التسوية»؛ أي الذين يسوون بين الأمم، ولا يجعلون فضلا لأمة على أخرى، ويمثلهم أكثر المتدينين والعلماء من العرب والعجم؛ لأن روح الإسلام وقواعده تؤيد هذا المذهب.
النزعة الثالثة:
تميل إلى الحط من شأن العرب، وتفضيل غيرهم من الأمم عليهم، وحجتهم في ذلك: (1)
أن العرب ليس لها أي ميزة، على حين أن كل أمة لها ميزة تفخر بها؛ فالرومان تفتخر بعظم سلطانها، وكثرة مدائنها، وعظيم مدنيتها. والهند تفخر بحكمتها وطبها، وكثرة عددها وأنهارها وثمارها. والصين تزهى بصناعاتها، وفنونها الجميلة، وما إلى ذلك. ولا نجد العرب تمتاز بشيء يضارع ما ذكرنا؛ جدب في أرض، وبداوة في عيش، كانوا في جاهليتهم يقتلون أولادهم من الفقر، ولا يستقر لهم حال من الغزو والسلب، ويفعلون المكرمة الصغيرة كإطعام جائع، وإغاثة ملهوف فيملئون الدنيا بها شعرا ونثرا، ويتيهون بذلك فخرا. (2)
قالوا: بم يكون الفخر؟ أبالملك؟ فأين ملك العرب من ملك الفراعنة والعمالقة والأكاسرة والقياصرة؟! أو من سليمان الذي أوتي من الملك ما لا ينبغي لأحد من بعده؟! أو من ملك الإسكندر، وقد بلغ مطلع الشمس ومغربها! أم بالنبوة؟ فجميع الأنبياء من غير العرب ما خلا أربعة؛ هودا وصالحا وإسماعيل ومحمدا. أم بالصناعة والعلم؟ فالعرب أضعف الأمم في ذلك شأنا، وأعقمهم يدا، وأجدبهم عقلا. أم بالشعر؟ فلم ينفرد العرب به، فلليونان شعر موزون مقفى، وللرومان شعر كذلك. أم الخطب والبيان؟ فللفرس واليونان والرومان خطب محبرة، وبيان ساحر، فما الذي يفخرون به بعد ذلك؟ يفخرون بالكرم والوفاء؟ وقولهم في ذلك أطول وأعرض من فعلهم، ويفتخرون بالأنساب وقد كانوا في جاهليتهم لا يتقيدون بنوع الزواج المعروف في الإسلام، بل كان من أنواع زواجهم شيوع المرأة بين عدة رجال، وكانوا في حروبهم يسبي بعضهم نساء بعض، ويستمتع بها من غير زواج، فكيف يدري أحدهم أباه! (3)
وإن فخرتم بالإسلام، فليس الإسلام دين العرب وحدهم، بل هو دين الناس. والإسلام نفسه حارب نزعتكم، فهدم العصبية الجاهلية، وجعل مقياس الشرف التقوى، فالدين بيننا وبينكم، والدنيا نحن نحظى بها وأعرف بمزاياها، وأكثر تفننا في شئونها.
ويمثل هذا الصنف - ممن يحقرون العرب، ويضعون من شأنهم ويسودون كل أمة عليهم - من ظلوا على دينهم القديم، أو أسلموا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم، أوغلبت عليهم النزعة الوطنية، فكرهوا من العرب أنهم أزالوا ملكهم، وأضاعوا استقلالهم.
هذه هي النزعات الثلاث التي كانت في ذلك العصر، وعلى هذا النحو كانوا يتجادلون. وقد أطلق على أصحاب النزعتين الأخيرتين اسم «الشعوبية»، وكان أحق الناس بهذا الاسم الطائفة الثانية؛ لأنهم يقولون «بالشعوب»، أي يقولون بأنه لا فرق بين الشعوب من عرب وغيرهم في الشرف والخسة، فكان أمامهم أن يتسموا باسم مشتق من «المساواة»، أو باسم مأخوذ من الشعوب، يدل على أن الشعوب سواء، فاختاروا الثاني وسموا «الشعوبية». ولذلك يقول في العقد الفريد: «الشعوبية وهم أهل التسوية» ويقول في الصحاح: «الشعوبية فرقة لا تفضل العرب على العجم.» ولكن لا نلبث أن نراهم أطلقوا هذا الاسم على الصنف الثالث أيضا؛ فلو قرأنا ما كتب الجاحظ، وصاحب العقد وغيرهما، وجدنا أنهم انساقوا في تسمية المعادين للعرب «بالشعوبية». والظاهر أن تسميتهم بهذا الاسم تأخرت عن تسمية أهل التسوية به، كما تأخرت الفرقة الثالثة عن الفرقة الثانية تاريخيا، فطبيعي - وقد كان العرب متغلبين في العصر الأموي، وكانت النزعة الأولى على أشدها وقوتها وسلطانها - أن يبدأ الموالي فيقولون بالمساواة فقط، وكل أمنيتهم أن يظفروا بذلك، حتى إذا اشتد الجدل، وأحس الموالي بقوتهم وسلطانهم أيام الرشيد والمأمون؛ ظهرت النزعة الثالثة تضع من شأن العرب، وترفع من غيرهم؛ فانسحب اسم «الشعوبية» عليهم، وصار يطلق على أصحاب النزعتين معا، بل حتى صار أكثر ما يطلق على الصنف الثالث، قال في اللسان: «والشعوبي هو الذي يصغر شأن العرب، ولا يرى لهم فضلا على غيرهم.»
يستنتج مما ذكرنا أن لفظ الشعوبية مأخوذ من الشعوب جمع شعب، وهو جيل الناس، وهو أوسع من القبيلة، وأشمل، قال الزبير بن بكار: «الشعب، ثم القبيلة، ثم العمارة، ثم البطن، ثم الفخذ، ثم الفصيلة.» وعلى هذا فالعرب شعب، والفرس شعب ، والروم شعب، وهكذا. وقد ذهب قوم إلى أنها مأخوذة من الشعوب في قوله تعالى:
يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا . وقالوا: إن المراد بالشعوب بطون العجم، وبالقبائل قبائل العرب، وهو تفسير في نظرنا غير صحيح، وأوضح دليل على ذلك أن العرب لم تكن تفهمه حين نزول الآية، فقد نقل إلينا الطبري آراء كثير من الصحابة والتابعين في تفسير الآية، وكلها تدور حول أن المراد بالشعوب النسب البعيد، أو البطون والقبائل دون ذلك. والذي يظهر أن تفسير الشعوب بالعجم، والقبائل بالعرب تفسير شعوبي وضعه أعجمي، واستطرد منه إلى القول بأن العجم أفضل من العرب؛ لأن الله قدمهم في الذكر. قال ابن قتيبة: «وبلغني أن رجلا من العجم احتج بقول الله عز وجل:
يا أيها الناس .. الآية. وقال: الشعوب من العجم، والقبائل من العرب، والمقدم أفضل من المؤخر. وقد كنت أرى أهل التسوية يحتجون بهذه الآية، وقد غلطوا من وجهين؛ أحدهما: أن تقديم الذكر لا يوجب تقديم الفضل. قال الله عز وجل:
يا معشر الجن والإنس
فقدم الجن على الإنس، والإنس أفضل منها. والوجه الآخر: أن العجم ليست بالشعب أولى من العرب، وكل قوم كثروا وانشعبوا فقد صاروا شعوبا».
من الجائز أن يكون اسم الشعوبية أخذ من الشعوب بعد أن فسرت الآية بهذا التفسير، ولكنه يكون مرتكزا على أساس خطأ. وأرجح أن اسم الشعوبية لم يستعمل إلا في العصر العباسي الأول، بدليلين ظنيين؛ الأول: ما أسلفنا، وهو أن هذه النزعة التي تحاول مساواة العرب أو تحقيرهم لم تتخذ شكلا قويا واضحا يصح أن يطلق على معتنقيه اسم إلا في هذا العصر، أما قبل ذلك فقد كانت نزعة خفية لا تستطيع الظهور، وإذا ظهرت أخمدت، والحاجة إلى الاسم إنما تكون بعد أن يتخذ المبدأ شكل عقيدة عامة أو حزب. الثاني: أننا لم نر من أطلق هذا الاسم على هذه النزعة في العصر الأموي، نعم إن الأصفهاني في الأغاني قال: إن إسماعيل بن يسار كان شعوبيا، ولكن من الواضح أن الأصفهاني (وهو عباسي) سمى إسماعيل بالاسم الذي يستحقه لما رفع شأن العجم، وتغنى في ذلك بشعره أمام هشام بن عبد الملك، وليس المعنى أن إسماعيل بن يسار عرف بذلك الاسم في عصره، وذلك كما عدوا سلمان الفارسي متصوفا، مع أن قائلا لم يقل بأن اسم الصوفية عرف في عهد سلمان. كذلك روي عن مسروق «أن رجلا من الشعوب أسلم فكانت تؤخذ منه الجزية، فأمر عمر ألا تؤخذ منه.» ومسروق تابعي كان في العصر الأموي، وقد فسر ابن الأثير الشعوب في هذا القول بالعجم، قال في اللسان: «ويجوز أن يكون جمع الشعوبي، وهو الذي يصغر شأن العرب، كقولهم اليهود والمجوس في جمع اليهودي والمجوسي.» ونحن نستبعد التفسير الثاني؛ لأنه صادر من متأخرين، وقد فسروه بما عرفوه بعد عصر مسروق، والذي نراه: أن مسروقا أراد أن رجلا من الشعوب الأخرى غير العرب أسلم، وإذن لا يكون فيه دليل.
وقد يستأنس - على ما نقول - بأن أكثر أسماء المذاهب التي وضعت في صدر الدولة الأموية لم تكن فيها ياء بالنسبة؛ كالخوارج، والشيعة، والمرجئة، والمعتزلة، ولم تؤلف هذه النسبة إلا في آخر العهد الأموي، أو صدر العصر العباسي؛ كالجهمية، والقدرية، ثم الراوندية، والخرمية، والشعوبية، وأقدم ما وصل إلينا من الكتب التي استعملت لفظ الشعوبية كتاب البيان والتبيين للجاحظ.
يمكننا أن نستنتج من دراستنا للشعوبية النتائج الآتية: (1)
أن دعاة الشعوبية بدءوا دعوتهم مستندين على تعاليم الإسلام نفسه؛ فهو لا يفضل شعبا على شعب، والعقوبة أو المثوبة عنده إنما وضعت على الأعمال لا على الأجناس، وقد يكون العبد الرقيق والنبطي الذليل عند الله في أعلى عليين، وسيده المكاثر بأهله وولده وماله أسفل سافلين، ثم تدرجوا من ذلك إلى تحقير العرب وشئونهم، وبيان ميزة الأمم الأخرى عليهم، وساعدهم على ذلك ما كان للفرس من نفوذ ظاهر في الدولة العباسية. (2)
أن الشعوبية لم تكن عقيدة محدودة التعاليم، لها شعائر ظاهرة معينة كما نقول في المذاهب الدينية، فإنا نستطيع أن نقول : إن هذا شافعي، وهذا حنفي، فيمكننا أن نحدد وجوه الخلاف، ونبين الفروق في الشعائر، كما نستطيع أن نقول إن هذا من أهل السنة والجماعة، وهذا معتزلي؛ فندرك ذلك، ولكنا لا نستطيع أن نفعل ذلك في الشعوبية؛ لأنها نزعة أكثر منها عقيدة، فهي أشبه بالأرستقراطية، والديمقراطية، بل هي في الحقيقة نوع من الديمقراطية يحارب أرستقراطية العرب؛ لذلك لا نستطيع أن نحصر معتنقيها؛ فهم في كل بلد، وفي كل قطر، ومن كل جنس، كما لا نستطيع اليوم أن نحصي من ينزعون إلى الديموقراطية، أو الاشتراكية. (3)
مما ساعد على هذه النزعة الشعوبية أنها تساند النزعة الوطنية، والعصبية الدينية؛ فالعرب أزالوا استقلال فارس، وحكموا مصر والشام والمغرب وأهلها ليسوا عربا، فاستتبع ذلك أن كثيرا من الفرس كانوا يحنون إلى ملكهم واستقلالهم، وكثير من نصارى الشام ومصر كانوا يكرهون العرب المسلمين الذين أجلوا الروم النصارى عن بلادهم، ويتمنون أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم، وإن كان لا بد أن يحكموا فمن أهل دينهم.
نعم، إن من دخل في الإسلام من الفرس وأهل مصر والشام والأندلس كانوا أقل حدة في هذه النزعة الوطنية، ولكن لم يكن كلهم قد دخل الإسلام إلى أعماق نفوسهم، وتملك مشاعرهم إلى حد أن تغلب النزعة الدينية النزعة الوطنية. (4)
يمكن أن نستنتج مما تقدم: أن الشعوبيين كانوا أصنافا مختلفة؛ منهم فرس، ومنهم نبط، ومنهم قبط، ومنهم أندلسيون. وقد صبغت شعوبية كل صنف من هؤلاء صبغة خاصة؛ فالفرس صبغت صبغة وطنية تدعو إلى الاستقلال، واتخذت في بعض الأحيان شكل زندقة وإلحاد، والنبط ظهرت في شكل عصبية للأرض وزراعتها، وتفضيل معيشة الحرث والزرع على الصحراء ومعيشتها، والقبط ثاروا ثورات مختلفة على العرب، وأرادوا طردهم من بلادهم، وكانت آخر ثورة كبيرة في عهد المأمون، فلما هزموا لجئوا إلى الكيد «بأعمال الحيلة، واستعمال المكر، وتمكنوا من النكاية بوضع أيديهم في كتاب الخراج.»
9
وفي الأندلس ظهر ابن غرسية، ووضع رسالته في الشعوبية، ورد عليه كثير من العلماء. (5)
هذه الشعوبية كانت درجات مختلفة تبتدئ معتدلة هادئة، وتنتهي متطرفة عنيفة، فنرى قوما معتدلين مالوا إلى تسوية العرب بغيرهم كما رأيت، وآخرين حقروا من شأنهم، وسلبوهم كل مزية، كما نرى قوما فرقوا بين العرب والإسلام، فهاجموا العرب من حيث هم أمة، ولم يعرضوا للإسلام بمكروه، بل صرحوا بأن الإسلام دين الناس جميعا لا العرب وحدهم، وكثير ممن حكينا قولهم في ذم العرب كانوا من هذا الصنف، بل يصح لنا أن نعد ابن خلدون شعوبيا بهذا المعنى؛ فقد حكينا ملخص رأيه في العرب في الجزء الأول من «فجر الإسلام»،
10
وهو رأي في أشد العنف والقسوة على العرب وخصائصهم، قل أن نرى شعوبيا متطرفا وصل إلى ما وصل إليه في صراحته وشدته، ولكنه في رأينا كان مسلما حقا حر التفكير في حدود الدين، على حين أنا نرى قوما آخرين لم يفرقوا بين العرب والإسلام، وأدتهم كراهيتهم للعرب إلى كراهيتهم لكل ما جاء عنهم، ومن ذلك الدين، وقد حكى الجاحظ عن قوم من هؤلاء، فقال: «وربما كانت العداوة من جهة العصبية؛ فإن عامة من ارتاب بالإسلام إنما جاءه ذلك من الشعوبية، فإذا أبغض شيئا أبغض أهله، وإن أبغض تلك اللغة أبغض تلك الجزيرة، فلا تزال الحالات تنتقل به حتى ينسلخ من الإسلام؛ إذ كانت العرب هي التي جاءت به، وكانوا السلف.»
11
وقد دعت هذه النزعة قوما إلى أن يتبرموا من الشعوبية؛ إذ هي باب الإلحاد. (6)
نلحظ شيئا من الوفاق بين بعض تعاليم الخوارج والشيعة والمعتزلة؛ فالخوارج كما علمت يرون أن الخليفة لا يشترط فيه أن يكون قرشيا، بل ولا عربيا، والذي أرى أن هذه النزعة منهم لا يقصد منها تحقير العرب، وإعلاء شأن غيرهم، وكيف يكون ذلك وأكثر الخوارج كانوا عربا خلصا، وهذا الرأي صدر عنهم حين الخلاف بين علي ومعاوية، والشعوبية لم تتكون بعد؛ فالظاهر أن رأيهم هذا صدر عن اجتهاد بحت، دعا إليه محض الرغبة في إصلاح أمور المسلمين. وأما المعتزلة فنرى المسعودي يقول: «وقد زعم جماعة من المتكلمين منهم ضرار بن عمرو، وثمامة بن أشرس، وعمرو بن عثمان الجاحظ أن النبط خير من العرب.» وهؤلاء الثلاثة من رءوس المعتزلة . وأرى أن رأي المسعودي (وتبعه في ذلك «جولدزيهر»
12 ) خطأ، ويظهر لي أن خطأهما جاء: من أن ضرارا وأصحابه ذهبوا إلى أبعد ما ذهب إليه الخوارج، فلم يقتصروا على أن يقولوا: إن الخلافة لا يلزم أن تكون في قريش ولا في العرب، بل قالوا: إن غير العربي ولو نبطيا أولى من القرشي؛ لأنه يسهل خلعه إذا جار وظلم. ودليلنا على ذلك ما جاء في شرح النووي على مسلم: «ولا اعتداد بسخافة ضرار بن عمرو في قوله: إن غير القرشي من الهوان خلعه إن عرض منه أمر.»
13
وقد فهم الفاهمون من هذا أن ضرارا وصحبه يفضلون النبطي على العربي، وهو فهم غير صحيح بل هو العكس، يرمي في وضوح إلى القول بأن العربي أشرف، وأن من المصلحة أن نولي غير المعتز بعصبيته ليسهل خلعه، وذكر النبطي على أنه مثل في الخسة! والجاحظ - بوجه خاص - من الصعب عده شعوبيا؛ فقد انبرى في كتابه «البيان والتبيين» للرد على مطاعن الشعوبية، وسفه رأيهم، بما يدل على إخلاص فيما يقول، نعم إنه ألف رسالة في فضل الموالي، وعد مناقبهم، ولكنه ذكر ذلك على لسانهم، وقد صرح بأنه ألف هذه الرسالة أيام المعتصم جالب الأتراك، وذكر أنه إنما ألفها لا ليفضل بها بعض الجنود على بعض: «وقد كانت جند الخلافة إذ ذاك على خمسة أقسام؛ خراساني، وتركي، ومولى، وعربي، وبنوي.»
14
وإنما ألفها ليؤلف بين قلوبهم إن كانت مختلفة، وليزيد في الألفة إن كانت مؤتلفة.
15
وليحذر من المنافقين يدسون الدسائس ليوغروا الصدور، ويفرقوا القلوب، ويقول: «إن كان لا يمكن ذكر مناقب الأتراك إلا بذكر مثالب سائر الأجناد؛ فترك ذكر الجميع أصوب، والإضراب عن هذا الكتاب أحزم.»
16
وعلى الجملة؛ فقد صرح فيه «أنه يرمي إلى تعديد مناقب الترك، من غير أن يتعرض لذم غيرهم.» ولكنه لم يضبط قلمه، فجمح به أحيانا إلى تفضيل الترك على غيرهم في بعض الأمور، لكن من العسير عد هذا القدر شعوبية.
على أن الجاحظ في نظرنا لم يكن يعبر عن رأيه في مدح الشيء وذمه، بل كان يذم الشيء ويمدحه إجابة لدعوة كبير، أو رغبة في إظهار مقدرته البيانية على تصوير الشيء بصورتين متباينتين، فإن نحن اعتمدنا على القرائن فما في كتاب البيان والتبيين أدل على نفسه، ولذلك نرجح أنه ليس شعوبيا.
وأما التشيع فقد كان عش الشعوبية الذي يأوون إليه، وستارهم الذي يستترون به، وسيأتي طرف من ذلك عند الكلام في الشيعة. (7)
يذهب ابن قتيبة إلى أن الذين اعتنقوا الشعوبية هم سفلة الناس وغوغاؤهم فيقول: «ولم أر في هذه الشعوبية أرسخ عداوة، ولا أشد نصبا للعرب من السفلة، والحشوة، وأوباش النبط، وأبناء أكرة القرى. فأما أشارف العجم، وذوو الأخطار منهم، وأهل الديانة، فيعرفون ما لهم وما عليهم، ويرون الشرف نسبا ثابتا.» ولكن يظهر أنه اقتصر على من يتظاهر بالشعوبية، وهؤلاء كانوا كما ذكر ابن قتيبة. أما الأشراف فكانت حركتهم سرية خفية، لا يجرءون أن يظهروا بها لكبر مراكزهم، وخشية من الشك فيهم عند الخلفاء، فهم يؤيدون من وراء حجاب هذه الحركة، فلا يراها ابن قتيبة وأمثاله. وقد ذكر ابن قتيبة أن ممن ذهب مذهب الشعوبية «قوما تحلوا بحلية الأدب، فجالسوا الأشراف، وقوما اتسموا بميسم الكتابة فقربوا من السلطان، فدخلتهم الأنفة لآدابهم، والغضاضة لأقدارهم من لؤم مغارسهم، وخبث عناصرهم، فمنهم من ألحق نفسه بأشراف العجم، واعتزى إلى ملوكهم وأساورتهم، ودخل في باب فسيح لا حجاب عليه، ونسب واسع لامدافع عنه، ومنهم من أقام على خساسته ينافح عن لؤمه، ويدعي الشرف للعجم كلها ليكون من ذوي الشرف، ويظهر بغض العرب بتنقصها، ويستفرغ مجهوده في مشاتمها، وإظهار مثالبها، وتحريف الكلم في مناقبها، وبلسانها نطق، وبهممها أنف، وبآدابها تسلح عليها، فإن هو عرف خيرا ستره، وإن ظهر حقره، وإن احتمل التأويلات صرفه إلى أقبحها، وإن سمع سوءا نشره، وإن لم يجده تخرصه!»
17
فالحق أن الشعوبية لم تكن في السفلة وحدهم، وهؤلاء السفلة لم يكونوا الآخذين بزمامها، وإنما كان معهم كثير من الطبقة المتعلمة الراقية، وإن لم يرق نسبها إلى الملوك والأشراف، وهؤلاء هم الذين كان لهم الأثر الشعوبي في الأدب والعلم - كما سترى - من وراء هؤلاء وهؤلاء طبقة بلغت أعلى المناصب في الدولة، فكانوا يمدونهم سرا بجاههم وبمالهم، فقد ألف علان الشعوبي كتابا في مثالب العرب؛ فأجازه طاهر بن الحسين عليه بثلاثين ألفا ...
وإذ كان هؤلاء العقلاء الماكرون هم رؤساء هذه الدعوة كانت حربهم علمية أدبية دينية أكثر منها ثورات ظاهرة. •••
بلغت هذه الحركة أوجها في القرن الثالث الهجري، وساعد على ذلك الخلفاء العباسيون، تعصبوا للإسلام، ولم يتعصبوا كثيرا للعربية؛ فحاربوا الزندقة، ولم يحاربوا - في شدة - النزعة العجمية، وذلك طبيعي لأن أكثرهم كما أبنا مولدون. ولقي العرب من العجم عنتا شديدا، فالوزراء أكثرهم عجم، والدسائس تدس في القصور لإضعاف شأن العرب، وإذا ثار العرب في جزيرتهم أو في الأطراف نكل بهم قواد العجم وجيوشهم أشد تنكيل، وفي أعماق نفوسهم شعور بأنهم ينتقمون منهم من يوم القادسية، ولم يكن شعور الترك الذين جلبهم المعتصم بأحسن حالا من شعور الفرس، وكثر الشعر في هذا القرن والذي بعده من الأعاجم الذين تعلموا العربية، يفخرون بنسبهم، ويعتزون بقومهم، فافتتح ذلك بشار بن برد كما رأيت، وتبعه ديك الجن الشاعر المشهور. قال في الأغاني: «وكان شديد التشبب والعصبية على العرب، يقول: ما للعرب علينا فضل، جمعتنا وإياهم ولادة إبراهيم عليه السلام، وأسلمنا كما أسلموا، ومن قتل منهم رجلا منا قتل به، ولم نجد الله عز وجل فضلهم علينا إذا جمعنا الدين!»
ويقول قائلهم:
فلست بتارك إيوان كسرى
لتوضح أو لحومل فالدخول
وضب في الفلا ساع، وذئب
بها يعوي، وليث وسط غيل
وكان «الخريمي» الشاعر المشهور يكثر في شعره من الاعتزاز بالنسب الفارسي والتحقير من شأن العرب؛ فيقول:
إني امرؤ من سراة الصغد ألبسني
عرق الأعاجم جلدا طيب الخبر
ويقول:
أبا الصغد بأس إذ تعيرني جمل
18
سفاها ومن أخلاق جارتي الجهل
فإن تفخري يا جمل، أو تتجملي
فلا فخر إلا فوقه الدين والعقل
أرى الناس شرعا في الحياة، ولا يرى
لقبر على قبر علاء ولا فضل
وما ضرني أن لم تلدني يحابر
ولم تشتمل جرم على ولا عكل
19
إذا أنت لم تحم القديم بحادث
من المجد لم ينفعك ما كان من قبل
ويقول:
وناديت من مرو وبلخ فوارسا
لهم حسب في الأكرمين حسيب
فيا حسرتا لا دار قومي قريبة
فيكثر منهم ناصري ويطيب
وإن أبي ساسان كسرى بن هرمز
وخاقان لي لو تعلمين نسيب
ملكنا رقاب الناس في الشرك، كلهم
لنا تابع طوع القياد جنيب
نسومكمو خسفا، ونقضي عليكمو
بما شاء منا مخطئ ومصيب
فلما أتى الإسلام وانشرحت له
صدور به نحو الأنام تنيب
تبعنا رسول الله حتى كأنما
سماء علينا بالرجال تصوب
ويقول المتوكلي، وكان من ندماء المتوكل:
أنا ابن الأكارم من نسل جم
20
وحائز إرث ملوك العجم
ومحيي الذي باد من عزهم،
وعفى عليه طوال القدم
وطالب أوتارهم جهرة،
فمن نام عن حقهم لم أنم
معي علم الكابيان
21
الذي
به أرتجي أن أسود الأمم
فقل لبني هاشم أجمعين،
هلموا إلى الخلع قبل الندم
ملكناكم عنوة بالرما
ح طعنا وضربا، بسيف حذم
وأولاكم الملك آباؤنا،
فما إن وفيتم بشكر النعم
فعودوا إلى أرضكم بالحجاز
لأكل الضباب، ورعي الغنم
فإني سأعلو سرير الملوك.
بحد الحسام، وحرف القلم
22 •••
وقد شعر العرب بخطورة موقفهم، ولكن لم يستطيعوا دفع الشر عنهم، ونجد في كثير من الشعر في ذلك العصر والذي بعده ظلا من الحسرة والألم، وقد ذكرنا طرفا من ذلك في الفصل السابق، ونرى هذا المعنى واضحا بعد في شعر المتنبي، فيألم وقد زار شعب بوان بفارس من ضعف اللغة العربية بها فيقول:
ملاعب جنة لو سار فيها
سلمان لسار بترجمان!
ويقول:
ولكن الفتى العربي فيها
غريب الوجه واليد واللسان
ويقول في قصيدة أخرى:
وإنما الناس بالملوك، وما
تفلح عرب ملوكها عجم
لا أدب عندهم ولا حسب
ولا عهود لهم ولا ذمم
بكل أرض وطئتها أمم
ترعى بعبد كأنها غنم!
يستخشن الخز حين يلمسه
وكان يبرى بظفره القلم! •••
والآن نعرض للأشكال المختلفة التي حارب بها الشعوبية العرب:
فقد عمدوا إلى مزية العرب الظاهرة التي يعتزون بها ، وهي البلاغة، وقوة الخطابة، وحضور البديهة، فأخذوا ينتقصونهم في ذلك من نواح مختلفة:
كان العرب إذا خطبوا أكثروا من الإشارة بأيديهم، يمثلون بها أغراضهم، ويستعينون بذلك على إيضاح المعنى، وقوة التأثير في السامعين، وكثيرا ما يستعملون في إشاراتهم المخصرة (وهي ما يمسكه الإنسان بيده من عصا، أو مقرعة أو عكازة أو قضيب)، وكثيرا ما كانوا يشيرون في خطب السلم بالمخصرة، وفي خطب الحرب بالقسي، وأحيانا كانوا يتكئون أثناء خطبهم على القسي، وكثيرا ما يلبسون للخطابة زيا خاصا؛ فيضعون العمامة وضعا يدل على تأهبهم للخطابة، فجاءت الشعوبية تهزأ بهم في ذلك، وتقول: أي ارتباط بين الكلام والعصا، وبين الخطبة والقوس، وهما إلى أن يشغلا العقل، ويصرفا الخواطر، ويعترضا الذهن أشبه، وليس في حملهما ما يشحذ الذهن، ولا في الإشارة بهما ما يجلب اللفظ. وقد زعم أصحاب الغناء أن المغني إذا ضرب على غنائه قصر عن المغني الذي لا يضرب على غنائه، وحمل العصا بأخلاق الفدادين أشبه، وهو بجفاة الأعراب وعنجهية أهل البدو، ومزاولة إقامة الإبل على الطرق أشكل، وبه أشبه.
23
وقد رد عليهم الجاحظ في كتابه البيان والتبيين، وأفرد لذلك بابا خاصا سماه «كتاب العصا» من أجل ذلك، كما عابوهم في جوهر الموضوع، فقالوا: ليست الخطابة ميزة امتزتم بها وحدكم؛ فهي شيء في جميع الأمم، حتى إن الزنج مع غباوتها، وفساد مزاجها لتطيل الخطب. وأخطب الناس الفرس لا العرب، ولهم فوق خطبهم التأليف في صناعة البلاغة، ومعرفة الغريب ككتاب «كازوند»، ومن احتاج إلى العقل والأدب والعلم بالمراتب والعبر والمثلات، والألفاظ الكريمة والمعاني الشريفة؛ فلينظر إلى سير الملوك (ملوك الفرس).
24
بل أين معانيكم وحكمكم وخطبكم وطريقة تفكيركم مما للفرس واليونان والهند؟ وأين كلامكم الجافي، وأصواتكم الغليظة من طول اعتيادكم مخاطبة الإبل؛ مما لهؤلاء من معنى دقيق، ولفظ رشيق، وصوت رقيق؟! وقد قارن الجاحظ بين بلاغة الفرس والروم، وبلاغة العرب، فقال: إن الأولى صادرة عن تفكير وروية، والثانية صادرة عن بديهة وسرعة خاطر.
كذلك عابوا العرب في آلاتهم الحربية، فسخروا من رماحهم، ومن عري خيولهم، ومن قناتهم الصماء مع أن الجوفاء أخف محملا، وأشد طعنة، ومن قلة الخبرة في تنظيم جيوشهم؛ فلم يكونوا يعرفون الميمنة ولا الميسرة، ولا القلب ولا الجناح، ولا يعرفون من آلات الحرب العرادة، ولا المجانيق، وقارنوا بين حالة الجيش العربي والجيش الفارسي في تنظيمه وفي آلاته، وأبانوا ما للأول من حقارة، وما للثاني من عظم. وفات الشعوبية أن هذه المقارنة أحقر لشأنهم، وأوضع لمكانتهم؛ فهؤلاء العرب بآلاتهم الساذجة الحقيرة سحقوا الفرس بآلاتهم الضخمة العظيمة، وجيوشهم المنظمة الكثيرة!
25
ونوع آخر من مسالك الشعوبية، وهو أنهم في هذا العصر أكثروا من التأليف في مناقب العجم، فسعيد بن حميد البختكان كان كاتبا شاعرا مترسلا عذب الألفاظ، وكان يدعي أنه من أولاد ملوك الفرس، وكان شديد العصبية مع العرب، وألف كتاب «انتصاف العجم من العرب»، وكتاب «فضل العجم على العرب وافتخارها».
26
ونرى ابن النديم ينقل عن كتاب اسمه «مفاخر العجم»
27
وفي مقابل ذلك يضعون الكتب في مثالب العرب؛ كالهيثم بن عدي (وهو من أشهر العلماء بالأخبار والرواية) جالس المنصور والمهدي والهادي والرشيد، وقد وضع عدة كتب في المثالب؛ منها: «كتاب المثالب الصغير»، و«كتاب المثالب الكبير»، و«كتاب مثالب ربيعة»، و«أسماء بغايا قريش في الجاهلية، وأسماء من ولدن». ويتصل بهذا كتاب له اسمه: «كتاب من تزوج من الموالي في العرب».
28
وكذلك سهل بن هارون صاحب «بيت الحكمة»، قال فيه ابن النديم: «كان حكيما فصيحا شاعرا، فارسي الأصل، شعوبي المذهب، شديد العصبية على العرب، وله في ذلك كتب كثيرة.»
29
وقد وضع رسالته المشهورة في البخل، ولعل ذلك منه نزعة شعوبية؛ لأن العرب كانوا يتمدحون كثيرا بالكرم، ويعدونه من أكبر مناقبهم، كما اشتهر الفرس بالبخل، فوضع سهل هذه الرسالة يقلب فيها قيمة الكرم والبخل، ويعد الكرم رذيلة والبخل فضيلة، وروى له صاحب زهر الآداب أبياتا تدل على شعوبيته، يفتخر فيها بفارسيته، ويذم العربية، ويقارن بين بيته في ميسان، وبيت آخر عربي فيقول:
أجعلت بيتا فوق رابية
فرع النجوم كأنه نجم
كبييت شعر وسط مجهلة
بفنائه الجعلان والبهم؟
30
وألف علان الشعوبي (وأصله من الفرس) كتاب «الميدان في المثالب»، قال ابن النديم: إنه هتك فيه العرب، وأظهر مثالبها، ويحتوي على مثالب قريش، ومثالب تيم بن مرة، ومثالب بني أسد بن عبد العزى، ومثالب بني مخزوم، وعدد القبائل كلها وذكر مثالبها.
31
وألف أبو عبيدة معمر بن المثنى (وهو من أشهر العلماء في النحو والأخبار، وكان أصله من يهود فارس) كتبا كثيرة تعرض فيها للعرب، منها «كتاب لصوص العرب»، وكتاب «أدعياء العرب»، كما ألف كتاب «فضائل الفرس».
32
وقال فيه ابن خلكان: «وكان يكره العرب، وألف في مثالبها كتبا.»
33
وقد صور لنا ابن قتيبة نوعا من الطعن الذي كان يستعمله أبو عبيدة؛ فقد عمد إلى مفاخر العرب فتهكم بها، كانوا يفخرون بقوس حاجب، ويعتزون بوفائه، فتضاحك عليه واستضحك الناس منه، واستسخف فعل حاجب، وخساسة عوده، وقلة ثمنه، ويذكره قول الشاعر:
أيا ابنة عبد الله، وابنة مالك،
ويا ابنة ذي البردين، والفرس الورد!
فيهزأ بالشعر، ويعجب في سخرية من التمدح بأن أباها ذو بردين وفرس ورد، ويقارن ذلك بملوك فارس وتيجانها، وأن أبرويز كان يرتبط تسعمائة وخمسين فيلا على مرابطه، وتخدمه ألف جارية، وفي حجرته التي يشرف منها على الداخل عليه ألف إناء من ذهب.
34
وكتب المثالب هذه - على ما يظهر - عمدت إلى ما صدر عن كل قبيلة من بيت تعير به، أو عمل تؤاخذ عليه، أو جريمة ارتكبها أحد أفرادها فقيدتها وأذاعتها؛ للتشهير بالعرب جميعا. كما أن كتب مناقب العجم ومفاخرها عمدت إلى ما استحسن من عادات الفرس، وعظمة ملوكها، ونظام جيوشها، وسياسة ملكها فشادت به. ولم يصلنا شيء من هذه الكتب - على ما أعلم - كما لم يصلنا أي كتاب ألف في بيان دعوى الشعوبية، وإنما وصل إلينا نتف من أقوالهم وآرائهم، أهمها ما ورد في كتاب البيان والتبيين للجاحظ، وما ورد في العقد الفريد لابن عبد ربه، وما نقله ابن قتيبة في كتابه «العرب».
والظاهر أن أكبر سبب في ضياع هذه الكتب أن المسلمين عدوا هذه النزعة الشعوبية نزعة ضد الإسلام، فتحرجوا من نقل الكتب المؤلفة فيها، وتقربوا إلى الله بإعدامها، وبرئ المخلصون من الميل إليها، كما فعل الزمخشري في أول كتابه المفصل؛ فقد حمد الله «إذ جبله على الغضب للعرب، والعصبية لهم، وبرأه من الانضواء إلى لفيف الشعوبية».
ولم يقتصر هؤلاء الذين ذكرنا من علماء الشعوبية على وضع كتب المثالب؛ بل يظهر أنهم وضعوا في الأدب قصصا كثيرة تؤيد جانبهم، وقد اختلقوها اختلاقا، وكانت هذه أخطر على العرب من الحرب الظاهرة؛ لأن نقضها أصعب، والوقوف على بطلانها أعسر، ويمكننا أن ندرك أنهم لجئوا في ذلك إلى نوعين: النوع الأول: الوضع؛ وهو أن يضعوا القصص الشنيعة في شرح الأبيات أو الأمثال، ويختلقوا القصة اختلاقا، كما فعل أبو عبيدة في شرح المثل: «جبان ما يلوى على الصفير»؛
35
فقد نقل البكري في كتابه «التنبيه على أوهام أبي علي القالي في أماليه»؛ حكاية في ذلك عن أبي عبيدة لا نستطيع ذكرها لشناعتها!
36
وروى الهيثم بن عدي قصة طويلة، تتلخص في أن رجلا من تنوخ نزل بحي من بني عامر، فخرجت إليه جارية، فقالت: ممن أنت؟ قال: من تميم، فذكرت له أبياتا في ذم تميم، فقال لها: لست من تميم بل أنا من قبيلة عجل، ففعلت ذلك، وما زال الرجل يذكر القبائل قبيلة قبيلة، وهي تروي الأبيات في ذمها حتى استنفد القبائل. ولما انتسب إلى بني هاشم قالت: أتعرف الذي يقول:
بني هاشم عودوا إلى نخلاتكم
فقد صار هذا التمر صاعا بدرهم!
فإن قلتمو: رهط النبي محمد
فإن النصارى رهط عيسى ابن مريم!
37
والحكاية كلها على ما يظهر من وضع الشعوبية، أو من وضع الهيثم بن عدي نفسه، يرمي واضعها إلى ذكر مثالب القبائل العربية.
والنوع الثاني: نسبة الشيء إلى غير قائله، وهو طريق سلكوه لإفساد الأدب العربي، وإضاعة معالمه؛ حتى لا يكون للعرب أدب موثوق به، وتلك أكبر بغية لهم، ومن الأمثلة على ذلك: أن يقول أبو عبيدة البيتين الآتيين:
هينون لينون أيسار ذوو كرم
سواس مكرمة أبناء أيسار
إن يسألوا الخير يعطوه وإن خبروا
في الجهد أدرك منهم طيب أخبار
إنها للعرندس الكلابي يمدح بني عمرو الغنويين، فينكر الأصمعي عليه ذلك، ويقول: محال أن يمدح كلابي غنويا لما بينهما من العداوة!
38
ولو فحصنا الأدب في ضوء هذه النظرية؛ لو جدنا الشيء الكثير الموضوع للحط من العرب، وإفساد الأدب، مما لا نستطيع أن نستقصيه هنا. «كان في هذا العصر ثلاثة هم أئمة الناس في اللغة والشعر وعلوم العرب، لم ير قبلهم ولا بعدهم مثلهم، عنهم أخذ جل ما في أيدي الناس من هذا العلم، بل كله؛ وهم: أبو زيد الأنصاري، وأبو عبيدة، والأصمعي.»
39
وقد اشتهر أبو زيد بحفظ الغريب من اللغة والنحو، وتنازع الرياسة الاثنان الآخران، ويظهر أن الأصمعي بحكم عربيته كان يتعصب للعرب، وكان يتشدد فيما يروي، فلا يجيز إلا أصح اللغات، وكان لا يجيب في القرآن، ولا في الحديث خشية الخطأ.
40
وكان لا يقول في شيء برأيه، وكان لا يفسر شعرا فيه هجاء.
41
كأنه كان يرى أن ذلك يمس دينه! وكأنه يرى أن في الهجاء حطا من المهجو أو قبيلته، وفي ذلك مساس بالعربية، وكان يمتاز عن أبي عبيدة بحسن إلقائه، ولطف نغمته. أما أبو عبيدة فيظهر أنه كان أوسع علما، وأكثر ثقافة، يعرف تاريخ الفرس لفارسيته، والثقافة اليهودية ليهودية آبائه، والثقافة الإسلامية لأنه نشأ فيها. ولكنه لم يكن يحسن التعبير كالأصمعي، وكان حر الرأي يفسر القرآن برأيه، فيؤاخذه الأصمعي على ذلك،
42
وليس للعرب حرمة في نفسه؛ إذ ليس بعربي، بل في نفسه الكراهة لهم، فهو يطلق لسانه في هجوهم، وذكر مثالبهم. وقد استغوى الناس بسعة اطلاعه، كما استغوى الناس الأصمعي بفصاحته وحسن بيانه. قال الجاحظ: لم يكن في الأرض خارجي ولا إجماعي أعلم بجميع العلوم من أبي عبيدة.
43
وقالوا: «إن طلبة العلم كانوا إذا أتوا مجلس الأصمعي اشتروا البعر في سوق الدر، وإذا أتوا مجلس أبي عبيدة اشتروا الدر في سوق البعر! لأن الأصمعي كان حسن الإسناد والزخرفة لرديء الأخبار والأشعار حتى يحسن عنده القبيح، وإن الفائدة مع ذلك عنده قليلة. وإن أبا عبيدة كان معه سوء عبارة، مع فوائد كثيرة، وعلوم جمة.»
44
ويظهر أن كلا من الأصمعي وأبي عبيدة كان في عصره يمثل فكره؛ فالأصمعي يمثل العربية، والتعصب لها، وحب العرب وإجلالهم والإشادة بذكرهم، وأبو عبيدة يمثل فكرة الشعوبية، والبحث عن معايب العرب والتشهير بهم. وكان كل زعيما، يلتف حوله من يؤيدون فكرته، ويناصرونه ويتعصبون له؛ العرب حول الأصمعي، والفرس حول أبي عبيدة، فنرى إسحاق بن إبراهيم الموصلي (وهو فارسي) يقول للفضل بن الربيع:
عليك أبا عبيدة فاصطنعه
فإن العلم عند أبي عبيدة
وقدمه، وآثره عليه،
ودع عنك القريد بن القريدة!
45
ويقول أبو الفرج الأصفهاني: إن إسحاق الموصلي «كشف للرشيد معايب الأصمعي، وأخبره بقلة شكره وبخله وضعة نفسه، وأن الصنيعة لا تزكو عنده، ووصف له أبا عبيدة بالثقة والصدق والسماحة والعلم، وفعل مثل ذلك للفضل بن الربيع، واستعان به، ولم يزل حتى وضع مرتبة الأصمعي وأسقطه عندهم، وأنفذوا إلى أبي عبيدة من أقدمه.»
46
ونجد أبا نواس - ونزعته الفارسية لا تنكر - يقدم أبا عبيدة على الأصمعي، ويقول: «أما أبو عبيدة فإنهم إن أمكنوه قرأ عليهم أخبار الأولين والآخرين، وأما الأصمعي فبلبل يطربهم بنغماته.» ونجد الأصمعي من ناحية أخرى يذم البرامكة، ويقول:
إذا ذكر الشرك في مجلس
أضاءت وجوه بني برمك
وإن تليت عندهم آية
أتوا بالأحاديث عن مزدك
وأبو عبيدة يشيد بذكر الفرس، ويؤلف كتاب «فضائل الفرس»، ويؤلف كتابا في أخبار الفرس يصف فيه طبقات ملوكهم ممن سلف وخلف، وأخبارهم وخطبهم، وتشعب أنسابهم، وما بنوه من المدن وكوروه من الكور، واحتفروه من الأنهار، وأهل البيوتات منهم، وما وسم به كل فريق من السهارجة وغيرهم.
47
ومن آثار الشعوبية أنهم لونوا ما رووا من تاريخ الفرس لونا زاهيا جميلا، ونسبوا إلى ملوكهم الحكم الرائعة، والسياسة الحكيمة، وكسوه أبهة وعظمة بالغوا فيهما، وزعموا أن الفرس من ولد إسحاق بن إبراهيم عليه السلام، والعرب من ولد إسماعيل بن إبراهيم، وإسحاق ابن سارة الحرة، وإسماعيل ابن هاجر الأمة؛ فهم أفضل من العرب لأنهم بنو الأحرار، وأما العرب فبنو اللخناء.
48
وهي دعوى غير صحيحة علميا، وإنما وضعت ليرفع الفرس من شأنهم، وليفخروا بها على العرب، كما زعموا أن سابور سمي ذا الأكتاف؛ لأنه أوقع بالعرب في العراق، وخلع أكتافهم.
49
وأغرب من ذلك ما اخترعه شعوبية النبط من حديث نسبوه إلى علي بن أبي طالب؛ فقد رووا أن رجلا سأله فقال: أخبرني يا أمير المؤمنين عن أصلكم معاشر قريش. فقال: نحن قوم من نبط كوثى، ورووا عن ابن عباس أنه قال: نحن معاشر قريش من النبط من أهل كوثى! وفي رواية أخرى عن علي أنه قال: من كان سائلا عن نسبتنا فإنا نبط من كوثى.
50
وقد أتعب العلماء أنفسهم في تفسير هذه الأحاديث، فقال بعضهم إنهما أرادا التبرؤ من الفخر بالأنساب، وقال قوم إن كوثى اسم من أسماء مكة، ولو أنصفوا لأراحوا أنفسهم من تأويل هذا الهذيان.
واستغل الفرس سلمان الفارسي استغلالا عظيما، فرووا له من الزهد والحكمة والعلم ما لم يرو لأي صحابي آخر، حتى جعلوا عمره فوق أعمار الناس؛ فقيل إنه أدرك عيسى (عليه السلام) وروى أبو الشيخ في طبقات الأصفهانيين أن أهل العلم يقولون: عاش سلمان ثلثمائة وخمسين سنة، فأما مائتان وخمسون فلا يشكون فيها!
51
ورووا عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أنه تلا هذه الآية
وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم
فقالوا من يستبدل بنا؟ فضرب
صلى الله عليه وسلم
على منكب سلمان. ثم قال: «هذا وقومه، والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطا بالثريا لناله رجال من فارس.» وهو الذي قيل فيه: سلمان منا أهل البيت، وهو الذي أشار على النبي
صلى الله عليه وسلم
بحفر الخندق. ومن ذلك الحين عرف العرب كيف يستعملون الخنادق في الحروب؛ فهم في ذلك مدينون للفرس. وعلى الجملة فقد اتخذه الفرس وسيلة لبيان عظمتهم، وأن لهم فضلا كبيرا على المسلمين.
52
وكان للشعوبية مجال فسيح في الحديث، فقد وضعوا الأحاديث الكثيرة في فضل الفرس، وأسندوها إلى الثقات من الصحابة والتابعين؛ مثل ما روي أن الأعاجم ذكرت عن رسول
صلى الله عليه وسلم
أنه قال: «لأنا ببعضهم أوثق مني بكم.» وفي رواية «لأنا ببعضهم أوثق مني ببعضكم.»
53
وفي حديث آخر: «سيأتي ملك من ملوك العجم فيظهر على المدائن كلها إلا دمشق.»
54
وفي حديث «لا تسبوا فارسا فما سبهم أحد إلا انتقم منه عاجلا أو آجلا.» «ورأى النبي
صلى الله عليه وسلم
كأنه ردفه غنم سود، فردفته غنم بيض، ما يرى السود فيها لكثرتها، فأخبر النبي بذلك أبا بكر فقال: السود العرب ويسلمون، والبيض العجم يسلمون بعدهم، حتى ما يرى فيهم العرب لكثرتهم. فقال
صلى الله عليه وسلم
بذلك أخبرني الملك سحرا»
55
ومن هذا القبيل ما وضعوه من الأحاديث الكثيرة حول الإمام أبي حنيفة الفارسي الأصل، يزعمون أن النبي
صلى الله عليه وسلم
أشار بها إليه أو نص عليه؛ كالذي روى: لو كان العلم معلقا عند الثريا لتناوله رجل من فارس، وكالذي رووا: أن آدم افتخر بي وأنا أفتخر برجل من أمتي اسمه نعمان، وكنيته أبو حنيفة هو سراج أمتي. ورووا أن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال: «إن سائر الأنبياء يفتخرون بي، وأنا أفتخر بأبي حنيفة، من أحبه فقد أحبني، ومن أبغضه فقد أبغضني.»
56
والحق إن العرب ومن تعصب لهم قابلوا عملهم بمثله، فوضعوا الأحاديث الكثيرة في تفضيل العرب، ووجوب حبهم، مثل: «من غش العرب لم يدخل في شفاعتي، ولم تنله مودتي.» ومثل: «إذا اختلف الناس فالحق في مضر.» ومثل: «أحبوا العرب لثلاث؛ لأني عربي، والقرآن عربي، ولسان أهل الجنة في الجنة عربي.» ومن ألطف ذلك أنهم رووا حديثا للنبي
صلى الله عليه وسلم
مع سلمان الفارسي نفسه، ذلك أن رسول الله قال: «يا سلمان لاتبغضني فتفارق دينك. قال: قلت: يا رسول الله، كيف أبغضك وبك هداني الله؟! قال: لا تبغض العرب فتبغضني.» ... إلخ.
57
وتعاليم الإسلام التي تدعو إلى المساواة، وتعلم أن الفضل ليس إلا بالتقوى؛ تأبى مدح الفرس أو العرب أو أي أمة لجنسيتها.
ونكاد نجد إصبع الشعوبية في كل علم حتى في الفقه؛ فلو قرأت مثلا باب الكفاءة في الزواج، لرأيت أن الأئمة أنفسهم لم تؤثر فيهم العصبية أي أثر، فالإمام مالك العربي لم يعتبر الكفاءة، وعنده أن العجمي يتزوج العربية من غير أن يكون للولي حق الاعتراض، ومذهب أبي حنيفة الفارسي يعتبر الكفاءة؛ فالقرشيون
58
أكفاء لبعض، وليس غير القرشي كفئا لهم، والعجمي ليس كفئا للعربية. ولكن سرعان ما نجد نظرية توضع على بساط البحث يهدم بها الجزء الأكبر من العصبية العربية، وهي: «شرف العلم فوق شرف النسب.» قال قاضيخان: «الحسيب يكون كفئا للنسيب، فالعالم العجمي يكون كفئا للجاهل العربي والعلوية، لأن شرف العلم فوق شرف النسب.»
59
وقالوا: «وكيف يصح لأحد أن يقول إن مثل أبي حنيفة أو الحسن البصري وغيرهما ممن ليس بعربي لا يكون كفئا لبنت قرشي جاهل، أو لبنت عربي بوال على عقبيه؟!»
60
ويطول بنا القول لو عددنا أثر الشعوبية في كل علم.
ومما نأسف له أن الشعوبية أزهرت في عصر تدوين العلوم، وكل حركة علمية كانت بعد إنما أسست على ما دون في هذا العصر العباسي الشعوبي، ولم يكن لنا علم مدون قبل ذلك، وهذا يجعل استكشاف الآثار الشعوبية صعبا غامضا، فلو كان لدينا تاريخ مدون في العصر الأموي لفهمنا كيف تلاعب به الشعوبيون في العصر العباسي، ولو كان لدينا تاريخ للفرس موثوق به دون أثناء حكم الفرس؛ لأدركنا في وضوح كيف جمله الشعوبيون. ولو كان العرب في العصر الإسلامي الأول وضعوا كتبا في الأنساب ومناقبها ومثالبها ووصلت إلينا لعرفنا ما اختلقه الشعوبيون عليهم لإفساد أنسابهم، والحط من شأنهم، وهكذا في كل العلوم. ولكن قدر أن يقترن تدوين العلم بسطوة الشعوبية، فكان ذلك من سوء حظ العلم، ولذلك أجهد العلماء أنفسهم في تعرف أسرار الشعوبية، وخفاياها وآثارها في العلم، وما يزال المدى أمامهم فسيحا، والبحث في مهده.
ومع هذا فقد كان للشعوبية جانب حسن؛ فقد أتت الشعوبية وكل شيء للعرب يمجد، من نسب عربي، ولغة عربية، ورأي عربي، وعادات عربية، فأخذ الشعوبيون يعرضون هذا للنقد والتحليل؛ عرضوا أنساب العرب للنقد ، كالذي فعل أبو عبيدة مع غلوه، فكان يرد على قوم ينتسبون للعرب، فيبين أن النسبة كاذبة مختلقة، وفي كتاب الأغاني عن أبي عبيدة من هذا الشيء الكثير، وعرضوا اللغة العربية للنقد؛ فسيبويه في كتابه النحو يخطئ العرب في بعض أقوالهم، ويدعي العرب أن البلاغة ليست إلا فيهم، فيرد الشعوبية بأن هناك أمما أخرى لها بلاغة ولها خطب، ولها حكم لا تقل عما للعرب، وينبهون على أن عادات العرب ليست المثل الأعلى للعادات؛ ففيها الحقير المرذول، والجيد المحمود، كل هذا النقد وأمثاله استتبع نتيجة جيدة من بعض الوجوه، وهي: عرض ما للأمم الأخرى من كل ذلك لتكون المقارنة أتم، فتعرض الكلمات الفارسية بجانب الكلمات العربية، والحكم الأجنبية والبلاغة الأجنبية بجانب البلاغة والحكم العربية، والنظام الفارسي والأدب الأجنبي بجانب النظام والأدب العربيين، ونحو ذلك، وهذا من غير شك مفيد للعلم والعقل.
نعم، لو وقفت الشعوبية عند هذا الحد فلم يتهجوا على العرب بقلب محاسنهم مساوئ، والتشهير بهم بالحق حينا، وبالباطل أحيانا، ولم يحاولوا إفساد الدين بالزندقة، وإفساد العلم بالأكاذيب، ولو وقفوا عند ذلك لأحسنوا، ولكنهم أفرطوا فخسروا كثيرا وكرهوا ومقتوا كثيرا.
الفصل الرابع
الرقيق وأثره في الثقافة
قبل أن نتكلم في الرقيق وأثره، يجب أن نبين في كلمة موجزة موقفه القانوني في المملكة الإسلامية، وبعبارة أخرى ما كان يطبق من الأحكام الإسلامية عليه.
تقضي تعاليم الإسلام - أو على الأقل المبادئ التي استنبطها الأئمة من أصول الأحكام، وجرى عليها العمل حتى عصرنا الذي نؤرخه - بأن «سبب الرق: وقوع الكافر أسيرا في يد المسلمين عند الحرب»، فإذا حارب المسلمون الكافرين فمن أسر من المحاربين منهم جاز للإمام أن يسترقه، كما يجوز له أن يسترق أهل البلد الذي فتح في الحرب، رجالا كانوا أو نساء.
1
وهذا الكفر والوقوع في الأسر هما سببا الرق، ولا يشترط لأجل بقاء الرق بقاء سببه؛ فلو وقع كافر في الأسر فاسترق ثم أسلم لا يزول عنه الرق.
2
وهذا الرقيق يعد مالا، شأنه في ذلك شأن المتاع، فمن استرق في الحرب عد جزءا من الغنيمة كالآلات الحربية، وكالنقود وكالخيل. وعلى الجملة مثله كمثل كل شيء مقوم وقع في يد الفاتحين، وشأن هذه الأشياء أن الإمام ينقلها إلى دار الإسلام، ثم يأخذ خمسها يصرفه في الصالح العام؛ من إعطاء للفقراء والمساكين، وصرف في وجوه البر المختلفة، وأما أربعة الأخماس فتوزع على من اشترك في القتال، والرقيق يفعل به ذلك، فخمسه للصالح العام، والباقي يقسم على المقاتلين. وقد ميزوا عند القسمة على المحاربين بين الفارس والراجل، وبعبارة أخرى بين الخيالة والرجالة؛ فجعل للفارس سهمان في قول بعض الفقهاء، وثلاثة في قول بعضهم، وللراجل سهم واحد، على هذا النمط الذي أبنا كان يوزع الرقيق.
وإذا كانت الحروب في صدر الإسلام تكاد تكون دائمة، وكان النصر للمسلمين يكاد يكون متلاحقا مطردا، والبلاد المفتوحة والأمم المغلوبة لا تكاد تعد؛ أمكننا أن نتصور كيف كان الرقيق لا يحصى كثرة، وكيف كان مختلفا متنوعا تنوع الأمم التي اشتبك معها المسلمون في قتال. وإذا كنا أبنا كيف يوزع الرقيق؛ فهمنا كيف انتشر بين المحاربين، ودخل في بيت كل منهم، وإذا كان الرقيق يعد مالا، وتجري عليه كل العقود المالية من بيع وشراء وإجارة ورهن؛ أمكننا أن نفهم أنه لم يقتصر على المحاربين، بل كان في متناول أيدي الناس جميعا، وكان له سوق يشتري منه من شاء، ويستخدمه كما شاء! •••
هذا من الناحية المالية، وأما علاقة الرجال بالإماء من الناحية الجنسية فنجملها فيما يأتي:
هناك سببان يحلان المرأة للرجل؛ عقد الزواج، وملك اليمين؛ فأما عقد الزواج فلا يحل للرجل الحر أن يتزوج أكثر من أربع، أعني أنه لا يحل له أن يكون على ذمته في وقت واحد أكثر من أربع زوجات، ولكن يحل له أن يطلق منهن، ويتزوج غيرهن بعد انقضاء عدتهن، هذا هو قول أكثر الفقهاء، وإن كان لغيرهم أقوال أخرى لا محل لها هنا، وهذا الحكم عام، سواء كانت الزوجات الأربع حرائر أو إماء، وكل الذي ذكره الفقهاء في هذا الموضوع أنه لا يحل أن يعقد الرجل عقد زواج على أمة إذا كان متزوجا حرة، ولكن العكس يصح، فيجوز له أن يتزوج حرة على أمة، وقد لوحظ في ذلك أن زواج الأمة بعد زواج الحرة امتهان للحرة، وجرح لشرفها وعزتها.
والأمر الثاني مما يحل المرأة للرجل «ملك اليمين»؛ أعني ملكية الرجل للأمة، قال تعالى:
فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم
والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين
فمن ملك جارية جاز أن يتسراها، وهي حل له سواء كان متزوجا أو غير متزوج، وسواء كان متزوجا واحدة أو أربعا. ولا يتقيد الرجل في ذلك بعدد؛ فيحل له أن يتزوج إلى أربع، وأن يملك من الجواري ويتسرى منهن ما شاء من العدد، وإن كثر.
3
من أجل ذلك كان البيت الإسلامي فيه - غالبا - زوجة أو زوجات، وكان بجانبهن عدد من الجواري قد تسراهن رب البيت.
وكثيرا ما كان يقع الخلاف بين الحرائر والجواري السراري، وذلك طبيعي، حتى ذهب بعض اللغوييين إلى أن تسميتهن بالسراري كان سببه الغيرة؛ نقل اللسان عن بعضهم أن السرية الأمة التي يتسراها صاحبها منسوبة على غير قياس إلى السر وهو الإخفاء؛ لأن الإنسان كثيرا ما يسرها ويسترها عن حرته، وكثيرا ما ينسل الرجل الواحد الحرائر والجواري فيفخر أولاد الحرائر على أولاد الجواري، ويعتزون بأنه لم يجر في عروقهم دم رقيق، كالذي كان بين الأمين والمأمون، فكلاهما ولد الرشيد، ولكن أم الأمين زوجة حرة، وأم المأمون جارية سررية، وقد ضربنا قبل أمثالا من هذا القبيل ببيوت الخلفاء ونسلهم المتنوع، وكانت بيوت غيرهم من الرعية مثل بيوتهم في هذا الباب. •••
وهذا الرقيق الذي أبنا من رجال ونساء لا يسترد حريته إلا بأن يعتقه مالكه. وقد عقد الفقهاء بابا طويلا للعتق، أبانوا فيه الألفاظ التي يكون بها العتق، وما يعرض له من أشكال، والذي يهمنا منه الآن: كلمة في «أم الولد»؛ ذلك أن الأمة إذا ولدت من سيدها سميت «أم ولد»، وقد رفعوها فوق منزلة الجارية التي لم تلد منه ، ومنحوها حقوقا لم تنلها غيرها، أهمها: أنه لا يصح لمالكها (وهو مستولدها) أن يبيعها، ولا أن يهبها. وعلى ذلك جرى جمهور الفقهاء، ولكنها تبقى حلا لمالكها حتى يموت، فإذا مات صارت حرة، تجري عليها كل أحكام الحرائر، أما الأولاد الذين جاءوا منها فأحرار.
هذا هو الوضع القانوني لمسألة الرقيق، والنظام الذي كان يسود في عصرنا الذي نؤرخه، وهو قدر لا بد منه لفهم النتائج الأدبية والعلمية والاجتماعية.
وقد كان المسلمون والنصارى واليهود على السواء في تملك الرقيق، ولكن التسري لم يكن نظاما مشروعا عند اليهود والنصارى، وإن ارتكبه بعضهم خروجا على القانون؛ فقد رووا أن أبا جعفر المنصور أهدى طبيبه جورجيس بن بختيشوع النصراني ثلاث جوار حسان روميات، مع ثلاثة آلاف دينار، فرد الجواري فسأله المنصور: لم رددتهن؟ قال: لأنا معشر النصارى لا نتزوج أكثر من امرأة واحدة ما دامت المرأة، ولا نأخذ غيرها.
4
ولكن من ناحية أخرى يروي الجاحظ أن «طيمانو» رئيس الجاثليق قد هم بتحريم كلام عون العبادي (وكان نصرانيا) عندما بلغه أنه اتخذ السراري، فتوعد عون الجاثليق وحلف: لئن فعل ليسلمن.
5
وروى القفطي: أن النصارى عاتبوا يوحنا بن ماسويه على اتخاذ الجواري، وقالوا: خالفت ديننا، وأنت شماس! فإما كنت على سنتنا، واقتصرت على امرأة واحدة، وكنت شماسا لنا، وإما أخرجت نفسك عن الشماسين، واتخذت ما بدا لك من الجواري. فقال لهم: إنما أمرنا في موضع واحد ألا نتخذ امرأتين ولا ثوبين، فمن جعل الجاثليق أولى أن يتخذ عشرين ثوبا من يوحنا الشقي في اتخاذ أربع جوار؟ فقولوا لجاثليقكم أن يلزم قوانين دينه حتى نلزم معه، فإن خالف خالفناه.
6
وقد كانت المملكة البيزنطية تحرم على من ليس نصرانيا أن يتملك رقيقا نصرانيا، ولكن المسلمين أباحوا لليهود والنصارى أن يتملكوا الأرقاء، ولو كانوا مسلمين.
انتشرت تجارة الرقيق في المملكة الإسلامية في ذلك العهد، كما انتشرت في غيرها من الممالك، وكان في بغداد شارع يسمى «شارع دار الرقيق»
7
انتهب في الفتنة بين الأمين والمأمون، وبكاه شاعر في قصيدة طويلة آخرها :
ومهما أنس من شيء تولى
فإني ذاكر دار الرقيق
وقد سمي تاجر الرقيق «نخاسا»، وكان في الأصل يطلق على بائع الدواب، واشتهر في ذلك العصر كثير من النخاسين في بغداد، وسبب شهرتهم ما لهم من جوار حسان يأوي إليهن الشعراء والأدباء، منهم بالكرخ نخاس يكنى «أبا عمير»، كان له جوار قيان لهن ظرف، وكان من جواريه جارية تسمى «عبادة»، هواها عبد الله بن محمد البواب فيقول:
لوتشكى «أبو عمير» قليلا
لأتيناه من طريق العيادة
فقضينا من العيادة حقا
ونظرنا في مقلتي «عبادة»
8
ومنهم أبو الخطاب النخاس، كان له جارية مغنية تعرف بذات الخال، كان يهواها إبراهيم الموصلي.
9
ومنهم حرب بن عمرو الثقفي، كان نخاسا، وكان له جارية مغنية، وكان الشعراء والكتاب وأهل الأدب ببغداد يختلفون إليها يسمعونها، وينفقون في منزله النفقات الواسعة، ويبرونه ويهدون إليه، وفيها وفيه يقول أشجع:
أشكو الذي لاقيت من حبها
وبغض مولاها إلى الرب
من بغض مولاها ومن حبها
سقمت بين البغض والحب
فاختلجا في الصدر حتى استوى
أمرهما فاقتسما قلبي
تعجل الله شفائي بها
وعجل السقم إلى حرب
10
ومر «أبو دلامة» بنخاس يبيع الرقيق، فرأى عنده منهن من كل شيء حسن، فانصرف مهموما، فدخل إلى المهدي، فأنشده قصيدة يفضل فيها النخاسة على الشعر مطلعها:
إن كنت تبغي العيش حلوا صافيا
فالشعر أعذبه وكن نخاسا
11
ولئن كان المستهترون من الأدباء يغبطون النخاسين على نخاستهم؛ فكثير من العقلاء كان يكره هذه الحرفة ويمقتها. دخل ناس على معاوية، فسألهم عن صنائعهم فقالوا: بيع الرقيق. قال: بئس التجارة، ضمان نفس، ومؤونة ضرس!
12
وكان على تجار الرقيق عامل من عمال الحكومة يشرف على أعمالهم، ويراقب تجارتهم يسمى «قيم الرقيق».
كان هؤلاء الأرقاء أنواعا مختلفة؛ فمنهم السود وكانت أهم أسواق ذلك الصنف مصر وجنوب جزيرة العرب وشمال أفريقيا، وكانت القوافل تأتي بهم وبالذهب من الجنوب، وكان الثمن العادي للعبد في منتصف القرن الثاني حول مائتي درهم. وقد رووا أن كافورا الإخشيدي الحبشي الذي ملك مصر قد بيع في أول أمره سنة 312ه بثمانية عشر دينارا؛ لأنه كان خصيا.
13
وفيه يقول المتنبي لما غضب عليه:
من علم الأسود المخصي مكرمة؟
أقومه البيض أم آباؤه الصيد؟
أم أذنه في يد النخاس دامية
أم قدره وهو بالفلسين مردود؟
وذاك أن الفحول البيض عاجزة
عن الجميل فكيف الخصية السود؟
ومنهم البيض، ومن أشهرهم الأتراك والصقالبة، وقد كان الناس يفضلون الصقالبة على الأتراك، كما يدل على ذلك جملة للخوارزمي وردت في كتاب يتيمة الدهر: «ويستخدم التركي عند غيبة الصقلبي.»
14
وقد كان أهم مركز لتجارة الرقيق الأبيض مدينة سمرقند؛ فقد اشتهرت بإصدار أحسن الرقيق من هذا النوع، وعظمت تجارته في المملكة الإسلامية، وفي أوروبا، وكان تجاره في أنحاء أوروبا من اليهود.
15
وقد كان لكل نوع من أنواع الرقيق ميزات خاصة يعرف بها؛ «فالهنديات عرفن بالوداعة، ولين الجانب، والهدوء، وحسن رعاية الطفل، ولكن سرعان ما يعرض لهن الذبول. وامتاز الرقيق من رجال الهنود بتدبير المنزل، والمهارة في الصناعات اليدوية، ولكنه عرضة للموت الفجائي في ريعان شبابه، وأغلب ما يجلب الرقيق الهندي من «قندهار»، واشتهرت السنديات بالخصر النحيل، والشعر الطويل. واشتهرت مولدات المدينة (يعني الإماء اللاتي نشأن بالمدينة وربين فيها) بالدلال، والميل إلى السرور والفكاهة والمجون، وبحسن الاستعداد للنبوغ في الغناء. وعرفت مولدات مكة بدقة المعصم والمفصل، والعيون الناعسة، والأمة البربرية (المغربية) لا تبارى في حسن الإنتاج، وهي لدماثة خلقها ولين عريكتها صالحة لأن تعود نفسها القيام بأي نوع من العمل، والمثل الأعلى للجارية كما قال أبو عثمان الدلال: أن تكون من أصل بربري، فارقت بلادها، وهي في التاسعة من عمرها، ومكثت ثلاث سنين في المدينة، ومثلها في مكة، ثم رحلت إلى العراق في السادسة عشرة من عمرها لتتثقف بثقافته، فإذا بيعت في الخامسة والعشرين كانت قد جمعت بين جودة الأصل، ودلال المدنيات، ورقة المكيات، وثقافة العراقيات.» «والسودانيون كانوا يغمرون الأسواق، وقد عرفوا بقلة الثبات والإهمال، كما عرفوا بالميل إلى الضرب على الدف والرقص، وهم أحسن خلق الله بياض أسنان لكثرة لعابهم ، ويعابون عادة بنتن الإبط، وخشونة الملمس.» «والحبشيات عرفن بالضعف والترهل، والاستعداد لأمراض الصدر، وهن على العكس من السودانيات لا يحسن الغناء ولا الرقص، ولكنهن قويات الخلق، موضع للثقة، أهل للاعتماد عليهن.» «والتركية بيضاء البشرة، على حظ عظيم من جمال وحياة، ولها عينان صغيرتان جذابتان، وهي في الغالب بدينة أميل إلى القصر، ولود، كريمة نظيفة تجيد الطهي، ولكن لا يوثق بها ولا يعتمد عليها.» «والأمة الرومية بيضاء البشرة في حمرة، ناعمة الشعر زرقاء العينين، طيعة مستعدة للتشكيل بما يحيط بها من ظروف، مخلصة ثقة. والعبد الرومي يجيد تدبير المنزل، ويحب النظام، ويميل إلى القصد في الإنفاق، ويجيد الفنون الجميلة.» «والأرمن شر الجنس الأبيض، بنيتهم جيدة ولكن أقدامهم قبيحة، لا يعرفون بالعفة، وتفشو فيهم السرقة، خشونة في طباعهم، وخشونة في كلامهم. إذا أنت تركت الأرمني ساعة بلا عمل عمد إلى الأذى يرتكبه، وهو إنما يعمل للخوف، فيجب أن تحمل له العصا دائما، وتعنفه ليعمل ما تريد.
16
إذن كان الرقيق وعلى الأخص الجواري مختلفات الأنواع؛ هنديات، وسنديات، ومكيات، ومدنيات، وسودانيات وحبشيات، وتركيات، وروميات، وأرمنيات. وقد شبه الجاحظ أصناف الرقيق عند النخاسين بألوان الحمام؛ فشبه الصقالبة بالحمام الأبيض، وشبه الزنج بالحمام الأسود ... إلخ.
17
وهذا ما جعل قصور الخلفاء والأمراء والأغنياء مأوى لرقيق من أمم متعددة، تختلف في الطباع والعادات واللغات؛ فالطبري يحدثنا: أن المأمون لما غضب على الفضل قتله أربعة من غلمانه: غالب المسعودي الأسود، وقسطنطين الرومي، وفرج الديلمي، وموفق الصقلبي.
18
وقدمنا أن المتوكل كان له أربعة آلاف سرية
19
من مختلف الأجناس طبعا، ودخل أحمد بن صدقة على المأمون في يوم السعانين،
20
وبين يديه عشرون وصيفة جلبا، روميات مزنرات، قد تزين بالديباج الرومي، وعلقن في أعناقهن صلبان الذهب، وفي أيديهن الخوص والزيتون، فقال له المأمون: ويلك يا أحمد قد قلت في هؤلاء أبياتا فغنني فيها، ثم أنشدني:
ظباء كالدنانير
ملاح في المقاصير
جلاهن السعانين
علينا في الزنانير
وقد زرفن أصداغا
كأذناب الزرازير
وأقبلن بأوساط
كأوساط الزنابير
فغناه بها فلم يزل يشرب، وترقص الوصائف بين يديه أنواع الرقص.
21
والرشيد يمدحه مروان بن أبي حفصة بقصيدة، فيعطيه مالا ويعطيه عشرة من رقيق الروم
22
وكان لمحمد بن شفوف الهاشمي ثلاثة غلمان مغنيين، اثنان صقلبيان؛ خاقان وحسين، وكان خاقان أحسن الناس غناء، وكان حسين يغني غناء متوسطا، وهو مع ذلك أضرب الناس، وكان الغلام الثالث يقال له حجاج، حسن الوجه، رومي الغناء.
23
وكان لبشار جارية سوداء يقول فيها:
وغادة سوداء براقة
كالماء في طيب وفي لين
كأنها صيغت لمن نالها
من عنبر بالمسك معجون
24
وكان لأبي الشيص الشاعر جارية سوداء، وكان يتعشقها، وفيها يقول:
يا ابنة عم المسك الذكي ومن
لولاك لم يتخذ ولم يطب
ناسبك المسك في السواد وفي ال
ريح فأكرم بذاك من نسب
25
وكان لإبراهيم بن المهدي جارية رومية تكنس البيت، ولا تحسن العربية.
26
وكان للمهدي جارية نصرانية، تعلق في صدرها صليبا من ذهب.
27
إلى كثير من أمثال ذلك، فأنت ترى أن البيوت ما كانت تخلو غالبا من رقيق، جارية أو غلام، وأنهم من أجناس مختلفة، وديانات مختلفة، وثقافات مختلفة، وقد رأيت فيما قصصنا أن الخلفاء والأغنياء تركوا لمماليكهم حرية الديانة؛ فقد تكون الجارية نصرانية تلبس الصليب والزنار، وتلبس لبسها القومي وتتكلم بلغتها، ولا تحسن العربية، ولهذا من النتائج ما سننبه عليه. •••
اتجه العباسيون إلى تعليم الجواري - على اختلاف أنواعهن - اتجاها قويا، وأكثر عنايتهم كانت بتعليمهن الغناء؛ فقد انتشر الغناء في هذا العصر انتشارا عظيما، وعد حاجة من حاجات الإنسان الضرورية، فترى المغنين والمغنيات في المحال العامة، وفي الشوارع، وفي قصور الخلفاء، وفي بيوت الأغنياء والفقراء، ونما ذوق الناس في الغناء نموا غريبا، وملئت الكتب بالحكايات عنه، وشغف الناس به حتى ليغني مغن على الجسر فيجتمع السامعون حوله، ويخاف من سقوط الجسر بهم،
28
وحتى كان بعضهم يكاد ينطح العمود برأسه من حسن الغناء.
29
ولم يتحرج الخلفاء ولا أولادهم من اختراع الأصوات، والتغني بها، فصاحب الأغاني يحدثنا أن الواثق والمنتصر كان لهما أصوات يغنى بها، وكانا يجيدان ذلك،
30
وعقد فصلا طويلا ممتعا لأولاد الخلفاء وصنعتهم في الغناء،
31
وكان لعلية بنت الخليفة المهدي ثلاثة وسبعون صوتا (دورا)، ويحدث أحمد بن أبي داود القاضي فيقول: كنت أعيب الغناء وأطعن على أهله، فخرج المعتصم يوما إلى الشماسية في حراقة يشرب، ووجه في طلبي فصرت إليه، فلما قربت منه سمعت غناء حيرني، وشغلني عن كل شيء، فسقط سوطي من يدي، فالتفت إلى غلامي أطلب منه سوطه، فقال لي: قد والله سقط سوطي، فقلت له: فأي شيء كان سبب سقوطه؟ قال: صوت سمعته شغلني عن كل شيء فسقط سوطي من يدي، فإذا قصته قصتي! قال: وكنت أنكر أمر الطرب على الغناء، وما يستفز الناس منه، ويغلب على عقولهم، وأناظر المعتصم فيه، فلما دخلت عليه يومئذ أخبرته بالخبر فضحك وقال: هذا عمي كان يغنيني:
إن هذا الطويل من آل حفص
نشر المجد بعدما كان ماتا
فإن تبت عما كنت تناظرنا عليه في ذم الغناء سألته أن يعيده. ففعلت وفعل، وبلغ بي الطرب أكثر مما بلغني عن غيري فأنكره، ورجعت عن رأيي منذ ذلك اليوم.
32
دعاهم الشغف بالغناء إلى تعليمه الجواري للتمتع بغنائهن ومنظرهن معا، وتعلم الغناء استتبع تعلم الأدب؛ لأن الناس في ذلك العصر كانوا يتغنون بالشعر العربي الفصيح، مثل شعر عمر بن أبي ربيعة، وبشار، ومسلم بن الوليد، وأبي العتاهية، والمغنية لا تحسن أن تغني هذه الأشعار إلا إذا حفظت كثيرا من الشعر، وأجادت مخارج الحروف، واطلعت على كثير من الأدب.
بل رأينا أحاديث كثيرة عن مغنيات كن يغنين بما يخترعن من شعر وصوت، يقول أبو دلامة من شعر له:
هذي رسالة شيخ من بني أسد
يهدي السلام إلى العباس في الصحف
تخطها من جواري المصر كاتبة
قد طالما ضربت في اللام والألف
وطالما اختلفت صيفا وشاتية
إلى معلمها باللوح والكتف
33
حتى إذا نهد الثديان وامتلآ
منها وخيفت على الإسراف والقرف
34
صينت ثلاث سنين ما ترى أحدا
كما يصون تجار درة الصدف
35
وكانت عريب المغنية تروي الجاريات الأشعار ليتغنين بها
36
ويقول المبرد: «حدثني الجاحظ عن إبراهيم بن السندي قال: كانت تصير إلي «هاشمية» جارية «حمدونة»، في حاجات صاحبتها، فأجمع نفسي لها، وأطرد الخواطر من فكري، وأحضر ذهني جهدي، خوفا من أن تورد علي ما لا أفهمه، لبعد غورها واقتدارها، على أن تجري على لسانها ما في قلبها.» وكذلك ما يؤثرعن خالصة وعتبة جاريتي ريطة بنت أبي العباس.
37 »
ويقول المسعودي: «لما أفضت الخلافة إلى المتوكل أهدى إليه ابن طاهر هدية فيها مائة وصيف ووصيفة، وفي الهدية جارية يقال لها «محبوبة»، كانت لرجل من أهل الطائف قد أدبها وثقفها، وعلمها من صنوف العلم، وكانت تحسن كل ما يحسنه علماء الناس، فحسن موقعها من المتوكل.»
إذن كانت الجارية كثيرا ما تعلم أدبا، وتعلم فنا، وخاصة الغناء، وكان هذا التعلم يغلي قيمتها أضعاف ثمنها؛ فقد عرضت جارية بثلاثمائة دينار، فلما علمها إبراهيم بن المهدي الغناء عرض في ثمنها ثلاثة آلاف دينار،
38
وقد بيعت عريب المغنية الشهيرة بخمسة آلاف دينار.
39
ودحمان يشتري جارية بمائتي دينار، فيعلمها ويبيعها بعشرة آلاف دينار،
40
واشترى الرشيد جارية من الموصلي بستة وثلاثين ألف دينار يحسبها من بابته،
41
إلى كثير من أمثال ذلك.
وقد كان إبراهيم الموصلي مغني الرشيد على ما يظهر، من أكثر الناس نشاطا في تعليم الجواري وتثقيفهن، ومن أسبقهم في التوجيه إلى ذلك، يحدث ابنه فيقول: «لم يكن الناس يعلمون الجارية الحسناء الغناء، وإنما كانوا يعلمونه الصفر والسود، وأول من علم الجواري المثمنات أبي، فإنه بلغ بالقيان كل مبلغ، ورفع من أقدارهن.» وفي ذلك يقول أبو عيينة الشاعر، وكان يهوى جارية يقال لها «أمان»، طلب مولاها فيها ثمنا كبيرا:
قلت لما رأيت مولى أمان
قد طغى سومه بها طغيانا
لا جزى الله الموصلي أبا
إسحاق عنا خيرا ولا إحسانا
جاءنا مرسلا بوحي من الشي
طان أغلى به علينا القيانا
من غناء كأنه سكرات الحب
يصبي القلوب والآذانا
42
وألف هو (إبراهيم الموصلي) ويزيد حوراء شركة لشراء الجواري، وتعليمهن الغناء، والمشاركة في ربحهن.
43 •••
نشر هؤلاء الجواري نوعا من الثقافة كان لا بد منه في مثل مدنية العباسيين، وهو لا بد منه في كل مدنية، وأعني بذلك الفنون الجميلة، وما يتبعها من رقي في الذوق الفني؛ فقد كان بجانب الحركة العلمية في ذلك العصر حركة أخرى لا تقل عنها شأنا، وهي الحركة الفنية من غناء وتصوير ورقص، والحق أن الناس شعروا إذ ذاك شعورا قويا بالجمال، وتفنن شعرائهم (وخاصة مسلم بن الوليد، وأبا نواس) في وصف الجمال والولوع به، وقراءته من غير ملل، كما قال أبو نواس:
للحسن في وجناته بدع
ما إن يمل الدرس قاريها
ويحكي الجاحظ: أن من رأى الديك والدجاجة يشربان الماء، وكان عطشانا ذهب عطشه من قبح حسو الديك والدجاجة، ومن رأى الحمام يشرب الماء، وكان ريان يشتهي أن يكون فيه في الماء لجمال شربه.
44
وهذا من غير شك يدل على شعور بالجمال قوي، وكان العتابي يعد جمال كل مجلس أن يكون سقفه أحمر، وبساطه أحمر، ويقول بشار:
هجان عليها حمرة في بياضها
تروق بها العينين والحسن أحمر
45
وشعروا بجمال المعنى، كما شعروا بجمال الصورة؛ فأكثروا من القول في جمال الروح وجمال الحديث. فيقول بشار:
وكأن رجع حديثها
قطع الرياض كسين زهرا
وكأن تحت لسانها
هاروت ينفث فيه سحرا
ويقول:
وبكر كنوار الرياض حديثها
تروق بوجه واضح وقوام
والحق إن الجواري كن أكبر عامل في نشر الشعور بالجمال، وما يتبعه من فنون جميلة، وأن الناس في العصر الذي نؤرخه لم يكتفوا بالجواري من ناحية جمالهن الخلقي، بل شغفوا بهن من ناحية الجمال الفني أيضا، ليجمعوا بين الجمالين. كانوا يميلون إلى الغناء وإلى الرقص، وإلى التفنن في الملبس، وإلى غير ذلك من ضروب الفن، فأخذوا يعلمون الجواري هذه الفنون، وسرعان ما تحول النبوغ فيها من الرجال إلى الجواري، وأخذ نوابغ المغنيين يلقنون جواريهم ألحانهم وأصواتهم وطريقة غنائهم؛ فإبراهيم الموصلي يعلم جواريه فنه حتى يحسنه، وعبد الله بن طاهر كان يعلم الغناء علما تاما؛ فيصنع الأصوات يلقنها لجواريه، والمغنون ينقسمون إلى حزبين: حزب القديم، وحزب الجديد، فينقسم الجواري إلى قسمين تبعا لمن أخذن الفن عنهم، وامتلأ كتاب الأغاني بتراجم الجواري المغنيات؛ أمثال عريب ومتيم وبذل وذات الخال وفريدة وأمثالهن، وعقد الفصول الطوال في نوادرهن، وميزة كل منهن، ونوع تفوقهن.
والآن نذكر طرفا من أنواع الفنون التي نشرنها:
فأول ذلك الغناء، وقد غمرن العراق بالغناء الجيد، وما يتبعه من لهو ومجون، وقد كان هؤلاء الجواري في هذا على نوعين؛ جوار مغنيات للخاصة، فالخليفة له جوار يغنينه، والأمراء والأغنياء كذلك، ثم هم يتهادون هذه الجواري حبا في التجدد، وفرارا من الاقتصار على صوت واحد.
وهناك نوع آخر، وهو قيان عامة، وأكثر ما يكون أن نخاسا يملكهن، فيعرضهن للغناء في محال يأوي إليها الفتيان لسماعهن، والإنفاق عليهن، ومن نماذج ذلك ما حكاه لنا صاحب الأغاني عن ابن رامين؛ فقد كان له منزل بالكوفة، وله جوار مغنيات أشهرهن اسمها «سلامة الزرقاء»، وكان أجل مقين بالكوفة، يجتمع في بيته الفتيان للسماع والشراب، ويقولون فيه وفي قيناته الشعر. وممن كان يختلف إليه روح بن حاتم المهلبي، ومحمد بن الأشعث، ومعن بن زائدة، وابن المقفع، وأمثالهم يسمعون وينفقون عن سعة، وينشدون أشعار الغزل. ولما خرج ابن رامين حاجا بجواريه بكى الشعراء لخروجه، ووصفوا لوعتهم من فرقة مجلسه، كما وصفوا كثرة الناس الذين كانوا يغشون بيته؛ من ذلك قول أحدهم:
أية حال يا ابن رامين
حال المحبين المساكين
تركتهم موتى ولم يتلفوا
قد جرعوا منك الأمرين
وسرت في ركب على طية
ركب تهام ويمانين
يا راعي الذود لقد رعتهم
ويلك من روع المحبين
فرقت جمعا لا يرى مثلهم
بين دروب الروم والصين
46
وفي الحق إن هذا النوع من الجواري أثر أثرا سيئا في نشر الخلاعة والمجون، ومن قرأ رسالة القيان المنسوبة للجاحظ، أو قرأ وصف «الوشاء» في باب ذم القيان، في كتابه «الموشى»؛ أدرك ما كان لهن من أثر ترى ظله في شعر الشعراء الخليعين في ذلك العصر، وما كان أكثرهم!
47
ويعلل الجاحظ فساد هؤلاء الفتيات بقوله: «وكيف تسلم القينة من الفتنة، أو يمكنها أن تكون عفيفة؟ وإنما تكتسب الأهواء، وتتعلم الألسن والأخلاق بالمنشأ، وهي إنما تنشأ من لدن مولاها إلى أوان وفاتها فيما يصد عن ذكر الله من لهو الحديث، وبين الخلعاء والمجان، ومن لا يسمع منه كلمة جد، ولا يرجع منه إلى ثقة ولا دين، ولا صيانة مروءة، وتروي الحاذقة منهن أربعة آلاف صوت فصاعدا، يكون الصوت فيما بين البيتين إلى أربعة أبيات، عدا ما يدخل في ذلك من الشعر، إذا ضرب بعضه ببعض كان من ذلك عشرة آلاف بيت، ليس فيها ذكر الله إلا عن غفلة، ولا ترهيب من عقاب، ولا ترغيب في ثواب، وإنما بنيت كلها على ذكر العشق والصبوة والشوق، ثم لا تنفك من الدراسة لصناعتها، منكبة عليها تأخذ من المطارحين الذين طرحهم كله تجميش! وهي مضطرة إلى ذلك لأنها إن أهملتها نقصت، وإن لم تستفد منها وقفت، وكل واقف فإلى نقصان أقرب.»
48
وغير هذا نشر الجواري أنواعا من الظرافة، قلدهن فيها الناس، وجروا على أثرهن، كحب الأزهار وتعشقها، فيحدثنا «الأغاني» أن «متما» جارية علي بن هشام «كان يعجبها البنفسج جدا، وكان عندها أثر من كل ريحان وطيب، حتى إنها من شدة إعجابها لا يكاد يخلو من كمها الريحان، ولا تراه إلا كما قطف من البستان.»
49
وفطن الناس إذ ذاك إلى دلالة الأزهار على المعاني فيقول شاعرهم:
أهدت إليه بنفسجا يسليه
تنبيه أن بنفسها تفديه
فارتاح بعد صبابة وكآبة
ورجا لحسن الظن أن تدنيه
ويقول آخر:
سر بالآس الذي أهدت له
ثم لما أهدت الورد جزع
ذاك أن الآس باق دائم
ولأن الورد حينا ينقطع
ونوع آخر ظريف انتشر بينهم، وهو كتابة الأشعار الرقيقة والجمل الظريفة تطريزا على الأقمصة والأردية والأكمام ونحوها. قال الماوردي: رأيت جارية ونحن عند محمد بن عمرو بن مسعدة عليها قميص مكتوب في وشاحه:
أغيب عنك بود لا يغيره
نأي المحل، ولا صرف من الزمن
وعلى طراز الرداء:
أقل الناس في الدنيا سرورا
محب قد نأى عنه الحبيب
وقال: ورأيت جارية لبعض الهاشميين، يقال لها عريب، عليها قميص موشح بالذهب، مكتوب في وشاحه:
وإني لأهواه مسيئا ومحسنا
وأقضي على قلبي له بالذي يقضي
فحتى متى روح الرضا لا ينالني
وحتى متى أيام سخطك لا تمضي
وكتبن على العصائب، ومشاد الطرز والذوائب، والزنانير والمناديل والوسائد والبسط، والأسرة والكلل والنعال والخفاف، وبالحناء على الأقدام والراح.
50
ونجح هؤلاء الجواري في إشعار الناس بالظرف، والتزام حدوده، حتى أصبح للظرفاء عرف خاص في الزي والنظر، والطعام والشراب، وما إلى ذلك. وحتى أخذ «الوشاء» هذا العرف، ودونه قانونا للظرفاء في كتابه «الموشى».
ولسنا نرجع الفضل في ذلك كله للجواري؛ فإن لمواليهم أيضا أثرا لا ينكر، فإبراهيم الموصلي وأمثاله من المغنين هم الذين علموا الجواري غناءهم، ولقنوهن أصواتهم، والطبقة الراقية هي التي أوحت إلى الجواري ضروب الظرافة، ولكن مما لا شك فيه أنه قد كان للجواري الفضل في نشر هذه الفنون الجميلة بين طبقات الشعب المختلفة؛ لأنهم كانوا أكثر ولوعا بهن، وأشد تقليدا لهن، وأميل للتخلق بما يستحسن.
وكان للجواري فضل آخر، وهو أنهن من أمم مختلفة كما رأيت؛ فهنديات، وتركيات، وروميات، وغير ذلك، وقد كان كل صنف يجلب وقد تكونت عاداته أو كادت؛ فالروميات تحملن عادات قومهن في الغناء وضروب الظرافة، وهكذا بقية الأمم، ثم أتين المملكة الإسلامية فنشرن عاداتهن، ووقعت أبصارهن على عادات غيرهن، فخضع ذلك كله لقانون الانتخاب. ومن أجل ذلك كان الغناء غناء منتخبا، وهذا ما يفسر النزاع الشديد الذي حكاه الأغاني من طائفة تتعصب للقديم، وأخرى تتعصب للجديد، وما الجديد إلا ما أدخل عليه من نغمات فارسية ورومية، وكذلك سائر الفنون.
وفن آخر كان للجواري أثر كبير فيه، كأثرهن في سائر الفنون الجميلة، ذلك هو «الأدب». ونرى أن للمرأة في كل أمة وفي كل عصر فضلا على الأدب من ناحيتين؛ الأولى: ما تثيره في نفوس الرجال من عاطفة قوية تجيش في صدورهم، فتخرج على ألسنتهم شعرا رقيقا وأدبا ممتعا، والثانية: مشاركة المرأة الرجل في إخراج القطع الفنية والأدبية في المواضيع التي تمس شعورهن، وهن عليها أقدر!
كان هذا هو الشأن في العصر العباسي، ويظهر لنا أن «الجواري» كن أنشط من «الحرائر » في النوعين معا؛ أعني في ناحية الإنشاء الأدبي ، وفي ناحية الإيحاء إلى الشعراء. ويرجع السبب في ذلك إلى النظام الاجتماعي إذ ذاك، فقد كان الناس - كما نقلنا قبل عن الجاحظ - يغارون على الحرائر أكثر مما يغارون على الجواري، ويحجبون الحرة، ويشددون في تحجيبها. وإذا أراد أحد أن يتزوجها بعث «بخاطبة» تنظر إليها، وتصف للرجل محاسنها وعيوبها، أما هو فلا يراها إلا بعد الزواج. ولكن الجارية شأنها غير ذلك؛ فهو لا يعير بها كما يعير بقريبته الحرة، ثم هي سافرة إلى حد بعيد، بحكم أنها في كل وقت عرضة لأن تباع وتشرى، وهي تقضي للرجل حوائجه، وإذا أراد أحد من عامة الناس أن يستمع لغناء، أو يلهو بالقينات في بيوت المقينين فهن اللائي يغذين ميله إلى السماع، ورغبته في اللهو، وهن بحكم سفورهن اللائي يقع عليهن نظر الناس. أما الحرائر فلا يقع عليهن إلا نظر أقاربهن؛ لذلك كان طبيعيا أن الأدباء والشعراء يغذون أدبهم وشعرهم بالجواري، أكثر مما يغذونه بالحرائر. ومن ناحية أخرى فقد عني الرجال بتعليم الجواري كما يظهر أكثر من عنايتهم بتعليم الحرائر، ودعاهم إلى ذلك الناحية التجارية؛ فقد رأيت أن علم الجارية وأدبها كان يقوم في سوق الرقيق بأكثر ما يقوم بدنها، وأن الجارية إذا قومت بمائتي دينار جاهلة، قومت بأضعاف ذلك مغنية أو أديبة، والمال في كل عصر هو قوام الحركات الاجتماعية، أما الحرائر فلم يكن يعنى بتعليمهن وتربيتهن إلا طبقة قليلة، وهي طبقة الأشراف ومن في حكمهم وقليل ما هم. وسبب آخر: وهو أن الناس كانوا يرون أن الجواري هن ملهى الرجال، فحاول القائمون بأمورهن أن يرقوا هذه الملاهي بكل ما يتطلبه اللاهون، ورأوا أن الجارية إذا كانت مغنية أديبة موسيقية شاعرة كان ذلك أفعل في قلوب الرجال، فلم يألوا جهدا في تحقيق مطالبهم.
نعم نجد كثيرا من الحرائر اشتغلن ببعض العلوم، ولكن أكثر ما اشتغلن به كان الباعث عليه دينيا ككثير من المحدثات والمتصوفات. ولكن هذا ليس موضوعنا هنا، إنما موضوعنا الاشتغال بالفنون، والجواري من غير شك في هذا الباب كن أكثر وأظهر .
مصداق ذلك أنا نجد من الناحية الإنشائية كثيرا من الجواري أدبيات متفننات، لا يدانيهن في ذلك الحرائر، فيقول الأغاني في عريب: «كانت مغنية محسنة، وشاعرة صالحة الشعر، وكانت مليحة الخط والمذهب في الكلام، ونهاية في الحسن والجمال والظرف وحسن الصورة، وجودة الضرب، وإتقان الصنعة والمعرفة بالنغم والأوتار، والرواية للشعر والأدب.»
51
ويقول في «متيم»: «كانت صفراء مولدة من مولدات البصرة، وبها نشأت وتأدبت وغنت، وأخذت عن «إسحاق الموصلي» وعن أبيه من قبله، وكانت من أحسن الناس وجها وغناء وأدبا، وكانت تقول الشعر ليس مما يستجاد، ولكنه يستحسن من مثلها.»
52
ويقول في «دنانير» جارية يحيى بن خالد البرمكي: «كانت من أحسن الناس وجها، وأظرفهم وأكملهم، وأحسنهم أدبا، وأكثرهم رواية للغناء والشعر.»
ومن الناحية الأخرى كان الجواري أكثر إيحاء للشعراء بمعاني الشعر للسبب الذي بينا، فبشار يعشق جارية يقال لها «فاطمة»، سمعها تغني فهويها، وقال فيها الشعر، كما قال الشعر في جارية له سوداء. وحياة دعبل الخزاعي، ومسلم بن الوليد (صريع الغواني) مملوءة بما حدث لهم مع الجواري والشعر فيهن، وأبو نواس كان يهوى جارية اسمها «جنان»؛ وهي جارية لآل عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، وكانت جميلة أديبة تعرف الأخبار وتروي الأشعار، يقال: إن أبا نواس لم يصدق في حبه امرأة غيرها، وقد أكثر فيها من بدائع شعره، وشغف العباس بن الأحنف بفوز، وكانت جارية لمحمد بن منصور، فأتى في شعره فيها بالممتع.
هذا قليل من كثير مما ملئت به كتب الأدب من شعر وقصص، ومما كان بين الفتيان والشعراء والأدباء، وبين الجواري في ذلك العصر.
ولئن اغتبط الأدباء بما أنتجته هذه الحالة الاجتماعية من شعر رقيق، وفن بديع، فإن رجال الدين والخلق ساءهم ما نتج عن ذلك من لهو خليع، واستهتار شنيع. وأخذ الأولون يحثون الناس على الاستمتاع بهذه الحياة وجني ثمارها، وأخذ الآخرون ينعون على الناس لهوهم وفجورهم، ثم يفرون من هذا كله إلى الزهد في الحياة، والهرب من لذائذها، كما سنعرض ذلك في الفصل التالي.
الفصل الخامس
حياة اللهو وحياة الجد
هل كان الناس يعيشون في ذلك العصر عيشة ترف ونعيم، ولهو ومجون، أو عيشة جد وعفة؟ وهل كان الخلفاء العباسيون الأولون يتحرون أوامر الدين ويتقيدون بها، ولا ينعمون إلا بما أحل الله، كما يصورهم بعض المؤرخين، أو هم تحللوا من كثير من القيود، وأسرفوا في اللهو كما يصوره آخرون؟ وهل كانت حالة الشعب رخية سعيدة، أو بائسة شقية؟ وما أثر ذلك كله في العلم والفن والأدب؟
ذلك ما نحاول الإجابة عنه في هذا الفصل. •••
إذا نحن نظرنا نظرة عامة لنقارن بين الحياة الأموية، والحياة العباسية وجدنا الأولى أقل تكلفا، وأكثر سذاجة، وأدل على الذوق العربي البدوي البسيط. وأكبر ظاهرة تراها أن سيطرة العنصر العربي في العهد الأموي صبغته بهذه الصبغة، وجعلته إذا أراد الترف والنعيم، تخير من ترف الأمم الأخرى ونعيمها، ولم يأخذه كما هو بحذافيره، ثم هو يعدل فيه حسب ذوقه وميوله، ويجعله شيئا آخر عربيا لا فارسيا صرفا، ولا روميا صرفا. رأوا الموائد الفارسية، وأدخل الخلفاء والأمراء على موائدهم نوعا من التحسين، ولكن لم يكن العربي البدوي إذا دخل على معاوية أو عبد الملك يشعر بأنه في جو آخر بعيد كل البعد عما يعرفه.
روى ابن خلدون: «أن الحجاج أولم في اختتان بعض ولده، فاستحضر بعض الدهاقين يسأله عن ولائم الفرس، وقال: أخبرني بأعظم صنيع شهدته. فقال له: نعم أيها الأمير، شهدت بعض مرازبة كسرى، وقد صنع لأهل فارس صنيعا، أحضر فيه صحاف الذهب على أخونة الفضة (أربعا على كل واحد)، وتحمله أربع وصائف، ويجلس عليه أربعة من الناس؛ فإذا طعموا أتبعوا أربعتهم المائدة بصحائفها، ووصائفها. فقال الحجاج: يا غلام انحر الجزر وأطعم الناس.»
1
كأنه كره ذلك واستعظمه، ونبا عن ذوقه العربي، وعده فخفخة كاذبة، وأبهة لا يستسيغها، فنفر من ذلك إلى عادات قومه. وكذلك شأنهم في الدواوين، وضروب الحضارة الأخرى. وعلى الجملة فالذوق العربي واضح كل الوضوح في العهد الأموي، والعلاقة بين دمشق ومكة والمدينة، وأعني من الناحية الاجتماعية لا السياسية علاقة متينة، يتفاهمون كل الفهم، ويتذاوقون كل الذوق، والإسلام مفهوم لديهم في بساطته وتقاليده على نحو أحسن مما فهم به في العصر العباسي.
أما العباسيون فلم يكن شأنهم كذلك، لئن كان الأمويون ينقلون إليهم بعض العادات مع صبغها بصبغتهم، فالعباسيون كانوا هم الذي ينتقلون بحذافيرهم إلى العادات الجديدة، والتقاليد الجديدة. خذ لذلك مثلا «النيروز»؛ كان عيدا للفرس قديما، ولم نسمع في العهد الأموي أن كان له شأن ذو بال، ولكن العباسيين اتخذوه عيدا قوميا يحفلون به حفلهم بعيد الفطر، ويتبارون فيه بالهدايا والقصائد، ويجلس فيه الخلفاء للتهنئة. وقل مثل ذلك في الأزياء؛ فانتشرت القلنسوة الطويلة، وضروب الأزياء الفارسية، اتخذ القضاة القلانس العظام، واتخذ الخلفاء العمائم على القلانس، وتفننوا في العمامة ونوعوها تبعا للطبقات كما كان يفعل الفرس؛ فللخلفاء عمة، وللفقهاء عمة، وللبغالين عمة، وللأعراب عمة. ولكل قوم زي؛ فللقضاء زي، ولأصحاب القضاء زي، وللشرط زي. وأصحاب السلطان على مراتب، ولكل مرتبة زي؛ فمنهم من يلبس المبطنة، ومنهم من يلبس الدراعة، ومنهم من يلبس «البازيكند». وكانت الشعراء تلبس الوشي والمقطعات، والأردية السود. وقد كان شاعر في هذا العصر يتزيا بزي الماضين فهجاه بعض الشعراء.
2
والخلفاء الأمويون إذا وهبوا فإنما كانت أكثر جوائزهم الإبل، أخذا بمذاهب العرب وبداوتهم. أما في دولة بني العباس فجوائزهم كانت أحمال المال، وتخوت الثياب، والخيل بمراكبها.
3
وعلى الجملة فقد انتقل الناس في العهد العباسي إلى عادات الأمم الأخرى وتقاليدهم، وأفرطوا في ذلك كل الإفراط، على العكس من العهد الأموي، ومن ثم انقطعت الصلات الاجتماعية والمشاكلات بين المسلمين في العراق والمسلمين في جزيرة العرب، أو كادت. ويحدثنا الأغاني حديثا طريفا عن ناهض بن ثومة؛ وهو شاعر بدوي جاف من الشعراء في العهد العباسي، شهد حفلة عرس في حلب فدار عقله واختبل فكره مما رأى، مما لا عهد له به في البادية، عجب وأفرط في العجب من الاحتفاء بالعروس، ومن ألوان الملابس، ومن ألوان الأطعمة والشراب، ومن آلات الغناء الفارسية، حتى أمعن الناس في الضحك من إمعانه في الغفلة!
4
ولقد كان يجن حقا لو شهد حفلة العرس هذه في بغداد. •••
أفرط قوم من الناس في هذا العصر في اللذائذ يتحرونها، ويتفننون في الاستمتاع بها، وكلما ملوا نوعا ابتكروا نوعا، وإذا أخذوا يهدءون نشط الدعاة يستحثونهم على الإغراق فيها، والأخذ بأكبر حظ منها. ونحن إذا تتبعنا تاريخ الدولة العباسية في هذا الباب وجدنا أن الدولة كانت تسير خطوات متدرجة إلى هذه الغاية، وأن كل خليفة كان يعلو غالبا درجة في سلم الترف والنعيم عمن قبله. وأننا لو خططنا رسما بيانيا لاتجه صاعدا باستمرار في عصر كل خليفة تقريبا، والناس في كل عصر وخاصة في هذه العصور تبع لإمامهم.
بدأت الدولة العباسية، وحولها أعداء كثيرون؛ من أمويين وصنائعهم، ولما اختير للخلافة السفاح ثم المنصور غضب كثيرون من البيت العباسي نفسه، وغضب شيعة علي، فكان لابد لقيام الدولة من خلفاء جادين غير لاهين، يصرفون كل وقتهم في تأسيس الدولة، واصطناع الموالين، وكبح جماح الثائرين، وسفك دم الخارجين، حتى إذا انتهى هذا الدور، ومهدت الأمور، وقتل الخارجون، واستكان أمثالهم؛ هدأت الدولة، فكان أمام الخليفة الذي يأتي بعد وقت من الفراغ والهدوء يجد فيه متسعا لشيء من اللهو والترف والنعيم، ولكن ليس يجد كل وقته، فعليه تنظيم داخل المملكة، بعد أن كان أكثرهم من قبله موجها إلى تنظيم الأمور الخارجية، حتى إذا استتب الخارج والداخل جاء خلفاء، وقد جرت الأمور في نصابها، وسارت على الأسس التي شيد الأولون بنيانها، ورأى هؤلاء الخلفاء المال الكثير يجبى إليهم في سعة، من جراء ما وضع الأولون من حماية للخارج، وتنظيم للداخل، فنعموا وأسرفوا في النعيم، وكان من وقتهم متسع لذلك كله!
كان يمثل هذه الأدوار تماما الخلفاء العباسيون، وتاريخهم شاهد على ما نقول؛ فأبو العباس السفاح (أولهم) كان يؤثر الجد والعلم على ضرب اللهو، يقول: «إنما العجب ممن يترك أن يزداد علما، ويختار أن يزداد جهلا! فقال له أبو بكر الهذلي: ما تأويل هذا الكلام يا أمير المؤمنين؟ قال يترك مجالسة مثلك وأمثال أصحابك، ويدخل إلى امرأة أو جارية، فلا يزال يسمع سخفا، ويروي نقصا!». ولما تزوج أم سلمة حلف لها ألا يتزوج عليها ولا يتسرى، وحاول بعض المقربين إليه في خلافته أن يوسوس إليه، ويثير ملاذه وشهواته بذكر الجواري وأنواعهن فلم يفلح.
5
وكانت حياته حياة سفك للدماء،
6
وقضاء على المعارضين.
ووليه المنصور، وهو رجل الدولة العباسية ومؤسس بنيانها، الذي قضى على أعدائه وأعدائها من أهل بيته، ومن غيرهم؛ فلم يكن له في اللهو مجال. روى الطبري عن يحيى بن سليم قال: «لم ير في دار المنصور لهو قط، ولا شيء يشبه اللهو واللعب والعبث إلا يوما واحدا، فإنا رأينا ابنا له يقال له عبد العزيز (توفي وهو حدث) قد خرج على الناس متنكبا قوسا متعمما بعمامة، مترديا برداء في هيئة غلام أعرابي، راكبا على قعود، بين جوالقين فيهما مقل ونعال، ومساويك، وما يهديه الأعراب، فعجب الناس من ذلك وأنكروه، فعبر الغلام الجسر، وأتى المهدي بالرصافة فأهدى إليه ذلك، فقبل المهدي ما في الجوالقين وملأهما دراهم،. وانصرف الغلام، فعلم أنه ضرب من عبث الملوك.»
7
وترى من هذا أن الناس أنكروا العمل على بساطته ولطافته؛ لأنهم لم يألفوا شيئا من اللهو. وسمع المنصور جلبة في داره فقال: ما هذا؟ قالوا: خادم جلس بين الجواري، وهو يضرب لهن بالطنبور، وهن يضحكن، فقام حتى أشرف عليهم فرآهم فلما بصروا به تفرقوا، فأمر فضرب رأس الخادم بالطنبور حتى تكسر الطنبور، ثم أمر بالخادم فبيع.
8
وكان حازما لا لهو له، يشعر بالتبعة، ويضطلع بها، ولما سمع شعر طريف بن تميم العنبري:
إن قناتي لنبع لا يؤيسها
غمز الثقاف ولا دهن ولا نار
متى أجر خائفا تأمن مسارحه
وإن أخف آمنا تقلق به الدار
إن الأمور إذا أوردتها صدرت
إن الأمور لها ورد وإصدار
قال: أنا أحق ببيتيه منه، وأنا الذي وصف لا هو. وكانت ما تزال به بقية من بداوة، وميل إلى البساطة؛ بلغه أن عبد الله بن مصعب بن الزبير قد اصطبح مع جارية تغنيه بشعر له فيه غزل، وفيه استهتار، فقال المنصور: لكن الذي يعجبني أن يحدو بي الحادي الليلة بشعر طريف العنبري؛ فهو آلف وأحرى أن يختاره أهل العقل. فدعا حاديا يحدو له، وألقى عليه شعرا في الفخر بمكارم الأخلاق، فحداه به فقال المنصور: هذا والله أحث على المروءة، وأشبه بأهل الأدب. ثم عاد الربيع، وقال: أعطه درهما. فقال: يا أمير المؤمنين حدوت بهشام بن عبد الملك فأمر لي بعشرين ألف درهم، وتأمر لي أنت بدرهم! فقال: إنا لله، ذكرت ما لم نحب أن تذكره؛ وصفت رجلا ظالما أخذ مال الله من غير حله، وأنفقه في غير حقه، يا ربيع اشدد يديك به حتى يرد المال. فما زال الحادي يبكي ويتشفع حتى كف عنه.
9
وهو كذلك لا يحب الشراب، ولا يشرب على مائدته شراب، ولما قدم بختيشوع الطبيب عليه أمر المنصور بطعام يتغذى به، فلما وضعت المائدة بين يديه طلب شرابا؛ فقيل له: لا يشرب على مائدة أمير المؤمنين. فقال: لا آكل طعاما ليس معه شراب. فأخبر المنصور بذلك فقال: دعوه.
10
ثم هو لا يسرف في عطاء لحاد ولا لشاعر ولا لمادح، ويؤنب أولاده إذا أسرفوا في العطاء، ولا يتعالى في ثوب يلبسه، ولا مائدة تمد إليه، إنما هو مقتصد في كل ضروب الحياة، مقتصد حتى فيما أحل الله، وربما غلا في الا قتصاد غلو من بعده في الإسراف. لقد زعموا: أن أمه المغربية لما حملت به رأت أنها وضعت أسدا سجدت له الأسد، والحق أنه لولا أن له همة أسد يعاف الصغائر، ولا يشغله لهو عن تدبير، ما استطاع أن يؤسس هذه المملكة، ويخلفها لمن أتى بعده مضبوطة محكمة، لا تحتاج منه إلا أن يحفظ ما ورث.
أسلم المنصور البلاد، وهي وحدة لم يشذ عنها إلا الأندلس، وهي هادئة مطمئنة لا تؤذن بفتن ذات بال، والخزائن مملوءة بالمال، والعرب من سكان المملكة آخذون في الانكماش، قد ضعف سلطانهم ونفوذهم، والموالي يطاردونهم ليحصروهم في جزيرة العرب، بدوا كما كانوا في الجاهلية، ويحلون محل العادات العربية عادات فارسية، ومحل البساطة في العيش العربي التعقد في العيش الحضري. وعلى الجملة فقد طرأ دور آخر يجد فيه الخليفة والناس على أثره وقتا للفراغ والجدة، ومصدرا خصبا للترف والنعيم.
أخذ الناس يشعرون بعد موت المنصور بشيء من الراحة، وقد أجهدوا أنفسهم في عهده بما يتطلبه تأسيس دولة من مشقة، وتذليل صعوبات جمة، وملوا الإفراط في الجد والاقتصاد اللذين اتصف بهما المنصور، وتطلعوا لحياة فيها سعة في المال، وطرف من النعيم؛ فوجدوا ذلك في الخليفة «المهدي». وفي الحق إن السنوات العشر التي حكمها كانت جسرا بين حياة الجد والجفاف، والعمل في عصر المنصور، وحياة الترف والنعيم في عصر الرشيد ومن بعده.
كان المهدي سخيا كريما؛ فتنفس الناس من شح المنصور. لقد خلف المنصور أربعة عشر مليون دينار، وستمائة مليون درهم،
11
ففرقها المهدي في الناس، سوى ما جبي في أيامه. وكثرة المال في كل جيل وفي كل عصر داعية الترف والنعيم، واللهو واللعب، ومن ثم أخذ الناس يقدرون فضيلة الكرم تقديرا أعلى مما كانوا يقدرونه في عصر المنصور، وأخذوا يذمون البخل ذما شنيعا، ويقصون عن البخلاء قصصا فكهة لاذعة، ربما كان من آثارها وضع الجاحظ لكتاب «البخلاء».
اجتمع في المهدي حب للفنون الجميلة، وميل شديد إلى الكرم؛ فجرى الناس على أثره، وأنفقوا الأموال على الفنانين فرقي الفن، وبدأ ينتشر بين طبقات الشعب. أخذ المهدي يجلس للمغنين، ويسمع غناءهم بعد أن كان أبوه المنصور يستلذ الحداء، فيحدثنا «الأغاني» «أن المهدي كان يسمع المغنين جميعا، ويحضرون مجلسه فيغنونه من وراء الستارة لا يرون له وجها»، إلا فليح بن أبي العوراء «فقد سأله في بيتين أن ينادمه فأحضره مجلسه بين أهله ومواليه، فكان فليح أول من عاين وجهه في مجلسهم.»
12
ويقول صاحب كتاب أخلاق الملوك: «كان المهدي في أول أمره يحتجب عن الندماء متشبها بالمنصور نحوا من سنة، ثم ظهر لهم فأشار عليهم «أبو عون» بأن يحتجب عنهم، فقال «المهدي»: إليك عني يا جاهل إنما اللذة في مشاهدة السرور، وفي الدنو ممن سرني، فأما من وراء وراء فما خيرها ولذتها؟»
13
وأثاب على ذلك الأمور الكثيرة، على عكس أبيه؛ «فقد كان المنصور لا يثيب أحدا من ندمائه وغيرهم درهما، فيكون له رسما في ديوان، ولم يقطع أحدا ممن كان يضاف إلى ملهية أو ضحك أو هزل موضع قدم من الأرض. أما المهدي فكان كثير العطايا يواترها، قل من حضره إلا أغناه.»
14
وحسبك بالمهدي أنه تخرج في قصره ولداه زينة الدنيا، وبهجة عصرهما في الظرف والغناء: إبراهيم بن المهدي وعلية بنت المهدي.
وكان كذلك يحب القيان، ويحب الحديث عن النساء في غير دعارة، ذكر الجاحظ: «أن المهدي كان يحب القيان وسماع الغناء، وكان معجبا بجارية يقال لها «جوهر»، كان اشتراها من مروان الشامي، وله فيها شعر.»
15
وقد اتفق صاحب الأغاني والطبري على أنه لم يكن يشرب النبيذ، ولكنه في هذا أيضا خطا خطوة أخرى وراء أبي جعفر؛ فقد رأينا المنصور لا يشربه، ولا يسمح لأحد أن يشربه على مائدته. أما المهدي فيذكر الطبري أنه ما كان يشربه، ولكن لا تحرجا، بل كان لا يشتهيه، وكان أصحابه يشربون عنده بحيث يراهم، وكان وزيره يعقوب بن داود يعظه في ذلك، ويلح عليه في حسمه عن السماع، وإسقائه النبيذ، ويهدده بالتخلي عن منصبه، والمهدي يحتج بأن عبد الله بن جعفر كان يسمع.
16
كذلك كان المهدي مترفا في ملبسه ومأكله، يحمل إليه الثلج إلى مكة وهو يحج! وكان أول خليفة فعل ذلك.
والحق إن المهدي على ما يظهر كان معتدلا في لهوه وترفه، ولكن ما كاد يرخي للناس العنان في هذا السبيل حتى استطابوه، وأفرط فيه المستهترون، ولم يقفوا عند حد. لم يجرءوا في عهد المنصور أن يستهتروا لأنه ضرب لهم مثلا من نفسه بالجد والحزم، فلما رأوا المهدي يخطو خطوة جرواهم وقفزوا، وبلي الناس في عهده ببشار يبث فيهم غزله المكشوف، ويفتنهم بشعره الداعر، ويملأ البلاد بالحث على المغازلة، حتى ضج الأشراف إلى المهدي من شعره؛ مثل يزيد بن منصور خال المهدي، وطلبوا إليه أن يقف هذا التيار لما خافوا على نسائهم وبناتهم، فتدخل المهدي حينئذ، ونهى بشارا عن الغزل فيقول:
قد عشت بين الريحان والراح وال
مزهر في ظل مجلس حسن
وقد ملأت البلاد ما بين ف
غفور إلى القيروان فاليمن
17
شعرا تصلي له العواتق والث
يب صلاة الغواة للوثن
ثم نهاني المهدي فانصرفت
نفسي صنيع الموفق اللقن
فالحمد لله لا شريك له
ليس بباق شيء على الزمن
ومع هذا ظل في خبث يتغزل من طريق خفي، ويحتمي بنهي المهدي، فيقول:
يا منظرا حسنا رأيته
من وجه جارية فديته
بعثت إلي تسومني
ثوب الشباب وقد طويته
والله رب محمد
ما إن غدرت ولا نويته
أمسكت عنه وربما
عرض البلاء وما ابتغيته
إن الخليفة قد أبى
وإذا أبى شيئا أبيته
ونهاني الملك الهما
م عن النساء فما عصيته
بل قد وفيت، ولم أضع
عهدا، ولا وأيا وأيته
18
وأنا المطل على العدى
وإذا غلا الحمد اشتريته
وأميل في أنس النديم
من الحياء وما اشتهيته
ويشوقني بيت الحبيب
إذا غدوت وأين بيته
حال الخليفة دونه
فصبرت عنه وما قليته
ويقول:
دفنت الهوى حيا فلست بزائر
سليمى ولا صفراء ما قرقر القمري
وتركت لمهدي الأنام وصالها
وراعيت عهدا بيننا ليس بالختر
19
ولولا أمير المؤمنين محمد
لقبلت فاها أو لكان بها فطري
لعمري لقد أوقرت نفسي خطيئة
فما أنا بالمزداد وقرا على وقر
ثم يبلغ المهدي حسن صوت إبراهيم الموصلي فيقربه إليه، ويكون هو أول من يعلي شأنه، ثم يعلم أن الموصلي يشرب ويستهتر فيريده على ملازمته، وترك الاستهتار، فلا يستطيع الموصلي ذلك فيضربه ويحبسه. يقول إبراهيم الموصلي: إن المهدي دعاني يوما فعاتبني على شربي في منازل الناس، والتبذل معهم فقلت: يا أمير المؤمنين إنما تعلمت هذه الصناعة للذتي وعشرتي لإخواني، ولو أمكنني تركها لتركتها، وجميع ما أنا فيه لله عز وجل. فغضب المهدي غضبا شديدا، وقال: لا تدخل على موسى وهارون ألبتة، فوالله لئن دخلت عليهما لأفعلن ولأصنعن! فقلت: نعم. ثم بلغه أني دخلت عليهما، وشربت معهما، وكانا مستهترين بالنبيذ فضربني ثلثمائة سوط ثم قيدني وحبسني.
20
في الحقيقة إن المهدي فتح للناس باب اللهو، ورسم لهم حدا يقفون عنده فتخطوه، وحاول أن يقفهم عند الحد الذي رسمه بإيقاع العقوبة على من تجاوزه فلم ينجح. •••
انتقل الناس نقلة أخرى من حيث السرف في الترف في عهد الرشيد، ويرجع ذلك إلى أسباب؛ منها ما كان من النشوء الطبيعي للأمة، فكان من انضباط أمورها ما زاد ثروتها، ومكنها من أن تعيش عيشة ناعمة، فقد حكى ابن خلدون: أن دخل المملكة في عهد الرشيد كان في كل سنة 7015 قنطارا.
21
والقنطار في حسابه عشرة آلاف دينار، فيكون مجموع ذلك سبعين مليون ومائة وخمسين ألف دينار. وهي ميزانية ضخمة، تدلنا مهما بولغ فيها على غنى الدولة، وتمكنها من حياة النعيم.
والسبب الثاني: عظم سلطان الفرس في عصره وعلى رأسهم البرامكة، والفرس من قديم يعرفون بالميل إلى اللهو والسرور، والإفراط في حب النبيذ، وقد كانت الديانة الزرادشتية تبيح شرب النبيذ بل تجعله من شعائرها، وما يزال النبيذ كما يقول الأستاذ «براون» إلى اليوم ظاهرة قوية في الحياة اليومية للفرس الزرادشتية. كان الفرس قديما يفرطون في شرب النبيذ، وكانوا يفرطون في سماع الغناء، وكانوا يفرطون في فنون كثيرة من اللهو الطيب، واللهو الخبيث. فلما عاد سلطانهم في الدولة العباسية، وخاصة في عهد الرشيد والمأمون نشروا مع نفوذهم حياة الأكاسرة، وما كان فيها من حضارة ولهو وعبث؛ نقلوا جدهم من نظم سياسية ونحوها، ونقلوا لهوهم من نبيذ ومجالس غناء وغزل، وما إلى ذلك.
وسبب ثالث: يرجع إلى طبيعة «الرشيد» نفسه وتربيته، فيظهر لي أنه كان شابا حاد العاطفة، ولكن ليس من هذا النوع الذي يستسلم كل الاستسلام لشهواته، بل هو مع ذلك قوي النفس، جندي بالغريزة وبالتربية، طالما قاد الجيوش وشرق وغرب، هذه الحدة في العاطفة، وقوة النفس ونضارة الشباب أظهرته بمظاهر مختلفة، يوعظ فيتأثر بالموعظة إلى أن يجهش بالبكاء، ويسمع الغناء فيطرب له كل الطرب، يسمع إبراهيم الموصلي يغني، وبرصوما يزمر، وزلزلا يضرب الدف، فيدعوه الطرب أن يتكلم بكلمة فيها شيء من التورع الديني، يقول: يا آدم لو رأيت من يحضرني من ولدك اليوم لسرك. ثم يندم على قولته فيستغفر الله.
22
نمت عنده العاطفة الدينية، ونمت بجانبها أيضا عاطفة الفنون؛ فهو يصلي، ويكثر من الصلاة، وهو يسمع الغناء فيستجيده، والشعر فيطرب له، تتجه عواطفه إلى جهات مختلفة فيصل فيها إلى نهايتها، يسمع قول أبي العتاهية:
خانك الطرف الطموح
أيها القلب الجموح
لدواعي الخير والشر
دنو ونزوح
هل لمطلوب بذنب
توبة منه نصوح؟
كيف إصلاح قلوب
إنما هن قروح!
أحسن الله بنا أن
الخطايا لا تفوح
سيصير المرء يوما
جسدا ما فيه روح
بين عيني كل حي
علم الموت يلوح
كلنا في غفلة وال
موت يغدو ويروح
لبني الدنيا من الدن
يا غبوق وصبوح
رحن في الوشي وأص
بحن عليهن المسوح
كل نطاح - من الده
ر - له يوم نطوح
نح عى نفسك يا مس
كين إن كنت تنوح
لتموتن وإن عم
رت ما عمر نوح!
فيبكي وينتحب
23
ويرضى عن البرامكة فيعجب بهم كل الإعجاب، ويقربهم كل القرب، ثم يغضب عليهم ويستفز الحساد عواطفه عليهم، فينكل بهم كل التنكيل، ويعجبه الغناء فيقرب إبراهيم الموصلي تقريبه للعلماء والقضاة، ولا يسأل عن مال ينفقه متى استطاع المغني أو الشاعر أن يصل إلى موضع يثير منه إعجابه. تعجبني جملة لصاحب الأغاني يصف بها الرشيد، تمثل خير تمثيل قوة عاطفته؛ إذ يقول: «كان الرشيد من أغزر الناس دموعا في وقت الموعظة، وأشدهم عسفا في وقت الغضب والغلظة.»
24
من أجل ذلك لا عجب أن تراه متدينا شديد التدين، يصلي في اليوم مائة ركعة، وأن تراه حينا غضوبا يسفك الدم لشيء لا يستحق سفك دم، وطروبا يملك الطرب عليه نفسه ومشاعره، وهذه صفات من السهل أن تتصور اجتماعها في شخص واحد.
تقرأ كتاب الأغاني فتخرج منه في كثير من الأحيان على صورة للرشيد يخيل إليك معها أنه عاكف على اللهو والطرب، لا عمل له إلا أن يسمع الغناء، ويخالط الندماء، ويثيب الشعراء، وله العذر في ذلك؛ لأنه لم يؤلف كتابه تاريخا يصف فيه أعمال الخلفاء المختلفة ، ويقومهم بما أتوا من حسنات وسيئات، إنما ألف كتابه في الغناء، فمن الطبيعي أن يقصر قوله على هذا الضرب وما إليه، كما تقصر كتب طبقات النحاة واللغويين كلامها على العلماء من الناحية النحوية واللغوية، وإذا كان هناك خطأ فمن ناحية من يفهم أن الغناء وحده يمثل حياة الرجل المختلفة النزعات.
وتقرأ ابن خلدون فيقصر تصويره على الناحية الجدية والدينية، ويذهب إلى أن الرشيد لم يكن يعاقر الخمر لأنه كان يصحب العلماء والأولياء، ويحافظ على الصلوات والعبادات، ويصلي الصبح في وقته، ويغزو عاما ويحج عاما، ويستدل أيضا بأنه كان من العلم والسذاجة بمكان، لقرب عهده من سلفه، ولم يكن بينه وبين جده أبي جعفر بعيد زمن «إنما كان الرشيد يشرب نبيذ التمر على مذهب أهل العراق، وفتاويهم فيها معروفة، وأما الخمر الصرف فلا سبيل إلى اتهامه بها، ولا تقليد الأخبار الواهية فيها، فلم يكن الرجل بحيث يواقع محرما من أكبر الكبائر عند أهل الملة، ولقد كان أولئك القوم كلهم بمنجاة من ارتكاب السرف والترف في ملابسهم وزينتهم، وسائر متناولاتهم؛ لما كانوا عليه من خشونة البداوة، وسذاجة الدين التي لم يفارقوها.»
25
ونحن مع اتفاقنا في الرأي مع ابن خلدون في أن الرشيد لم يشرب الخمر، إنما المعروف عنه أنه شرب النبيذ، فلسنا نتفق معه على ما يستخلص من قوله من أنه كان بمنجاة من السرف والترف، وأنه كان يعيش عيشة ساذجة، وأنه لم يواقع محرما، فهذا أيضا إفراط في التقديس لا تدل عليه سيرة الرشيد، خصوصا وأن أدلته في هذا النوع أدلة خطابية؛ فقرب عهده من المنصور لا يستوجب أن يعيش عيشته، وقد صرح هو مرارا بأن الترف والنعيم في عصر الرشيد كان أكثر منه في عصر المنصور، ولو كان قرب العهد يكفي في الاستدلال لما رأينا الأمين (وهو قريب العهد من الرشيد) يسير سيرته.
والعجب أنه عقد فصولا طويلة يتعرض فيها لوصف الحضارة والنعيم والترف في أيام الرشيد والمأمون، وتفننهم في المطعم والمشرب والملبس، وهو هو الذي وافق «المسعودي» و«الطبري »، على ما حكياه في إعراس المأمون ببوران بنت الحسن، وأن المأمون أعطاها في مهرها ليلة زفافها ألف حصاة من الياقوت، وأوقد شموع العنبر في كل واحدة مائة من
26
وبسط لها فرشا كان الحصير منها منسوجا بالذهب، مكللا بالدر والياقوت ... إلخ.
27
هل هذا ليس سرفا في الترف؟ وهل قرب عهد المأمون من الرشيد كقرب عهد الرشيد من المنصور جعلت الناس يعيشون عيشة السذاجة كما يقول؟
الحق إن ابن خلدون مخطئ في وصفه عصر الرشيد بالسذاجة، وأنه وقومه كانوا بمنجاة من السرف والترف، والحق أيضا أن ابن خلدون صور جانبا صحيحا من جوانب الرشيد في صلاته وتقواه، ولكن لم يكن هذا كل جوانبه، فله جانب هو الذي وصفه الأغاني، وإن عذرنا الأغاني لما بينا فلسنا نعذر ابن خلدون، وهو مؤرخ عليه أن يذكر نواحي الرجل المختلفة!
وكأن ابن خلدون فهم أن الذي يصلي مائة ركعة، ويجالس الفضيل بن عياض لا يتأتى منه أن يجلس مجالس لهو يسمع فيها الغناء، يظهر فيها مظاهر الترف على أتم وجوهها. إن كان فهم ذلك كان خطأ، والطبيعة الإنسانية لا تأباه.
وفي رأينا أن الرشيد كان يجد فيمعن في الجد، ثم يلهو فيمعن في اللهو خضوعا لحدة العاطفة مع الميول المختلفة.
قال أبو البختري وهب بن وهب القاضي: كنت عند الرشيد يوما واستدعى ماء مبردا بالثلج، فلم يوجد في الخزانة ثلج، فاعتذر إليه بذلك، وأحضر إليه ماء غير مثلوج، فضرب وجه الغلام بالكوز، واستشاط غضبا. فقلت له: أقول يا أمير المؤمنين وأنا آمن؟ فقال: قل، قلت: يا أمير المؤمنين قد رأيت ما كان من الغير بالأمس (يعني زوال دولة بني أمية)، والدنيا غير دائمة ولا موثوق بها، والحزم ألا تعود نفسك الترفه والنعمة، بل تأكل اللين والجشب، وتلبس الناعم والخشن، وتشرب الحار والقار. فنفحني بيده، وقال: لا والله لا أذهب إلى ما تذهب إليه؛ بل ألبس النعمة ما لبستني فإذا نابتني نوبة الدهر عدت إلى نصابي غير خوار.
28 •••
جاء الأمين فزاد في اللهو نغمة بل نغمات. ومها قال محققو المؤرخين من أن كثيرا من الأخبار وضعت في عهد المأمون لتشويه سمعة الأمين، والحط من شأنه، وتبرير ما فعل به، فإن ميله إلى الإفراط في اللهو والشراب والغلمان مما لا يسهل إنكاره.
روى الطبري قال: لما ملك محمد (الأمين) طلب الخصيان، وابتاعهم وغالى بهم، وصيرهم لخلوته في ليله ونهاره، وقوام طعامه وشرابه، وأمره ونهيه ورفض النساء الحرائر والإماء، حتى رمي بهم،
29
ففي ذلك يقول بعضهم:
لهم من عمره شطر، وشطر
يعاقر فيه شرب الخندريس
وما للغانيات لديه حظ
سوى التقطيب بالوجه العبوس!
إذا كان الرئيس كذا سقيما
فكيف صلاحنا بعد الرئيس؟
فلو علم المقيم بدار طوس
لعز على المقيم بدار طوس
30
وروى أيضا: أنه لما ملك وجه إلى جميع البلدان في طلب الملهين، وضمهم إليه، وأجرى لهم الأرزاق، ونافس في ابتياع فره الدواب، وأحد الوحوش والسباع والطير، وغير ذلك. واحتجب عن إخوته وأهل بيته وقواده، واستخف بهم، وقسم ما في بيوت الأموال، وما بحضرته من الجواهر في خصيانه وجلسائه ومحدثيه، وأمر ببناء مجالس لمتنزهاته، ومواضع خلوته ولهوه ولعبه، وأمر بعمل خمس حراقات في دجلة على خلقة الأسد والفيل والعقاب والحية والفرس، وأنفق في عملها مالا عظيما وفيها قال أبو نواس مدائحه.
31
ويصفه وزيره الفضل بن الربيع فيقول: «ينام نوم الظربان،
32
ولا يفكر في زوال نعمة، ولا يروي في إمضاء رأي ولا مكيدة، قد ألهاه كأسه، وشغله قدحه، فهو يجري في لهوه، والأيام تضرع في هلاكه، قد شمر عبد الله (المأمون) له عن ساقه، وفوق له أصيب أسهمه، يرميه على بعد الدار بالحنف النافذ، والموت القاصد، قد عبى له المنايا على متون الخيل، وناط له البلاء في أسنة الرماح، وشفار السيوف».
33
جاء المأمون بعد الأمين، ولكن لم تكن شهوات المأمون وملاهيه كشهوات الأمين وملاهيه. لهو الأمين لهو شاب غر رأى سلطانا ومالا، وليس له عقل ناضج، فأنفق كل وقته في إرواء شهوته. وأما المأمون فرجل حنكته التجارب، وعلمه (ما قاسى من الأهوال في الحروب وما تحتاج المملكة من خلق جديد) الحزم والبصر بالأمور، ثم كان له ملاذ عقلية تشغل وقته، فهو يحب الكتب ويحب الفلسفة، ويحب الجدل في المسائل الدينية والفقهية، وحوله العلماء من كل نوع يباحثهم ويجادلهم، وهو مع ذلك يلهو لهوا خفيفا فيشرب النبيذ،
34
ويقيم بعد قدومه بغداد عشرين شهرا لا يسمع ثم يسمع،
35
وكان يزين مجلسه ويغنيه إسحاق الموصلي، كما كان أبوه إبراهيم الموصلي يزين مجلس أبيه الرشيد، قربه المأمون وأعلى شأنه، وكذلك قرب إليه عمه إبراهيم بن المهدي وكان مبدعا في غنائه.
وكان الناس قد تجرعوا غصص البؤس أيام الفتن بين الأمين والمأمون، وخربت بغداد، وعم البؤس والشقاء فما عادت السكينة حتى شعروا أنهم في حاجة أن يعوضوا ما فقدوا، فلهوا وأفرطوا.
هذه ناحية من نواحي القصور شرحناها لما كان لها من أثر كبير في الفن والأدب. ولها نواح أخرى مختلفة؛ فناحية سياسية ليست تهمنا في موضوعنا، وناحية علمية من تشجيع للعلم، وإنفاق للمال في سبيله، وعقد مجالس للجدل والمناظرات، وبذل الجهد في تحصيل الكتب، وإنشاء دورها والعمل على ترجمتها، وكان من أعظم الخلفاء أثرا في ذلك المنصور والرشيد والمأمون، وهذه الناحية سنوضحها عند الكلام في الحركة العلمية. •••
وإذ كثر القول في الشراب، وروينا ما قال ابن خلدون من أن بعض الخلفاء كانوا يشربون النبيذ لا الخمر، وشاع أن فقهاء العراق يرون حل النبيذ، وكان لهذا القول أثر في الأدب؛ كان لا بد لنا من كلمة في الشراب.
كثر الشراب عند العرب، وتعددت أنواعه، وقد كانوا يأخذون عمن جاورهم من الأمم الأخرى أنواعا من الشراب، وألوانا من عاداته؛ فقد أخذ أهل الشام عن الروم نوعا من الخمر ممزوجا بالعسل، ونقلوا اسمه الرومي (وهو «الرساطون
Rosatun »)، ولم يكن يعرفه عرب الحجاز،
36
كما أخذ بعض الأمويين عن الفرس شرابا اسمه «الهفنجة»، كانوا يشربونه سبعة أسابيع في بعض منازل القمر، فشربه الوليد بن يزيد كذلك.
37
وهكذا كان للأمم أشربة وعادات في الشراب أخذت تتسرب إلى المسلمين، فلما جاء العباسيون تفننوا في أنواعه، وفي مجالسه والمنادمة عليه.
وقف الإسلام يحارب الخمر، ويحرم السكر، ونزلت الآية:
يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون * إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون .
ومع هذا فنرى أن أسئلة أثيرت حول هذه الآية الكريمة: ما المراد بالخمر؛ أهي عصير العنب وحده، أم كل مسكر خمر؟ وما هو القدر المحرم؟ أكل نوع مما يسكر كثيره فقليله حرام، أم بعض الأنواع يحل قليله؟ وظهرت في عالم الفقه مسألة النبيذ هل يحل أو لا يحل، وما القدر الذي يحل؟ وظهر هذا الخلاف من عهد الصحابة فمن بعدهم، ورأينا عمر بن عبد العزيز في العهد الأموي يشعر بخطر هذا الخلاف في النبيذ وضرره، فيصدر كتابا إلى الأمصار يحرم فيه النبيذ،
38
إلى أن كان عصر الأئمة فكان بينهم الخلاف السابق، فذهب الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد بن حنبل إلى سد الباب بتاتا، ففسروا الخمر في الآية السابقة بما يشمل جميع الأنبذة المسكرة من نبيذ التمر والزبيب والشعير والذرة والعسل وغيرها، وقالوا: كلها تسمى خمرا، وكلها محرمة. أما الإمام أبو حنيفة ففسر الخمر في الآية بعصير العنب مستندا إلى المعنى اللغوي لكلمة الخمر، وأحاديث أخرى، وأداه اجتهاده إلى تحليل بعض أنواع من الأنبذة كنبيذ التمر والزبيب إن طبخ أدنى طبخ، وشرب منه قدر لا يسكر، وكنوع يسمى «الخليطين»، وهو أن يأخذ قدرا من تمر ومثله من زبيب فيضعهما في إناء ثم يصب عليهما الماء ويتركهما زمنا، وكذلك نبيذ العسل والتين، والبر والعسل.
39
ويظهر أن الإمام أبا حنيفة في هذا كان يتبع الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود؛ فقد علمت من قبل
40
أن ابن مسعود كان إمام مدرسة العراق، وعلمت مقدار الارتباط بين فقه أبي حنيفة وابن مسعود، ودليلنا على ذلك: ما رواه صاحب العقد عن ابن مسعود من أنه: كان يرى حل النبيذ، حتى كثرت الروايات عنه، وشهرت وأذيعت واتبعه عامة التابعين من الكوفيين، وجعلوه أعظم حججهم، وقال في ذلك شاعرهم:
من ذا يحرم ماء المزن خالطه
في جوف خابية ماء العناقيد؟
إني لأكره تشديد الرواة لنا
فيه، ويعجبني قول ابن مسعود
41
على كل حال كان هناك جدال شديد بين الفقهاء في النبيذ كالذي كان بينهم في الغناء؛ فابن أبي ليلى يحرم النبيذ ويجادل فيه أبا حنيفة، وأبو حنيفة يرد عليه، وعبد الله بن إدريس كان الوحيد بين فقهاء الكوفة يحرم النبيذ فيرد عليهم ويردون عليه ... إلخ
42
ولما كان كثير من فقهاء العراق يرون حل النبيذ اشتهر العراقيون بحل النبيذ؛ فقال شاعرهم:
رأيه في السماع رأي حجازي
وفي الشراب رأي أهل العراق
43
وانتقل هذا الجدل إلى الأدباء والشعراء، وأخذوا يتلاعبون بهذه الآراء، فقال بعضهم: «أباح أهل الحرمين الغناء وحرموا النبيذ، وأباح أهل العراق النبيذ وحرموا الغناء فأوجدونا في الرخصة فيهما عند اختلافهما إلى أن يقع الاتفاق».
44
وقال ابن الرومي:
أباح العراقي النبيذ وشربه
وقال: حرامان المدامة والسكر
وقال الحجازي: الشرابان واحد
فحل لنا من بين قوليهما الخمر
سآخذ من قوليهما طرفيهما
وأشربها لا فارق الوازر الوزر
45
وعلى الجملة فإن كثيرا اتخذوا هذه الآراء تكئة يصلون بها إلى أغراضهم، ولم تكن هي الباعث على شربهم؛ فإنهم لم يقفوا عند النوع الذي حللوه، ولا القدر الذي أباحوه، فليس من فقيه أباح أي نوع من النبيذ إلى حد الإسكار، ولكنها خلاعة الأدباء، وتظرف الشعراء.
أما أبو نواس وشيعته فلم يركنوا إلى هذا الضرب من الحيل بل جاهروا بها مع الإقرار بتحريمها، وقال زعيمهم (أبو نواس):
فإن قالوا حرام قل حرام
ولكن اللذائذ في الحرام
وقال:
ألا فاسقني خمرا، وقل لي هي الخمر
ولا تسقني سرا إذا أمكن الجهر •••
قلد الأغنياء والخاصة قصور الخلفاء، وعاشوا عيشة بذخ وترف، بل زادوا في لهوهم، لما تقتضيه طبيعة مجالس الخلفاء من حشمة ووقار لا يلتزمها غيرهم من الأغنياء.
فقد كثر أولاد الخلفاء وأقاربهم، وأحصي ولد العباس من رجال ونساء وصغار وكبار، فكان عددهم أيام المأمون ثلاثة وثلاثين ألفا ،
46
وكانوا ممتازين في رقتهم وجمالهم: «كان يقال: انتهى جمال ولد الخلافة إلى أولاد الرشيد، ومن أولاد الرشيد إلى محمد وأبي عيسى، وكان أبو عيسى إذا عزم على الركوب جلس الناس له حتى يروه أكثر مما يجلسون للخلفاء.»
47
وقد أولع كثير من أفراد هذا البيت بالغناء والفنون الجميلة؛ فعلية بنت المهدي كانت «من أحسن الناس وأظرفهم، تقول الشعر الجيد، وتصوغ فيه الألحان والإيقاعات، وأطبعهم في الغناء، وأحسنهم صوتا.»
48
ثم أبو عيسى بن هارون الرشيد المشهور (كما أسلفنا) بجماله: «كان أحسن الناس وجها ومجالسة وعشرة، وأمجنهم وأحدهم نادرة وأشدهم عبثا»
49
وسبب موته: أنه كان يحب صيد الخنازير، فوقع عن دابته فلم يسلم دماغه.»
50
وتبعهم في ذلك أولاد الخاصة؛ فقد كان حفيد الفضل بن الربيع (وزير الرشيد)، وهو عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع مغنيا ماهرا، وماجنا مستهترا
51
يصطبح في حدائق النرجس، ويعيش عيشة لهو وخلاعة. وأمثالهم كثيرون يطول ذكرهم. وسرت العدوى من أولاد الأغنياء إلى الطبقة الوسطى؛ فكانوا يحتذون حذوهم، ويسيرون على منهاجهم.
تفننوا في فن العمارة، وأجادوا تشييد القصور، ووصفها ابن الجهم فقال:
صحون تسافر فيها العيون
وتحسر عن بعد أقطارها
وقبة ملك كأن النجو
م تصغي إليها بأسرارها
وفواره ثأرها في السماء
فليست تقصر عن ثأرها
إذا أوقدت نارها بالعراق
أضاء الحجاز سنا نارها
ترد على المزن ما أنزلت
على الأرض من صوب أقطارها
لها شرفات كأن الربيع
كساها الرياض بأنوارها
ويصف أحدهم شيئا من قصر الواثق فيقول: «لم يزل الخدم يسلمونني من خدم إلى خدم، حتى أفضيت إلى دار مفروشة الصحن، ملبسة الحيطان بالوشي المنسوج بالذهب، ثم أفضيت إلى رواق أرضه وحيطانه ملبسة بمثل ذلك، وإذا الواثق في صدره، على سرير مرصع بالجوهر، وعليه ثياب منسوجة بالذهب، وإلى جانبه «فريدة» جاريته، عليها مثل ثيابه، وفي حجرها عود.» إلخ.
52
وبالغوا في الموائد وتنسيقها، وألوان طعومها، فوصف العماني الشاعر ما أكل على مائدة محمد بن سليمان بن علي، فقال:
جاءوا بفرني لهم ملبون
بات يسقى خالص السمون
53
مصومع أكوم ذي غضون
قد حشيت بالسكر المطحون
ولونوا ما شئت من تلوين
من بارد الطعام والسخين
ومن شراسيف ومن طردين
ومن هلام ومصيص جون
54
ومن أوز فائق سمين
ومن دجاج فت بالعجين
فالشحم في الظهور والبطون
وأتبعوا ذلك بالجوزين
وبالخبيص الرطب واللوزين
وفكهوا بعنب وتين
والرطب الأزاذ والهيرون
55
ويقول أبو العتاهية: دعيت إلى بيت مخارق (أحد المغنين) فجئته، فأدخلني بيتا نظيفا فيه فرش نظيف، ثم دعا بمائدة عليها خبز سميذ، وخل وبقل وملح، وجدي مشوي فأكلنا منه، ثم دعا بسمك مشوي فأصبنا منه حتى اكتفينا، ثم دعا بحلواء فأصبنا منها وغسلنا أيدينا وجاءونا بفاكهة وريحان، وألوان
56
من الأنبذة فقال: اختر ما يصلح لك منها، فاخترت وشربت.»
57
وكان ذلك قبل أن يتزهد.
وقل ما شئت في مجالس اللهو والشراب، وما كان يجري فيها من خلاعة ومجون امتلأ بوصفها كتاب الأغاني، ودواوين الشعراء مثل بشار، وأبى نواس، ومسلم بن الوليد.
58
أولعوا بالغناء وتفننوا فيه، وأبدعوا في مجالسه من ملح وتنادر وشراب، وغير ذلك، وذهبوا فيه مذهبين جديد وقديم، وتعصب كل فريق لمذهب.
59
ولعبوا بالنرد والشطرنج وغلوا فيهما
60
وعنوا بتربية الحمام، وتغالوا في أثمانه،
61
وتهارشوا بالديوك والكلاب،
62
ولعب أبو نواس بالكلاب زمانا حتى عرف منها ما لا تعرفه الأعراب،
63
وانتشر القمار حتى في حانات الفقراء
64
وأولعوا بالنقش والتصوير فكثر رسم الصور على الكأس كما في شعر بشار وأبى نواس، ورثى أبو الشبل مسرجة له مصورة تصويرا بديعا كسرها كبش له،
65
وأغربوا في الهدايا يوم النيروز يبدعون فيها نقشا وتصويرا. ورقصوا فكان إسحاق بن إبراهيم الموصلي يجيد الرقص، واشتهر في عصره بالرقص جماعة.
66
وأحبوا البساتين وأكثروا الخروج إليها، والأزهار يزينون بها موائدهم، ويتغزلون في لونها وعبيقها،
67
إلى كثير من أمثال ذلك.
كثر النعيم، وكثر العنصر الفارسي العريق في المدينة، الممعن في الترف، وكثر الجواري يجلبن من الأصقاع المختلفة، وكثر الجمال وسفر؛ إذ لم تكن عامة الإماء يطالبن بحجاب، فقويت النزعة إلى اللهو والخلاعة والمجون التي وصفنا، وشعر قوم من الشعراء بهذه النزعة من الناس أمثال بشار وصريع الغواني وأبي نواس، فقادوا زمامها وألهبوها ، وسهلوا السبيل لها.
إن سكر القوم شعروا بالحاجة إلى أبيات من الشعر تروي عاطفتهم، وتزين لهم عملهم، وتحملهم على المضي في شربهم؛ رأوا في شعر هؤلاء إرواء لغلتهم، وإن تشببوا في فتاة أو غير فتاة فشعر الشعراء كفيل أن يجدوا فيه بغيتهم في صريح من القول غير كناية، وبشار يخصص يومين في الأسبوع للمتطرفات من النساء يأخذن عنه شعره الماجن، وينشرنه في الناس.
فلا عجب إن رأينا الحياة لاهية لاعبة، ورأينا شعر الشعراء في ذلك العصر إلا القليل منهم داعرا فاجرا.
وهنا ظاهرة واضحة، وهو أن هذا العراق الذي كان في العصر الأموي جادا إذا قيس بغيره من الشام والحجاز
68
أصبح الآن في العصر العباسي لاهيا، بل هو محط أنظار اللاهين، وسائر الأمصار إنما تقتبس من لهوه.
والسبب في ذلك أمور أهمها - على ما يظهر - شيئان؛ الأول: المال؛ فالعراق كان مصب أموال المملكة الإسلامية الغنية - بحكم أنه مركز الخلافة - والمال كل شيء في اللهو يتبعه حيث يكون الترف، وإنما يكون الترف حيث يكون المال، والعراق أكثر البلدان مالا، وأعزه جاها، وكل نابغ في فن - ومنه الأدب - إنما ينفق سوقه في العراق، ومن نبغ في غيره ولم يرحل إليه خمل ذكره، وضاع فنه، فأي مغن مشهور لم يكن في العراق؟ وأي نابغة في الشعر لم يكن في العراق؟ وأي جارية امتازت بجمال أو غناء لم تكن في العراق؟
والسبب الثاني: أن العراق كان أكثر بلاد الله خليطا، فقديما تعاقبت عليه أمم مختلفة، ومدنيات متتابعة، وفي العصر العباسي كان حاضرة الخلافة، وكان مقصد الأمم. وكان مسكن العنصر الأرستقراطي من الفرس، وكان محط الراحلين من الهند والروم وغيرهم. وكان يجلب إليه أحاسن الرقيق من كل جنس، ولهؤلاء جميعا تاريخ في اللهو، وإمعان في الحضارة، وتفنن في التر ف، فلما حلوا بالعراق ووجدوا السبل ممهدة عرضت كل أمة فنها، وأنواع حضارتها، فكان من ذلك معرض عام أخذ العراق من كل شيء منه بحظ وافر، وأخذت البلدان الأخرى من العراق بقبس. •••
ولكن من الحق أن نقول: إن هذا الوصف الذي وصفنا ليس حال الناس جميعهم، فما كانوا كلهم أغنياء ولا كلهم هازلين، وما كان ذلك لأمة من الأمم في أي عصر من العصور، وما كان العالم الإسلامي كله هو العراق وملاهيه، ولا كان العراق كله يحيا هذه الحياة؛ فإن أنت قرأت كتاب الأغاني، وتنقلت في صحفه من ضرب من اللهو إلى ضرب، أو قرأت ديوان أبي نواس فرأيت أكثره خمرا ومجونا، فلا تظن أن ذلك يمثل حياة العصر بأجمعها، إنما هو يمثل ناحية واحدة من نواحيها المتعددة، ووجوهها المختلفة، وعذر الأغاني أنه ألف في طبقات المغنين، والمغنون في كل عصر موطن اللهو وبيئة المجون.
على أننا نريد أن ننبه على أمر فطن له ابن خلدون وهو: وضع الأخبار الكاذبة في الملاذ تقربا إلى الكبراء، فكانوا يبالغون في أخبار الملاهي ليغروهم عليها، وليكسبوا هم من وراء ذلك مالا أو جاها أو نحوهما.
حور وولدان ومن كل ما
تطلبه فيها سوى الناس!
ويقول آخر:
أذم بغداد والمقام بها
من بعد ما خبرة وتجريب
ما عند سكانها لمختبط
خير ولا فرجة لمكروب
69
يحتاج باغي المقام بينهمو
إلى ثلاث من بعد تتريب
كنوز قارون أن تكون له
وعمر نوح وصبر أيوب
كما كرهها جماعة من أهل الورع والصلاح والزهاد، وعلتهم في الكراهية ما عاينوا بها من الفجور والظلم والعسف، وكان بعض الصالحين إذا ذكرت عنده بغداد يتمثل:
قل لمن أظهر التنسك في النا
س وأمسى يعد في الزهاد
الزم الثغر والتواضع فيه
ليس بغداد منزل العباد
إن بغداد للملوك محل
ومناخ للقارئ الصياد
70
ويقول بشر بن الحارث: «بغداد ضيقة على المتقين؛ لا ينبغي لمؤمن أن يقيم بها.»
71 •••
كانت كثرة الأموال بالعراق ووفرة ما يحمل إليها من خراج الأقطار سببا في ارتفاع الأسعار، وذلك إن احتمله الأغنياء فإنه يبئس الفقراء، وقد شكا أبو العتاهية ذلك، وصوره تصويرا دقيقا فقال:
من مبلغ عني الإما
م نصائحا متواليه
إني أرى الأسع
ار أسعار الرعية عالية
لم تكن أموال الدولة موزعة توزيعا متفاوتا ، ولا كانت الفروق بين الطبقات فروقا طفيفة، إنما كانت هناك هوات سحيقة بين الطبقات، فكثير من مال الدولة ينفق على قصور الخلافة والأمراء ورؤساء الأجناد وعمال الدولة، وهم ينفقون جزافا على المقربين من أدباء وعلماء ومغنيين وجوار، وأتباع وطبقة تجار ومن إليهم، وهؤلاء في درجة من الثروة دون الأولى، وعامة الشعب يفشو فيهم الفقر والبؤس. كانت بغداد تعجب أرباب الأموال لما يجدون فيها من عيش رغد وهناءة ونعيم:
كانت بغداد تعج بأرباب الأموال لما يجدون فيها من عيش رغد وهناءة ونعيم.
أعاينت في طول من الأرض والعرض
كبغداد دارا أنها جنة الأرض؟
صفا العيش في بغداد واخضر عوده
وعيش سواها غير صاف ولا غض
تطول بها الأعمار إن غذاءها
مريء وبعض الأرض أمرأ من بعض
72
فأما الفقراء وذوو الحاجة فضاقت عليهم بغداد بما رحبت، ولم يستطيعوا العيش فيها ولا المقام بها:
بغداد دار طيبها آخذ
نسيمها منى بأنفاسي
تصلح للموسر لا لامرئ
يبيت في فقر وإفلاس
لو حلها قارون رب الغنى
أصبح ذا هم ووسواس
هي التي نوعد لكنها
عاجلة للطاعم الكاسي
وأرى المكاسب نزرة
وأرى الضرورة فاشيه
وأرى غموم الدهر را
ئحة تمر وغادية
وأرى اليتامى والأرا
مل في البيوت الخالية
من بين راج لم يزل
يسمو إليك وراجيه
يشكون مجهدة
بأصوات ضعاف عاليه
يرجون رفدك كي يروا
مما لقوه العافيه
من يرتجى للناس
غيرك للعيون الباكية
من مصبيات جوع
تمسي وتصبح طاوية
من يرتجى لدفاع كر
ب ملمة هي ماهية
من للبطون الجائعا
ت للجسوم العارية
يا ابن الخلائف لا فقد
ت ولا عدمت العافية
إن الأصول الطيبا
ت لها فروع زاكية
ألقيت أخبارا إليك
من الرعية شافية
73 •••
كان المال عرضة أن يأتي في طرفة عين، ويذهب في طرفة عين؛ ذلك لأن عطاء الخلفاء والأمراء والولاة إذ ذاك كان لا يقف عند حد، ومصادرتهم للأموال لا تقف كذلك عند حد، قد يعجب أحدهم من غمة المغني، أو بيت الشعر أو الكلمة الطيبة، أو الجواب الحسن فيهب الألوف، وقد يكره ذلك فيهدر الدم، ويصادر المال!
وصف العتابي هذه الحالة في عصره فقد سئل: لم لا تتقرب بأدبك إلى السلطان؟ فقال: «لأني رأيته يعطي عشرة آلاف في غير شيء، ويرمي من السور في غير شيء، ولا أدري أي الرجلين أكون!»
74
والمفضل الضبي يدعوه رسول المهدي، فيخاف ويتوهم السعاية به، ثم يتطهر ويلبس ثوبين استعدادا للموت فإذا مثل بين يديه سلم فرد عليه، فلما سكن جأشه سأله عن أي بيت قالته العرب أفخر، ثم سأله مسائل أخرى، فلما أحسن الجواب سأله عن حاله فشكا إليه دينه فأمر لهم بثلاثين ألف درهم.
75
وحكى الجاحظ في كتابه الحيوان: أن أبا أيوب المورياني وزير المنصور بينا هو جالس في أمره ونهيه إذ أتاه رسول أبي جعفر فامتقع لونه، وطارت عصافير رأسه، وذعر ذعرا نقض حبوته، واستطار فؤاده، ثم عاد طلق الوجه، فتعجبنا من حاله وقلنا له: إنك لطيف الخاصة، قريب المنزلة، فلم ذهب بك الذعر واستفزعك الوجل؟ فقال: سأضرب لكم مثلا من أمثال الناس: زعموا أن البازي قال للديك: ما في الأرض شيء أقل وفاء منك! قال: كيف؟ قال: أخذك أهلك بيضة فحضنوك، ثم خرجت على أيديهم فأطعموك على أكفهم، حتى إذا كبرت صرت لا يدنو منك أحد إلا طرت هاهنا وهاهنا وضججت وصحت، وأخذت أنا من الجبال فعلموني، وألفوني، ثم يخلى عني فآخذ صيدي في الهواء فأجيء به إلى صاحبي! فقال له الديك: إنك لو رأيت من البزاة في سفافيدهم مثل ما رأيت من الديوك، لكنت أنفر مني. ولكنكم أنتم لو علمتم ما أعلم لم تتعجبوا من خوفي مع ما ترون من تمكن حالي.»
76
ولما قتل المأمون الفضل بن سهل عرضت الوزارة على أحمد بن أبي خالد فأبى، وقال: لم أر أحدا تعرض للوزارة وسلمت حاله.
77 «وكانوا يرفعون الأخبار إلى المأمون ولو لم تصح بالعدول، ويقول صاحب الخبر: لو لم نرفع إلا ما يثبت بالعدول لم يتهيأ ذلك في السنة إلا مرة أو مرتين.»
78
ودعي محمد بن الحارث بن بسخنر إلى الواثق في يوم لم يكن يدعى فيه فقال: داخلني فزع شديد وخفت أن يكون ساع قد سعى بي، أو بلية قد حدثت في رأي الخليفة علي، فتقدمت بما أردت.» إلخ، وكانت النتيجة أن غناه فأمر له بعشرة آلاف درهم وتخوت.
79
ووشي برجل يقال له «الفضيل بن عمران» إلى أبي جعفر المنصور، وكان المنصور جعله كاتب ابنه جعفر وولى أمره، وشي به أنه يعبث بجعفر، فبعث المنصور برجلين، وأمرهما أن يقتلا الفضيل حيث وجداه، وكتب إلى جعفر يعلمه أمرهما به وقال: لا تدفعا الكتاب إلى جعفر حتى تفرغا من قتله، فضربا عنقه! وكان الفضيل رجلا عفيفا دينا! فقيل للمنصور: إن الفضيل كان أبرأ الناس مما رمي به، وقد عجلت عليه. فوجه رسولا وجعل له عشرة آلاف درهم إن أدركه قبل أن يقتل. فقدم الرسول قبل أن يجف دمه، وقد استنكر ذلك جعفر وقال لمولاه سويد: «ما يقول أمير المؤمنين في قتل رجل عفيف دين مسلم بلا جرم ولا جناية؟ فقال سويد: هو أمير المؤمنين يفعل ما يشاء وهو أعلم بما يصنع.» إلخ.
80
أنتجت هذه الحياة التي وصفنا من رفاهية قوم وبؤس آخرين، ولهو قوم وجد آخرين؛ حركتين ظاهرتين في تاريخ هذا العصر:
أولاهما: ظهور فرقة المتطوعة للنكير على الفساق ببغداد. يقول الطبري في سبب ظهورهم: «إن فساق الحربية
81
والشطار الذين كانوا ببغداد والكرخ آذوا الناس أذى شديدا وأظهروا الفسق، وقطع الطريق، وأخذ الغلمان والنساء من الطرق، لا سلطان يمنعهم، ولا يقدر على ذلك منهم، لأن السلطان كان يعتز بهم، وكانوا بطانته فلا يقدر أن يمنعهم من فسق يركبونه. فلما رأى الناس ذلك، وما قد أظهروا من الفساد في الأرض والظلم والبغي وقطع الطريق، وأن السلطان لا يغير عليهم قام صلحاء كل ربض، وكل درب فمشى بعضهم إلى بعض ... إلخ.»
وكان لهذه الحركة زعيمان، لكل زعيم برنامج، فأما أحدهما: وهو خالد الدريوش فبرنامجه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ولكنه لا يثور على السلطان، فهو يطلب الإصلاح، ويتولاه في حدود الطاعة للحكومة، والزعيم الآخر : سهل بن سلامة الأنصاري، برنامجه الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر كذلك، والعمل بكتاب الله وسنته، ومقاتلة من خالفه، كائنا من كان، سلطانا أو غيره. ويقول الطبري: إنه تبعهما خلق كثير وكان كل من أجاب سهلا هذا عمل على باب داره برجا بجص وآجر ونصب عليه السلاح والمصاحف، وكان ذلك سنة 201 وسنة 2020ه وقد انتهى أمرهما بالقبض عليهما وحبسهما.
82
وظاهر أن الذي دعا إلى هذه الحركة كما يقول ابن خلدون: «توافر أهل الدين والصلاح على منع الفساق وكف عاديتهم.» وقد استمرت هذه الحركة تبدو حينا وتخمد حينا، فقد جاء بعدهم فرقة الحنابلة تدعو كذلك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما يطول ذكره.
ثانيتهما: حركة الزهد؛ ذلك أن قوما يئسوا من الغنى، ورأوا أن نفوسهم لا تطاوعهم للقرب من ذوي الجاه، أو حاولوا ذلك ففشلوا فلجئوا إلى القناعة يرضون أنفسهم عليها، وقالوا: إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون!
وقوما عافت نفوسهم ما رأت من شهوات لا حد لها، ورأوا أن النفس إذا نالت ما طمحت تفتحت أمامها شهوات وشهوات، وللوصول إلى كل شهوة متاعب وعقبات، ففضلوا أن يقمعوها، وقالوا مع القائل:
وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى
فإن أهملت تاقت وإلا استقرت
أو مع الآخر:
والنفس راغبة إذا رغبتها
وإذا ترد إلى قليل تقنع
وقوما يئسوا من حب، أو صدموا صدمة عنيفة في منصب أو جاه أو مال؛ فلم يجدوا إلا الزهد يركنون إليه ويأنسون به، ويتسلون به عما فقدوا.
وكثيرا زهدوا تدينا لما في الزهد من خفة المؤونة، وسهولة الحساب، يقولون كما قال محمد بن واسع: «يعجبني أن يصبح الرجل وليس عنده غداء، ويمسي وليس له عشاء، وهو مع ذلك راض عن الله!» صرفوا نفوسهم عن الشهوات، وأكثروا من ذكر الموت والقبور، وعدوا أنفسهم في الموتى، وآثروا ما يبقى على ما يفنى، ورفضوا أن يمدوا أيديهم لأخذ عطاء من خليفة أو وال، وقدموا بالقليل، كالذي فعل إبراهيم بن إسحاق الحربي؛ عاش أكثر عمره على كسر يابسة وملح، وربما عدم الملح ، ورفض أن يأخذ ألف دينار بعث بها إليه المعتضد، وأنفق مرة في شهر رمضان كله درهما وأربعة دوانيق ونصفا.
83
كل هذه الأصناف كان منها في العصر الذي نؤرخه، وكما كان بشار وأبو نواس وأضرابهما يمثلون نزعة اللهو، ويضرمون نارها كان أبو العتاهية يعبر عن نزعة الزهد، ويروي نخلة الزاهدين؛ فإن قال أبو نواس في الدعوة إلى اللهو:
جريت مع الهوى طلق الجموح
وهان علي مأثور القبيح
وجدت ألد عارية الليالي
قران النغم بالوتر الفصيح
ومسمعة متى ما شئت غنت
متى كان الخيام بذي طلوح
تمتع من شباب ليس يبقى
وصل بعرى الغبوق عرى الصبوح
قال أبو العتاهية:
رغيف خبز يابس
تأكله في زاويه
وكوز ماء بارد
تشربه من صافيه
وغرفة ضيقة
نفسك فيها خاليه
أو مسجد بمعزل
عن الورى في ناحيه
تدرس فيه دفترا
مستندا بساريه
معتبرا بمن مضى
من القرون الخاليه
خير من الساعات في
فيء القصور العاليه
تعقبها عقوبة
تصلي بنار حاميه
فهذه وصيتي
مخبرة بحاليه
طوبى لمن يسمعها
تلك لعمري كافيه
فاسمع لنصح مشفق
يدعى أبا العتاهية
والناس يتنازعون أيهما أشعر، أبو نواس أم أبو العتاهية، وليسوا يفضلون أحدهما في الحقيقة استنادا إلى الناحية الفنية، وإنما كلاهما يمثل نزعة خاصة، وكل فريق يفضل من عبر عن نفسه، وجلى نزعته. •••
كان للحالة الاجتماعية التي ألممنا بها نتائج علمية وأدبية وفنية.
من ذلك: أن غزارة الأموال في يد الخلفاء والولاة ومن إليهم، ووفرة عطاياهم وقلة الأموال في يد سواهم؛ جعلت الفنون الجميلة ومنها الشعر لا تزهر إلا في أحضان الخلفاء ومن إليهم، وتذبل في غير جوهم. قد كان من المعقول أن يفيض شعور الرجل وتهيج عواطفه وتغلي نفسه فينطق بالشعر يهدئ من شعوره، ويخفف من غليانه، لا يرجو من ذلك إلا إرواء لعاطفته الفنية، وهذا هو كل مطمحه في الثواب. وكان من المعقول أن يجيد الفنان إشباعا لنهمه الفني، في فقر أو غنى، ورخاء أو شقاء، ولكن يظهر أن قليلا كان عندهم هذا السمو الفني، وأكثرهم رأى أن قليلا من الفن وأبياتا من الشعر إذا لوحظ فيها ذوق الممدوح لا ذوق الفن تدر عليه من الأموال ما لا يحلم به، وهو إذا أرضى عاطفته عاش عيشة كفاف، فاندفع يطلب هوى الخليفة أو الأمير، وسال السيل وجرى التيار كله، إلا القليل النادر، نحو القصور، يقفون بأبوابها الأيام والشهور، حتى يؤذن لهم، وأصبح الشعراء والفنانون أداة من أدوات الزينة، وطرفة جميلة تحلى بها الدور والقصور، ولهم في ذلك بعض العذر، فمن من هؤلاء يرى من هو أقل منه - شعرا وفنا - يعمل بيتين أو ثلاثة في مدح أمير فينال عشرة آلاف درهم، ثم تقوى نفسه وتسمو همته، ويترفع عن أن يسلك مسلكه ويجري مجراه؟ كذلك الشأن في الغناء، يقول الأصفهاني: إن مجموع ما أخذ إبراهيم الموصلي من الرشيد كان أكثر من مائتي ألف دينار.
84
ولا تكاد تقرأ صفحة من الأغاني حتى تجد فيها شاعرا يمدح، وألوفا تمنح! ومهما كان في هذه القصص من المبالغة فالأساس صحيح.
كان من نتائج هذا أن أصبح أكبر مجرى يصب فيه الشعر هو المديح، وهو باب أبعد ما يكون في نظرنا عن الشعر الصحيح، وتعاقب الشعراء يصوغون معانيه السائغة وغير السائغة، حتى ارتشفوا آخر نقطة منها، بينما الأبواب الأخرى من وصف عاطفة سامية، وتحليل لشعور بجمال الطبيعة وجمال الزهور، ونحو ذلك لم تمس إلا مسا رقيقا.
وكان من نتائج هذا أيضا أن مؤرخ الأدب والفن في هذا العصر يكاد لا يؤرخ إلا العراق، فأما مصر والشام والحجاز فأدبها أدب خفيف، وفنها لا يكاد يؤبه له، وكل نابغ في شعر أو فن لا يجد مشتريا لسلعته إلا العراق.
ونرى أن الأدب أصبح يمثل هاتين النزعتين البارزتين خير تمثيل؛ نزعة اللهو، ونزعة الزهد، فأما نزعة اللهو فما قيل في الخمر والنسيب وما إليهما، وتجد ذلك في دواوين الشعراء أمثال أبي نواس ومسلم بن الوليد، وفي كتاب الأغاني. وأما نزعة الزهد؛ فما قيل في الموت والبعث والحساب، وما قيل في حياة الزهاد ومأثور قولهم وفعلهم. وعقدت الفصول الطوال تشرح نفسيتهم وتروي حكمهم؛ فنرى الجاحظ في الجزء الثالث من كتاب البيان والتبيين يضع كتابا يعنونه «كتاب الزهد» يقول في أوله: «نبدأ باسم الله وعونه بشيء من كلام النساك في الزهد، وبشيء من ذكر أخلاقهم ومواعظهم.» وصارت هذه الأقوال والقصص تغذي هذا الفريق من الناس الذين زهدوا في الحياة، وأصبحنا نرى المؤلفين في الأدب بعده ينسجون على منواله، ويجعلون باب الزهد ركنا من أركان الأدب؛ فابن قتيبة يخصص كذلك بابا للزهد في كتابه عيون الأخبار، وابن عبد ربه في العقد الفريد وهكذا، وتقرأ هذه الفصول فتراها تمثل حياة هي على النقيض من اللهو.
أما العلم فقد كان هناك علمان: علم ديني، وعلم دنيوي إن صح هذا التعبير؛ فأما العلم الدنيوي من فلسفة وطب ورياضة وفلك، فقد نما كذلك في كنف الخلفاء والأمراء والأغنياء، وقل أن تجد عالما في ذلك العصر في علم من هذه العلوم إلا كان له أمير أو غني يمده بمعونته، ولذلك كانوا نسبيا في سعة من العيش.
أما العلم الديني فقد كان الباعث عليه أخرويا غالبا، فنما وأزهر خارج القصور أيضا، كعلم التفسير والحديث، ومن أجل هذا أيضا لم يكن نمو هذا النوع من العلم وإزهاره قاصرا على العراق، بل تجده حيث الباعث الديني، في كل قطر وكل إقليم، فإذا أنت أرخت لعلوم القرآن وعلوم الحديث، أو علوم اللغة، أرخت لمصر والشام والحجاز كما أرخت للعراق، وتقرأ تراجم هؤلاء العلماء فترى في أكثرهم فقرا مدقعا، وبؤسا واضحا، ورضى بالقليل، وأمثلة ذلك لا تحصى.
وسيأتي عند الكلام في الحركة العلمية وصف ما كان لهؤلاء العلماء من جد في طلب، واحتمال نصب، وسفر بعيد، في فقر شديد؛ مما يدعو إلى الإعجاب، ويعد المثل الأعلى للحياة العلمية.
الفصل السادس
حياة الزندقة وحياة الإيمان
كما قد رأينا في الفصل السابق حياة فيها لهو ومجون، ونعيم ورخاء، وحياة فيها جد وزهد وبؤس وشقاء؛ نرى في هذا الفصل ألوانا أخرى من الحياة؛ هي حياة القلب والعقل ، والعاطفة والدين، فنرى صراعا بين الشك والزندقة والإلحاد، وبين الإيمان الخالص والاعتقاد الصادق. ويخيل إلينا ونحن نقرأ تاريخ هاتين الحركتين أننا في موقف قتال مستعر، تستخدم فيه كل وسائل الحروب؛ فخدع ومكايد ووسائل سرية أحيانا، ولجوء إلى السيف وسفك للدماء أحيانا، وعقد مجالس ومقارعة بالحجج أحيانا، ثم الحرب سجال؛ يوم ينتصر فيه الملحدون بما يثيرون من شكوك وأوهام، وبما يضللون من ناشئة وشبان، فإن عجزوا ظاهرا استعملوا طريق الغواية سرا، تحت مظهر التشيع، أو الغيرة على الإسلام أو نحو ذلك، ويوم ينتصر فيه المؤمنون فينكلون بالملحدين تنكيلا، ويوقعون بهم قتلا وتشريدا، ثم بما يؤلفون من كتب ينقضون شبههم، ويبطلون حججهم.
ولكن لم يعن المؤرخون بتسجيل هذه الحرب ووقائعها كما عنوا بتسجيل الحروب السياسية، إنما يعثر الباحث في ثنايا الكتب على نتف مبعثرة، قد يستطيع في عناء أن يؤلف منها وحدة، ويكون منها سلسلة متصلة الحلقات.
الزندقة:
نلاحظ في هذا العصر الذي نؤرخه تردد كلمة «الزندقة» على الألسنة، وكثرة اتهام الناس بها حقا وباطلا، وتنبه الرأي العام إلى هذا المعنى تنبها دقيقا؛ فهم يسمعون شعر الشاعر فسرعان ما يلتفتون إلى شيء فيه يتهمونه من أجله بالزندقة، أو يرون فعلا صدر من إنسان، أو كلمة قالها جدا أو هزلا، أو إشارة أشار بها فيرمونه بالزندقة.
1
ونحن إذا قارنا بين انتشار هذه الكلمة في العصر الأموي والعصر العباسي، وجدنا استعمال الكلمة في العصر الأموي قليلا نادرا، وفي العصر العباسي فاشيا شائعا؛ فمثلا اتهم عبد الصمد بن عبد الأعلى مؤدب الوليد بن يزيد بن عبد الملك بالزندقة في العصر الأموي، واتهم الوليد بن يزيد كذلك، ولكن هذا قليل نادر، أما في العصر العباسي فالأخبار بالزندقة مستفيضة، والمتهمون بها كثيرون.
والسبب في ذلك: أن الزندقة في بعض معانيها (وهو الشك أو الإلحاد) إنما تقترن عادة بالبحث العلمي، وهو في العصر العباسي أبين وأظهر، ذلك أن العلم الذي كان شائعا في العصر الأموي كان العلم الديني؛ من جمع للحديث وتفسير للقرآن الكريم، واستنباط الأحكام الشرعية منهما . وهذه لا تثير في النفوس شكوكا تبعث على الزندقة ، إنما الذي قد يثير هذه الشكوك مذاهب الكلام، والجدال الديني حول المسائل الأساسية في الأديان، والبحث الفلسفي على النحو الذي يبحثه أرسطو وأفلاطون في المادة والصورة، والجزء الذي لا يتجزأ والجوهر والعرض، وما إلى ذلك. وهذه الأشياء كانت قليلة في العصر الأموي، وهي وفيرة جدا في العصر العباسي.
وسبب ثان هو أن بعض الفرس رأوا أن انتقال الخلافة من الأمويين إلى العباسيين لم يحقق مطالبهم؛ فقد انتقلوا من يد عربية (وهي اليد الأموية) إلى يد أخرى هي يد العباسيين، ومطمح نفوسهم أن تكون الحكومة فارسية في مظهرها وحقيقتها، في سلطتها ولغتها ودينها، ورأوا أن ذلك لا يتحقق والإسلام في سلطانه، فأخذوا يعملون لنشر المانوية والزرادشتية والمزدكية ظاهرا إن أمكن، وخفية إذا لم يمكن، فكان من ذلك فشو الزندقة.
يضاف إلى ذلك أن الدولة الأموية - كما قدمنا - كانت دولة العرب، فالحكم في أيديهم والملك لهم، وولاتهم ورجالهم عرب، والموالي أذلاء مضطهدون. والعرب لا تعرف الزندقة كثيرا، ولا تميل إليها؛ فهم مطمئنون إلى ملكهم وإلى دينهم، فلما أتت الدولة العباسية انتعش الموالي، وخاصة الفرس، وأصبح أكثر السلطان في أيديهم، وغلبوا على العرب، وقد كانت لهم ديانات سابقة لم ينسوها جميعا لما اعتنقوا الإسلام، وكانوا لا يجرءون في الحكم الأموي أن ينبسوا بكلمة، وكان همهم الأول أن يتحرروا سياسيا لا دينيا، فكانت دعواتهم السرية واجتماعاتهم وتدابيرهم للسياسة لا الدين. والزندقة إنما هي في الدين لا في السياسة، فلما نجحوا واطمأنوا وغلبوا بدأت تلعب في رءوسهم الديانات القديمة والجديدة فكانت الزندقة.
نرى اسم الزنادقة مقرونا بالمجان في عهد أبي جعفر المنصور، فيذكر الطبري: «المنصور وجه مع محمد بن أبي العباس بالزنادقة والمجان، فكان فيهم حماد عجرد، فأقاموا معه بالبصرة يظهر منهم المجون، وإنما أراد بذلك أن يبغضه إلى الناس.»
2
وكان محمد بن أبي العباس مرشحا للخلافة، فأراد من إحاطته بالزنادقة والمجان أن يكرهه الناس، فيتسنى له أن يرشح ابنه المهدي، ولعل ذلك كان سببا في لفت نظر المهدي إلى الزنادقة، فقد كان قرب محمد بن أبي العباس منهم مبعدا له عن الخلافة، فليتقرب هو إلى الله وإلى الناس باضطهادهم!
على كل حال لم يعرف عن المنصور إمعان في اضطهادهم، وكانت سياسته - على ما يظهر - قمع الفتن الظاهرة فقط. فلما جاء المهدي كان من أظهر المسائل في تاريخه تنكيله بالزنادقة، والفحص عنهم؛ فقد عين رجلا وكل إليه أمرهم سماه «صاحب الزنادقة». يقول في الأغاني: «لما نزل المهدي البصرة كان معه حمدويه صاحب الزنادقة، فدفع إليه بشارا، وقال: اضربه ضرب التلف.»
3
وقال في موضع آخر: «أمر المهدي (عبد الجبار) صاحب الزنادقة فضرب بشارا.»
4
وهذه أول مرة نسمع فيها بتعيين رجل خاص يعهد إليه أمرهم، يبحث عنهم، وينكل بهم. ويقول الطبري في حوادث سنة 167: وفيها جد المهدي في طلب الزنادقة، والبحث عنهم في الآفاق وقتلهم، وولى أمرهم «عمر الكلواذي».
5
ويقول المسعودي في المهدي: «إنه أمعن في قتل الملحدين والمداهنين عن الدين لظهورهم في أيامه، وإعلانهم باعتقاداتهم في خلافته لما انتشر من كتب ماني، وابن ديصان
6
ومرقيون؛ مما نقله عبد الله بن المقفع وغيره، وترجمه من الفارسية والفهلوية إلى العربية، وما صنف في ذلك ابن أبي العوجاء
7
وحماد عجرد، ويحيى بن زياد، ومطيع بن إياس من تأييد المذاهب المانوية والديصانية
8
والمرقونية، فكثر بذلك الزنادقة، وظهرت آراؤهم في الناس. وكان المهدي أول من أمر الجدليين من أهل البحث من المتكلمين بتصنيف الكتب في الرد على الملحدين ممن ذكرنا من الجاحدين وغيرهم، وأقاموا البراهين على المعاندين، وأزالوا شبه الملحدين فأوضحوا الحق للشاكين.»
9
إذن قام المهدي بعملين نحو الزنادقة؛ إنشاء إدارة للبحث عنهم ومحاكمتهم، وإنشاء هيئة علمية لمناظرتهم، وتأليف الكتب للرد عليهم.
وعلى الجملة؛ فقد كان المهدي شديد الاهتمام بهذه الفئة، حتى لم ينس أن ينصح ابنه إذا قلد الأمر أن ينكل بهم، فالطبري يذكر: «أن المهدي قال لموسى (هو ابنه الهادي) يوما وقد قدم إليه زنديق فاستتابه فأبى أن يتوب، فضرب عنقه وأمر بصلبه: يا بني إن صار لك هذا الأمر فتجرد لهذه العصابة (يعني أصحاب ماني)؛ فإنهم فرقة تدعو الناس إلى ظاهر حسن كاجتناب الفواحش، والزهد في الدنيا، والعمل للآخرة، ثم تخرجها إلى تحريم اللحم، ومس الماء الطهور، وترك قتل الهوام تحرجا وتحوبا، ثم تخرجها من هذا إلى عبادة اثنين أحدهما النور، والآخر الظلمة، ثم تبيح بعد هذا نكاح الأخوات والبنات، والاغتسال بالبول، وسرقة الأطفال من الطرق لتنقذهم من ضلال الظلمة إلى هداية النور، فارفع فيها الخشب، وجرد فيها السيف، وتقرب بأمرها إلى الله لا شريك له؛ فإني رأيت جدك العباس في المنام قلدني بسيفين، وأمرني بقتل أصحاب الاثنين.» «فقال موسى بعد أن مضت من أيامه عشرة أشهر: أما والله لئن عشت لأقتلن هذه الفرقة كلها، حتى لا أترك منها عينا تطرف. ويقال إنه أمر أن يهيأ له ألف جذع، فقال هذا في شهر كذا، ومات بعد شهرين.»
10
وقد أنفذ الهادي وصية أبيه، فكان يقتل الزنادقة، ويروي الطبري في حوادث سنة 169: أن الهادي اشتد هذه السنة في طلب الزنادقة، فقتل منهم فيها جماعة؛ فكان ممن قتل منهم يزدان بن باذان كاتب يقطين، وابنه علي بن يقطين من أهل النهروان. ذكر عنه أنه حج فنظر إلى الناس يهرولون في الطواف فقال: ما أشبههم إلا ببقر تدوس في البيدر. وله يقول العلاء ابن الحداد الأعمى:
أيا أمين الله في خلقه
ووارث الكعبة والمنبر
ماذا ترى في رجل كافر
يشبه الكعبة بالبيدر
11
ويجعل الناس إذا ما سعوا
حمرا تدوس البر والدوسر
12
فقتله موسى ثم صلبه.
13
ولما ولي هارون الرشيد سلك سبيل من قبله من الخلفاء في تعقب الزنادقة، فيحدثنا الطبري في حوادث سنة 171 أن الرشيد في هذه السنة أمن من كان هاربا أو مستخفيا، غير نفر من الزنادقة، منهم يونس بن فروة، ويزيد بن الفيض.
14
حتى المأمون بلغه خبر عشرة من الزنادقة من أهل البصرة، يذهبون إلى قول «ماني»، ويقولون بالنور والظلمة، فأمر بحملهم إليه بعد أن سموا واحدا واحدا؛ فكان يدعوهم رجلا رجلا، ويسألهم عن دينهم فيخبرونه بالإسلام فيمتحنهم بأن يظهر لهم صورة ماني، ويأمرهم أن يتفلوا عليها، ويتبرءوا منها، ويأمرهم بذبح طائر ماء وهو الدرج، وقد أبوا ذلك فقتلهم.
15
وفي عهد المعتصم كانت حادثة عظمى في تاريخ الزندقة، وهي محاكمة «الأفشين» (قائد جيوش المعتصم)؛ فإنه لما شق عصا الطاعة اتهم بالزندقة، وألفت محكمة لمحاكمته، كان من أعضائها محمد بن عبد الملك الزيات، وأحمد بن أبي داود، وقد اتهم الأفشين بجملة تهم: (1)
أنه عمد إلى رجلين كانا قد وجدا بيتا فيه أصنام في أشروسنة، فأخرجا الأصنام منه، وحولاه مسجدا، وصار أحدهما إماما للمسجد، والآخر مؤذنا، فضربهما الأفشين كلا ألف سوط، حتى عريت ظهروهما من اللحم.
وقد دافع عن نفسه، بأنه كان بينه وبين ملوك السعد عهد أن يترك كل قوم على دينهم؛ فكان عمل الإمام والمؤذن تعديا على ما التزمه من حرية الأديان. (2)
واتهم كذلك بأنه عثر في بيته على كتاب قد زين بالذهب والجوهر والديباج، فيه كفر بالله.
ورد على هذه التهمة بالإقرار بها، وأنه ورث الكتاب عن آبائه، والكتاب فيه أدب من آداب العجم، وفيه كفر؛ فانتفع بما فيه من أدب، وترك ما فيه من كفر، ولم يكن بحاجة إلى مال حتى يجرد الكتاب من حليته، وليس شأن الكتاب بعد ذلك إلا شأن كتاب كليلة ودمنة وكتاب مزدك، وهما في منازل القضاة، لم يعترض عليها معترض! (3)
واتهم أيضا بأنه كان يأكل المخنوقة، ويزعم أنها أرطب لحما من المذبوحة، وكان يقتل شاة سوداء كل يوم أربعاء، يضرب وسطها بالسيف، ثم يمشي بين نصفيها ويأكل لحمها.
وقد رد على هذا بأن من شهد عليه بهذه الشهادة، يعترف خصومه بأنه ليس ثقة ولا معدلا، وليس بين منزل الشاهد ومنزل الأفشين باب أو كوة يطلع عليه منها ويتعرف أخباره. (4)
واتهم بأن أهل مملكته كانوا يكتبون إليه باللغة الأشروسنية ما تفسيره بالعربية إلى إله الآلهة، من عبده فلان بن فلان: فماذا أبقى بعد لفرعون إذ يقول
أنا ربكم الأعلى .
وقد أجاب بأن هؤلاء القوم كانوا يكتبون لأبي وجدي كذلك، ولي قبل أن أدخل في الإسلام ، فكرهت أن أضع نفسي دونهم، فتفسد علي طاعتهم. (5)
واتهم خامسا أن أخاه كتب إلى «قوهيار» إنه ليس من ينصر هذا الدين الأبيض (يريد المجوسية) إلا أنا وأنت وبابك؛ فأما بابك فقد قتل نفسه بحمقه، فإن خالفت لم يكن للقوم من يرمونك به غيري، ومعي الفرسان وأهل النجدة والبأس، فإن وجهت إليك لم يبق أحد يحاربنا إلا ثلاثة: العرب، والمغاربة، والأتراك. والعربي بمنزلة الكلب، اطرح له كسرة، ثم اضرب رأسه بالدبوس. وهؤلاء الذباب (يعني المغاربة) إنما هم أكلة راس. وأولاد الشياطين (يعني الأتراك) فإنما هي ساعة حتى تنفد سهامهم، ثم تجول عليهم الخيل جولة، فتأتي على آخرهم، ويعود الدين إلى ما لم يزل عليه أيام العجم.
وخلاصة هذه التهمة العظمى محاولته قلب المملكة الإسلامية، ومحو الخلافة، ومحو الدين الإسلامي، وإعادة المملكة العجمية كما كانت، بلغتها ودينها وسلطانها. وقد أنكر هذا الكتاب، وقال إن عمل أخيه لا يلزمه، ولو صح لكانت هذه حيلة مني، أريد أن أستميله حتى يثق بي، ثم آتي به الخليفة لأحظى به عنده. (6)
واتهم أيضا بتهمة ترك الاختتان.
فقال إنه خاف أن يقطع ذلك من جسده فيموت، وما علم أن في ترك الاختتان الخروج من الإسلام.
فرد إلى الحبس، ومنع عنه الطعام والشراب إلى أن مات، ثم صلب، وأحرق بالنار
16
وقد مدحه أبو تمام أولا بمدائح كثيرة؛ منها:
لقد لبس الأفشين قسطلة الوغى
محشا بنصل السيف غير مواكل
17
وجرد من آرائه حين أضرمت
به الحرب حدا مثل حد المناصل
وسارت به بين القنابل والقنا
عزائم كانت كالقنا والقنابل
18
وقد ظللت عقبان أعلامه ضحى
بعقبان طير في الدماء نواهل
تراه إلى الهيجاء أول راكب
وتحت صبير الموت أول نازل
19
فلما صلب وأحرق عاد فذمه في قصيدة طويلة منها:
قد كان بوأه الخليفة جانبا
من قلبه حرما على الأقدار
فإذا ابن كافرة يسر بكفره
وجدا كوجد فرزدق بنوار
ومنها:
ما زال سر الكفر بين ضلوعه
حتى اصطلى سر الزناد الواري
نارا يساور جسمه من حرها
لهب كما عصفرت شق إزار
طارت لها شعل يهدم لفحها
أركانه هدما بغير غبار
فصلن منه كل مجمع مفصل
وفعلن فاقرة بكل فقار
20
مشبوبة رفعت لأعظم مشرك
ما كان يرفع ضوءها للساري
صلى لها حيا وكان وقودها
ميتا ويدخلها مع الفجار
يا مشهدا صدرت بفرحته إلى
أمصارها القصوى بنو الأمصار
رمقوا أعالي جذعه فكأنما
وجدوا الهلال عشية الإفطار
ويقول التبريزي: «لم يكن الأفشين كافرا، ولا منافقا، وإنما كان رجلا من الفرس اصطفاه المعتصم لحسن طاعته وخدمته، واعتمد عليه في مهام أموره، حتى وكل إليه مقاتلة بابك الخرمي، فمضى إليه في ألوف وأسره، غير أن الحساد أفسدوا ما بينهما، فذكروا للمعتصم: أنه منطو على خلافك، وقالوا للأفشين: إن المعتصم قد عزم على القبض عليك، فانقبض عنه حذرا من القبض عليه. فتحقق للمعتصم بانقباضه ما كان أخبر به عنه، فأخذه وأحرقه وصلبه. وقيل إن السبب في ذلك هو ابن أبي دواد لأمر جرى بينهما.» وليس هنا موضع تحقيق ما اتهم به الأفشين، فمحل ذلك البحث التاريخي، وإنما يهمنا هنا منظر الزندقة، وما وجه إليه من التهم وطريقة محاكمته. •••
وبعد، فماذا كان يفهم من كلمة «الزندقة» في هذا العصر الذي نؤرخه، وماذا يعنون عندما يتهمون رجلا بالزندقة، وماذا كان الباعث عليها؟
الحق إن كلمة «الزندقة» لم يكن معناها واحدا عند الناس على السواء؛ فمعناها في أذهان الخاصة والعلماء غير معناها في أذهان العامة.
فأما العامة وأشباههم؛ فكانوا يطلقون على المستهتر الماجن «زنديقا»؛ فإبراهيم بن سيابة الشاعر كان يرمى بالزندقة، ولم يكن يعرف عنه قول في الدين، إنما كان يعرف عنه أنه كان خليعا ماجنا، طيب النادرة، يحب الغلمان، ويحبه المجان.
21
وآدم حفيد عمر بن عبد العزيز اتهم بالزندقة لأنه كان خليعا ماجنا منهمكا في الشراب، يشرب الخمر فيفرط في شربها، وتجري على لسانه وهو سكران أبيات فيها مساس بالدين، كأن يقول:
اسقني واسق خليلي
في مدى الليل الطويل
لونها أصفر صاف
وهي كالمسك الفتيل
في لسان المرء منها
مثل طعم الزنجبيل
ريحها ينفح منها
ساطعا من رأس ميل
من ينل منها ثلاثا
ينس منهاج السبيل
فمتى ما نال خمسا
تركته كالقتيل
ليس يدري حين ذاكم
ما دبير من قبيل
إن سمعي عن كلام ال
لائمي فيها الثقيل
لشديد الوقر إني
غير مطواع ذليل
قل لمن يلحاك فيها
من فقيه أو نبيل
أنت دعها وارج أخرى
من رحيق السلسبيل
تعطش اليوم وتسقى
في غد نعت الطلول!
وكان يقول:
اسقني واسق غصينا
لا تبع بالنقد دينا
اسقنيها مرة الطعم
تريك الشين زينا
ومن أجل ذاك يتهم بالزندقة، فيأخذه المهدي ويضربه ثلثمائة سوط على أن يقر بالزندقة، فيقول: والله ما أشركت بالله طرفة عين، ومتى رأيت قرشيا تزندق؟ ولكنه طرب غلبني وشعر طفح على قلبي، أنا فتى من فتيان قريش، وأشرب النبيذ، وأقول ما قلت على سبيل المجون، ثم هجر الشرب والمجون بعد ذلك، وكان يكره أن يرى الشرب
22
والشراب، ويقول:
شربت فلما قيل ليس بنازع
نزعت وثوبي من أذى اللؤم طاهر
23
فترى أن «آدم» لم يتزندق زندقة علمية، وإنما غلبه الشرب فنطق بقول فيه هجر، فاتهم بالزندقة، على هذا المعنى العامي الشائع.
والواقع أن كثيرا من الشعراء في ذلك العصر أفرطوا في دعوة الناس إلى الفجور والإباحة، وحملهم على الاستهتار. ولم يكتفوا أن يدعوا إلى ما يدعون إليه من غير تعرض للدين، بل تعرضوا له أحيانا، وأخذوا يجهرون بأقوال فيها تهكم، وفيها سخرية، فيسخرون ممن يقول بتحريم الخمر، ويسخرون ممن يخوف بالدار، وممن يذكر بيوم البعث وما فيه من حساب، فيقول بشار:
لا خير في العيش إن كنا كذا أبدا
لا نلتقي وسبيل الملتقى نهج
قالوا: حرام تلاقينا! فقلت لهم
ما في التلاقي ولا في قبلة حرج
وبدأ هذا النوع خفيفا، ثم أخذ يشتد حتى وصل إلى ضرب من الإلحاد، وكان من أشدهم في ذلك أبو نواس كأن يقول:
وملحة باللوم تحسب أنني
بالجهل أوثر صحبة الشطار
بكرت علي تلومني فأجبتها
إني لأعرف مذهب الأبرار
فدعي الملام فقد أطعت غوايتي
وصرفت معرفتي إلى الإنكار
ورأيت إتياني اللذاذة والهوى
وتعجلا من طيب هذي الدار
أحرى وأحزم من تنظر آجل
علمي به رجم من الأخبار
ما جاءنا أحد يخبر أنه
في جنة من مات أو في النار!
ويقول:
يا ناظرا في الدين ما الأمر
لا قدر صح ولا جبر؟
ما صح عندي من جميع الذي
تذكر إلا الموت والقبر
ويقول:
قلت والكأس على كفي
تهوي لالتثامي
أنا لا أعرف ذاك اليوم
في ذاك الزحام
24
على أن بعض هؤلاء الشعراء الذين ترد على لسانهم هذه الأقوال وأمثالها كانوا يقولونها وهم مطمئنون إلى دينهم، ولكن غلبهم الطرب، وجرى الشعر على لسانهم فتحرك بمثل هذا، وذلك مثل الذي ورد من شعر آدم بن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز.
والذين كانوا يستمعون لهذا القول يختلفون فيما بينهم؛ فطائفة تسخط لمثل هذا، وتحكم على قائله بالإلحاد والخروج من الدين، وطائفة لا ترى هذا جدا من القول، وإنما هو نوع من أنواع التملح، لم يقل إلا على سبيل الفكاهة والمجون، وعلى هذا الأساس الأخير شاع في ذلك العصر وصف الزنديق بالظرف، فأبو نواس يصف العباس بن الفضل بن الربيع فيقول:
نديم كأس محدث ملك
تيه مغن وظرف زنديق
بل شاع اتهام بعض الناس بأنه لا يتزندق عن عقيدة، وإنما يتزندق ليشتهر بالظرف، ففي الأغاني: أن محمد بن زياد كان يظهر الزندقة تظارفا، فقال فيه ابن مناذر:
يا ابن زياد، يا أبا جعفر
أظهرت دينا غير ما تخفي
مزندق الظاهر باللفظ في
باطن إسلام فتى عف
لست بزنديق ولكنما
أردت أن توسم بالظرف!
25
وقال غيره:
تزندق معلنا ليقول قوم
إذا ذكروه زنديق ظريف
فقد بقي التزندق فيه وسما
وما قيل الظريف ولا اللطيف!
وعلى الجملة فالزندقة بهذا المعنى معناها التهتك، ثم التدرج فيه إلى الخروج عن الدين أحيانا بألفاظ ماسة، ثم المغالاة في ذلك، إلى أقوال فيها معنى الإلحاد لا عن نظر وتفكير. كل هذا كان شائعا فاشيا، وكل هذا كان معنى «الزندقة» في أذهان العامة وأشباههم، وعلى هذا المعنى قالوا: «إن علامة الزندقة شرب الخمر، والرشا في الحكم، ومهر البغي.»
26
وهناك معنى آخر للزندقة، كان يفهمه الخاصة وأشباههم. ويعنون به اعتناق الإسلام ظاهرا، والتدين بدين الفرس القديم باطنا، وخاصة مذهب ماني، ذلك أنه كان في ذلك العصر طائفة لم تؤمن بالإسلام ولكن آمنت بسلطانه، ورأت أنه لا سبيل لنيل الجاه والسلطان والمال إلا بالإسلام فاعتنقته ظاهرا، وظلت تخلص لدينها القديم، وقوم من هؤلاء كان لهم غرض أعمق من هذا؛ إذ رأوا أنهم لا يستطيعون إفساد العقيدة الإسلامية إلا بالانتساب إليها أولا، حتى يؤمن جانبهم، وحتى يسهل على النفوس الأخذ بقولهم، ثم هم بعد ينفثون تعاليمهم على أشكال مختلفة؛ طورا في العلم والدين، وطورا في الأدب، وطورا في وضع مثالب العرب، ومن حين لآخر لآخر كان يعثر على بعضهم فينكل بهم، ولكنهم لا يبيدون، أحيانا يعملون أفرادا، وأحيانا يعملون جماعات، وعصرنا الذي نؤرخه مملوء بهذه الأمثال، فعبد الكريم بن أبي العوجاء يتهم بالزندقة، ويفسد أحاديث رسول الله بما يضع فيها، ويقر حين يقتله المنصور بأنه وضع أربعة آلاف حديث مكذوب مصنوع.
27
وحماد الراوية يفسد اللغة والأدب بما يعمله من شعر يضيفه إلى الشعراء المتقدمين، ويدسه في أشعارهم «حتى إن كثيرا من الرواة قالوا: قد أفسد حماد الشعر لأنه كان رجلا يقدر على صنعته فيدس في شعر كل رجل ما يشاكل طريقته.»
28
وصالح بن عبد القدوس يدس في الأشعار معاني زندقة، ويونس بن أبي فروة يعمل كتابا في مثالب العرب، وعيوب الإسلام بزعمه، ويصير به إلى ملك الروم فيأخذ منه مالا.
29
هؤلاء وأمثالهم كانوا يتزندقون تزندقا علميا؛ فهم يدينون بماني أو مزدك، ويؤمنون بالنور والظلمة، وبعبارة عامة يدينون بدين المجوس عن علم، ثم يتظاهرون بالإسلام تقية، أو توسلا إلى إضلال الناس، ويدل على هذا المعنى الخاص ما رواه الأغاني أن بشارا هجا حماد عجرد فقال:
يا ابن نهبى، رأس علي ثقيل
واحتمال الرأسين أمر جليل
فادع غيري إلى عبادة ربين
فإني بواحد مشغول!
فقال حماد: ما يغيظني من بشار إلا تجاهله بالزندقة، يوهم الناس أنه يظن أن الزنادقة تعبد رأسا ليظن الجهال أنه لا يعرفها؛ لأن هذا قول تقوله العامة لا حقيقة له، وهو والله أعلم بالزندقة من ماني.
30
ويقول أبو نواس: كنت أتوهم حماد عجرد إنما يرمى بالزندقة لمجونه في شعره حتى حبست في حبس الزنادقة، فإذا حماد عجرد إمام من أئمتهم، وإذا له شعر مزاوج بيتين بيتين، يقرءون به في صلاتهم.
31
اشتهر بالزندقة في هذا العصر كثيرون؛ منهم الحمادون الثلاثة: حماد عجرد، وحماد الراوية، وحماد بن الزبرقان، وبشار بن برد، وابن المقفع، ويونس ابن أبي فروة، ومطيع بن إياس، وعبد الكريم ابن أبي العوجاء، وصالح بن عبد القدوس، وعلي بن الخليل، وابن منذر، وتجد في ترجمتهم في الأغاني وغيره ضروبا من القصص توضح زندقتهم، وكان بين بعض هؤلاء وبعض صداقة وود أحيانا، وهجو وتنابز أحيانا.
والذي نلاحظه أن أكثر من ذكرنا موال من الفرس، وذلك طبيعي، فإن الزندقة بهذا المعنى تستر وراءها ديانة مجوسية من ديانات الفرس، فطبيعي أن ينزع إليها من كان أصلهم مجوسا، ومع هذا فإنا نجد من العرب بل من الهاشميين من اتهم بالزندقة؛ مثل الحسين بن عبد الله بن عبيدا لله بن العباس بن عبد المطلب، وعبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب.
32
وكالذي روى الطبري من أن المهدي أتى بداود بن علي، وبيعقوب بن الفضل بن عبد الرحمن بن عباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وقد اتهما بالزندقة فأقرا له بها.
33
ولكن كانت الزندقة في العرب على العموم نادرة، وأكثر من اتهم بها كانت زندقته بالمعنى الأول، وهو التهتك والفجور، أو كان اتهامهم شركا من الشراك التي تنصب من أجل خصومة سياسية.
وقد اشتهر بهذا النوع من الزندقة طائفة من الكتاب، كان أكثرهم كذلك من أصل فارسي، وقد أخذوا من كل علم بطرف، ولم يتعمقوا في علم، وأمعنوا في الغرور بأنفسهم فكثرت زندقتهم. ويقول الجاحظ: «والناشئ منهم (من الكتاب) إذا حفظ من الكلام فتيقه،
34
ومن العلم ملحه، وروى لبزرجمهر أمثاله، ولأردشير عهده، ولعبد الحميد رسائله، ولابن المقفع أدبه، وصير كتاب مزدك معدن علمه ، ودفتر كليلة ودمنة كنز حكمته، «توهم» أنه الفاروق الأكبر في التدبير، وابن عباس في العلم بالتأويل، ومعاذ بن جبل في العلم بالحلال والحرام، وعلي بن أبي طالب في الجرأة على القضاء والأحكام، وأبو الهذيل العلاف في الجر والطفرة، وإبراهيم بن سيار النظام في المكامنات والمجانسات، وحسين النجار في العبادات والقول بالإثبات، والأصمعي وأبو عبيدة في معرفة اللغات والعلم بالأنساب، فيكون أول بدوه الطعن على القرآن في تأليفه، والقضاء عليه بتناقضه، ثم يظهر فيه ظرفه بتكذيب الأخبار، وتهجين من نقل الآثار، فإن استرجح أحد أصحاب الرسول فتل عند ذكرهم شدقه، ولوى عن محاسنهم كشحه، وإن ذكر شريح جرحه، وإن نعت له الحسن استثقله، وإذا وصف له الشعبي استحمقه، ثم يقطع ذلك من مجلسه بسياسة أردشير بابكان، وتدبير أنوشروان، واستقامة البلاد لآل ساسان، فإن حذر العيون، تفقده المسلمون، رجع بذكر السنن إلى المعقول، ومحكم القرآن إلى المنسوخ، ونفي ما لا يدرك بالعيان، وشبه بالشاهد الغائب، لا يرتضي من الكتب إلا المنطق ... هذا هو المشهور من أفعالهم والموصوف من أخلاقهم.»
35
وأحيانا تطلق كلمة الزنادقة على أتباع ديانة الفرس، من غير أن ينتحلوا الإسلام، ونرى هذا الاستعمال أحيانا في كتاب الحيوان للجاحظ؛ فهو يقول: وكان لهؤلاء الزنادقة كتب أجود ما تكون ورقا، يكتب عليه بالحبر الأسود البراق، ويستجاد له الخط.
36 «وأن كتبهم لا تفيد علما ولا حكمة، وليس فيها مثل سائر، ولا خبر ظريف، ولا صنعة أدب، ولا حكمة غريبة ولا فلسفة، ولا مسألة كلامية، وجل ما فيها ذكر النور والظلمة، وتناكح الشياطين، وتسافد العفاريت، وذكر الصنديد، والتهويل بعمود الصبح»، ثم يذم كتبهم، ويستخف بمعانيها،
37
ويقول: إن هؤلاء الزنادقة أثروا في بعض الناس، وخاصة في ناس من الصوفية والنصارى؛ فكانوا يرفضون الذبائح، ويبغضون إراقة الدماء، ويزهدون في أكل اللحوم. ويقول: إن قوما ممن ينتحل الإسلام يظهرون التقذر من الصيد، ويرون أن ذلك من القسوة، وأنه يسلم إلى التهاون بدماء الناس والرحمة شكل واحد، ومن لم يرحم الكلب لم يرحم الظبي، ومن لم يرحم الظبي لم يرحم الجدي، ومن لم يرحم العصفور لم يرحم الصبي. وصغار الأمور تؤدي إلى كبارها، يضاهون في ذلك سبيل الزنادقة.
38
وهناك معنى آخر للزندقة يستعمله الجاحظ وغيره أحيانا، يطلقونه على قوم جحدوا الأديان كلها عن نظر؛ فهي بهذا المعنى مرادفة للدهرية والإلحاد. قال أبو العلاء في رسالة الغفران: «والزنادقة هم الذين يسمون الدهرية لا يقولون بنبوة ولا كتاب.»
وعلى هذا المعنى يروي الجاحظ: «أن الزندقة فشت في النصارى.»
39
والظاهر أنه يريد بذلك الشك ونحوه.
من هذا كله يظهر أن كلمة الزندقة لم تكن ذات معنى واحد، وإنما كانت تطلق على معان أربعة: (1)
التهتك والاستهتار والفجور مع تبجح في القول، يصل أحيانا إلى ما يمس الدين، ولكن قائله لم يقله عن نظر، وإنما قاله عن خلاعة ومجون. (2)
اتباع دين المجوس، وخاصة دين ماني، مع التظاهر بالإسلام؛ كالذي اتهم به الأفشين، والذي اتهم به بشار وحماد وابن المقفع. (3)
اتباع دين المجوس، وخاصة «ماني»، من غير تظاهر بالإسلام؛ كالذي يرويه الجاحظ عن كتب الزنادقة. (4)
ملحدون لا دين لهم؛ كالذي يحكيه المعري، ولكن يظهر أن الكلمة - أكثر ما كانت - تطلق على من اعتنق المانوية باطنا والإسلام ظاهرا، ثم توسعوا في معناها فأطلقوها على الإباحي والملحد الذي لا دين له. •••
على كل حال فشت الزندقة بمعانيها المختلفة في هذا العصر، وقد عد أبو العلاء من الزنادقة في رسالته الغفران: «الوليد بن يزيد الخليفة الأموي، ودعبلا الشاعر، وبشارا، وأبا نواس، وصالح بن عبد القدوس، وأبا مسلم الخراساني مؤسس الدولة العباسية، وبابك، والأفشين، والحلاج الصوفي، وغيرهم.» فيقول في دعبل: «وما يلحقني الشك في أن دعبل بن علي لم يكن له دين، وكان يتظاهر بالتشيع، وإنما غرضه التكسب، ولا أرتاب في أن دعبلا كان على رأي الحكمي «أبي نواس» وطبقته، والزندقة فيهم فاشية، ومن ديارهم ناشية.» ويقول: «وقد اختلف في أبي نواس؛ ادعي له التأله، وأنه كان يقضي صلوات نهارية في ليله، والصحيح أنه كان على مذهب غيره من أهل زمانه.»
وكان من الطبيعي أن يكون في هذا العصر زنادقة دعاهم إليها دواع مختلفة؛ فقوم دعاهم إليها دين ألفوه قديما، وهو دين المجوسية، وكان لهم فيه آباء عديدون، وكانت لهم عادات وتقاليد، أخذها الخلف من السلف، ولكنهم رأوا جاها عريضا، ومناصب عزيزة لا يستطيعون الوصول إليها إلا أن يسلموا فأسلموا،
ولما يدخل الإيمان في قلوبهم،
واتخذوا الإسلام ثيابا ظاهرية، يخلعونها إذا خلوا إلى أهليهم، وهم إذا أمكنتهم الفرصة كادوا للإسلام وللعرب، ودعوا للشعوبية والمذاهب الدينية. وقوم دعاهم إلى التزندق شك في الأديان، والقول بسلطان العقل إلى أقصى حدوده، فهم لا يريدون أن يؤمنوا إلا بما يرون بأعينهم، ويحكمون العقل حتى فيما ليس للعقل فيه مجال، فنبذوا الأديان جملة، ودعوا إلى الإلحاد. وآخرون إنما كان همهم في الحياة شهواتهم، فما الحياة إلا خمر وما إليها، لا يرضون أن يجهدوا عقولهم في تفكير في دين، إنما يغضبون على الدين وقت أن يتعارض مع شهواتهم، ويحد من لذاتهم، حينذاك ينطقون بالكلمة تلو الكلمة، وهم سكارى يتضاحكون فيها على الدين. كل هذه الأصناف كانت في العصر العباسي، وكان جمهور المؤمنين يكرهها ويحاربها.
ولكن من الحق أن نقول أيضا: إن الاتهام بالزندقة لم يقف في ذلك العصر عند حد؛ فالشاعر يكون صديق الشاعر وصفي نفسه، ثم تكون بينهما جفوة، فأول ما يرميه به أنه زنديق، كالهجاء بين بشار وحماد، وكالذي يقول خلاد الأرقط: ذكر ابن مناذر في حلقة يونس؛ فقدح فيه أكثر أهل الحلقة حتى نسبوه إلى الزندقة، فلما صرت في السقيفة التي في مقدم المسجد سمعت قراءة قريبة من حائط القبلة، فدنوت فإذا ابن مناذر قائم يصلي، فرجعت إلى الحلقة فقلت لأهلها: قلتم في الرجل ما قلتم، وها هو ذا قائم يصلي حيث لا يراه إلا الله!
40
ثم هم يسرعون في الاتهام، فيحكمون على أبي العتاهية بالزندقة لقوله:
كأن عتابة من حسنها
دمية قس فتنت قسها!
يا رب لو أنسيتنيها بما
في جنة الفردوس لم أنسها!
ولقوله:
إن المليك رآك أحسن
خلقه ورأى جمالك
فحذا بقدرة نفسه
حور الجنان على مثالك
41
بل أكثر من هذا يرون أبا العتاهية يذكر الموت، فيقولون: إنه زنديق لأنه يذكر الموت، ولا يذكر الجنة والنار.
42
كل هذا وأمثاله يدلنا على أن الناس في ذلك العصر أفرطوا في الرمي بالزندقة، مع خطر الاتهام، يقول أبو العلاء في رسالة الغفران: «وذكر صاحب كتاب «الورقة» جماعة من الشعراء في طبقة أبي نواس ومن قبله، ووصفهم بالزندقة: وسرائر الناس مغيبة، وإنما يعلم بها علام الغيوب.»
وكما كانت الخصومة الأدبية سببا في الرمي بالزندقة، كذلك كانت الخصومة الدينية والسياسية، يقول صاحب الأغاني: «كان حميد بن سعيد وجها من وجوه المعتزلة، فخالف أحمد بن أبي دواد في بعض مذهبه، فأغرى المعتصم بأنه شعوبي زنديق.»
43
وظل الأصمعي يتقرب إلى البرامكة، ويمدحهم فلما نكبوا قال فيهم:
إذا ذكر الشرك في مجلس
أضاءت وجوه بني برمك
وإن تليت عندهم آية
أتوا بالأحاديث عن مزدك!
ثم أليس عجيبا أن ترى بشارا يظل طول حياته يقول الشعر الماجن الخليع، ويتعرض للدين من قريب أو بعيد، ويظل في ذلك ثمانين عاما أو نحوها، فلا يتعرض له أحد، إلا ما نهاه الخليفة عن الغزل! بل نرى المهدي (وهو أكبر من اضطهد الزنادقة) يحميه ويتأول له الفقهاء،
44
فلما بلغ الثمانين أو جاوزها هجا يعقوب بن داود وزير المهدي بقوله:
بني أمية هبوا طال نومكم
إن الخليفة يعقوب بن داود
ضاعت خلافتكم يا قوم فانتظروا
خليفة الله بين الزق والعود
وهجا المهدي نفسه فأفحش، فعند ذلك فقط عوقب بشار على زندقته فضرب بالسياط حتى مات، وكذلك كان الشأن في ابن المقفع؛ خاصمه المنصور سياسيا، وخاصمه سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلب فقتلاه ورمياه بالزندقة!
الحق إن بعض الناس اتخذوا الزندقة ذريعة للانتقام من خصومهم، سواء في ذلك الشعراء والعلماء والأمراء والخلفاء. وأخشى أن يكون قد رمي بها أناس كثيرون صحت عقيدتهم، ولكن كانت لهم حرية رأي في بعض المسائل خالفوا فيها جمهور العلماء فشهروا بهم.
ونجد الحكم الفقهي في الزنادقة عند الحنفية العراقيين أشد منه عند الشافعية؛ فكثير من الحنفية يرى أن المرتد إذا تاب قبلت توبته ولم يقتل، وأما الزنديق فإذا تاب لم تقبل توبته وقتل، وخالفهم في ذلك الشافعية، فقالوا لا يقتل من أظهر التوبة من الزنادقة.
45
على كل حال كانت حركة الزندقة في عصرنا الذي نؤرخه حركة عنيفة، كان من ضحاياها كثيرون، بالحق أحيانا، وبالباطل أحيانا.
الإيمان:
يقابل حركة الزندقة والشك هذه حركة إيمان صادق من جانب آخر. وإذا كنا نريد أن نفهم جوانب الحياة في هذا العصر، وجب علينا أن نصور جانب الإيمان كما صورنا جانب الزندقة. والذي يظهر لي أن جانب الإيمان في ذلك العصر كان الأعم الأشهر، والزندقة (بمعنى الشك أو الإلحاد) كانت حظ قليل من المفكرين إذا قيس بالعدد العديد من المؤمنين، ولذلك استطاع المؤرخون، وكتاب المقالات الدينية أن يسموا الزنادقة على شكهم في زندقة بعضهم، ولكن كان من العسير أن يسموا المؤمنين؛ لأن الإيمان هو الأساس، والزندقة ليست إلا شذوذا في اتجاه التيار العام. والذي زاد في عدد الزنادقة أنهم أطلقوا الكلمة على المجان والمستهترين، ولو لم يصل الشك في الدين إلى نفوسهم، وإن شئت فقل: إنهم لم يفكروا في الدين تفكيرا إيجابيا ولا سلبيا، وإن كثيرين حشروا مع الزنادقة سياسة لا دينا كما قدمنا، وإن كثيرين من الزنادقة كانت زندقتهم في الواقع ليست كراهية للإسلام من حيث هو دين له تعاليم خاصة لا توافق عقولهم، ولكن من ناحية وطنية قومية، وأكثر ما كان ذلك في قوم من الفرس، رأوا أن ضياع ملكهم إنما كان على يد العرب، ولم يكن يتأتى للعرب ذلك لولا دينهم الجديد، وهو الإسلام، فكرهوا العرب، وكرهوا الإسلام لهذا السبب، فأما الزندقة بمعنى البحث في الأديان بحثا علميا عميقا يسلم أحيانا إلى شك أو إنكار؛ فذلك كان قليلا نادرا. •••
اشتهر جماعة كثيرة في ذلك، كانوا المثل الأعلى في الإيمان؛ أمثال عبد الله بن المبارك، وسفيان بن عيينة، وسفيان الثوري، وداود الطائي، والفضل بن عياض ... إلخ.
46
نقرأ ترجمتهم، فنتبين فيهم ورعا وتقوى، وإيمانا صادقا، وهروبا من الاتصال بوال أو أمير ، ورفض أي منصب يعرضه عليهم العباسيون. ولعل خير ما يمثل هذا النوع من الحياة ما رواه ابن قتيبة في رثاء ابن السماك لداود الطائي، قال: «إن داود رحمه الله نظر بقلبه إلى ما بين يديه من آخرته، فأعشى بصر القلب بصر العين، فكان كأنه لا ينظر إلى ما إليه تنظرون، وكأنكم لا تنظرون إلى ما إليه ينظر! فأنتم منه تعجبون، وهو منكم يعجب! فلما رآكم راغبين مذهولين مغرورين، قد أذهلت الدنيا عقولكم، وأماتت بحبها قلوبكم، استوحش منكم، فكنت إذا نظرت نظرت إلى حي وسط أموات! يا داود ما أعجب شأنك بين أهل زمانك! أهنت نفسك، وإنما تريد إكرامها، وأتعبتها، وإنما تريد راحتها، أخشنت المطعم، وإنما تريد طيبه، وأخشنت الملبس، وإنما تريد لينه، ثم أمت نفسك قبل أن تموت، وقبرتها قبل أن تقبر، وعذبتها ولما تعذب، وأغنيتها عن الدنيا لكيلا تذكر، رغبت نفسك عن الدنيا فلم ترها لك قدرا إلى الآخرة، فما أظنك إلا وقد ظفرت بما طالبت، كان سيماك في سرك، ولم يكن سيماك في علانيتك، تفقهت في دينك، وتركت الناس يغنون، وسمعت الحديث، وتركتهم يحدثون. وخرست عن القول، وتركتهم ينطقون. لا تحسد الأخيار، ولا تعيب الأشرار، ولا تقبل من السلطان عطية، ولا من الإخوان هدية. آنس ما تكون إذا كنت بالله خاليا، وأوحش ما تكون آنس ما يكون الناس. فمن سمع بمثلك وصبر صبرك وعزم عزمك؟ لا أحسبك إلا وقد أتعبت العابدين بعدك. سجدت نفسك في بيتك فلا محدث لك، ولا جليس معك ولا فراش تحتك، ولا ستر على بابك، ولا قلة يبرد فيها ماؤك، ولا صحفة يكون فيها غذاؤك وعشاؤك. مطهرتك قلبك، وقصعتك تورك،
47
داود، ما كنت تشتهي من الماء بارده، ولا من الطعام طيبه، ولا من اللباس لينه؛ بلى! ولكن زهدت فيه لما بين يديك، فما أصغر ما بذلت! وما أحقر ما تركت في جنب ما أملت! فلما مت شهرك ربك بموتك، وألبسك رداء عملك، وأكثر تبعك، فلو رأيت من حضرك عرفت أن ربك قد أكرمك وشرفك ، فلتتكلم اليوم عشيرتك بكل ألسنتها، فقد أوضح ربك فضلها بك.»
وسفيان الثوري، كان مع صلاحه وورعه وعلمه يعيش من تجارته، ويرفض عطاء الولاة، ورفض أن يكون قاضيا على الكوفة للعباسيين، فيطلب ويظل دهرا من حياته يهرب من العراق إلى اليمن، ومن اليمن إلى مكة، خشية من العباسيين، وتوفي سنة 161 متواريا من السلطان. •••
وكما صورت حياة اللهو والمجون في كتاب الأغاني ودواوين الشعراء، صورت حياة الإيمان في تراجم العلماء أمثال طبقات ابن سعد، وطبقات المحدثين. فإذا أنت قرأت الأغاني ظننت أن الحياة كلها لهو ومجون وإباحة، وإذا قرأت طبقات المحدثين والمتصوفة خلت أن الحياة كلها دين وورع وتقوى، وتنصف إن أنت اعتقدت أن الحياة كانت ذات صنف وألوان، وأن المدينة العباسية كانت ككل المدنيات؛ مسجد وحانة، وقارئ وزامر، ومتهجد يرتقب الفجر، ومصطبح في الحدائق، وساهر في تهجد، وساهر في طرب. وتخمة من غنى، ومسكنة من إملاق، وشك في دين، وإيمان في يقين. كل هذا كان في العصر العباسي، وكل هذا كان كثيرا. •••
هذا النوع من المؤمنين الذي سميناهم كسفيان وداود، لم يدخلوا في معترك الجهاد مع الشاكين والمتزندقين، بل كانوا يعنون بإيمانهم، ولا يأبهون لإلحاد غيرهم. إنما المؤمنون الذي تصدوا للرد على الملحدين هم معتزلة ذلك العصر، أمثال واصل بن عطاء وأبي الهذيل العلاف وبشر بن المعتمر وإبراهيم النظام، فهؤلاء أخذوا يستعرضون ما تقوله الزنادقة، ويناقشونهم ويردون عليهم، ويلزمونهم الحجة، وقد حكت لنا الكتب كثيرا من هذا الجدل،نعرض له عند الكلام على المعتزلة إن شاء الله.
الباب الثاني
الثقافات في ذلك العصر
تمهيد
كان من أثر اختلاف السكان في المملكة الإسلامية، وانتسابهم من حيث أصولهم إلى أمم مختلفة - كما بينا في الباب الأول - وامتزاج بعضهم مع بعض في السكنى والتزاوج وما إلى ذلك، ودخول كثير من أفراد الأمم المختلفة في الإسلام، ونمو الحضارة نموا يستدعي علما واسعا بكثير من شئون الحياة، من هندسة وطب ونجوم، ونظام حكم وفقه، ولغة وأدب. كان من أثر ذلك كله أن انتشرت في المملكة الإسلامية ثقافات مختلفة لأمم مختلفة، وكان هناك رجال بارزون يحملون لكل ثقافة علمها، ويبذلون جهدهم في الدعوة لها، والترويج لمبادئها، وتحبيبها إلى الناس، وإفهامهم أنها خير أنواع الثقافات. وكان من مظاهر هذا: أن كل ثقافة أخذت تشق لنفسها جدولا تسير فيه وحدها، وكلما غزرت وزاد مددها وسعت مجراها وتعهدته بالإصلاح، وحافظت إلى حد ما على استقلاله، ثم نرى - بعد ذلك - أن هذه الجداول المستقلة تقريبا أخذت تلتقي، ويتكون منها نهر عظيم، تصب فيه مياه مختلفة. ورأينا أن ما حصل في الأجناس البشرية حصل نظيره في الثقافات العلمية. وقد كان في الأجناس امتزاج وتزاوج وتوليد؛ فكان في الثقافات العلمية امتزاج وتزاوج وتوليد، وقد كان في الأجناس ميزات مختلفة، كل جنس له مزاياه وله عيوبه، وكانت عملية التوليد تنشأ من تلقيح دم بدم، فينشأ جنس جديد له مزايا الجنسين، وعيوب الدمين، وله خصائص أخرى ليست في الجنسين، فكان كذلك الشأن في الثقافات. كان هناك لقاح بين الثقافات، ونشأ من هذا اللقاح ثقافات جديدة، تحمل صفات من هذه وتلك، وصفات جديدة لم تكن في هذه ولا في تلك، وأصبح لها طابع خاص يميزها عما سواها. وكما كان في المملكة الإسلامية أمم مختلفة، اشتهرت كل أمة بميزة، كذلك امتازت الأمم المختلفة بميزات في العقلية، تبعها ميزات في الثقافة.
فما هي أشهر الثقافات في ذلك العصر؟ وما ميزة كل ثقافة؟ وماذا كانت طبيعة جدولها قبل أن تصب في النهر الأعظم؟
ثم بعد أن صبت في ذلك النهر، ماذا كانت طبيعة مائه، وأي العناصر غلب عليه؟ وما مظاهر تلك العناصر في مياه النهر؟
ذلك ما نريد أن نبحث عنه في هذا الباب.
قد انتشرت في هذا العصر أربع ثقافات، كان لها الأثر الأكبر في عقول الناس وأعني بها: الثقافة الفارسية، والثقافة اليونانية، والثقافة الهندية، والثقافة العربية. كما كان هناك ثقافات دينية أهمها اليهودية والنصرانية والإسلام. فلنتكلم كلمة في كل منها، ولنختر لكل ثقافة من يمثلها ما أمكن، ثم لنختر مثلا ممن كان يمثل الثقافات كلها بعد امتزاجها .
الفصل السابع
الثقافة الفارسية
انتشرت الثقافة الفارسية في العصر العباسي الأول انتشارا عظيما، وساعد على ذلك أمران:
الأول:
إنشاء منصب الوزارة، وإسناده غالبا إلى الفرس.
والثاني:
انتقال عاصمة الخلافة من دمشق إلى بغداد، وبعبارة أخرى من الشام إلى العراق.
الوزارة
كانت كلمة «وزير» معروفة للعرب قبل الفتح الإسلامي، ففي القرآن الكريم على لسان موسى
واجعل لي وزيرا من أهلي * هارون أخي
وفي حديث السقيفة: نحن الأمراء وأنتم الوزراء وفي طبقات «ابن سعد» أن أبا بكر
صلى الله عليه وسلم
كان وزيرا للنبي، وفي طبقات الشعراء «لابن قتيبة» أن أبا ذؤيب الهذلي (وهو شاعر جاهلي إسلامي) خان في امرأة ابن عم له، ثم خانه خالد بن زهير فيها، فقال خالد يخاطب أبا ذؤيب:
فلا تجزعن من سنة أنت سرتها
وأول راض سنة من يسيرها
وكنت إماما للعشيرة تنتهي
إليك إذا ضاقت بأمر صدورها
ألم تتنقدها من ابن عويمر
وأنت صفي نفسه ووزيرها!
وفي الدولة الأموية كان اللفظ مستعملا، يقول الطبري: «إن زيادا كان يسمى وزير معاوية.» ولكن الكلمة في كل المواضع التي ذكرنا، لم تستعمل في المعنى الاصطلاحي الذي نعرفه الآن من كلمة الوزير، وإنما هي بمعنى الموازر المناصر. قال ابن خلكان: «وقد اختلف أرباب اللغة في اشتقاق الوزارة على قولين؛ أحدهما: أنها من الوزر وهو الحمل، فكأن الوزير قد حمل عن السلطان الثقل، وهذا قول ابن قتيبة. والثاني: أنها من الوزر، وهو الجبل الذي يعتصم لينجى به من الهلاك، وكذلك الوزير معناه الذي يعتمد عليه الخليفة، أو السلطان، ويلتجئ إلى رأيه، وهو قول أبي إسحاق الزجاج.»
ونحن نرجح هذا (وهو أن أصل الكلمة عربي) على ما ذهب إليه بعض المستشرقين من أن أصل الكلمة فهلوي، مأخوذ من فيشيرا،
Vi-chira ، ومعناه الأمر أو التقرير.
لم تكن كلمة وزير بدعا في العصر العباسي، إنما المبتدع هو إنشاء هذا المنصب، وإعطاء صاحبه السلطة الرسمية، وتلقيبه بهذا الاسم، وهذا المنصب فارسي، ولم يكن معروفا قبل العباسيين . قال ابن خلكان في ترجمة أبي سلمة الخلال: «إن أبا سلمة أول من وقع عليه اسم الوزير، وشهر بالوزارة في دولة بني العباس، ولم يكن قبله من يعرف بهذا الاسم، لا في دولة بني أمية، ولا في غيرها من الدول.»
1
ويقول الفخري: «الوزير وسيط بين الملك ورعيته، فيجب أن يكون من طبعه شطر يناسب طباع الملوك، وشطر يناسب طباع العوام، ليعامل كلا من الفريقين بما يوجب له القبول والمحبة. والوزارة لم تتمهد قواعدها وتقرر قوانينها إلا في دولة بني العباس، فأما قبل ذلك فلم تكن مقننة القواعد، ولا مقررة القوانين، بل كان لكل واحد من الملوك أتباع وحاشية، فإذا حدث أمر استشار ذوي الحجى والآراء الصائبة، فكل منهم يجري مجرى وزير، فلما ملك بنو العباس تقررت قوانين الوزارة، وسمي الوزير وزيرا، وكان قبل ذلك يسمى كاتبا أو مشيرا.»
وقد كان الوزراء الظاهرون في هذا العصر موالي فرسا، فأبو سلمة الخلال (أول وزير عباسي) مولى فارسي، وأبو أيوب المورياني وزير المنصور فارسي من «موريان» (قرية من قرى الأهواز)، ويعقوب بن داود وزير المهدي مولى كذلك، وكذلك كان يحيى بن خالد البرمكي وزير الرشيد، واستوزر المأمون بني سهل، وكانوا من أولاد ملوك الفرس، ومن صنائع البرامكة، واستوزر المأمون الفضل بن سهل، ثم الحسن بن سهل، ولما دالت دولة بني سهل استوزر المأمون أحمد بن يوسف، وهو مولى لبني العجل،
2
ثم استوزر ثابت بن يحيى بن يسار الرازي، وهكذا.
فترى من هذا أن أكثر الوزراء في هذا العصر الذي نؤرخه كانوا فرسا، وكان الوزير قائما مقام الخليفة في كل الشئون؛ فينظر في الشئون الحربية، وفي الشئون المالية، ويكتب الرسائل إلى الجهات المختلفة، ويوقع على ما يرفع إليه من أوراق، ولم يتعدد الوزراء في الدولة العباسية بتعدد الأعمال، فيجعل للحرب وزير، وللمال وزير، وهكذا، وإنما كان تعدد الوزراء بتعدد الأعمال، من نظام الأندلسيين، «فقد قسموا خطة الوزارة أصنافا، وأفردوا لكل صنف وزيرا، فجعلوا لحسبان المال وزيرا، وللترسل وزيرا، وللنظر في حوائج المتظلمين وزيرا، وللنظر في أحوال أهل الثغور وزيرا.»
3
وعلى العكس من ذلك العباسيون؛ فقد جمعوا له بين خطتي السيف والقلم.
وهذا الذي ذكرنا من أن الوزير كان يجمع إلى الإدارة الحربية والمالية خطة القلم (وأعني بها إنفاذ الرسائل إلى الجهات، والتوقيع على ما يعرض عليه من مطالب ورسائل) جعل من شروط الوزير أن يكون عالما مطلعا، كاتبا بليغا، وكذلك كان أكثر الوزراء في العصر، «حكي أن المأمون كتب في اختيار وزير: إني التمست لأموري رجلا جامعا لخصال الخير، ذا عفة في خلائقه، واستقامة في طرائقه، قد هذبته الآداب، وأحكمته التجارب، إن اؤتمن على الأسرار قام بها، وإن قلد مهمات الأمور نهض فيها، يسكنه الحلم، وينطقه العلم، وتكفيه اللحظة، وتغنيه اللمحة، له صولة الأمراء، وأناة الحكماء، وتواضع العلماء، وفهم الفقهاء، إن أحسن إليه شكر، وإن ابتلي بالإساءة صبر. لا يبيع نصيب يومه بحرمان غده، يسترق قلوب الرجال بخلابة لسانه وحسن بيانه.
4
وتاريخ الوزراء يدلنا على أن أكثر من اختير للوزارة لوحظ في اختيارهم الكفاية العلمية والبلاغة، فأبو سلمة الخلال كان فصيحا عالما بالأخبار والأشعار والسير والجدل، والبرامكة كانوا ذوي مشاركة في كثير من العلوم والآداب، والفضل بن سهل كان يسمى ذا الرياستين لجمعه بين رياسة السيف ورياسة القلم ... إلخ».
وهذه القدرة الكتابية التي كان يشترطها الخلفاء في الوزير، كانت من أكبر الأسباب في قصر الوزارة على الفرس غالبا؛ فالعرب كانوا أهل فصاحة لسانية أكثر منهم أهل بلاغة كتابية، ولعل هذا هو السبب في أنهم وضعوا للفصاحة كلمة مشتقة من اللسان، فقالوا:رجل لسن إذا كان ذا بيان وفصاحة، ولم يشتقوا مثل ذلك من الكتابة.
والحق أن القدرة الكتابية كانت عند الفرس أبين منها عند العرب، وحتى في الدولة الأموية كان أظهر الكتاب الفنيين من الفرس، أمثال عبد الحميد الكاتب، وسالم مولى هشام. وكان العربي يفخر بالسيف واللسان لا بالقلم، قال يزيد بن معاوية يعدد فضل بيته على زياد بن أبيه: «لقد نقلناك من ولاء ثقيف إلى عز قريش، ومن عبيد إلى أبي سفيان، ومن القلم إلى المنابر.» ولم تزل العرب تفضل السيف على القلم، وفي ذلك يقول سليط بن جرير النمري:
أتحقرني ولست لذاك أهلا
وتدني الأصغرين من الخوان؟
جهابذة وكتابا وليسوا
بفرسان الكريهة والطعان
ستعرفني وتذكرني إذا ما
تلاقى الحلقتان من البطان
5
هؤلاء الوزراء كان لهم (من هذه الناحية التي تعنينا الآن وهي ناحية أنهم أرباب أقلام) أعوان يسمون الكتاب، فقد كان لكل وزير كاتب، بل كتاب يعينونه، ولولاة الأقاليم ورجال الدولة كتاب؛ فكان حماد عجرد مثلا كاتبا ليحيى بن محمد بن صول بالموصل، وكان ابن المقفع يكتب لداود بن عمر بن هبيرة والي كرمان،
6
وكان عمرو بن مسعدة يكتب للمأمون، وكان الحسن بن عيسى يكتب لعمرو بن مسعدة، وكان يكتب ليحيى بن خالد البرمكي عبد الله بن سوار بن ميمون، وهكذا.
وكانت هذه الطائفة (طائفة الكتاب) تؤلف وحدة على رأسها الوزير، بل تتدرج في الرقي إلى الوزارة، معتمدة على كفايتها وبلاغتها، فقد وقع عمرو بن مسعدة على ورقة رفعت إلى جعفر بن يحيى، فأعجب جعفر بتوقيع عمرو، فضرب يحيى بيده على ظهر عمرو، وقال: «أي وزير في جلدك!»
7
وكان بين أفراد هذه الكتلة صلات، ولو لم يتعارفوا، «حضر ديوان الخراج في أيام الرشيد شيخ من قدماء الكتاب، ومعه توقيع من الرشيد بقضاء دين عليه، فعني الكتاب به، وزجوا كتابه، فقال لهم:احفظوا عني ثلاثا؛ الجوار نسب، والمودة نسب، والصناعة نسب.»
8
وقبل ذلك كانت نصيحة عبد الحميد الكاتب لمعشر الكتاب دليلا على أنهم كانوا يؤلفون وحدة في آخر عهد الدولة الأموية.
كان أكثر هؤلاء الكتاب فرسا كالوزراء، يحتذون حذو أجدادهم من الفرس، حتى في مظاهرهم الخارجية، يروي الجهشياري: «أن الفضل بن سهل بن زاذا نفروخ (ذا الرياستين) كان يجلس على كرسي مجنح، ويحمل فيه إذا أراد الدخول على المأمون، فلا يزال يحمل حتى تقع عين المأمون عليه، فإذا وقعت وضع الكرسي، ونزل عنه فمشى، وحمل الكرسي حتى يوضع بين يدي المأمون، ثم يسلم ذو الرياستين، ويعود فيقعد عليه. وإنما ذهب ذو الرياستين في ذلك إلى مذهب الأكاسرة، فإن وزيرا من وزرائها كان يحمل في مثل ذلك الكرسي، ويقعد بين أيديها عليه، ويتولى حمله اثنا عشر رجلا من أولاد الملوك.»
9
بل إن تكون الكتاب كطبقة، ليس إلا تقليدا للنظام الفارسي، فالجهشياري يقول: «كان من رسم ملوك الفرس أن يلبس أهل كل طبقة ممن في خدمتهم لبسة لا يلبسها أحد ممن في غير تلك الطبقة، فإذا وصل الرجل إلى الملك عرف بلبسته صناعته والطبقة التي هو فيها، فكان الكتاب في الحضر يلبسون لبستهم المعهودة، وكانت ملوك الفرس تسمي كتاب الرسائل تراجمة الملوك.»
10
كان لهؤلاء الكتاب أثر كبير في نشر نوع من الثقافة خاص، ذلك أن ثقافتهم كانت أوسع من ثقافة غيرهم، وكانت معارفهم ودائرة اطلاعهم واسعة شاملة؛ لأنهم بحكم مناصبهم مضطرون أن يعرفوا أحوال الناس الاجتماعية وتقاليدهم، وأن يعرفوا من اللغة والأدب وعلوم الدين والفلسفة والجغرافيا والتاريخ طرفا؛ لأن كثيرا من مواقفهم يحتاج إلى ذلك، وقدت عرض للخليفة أو الوالي مسائل من هذا القبيل، يضطر الكاتب إزاءها أن يكون ملما بجميع ذلك؛ إذ هم الذين كانوا يعرضون على الخلفاء ما يرد عليهم، ويحررون ما يصدر منهم. ويتضح ذلك إذا نحن قارنا بين معارف الكاتب، ومعرفة المحدث أو الفقيه في ذلك العصر، فالمحدث أو الفقيه معارفه محدودة، ودائرة حول فنه، فإن توسع في شيء فإنما يتوسع في المسائل التي تعد وسائل لفنه؛ كاللغة والنحو والصرف. أما الكاتب فدائرته أوسع من ذلك، وحسبنا دليلا على هذا ما ألف للكاتب من الكتب:
فأول ما نعرفه من ذلك «أدب الكاتب لابن قتيبة»؛ فقد حمله على تأليفه كما ذكر في مقدمته:أنه رأى طائفة من الكتاب «قد شغفت بالنظر في النجوم والمنطق والفلسفة، وعرفت الكون والفساد. وسمع الكيان والكيفية والكمية، والجوهر والعرض، ورأس الخط النقطة، والنقطة لا تنقسم ... إلخ». وأهملوا النظر في اللغة وما إليها، فوضع لهم كتابه في ذلك؛ فهو خاص بما يلزم الكاتب من لغة ونحو وصرف وإملاء. وألف بعده أبو بكر الصولي كتابه «أدب الكتاب»، فغمز ابن قتيبة بالتقصير في كتابه، وتوسع هو في مسائل لم يتعرض لها ابن قتيبة، فتكلم في حسن الخط وقبحه، والدواة والقلم وما إليهما، وترتيب الكتاب وطيه، والدعاء في المكاتبات، والدواوين وتحويلها إلى العربية، ووجوه الأموال التي تحمل إلى بيت المال، وشيء من قواعد الإملاء. وألف ابن درستويه المتوفي سنة 346 كتاب «الكتاب»، وأكثره في قواعد الإملاء، وفي آخره باب في افتتاح الكتاب، وفي التأريخ، وما يذكر منه وما يؤنث، وما يفرد ويجمع، ثم في بري القلم وسنه وقطه، والدواة وما إليها ... إلخ، وتوسع من جاء بعدهم من المؤلفين للكتاب، حتى ختمت بكتاب «صبح الأعشى في صناعة الإنشاء»، فتعرض فيه تقريبا لكل المعلومات البشرية في عصره، من تاريخ وجغرافيا وفلك، وما يحتاج إليه الكاتب عمليا في صناعته من خط ونحوه، ومصطلح المكاتبات، وكيفية العقود، والبريد، ومطارات حمام الرسائل، والمنارات ... إلخ.
فترى من هذا كيف كان المؤلفون يعنون بهذه الطبقة من الناس، وكيف كانوا يتطلبون منهم المعارف الواسعة في الموضوعات المختلفة، وأن هذه الطبقة كانت تمتاز عن بقية العلماء بالثقافة العامة.
بل يظهر لي أن هذا الموقف هو الذي جعل الناس يقولون إن الأدب هو الأخذ من كل شيء بطرف؛ فقد نرى أن كلمة الأدب في صدر الإسلام كانت تطلق على التهذيب الخلقي، ثم كانت تطلق على العلم باللغة والشعر، وأيام العرب وتاريخها وما إلى ذلك. واستعملت بهذا المعنى في العهد الأموي. فلما جاء هؤلاء الكتاب واتسعت الثقافة، وصاروا يتطلبون من الكاتب أن يعرف الثقافة العربية والفارسية اتسع معنى الأدب، وقالوا: «إن الأدب الأخذ من كل شيء بطرف».
بل جعلوه يشمل معرفة شيء من الألعاب، قال الحسن بن سهل (وهو أحد الوزراء والكتاب في عصرنا العباسي): «الآداب عشرة: فثلاثة شهرجانية وثلاثة أنوشروانية، وثلاثة عربية، وواحدة أربت عليهن؛ فأما الشهرجانية فضرب العود، ولعب الشطرنج، ولعب الصوالج. وأما النوشروانية فالطب، والهندسة، والفروسية، وأما العربية فالشعر، والنسب، وأيام الناس. وأما الواحدة التي أربت عليهن فمقطعات الحديث والسمر وما يتلقاه الناس في المجالس.
11
بل يظهر لي أيضا أن هذا كان أحد الأسباب في فوضى الكتب الأدبية المؤلفة في ذلك العصر؛ كالبيان والتبيين، والكامل، وعيون الأخبار، فقد قصدوا فيها إلى جمع ما يفيد، وتكويمه بعضه فوق بعض، فاهمين الأدب بمعناه الواسع الذي ذكرنا، فحكمة بجانبها بيتان من الغزل، إلى نادرة لطيفة، إلى خطبة بليغة، إلى قصص في البخل، إلى أخبار الخوارج.
والجاحظ (في كتابه الحيوان) تكلم في الخصاء بعد كلامه في فائدة الكتاب، إلى غير ذلك؛ لأن الغرض عندهم أن يلم الأديب من كل شيء بطرف، ثم جاءت الكتب الأخرى بعدها تحذو حذوها، وتفرق مجتمعا، وتجمع متفرقا، وتزيد ما استحدث من الطرف الأدبية.
هؤلاء الوزراء والكتاب نشروا الثقافة العامة، وضموا إلى الآداب العربية الآداب الفارسية، فأصبح ما يتطلبه الأدب أن تعرف حكم بزرجمهر كما تعرف حكم أكثم بن صيفي، وتعر ف تاريخ الفرس كما تعرف تاريخ العرب، وتعرف أقوال كسرى وسابور وأبرويز، وموبذ موبذان، كما تعرف أقوال الخلفاء الراشدين والأمويين، فقد جاء في نصيحة عبد الحميد الكاتب إلى الكتاب: فنافسوا معشر الكتاب في صنوف العلم والأدب، وتفقهوا في الدين، وابدءوا بعلم كتاب الله عز وجل والفرائض، ثم العربية؛ فإنها ثقاف ألسنتكم، وأجيدوا الخط فإنه حلية كتبكم، وارووا الأشعار، واعرفوا غريبها ومعانيها، وأيام العرب والعجم، وأحاديثها وسيرها؛ فإن ذلك معين لكم على ما تسمون إليه بهممكم، ولا يضعفن نظركم في الحساب، فإنه قوام كتاب الخراج منكم.» وقال الرشيد للكسائي معلم أولاده: «يا علي بن حمزة، قد أحللناك المحل الذي لم تكن تبلغه همتك، فرونا من الأشعار أعفها، ومن الأحاديث أجمعها لمحاسن الأخلاق، وذاكرنا بآداب الفرس والهند، ولا تسرع علينا الرد في ملأ، ولا تترك تثقيفا في خلاء.».
12
السبب الثاني في نشر الثقافة الفارسية: انتقال عاصمة الخلافة من دمشق إلى العراق، وكان من أكبر بواعث العباسيين على هذا الانتقال أن دمشق كانت عاصمة الأمويين، وكانت ضلع الشام مع بني أمية من عهد الخلاف بين علي ومعاوية، وكان الشاميون هم الجند المخلص لبني أمية، وهم مثال الطاعة لدولهم، فمن حزم العباسيين ألا تكون عاصمة الدولة الجديدة بين الشاميين وتحت رحمتهم، وفوق ذلك فدمشق بعيدة جدا عن خراسان منبع الثورة، ومصدر الدعوة، وذخيرة العباسيين وعمادهم.
وسبب آخر؛ وهو: أن دمشق منتحية ناحية الغرب، وليست في الوسط، ولا قريبة من وسط المملكة التي تمتد من البحر الأبيض إلى الهند. والعراق يحقق هذه الأغراض؛ فبغداد قريبة من خراسان، قريبة من الشرق، بعيدة عن الروم، كثيرة الخيرات، صالحة لأن تكون نقطة اتصال بين الفرس والأمم السامية. وقد كره العباسيون أن يتخذوا البصرة أو الكوفة مقرا لهم؛ لأن تاريخهما - وخصوصا البصرة - سلسلة ثورات متصلة، ولأن فيهما عددا كبيرا يتشيع لعلي وأولاده، وهذا التشيع جرم يؤاخذ عليه العباسيون، كما كان يؤاخذ عليه الأمويون؛ لذلك اتخذ السفاح مدينة الهاشمية قرب الأنبار. فلما جاء أبو جعفر المنصور اختار موقع بغداد، وقد وفق في اختياره، فبجانبها الأراضي الخصبة بين دجلة والفرات، وهي كما قال بعض النصارى للمنصور: «يا أمير المؤمنين، تكون على الصراة بين دجلة مع الفرات، فإذا حاربك أحد كانت دجلة والفرات خنادق لمدينتك، ثم إن الميرة تأتيك في دجلة من ديار بكر تارة، ومن البحر والهند والصين والبصرة، وفي الفرات من الرقة والشام، وتجيئك الميرة أيضا من خراسان وبلاد العجم في نهر تامرا، وأنت يا أمير المؤمنين بين أنهارك لا يصل عدوك إليك إلا على جسر أو قنطرة، فإذاقطعت الجسر وأخربت القنطرة لم يصل إليك عدوك، وأنت متوسط للبصرة والكوفة، وواسط، والموصل، والسواد، وأنت قريب من البر والبحر والجبل.».
13
والذي يهمنا هنا أن بغداد كانت في العراق؛ حيث عواصم الممالك القديمة مثل بابل والمدائن.
لهذا كله أصبحت بغداد بعد قليل أهم مركز للحضارة والثقافة في المملكة الإسلامية، بل في العالم كله. ونحن إذا استثنينا أوقات الفتن والاضطرابات أمكننا أن نقول إنها ظلت في رقي واتساع وعظمة، إلى نهاية القرن الخامس الهجري.
كان لهذا الانتقال من الشام إلى العراق أثر كبير من الناحية العقلية؛ فقد كان يسكن العراق أمم مختلفة. وتداولت عليه دول خلفت فيه مدنيتها وثقافتها، وكان يسكنه قبيل الفتح الإسلامي بقايا من الأمم القديمة؛ مثل الكلدان والسريان ، وهم الذين يلقبون بالآراميين، وكان يسكنه العرب من إياد وربيعة، وكان يقيم به المناذرة الذين أسسوا ملك الحيرة، وكانت مدنية الفرس غالبة عليه؛ لأن آخر من حكمه قبل الإسلام هم الساسانيون من الفرس، وظل في أيديهم زمنا طويلا، إلى أن استولى عليه المسلمون في أيام عمر، وكانت فيه «المدائن» عاصمة الساسانيين. كل هذا جعل العراق أكثر ما يكون اصطباغا بالفارسية، فلما كان العباسيون وكان الفرس هم الذين أعانوهم، كان من هذا وذاك نفوذ للفرس عظيم في المناصب وفي الثقافة.
والآن نريد أن نبحث النواحي التي كان فيها للثقافة الفارسية أثر في الثقافة الإسلامية:
فأول ذلك الألفاظ اللغوية: ذلك أن العرب لما تحضروا بعد البداوة وجدوا أنفسهم أمام أشياء كثيرة، ليس في ألفاظهم ما يدل عليها، وكان ذلك في جميع مرافق الحياة، من أدوات الزينة، وأنواع المأكل والملبس، وآلات الغناء، والدواوين ونظامها ونحو ذلك، فسلكوا خير طريق يسلك لذلك؛ وهو: أن يتوسعوا في مداولات الكلمات العربية أحيانا، ويأخذوا الكلمات الأجنبية كما هي أحيانا، ومصقولة بما يتفق ولسانهم أحيانا. وكانت اللغة الفارسية منبعا كبيرا من المنابع التي تستمد منها اللغة العربية، وتوسع به مادتها، حكى الصولي قال: «حدثنا علي بن الصباح، قال: سمعت الحسن بن رجاء يقول: ناظر فارسي عربيا بين يدي يحيى بن خالد البرمكي فقال الفارسي: ما احتجنا إليكم قط في عمل ولا تسمية، ولقد ملكتم فما استغنيتم عنا في أعمالكم ولا لغتكم، حتى طبيخكم وأشربتكم ودواوينكم، وما فيها على ما سمينا، ما غيرتموه، كالإسفيداج والسكباج، والدوغباج، وأمثاله كثيرة، وكالسكنجين والخلنجين والجلاب، وأمثاله كثيرة، وكالروزنامج، والأسكدار والفراونك، وإن كان روميا، ومثله كثير، فسكت عنه العربي، فقال له يحيى بن خالد قل له: اصبر لنا نملك كما ملكتم ألف سنة، بعد ألف سنة كانت قبلها لا نحتاج إليكم، ولا إلى شيء كان لكم!».
14
ويقول الجاحظ: «ألا ترى أن أهل المدينة لما نزل فيهم ناس من الفرس في قديم الدهر علقوا بألفاظ من ألفاظهم، ولذلك يسمون البطيخ الخربز.» وكذا أهل الكوفة فإنهم يسمون المسحاة «بال»، و«بال» بالفارسية، وأهل البصرة إذا التقت أربعة طرق يسمونها مربعة، ويسميها أهل الكوفة «بالجهارسو»، والجهارسو فارسية، ويسمون السوق أو السويقة «وازار»، والوازار فارسية، ويسمون القثاء خيارا، والخيار فارسية ... إلخ.
15
من قديم تسربت ألفاظ فارسية إلى اللغة العربية، وكان ذلك بطريق التجارة أو الاختلاط، ولكنها تعد قليلة إذا قيست بالألفاظ التي دخلت في العصر العباسي للسبب الذي ذكرنا؛ وهو أن العرب كانوا أكثر شعورا بأسباب الحضارة في العصر العباسي، فكانوا أشد احتياجا للاقتباس من الفرس، ولأن اللغة العربية لم تعد ملكا للعرب وحدهم؛ بل كانت ملكا للعالم الإسلامي جميعه، والعالم الإسلامي لا يتعصب للغة العربية تعصب العرب؛ فهو يفسح صدره للغات الأخرى ما دعا داع إليها.
ثانيا: قد كان للفرس من قديم علم وأدب يتناسبان مع ضخامة ملكهم وعظم سلطانهم، فلما جاءت الدولة العباسية، وكثير من رعيتها فرس، لهم نزعة وطنية، وميول قومية، أخذ المثقفون ينقلون إلى العربية تراث آبائهم، وما حفظته العصور إلى عهدهم.
كانت لهم كتب في التنجيم والهندسة والجغرافية، وكانت تتوالى عليهم نكبات تذهب بكثير من كتبهم، ولكن كانت مدينتهم في حياة وعظمة، فكانت تسترد مجدها بتأليف كتب جديدة تساير عظمتهم. وأكبر نكبة عرتهم كانت بفتح الإسكندر الأكبر لبلادهم، وقد تلف في هذا الحرب كثير من خزائن كتبهم، فلما جاءت الساسانية (226-652م) استعادوا أدبهم وعلمهم. وأظهر ملوكهم في الميل إلى العلم، وتشجيع الترجمة والتأليف أردشير بابك (2260-241م)؛ فقد بعث في طلب الكتب من الهند والروم والصين، وكذلك كان الشأن في عهد ابنه سابور، وعهد كسرى أنوشروان.
وقد دامت الدولة الساسانية نحو أربعة قرون، خلفت فيها علما كثيرا، وأدبا وفيرا. وأكثر ما نقل إلينا في العصر العباسي (من الأدب والعلم، والأساطير والتاريخ) إنما يرجع إلى هذه الأسرة؛ قال حمزة الأصفهاني: «فأما تواريخ من كان قبل الساسانية من ملوك الأشغانية، فلم أشتغل بها للآفات المعترضة فيها (كانت) في أزمنة أولئك الملوك، وذلك أن الإسكندر لما استولى على أرض بابل وقهر أهلها، حسدهم على ما كان اجتمع لهم من العلوم التي لم تجمع قط لأمة من الأمم مثلها؛ فأحرق من كتبهم ما نالته يده، ثم قصد إلى قتل الموابذة والهرابذة والعلماء والحكماء، ومن كان يحفظ عليهم في أثناء
16
علومهم تواريخهم، حتى أتى على عامتهم، هذا بعد أن نقل ما احتاج إليه من علومهم إلى لسان اليونانيين.»
17
فلما نشطت الحركة العلمية في العصر العباسي أخذ طائفة ممن يجيدون اللسانين الفارسي والعربي ينقلون الكتب من الفارسية إلى العربية، وقد عقد ابن النديم في كتابه الفهرست فصلا لأسماء النقلة من الفارسي إلى العربي، ذكر منهم: (1) عبد الله بن المقفع (2) آل نوبخت (3) موسى ويوسف ابني خالد (4) أبا الحسن علي بن زياد التميمي (5) الحسن بن سهل (6) البلاذري (7) جبلة بن سالم (8) إسحاق بن يزيد (9) محمد بن الجهم البرمكي (10) هشام بن القاسم (11) موسى بن عيسى الكردي (12) زادويه ابن شاهويه الأصفهاني (13) محمد بن بهرام بن مطيار الأصفهاني (14) بهرام بن مردان شاه (15) عمر بن الفرخان.
18
وقد ترجم عبد الله بن المقفع «كتاب خداينامه»، وهو كتاب في تاريخ الفرس من أول نشأتهم إلى آخر أيامهم، وقد سماه ابن المقفع «تاريخ ملوك الفرس»، والظاهر أن الطبري اعتمد عليه في كتابه تاريخ الأمم والملوك عند كلامه على «الساسانيين»، وترجم كذلك كتاب «آبين نامه»، ومعنى الآبين النظم والعادات، والعرف والشرائع، فالكتاب وصف لنظم الفرس، وتقاليدهم وعرفهم، وقد ذكر المسعودي أنه كتاب كبير، يقع في آلاف من الصفحات.
كذلك ترجم ابن المقفع عن الفارسية «كليلة ودمنة»، وكتاب «مزدك»، وهو يتضمن سيرة مزدك الزعيم الديني الفارسي المشهور، وكتاب «التاج في سيرة أنوشروان»، وكتاب «الأدب الكبير» و«الأدب الصغير»، وكتاب «اليتيمة».
19
وقد ذكر المسعودي أن ابن المقفع ترجم كتابا اسمه كتاب «الكيكيين» من الفارسية الأولى إلى العربية، وهذا الكتاب تعظمه الفرس لما قد تضمنه من خبر أسلافهم وسير ملوكهم.
20
وقد عني المترجمون فترجموا كتبا عديدة من تاريخ الفرس، يقول حمزة الأصبهاني: «اتفق لي ثمان نسخ من تاريخ الفرس، وهي كتاب سير ملوك الفرس من نقل ابن المقفع، وكتاب سير ملوك الفرس من نقل محمد بن الجهم البرمكي، وكتاب تاريخ ملوك الفرس المستخرج من خزانة المأمون، وكتاب سير ملوك الفرس من نقل زادويه بن شاهويه الأصفهاني، وكتاب سير ملوك الفرس من نقل أو جمع محمد بن بهرام بن مطيار الأصبهاني، وكتاب تاريخ ملوك بني ساسان من نقل أو جمع هشام بن قاسم الأصبهاني، وكتاب تاريخ ملوك بني ساسان من إصلاح بهرام بن مردانشاه موبذ «كورة شابور» من بلاد فارس، فلما اجتمعت لي هذه النسخ ضربت بعضها ببعض، حتى استوفيت منها حق هذا الباب.»
21
وقال المسعودي: «ورأيت بمدينة إصطخر من أرض فارس في سنة 303، عند بعض أهل البيوتات المشرفة من الفرس كتابا عظيما يشتمل على علوم كثيرة من علومهم، وأخبار ملوكهم وأبنيتهم وسياستهم، لم أجدها في شيء من كتب الفرس؛ كخداينامه، وكهنامه، وغيرها، مصور فيه ملوك فارس من آل ساسان سبعة وعشرون ملكا، منهم خمسة وعشرون رجلا وامرأتان.»
22
وترجم جبلة بن سالم «كتاب رستم واسفنديار»، و«كتاب بهرام شوس»، وهما في السير.
23
وقد ترجم من الكتب الدينية كتاب زرادشت المسمى «أفستا»، وما عليه من شروح، وينقل عنه حمزة الأصفهاني.
24
ويقول المسعودي: «كانوا يقولون إن رجلا بسجستان بعد الثلثمائة مستظهر يحفظ هذا الكتاب على الكمال.»
25
وفي الأدب ترجموا عن الفرس أشياء كثيرة، منها ما ذكرنا قبل من كليلة ودمنة، واليتيمة، والأدب الكبير والصغير، ومنها كتاب «هزار أفسانه»، ومعناه ألف خرافة، وهو أصل من أصول «ألف ليلة وليلة»، وكثير غيره من كتب القصص، ككتاب بوسفاس، وكتاب خرافة ونزهة، وكتاب الدب والثعلب، وكتاب روزبه اليتيم، وكتاب نمرود ... إلخ.
كما ترجموا في الأدب عهد أردشير، وهو محفوظ بالعربية إلى عهدنا، وكتاب موبذ موبذان، وكتاب أردشير في التدبير، وتوقيعات كسرى، وكتاب أدب الحرب ... إلخ.
26
هذا الذي ذكرنا كان ترجمة ونقلا منا للسان الفارسي إلى العربي، وشيء آخر لا يقل عنه شأنا، وهو: أنه كان هناك قوم أتقنوا اللغة الفارسية والعربية معا، فعكفوا على قراءة الكتب الفارسية يتثقفون بها، ويرقون أفكارهم وعقولهم ، ثم هم يخرجون باللغة العربية أدبا وشعرا وعلما، وليس ما يخرجونه نقلا تاما لكلام فارسي، ولكنه منبعث عنه، ومتولد منه؛ كالعربي اليوم يتثقف ثقافة فرنسية أو إنجليزية أو ألمانية، ثم هو بعد ذلك يخرج أدبا جديدا بلغته العربية لا يسمى أدبا أوروبيا، ولكنه نتاجه ومتأثر به، وسائر على أثره.
كان كثير من الفرس على هذا النحو، حذقوا الفارسية والعربية، وتثقفوا الثقافتين، وأنتجوا في الأدب العربي نتاجا جديدا؛ كالفضل بن سهل، وسهل بن هارون، وابن المقفع، ويقول الجاحظ عن موسى بن سيار الأسواري (أحد القصاص): كان من أعاجيب الدنيا، كانت فصاحته بالفارسية في وزن فصاحته بالعربية، وكان يجلس في مجلسه المشهور به، فيقعد العرب عن يمينه، والفرس عن يساره، فيقرأ الآية من كتاب الله ويفسرها للعرب بالعربية، ثم يحول وجهه إلى الفرس فيفسره لهم بالفارسية. فلا يدرى بأي لسان هو أبين. واللغتان إذا التقتا في اللسان الواحد أدخلت كل واحدة منها الضيم على صاحبتها، إلا ما ذكروا من لسان موسى بن سيار الأسواري.»
27
بل نرى قوما من العرب تعلموا الفارسية، ووجدوا فيها من الغذاء ما لم يجدوه في العربية، فعكفوا على كتبها يتدارسونها، ويمعنون في دراستها، ثم يخرجون بعد أدبا عربيا، فيه معاني الفرس، وبلاغة العرب، نذكر مثلا على ذلك «العتابي» الشاعر العباسي المشهور، وهو عربي من تغلب، اسمه كلثوم بن عمرو بن أيوب، تثقف بالثقافة الفارسية، وأعجب بها، يحدثنا طيفور فيقول: «قال يحيى بن الحسن: إني بالرقة بين يدي محمد بن طاهر بن الحسين على بركة، إذ دعوت بغلام له فكلمته بالفارسية، فدخل العتابي، وكان حاضرا في كلامنا، فتكلم معي بالفارسية، فقلت له: أبا عمرو، مالك وهذه الرطانة؟ قال: فقال لي: قدمت بلدتكم هذه ثلاث قدمات، وكتبت كتب العجم التي في الخزانة بمرو، وكانت الكتب سقطت إلى ما هناك مع يزدجرد، فهي قائمة إلى الساعة. فقال: كتبت منها حاجتي، ثم قدمت نيسابور وجزنها بعشر فراسخ إلى قرية يقال لها ذودر، فذكرت كتابا لم أقض حاجتي منه، فرجعت إلى مرو، فأقمت أشهرا. قال:قلت أبا عمرو لم كتبت كتب العجم؟ فقال لي : وهل المعاني إلا في كتب العجم والبلاغة، اللغة لنا، والمعاني لهم! ثم كان يذاكرني ويحدثني بالفارسية كثيرا.»
28
كان العتابي إذن مثقفا ثقافة فارسية، وأنت إذا قرأت شعره ونثره تبينت منه أنه كان أديبا ممتازا، غزير المعاني، على حين أن كثيرا من الشعراء أشعارهم جوفاء، تقرأ له مثلا في العقد الفريد قطعا نثرية غزرت معانيها، ودق أسلوبها، وتقرأ له شعرا مطبوعا في فنون مختلفة من فنون الشعر، فتشعر بروح غير مألوف، كأن يقول:
فلو كان للشكر شخص يبين
إذا ما تأمله الناظر
لمثلته لك حتى تراه
لتعلم أني امرؤ شاكر
فيفتن به الناس، ويتغنون به زمنا طويلا،
29
وهو الذي يقول:
ما جف للعينين بع
دك يا قرير العين مجرى
إن الصبابة لم تدع
مني سوى عظم مبرى
ومدامع عبرى على
كبد عليك الدهر حرى
وله حكم تشبه حكم ابن المقفع، كأن يقول: الأقلام مطايا الفطن. قريبك من قرب منك خيره، وابن عمك من عمك نفعه، وعشيرك من أحسن عشرتك، وأهدى الناس إلى مودتك من أهدى بره إليك. وكتب يوصي بشخص فقال: «موصل كتابي إليك أنا: فكن له أنا!» وعلى الجملة فالعتابي شخصية نادرة، لم تقدر قدرها اللائق بها، قليل اللفظ، غزير المعنى، يدل نثره وشعره على ثقافة واسعة، قد اجتمع له من الإجادة في النظم والنثر ما ندر أن يجتمع لغيره، وقد أدركنا سبب ذلك مما علمنا من ثقافته.
هؤلاء الفرس الذين تعربوا، وهؤلاء العرب الذين أخذوا بحظ من الثقافة الفارسية، ملئوا الدنيا في هذا العصر العباسي علما وحكمة وشعرا ونثرا، فيها العنصر الفارسي واضح جلي. ومن حظ العربية وقتذاك أنها سادت اللغة الفارسية وغلبتها على أمرها، فكان نتاج العقول الفارسية الراجحة إنما هو باللغة العربية لا الفارسية، شعر الشاعر منهم عربي كبشار، وأدب الأديب منهم كابن المقفع، وتأليف المؤلف منهم عربي كابن قتيبة والطبري ... إلخ.
ثالثا: أثر الثقافة الفارسية في الأدب العربي، وقد كان ذلك من جملة وجوه: (1)
أن الأدب في كل عصر ظل الحياة الاجتماعية، وقد كانت هذه الحياة ذات ألوان متعددة، أظهر لون فيها اللون الفارسي.
وبيان ذلك أن العادات الفارسية تغلغلت في الناس في ذلك العصر، وكان مظهرها واضحا جليا، فالناس يتخذون يوم النيروز عيدا لهم كالفرس قديما، والقضاة وعظماء الدولة يلبسون القلنسوة كالفرس، ومجالس الغناء واللهو والشراب هي مجالس الفرس. والفضل بن سهل وزير المأمون (وهو فارسي) يحتال حتى يقنع المأمون بتغيير السواد بالخضرة، ويكتب إلى جميع العمال أن يجعلوا أعلامهم وقلانسهم خضرا، والخضرة هي لباس كسرى والمجوس.
30
ونظام الحرب وإدارة الدولة اتبعت في أغلب الأحيان نظام الفرس في حروبهم وإدارتهم، إلى كثير من أمثال ذلك.
والفرس من قديم ميالون إلى الإفراط في الشراب، والإفراط في الغناء، حتى وصفهم «هيرودوت» بالإمعان في ذلك، والغلو فيه، وتصريفهم شئون الدولة وهم سكارى.
ويروي حمزة الأصفهاني أن «بهرام جور» أمر الناس أن يعملوا من كل يوم نصفه، ثم يستريحوا ويتوافروا على الأكل والشراب واللهو، وأن يشربوا على سماع الغناء؛ فعز المغنون ... ومر بقوم يشربون على غير ملهين (مغنين) فقال: أليس قد نهيتكم عن الغفلة عن الملاهي؟ فقالوا: طلبناه بزيادة على مائة درهم فلم نقدر عليه. فكتب إلى ملك الهند يستدعي منه ملهين، فبعث إليه اثنى عشر ألف رجل منهم، ففرقهم على بلدان مملكته فتناسلوا بها.»
فما إن قرت الدولة العباسية حتى عاد الفرس إلى سيرتهم الأولى، فملئوا الجو غناء ونبيذا ولهوا وترفا، ورأينا رجالهم في كل فن من هذه الفنون هم قادة الناس في ذ لك، فإبراهيم الموصلي وابنه إسحاق ينشران اللهو الظريف والغناء الحلو، ويعلمان الجواري، ويقدمان للناس المثل في حياة السرف والإتلاف في تحصيل اللذائذ، وكانا مع حسن صوتهما (وخاصة إسحاق) عالمين أديبين شاعرين، وقد وضع إسحاق علم الموسيقى في الدولة العباسية، وألف فيه، وأولع الناس بغنائهما، وقلدوهما في فنهما ولهوهما، ولما مات إبراهيم رثاه الشعراء بما يدل على أثره فيهم، فمن قائل:
تولى الموصلي فقدت ولت
بشاشات المزاهر والقيان
وأي بشاشة بقيت فتبقى
حياة الموصلي على الزمان
ستبكيه المزاهر والملاهي
وتسعدهن عاتقة الدنان
31
ومن قائل:
ستبكيه أشراف الملوك إذا رأوا
محل التصابي قد خلا منه جانبه
ويبكيه أهل الظرف طرا كما بكى
عليه أمير المؤمنين وحاجبه!
ومن قائل:
أصبح اللهو تحت عفر التراب
ثاويا في محلة الأحباب
إذ ثوى الموصلي فانقرض اللهو
بخير الإخوان والأصحاب
بكت المسمعات حزنا عليه
وبكاه الهوى وصفو الشراب
وبكت آلة المجالس حتى
رحم العود دمعة المضراب
32
وبشار بن برد الفارسي كان إمام المحدثين، والفاتح لهم باب التهتك على مصراعيه، سار شعره في العراق فلا غزل ولا غزلة إلا يروي من شعره، ولا نائحة ولا مغنية إلا تتكسب به، ويأتيه النساء في بيته فيأخذن عنه شعره.
ويقول سوار بن عبد الله، ومالك بن دينار: «ما شيء أدعى لأهل هذه المدينة (البصرة) إلى الفسق من أشعار هذا الأعمى!» وكان واصل بن عطاء يقول:إن من أخدع حبائل الشيطان وأغواها لكلمات هذا الأعمى الملحد!»
33
ويقول بشار: «عسر النساء إلى مياسرة» فيشجع الفتيان على الإمعان في المغازلة والإلحاح في الطلب.
34
فلما فتح هذا الباب لج فيه من أتى على أثره، سواء في ذلك العربي والعجمي؛ كمطيع بن إياس، وأبي نواس. وكان لنا من هؤلاء جميعا أدب داعر، لا يتعفف عن العبث بالغلمان، ولا يكني عن فحش، إن ملح من ناحيته الفنية فالذوق النبيل لا يستسيغه.
نعم في الأدب الجاهلي خمر تراه في مثل شعر طرفة، وفحش تراه في مثل امرئ القيس: «تقول وقد مال الغبيط بنا معا»، و«ألا عم صباحا أيها الطلل البالي». وكان في الأدب الأموي خمر كالذي في شعر الأخطل، وكان غزل مكشوف كغزل عمر بن أبي ربيعة. ولكن أين هذا كله من شعر بشار وصريع الغواني ومطيع بن إياس، وأبي نواس! قد كان فجور الأولين ساذجا بسيطا في ألفاظه ومعانيه كمعيشتهم، وكان فجور الآخرين مركبا ممعنا في الوصف، شاملا لكل المظاهر، ومشاعر الشهوة، يتخير أقبح اللفظ لأقبح المعنى.
قد تقول: إن هذا نتيجة طبيعية لسير المدنية، فلما تقدمت بالناس حياتهم الاجتماعية، وما يتبعها من ترف، تقدم الشعر والأدب يسايران عيشة الترف والنعيم، فما للفرس ولهذا؟!
وقد يكون في هذا القول كثير من الصحة، ولكني أظن أن الأمر ما كان يصل إلى هذا الحد لولا الفرس؛ فهم الذين دفعوا الناس إلى حياة ترف ألفوها هم وآباؤهم عن عهد الأكاسرة، وعلموهم كيف يكون الإفراط في طلب الملاذ من طرق فنية أكسبتهم إياها حضارتهم القديمة، لا من طريق ساذج كالذي يعرفه العرب. هل كان يعرف العرب مجالس الغناء المتقنة، ومجالس الشراب المترفة، وحياة النعيم الناعمة لولا الفرس؟ فعظماء الفرس كالبرامكة وأمثالهم أرشدوا الناس إليها، وفنانوهم كإبراهيم الموصلي غنوهم عليها، وشعراؤهم كبشار بن برد كانوا لسانهم الناطق بها، المحدث عنها! ولو كانت الحياة الأموية امتدت وظلت السيادة العربية ما رأيت تشبيبا بغلمان، ولا هذا السيل الجارف من القيان، ولما رأيت نعيما وترفا وفيرا. ألم تر الشام ومصر والأندلس في هذا العصر نفسه؟ لم تنغمس في الترف كما انغمست العراق وفارس، ولم يكن أدبها أدبا ناعما داعرا كالذي كان في العراق. قد تكون كثرة المال يصب في حاضرة الخلافة سببا للترف في الحياة، والترف في الأدب، ولكن المال وحده لا يكفي لولا العنصر الفارسي الذي كان ينظم كيف يستخدم المال في هذه السبيل.
من الحق أن نقول إن هذه النزعة إلى اللهو والترف لم تكن نزعة عامة شاملة للفرس، بل كان هناك نزعات أخرى بجانبها، أظهرها ما كان يقابلها من نزعة الزهد، وكان زعيم هذه النزعة في الأدب أبا العتاهية الفارسي أيضا.
قد كان قبل أبى العتاهية حياة زهد في الجاهلية، وفي العصر الإسلامي، وكان قبل أبي العتاهية شعر زاهد، ولكن أبا العتاهية أتى في هذا الباب بما لم يسبق إليه، وزاد في معانيه زيادة بشار وأبي نواس في أدب اللهو والمجون.
وأصح تعبير في ذلك أن نقول إنه فلسف الزهد، وملأ الأدب العربي في عصره بالموت والتخويف منه، ومما بعده، واحتقار اللذة، والجد في الهرب منها:
لدوا للموت وابنوا للخراب
فكلكم يصير إلى تباب
35
لمن نبني ونحن إلى تراب
نصير كما خلقنا من تراب؟
ألا ياموت لم أر منك بدا
أتيت وما تحيف وما تحابي! •••
طلبتك يا دنيا فأعذرت في الطلب
فما نلت إلا الهم والغم والنصب
فلما بدا لي أنني لست واصلا
إلى لذة إلا بأضعافها تعب
وأسرعت في ديني ولم أقض بغيتي
هربت بديني منك إن نفع الهرب
وشعر لجمهور الناس لا للخاصة، وقال: إن الزهد ليس من مذاهب الملوك، ولا من مذاهب رواة الشعر بها، ولا طلاب الغريب. وهو مذهب أشغف الناس به الزهاد، وأصحاب الحديث، والفقهاء، والعامة، وأعجب الأشياء إليهم ما فهموه.
36
وقال المبرد: «كان يخرج القول منه كمخرج النفس قوة وسهولة واقتدارا.»
وقد كان لشعره صبغة علمية دينية فلسفية، قال الصولي: «كان مذهب أبي العتاهية القول بالتوحيد، وأن الله خلق جوهرين متضادين لا من شيء، ثم إنه بنى العالم هذه البنية منهما، وأن العالم حديث العين والصنعة، لا محدث له إلا الله. وكان يزعم أن الله سيرد كل شيء إلى الجوهرين المتضادين قبل أن تفنى الأعيان جميعا، وكان يذهب إلى أن المعارف واقعة بقدر الفكر والاستدلال والبحث طباعا.
37
وكان يقول بالوعيد، وبتحريم المكاسب، يتشيع بمذهب الزيدية البترية المبتدعة لا ينتقص أحدا، ولا يرى مع ذلك الخروج على السلطان، كان مجبرا.»
38
وعلى الجملة فالشعر الديني الذي كان يحمل لواءه في ذلك العصر صالح بن عبد القدوس وأبو العتاهية؛ فيه نزعة ثنوية كان ينزعها الفرس قديما، وسنرى عند الكلام في التصوف أثر الفرس في حياة الزهد، ولكن يمكننا أن نقول الآن: إنه إن كان في نزعة بشار الإباحية عنصر مزدكي ففي نزعة أبي العتاهية الزاهدة عنصر مانوي.
وقد كان للفرس أثر كبير في الأدب غير هذا الذي ذكرناه؛ فقد كانت كتبهم في القصص التي نقلت من الفارسية إلى العربية (ككليلة ودمنة وهزار إفسانه) أساسا من الأسس التي بنت عليها الأجيال المتعاقبة ما بين أيدينا من قصص عربي، فابن النديم يروي أن محمد بن عبدوس الجهشياري صاحب كتاب الوزراء «ابتدأ بتأليف كتاب اختار فيه ألف سمر من أسمار العرب والعجم والروم، وغيرهم، كل جزء قائم بذاته لا يعلق بغيره، وأحضر المسامرين فأخذ عنهم أحسن ما يعرفون ويحسنون، واختار من الكتب المصنفة في الأسمار والخرافات ما يحلو بنفسه، وكان فاضلا فاجتمع له من ذلك أربعمائة ليلة وثمانون ليلة، كل ليلة سمر تام يحتوي على خمسين ورقة، وأقل وأكثر، ثم عاجلته المنية قبل استيفاء ما في نفسه من تتميمه ألف سمر.»
39
و ضرب آخر من الآداب كان للفرس فيه أثر كبير، وهو باب «التوقيعات»؛ ذلك أن الفرس قبل الإسلام كانوا يعنون بالبلاغة عناية كبرى، وكان لهم فيها تأليف كما حكى الجاحظ. وكان من أظهر عنايتهم بالبلاغة والحكم التوقيعات. قد كان الفرس ككل الشعوب، يرفعون إلى ولاة أمورهم أوراقا تتضمن طلبا لشيء، أو شكوى من شيء، نسميها نحن الآن «عرائض»، وكانت تسمى عند العرب «قصصا»، سميت كذلك على سبيل المجاز؛ لأن القصة اسم للمحكي في الورقة، فسميت الورقة نفسها «قصة»، وكانت تسمى كذلك رقاعا، لصغر حجمها تشبيها لها برقعة الثوب.
كانت هذه القصة ترفع إلى الملك، أو من يليه تبعا لموضوعها، وتبعا للمتظلم وقدره، وقد جرت عادة الملوك والولاة من الفرس أن يوقعوا على هذه القصص بعبارة بليغة، أو حكمة حكيمة، يتخير لها أحسن اللفظ، وأجود المعنى، وتتناقل أثرا من الآثار القيمة، كما يتناقل المثل الجيد. وقد نقل إلى أدبنا العربي الشيء الكثير من توقيعات ملوك الفرس؛ من ذلك أن رجلا رفع إلى كسرى بنقباذ رقعة يخبره فيها أن جماعة من بطانته قد فسدت نياتهم، وخبثت ضمائرهم؛ منهم فلان وفلان، فوقع في أسفل كتابه: «إنما أملك ظاهر الأجسام لا النيات، وأحكم بالعدل لا بالهوى، وأفحص عن الأعمال لا عن السرائر.» ووقع أنوشروان في قصة محبوس: من ركب ما نهي عنه حيل ما بينه وبين ما يشتهي! ومدح رجل من الخاصة كسرى بنقباذ بمدح أطنب فيه وأسهب، وذهب كل مذهب، وكان المدح في رقعة فوقع فيها كسرى: «إني للمدح مستصغر؛ لعلمي بأشياء قد مدحت، وكانت بأن تذم محقوقة.» إلخ. ولما تحضر العرب، وانتشرت بينهم الكتابة، وحرروا مظالمهم على رقاع بعد أن كانوا يشافهون بها أمراءهم، كان لهم توقيع. وقد نقلت توقيعات في أيام الخلفاء الراشدين وبني أمية، أخشى أن يكون كثير منها كان شفهيا فحور إلى توقيع، ولكن قد سال سيل التوقيعات في عهد بني العباس، وكان أكثر الكتاب والوزراء فرسا فساروا فيها على سنن آبائهم، وكثر ذلك حتى أنشئوا فيما بعد ديوانا سموه «ديوان التوقيع».
هذا إلى أنه كان للفرس شعر كثير، وأمثال كثيرة، وأدب كثير، وضع تحت أعين العرب، قال أبو هلال العسكري في رسالته «التفضيل بين بلاغتي العرب والعجم»: «للفرس أشعار لا تضبط كثرة، ولليونانيين أشعار دون الفرس.» ويقول في موضع آخر: «سمعت أبا بكر بن دريد يقول: اجتمع في ديوان صالح بن عبد القدوس (وهو رجل من شعرائهم) ألف مثل للعرب، وألف مثل للعجم.»
40
وترجمت بعض أمثال العجم إلى العربية؛ مثل: عفو الملك أبقى للملك، خاطر من استغنى برأيه، الأسد يفترس الأرنب إذا أعياه العير، الفرار في وقته ظفر، امنع أخاك من أكل الخبيث فإن أبى فأعطه ملعقة، من أوقد نار الفتنة احترق بها، لا تستبعد غدا وما بعده، هو يطلب الثمر بلا شوك.
41
وكانت هذه المعاني الفارسية تسرق وتنظم أو تحتذى، يقول بزرجمهر: «إذا أقبلت عليك الدنيا فأنفق فإنها لا تفنى، وإذا أدبرت عنك فأنفق فإنها لا تبقى.» فيقول الشاعر:
فأنفق - إذا أنفقت - إن كنت موسرا
وأنفق - على ما خيلت - حين تعسر
فلا الجود يفني المال والجد مقبل
ولا البخل يبقي المال والجد مدبر
42
ويخطب أردشير لما استوثق له الملك، يحرض الناس على الألفة والطاعة، ويقوم بين يديه خطيب فيقول له: «قد أشرق علينا من ضياء نورك ما عمنا عموم ضياء الشمس، ووصل إلينا من عظيم رأفتك ما اتصل بأنفسنا اتصال النسيم، فجمعت الأيدي بعد افتراقها، والكلمة بعد اختلافها، وألفت بين القلوب بعد تباغضها، وأذهبت الإحن والحسائك بعد استعار نيرانها.» فيقول خالد بن صفوان مثل هذا المعنى يخاطب واليا: «قدمت فأعطيت كلا بقسطه من نظرك ومجلسك وصلاتك وعدلك، حتى كأنك من كل أحد، أو كأنك لست من أحد!».
43
وقيل لابن المقفع: لم لا تطلب الأمور العظام؟ فقال: رأيت المعالي مشوبة بالمكاره، فاقتصرت على الخمول ضنا بالعافية، فأخذه العتابي وقال:
دعيني تجئني ميتتي مطمئنة
ولم أتجشم هول تلك الموارد
فإن جسيمات الأمور مشوبة
بمستودعات في بطون الأساود
44
وينصح طاهر بن الحسين الفارسي ابنه عبد الله لما ولاه المأمون الرقة ومصر بكتابه المشهور، ويوصيه فيه بجميع ما يحتاج إليه في دولته من الآداب الدينية والخلقية والسياسة والشرعية والملوكية، فتلمح فيه شبها كبيرا بينه وبين ما نقل إلينا من عهد أردشير.
45
ويكتب أبو مسلم الخراساني للمنصور حين أمره بالقدوم عليه: «أما بعد، فإنه مما حفظناه من وصايا الفرس: أخوف ما يكون الوزراء إذا سكنت الدهماء.»
46 •••
وشيء آخر كان له أثر كبير في الثقافة الإسلامية؛ ذلك ما تنبه إليه ابن خلدون من «أن حملة العلم في الملة الإسلامية أكثرهم العجم، لا من العلوم الشرعية، ولا من العلوم العقلية.
47
إلا في القليل النادر، وإن كان منهم العربي في نسبته فهو عجمي في لغته ومرباه ومشيخته.»
48
ويعلل ذلك بأن العلوم من جملة الصناعات، والصناعات من خصائص الحضر، والعرب كانوا بدوا، فكانت العلوم من نتاج الحضر، والحضر في ذلك العهد هم العجم، ومن في معناهم من الموالي. ويقول: «فكان صاحب صناعة النحو سيبويه، والفارسي من بعده، والزجاج من بعدهما، وكلهم عجم في أنسابهم، وإنما ربوا في اللسان العربي فاكتسبوه بالمربي ومخالطة العرب، وصيروه قوانين وفنا لمن بعدهم. وكذا حملة الحديث الذين حفظوه عن أهل الإسلام أكثرهم عجم، أو مستعجمون باللغة والمربى، وكان علماء أصول الفقه كلهم عجما كما يعرف، وكذا حملة علم الكلام، وكذا أكثر المفسرين. ولم يقم بحفظ العلم وتدوينه إلا الأعاجم، وظهر مصداق قوله (
صلى الله عليه وسلم ): لو تعلق العلم بأكناف السماء لناله قوم من أهل فارس.»
49
ونحن نعتقد أن ابن خلدون مع دقة ملاحظته قد غالى فيها غلوا كبيرا، وبخس العرب نصيبهم في المشاركة ؛ فلئن كان أبو حنيفة النعمان فارسيا فمالك والشافعي وأحمد بن حنبل عرب، ولئن كان سيبويه فارسيا فشيخه الخليل بن أحمد عربي. وليس كل علماء أصول الفقه عجما كما يقول؛ فواضعه وأول مؤلف فيه الشافعي وهو عربي، وغلو أن يدعى أن هؤلاء العلماء العرب هم عجم بالمربى، فإن المربى كان مزيجا من عرب وعجم.
ولكن مما لا شك فيه أن العجم - وخاصة الفرس - كانوا في جملتهم أقدر على التدوين والتأليف للسبب الذي ذكره ابن خلدون، وهو تعمقهم في الحضارة، ولأنهم مرنوا من قديم على التأليف بلغتهم هم وآباؤهم، فلما دخلوا في الإسلام وتعلموا العربية كان تأليفهم بالعربية سهلا يسيرا؛ لأنه ليس إلا احتذاء للمنهج، وإن اختلف الموضوع واللغة. إذن لا عجب من أن نرى في عصرنا الذي نؤرخه كثيرا من الفرس كانوا من السابقين الأولين في تدوين العلوم المختلفة.
فالإمام أبو حنيفة النعمان إمام المذهب، وحماد الراوية جامع المعلقات العشر، وراوي كثير من الشعراء، وسيبويه الإمام المقدم في النحو وتدوينه، والكسائي أحد الأئمة الأعلام في النحو واللغة والقراءات، وهو أحد القراء السبعة، والفراء أبرع الكوفيين وأعلمهم بالنحو واللغة والغريب وأخبار العرب وأيامها، وذو النزعة الشعوبية أبو العتاهية شاعر الزهد، وابن قتيبة المؤرخ الأديب، صاحب التآليف الكثيرة ككتاب المعارف وعيون الأخبار، كل هؤلاء وغيرهم ممن لم نذكرهم كانوا فرسا، وكان لهم أثر كبير في الثقافة العربية الإسلامية.
قد كان وراء هذه الثقافة الفارسية، وهؤلاء العلماء الفرس قوى تحميها وتدفعها، هذه القوى ظاهرة أحيانا وخفية أحيانا، وتنطوي على نية خير أحيانا ونية سوء أحيانا، منهم من يريد خدمة العلم، والعمل على نشره، لا يريد بذلك إلا وجه الله والعلم، ومنهم من يريد أن يشيد بالقومية الفارسية، والحط من القومية العربية، بل منهم من يريد الكيد للإسلام وأهله. ومنهم من يرى أن الحكمة ضالة المؤمن ينشدها حيث وجدها، ويعمل على إذاعتها. ومنهم من ينشر شعوبية، ومنهم من ينشر زندقة، ومنهم من يغلو في التشيع لأهل البيت، وهو يضمر السوء للمسلمين. كل هذا الخير وكل هذا الشر كان في النزعات الفارسية، وسيأتي توضيح لبعض ذلك في أبوابه.
يقول الجاحظ في وصف الفرس: «واعلم أن هذه الأحاديث من أحاديث الفرس، وهم أصحاب نفخ وتزيد،
50
ولاسيما في كل شيء مما يدخل في باب العصبية، ويزيد في أقدار الأكاسرة.»
51
وقد كان من أعظم من يحمي الثقافة الفارسية، وينشرها «البرامكة» الفرس، وما لهم من مال وفير، وكرم واسع، يحقق رجاءهم، ويبسط نفوذهم، روى الجاحظ عن ثمامة، قال: كان أصحابنا يقولون: لم يكن يرى لجليس خالد «البرمكي» دار إلا وخالد بناها له، ولا ضيعة إلا وخالد ابتاعها له، ولا ولد إلا وخالد ابتاع أمه إن كانت أمة، أو أدى مهرها إن كانت حرة، ولا دابة إلا وخالد حمله عليها؛ إما من نتاجه، أو من غير نتاجه.»
52
وهم مع هذا وذاك مثقفون ثقافة واسعة، وفي الغاية من العلم والأدب والفصاحة؛ يقول سهل بن هارون في وصف يحيى بن خالد البرمكي، وجعفر بن يحيى: «لو كان كلام يتصور درا، أو يحيله المنطق السري جوهرا لكان كلامهما والمنتقى من لفظهما!» ويحيى بن خالد ينشئ الكتاتيب للأيتام،
53
ويتحبب إلى الناس، ويحبب الناس أولاده، ويقول لولده: «لا بد لكم من كتاب وعمال وأعوان، فاستعينوا بالأشراف، وإياكم وسفلة الناس؛ فإن النعمة على الأشراف أبقى، وهي بهم أحسن، والمعروف عندهم أشهر، والشكر منهم أكثر.»
54
ما لقينا من جود «فضل بن يحيى»
ترك الناس كلهم شعراء
كان هؤلاء البرامكة وأمثالهم يعملون على نشر الثقافة الفارسية، فالفضل بن سهل الفارسي، الملقب فيما بعد بذي الرياستين، ينقل كتابا من الفارسية إلى العربية ليحيى البرمكي، فيعجب بفهمه وبجودة عبارته، فيدعوه يحيى إلى الإسلام لينال المناصب.
55
وهو بعد أن أصبح ذا الرياستين يبعث بمولاه، وبأحداث من أهله إلى شيخ بخراسان، ويقول لهم: تعلموا منه الحكمة، ثم يعرضون ما يعلمهم الشيخ على الفضل بن سهل، فيتبين فيها الأثر الفارسي.
56
وقد عرف عن البرامكة إيواؤهم لكثير ممن عرفوا بحرية الرأي، أو اتهموا بالزندقة، فكانت البرامكة تحسن إلى محمد بن الليث الخطيب، وتقدمه، وكان ممن يرمى بالزندقة.
57
وكان هشام بن الحكم الرافضي منقطعا إلى يحيى بن خالد البرمكي، وكان القيم بمجالس كلامه ونظره، وقد ألف كتبا كثيرة في الخلافة، ومسائل علم الكلام.
58
ومن الحق أن نذكر أن البرامكة لم يشجعوا الثقافة الفارسية وحدها، بل شجعوا كل ثقافة، فابن النديم يروي عند الكلام على كتاب المجسطي في الهيئة؛ أن أول من عني بتفسيره وإخراجه إلى العربية يحيى بن خالد بن برمك، ففسره له جماعة فلم يتقنوه، ولم يرض ذلك فندب لتفسيره أبا حسان، وسلما (صاحب بيت الحكمة) فأتقناه واجتهدا في تصحيحه.
59
كما أنه أمر بتفسير كتاب في الطب، لمنكه الهندي،
60
وبعث يحيى أيضا برجل إلى الهند ليأتيه بعقاقير موجودة في بلادهم، وأن يكتب له أديانهم، فكتب له هذا الكتاب.
61
فهؤلاء البرامكة، وإن عنوا بالثقافة الفارسية فقد عنوا بجانبها كذلك بالثقافة اليونانية والهندية والعربية.
والآن نستطيع أن نختار رجلا يمثل الثقافة الفارسية خير تمثيل، وليكن «ابن المقفع».
ابن المقفع
لسنا نريد أن نبحث في ابن المقفع بحثا تحليليا، في مولده وأسرته، ومناصبه التي تولاها، وعلاقته بالولاة والأمراء. ولا أن نبحث طويلا في مقدرته البلاغية وأسلوبه، وأثره في أسلوب عصره ومن أتى بعده، فذلك بالناحية الأدبية أشبه. وإنما نريد أن نبحث فيه من ناحية ثقافته الواسعة، وآثاره الخالدة، ومن ناحية أنه نتاج ثقافة فارسية عميقة واسعة، لقحت بعد بلقاح عربي، فكان من هذا وذاك أدب جم، مدين في أكثر معانيه للفرس، وفي أكثر ألفاظه وأساليبه للعربية. •••
ابن المقفع، فارسي الأصل، اسمه «روزبه بن داذويه». كان أبوه من قرية اسمها «جور»،
62
من إقليم فارس، ونشأ ابن المقفع بالبصرة في ولاء «آل الأهتم»، وهم معروفون بالفصاحة واللسن، وخالط الأعراب وأخذ عنهم، وكان أبوه يدين بمذهب زرادشت، ونشأ ابن المقفع كأبيه زرادشتيا، وتقلد الكتابة لكثيرين، فكتب ليزيد بن عمر بن هبيرة، وكان يزيد واليا على العراق لمروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، ثم كتب لأخيه داود بن عمر بن هبيرة، ثم اتصل بعيسى بن علي بن عبد الله بن عباس عم السفاح والمنصور، وكان إلى هذا العهد لا يزال مجوسيا، فأسلم على يديه وكتب له، ثم قتل لتشدده (على ما يقول كثير من المؤرخين) في كتابة صيغة الأمان التي وضعها ابن المقفع ليوقع عليها أبو جعفر المنصور أمانا لعبد الله بن علي، فأفرط ابن المقفع في الاحتياط فيها، حتى لا يجد المنصور منفذا فيها للإخلال بعهده،
63
فغاظ المنصور ذلك فأوعز بقتله.
ولم نجد للمؤرخين سببا آخر لقتله، إلا ما حكاه الجاحظ من أن ابن المقفع كان أغرى عبد الله بن علي بالمنصور، ففطن له وقتل،
64
وكان قتله سنة 142ه، أو 143 أو 145 على خلاف في ذلك.
65
نستطيع أن نستنتج من هذا نتيجتين هامتين:
الأولى:
أنه لم يقض من حياته في العصر العباسي إلا نحو عشر سنوات، أما بقية حياته فقد قضاها في العصر الأموي، وشهد اضطهاد العرب للموالي، وشاركهم في محنتهم وبؤسهم أيام الأمويين. ولم يكن مسلما يلطف دينه من كرهه للعرب كما كان شأن المتدينين؛ فلا بد أن يكون قد أفعم بكره العرب، وشاهد الدعوة العباسية، واشتراك الفرس فيها، وتمنى كما تمنوا أن يرفع عنهم نير الأمويين، وسر كما سروا باستيلاء العباسيين.
الثانية:
أنه نشأ مجوسيا زرادشتيا، وقضى زهرة شبابه في أحضان المجوسية، مثقفا بثقافتها، ولم يسلم إلا قبل قتله ببضع سنوات، بعد أن تكون ونضج، وتقلد الكتابة للكثيرين. وكان قبل إسلامه مستمسكا بدينه، فلما أراد أن يسلم قال له عيسى بن علي عم المنصور: ليكن ذلك بمحضر من القواد، ووجوه الناس، فإذا كان الغد فاحضر. ثم حضر طعام عيسى عشية ذلك اليوم، فجلس يأكل ويزمزم على عادة المجوس، فقال له عيسى: أتزمزم وأنت على عزم الإسلام؟ فقال أكره أن أبيت على غير دين. فلما أصبح أسلم على يده فسمي بعبد الله، وسنتعرض لهذا الموضوع عند الكلام في زندقته.
وابن المقفع من أقوى الشخصيات في عالم الأدب العربي، قوي في خلقه، قوي في عقله وسعة علمه، قوي في لسانه.
أما خلقه فنبل وكرم، وتعهد لذوي الحاجات يواسيهم، وتقدير دقيق للصداقة ، ومراقبة شديدة لنفسه يحملها على الأجدر والأنبل، ورغبة شديدة في إصلاح الراعي والرعية خلقيا واجتماعيا، إلى ظرف الخاصة، والتمسك بآداب اللياقة، ومراعاة الدقة فيما يتطلبه الذوق.
نستنتج هذا مما قصه علينا المؤرخون، ومما نلمحه في كتبه التي بين أيدينا، قال سعيد بن سلم: قصدت الكوفة، فرأيت ابن المقفع فرحب بي، وقال: ما تصنع ههنا؟ فقلت: ركبني دين. فقال: هل رأيت أحدا؟ قلت: رأيت ابن شبرمة فوعدني أن أكون مربيا لبعض أولاد الخاصة. فقال: أف! أيجعلك مؤدبا في آخر عمرك؟! أين منزلك؟ فعرفته، فأتاني في اليوم الثاني، وأنا مشغول بقوم يقرءون علي، فوضع بين يدي منديلا فإذا فيه أسورة مكسورة، ودراهم متفرقة مقدار أربعة آلاف درهم، فأخذت ذلك ورجعت به إلى البصرة واستعنت به.
66
ويقول الجهشياري فيه: «كان سريا سخيا، يطعم الطعام، ويتسع على كل من احتاج إليه، وكان قد أفاد من الكتابة لداود بن عمر مالا، فكان يجري على جماعة من وجوه أهل البصرة والكوفة ما بين الخمسمائة إلى الألفين في كل شهر.»
67
ثم هو صديق لعبد الحميد الكاتب، فيطلب عبد الحميد ليقتل، وهو معه، فيقول الذين دخلوا عليهما: أيكما عبد الحميد؟ فيقول كل واحد منهما: «أنا»؛ خوفا على صاحبه، وخاف عبد الحميد أن يسرعوا إلى ابن المقفع فقال: «ترفقوا فإن في علامات، ووكلوا بنا بعضكم. ويمضي بعض يذكر تلك العلامات ففعل ذلك.»
68
وصفه الجاحظ فيقول: «كان جوادا فارسا جميلا، ويدعوه عيسى بن علي للغداء، فيقول: أعز الله الأمير! لست اليوم للكرام أكيلا. قال: ولم؟ قال: لأني مزكوم، والزكمة قبيحة الجوار، مانعة من عشرة الأحرار. ويعجب الناس بأدبه، فيسألونه: من أدبك؟ فيقول: نفسي! إذا رأيت من غيري حسنا أتيته، وإن رأيت قبيحا أبيته. ويدل الباقي من كتبه على باقي ما وصفنا من خلقه.
ثم هو واسع الاطلاع، مضطلع باللسانين العربي والفارسي، نقل خير ما رأى باللغة الفهلوية إلى اللسان العربي، وهو غزير المعاني إذا كتب، ليست كتابته جوفاء ككثير من كتابات الناس، يمعن في اختيار المعنى، ثم يمعن في اختيار اللفظ له. قالوا: «كان قلم ابن المقفع يقف، فقيل له في ذلك ، فقال: إن الكلام يزدحم في صدري، فيقف قلمي لتخيره.»
69
ويقول محمد بن سلام: «سمعت مشايخنا يقولون: لم يكن للعرب بعد الصحابة أذكى من الخليل بن أحمد ولا أجمع، ولا كان في العجم أذكى من ابن المقفع ولا أجمع.»
70
وقال جعفر بن يحيى: «عبد الحميد أصل، وسهل بن هارون فرع، وابن المقفع ثمر، وأحمد بن يوسف زهر.»
71
وستتبين غزارة معانيه، وقوة تفكيره مما يأتي.
آثاره الأدبية
ذكرنا فيما سبق ما ترجم من الفارسية إلى العربية، وما نقله منها ابن المقفع. والآن نذكر آثاره الباقية في أيدينا، ونتعرض لها بشيء من التحليل وهي: (1)
الأدب الصغير (2)
الأدب الكبير أو اليتيمة (3)
رسالة الصحابة (4)
كليلة ودمنة •••
الأدب الصغير والأدب الكبير:
كلمة الصغير والكبير وصف للكتاب، وقد شاع استعمال هذا التعبير في ذلك العصر، فقالوا كتاب الطبقات الكبير لابن سعد، وأحيانا يحذفون كلمة «كتاب»، ويبقون الوصف فيقولون «السير الكبير والسير الصغير لمحمد بن الحسن الشيباني»، ومن هذا الأدب الصغير والأدب الكبير؛ فليس الصغير والكبير وصفين للأدب، ولكن للكتاب المفهوم ضمنا.
والقارئ لعبارة ابن النديم يفهم أن الأدب الصغير والأدب الكبير غير كتاب اليتيمة؛ فهي كتب ثلاثة، ولكن كثيرا من الأدباء أطلقوا على الأدب الكبير اسم اليتيمة أو الدرة اليتيمة. كذلك يفهم من ابن النديم أن هذه الكتب الثلاثة ترجمها ابن المقفع، والمعروف بين الأدباء، والظاهر من تعبيراتهم أنه ألفها. ونحن نرجح أن الأدب الكبير ليس هو اليتيمة، وأنهما كتابان مختلفان لابن المقفع، ودليلنا على ذلك: (1)
أن ابن قتيبة في كتابه عيون الأخبار يورد هذين الاسمين في مواضع مختلفة، فيقول أحيانا: «قرأت في اليتيمة»، وأحيانا «في الأدب الكبير»، وما ينقله عن اليتيمة ليس موجودا في الذي بين أيدينا مما يسمى اليتيمة.
72 (2)
وردت فصول من اليتيمة في كتاب المنثور والمنظوم لابن طيفور، لا نجدها فيما بين أيدينا من الأدب الكبير الذي سمي اليتيمة. (3)
قال الباقلاني في إعجاز القرآن: «وقد ادعى قوم أن ابن المقفع عارض القرآن ، وإنما فزعوا إلى الدرة اليتيمة، وهما كتابان أحدهما يتضمن حكما منقولة توجد عند حكماء كل أمة، والآخر في شيء من الديانات.» واليتيمة التي بين أيدينا ليس فيها فصول عن الديانات، فالراجح أن الذي بقي لنا هو الأدب الكبير، أطلق عليه خطأ اسم الدرة اليتيمة.
وأما المسألة الثانية، وهي: هل هما مؤلفان أو مترجمان؟ فنفس الكتابين يدلان على أن ابن المقفع لم يترجمهما حرفيا كما نفهم من معنى الترجمة، وإن كان اعتمد في كثير من المعاني على معاني الأقدمين. قال في الأدب الصغير: «قد وضعت في هذا الكتاب من كلام الناس المحفوظ حروفا، فيها عون على عمارة القلوب وصقالها، وتجلية أبصارها، وإحياء للتفكير، وإقامة للتدبير، ودليل على محامد الأمور، ومكارم الأخلاق.» وقال في الأدب الكبير المسمى بالدرة اليتيمة: «إنا لم نجدهم (أي الأولين) غادروا شيئا، يجد واصف بليغ في صفته له مقالا لم يسبقوه إليه، لا في تعظيم الله عز وجل، وترغيب فيما عنده، ولا في تصغير للدنيا، وتزهيد فيها، ولا في تحرير صنوف العلم، وتقسيم أقسامها، وتجزئة أجزائها، وتوضيح سبلها، وتبيين مآخذها، ولا وفي وجوه الأدب وضروب الأخلاق؛ فلم يبق في جليل من الأمر لقائل بعدهم مقال، وقد بقيت أشياء من لطائف الأمور، فيها مواضع لصغار الفطن، مشتقة من جسام حكم الأولين وقولهم. ومن ذلك بعض ما أنا كاتب في كتابي هذا من أبواب الأدب التي يحتاج إليها الناس.»
وكلمة الأدب في الكتابين ليس معناها ما نستعمله الآن فيما يقابل العلم، وإنما يطلقها ابن المقفع على معنى تهذيب النفس والخلق.
والأدب الصغير عبارة عن كلمات حكيمة في الأخلاق، لا تحلل النفس والخلق تحليلا «دقيقا واسعا مستوفى، ولا تذكر الخلق فتبسط القول فيه، وتذكر وصفه، والسبيل إلى اكتسابه، فذلك بالعقل اليوناني أشبه، ولكنها عبارة عن جمل موجزة أشبه بالأمثال، وهي خطرات؛ نتيجة تجارب قد صيغت في إيجاز، وفي عبارة رشيقة رقيقة، مثل: «أربعة أشياء لا يستقل منها القليل: النار، والمرض، والعدو، والدين.»
ومثل «لا تعد الغنم غنما إذا ساق غرما، ولا الغرم غرما إذا ساق غنما، ولا تعتد من الحياة ما كان في فراق الأحبة ... إلخ.
ونلاحظ في الأدب الصغير أنه ليس - في كثير من مواضعه - ارتباط بين حكمه؛ فهي أشبه برجل أخذ يرصد تجارب مختلفة في حالات مختلفة، فكلما عثر على تجربة وضعها، وإن كانت إحدى التجارب اقتصادية، والأخرى دينية، والثالثة نفسية، أو كرجل يقرأ في كتب مختلفة، فكلما وجد كلمة أعجبته دونها، لذلك ترى كلمة في محاسبة النفس، وبجانبها كلمة في الصديق، ثم كلمة في معاملة الناس بحسب طبقاتهم، ثم في تعادي الرأي والهوى، ثم بعد كثير من الصفحات تجد كلمة أخرى في الصديق، قد كان يحسن أن تكون بجانب الأولى، وهكذا. ثم هو مختلف في طريقة التأليف؛ فأحيانا ينشئ الشيء من غير إسناد، وأحيانا يقول: وقالت الحكماء، وأحيانا تجد قبل الحكمة كلمة «وقال»؛ مما يدل على أنه لم يضعها هو في هذا الموضع.
أما الأدب الكبير، أو ما سماه الكتاب بالدرة اليتيمة، فكلمات كذلك، ولكنها في مجموعها أطول، وهي مرتبة غالبا، ألفت الكلمات المتعلقة بموضوع واحد في موضع واحد تقريبا، يدور أغلبها على موضعين، قد استوفي الكلام فيهما استيفاء حسنا؛ فأولهما: الكلام على السلطان والولاة، ومن يتصل بهما، وقد كان هذا الموضوع يشغل نفسه كثيرا، يتجلى ذلك في أكثر ما كتب، لأن حياته كانت متصلة به، فقد كتب للولاة، واتصل بهم، وصادقهم وعاداهم. وقد اتصل بالخلاف بين المنصور وأعمامه، وكان ركنا من أركان هذا الخلاف، ومحررا لوقائعه، ومستشارا في أمره، ومنغمسا فيه، وقارئا لمثل هذه الأحداث في سير الفرس، ومترجما لها، فلا عجب إذا أكثر الكتابة فيه، ولا عجب إذا أجاد، وقد جمع فيه مأثور الأولين، وتجارب الآخرين، إلى ما منحه الله من دقة نظر، وحسن أداء. وقد استغرق هذا الموضوع القسم الأول من الكتاب. والموضوع الثاني: الصداقة والصديق. وقد كان ابن المقفع يقدر هذا تقديرا دقيقا، ويرى في الأصدقاء عماد الحياة، ومرآة النفس، يفضي إليهم وحدهم ببنات صدره، ودخائل نفسه، ويضع عندهم وحدهم مكنونات سره، ويضع عنه مؤونة الحذر والتحفظ. أما غيرهم فليس لهم لباس آخر، لا يلقاهم إلا متحفظا متشددا متحرزا. ولأجل ذلك أثقل في شروط الصديق، ونصح بالدقة التامة في اختياره؛ «لأن ذا الرأي لا يدخل أحدا من نفسه هذا المدخل إلا بعد الاختبار والسبر، والثقة بصدق النصيحة، ووفاء العقل.» وتدل سيرته على أنه آمن بما كتب، ودان به، وسار في حياته على ما كتب من قوانين الصداقة؛ بذل دمه لصديقه عبد الحميد، وبذل ماله لأصدقائه بل لمعارفه، كما فعل مع سعيد بن سلم، ومثل ابن المقفع في علاقته الدقيقة بين الولاة والأمراء، وما يلاقي في سبيل ذلك من مشكلات وصعاب، وفي عقله البحاث، وانتقاله من دين إلى دين، وما يعرض عادة في ذلك من شكوك وارتياب، وفي نزعته إلى الإصلاح الاجتماعي، وما يرى حوله من عيوب تتصل أحيانا بالولاة وأحيانا بالخلفاء، ويرى أحيانا وجوب الجهر بالنصيحة، والإرشاد إلى مواطن الضعف وطرق العلاج؛ مثل ابن المقفع في هذه المواقف يحتاج إلى الصديق الذي يصفه، وإلى الشروط التي يشترطها له، يفضي إليه بدخائل نفسه، وفيما يرى من دولة تنهار ودولة تقام، وأسس توضع لا بد أن يشترك في وضعها، ويبين عيب القديم والحديث، وما يطمح إليه من إصلاح، وإليه يفزع في عوامل تضطرم في نفسه بين دين نشأ عليه، وتمكن في أعماق نفسه، ثم هو يريد أن يتخلى عنه إلى دين جديد له شعائر تخالف شعائر دينه القديم، وله تعاليم تتعارض مع ما ألف، هناك يتنازع العقل والشعور، وهناك تتحارب العواطف، وهناك يحار بين علم المنطق الذي ترجمه، والتقاليد التي ربي في أحضانها، فما أحوجه في كل ذلك إلى «الصديق»! وقد أشار فيما كتب إلى كل ذلك؛ أشار إلى العيوب الاجتماعية، وإلى ظلم الولاة في عصره، وإلى ما يلحق العامة، وإلى النزاع بين الدين والرأي، وقد جره الكلام في الصديق إلى الكلام في العدو، وكيف يكون داهيا في حربه ويخفي دهاءه. وكيف يعمل في هلاك عدوه أو البعد عنه، وفي جار السوء، وكيف يصبر عليه، وفي آخر الكتاب يعود إلى جمع حكم متفرقة لا يربطها موضوع.
في الكتابين أثر كبير من الثقافة الفارسية؛ ففيهما حكم كثيرة من حكم الفرس، وفيهما بعض نظم الساسانيين في الحكم، وكثيرا ما يقول: «احفظ قول الحكيم»، و«قالت الحكماء»، وهو يقصد حكماء الفرس. وفيها بعض وصايا مأخذوذة من عهد أردشير، كالنظام المتعلق بولي العهد. وفيهما من حكم كليلة ودمنة، إلى غير ذلك. نعم، هناك أثر يوناني في هذه الحكم، مثل قوله: «إن العاقل ينظر فيما يؤذيه وفيما يسره، فيعلم أن أحق ذلك بالطلب إن كان مما يحب، وأحقه بالاتقاء إن كان مما يكره؛ أطوله وأدومه وأبقاه، فإذا هو قد أبصر فضل الآخرة على الدنيا، وفضل سرور المروءة على لذة الهوى، وفضل الرأي الجامع العام (الذي تصلح به الأنفس والأعقاب) على حاضر الرأي الذي يستمتع به قليلا ثم يضمحل، وفضل الأكلات على الأكلة، والساعات على الساعات.» فإنك تلمح في ثنايا هذا رأي أبيقور، وهو أنه يجب أن يراعي في تفضيل لذة على لذة الشدة والمدة، وتفضيل اللذائذ العقلية والروحية على اللذائذ البدنية ... إلخ. ولكن ابن المقفع إنما نقل عن الفرس، وإن كانوا قد تأثروا فيما تأثروا به بالمذاهب اليونانية. كذلك نلمح في بعض حكمه أشياء إسلامية، كقوله: «والدنيا دول، فما كان منها لك أتاك على ضعفك، وما كان عليك لم تدفعه بقوتك.» فهو قريب في لفظه من حديث مشهور، ونرى وجوه شبه عديدة في بعض الحكم بين ما ورد في كتب ابن المقفع، وما ورد عن الإمام علي في كتاب نهج البلاغة، ولكنا يعترينا الشك في كثير مما نسب في نهج البلاغة إلى الإمام علي، وقد أبنا ذلك في الجزء الأول من هذا الكتاب، ونرجح أنها نسبت إليه بعد ابن المقفع في عهد الشريف الرضي ومن قبله. فيمكننا أن نقول إن أغلب استمداد ابن المقفع في كتبه من الثقافة الفارسية، وقليل منها من الثقافة العربية الإسلامية. وأوضح دليل على ذلك: أن الروح الدينية في حكم ابن المقفع نادرة جدا، قل أن تلمسها ، على عكس ما ينسب مثلا إلى الحسن البصري، وما صح من أقوال علي (رضى الله عنه)، فهي مغمورة بالشعور الديني الإسلامي، أما ابن المقفع فحكمه مستمدة من تجارب دنيوية، حتى ما يتصل منها بالدين.
رسالة الصحابة
ولابن المقفع رسالة سميت بالصحابة، وليس يعني صحابة رسول الله كما هو المشهور في استعمال الكلمة، وإنما عني صحابة الولاة والخلفاء، وهم من يقربهم الأمراء أو الخلفاء وينادمونهم، ويجعلونهم موضع السر منهم، ويستشيرونهم في أمورهم. وقد عرض في هذه الرسالة لهذا الموضوع، فسميت الرسالة به.
73
وللرسالة قيمة كبرى؛ فإنها تقرير في نقد نظام الحكم إذ ذاك، ووجوه إصلاحه، رفعه إلى أمير المؤمنين ولم يسمه، والظاهر أنه أبو جعفر المنصور؛ لأنه يذكر دولة بني العباس وقد استقرت، ويذكر أمير المؤمنين وقد أهلك الله عدوه وشفى غليله، ومكن له في الأرض، وآتاه خزائنها. ويذكر أبا العباس (السفاح) ويترحم عليه. وإذا علمنا أن ابن المقفع قتل في عهد المنصور صح لنا أن نستنتج من ذلك كله أن الرسالة إنما كتبت للمنصور.
بدأها بمدح أمير المؤمنين بأنه جمع إلى ما عنده من علم الرغبة في السؤال، والاستماع لنصيحة الناصح، وفي هذا ما يشجع ذا الرأي على أن يدلي برأيه.
ثم ذكر موضع الشكوى قبل أن يتولى أبو جعفر المنصور؛ فوال لا يهتم بالإصلاح، وإن اهتم به فليس له رأي يهديه، أو له رأي ولكن ليس له عزم يمضي به ما يبتغيه، وأعوان ليسوا على الخير بأعوان، ولهم من المكانة والنفوذ ما يمنع الخليفة من إقصائهم والنيل منهم، وأمة إن أخذت بالشدة حميت، وإن أخذت باللين طغت، وأبان أن أمير المؤمنين وفقه الله لمداواة هذه العيوب، واقتلاع هذه الشرور، ثم بدأ بتقريره الذي وضعه.
فأول:
ما بدأ به شرح حال «الجند». وإذا علمنا أن الدولة في عهد هذا التقرير دولة ناشئة، ولها أعداء كثيرون، وذوو أطماع عديدون، ثم هي واسعة الأطراف، مترامية الأنحاء، لا يخلو فيها يوم من فتنة؛ أدركنا ما للجند من عظيم شأن، وعرفنا السبب في أن جزءا كبيرا من التقرير كان يدور حول هذا الموضوع. وإذا كان عماد الجند هم الجند الخراسانية، وكانوا هم القائمين بحماية الدولة، وكانوا فرسا، وكان ابن المقفع فارسيا؛ كان محور كلامه الجند الخراسانية.
مدح جند خراسان بأنه لم ير مثلهم في الإسلام، يمتازون عن غيرهم من الجند بالطاعة والعفاف والكف عن الفساد، والذل للولاة. ثم شكا من أمور: أولها أنه لا بد أن تنظم أفكارهم، ولا بد لذلك من أن يكون لهم دستور أو قانون، يحيط بكل شيء يجب أن يعرفوه، يبين لهم ما يفعلونه، وما يتجنبونه، يحفظه رؤساؤهم، ويقودون به عامتهم. فأما ترك الأمر من غير قانون، لا يعرفون به ما يجب وما يحرم؛ فداع إلى الفوضى. وشكا من أن هذا جر قوما إلى المغالاة في الأمر بالطاعة لأمير المؤمنين، ووجد في القواد من يقول: إن أمير المؤمنين لو أمر أن تستدبر القبلة بالصلاة لسمعنا وأطعنا! وهذا له أثر سيئ في النفوس، وقد ساقه هذا القول إلى بحث أوامر أمير المؤمنين وما يطاع منها، وما لا يطاع، وذكر المبدأ المشهور: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.» وقال: إن قوما فسروا هذا المبدأ تفسيرا معوجا. والذي رآه ابن المقفع أن الخليفة يطاع فيما لا يطاع فيه غيره، وبيان ذلك: أن هناك فرائض وحدودا بينها الله، وفي هذا لا يطاع أمير المؤمنين لو أمر أمرا يخالفها. وهناك أشياء كثيرة من شئون الناس لم يأت فيها نص، بل تركت لعقل الناس واجتهادهم، وهذه متى اجتهد فيها ولاة الأمر ورأوا فيها رأيا وجبت طاعتهم، وليس للناس في هذا إلا الإشارة عند المشورة، والإجابة عند الدعو ة، والنصيحة لهم. فرأي ابن المقفع إذن أن هناك نصوصا دينية يجب على الناس والولاة أن يطيعوها، وليس لولاة الأمر أن يخالفوا، وهناك مسائل كثيرة لم يرد فيها نص؛ كإعلان حرب، واسترداد جيش، وشروط صلح، وتنظيم أمور الدولة حسب الزمان والمكان، وهذه كذلك لا تترك فوضى ولكن للناس أن يشيروا بآرائهم، وعلى أولي الأمر أن يفكروا ويتدبروا، فإذا رأوا رأيا وجب على الناس إطاعته، وإن رأوا فيه نقصا أو عيبا أو خطأ نصحوا ولاة الأمور بآرائهم.
ثانيا:
مما نصح به أمير المؤمنين في شأن الجند؛ أن يحال بين الجنود وبين إدارة الشئون المالية. وقد دعاه إلى ذلك الرأي أن الخليفة كان يولي بعض قواده خراج بعض الأقطار، فيولي قائدا خراج مصر، وآخر خراج خراسان. وبذلك تصبح مالية هذا القطر في يده يحاسب الناس عليهما، ويحاسبه الوالي كذلك. وقد علل ابن المقفع رأيه هذا «بأن ولاية الخراج مفسدة للمقاتلة». وهو نظر صائب؛ فإن كثيرين من هؤلاء القواد اعتزوا بسلطانهم وجنودهم، فظلموا الناس، فلما أوخذوا على ظلمهم اعتزوا بما في أيديهم من مال، وما تحت طاعتهم من جند، فخرجوا على الدولة، وكانوا سببا لمصائب لا تحصى.
ثالثا:
مراعاة الكفاية في القيادة؛ فقد لفت نظر الخليفة في لطف إلى أن يعيد النظر في الرؤساء ومرءوسيهم؛ فكثير من المرءوسين أكفأ من رؤسائهم، فلو ولي القيادة خيارهم، ووضع الجند في منازلهم حسب كفايتهم، لكان من ذلك خير عظيم.
رابعا:
تثقيف الجند ثقافة علمية وخلقية؛ فيعنى بتعليمهم الكتابة والتفقه في الدين، كما يعنى بتعويدهم الأمانة والعفة والتواضع، واجتناب الترف في الزي والعطر واللباس، وما إلى ذلك.
خامسا:
تعيين وقت محدد للجند يقبضون فيه أرزاقهم، فإن ذلك أعطى لطمأنينتهم، وأمنع للشكوى والاستبطاء.
سادسا وأخيرا:
أن يتقصى أحوال الجند، ويعرف أخبارهم وحالاتهم، وباطن أمرهم حيث كانوا، وأن يعين لذلك الثقات الذين يخلصون له، ولا يكتمون عنه شيئا، وألا يستكثر ما ينفق في هذا السبيل، وإن عظم فإن في ذلك الحزم واستئصال الشر قبل استفحاله.
هذه خلاصة موجزة لوجوه الإصلاح التي اقترحها للجند.
ثم ذكر أمير المؤمنين بأهل العراق عامة، وأهل البصرة والكوفة خاصة، وأنهم أقرب الناس إلى أن يكونوا شيعته ومعينيه، ولأهل العراق من الفقه والعفاف والألباب والألسنة ما ليس في سواهم، ورجاه في العناية بهم والاعتماد عليهم، وقال: إنه أزري بأهل العراق؛ أن ولاة العراق فيما مضى كانوا أشرار الولاة، وأعوانهم كانوا أشرار الأعوان، فساءت سمعة العراق من أجل هذه الفئة الضالة، واستغل أهل الشام ذلك، فشنعوا على أهل العراق عامة بما صنعت هذه الفئة. ولما جاءت دولتكم لم تجد أمامها من أهل العراق إلا هؤلاء الظاهرين ممن لا يصح الاعتماد عليهم، فلو نحي هؤلاء وأمثالهم، واستقصي الناس وعرف أهل الفضل فأسندت الأمور إلى الأكفاء غير المتصنعين لظهر فضل العراق وأهله.
ثم عرض ابن المقفع في تقريره إلى موضوع من أهم الموضوعات وأعمقها أثرا في حياة المسلمين، وهو «فوضى القضاء»، فوضى لا يرجع فيها إلى قانون معروف، وإنما هو متروك لرأي القضاة واجتهادهم، ونشأ من ذلك صدور الأحكام المتناقضة، حتى في البلدة الواحدة، فتستحل دماء وفروج وأموال في ناحية من نواحي الكوفة، وتحرم في ناحية أخرى تبعا لحكم القاضي، وكل ذلك نافذ على المسلمين. والقضاة نوعان؛ نوع يزعم أنه يلتزم السنة (يعني بذلك النص على العموم)، وقد تغالى فيما سماه سنة، فكثيرا ما يسفك دما من غير بينة ولا حجة، ويزعم أنه هو السنة، فإذا قيل له: إن مثل هذا الأمر لم يرق فيه دم في عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أو أئمة الهدى من بعده. قال: فعل ذلك عبد الملك بن مروان، أو أمير من بعض أولئك الأمراء. ونوع يزعم أنه من أهل الرأي فيبلغ به الاعتداد برأيه «أن يقول في الأمر الجسيم من أمر المسلمين قولا لا يوافقه عليه أحد، ثم لا يستوحش لانفراده بذلك، وإمضائه الحكم عليه، وهو مقر أنه رأي منه لا يحتج بكتاب ولا سنة.» هذه هي الفوضى كما شرحها ابن المقفع، ثم اقترح لها علاجا، وهو أن يرفع إلى أمير المؤمنين كل الأقضية والمسائل التي يحدث فيها الخلاف، ويذكر ما يحتج به كل فريق من المخالفين من نص أو رأي، فيعمد أمير المؤمنين إلى هذه الحجج والبراهين، ويختار ما يراه صوابا، ثم يدون ذلك في كتاب، وتعمل منه نسخ ترسل إلى الأمصار، ويلزم القضاة بالحكم به، فإذا جدت حوادث سير فيها هذا السير، ووجب على كل إمام يأتي بعد أن يدخل على هذا القانون ما يجد وما تدعو إليه الحاجة ، وهكذا إلى آخر الدهر.
ويرى «ابن المقفع» أن ولاة الأمور يجب أن يرجعوا في المسائل المختلف فيها إلى العدل ومصلحة الناس. وليس هناك ما يمنع من ذلك؛ لأن الأحكام المختلفة إما أن يكون اختلاف القضاة فيها ناشئا من استنادهم إلى سنن مأثورة مختلفة، وهذا الاختلاف في السنن دليل على أنها ليست مقبولة بإجماع، إما لسندها، وإما لأنها مجال لتأويلات مختلفة، وحينئذ يكون الرجوع إلى العدالة أولى، وإما أن يكون الاختلاف ناشئا من مراعاة القياس، وقد أفرط الفقهاء في مراعاة القياس الشكلي، والتزموا به، فوقعوا في ورطات، وأتى ابن المقفع بمثل يهزئ به قياسهم، فقال: لو أنك سألت أحدهم: أتأمرني أن أصدق، فلا أكذب كذبة أبدا؟ لكان جوابهم نعم، فلو سألت: ما تقول في رجل هارب أراد ظالم أن يقتله فسألني عن مكانه وأنا أعرفه؛ أأصدق أم لا؟ فلو ساروا على قياسهم الذي وضعوه لأجابوا بالتزام الصدق، مع أن المصلحة والعدالة في غير ذلك، ثم قرر مبدأ قيما، وهو أن القياس ليس إلا وسيلة لتحقيق العدالة، وطريقا من طرق الوصول إليه، فمتى رؤيت العدالة في غير القياس يجب أن يضحى بالقياس.
فمجمل رأي ابن المقفع في إصلاح القضاء: وضع قانون رسمي تجري عليه المملكة الإسلامية في جميع أنحائها، وهذا القانون يرجع فيه إلى ما يرشد إليه العقل في معنى العدالة. وهذا فيما عدا ما ورد فيه نص مجمع عليه من كتاب أو سنة، فأما ما ورد فيه نص مختلف فيه، أو ما كان مبنيا على قياس، فيجب أن يترك إلى ولاة الأمور، ينظرون فيه باعتبار واحد وهو المصلحة العامة. والفقهاء ليس لهم وضع قوانين، وإنما عليهم أن يجتهدوا في المسائل من الناحية العلمية النظرية، ثم يدلون بآرائهم إلى ولي الأمر، وهو المقنن وحده.
وهو رأي له قيمته ووجاهته، وهو يتفق في كثير من نواحيه والآراء الحديثة في التشريع، ولو عمل به المسلمون لكان له أثر كبير في الحالة الاجتماعية ، وخاصة من الناحية القضائية. «ولم تذهب دعوة ابن المقفع سدى، فابن سعد في الطبقات يروي عن مالك بن أنس أنه قال: لما حج المنصور، قال لي: قد عزمت على أن آمر بكتبك هذه التي وضعتها فتنسخ، ثم أبعث إلى كل مصر من أمصار المسلمين منها نسخة، وآمرهم أن يعملوا بما فيها، ولا يتعدوه إلى غيره، فقلت: يا أمير المؤمنين لا تفعل هذا؛ فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم، ودانوا به فدع الناس، وما اختار أهل كل بلد منهم لأنفسهم.»
فلما أتى هارون الرشيد عاودته الفكرة، فروي في كتاب الحلية عن مالك بن أنس قال: «شاورني هارون الرشيد في أن يعلق الموطأ في الكعبة، ويحمل الناس على ما فيه، فقلت: لا تفعل، فإن أصحاب رسول الله اختلفوا في الفروع، وتفرقوا في البلدان وكل مصيب.»
ولم يكن في هذه المحاولة تحقيق لكل فكرة ابن المقفع، فقد كان أكثر حرية مما قصد إليه المنصور والرشيد، ولكن كانت خطوة من الخطوات المرسومة لم تحقق! ولسنا نجزم أن هذه المحاولات نشأت عن تقرير ابن المقفع، فقد تكون تبلورا لفكرة عمر بن عبد العزيز في جمع الحديث؛ فقد كان يرى هذا الرأي، فبتقدم الزمان رؤي جمع الحديث وجعله قانونا. وقد تكون فكرة المنصور والرشيد نتيجة العاملين معا؛ فكرة جمع الحديث التي ارتآها عمر بن عبد العزيز، وفكرة تقنين القوانين التي ارتآها ابن المقفع، وهو الذي نميل إليه. •••
ثم انتقل بعد ذلك إلى تعطيف المنصور على أهل الشام، وقد كان العباسيون ينظرون إليهم نظرة عداء ومقت؛ لأنهم كانوا أعوان الأمويين وجندهم المطيع، فاعترف بأن أهل الشام يكرهون العباسيين، ولكن ينبغي ألا يؤاخذهم الخليفة بذلك، وألا يطمع منهم في المودة، فعداوتهم طبيعية؛ فقد كانت الدولة دولتهم والملك لهم، ولكن هذا لا يمنع الخليفة أن يصطنع خيارهم، فهؤلاء لا يلبثون أن ينفصلوا عن أصحابهم في الرأي والهوى، ويتبعهم غيرهم، فتتسع دائرة المحبة للعباسيين والتودد لهم. كما نصحه ألا يبخل بالمال عليهم، وأن ينفق عليهم ما جمع من بلادهم بعد استقطاع الحقوق العامة: «إنه إن فعل ذلك رجوت ألا يكون منهم نزوات ولا وثبات على الدولة، فإن فعلوا رجوت أن تكون الدائرة لأمير المؤمنين عليهم إلى آخر الدهر، وقد علمنا التاريخ أن الملك إذا خرج من قوم بقيت فيهم بقية يحنون إلى مجدهم القديم، فيثورون وتكون ثورتهم سبب استئصالهم وتدويخهم.»
بعد هذا تكلم في صحابة الخليفة، أو ما نسميه نحن الآن «بمعيته»، ورجال دولته والمقربين إليه، وقد كرر شكواه من أن هؤلاء كانوا قبل خلافة أمير المؤمنين عملوا أعمالا مفرطة القبح، مفسدة للحسب والنسب والسياسة، داعية للأشرار، طاردة للأخيار؛ ذلك أن الخليفة كان يقرب أوغاد الناس وسفلتهم، فهرب الخيار من التقرب للولاة، حتى إن قوما من صلحاء البصرة (وفيهم ابن المقفع) أتوا دار الخلافة أيام السفاح، فأبو أن يزوروا الخليفة، لما يعلمون من بطانته وسوء سيرتهم، وقد سمعنا الناس يقولون: «ما رأينا أعجوبة قط أعجب من هذه الصحابة، ممن لا ينتهي إلى أدب ذي نباهة، ولا حسب معروف، ثم هو مسخوط الرأي مشهور بالفجور.»
ونزعة ابن المقفع في اختيار الصحابة نزعة أرستقراطية فارسية؛ فهو يراعى في اختيار الصحابة من وزراء وكتاب وغيرهم أمرين: أمرا وجيها معقولا، وهو أن يكونوا ذوي رأي أمناء عدولا، ولكنه لا يشدد في هذا تشدده في الأمر الثاني، وهو أن يكونوا ذوي حسب ونسب، ويفزع كل الفزع أن يرى هؤلاء الصحابة (غير المعروفين بنسب) يؤذن لهم على الخليفة قبل كثير من أبناء المهاجرين والأنصار، وقبل قرابة أمير المؤمنين، وأهل بيوتات العرب. وهو يرى أن الخليفة لا يصح أن يقرب إليه ويجعل من خاصته إلا رجلا أتى بمكرمة عظيمة، أو رجلا له ميزة من قرابة أو حسن بلاء، أو رجلا له من الشرف وجودة الرأي والعمل ما يؤهله لذلك، أو رجلا ذا نجدة، ولكن يجب أن يجمع إلى نجدته حسبا وعفافا، أو رجلا فقيها مصلحا ينتفع الناس بفقهه وإصلاحه. فأما من يتخذون الشفاعات وسيلة للقرب من السلطان فيجب ألا تمكنهم شفاعاتهم من هذه المناصب، ثم إذا اختير الحائزون على الشروط التي ذكرنا، يجب أن يعين لكل منهم اختصاص في عمله لا يتعداه؛ فلا يكون للكاتب أمر في رفع رزق، ولا وضعه، ولا للحاجب في تقديم إذن ولا تأخيره.
انتقل بعد هذا إلى الكلام في الخراج، وهو عماد مالية الدولة، ويعني بالخراج المال المفروض على الأراضي، وقد شكا من الفوضى فيه، كما شكا قبل من فوضى القضاء، شكا أن الأراضي مع اختلافها جودة ليس مقررا على كل «وحدة» منها مبلغ معين، ولا سجل ذلك في دفاتر يحفظ أصلها ويحصل بمقتضاها. واقترح للإصلاح أن تمسح الأرض، ويفرض عليها المال المناسب، ويعرف كل مالك ما عليه ويدون ذلك في سجلات تحفظ أصولها في دواوين الدولة. ففي هذا «صلاح للرعية، وعمارة للأرض، وحسم لأبواب الخيانة، وغشم العمال.» وشعر بصعوبة هذا العمل مع ضرورته فقال: «إن مؤونته شديدة، ورجاله قليل، ونفعه متأخر» وختم مطالبه في إصلاح الخراج بتخير الذين يتولون هذا العمل، وشدة الرقابة عليهم، والاستبدال بهم عند ظهور خيانة عليهم. وقد رأينا بعد عصر ابن المقفع أبا يوسف يقول: في كتابه «الخراج»: «إن أمير المؤمنين (يعني هارون الرشيد) سألني أن أضع له كتابا جامعا، يعمل به في جباية الخراج والعشور والصدقات والجوالي،
74
وغير ذلك مما يجب عليه النظر فيه والعمل به، وإنما أراد بذلك رفع الظلم عن رعيته، والصلاح لأمرهم، وطلب أن أبين له ما سألني عنه؛ مما يريد العمل به، وأفسره وأشرحه، وقد فسرت ذلك وشرحته.»
75
فهل كان هذا العمل تحقيقا لمطالب ابن المقفع؟ قد يكون ذلك، ولكن مما لا شك فيه أن ابن المقفع عبر عن أهم المسائل التي تشغل العقلاء في عصره؛ فلا عجب أن نرى الكلام فيها كثيرا، وأن نرى كبراءهم يضعون العلاج لتلافيها، كذلك نرى فرقا كبيرا بين معالجة ابن المقفع لمسائله (وخاصة الخراج)، ومعالجة أبي يوسف؛ فابن المقفع يعالجها من الناحية العقلية المحضة، وأما أبو يوسف فيعالجها من الناحية الدينية؛ فهو لا يخطو خطوة إلا يدعمها بسند من كتاب أو سنة أو أثر، وأحيانا بقياس أو استحسان ، وهذا يرجع إلى الفرق بين ابن المقفع وأبي يوسف في المنشأ والمربى والمنصب. •••
ثم انتقل ابن المقفع إلى الكلام في جزيرة العرب من الحجاز واليمن واليمامة وغيرها، وقد كانت موضع نقمة المنصور إذ خرجت عليه، فطلب إليه أن يعنى بها عناية خاصة، فيتخير لولايتها الخيار من أهل بيته، وأن تسخو نفسه عن أموالها، وكأن ابن المقفع نظر في هذين الأمرين إلى أن جزيرة العرب منبع النبوة، ومصدر الإسلام، وقبلة المسلمين، وقد تولاها ولاة سوء انتهكوا حرمتها، فكانت حاجتها إلى خير الولاة أمس وأوجب. وهي فقيرة ليس فيها خصب العراق، ولا غنى الأمصار، فإذا كانت الأمصار الأخرى تحمل ما زاد من ثروتها إلى دار الخلافة فخير للخليفة ألا يتبع هذه السنة في جزيرة العرب، فيترك لها ما لها إن لم يمدها بمال من عنده.
وختم «ابن المقفع» تقريره ببيان ما للخليفة من أثر عظيم إذا صلح؛ ذلك أن العامة لا تصلح إلا بصلاح الخاصة، والخاصة لا تصلح إلا بصلاح إمامها، سلسلة يأخذ بعضها بحجز بعض؛ لأن العامة تقلد خاصتها في شئونها، وتتبعها في سيرها، فإذا كان الخواص من ذوي الدين والعقل كان في ذلك صلاح للعامة، وموقف الخاصة من الإمام موقف العامة من الخاصة، «فنسأله أن يعزم لأمير المؤمنين على المراشد، ويحصنه بالحفظ والثبات.» •••
هذه خلاصة وتحليل لرسالة الصحابة، وإن شئت فقل إنها ترجمة لما فيها من أفكار؛ فقد اعتراها من فساد النسخ والتحريف والغموض ما جعل إدراك مراميها بعيد المنال.
ومنها نرى أن ابن المقفع كان ناضج العقل في رسالته، قوي الفكر، شاعرا بوجوه الضعف في الدولة، ميالا إلى إصلاحها، ولو عرفنا أنه قتل ولما يتجاوز الأربعين من عمره عرفنا قدر نبوغه، وعرفنا أي عقل كبير كان يشغل رأسه.
لم يعالج ابن المقفع ما عالجه من الناحية الدينية كما عالجه أبو يوسف مثلا؛ فإن تربيته لم تكن دينية، بل لم يسلم إلا قريبا، كما ساعده على هذا النوع من التفكير أنه كان فارسيا، وكان واسع العلم بالتاريخ الفارسي، وترجم بعض كتب التاريخ إلى اللغة العربية؛ فهو يعلم تمام العلم نظم الفرس في الجند والقضاء والصحابة والخراج، وقد مرت هذه الدولة بأدوار كثيرة، وجربت تجارب عديدة، واستقر نظامها عهدا طويلا، وعالجه مصلحون قبله بأقوالهم وأعمالهم، فكان ابن المقفع ينظر إلى المملكة الإسلامية، وما فيها من نظم ناقصة في بعض نواحيها، وينتقل عقله بسرعة إلى قومه الفرس، فيقارن بين ما يرى أمامه، وما أرشده إليه التاريخ الفارسي، فتوحي إليه هذه المقارنة مقترحات الإصلاح، وتصطدم هذه المقترحات أحيانا بنظرات رجال الدين، كالذي رأينا من مخالفة رأي الإمام مالك لمقترحات ابن المقفع في تنظيم التشريع والقضاء؛ ذلك لأن ابن المقفع ينزع إلى تقنين قانون يعم أنحاء الدولة، كما كان الشأن في فارس، وأن يحكم العدالة والمصلحة العامة فيما لم يرد فيه نص مجمع عليه، وهو أقرب ما يكون إلى النظام الفارسي، والإمام مالك يرى أن أهل كل مصر وصلت إليهم أحاديث يرون صحتها فيلزمهم العمل بها، وليس من الحق ولا من الدين أن يلزمهم برأي عقلي يخالف ما لديهم من حديث صحيح، أو على الأقل صحيح في نظرهم، وابن المقفع يتكلم في الخراج بمثل ما نقل إلينا عن الأكاسرة، وأبو يوسف يتكلم فيه بالآثار التي صحت عنده، والخلفاء يرون ألا يلجئوا إلى ابن المقفع والبرامكة وأمثالهم، وإنما يلجئون إلى رجال الدين؛ أمثال الإمام مالك، وأبي يوسف.
كليلة ودمنة
ليس من قصدنا أن نبحث هنا في كتاب «كليلة ودمنة» ونعرض لأبحاث المستشرقين في أصل الكتاب؛ أمثال «ده ساسي»، و«شوفان»، و«بيكل»، و«فالكونر»، و«هرتل»، و«نولدكه»، و«جويدي»، و«بروكلمان»، و«رايت»، وغيرهم، فلو استقصينا ما قالوا، وعمدنا إلى مناقشة آرائهم لاحتاج ذلك إلى كتاب بأكمله. ولكنا نوجز القول هنا فيما يتعلق بموضوعنا، وهو الثقافة الفارسية وآثارها، وابن المقفع وأعماله.
يقول ابن المقفع: إنه نقل الكتاب من اللغة الفهلوية، وقد نقل في أيام كسرى أنوشروان من الهندية إلى الفهلوية، وكان الباحثون في شك من ذلك حتى عثر الأستاذ هرتل
Hertel
على بعض الأصول الهندية الأولى كتبت باللغة السنسكريتية القديمة، كما عثر غيره على بعض أبواب من الكتاب مفرقة، فعثروا في كتاب على باب «الأسد والثور»، و«الحمامة المطوقة»، و«البوم والغربان»، و«القرد والغيلم»، و«الناسك وابن عرس»، وعثروا في كتاب آخر على باب «الجرذ والسنور»، و«الملك والطائرة فنزة»، و«الأسد وابن آوي»، كما عثروا في كتاب ثالث على باب «ملك الفيران»، وعثروا أيضا على باب «إيلاذ وبلاذ وايراخت»، وباب «السائح والصائغ»، و«ابن الملك ورفقائه»؛ فجميع هذه القصص هندية الأصل، ولكنهم لم يعثروا إلى الآن فيما أعلم على كتاب جمعت فيه هذه القصص كلها يسمى كليلة ودمنة، أو أي اسم آخر؛ فهل كان هناك كتاب هندي حوى كل هذه القصص، ألفه مؤلف واحد، ونقله الفرس إلى لغتهم؟ أو أن الفرس نقلوا هذه القصص المتفرقة في الكتب إلى لغتهم، ووحدوها في كتاب وأسندوها إلى مؤلف واحد؟ هذا مجال خلاف ما يزال بين الباحثين.
ويرجحون أن باب «بعثة بروزيه»، وباب ملك الجرذان من زيادات الفرس أنفسهم.
كما يرجحون أن هناك فصولا برمتها من زيادات ابن المقفع نفسه، وهي باب «غرض الكتاب»، وباب «الفحص عن أمر دمنة»، وباب «الناسك والضيف»، وباب «البطة ومالك الحزين».
وكما يذهب بعضهم إلى أن الباب الأول (وهو مقدمة الكتاب) لعلي ابن الشاه الفارسي، وضع بعد ابن المقفع، ويذهب «ده ساسي» ويوافقه «نولدكه» إلى أن بهنود بن سحوان أو علي ابن الشاه؛ هو «أبو القاسم علي بن محمد بن الشاه الظاهري»، الذي يقول عنه صاحب الفهرست: «إنه من نسل الشاه بن ميكال، وكان أديبا طيبا مفاكها في نهاية الظرف والنظافة.»
76
وقد توفي سنة 302 هجرية.
ولهم أدلة على كل ما ذكرنا يطول شرحها، ويخرج بنا على الغرض الذي إليه قصدنا. •••
وقد كان الباعث لابن المقفع على ترجمته على ما يظهر ما عهدناه فيه من ميل إلى الإصلاح الاجتماعي، شاهدناه في الأدب الكبير والصغير، ورسالة الصحابة. وكتاب كليلة ودمنة يشرح بعض هذه النواحي شرحا وافيا؛ فهو يتعرض للنصح بعدم الإصغاء إلى الحاسد والنمام ، ويبين أن هناك جزاء طبيعيا؛ فعاقبة الخير خير، وعاقبة الشر شر، وينصح بأخذ الحذر من العدو، والاعتماد على الصداقة ... إلخ.
ويظهر الآن أن تعمق ابن المقفع في دراسة الحياة الاجتماعية أداه إلى استنكار كثير من الأمور، ورأى أن معظمها يرجع إلى حكام عصره، ورأى أن الحرية السياسية غير متوافرة في زمنه؛ فهو لا يستطيع أن ينقد الخليفة وبطانته نقدا صريحا، وقد عاش ابن المقفع وقت نضوج فكره في زمن أبي جعفر المنصور، وهو شديد البطش قوي المنة،
77
سريع إلى إعمال السيف، وهو كان مؤسس الدولة العباسية، وواضع نظمها ومحصنها، وكان يرى ألا يمكن تثبيت قواعدها إلا بإخماد كل حركة تضعف من شأن الدولة، أو يتوهم فيها ذلك، ويقطع رأس كل مخالف، وكان من ضحايا المنصور كثيرون قتلوا بالظنة، وتذرع في قتلهم بالاتهام بالزندقة، أو نحو ذلك، وكان ابن المقنع نفسه أحد هؤلاء الضحايا!
لعل ابن المقفع رأى أن موقفه مع المنصور موقف بيدبا مع دبشليم؛ فقد جاء في مقدمة الكتاب: «فلما استوثق له (لدبشليم) الأمر، واستقر له الملك طغى وبغى، وتجبر وتكبر، وجعل يغزو من حوله من الملوك، وكان مع ذلك مؤبدا مظفرا منصورا؛ فهابته الرعية. فلما رأى ما هو عليه من الملك والسطوة عبث بالرعية واستصغر أمرهم، وأساء السيرة فيهم، وكان لا يرتقي حاله إلا ازداد عتوا، فمكث على ذلك برهة من دهره، وكان في زمانه رجل فيلسوف من البراهمة، فاضل حكيم يعرف بفضله، ويرجع في الأمور إلى قوله، يقال له «بيدبا»، فلما رأى الملك وما هو عليه من الظلم للرعية فكر في وجه الحيلة فيصرفه عما هو عليه، ورده إلى العدل والإنصاف ... إلخ».
لعل ابن المقفع لم يستطع أن يواجه «المنصور» بأكثر ما واجهه به في رسالة الصحابة، وقد مزج نقده بكثير من المدح للخليفة والثناء عليه، ونسب أكثر الشدة التي يراها إلى غيره. ولكن هذا لم يشف غلته، فرأى أن أسلم طريقة أن يترجم هذا الكتاب ويزيد فيه ليعمل الكتاب في الخلفاء والرعية ما فعله كليلة ودمنة في الهند وفارس، ولعل هذا هو الغرض الرابع الذي أخفاه في مقدمة الكتاب، ولم يصرح به، فقد جاء فيها: «ينبغي للناظر في هذا الكتاب أن يعلم أنه ينقسم إلى أربعة أغراض؛ أحدها ما قصد فيه إلى وضعه على ألسنة البهائم غير الناطقة ليسارع إلى قراءته أهل الهزل من الشبان ... والثاني إظهار خيالات الحيوانات بصنوف الأصباغ والألوان، ليكون أنسا لقلوب الملوك، ويكون حرصهم عليه أشد للنزهة في تلك الصور، والثالث أن يكون على هذه الصورة فيكثر بذلك انتساخه، ولا يبطل فيخلق على مرور الأيام، لينتفع بذلك المصور والناسخ أبدا، والغرض الرابع وهو الأقصى، وذلك مخصوص بالفيلسوف خاصة.» وسكت عن هذا الغرض الرابع ولم يبينه، وهو من غير شك غرض ابن المقفع من ترجمته. والظاهر أن هذا الغرض يمكن تلخيصه في أنه النصح للخلفاء؛ حتى لا يحيدوا عن طريق الصواب، وتفتيح أعين الرعية حتى يعرفوا الظلم من العدل، وحتى يطالبوا بتحقيق العدل، ولم يوضحه ابن المقفع لأن في إيضاحه خطرا عليه من المنصور، ولعل هذه النزعة فيه كانت من الأسباب في الإيعاز بقتله.
وتدل المقارنة بين ما عثر عليه من الفصول الهندية، والترجمة السريانية القديمة التي ترجمت من اللغة الفهلوية القديمة نحو سنة 570م، والتي وجدت في دير في «ماردين»، ونشرت سنة 1876م، على أن ابن المقفع لم يترجم الكتاب ترجمة حرفية، بل حور كثيرا في جمله ومعانيه وترتيبه، حتى يتفق والذوق العربي الإسلامي، وذوق المتأدبين في عصره، بل أضاف فصولا من عنده كما أشرنا قبل؛ مثل كتاب الفحص عن أمر دمنة، ففيه نفحة إسلامية ظاهرة، مثل: «ومن يجزي بالخير خيرا، وبالإحسان إحسانا إلا الله.» «ومن طلب الجزاء على الخير من الناس كان حقيقا أن يحظى بالحرمان؛ إذ يخطئ الصواب في خلوص العمل لغير الله تعالى، وطلب الجزاء من الناس.» ومثل: «لأن تعذب في الدنيا بجرمك خير من أن تعذب في الآخرة بجهنم مع الإثم.» ومثل: «والعلماء قد قالوا في شأن الصالحين إنهم يعرفون بسيماهم.» «وقالت العلماء: من كتم حجة ميت أخطأ حجته يوم القيامة.» «وقد علمنا أن شهادة الواحد لا توجب حكما» ... إلخ. وقد أثبت البحث أن ابن المقفع كان يحذف جملة من الأصل الفهلوي، ويضع مكانها جملة أخرى توافق مزاج عصره، وقد يضع فصلا كاملا، ولعل هذا هو السبب فيما حكاه ابن خلكان من أن الكتاب مختلف فيه؛ هل هو ترجمة ابن المقفع أو تأليف له.
وترجمة ابن المقفع نفسها قد دخل عليها كثير من التغيير على توالي العصور بدليل: (1)
اختلاف النسخ التي بين أيدينا اختلافا كبيرا. (2)
وإنا نجد ابن قتيبة في كتابه عيون الأخبار ينقل بعض قطع من كليلة ودمنة، وهي تخالف في عبارتها ما بين أيدينا من الكتاب. (3)
ونرى في النسخ التي وصلت إلينا من كتاب «نتائج الفطنة، في نظم كليلة ودمنة» لابن الهبارية اختلافا في ترتيب الأبواب، وليس فيه «باب الحمامة، ومالك الحزين»، وسمي فيه «باب إيلاذ وبلاذ»، و«هيلار وبيلار»، مع اختلاف في سياق
المثل ... إلخ.
وقد كان لكتاب كليلة ودمنة أثر كبير في الأدب العربي، وفي غيره من الآداب، وعني الناس به عناية كبرى، وحذوا حذوه. من ذلك أن كثيرين نظموه، نعرف منهم أبانا اللاحقي، ولكن لم يصل إلينا من نظمه إلا القليل، ثم نظمه ابن الهبارية في كتابه «نتائج الفطنة»، ويذكر ابن الهبارية في ترجمته أنها خير من ترجمة أبان.
78
وله نظم ثالث اسمه «در الحكم في أمثال الهنود والعجم»، أكمله عبد المؤمن بن الحسن الصاغاني.
79
وحذا حذوه كتاب كثيرون، فابن الهبارية ألف على منواله كتاب «الصادح والباغم»
80
وكذلك ألف على منواله كتاب «سلوان المطاعم في عدوان الطباع» لأبي عبد الله محمد بن أبي قاسم القرشي، المعروف بابن ظفر، المتوفي سنة 598، صنفه لبعض القواد بصقلية.
81
وكذلك ألف على هذا النسق ابن عربشاه كتابه «فاكهة الخلفاء، ومناظرة الظرفاء»،
82
وكتابه «مرزبان نامه»، الذي ترجمه من الفارسية.
83
ويذكر «كشف الظنون» أن أبا العلاء المعري ألف كتابا اسمه «القائف»، على مثال كليلة ودمنة، وهو في ستين كراسة ولم يتم، وأن له كتاب «منار القائف» يتضمن تفسيره في عشرة كراريس.
84
وفي رسائل «إخوان الصفا» رسالة في المناظرة بين الحيوان والإنسان، لا تخلو من لون من كليلة ودمنة، بل يظن «جولدزيهير» أن اسم «إخوان الصفا» مقتبس من كليلة ودمنة؛ إذ ورد الاسم في أول فصل «الحمامة المطوقة».
وعلى كل حال فقد أدخل هذا الكتاب على الأدب العربي القصص على ألسنة الحيوانات. نعم كان للعرب قبله شيء من ذلك (كالذي ورد من أمثالهم أن الأرنب التقطت تمرة، فاختلسها الثعلب فأكلها، فانطلقا إلى الضب، فقالت الأرنب: يا أبا الحصين، قال: سميعا دعوت. قالت: أتيناك لنختصم إليك. قال: عادلا حكيما. قالت: اخرج إلينا. قال: في بيته يؤتى الحكم. قالت: إني وجدت ثمرة، قال: حلوة فكليها. قالت: فاختلسها مني الثعلب، قال لنفسه: بغى الخير. قالت: فلطمته. قال: بحقك أخذت، قالت: فلطمني، قال: حر انتصر. قالت: فاقض بيننا. قال: قد قضيت! وورد في القرآن الكريم:
قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم ، وقال في الهدهد
فقال أحطت بما لم تحط به . ولكن كان لكتاب كليلة أثر من ناحية تفصيل القصص على ألسنة الحيوانات تفصيلا طويلا، ووضع الحكم والأمثال والعظة على ألسنتها، وتبينت الحاجة الشديدة إلى هذا النوع في عصور الاستبداد، يوم كان الملوك والحكام يضيقون على الناس أنفاسهم، فلا يستطيع ناقد أن ينقد أعمالهم، ولا واعظ أن يومئ بالموعظة الحسنة إليهم؛ ففشا هذا الضرب من القول والقصص، يقصدون فيه إلى نصح الحكام بالعدل، وكأنهم يقولون: إذا كانت الحيوانات تمقت الظلم وتحقق العدل، فأولى بذلك الإنسان! وإذا كانت الولاة والرؤساء تأخذهم العزة بالإثم، ويستعظمون أن يصرح لهم بنصح أو نقد، فلا أقل من وضع النصيحة على لسان البهائم! وإذا كان في التصريح تعريض الحياة للخطر ففي التلميح نجاة من الضرر.
وإنما ذكرنا كتاب كليلة ودمنة، وما كان له من أثر في الثقافة الفارسية، ولم نذكره فيما يأتي من الثقافة الهندية لسببين: (1)
أن اللغة العربية إنما تلقت الكتاب من الأصل الفهلوي الفارسي، ولم تتلقه من الأصل الهندي، ومترجمه الذي كساه حلة من البلاغة العربية حببته إلى الناس هو ابن المقفع الفارسي. (2)
أن الفرس - وخاصة ابن المقفع - زادوا فيه زيادات كثيرة كما أبنا من قبل وإن كان من الحق أن نقرر هنا ما للهند في هذا الكتاب من فضل؛ هو فضل واضع الأساس وصاحب الفكرة.
زندقة ابن المقفع
اشتهر رمي ابن المقفع بالزندقة، ومن أقدم النصوص في ذلك ما حكي عن الجاحظ: «أن ابن المقفع ومطيع بن إياس ويحيى بن زياد كانوا يتهمون في دينهم.» ويروون أن المهدي قال: «ما وجدت كتاب زندقة إلا وأصله ابن المقفع.»
85
ويروي الجهشياري أن سفيان بن معاوية لما أراد قتله لما بينهما من عداوة شخصية، وبإيعاز المنصور قال له: «والله يا ابن الزنديقة لأحرقنك بنار الدنيا قبل الآخرة.»
86
ثم تناقل الناس هذا القول، وزادوا فيه، وأصبح من المسلم لديهم زندقته، وكلهم يتداولون الحكاية المشهورة أنه مر ببيت من بيوت النار، فتمثل بقول الأحوص:
يا بيت عاتكة الذي أتعزل
حذر العدى وبه الفؤاد موكل
إني لأمنحك الصدود وإنني
قسما إليك مع الصدود لأميل
وزاد من أتى بعد (كالباقلاني، والقاضي عياض) اتهامه بمعارضته القرآن الكريم!
ونحن نعلم من حياة ابن المقفع أنه قضى أكثر حياته وهو مجوسي ظاهرا وباطنا، ولم يسلم إلا وهو كاتب عيسى بن علي، ولم يعمر بعد إلا سنين قليلة، وهو من غير شك لا يؤاخذ على زندقته، وما ألف فيها إن كان قد ألف قبل أن يسلم، وإنما يؤاخذ على ما ألف أو قال بعد إسلامه؛ فالإسلام يجب ما قبله. ولم ينص هؤلاء الرواة على أنه قال، أو ألف كتابا في الزندقة بعد إسلامه إلا عبارة سفيان بن معاوية، وهو متهم لما بينهما من عداء شخصي، سببه أن ابن المقفع كان يحتقره ويزدريه، وإلا ما روى من تمثله ببيتي الأحوص.
وقد بالغوا في الفحص عما يشتم منه زندقته، ورموه بها حتى فيما ليس فيه زندقة؛ فقد روى أبو تمام في ديوان الحماسة لابن المقفع أبياتا له في الرثاء ، وهي:
رزئنا أبا عمر ولا حي مثله
فلله ريب الحادثات بمن وقع
فإن تك قد فارقتنا وتركتنا
ذوي خلة ما في انسداد لها طمع
لقد جر نفعا فقدنا لك أننا
أمنا على كل الرزايا من الجزع
فقال ثعلب: «البيت الأخير يدل على مذهبهم في أن الخير ممزوج بالشر، والشر ممزوج بالخير.» وأنا أقول لثعلب هلا قرأت قوله تعالى
يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما
الحق أن ثعلبا وأمثاله تحاملوا عليه كثيرا.
وقد أخرجت «مؤسسة كايتاني» للأبحاث عن تاريخ الإسلام وحضارته كتابا نشره الأستاذ «ميكائيل أنجلو جويدي» سنة 1927، عنوانه «كتاب الرد على الزنديق اللعين ابن المقفع عليه لعنة الله للقاسم بن إبراهيم، عليه من الله أفضل الصلاة والتسليم».
وهذا القاسم بن إبراهيم (كما في «عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب») هو القاسم بن إبراهيم بن طباطبا بن إسماعيل الديباج بن إبراهيم الغمر بن الحسن المثنى بن الحسن بن علي بن أبي طالب، كان يكنى أبا محمد، وكان يقيم في جبال الرس، ولذا عرف باسم قاسم الرسي، وقد مات القاسم سنة 246ه، أي بعد ابن المقفع بنحو قرن. وكتاب القاسم كامل، ولكن كتاب ابن المقفع لم يذكر كله بنصه، وإنما ذكر المؤلف فقرا منه تمهيدا للرد عليها، ويقع النص العربي في خمس وخمسين صفحة، ثم ترجمة الأستاذ جويدي إلى اللغة الإيطالية، وعلق عليها، وقدمه بمقدمة تبحث في الكتاب، وهذه الفقر التي تنسب إلى ابن المقفع تدلنا على غرض الكتاب ومنحاه ولغته.
ونحن نشك كل الشك في نسبة الأصل لابن المقفع، والرد للقاسم من وجوه:
فأما الشك في نسبة أصل الكتاب لابن المقفع: (1)
من الناحية الفنية؛ فأسلوب الكتاب غير الأسلوب المعروف لابن المقفع، والذي نتبينه من الأدبين ورسالة الصحابة وكليلة ودمنة، ففي كل هذه الكتب لا يعمد إلى السجع إلا ما جاء عفوا، أما في هذا الكتاب، فيتعمد السجع أحيانا تعمدا كقوله: «لأن كون شيء لا من شيء لا يقوم في الوهم له مثال ، وما لا يقوم في الوهم له مثال فمحال.»
87
هذا إلى أن العبارة نفسها من نوع التعبير الفلسفي، الذي لم يعرف الا بعد زمن ابن المقفع. (2)
يستهزئ هذا المؤلف بالتعبير بأن لله يدين، وبالاستواء على العرش، وبأنه قاب قوسين أو أدنى، ويحمل هذه التعبيرات على ظاهرها. ونحن نعلم أن ابن المقفع كان ضليعا في اللغة العربية، حتى قال الأصمعي: «قرأت آداب ابن المقفع فلم أر فيها لحنا إلا قوله «العلم أكثر من أن يحاط بالكل منه فاحفظوا البعض.»
88
وألف ابن المقفع في الكلام كما حكى الجاحظ، وتعرض للمعتزلة، فمن البعيد جدا أن يفهم ابن المقفع من اليد والوجه والاستواء على العرش المعاني الحقيقية الظاهرية. (3)
إذا نحن استثنينا أول الرسالة، وهو قوله «باسم النور الرحمن الرحيم» وجدنا الرسالة كلها ليست تأييدا لمذهب ماني، ولا لمذهب زرادشت أو مزدك، وإنما هي دعوة إلى الإلحاد المطلق؛ فهو يهزأ بعلاقة الله بالإنسان، وكيف انقلب عليه خلقه وهم عمل يديه! وكيف قتل أعداؤه أنبياءه ورسله! وكيف أمرض خلقه وعذبهم بما عرض من الأسقام لهم! وكيف يأمرك بالإيمان بما لا تعرف، والتصديق بما لا تعقل! وكيف صارت الغلبة للشيطان فتبعه الناس إلا أقلهم! ... إلخ. وهي كما ترى ليست مطاعن في الإسلام وحده، وإنما هي طعن في كل دين، ومنها الديانة الثنوية. ونحن نعلم من تاريخ ابن المقفع أنه كان يستمسك بدينه، ولما اعتزم الإسلام أبى أن يبيت ليلة على غير دين، وسواء أكان إسلامه حقا أم ظاهرا فقط، فليس من طبيعته الحرص على دين ما أن يهاجم الأديان كلها بهذه اللغة. (4)
إنا لم نجد فيما بين أيدينا من الكتب، وخاصة في الكتب التي ألفت في العصور الأولى كالمسعودي، وفهرست ابن النديم من نسب لابن المقفع كتابا كهذا، وهو حري بأن ينص عليه؛ لأنه يهيج شعور المسلمين، ويحملهم على الرد عليه، ودفع مطاعنه.
وأما شكنا في نسبة الرد للقاسم بن إبراهيم؛ فمن وجوه كذلك:
أولها:
من الناحية الفنية؛ فقد علمنا أن القاسم في النصف الأول من القرن الثالث ، والكتاب من أوله إلى آخره كله مسجوع، متكلف السجع. ونحن نعلم أن هذا العصر (عصر الجاحظ) لم يتكلف فيه سجع، ولم تؤلف فيه كتب مسجوعة كلها، وإن تكلف فيه سجع؛ ففقرة أو فقرتان، فأما كتاب كله سجع، فهذا ما لا نعرفه في هذا العصر هذا إلى إسفاف في السجع، ورداءة في التعبير كقوله: «فالإنس والخلق ليس بينهما عندكم خلاف، والأعيان والأعراض فقد تجمعها الأوصاف.»
89
ثانيا:
ترجم ابن النديم في الفهرست للقاسم بن إبراهيم، وعدد كتبه، وهي كتاب الأشربة، وكتاب الإمامة، وكتاب الأيمان والنذور، وكتاب سياسة النفس، وكتاب الرد على الرافضة،
90
وهذه هي كل كتبه التي ذكرها ولم يذكر منها ردا على ابن المقفع.
هذا يجعلنا نخالف ما ذهب إليه الأستاذ «جويدي» من ترجيحه صحة نسب الكتاب والرد عليه. •••
وبعد، فالقارئ لكتب ابن المقفع وتاريخه يخرج منه على أديب ثقف ثقافة واسعة فارسية وعربية، ينزع نزعة قوية لقومه من الفرس، ويحيي أمته بنشر آدابها وسياستها وتاريخها، ويرى عيوب النظم الاجتماعية في عصره فينادي بإصلاحها بتطبيق الصالح من النظم الفارسية، ثم هو نبيل شريف النفس، يسترعي بنبله وأدبه أنظار الناس، فيروي الأصمعي أن ابن المقفع سئل: «من أدبك؟ قال: نفسي، إذا رأيت من غيري حسنا أتيته، وإن رأيت قبيحا أبيته.» ثم إن نبله وعلو خلقه أتيا من طريق الفكر والفلسفة، لا من طريق الدين، ورجال الخلق قد يكون خلقهم تدينا، وقد يكون خلقهم تفلسفا، فأخلاق الحسن البصري العالية مثلا مبعثها الدين، يتجلى ذلك في حكمه وأقواله وسيرته، فهو يصدق ويحسن ويعدل لأن الله أمر بالصدق والعدل والإحسان. أما ابن المقفع فباعثه الخلقي فلسفي، يصدق لأن في الصدق شرفا ورفعة، ولو لم يأمر به دين لكان في نفسه حسنا، يظهر ذلك في حكمه، فقل أن يستند في قوله إلى آية أو حديث، وإنما يعلل ذلك تعليلا عقليا، فهو رجل مدني وعالم مدني، لا رجل دين ولا عالم دين، يتجلى في أقواله إيمان بالله، وإيمان بدين؛ لكن لا يتجلى فيها إيمان بتفاصيل دين.
فلو سئلنا ما كانت منزلة الإسلام من قبله؟ فخير ألا نحاول الإجابة؛ فنحن لا نستطيع الحكم في هذا على من هم تحت سمعنا وبصرنا، فكيف بمن باعدت بيننا وبينه القرون، وانغمس في السياسة وأحزابها، وحارب وحورب بها، فلنكله إلى الله، فالله وحده خير الحاكمين. •••
إذن كانت الثقافة الفارسية عنصرا قوي الأثر في ذلك العصر: في الشعر في الأدب، في الحكم، في القصص، في الخرافات والأوهام، في العادات والتقاليد، في نظم الحكم، في دعاة الإصلاح، في رجال اللهو والغناء، في الديانات ومذاهب المتكلمين، في رجال العلم والتدوين، في قصور الخلافة، في الخاصة والعامة. وكان لهذا العنصر حماة ودعاة، يعملون كثيرا بداعي العصبية القومية، وأحيانا بداعي الخير والإصلاح، وكان لكثير من هؤلاء الدعاة مناصب تمكنهم من بسط نفوذهم، وحماية دعوتهم سرا إذا دعت الحال، وجهرا إن أمكن الجهر. ولم يكن ابن المقفع إلا زعيما من زعمائها العديدين، وأبطالها البارعين. ولم تنتشر دعوتهم في لين وهوادة، بل قوومت من عناصر أخرى في شدة وعنف، قاومها العرب إذ أحسوا الخطر، وقاومتها الأجناس الأخرى دفاعا عن قوميتها، وكان صراع لغوي وديني، وصراع عادات وتقاليد، وصراع علمي، وكان النصر في بعض الميادين لهذا، وبعضها لذاك، كما سنبينه في الكلام عن امتزاج الثقافات إن شاء الله.
الفصل الثامن
الثقافه الهندية
قديما عرف العرب «الهند» في جاهليتهم، واتصلوا بهم تجاريا، وأولعوا بالعود الطيب الذي يجلب من الهند، فقال عدي بن الرقاع:
رب نار بت أرمقها
تقضم الهندي والغارا
قالوا إنما عنى بالهندي عود الطيب الذي من بلاد الهند، كما أولعوا بالسيوف الهندية، وسموا السيف المطبوع من حديد الهند المهند، وقالوا سيف مهند، وهندي، وهندواني إذا عمل ببلاد الهند وأحكم عمله، واشتقوا منه فقالوا: هند السيف إذا شحذه، وقال قائلهم: «كل حسام محكم التهنيد». قال الأزهري: والأصل في التهنيد عمل الهند.
1
وسموا كثيرا من نسائهم «هندا»، كما سموا «هند الهنود»، ولا أدري هل أصل التسمية هذه البلاد.
ولما فتح المسلمون فارس والعراق فكروا في الهند، فيحدثنا البلاذري: «أنه لما ولي عثمان بن عفان، وولي عبد الله بن عامر بن كريز العراق، كتب إليه يأمره أن يوجه إلى ثغر الهند من يعلم علمه، وينصرف اليه بخبره، فوجه حكيم بن جبلة العبدي، فلما رجع أوفده إلى عثمان فسأله عن حال البلاد فقال: يا أمير المؤمنين، قد عرفتها وتنحرتها. قال: فصفها لي. قال: ماؤها وشل، وثمرها دقل،
2
ولصها بطل. إن قل الجيش فيها ضاعوا، وإن كثروا جاعوا. فقال له عثمان: أخابر أم ساجع؟ قال: بل خابر، فلم يغزها أحد.»
3
وتتابع المسلمون يغزونها، ويصيبون منها المغانم، حتى وجه الحجاج محمد بن القاسم الثقفي إلى الهند في أيام الوليد ففتح جزءا عظيما منها، وهو المسمى بالسند سنة 91ه، ففتح «ديبل»
Daibul ، و«نيرانكوت» المسماة الآن «بحيدر آباد»، وسار إلى «راور»، وأخيرا فتح «ملتان». وكان محمد بن القاسم قائد الجيوش وفاتح هذه الفتوح فتى شابا لم يتجاوز العشرين، قال فيه القائل:
إن المروءة والسماحة والندى
لمحمد بن القاسم بن محمد
ساس الجيوش لسبع عشرة حجة
يا قرب ذلك سؤددا من مولد!
وقال فيه آخر:
ساس الرجال لسبع عشرة حجة
ولداته عن ذاك في أشغال!
وقد غنموا مغانم كثيرة، وسبوا سبيا كثيرا، انتشر كشأن السبايا في المملكة الإسلامية، وأصبح الجيل السندي عنصرا من العناصر المكونة للأمة الإسلامية. حدث الأغاني قال: «بعث الجنيد بن عبد الرحمن المري إلى خالد بن عبد الله القسري بسبي من الهند بيض، فجعل يهب كما هو للرجل من قريش، ومن وجوه الناس، حتى بقيت جارية منهن جميلة كان يدخرها، وعليها ثياب أرضها؛ فوطتان. فقال لأبي النجم: هل عندك فيها شيء حاضر وتأخذها الساعة؟ قال: نعم أصلحك الله.»
4
ثم قال فيها رجزه المشهور الذي مطلعه:
علقت خودا من بنات الزط
5
وفي عصرنا الذي نؤرخه تبعت السند للعباسيين، وولي أبو جعفر المنصور هشام بن عمرو التغلبي عليها سنة 142، فتوسع في الفتح شمالا؛ ففتح «كابل»، و«كشمير»، وأصاب سبيا ورقيقا كثيرة، واتصلت العلاقات التجارية بين السند والمملكة الإسلامية؛ فكان يأتي منها العود والسكر، والغاب الهندي.
6 •••
وما إن تم الفتح حتى رأينا الحركة العلمية تتبعه، فكان بعض الفاتحين أنفسهم من العلماء؛ فالربيع بن صبيح البصري أشهر المحدثين، وأولهم تدوينا للحديث، كان في الجيش الذي سيره المهدي سنة 159 لغزو الهند وبها مات.
7
وقد ترجم الذهبي لبعض المحدثين في السند في كتابه تذكرة الحفاظ،
8
وهكذا لم يكن الجيش الإسلامي فاتحا فقط، بل كان أيضا ناشرا للدعوة ومعلما.
ومن ناحية أخرى سرعان ما رأينا الموالي الذين جلبوا من الهند، وغنموا في الحرب، ووزعوا على الجند، ينبغ منهم ومن أولادهم الشعراء وعلماء اللغة والمحدثون؛ فمن الشعراء كان أبو عطاء السندي، وهو شاعر من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية، وكان أبوه سنديا لا يفصح، ونشأ ابنه في المسلمين شاعرا كبيرا، وإن كان في لسانه لكنة شديدة ولثغة، كان يقول في مرحبا «مرهبا»، وفي حياكم الله «هياكم الله»، وفي الزج «الزز»، وفي جرادة «زرادة»، وفي الشيطان «سيطان»، وفي أظن «أزن»، حتى اضطر أن يتخذ له غلاما ينشد شعره تحاميا من أن ينشده بلسانه، وهو القائل:
أعوزتني الرواة يا ابن سليم
وآبى أن يقيم شعري لساني
وغلا بالذي أجمجم صدري
وجفاني لعجمتي سلطاني
9
وازدرتني العيون إذ كان لوني
حالكا مجتوى من الألوان
10
فضربت الأمور ظهرا لبطن
كيف أحتال حيلة للساني!
وتمنيت أنني كنت بالشعر
فصيحا وبان بعض بناني جج
ولما أمر أبو جعفر المنصور الناس بلبس السواد قال:
كسيت ولم أكفر عن الله نعمة
سوادا إلى لوني ودنا ملهوجا
11
وبايعت كرها بيعة بعد بيعة
مبهرجة أن كان أمرا مبهرجا
وقد كرهه العباسيون لأنه قال كثيرا في مدح الأمويين، فلما تحولت الدولة أراد أن يتحول فلم يقبلوا منه، فكان يذمهم، ومن ذلك قوله هذا، وقوله:
فليت جور بني مروان عاد لنا
وليت عدل بني العباس في النار!
12
ولم يصل إلينا من شعره كثير، حتى نتبين إن كان فيه معان جديدة كسبها من أصله الهندي.
واشتهر من اللغويين ممن أصله هندي ابن الأعرابي (كان أبوه زياد عبدا سنديا)، وكان ابن الأعرابي علما من أعلام اللغة والأدب والشعر، أملى على الناس ما يحمل من أجمال، وألف تآليف كثيرة، وتتلمذ له كثيرون من أشهرهم ثعلب وابن السكيت. ولم يبق لنا من كتبه إلا كتاب في أسماء البئر وصفاتها،
13
وكتاب في أسماء الخيل وأنسابها،
14
ومن كتبه التي ألف كتاب الأنواء. ولو وصل إلينا لعلمنا هل تأثر فيها بمعارف الهند، أو اقتصر على معارف العرب، على النحو الذي ألف فيها غيره من علماء العرب.
ومن المحدثين الهنديين أبو معشر نجيح السندي، صاحب المغازي، سمع نافعا ونفرا من التابعين، وكان ألكن يقول حدثنا محمد بن «قعب» يريد كعب ... إلخ الخ.
هذا نوع يمثل لنا اندماج الهنود في المسلمين، واعتناقهم الإسلام، وتعلمهم علما إسلاميا عربيا، ونبوغ بعضهم فيه. وقد رأينا قبل فيما نقلنا عن الجاحظ اشتهار السنديين بحسن القيام على المال وتدبيره، حتى «لا ترى بالبصرة صيرفيا إلا وصاحب كيسه سندي.»
والآن نريد أن نتعرض للجانب الآخر من الموضوع، وهو تأثير الهنود في الثقافة الإسلامية.
أثر الهنود في الثقافة الإسلامية من ناحيتين؛ ناحية مباشرة، وذلك باتصال المسلمين أنفسهم بالهند من طريق التجارة، ومن طريق الفتح العربي، فإن هذا الفتح صير ما فتح من بلاد السند جزءا من المملكة الإسلامية، تخضع لنظامها، وتجري عليها أحكامها، وينتقل المسلمون إليها، وينتقل الهنود إلى أنحاء العالم الإسلامي المختلفة. وكل من هؤلاء وهؤلاء يحملون ثقافتهم، ويتبادلونها بعضهم مع بعض تبادل السلع.
وناحية غير مباشرة؛ وذلك نقل ثقافتهم بواسطة الفرس، فإن الفرس اتصلوا بالهنود اتصالا وثيقا قبل الفتح الإسلامي، وأثروا فيهم وتأثروا بهم، وأخذوا كثيرا من الثقافة الهندية، وأدمجوها في ثقافتهم، فلما نقلت الثقافة الفارسية إلى العربية، كان معنى هذا نقل جزء من الثقافة الهندية في ثناياها.
وقد عد المسلمون الهنود إحدى الأمم الأربع ذات الصفات الممتازة، وهي: الفرس والهند والروم والصين، وقال الجاحظ فيهم: «اشتهر الهند بالحساب وعلم النجوم وأسرار الطب، والخرط والنجر والتصاوير، والصناعات الكثيرة العجيبة.»
15
وقال المسعودي: «ذكر جماعة من أهل العلم والنظر أن الهند كانت قديم الزمان الغرة التي فيها الصلاح والحكمة.» ثم ألم بطرف من إلهياتهم ورياضتهم وألعابهم، إلى أن قال: «والهند في عقولهم وسياستهم وحكمهم، وألوانهم وصفاتهم، وصحة أمزجتهم، وصفاء أذهانهم، ودقة نظرهم، بخلاف سائر السودان.»
16
وقال الأصفهاني في محاضرات الأدباء: «إن الهند لهم معرفة الحساب والخط الهندي، وأسرار الطب، وعلاج فاحش الأدواء، والرقى وعلم الأوهام، وخرط التماثيل ونحت الصور، وطبع السيوف، والشطرنج، والحنكلة، وهي وتر واحد يجعل على قرعة فيقوم مقام العود، ولهم ضروب الرقص، والثقافة والسحر والتدخين.»
17
وقال القفطي: «إن الأمم الثماني التي عنيت بالعلوم؛ هم: الهند، والفرس، والكلدانيون، واليونانيون، والروم، وأهل مصر، والعرب، والعبرانيون. وهذه الأمم المذكورة الذين اعتنوا بالعلوم واستخراجها، وباقي الأمم لم تعن بشيء من ذلك، ولا ظهر لها شيء منه.»
18
وقال في موضع آخر: «والهند هم الأمة الأولى كثيرة العدد فخمة الممالك، قد اعترف لها بالحكمة، وأقر بالتبريز في فنون المعرفة كل الملل السالفة، وكان الصين يسمون ملك الهند ملك الحكمة لفرط عنايتهم بالعلوم، فكان الهند عند جميع الأمم معدن الحكمة وينبوع العدل والسياسة. ولبعد الهند من بلادنا قلت تآليفهم عندنا، فلم يصل إلينا إلا طرف من علومهم، ولا سمعنا إلا بالقليل من علمائهم.»
19
وكان تأثير الهند من نواح؛ أهمها الإلهيات، أو المقالات الدينية، والرياضيات أو الحساب والنجوم، والأدب وما يتبعه من فن.
الإلهيات
كان للهند فلسفة كما لليونان فلسفة، وقد بحث مؤرخو الفلسفة في مبلغ تأثير إحداهما في الأخرى، وما أخذ اليونان عن الهند، وما أخذ الهند عن اليونان مما لا مجال لبحثه هنا، ولكنا نقول إن للفلسفة الهندية أوصافا خاصة تميزها عن الفلسفة اليونانية؛ ذلك أن الفلسفة الهندية امتزجت امتزاجا تاما بالدين، واصطبغت صبغة شعرية لا صبغة علمية، لم تتدرج من المحسوس إلى المعقول، ورضت في كثير من مواقفها بالتعبير الشعري، المملوء بالمجازات والاستعارات والخيالات، ولم تنهج المنهج العلمي الذي يتطلب التعبير بالحقائق لا المجازات؛ مثال ذلك أن تقول: إن العالم كله مشتق من شيء واحد أبدي أزلي لا يقبل التغيير، يسمى «برهمن»، ثم إذا شرحت كيف تخلق هذا العالم من «برهمن» قالت: «كما تتشكل الحديدة المحماة في النار إلى آلاف من الأشكال؛ كذلك تتخلق الأشياء من الأزلي الأبدي ثم تعود إليه .» أو تقول: «كما ينبعث النسيج من العنكبوت، أو الشرر من النار؛ كذلك يخرج الحيوانات والعالم وكل شيء، من ذلك الأصل».
فأنت ترى أن هذه تشبيهات ترضي الخيال، ولا ترضي العقل. وهكذا ملئت الفلسفة الهندية بمثل هذه التعبيرات في كثير من شروحها. وقد يكون لها العذر في أنها تحاول شرح شيء من الصعب إدراكه، والتعبير عنه تعبيرا رياضيا، أو تعبيرا علميا، وأنها تنتقل من محسوس يمكن التعبير عنه إلى لامحسوس يصعب توضيحه. ولكن الفلسفة اليونانية في مثل هذه المواقف لم تسلك هذا السبيل، وحاولت جهد طاقتها أن تعبر التعبير العلمي، وإن كان في المدرسة الأفلاطونية شيء من الشعر.
كذلك مما تخالف فيه الفلسفة الهندية الفلسفة اليونانية؛ أن الأولى حددت الغرض من الفلسفة بخدمة الإنسان، بينما الفلسفة اليونانية تتطلب المعرفة للمعرفة؛ فالباعث الأساسي للفلسفة عند الهنود شوق الإنسان للخلاص من آلام هذا العالم ومصائبه. وعند اليونان الباعث الأول على الفلسفة العجب، عجب من مظاهر العالم فأراد أن يتعرفها فتفلسف. •••
انتشرت في الهند ديانة البراهمة ثم البوذية، ومن الإطالة أن نعرض لشرح هاتين الديانتين في عقائدهما وأصولهما. وقد وصف «البيروني» ديانة الهند التي رآها في القرن الرابع الهجري، وكان دقيقا صادق الوصف، عالما باللغة السنسكريتية، عاش في الهند زمنا طويلا، وخبر أحوال أهله، ووضع في ذلك كتبا أهمها: «تحقيق ما للهند من مقولة، مقبولة في العقل أو مرذولة».
20
وصف فيه عقائدهم، وعلومهم وآدابهم، وأحوالهم الاجتماعية، وقد أبان البحث العلمي الحديث ما للبيروني من تحر للحق، وإخلاص للعلم، وإصابة في كل ما وصف، إلا في القليل النادر الذي أوقعه فيه اعتماده على نفسه في فهم كلمة لغوية لم يكن فيها مصيبا، وأحيانا نقله عمن أخطأ في خبره. وقرب عهد البيروني من عصرنا الذي نؤرخه يجعلنا نعتقد أن حالة الهند في عصرنا العباسي الأول تشبه تمام الشبه ما وضعه «البيروني» معتمدا على ما شاهد وسمع وقرأ في كثير من الكتب الهندية باللغة السنسكريتية.
وصف الهنود بالإعجاب بأنفسهم، والاعتداد بأمتهم، والازدراء بمن عداهم: «يعتقدون في الأرض أنها أرضهم، وفي الناس أنهم جنسهم، وفي الملوك أنهم رؤساؤهم، وفي الدين أنه نحلتهم، وفي العلم أنه ما معهم. وفي طبيعتهم الضن بما يعرفونه، والإفراط في الصيانة له عن غير أهله منهم، فكيف عن غيرهم! على أنهم لا يظنون أن في الأرض غير بلدانهم، وفي الناس غير سكانها، وأن للخلق غيرهم علما، حتى إنهم إذا حدثوا بعلم أو عالم في خراسان وفارس استجهلوا المخبر، ولم يصدقوه للآفة المذكورة. ولو أنهم سافروا وخالطوا غيرهم لرجعوا عن رأيهم، على أن أوائلهم لم يكونوا بهذه المثابة من الغفلة؛ فهذا «برهمن» أحد فضلائهم حين يأمر بتعظيم البراهمة يقول: إن اليونانيين (وهم أجناس) لما تخرجوا في العلوم وأنافوا فيها
21
على غيرهم وجب تعظيمهم.
22
ولما ذكر اعتقادهم في الله، فرق بين خاصتهم وعامتهم؛ لأن طباع الخاصة تقصد التحقيق في الأصول، والعامة تقف عند المحسوس، ثم شرح عقيدة الخاصة، فإذا هي توافق عقيدة المسلمين فيه، فقال: «واعتقاد الهند في الله سبحانه وتعالى أنه الواحد الأزلي من غير ابتداء وانتهاء، المختار في فعله، القادر الحكيم الحي المحيي المدبر المبقي، الفرد في ملكوته عن الأضداد والأنداد، لا يشبه شيئا ولا يشبهه شيء.»
23
ثم استدل على أن هذا عقيدة الخاصة من الهنود بنصوص من كتبهم القديمة، ثم وصف عقيدة العامة، وأن الأقاويل عندهم اختلفت وربما سمجت، كما يوجد مثله في سائر الملل وفي الإسلام من التشبيه والإجبار، ومثل لذلك عند الهنود بأن خاصتهم تقول: إنه يحيط بكل شيء حتى لا تخفى عليه خافية، فيظن عاميهم أن الإحاطة تكون بالبصر، والبصر بالعين، فيصف الله بألف عين عبارة عن كمال العلم.
وقد أطال البيروني في وصف الفلسفة الدينية للهند، من الاعتقاد بالله والموجودات العقلية والحسية، وتعلق النفس بالمادة، والأرواح وتناسخها، ومواضع الجزاء من الجنة والنار، وكيفية الخلاص من الدنيا، ومنبع السنن والنواميس، والرسل، ونسخ الشرائع. وقارن في كثير من المواضع بين عقائد الهند والإسلام، والصوفية والنصرانية ، والفلسفة اليونانية والأفلاطونية الحديثة؛ مما يخرج بنا عن القصد لو شرحناه.
غير أن هنا مسألة هامة لا بد من الإشارة إليها؛ لأنها خاصة من خواص الهند، ولها أثر كبير في المسلمين، تلك هي مسألة «تناسخ الأرواح». وقد قال فيها البيروني بحق: «كما أن الشهادة بكلمة الإخلاص شعار إيمان المسلمين، والتثليث علامة النصرانية، والإسبات علامة اليهودية، كذلك التناسخ علم النحلة الهندية، فمن لم ينحله لم يك منها، ولم يعد من جملتها!»
24
وشرح نظريتهم في التناسخ؛ أن الأرواح لا تموت، ولا تفنى، وأنها أبدية الوجود، لا سيف يقطعها، ولا نار تحرقها، ولا ماء يغصها، ولا ريح تيبسها، ولكنها تنتقل من بدن إلى بدن، كما يستبدل البدن اللباس إذا خلق، وتترقى النفس في الأبدان المختلفة كما يترقى الإنسان من طفولة إلى شباب إلى كهولة إلى شيخوخة. ذلك أن النفس طالبة للكمال، شيقة إلى العلم بكل شيء، وهذا يحتاج إلى زمن فسيح، وعمر الإنسان وغيره قصير، فلا بد من تنقل النفس من بدن إلى بدن، وفي كل بدن تستفيد تجارب جديدة، ومعلومات جديدة، فالأرواح الباقية تتردد في الأبدان البالية، وهي تتردد من الأرذل إلى الأفضل، دون عكسه، لتترقى النفس في الكمال، حتى يتحقق شوقها بعلمها ما لم تعلم، واستيقانها شرف ذاتها، واستغناؤها عن المادة، فتعرض عنها. «ويتحد العاقل والعقل والمعقول، ويصير واحدا».
وقد ربطوا الثواب والعقاب والجنة والنار بنظرية التناسخ، فقالوا: إن الغرض من جهنم تمييز الخير من الشر، والعلم من الجهل، فالأرواح الشريرة تتردد في النبات، وخشاش الطير، ومرذول الهوام، إلى أن تستحق الثواب فتنجو من الشدة، وتتردد فيما هو أرقى. وقال بعضهم: «لو لم أكن صائرا إلى آلهة حكماء سادة أخيار، ثم من بعد إلى أناس ماتوا خير ممن هنا؛ لكان تركي الحزن على الموت ظلما!» «وقال بعض من مال إلى التناسخ من المتكلمين إنه على أربع مراتب هي: «النسخ»؛ وهو التوالد بين الناس، بأن ينسخ من شخص إلى آخر، وضد «المسخ»، ويخص الناس بأن يمسخوا قردة وخنازير وفيلة. و«الرسخ» كالنبات ، وهو أشد من النسخ لأنه يرسخ، ويبقى على الأيام، ويدوم كالجبال، وضده «الفسخ»؛ وهو للنبات المقطوف ، والمذبوحات؛ لأنها تتلاشى ولا تعقب.»
25
وقد لعبت نظرية التناسخ دورا هاما في الفلسفة اليونانية، وفي الديانة المانوية، وفي المذاهب الإسلامية، وفي التصوف، وفي النصرانية.
فقد قال فيثاغورس بنظرية التناسخ، ويرجع كثيرون من مؤرخي الفلسفة اليونانية أنها مأخوذة في الأصل من الفلسفة الهندية، ثم أخذها عن فيثاغورس إمبدكليس، وأفلاطون. وقد كان فيثاغورس يرى تناسخ الأرواح بين الإنسان والحيوان، وأن تحرير النفس بترقيها في دورة الحياة، وذلك بالشعائر الدينية، وبالفكر والتأمل والفلسفة. وأفلاطون ربط رأيه في عالم المثل، ونظريته في تذكر المعلومات قبل حلول الروح بالجسم بنظرية التناسخ، وإن اختلفت نظريته في التفاصيل عما حكاه بوذا، من تذكره أشياء كثيرة، حدثت له في مواليده الأولى، وقد نقض أرسطو رأي فيثاغورس وأفلاطون في التناسخ، وخاصة في حلول روح إنسان في جسم حيوان، وذهب إلى أن ما كان وظيفة لشيء لا يمكن أن يكون وظيفة لآخر ... إلخ.
وقد حكى «البيروني» أن «ماني» نفي من بلاد فارس فدخل أرض الهند، ونقل التناسخ منهم إلى نحلته، وقال: إن الحواريين لما علموا أن النفوس لا تموت، وأنها مترددة في صور مختلفة، سألوا المسيح عن عاقبة النفوس التي لم تقبل الحق؛ فقال: أي نفس لم تقبل الحق هالكة لا راحة لها، وعنى بهلاكها عذابها لا تلاشيها.»
26
أما في الإسلام؛ فكان أثر التناسخ في بعض الفرق الدينية كبيرا، فقد قال أحمد بن حائط (وقد كان من المعتزلة، ثم تبرءوا منه) وأبو مسلم الخراساني، والقرامطة، ومحمد بن زكريا الرازي: إن الأرواح تنتقل بعد مفارقتها الأجساد إلى أجساد أخرى، وإن لم تكن من نوع الأجساد التي فارقت، واحتج أحمد بن حائط بقوله تعالى:
يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم * الذي خلقك فسواك فعدلك * في أي صورة ما شاء ركبك
وبقوله تعالى
جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه .
27
وقد أوضح الشهرستاني قول أحمد بن حائط في التناسخ فقال: إنه كان يقول : إن الله أبدع خلقه أصحاء سالمين عقلاء بالغين في دار سوى هذه الدار التي هم فيها اليوم، وخلق فيهم معرفته والعلم به، وأسبغ عليهم نعمه، فابتدأهم بتكلف شكره، فأطاعه بعضهم في جميع ما أمرهم به، وعصاه بعضهم في جميع ذلك، وأطاعه بعضهم في البعض دون البعض، فمن أطاعه في الكل أقره في دار النعيم التي ابتدأهم فيها، ومن عصاه في الكل أخرجه من تلك الدار إلى دار العذاب وهي النار، ومن أطاعه في البعض وعصاه في البعض أخرجه إلى دار الدنيا، فألبسه هذه الأجسام الكثيفة، وابتلاه بالبأساء والضراء على صور مختلفة من صور الناس، وسائر الحيوانات على قدر ذنوبهم، ثم ما يزال يكون الحيوان في الدنيا كرة بعد كرة وصورة بعد أخرى، ما دامت معه ذنوبه.»
28
وقبل هؤلاء كان السبئية أصحاب عبد الله بن سبأ، فقد رووا عنه أنه قال لعلي: أنت أنت! أي أنت الإله. وتبعته فرقته فقالت بتناسخ الجزء الإلهي في الأئمة بعد علي،
29
وبمثل ذلك قال الغالية من الشيعة.
30
وبعد هؤلاء كان النصيرية يعتقدون أن مرتكبي الآثام يعودون إلى الدنيا يهودا أو نصارى، أو مسلمين سنيين، أما من لم يؤمن بعلي فيعودون جمالا أو بغالا أو حميرا، أو كلابا أو نحو ذلك من أصناف الحيوان، وبمثل ذلك يقول عوام الدروز.
وفي بعض قصص ألف ليلة وليلة ما يشير إلى مذهب التناسخ.
وقد رأيت قبل أن نظرية التناسخ تسلم إلى مذهب الحلول، فيتحد العقل والعاقل والمعقول، وتصير كلها شيئا واحدا. وهذا النظر كان له أثر كبير في مذهب الصوفية، كما سنشرحه إن شاء الله عند الكلام في التصوف.
ومن مذاهب الهند القائلة بالتناسخ مذهب يسمى «السمنية» نسبة إلى «سومنات»، وهو اسم صنم كان في الهند أحرقه السلطان محمود بن سبكتكين سنة 1416، كما ذكر الجزري في تاريخه، وقد ذكر البيروني أنها فرقة شديدة البغض للبراهمة، وقد كانت خراسان وفارس والعراق والموصل إلى حدود الشام في القدم على دينهم، إلى أن ظهر زرادشت من أذربيجان، ودعا ببلخ إلى المجوسية، وراجت دعوته فانجلت السمنية عنها إلى مشارق بلخ.
31
وقد عرف هذا المذهب بين المسلمين في العصر الذي نؤرخه، فيحكي لنا الأغاني: «أنه كان بالبصرة ستة من أصحاب الكلام؛ عمرو بن عبيد، وواصل بن عطاء، وبشار الأعمى، وصالح بن عبد القدوس، وعبد الكريم بن أبي العوجاء، ورجل من الأزد (قال أبو أحمد عين جرير بن حازم) فكانوا يجتمعون في منزل الأزدي، ويختصمون عنده، فأما عمرو وواصل فصارا إلى الاعتزال، وأما عبد الكريم وصالح فصححا التوبة، وأما بشار فبقي متحيرا مخلطا، وأما الأزدي فمال إلى قول السمنية؛ وهو مذهب من مذاهب الهند، وبقي ظاهره على ما كان عليه.»
32
وقد عرف علماء المسلمين السمنية، وناقشوهم طويلا في كتب التوحيد أو علم الكلام، وأكثر مناقشتهم كانت حول «نظرية المعرفة»، فيؤخذ من حكاية قول السمنية أنهم كانوا يقولون: إن العلم أو المعرفة لا تحصل إلا من باب الحواس، فكل علم ليس أساسه الحس لا يكون علما صحيحا، أما النظر المجرد، غير المؤسس على الحس فلا يفيد علما، سواء كان ذلك في الإلهيات أو غيرها.
33
وقد لخص صاحب كشاف مصطلحات الفنون مذهبهم في هذا بقوله: «إنهم يقولون بأنه لا يفيد العلم إلا الحس»، فكأنهم بذلك سبقوا «لوك» ومن تبعه؛ إذ يقولون إن أداة المعرفة الصحيحة هو الإدراك بالحس، وكل الأفكار الراقية الجليلة التي تفوق السحاب رفعة، وتعلو علو السماء، إنما أصلها الحواس، يسبح العقل مسافات بعيدة ويفكر، ويتأمل تأملات رفيعة، وهو في كل هذا لا يخرج قيد شعرة عما أمدته به الحواس أو التأمل. وهم يعارضون في ذلك نظرية الذهنيين أو العقليين، الذين يرون أن بعض المدركات ليس سببها الحواس، وإنما سببها الإدراك العقلي المحض كما في الرياضيات والإلهيات. •••
أما في الرياضيات؛ فقد اتصل المسلمون بالهند، وأخذوا عنهم قبل أن يتصلوا اتصالا وثيقا باليونان؛ فقد ذكروا «أن وفدا من الهند وفد على أبي جعفر المنصور سنة 154 وفيهم رجل ماهر في معرفة حركات الكواكب وحسابها، وسائر أعمال الفلك على مذهب علماء أمته، وخصوصا على مذهب كتاب باللغة السنسكريتية اسمه «براهمسبهطسدهانت»، ألفه سنة 628م (أو 6 و7 هجرية) الفلكي الرياضي «برهمكبت»، فكلف المنصور ذلك الهندي بإملاء مختصر الكتاب ، ثم أمر بترجمته إلى اللغة العربية، وباستخراج كتاب منه تتخذه العرب أصلا في حساب حركات الكواكب. وما يتعلق به من الأعمال، فتولى ذلك الفزاري، وعمل منه مزيجا اشتهر بين علماء العرب، حتى إنهم لم يعملوا إلا به إلى أيام المأمون؛ حيث ابتدأ مذهب «بطليموس في الحساب والجداول الفلكية».
34
وقد اقتصر العرب على الجزء الأخير من الاسم السابق، وهو «سدهات»، ثم حرفوه قليلا وسموه «السند هند».
35
وقد أخذ عن هذا الرجل الهندي الذي وفد على المنصور إبراهيم بن حبيب الفزاري، ويعقوب بن طارق.
36
وكما أخذ المسلمون عن الهند كتاب السند هند، ترجموا كتابا ثانيا اسمه «الأركند»، وثالثا اسمه «الأرجبهر».
37
وقد قال الأستاذ «نيللنو» بعد بحثه العميق: «كفت هذه الملاحظات دليلا على شدة تأثير كتب الهند في أوائل نمو الفلك عند العرب. وسنرى فيما بعد أن العرب أخذوا طرقا مهمة كثيرة النفع مجهولة لليونان في حل جملة من المسائل الفلكية المتعلقة بعلم حساب المثلثات الكروية.»
38
وقال في موضع آخر: «فاتضح مما بينته أن تأثير علماء الهند والفرس في نشأة ميل العرب إلى ذلك العلم الجليل، سبق تأثير اليونان ولو بزمان قليل، ولكن لم تنل العرب ما نالوا من التقانة والكمال والشهرة في ذلك الفن لو قصروا عنايتهم على نقل الكتب الموصوفة إلى الآن لأنها مصنفات عملية مقتصرة على منطوق القواعد، وشرح استعمال الجداول، خالية عن البراهين وبيان العلل.»
39
ويؤيد هذا النظر ما قاله البيروني من قبل، فإنه رأى أن فلكي الهنود لا يبحثون في العلل، وكان على علم تام بالفلك عند اليونان قبل أن يأخذ عن الهنود، فقال: «إني كنت أقف عن منجميهم (منجمي الهند) مقام التلميذ من الأستاذ لعجمتي فيما بينهم، وقصوري عما هم فيه من مواضعاتهم، فلما اهتديت قليلا لها أخذت أوقفهم على العلل، وأشير إلى شيء من البراهين، وألوح لهم الطرق الحقيقية في الحسابات، فانثالوا علي متعجبين وعلى الاستفادة متهافتين، وكادوا ينسبونني إلى السحر.»
40
وقد أخذ العرب بعض الاصطلاحات الرياضية من الهنود؛ كلفظة «الجيب» في حساب المثلثات.
41
كما اقتبسوا كثيرا من نظريات الهند في الحساب والهندسة، مما ليس من موضوعنا الأدبي.
42
كذلك كان في بغداد أطباء هنود، يمثلون الطب الهندي بجانب الطب اليوناني، اشتهر منهم في عهد الرشيد «صالح بن بهلة الهندي»، قال جعفر بن يحيى البرمكي لهارون الرشيد وقد مرض ابن عمه إبراهيم بن صالح، فرآه جبريل بن بختيشوع، وأخبر الرشيد بأنه لا أمل في شفائه، وسيموت في المساء: «يا أمير المؤمنين جبريل طبه رومي، وصالح بن بهلة الهندي في العلم بطريقة أهل الهند في الطب مثل جبريل في العلم بمقالات الرومي، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر بإحضاره، ويوجهه إلى إبراهيم بن صالح ليفهمنا عنه فعل.
43
ويقول الجاحظ: إن يحيى بن خالد جلب أطباء من الهند، مثل «منكه»، و«بازيكر»، و«قنيرقل»، و«سندباد».
44
الأدب وما إليه
كان عند الهنود نحو وصرف، وقالوا في أولية النحو إن أحد ملوكهم كان يوما في حوض مع نسائه، فقال لإحداهن: «ماود كندهي.» أي لا ترشي علي الماء، فظنت أنه يقول «مود كندي هي» أي احملي حلوى، فذهبت فأقبلت بها، فأنكر الملك فعلها فخاشنته في الخطاب، فاستوحش الملك لذلك، وامتنع عن الطعام كعادتهم، واحتجب إلى أن جاءه أحد علمائهم وسلى عنه بأن وعده تعليم النحو والصرف، وذهب إلى «مهاديو» مصليا مسبحا وصائما، متضرعا إلى أن ظهر له، وأعطاه قوانين يسيرة، كما وضعها في العربية أبو الأسود الدؤلي، ووعده التأييد فيما بعدها من الفروع، فرجع العالم إلى الملك وعلمه إياها، وذلك مبدأ هذا العلم.
45
وأنا أخشى أن تكون حكاية أبي الأسود قد وضعت في العربية على نمط الحكاية الهندية، ولعل مما يرجح هذا الظن أن الحكاية العربية مختلفة الأشكال، متعددة الرواية، فمن قائل إن علي بن أبي طالب هو الذي أوعز إلى أبي الأسود بوضع النحو، ومن قائل إنه عمر بن الخطاب، ومن قائل إنه زياد ابن أبيه. ثم من قائل إن سبب الوضع ، أن قارئا قرأ «لا يأكله إلا الخاطئين»، ومن قائل إن قارئا قرأ: «إن الله بريء من المشركين ورسوله »، ومن قائل إن ابنة أبي الأسود قالت: «ما أحسن السماء» تريد التعجب، فقال لها: نجومها؟ يظنها تستفهم، فقالت: يا أبت إنما أخبرتك ولم أسألك! فقال لها: إذن فقولي «ما أحسن السماء!»، إلى آخر ما قالوا مما يحمل على الشك في القصة، ثم هناك شبه بين ذهاب العالم الهندي إلى «مهاديو» مصليا مسبحا، وبين ذهاب أبي الأسود إلى علي بن أبي طالب يسأله المعونة في وضع النحو، وهكذا.
وكان للهنود شعر وولع بالشعر والنظم، حتى شكا «البيروني» من نظمهم لقواعد الرياضة والفلك؛ لأن ذلك يخرجهم أحيانا عن ضبط القواعد، وما يستلزمه من دقة في تعبير لا يتسنى في النظم. ووضعوا للشعر بحورا وأوزانا عكف البيروني على دراستها، وبينها في كتابه، ثم قال: «ومن الممكن أن يكون الخليل بن أحمد سمع للهند موازين في الأشعار، كما ظن به بعض الناس.»
46
وأهم ما استفاد الأدب العربي من الهند أمور ثلاثة: (1)
ألفاظ هندية عربت، وقد كان ذلك أيام كان العرب يتاجرون مع الهند، وينقلون سلعا هندية، ويحملون مع هذه السلع أسماءها، وقد حكى السيوطي ألفاظا هندية عربت، ووردت في القرآن الكريم؛ مثل: زنجبيل وكافور. ومما ورد في اللغة العربية من الألفاظ الهندية الأبنوس والببغاء والخيزران والفلفل والأهليلج، وغير ذلك من أسماء النباتات والحيوانات الهندية.
ويضاف إلى ذلك آراء في الأدب والبلاغة نقلت إلينا عنهم، وقد كان من أتى بغداد من أطباء الهند وغيرهم يحملون معهم كتبا وصحفا في مواضيع شتى منها الأدب. حكى الجاحظ أن معمرا أبا الأشعث قال: قلت لبهلة الهندي أيام اجتلب يحيى بن خالد أطباء الهند: ما البلاغة عند أهل الهند؟ قال بهلة: عندنا في ذلك صحيفة مكتوبة لا أحسن ترجمتها لك، ولم أعالج هذه الصناعة فأثق من نفسي بالقيام بخصائصها، وتلخيص لطائف معانيها. قال أبو الأشعث فلقيت بتلك الصحيفة التراجمة، فإذا فيها: «أول البلاغة اجتماع آلة البلاغة، وذلك أن يكون الخطيب رابط الجاش، ساكن الجوارح، قليل اللحظ، متخير اللفظ، لا يكلم سيد الأمة بكلام الأمة، ولا الملوك بكلام السوقة. ويكون في قواه فضل للتصرف في كل طبقة، ولا يدقق المعاني كل التدقيق، ولا ينقح الألفاظ كل التنقيح، ولا يصفيها كل التصفية، ولا يهذبها غاية التهذيب، ولا يفعل ذلك حتى يصادف حكيماأو فيلسوفا عظيما.»
47
إذن كان مع هؤلاء الأطباء الهنود صحف في موضوعات غير موضوعاتهم الطبية، وكان العلماء يخالطونهم، ويسألونهم في شتى المسائل، وكان هناك تراجمة يترجمون من الهندية إلى العربية، وكان هناك شوق لتعلم الناس ما عند كل أمة ليقارنوا بينها، ويأخذوا أحسنها، وقد نقلت إليهم هذه الجملة الهندية في البلاغة، فرأيناها تصاغ فيما بعد في كتب البلاغة العربية، بما سموه «مقتضى الحال».
وقارن التنو خي
48
بين بلاغة الهند وبلاغة العرب، بأن الأولى مطنبة مسهبة، والثانية مختصرة موجزة؛ إذ ذكر أن خارجيا خرج على بعض ملوك الهند فخرج إليه الملك بنفسه، فقتله الخارجي، وملك داره ومملكته، فأحسن السيرة وسلك سبيل الملوك، فلما طال أمره، وعز ذكره وقوي سلطانه جمع بعض عقلائهم وحكمائهم وسألهم: هل ترون في عيبا وفي سلطاني نقصا؟ قالوا: لا إلا شيئا واحدا إن أمنتنا قلناه. قال: أنتم آمنون. قالوا: نرى كل شيء لك جديدا (يعرضون أنه لا عرق له في الملك). قال: فما حال ملككم الذي كان من قبل؟ قالوا: كان ابن ملك. قال: فأبوه؟ قالوا: ابن ملك. قال: فأبوه؟ إلى أن عدد عشرة أو أكثر، وهم يقولون ابن ملك. فانتهى إلى الأخير، فقالوا: كان متغلبا. قال: فأنا ذلك الملك الأخير، وإن طالت أيامي كان الملك بعدي في ولدي. قال التنوخي: هذا شيء قد سبقت إليه العرب في كلمتين استغني بهما عن المثل الطويل العجمي؛ فقد روت العرب أن رجلين منهما تفاخرا، فقال أحدهما لصاحبه: نسبي مني ابتدأ، ونسبك إليك انتهى.» (2)
القصص الهندي: وقد أولع العرب به؛ فقد علمنا قبل أن أصل «كليلة ودمنة» هندي، نقل إلى الفارسية، ثم نقل من الفارسية إلى العربية، مع زيادات على الأصل الهندي .
وقصة السندباد كما يدل اسمها هندية الأصل، نقلت إلى العربية. قال ابن النديم: «وكتاب سندباد نسختان كبيرة وصغيرة ، والخلف فيه مثل الخلف في كليلة ودمنة، والغالب والأقرب إلى الحق أن يكون الهند صنفته.»
49
وقد عدد في الفهرست كتبا كثيرة للهند في الخرافات والأسمار والأحاديث؛ منها كليلة ودمنة، والسندباد الكبير، والسندباد الصغير، وكتاب هابل في الحكمة، وكتاب حدود منطق الهند، وكتاب ملك الهند القتال والسباح، وكتاب شاناق في التدبير، وكتاب بيدبا في الحكمة.
50
كما أن في كتاب ألف ليلة وليلة قصصا دل البحث العلمي على أن أصلها هندي؛ هذا إلى قصص صغيرة نثرت في الكتب العربية مما نقل عن الهند، كالذي قال الجهشياري: «ومما أستحسنه من شدة التحرز ما حكي في كتاب من كتب الهند أنه أهدي إلى بعض ملوكهم حلي وكسوة، وبحضرته امرأتان من نسائه، ووزير من وزرائه، فخير إحدى امرأتيه بين اللباس والحلية، فنظرت المرأة إلى الوزير كالمشيرة له، فغمزها بإحدى عينيه على أخذ الكسوة. ولحظه الملك؛ فعدلت عما أشار به من الكسوة واختارت الحلي لئلا يفطن الملك للغمزة، ومكث الوزير أربعين سنة كاسرا عينه ليظن الملكأنها عادة وخلقة.»
51
وفي كتاب للهند «أن ناسكا كان له عسل وسمن في جرة، ففكر يوما فقال: أبيع الجرة بعشرة دراهم، وأشتري خمسة أعنز فأولدهن في كل سنة مرتين، ويبلغ النتاج في سنين مائتين، وأبتاع بكل أربع بقرة، إلى آخر القصة المشهورة.
52 (3)
أما النوع الذي أخذوا منه عن الهنود كثيرا، فهو الحكم، وهو نوع يتفق والذوق العربي؛ فهو أشبه شيء بالأمثال العربية، والجمل القصيرة ذوات المعاني الغزيرة التي أولع بها العرب. وهي نتيجة تجارب كثيرة، تركز في جملة بليغة، والعقل يميل إليها قبل أن يميل إلى مثل الفلسفة اليونانية المنظمة بأبواب وفصول وموضوعات، فالبحث العميق المفصل المتسلسل، لا يصل إليه العقل إلا بعد أن يمر بطور يعجب فيه بالنظرات المنثورة، والحكم المأثورة.
وقد اشتهر الهند بهذا، وملئت كتب الأدب المؤلفة في هذا العصر بهذا النوع، يقول ابن قتيبة:
قرأت في كتاب من كتب الهند: «شر المال ما لا ينفق منه، وشر الإخوان الخاذل، وشر السلطان من خافه البريء، وشر البلاد ما ليس فيه خصب ولا أمن.»
53
وفي كتاب للهند: «ثلاثة أشياء لا تنال إلا بارتفاع همة وعظيم خطر؛ عمل السلطان، وتجارة البحر، ومناجزة العدو.» وفيه أيضا: «ذو الهمة إن حط فنفسه تأبى إلا علوا؛ كالشعلة من النار يصوبها صاحبها، وتأبى إلا ارتفاعا.»
54
وقرأت في كتاب للهند: «ليس من خلة يمدح بها الغني إلا ذم بها الفقير. فإن كان شجاعا قيل أهوج، وإن كان وقورا قيل بليد، وإن كان لسنا قيل مهذار، وإن كان زميتا قيل عيي!
55
وفي كتاب للهند: «العالم إذا اغترب فما معه من علمه كاف، كالأسد معه قوته التي يعيش بها حيث توجه.»
56 ... إلخ الخ.
وعقد صاحب كتاب «سراج الملوك» فصلا من حكم «شاناق» الهندي، يتضمن نصحا للملوك والولاة بالعدل في الرعية، مع ضرب الأمثال، وقال: إن هذا الفصل مأخوذ من كتاب لشاناق اسمه «منتخل الجواهر».
57
وبكل هذا تأثر الأدب العربي، والشعر العربي. جاء في كتاب للهند: «لا ينبغي اللجاج في إسقاط ذي الهمة والرأي وإذالته؛
58
فإنه إما شرس الطبع كالحية إن وطئت فلم تلسع لم يغتر بها فيعاد لوطئها. وإما سجح الطبع كالصندل البارد إن أفرط في حكه عاد حارا مؤذيا.» تأثر بذلك أبو نواس فقال:
قل لزهير إذا حدا وشدا
أقلل وأكثر فأنت مهذار
سخنت من شدة البرودة حتى
صرت عندي كأنك النار
لا يعجب السامعون من صفتي
كذلك الثلج بارد حار
قال ابن قتيبة: «وهذا الشعر يدل على نظرة في علم الطبائع؛ لأن الهند تزعم أن الشيء إذا أفرط في البرد عاد حارا مؤذيا.»
حتى لقد تأثر الشعراء بأقوال الهنود في الفلك، قال أبو نواس في الخمر:
تخيرت والنجوم وقف
لم يتمكن بها المدار «يريد أن الخمر تخيرت حين خلق الله الفلك، وأصحاب الحساب يذكرون أن الله تعالى حين خلق النجوم جعلها مجتمعة واقفة في ذلك البرج الذي ابتدأها منه، وإذا عادت إليه قامت القيامة وبطل العالم، والهند تقول: إنه في زمان نوح اجتمعت في الحوت إلا يسيرا منها، فهلك الخلق بالطوفان، وبقي منهم بقدر ما بقي منها خارجا عن الحوت.»
59
ولسنا ننسى أن الهنود كما ذهب كثير من الباحثين هم واضعو الشطرنج، وعنهم انتشر في العالم، ومنهم أخذه المسلمون، وإن اختلفوا هل أخذوه من الهند مباشرة أو بواسطة الفرس. وللهند في الشطرنج أشكال من اللعب مختلفة حكاها البيروني في كتابه «الهند»، وهي تخالف من بعض الوجوه ما هو معروف عندنا اليوم.
انتشرت هذه اللعبة عند المسلمين، وقد أهدى هارون الرشيد شطرنجا إلى «شارلمان»، واشتهر قوم بلعبه حتى نسبوا إليه؛ مثل: الصولي الشطرنجي، وأبي حفص الشطرنجي. وتكون حوله أدب فارسي وأدب عربي، فالفردوسي نظم فيه صفحات في لغة شعرية جميلة، والعرب نظموا فيه الشعر الكثير الجميل، كالذي قال ابن الرومي في أبي القاسم التوزي الشطرنجي:
تهزم الجمع أوحديا وتلوي
بالصناديد أيما إلواء
وتحط الرخاخ بعد الفرازين
فتزداد شدة استعلاء
ربما هالني وحير عقلي
أخذك اللاعبين بالبأساء
ورضاهم هناك بالنصف والربع
وأدنى رضاك في الإرباء!
واحتراس الدهاة منك وإعصا
فك بالأقوياء والضعفاء
عن تدابيرك اللطاف اللواتي
هن أخفى من مستسر الهباء
بل من السر في ضمير محب
أدبته عقوبة الإفشاء
فأخال الذي تدير على القو
م حروبا دوائر الأرحاء
وأظن افتراسك القرن فالقر
ن منايا وشيكة الإرداء
وأرى أن رقعة الأدم الأحمر
أرضا جللتها بدماء
غلط الناس؛ لست تلعب بالشطرنج
لكن بأنفس اللعباء
لك مكر يدب في القوم أخفى
من دبيب الفناء في الأعضاء
أو دبيب الملال في مستها
مين إلى غاية من البغضاء!
أو مسير القضاء في ظلم الغيب
إلى من يريده بالتواء
تقتل الشاه حيث شئت من
الرقعة طبا بالقتلة النكراء
غير ما ناظر بعينيك في الدست
ولا مقبل على الرسلاء
بل تراها وأنت مستدبر الظهر
بقلب مصور من ذكاء
ما رأينا سواك قرنا يولي
وهو يردي فوارس الهيجاء
رب قوم رأوك ريعوا فقالو
هل تكون العيون في الأقفاء؟!
تقرأ الدست ظاهرا فتؤد
به جميعا كأحفظ القراء ! •••
وأخيرا كان للهند عادات وتقاليد، وشعائر ونظم وشرائع، فإماتة الحيوان في الأصل محظورة عليهم (قالوا) ولكن الناس نبذوا كل أمر ونهي وراء ظهورهم. ونفذ هذه الأوامر البراهمة لاختصاصهم بالدين، ومنع الدين إياهم عن اتباع الشهوات.
60
وربما كانت هذه التعاليم هي التي أثرت في أبي العلاء، فحرم على نفسه اللحم وكره ذبح الحيوان، وكان لهم شرائع في الزواج والعدة وأحكام الجنين والنفاس، وشرائع في المرافعات وطرق القضاء، ونظام في العقوبات والكفارات، وأحكام في الميراث، وعادات في أيام الأعياد، ومقام في طبقات الناس وتحديد العلاقات بينهم.
61
كل هذه الفلسفة الدينية، والتعاليم الرياضية، والقصص والحكم الأدبية، والشعائر والتقاليد الاجتماعية ذابت في المملكة الإسلامية، وكانت عنصرا هاما من عناصر الآداب العربية.
الفصل التاسع
الثقافه اليونانية الرومانية
إذا نحن وصلنا إلى اليونان، فقد وضعنا أيدينا على كنز لا يفنى، وثروة لا تقدر، وغنى عظيم في كل ما ينتجه العقل والعاطفة والذوق؛ في الفلسفة، والرياضة، والفلك، في علوم الطبيعة والحياة والطب، في الأدب، في التاريخ، في السياسة، في الفنون الجميلة. لقد نفخوا في كل ذلك من روحهم، وغذوا العقول بآرائهم، وأمدوا العالم بأفكارهم وآدابهم، وعلمهم وأساطيرهم، وربوا الذوق بفنهم، ونحتهم وتصويرهم.
فأقليدس ظل إماما في الهندسة من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن التاسع عشر الميلادي. والطب ظل قائما في العصور القديمة والقرون الوسطى على أساس ما دون بقراط وجالينوس. والفلاسفة إلى اليوم عيال على تعاليم سقراط وأفلاطون، وسياسة أرسطو، ومن إليهم من فلاسفة اليونان، وجمهورية أفلاطون وأرسطو منبع لما جد من نظريات في السياسة، وهكذا في كل فرع من فروع العلم والفلسفة والفن، فلسفة المسلمين أسست على فلسفتهم، والمدينة الحديثة بما فيها من علم وأدب نهضت على أكتافهم، وأول شرارة للنهضة الأوروبية الحديثة إنما انبعثت من كتبهم، تمتاز علومهم وفلسفتهم بميزة يكاد مؤرخو الفلسفة يجمعون عليها وهي أن اليونان كانوا يبحثون وراء الحق للحق، على حين أن كثيرا من الأمم كانت تتفلسف لما يتبع الفلسفة من فوائد مادية، أو لتأييد قضايا دينية، ومن ثم لم يشاءوا أن يعدوا الآراء الهندية أو المصرية أو الصينية الآشورية والبابلية فلسفة؛ لأنهم شرطوا في الفلسفة البحث وراء الحقيقة المجردة في حرية تامة، وسمو عن المادة، ولا عدوا الرومانيين أمثال «ماركوس أوريليوس» و«سنيكا» و«شيشيرون» فلاسفة؛ لأنهم لم يقدموا للعالم آراء فلسفية جديدة، تزيد في ثروة الفلسفة اليونانية.
وليس من غرضنا أن نلم بما وصل إليه اليونان في بحثهم في كل فرع من فروع العلم والفلسفة والفن؛ فذلك ما لا يحتمله فصل في كتاب.
1
وإنما غرضنا أن نعرض لبيان ما اقتبس المسلمون من الثقافة اليونانية الرومانية، ونبحث في إيجاز عن أي طريق وصلت هذه الثقافة للمسلمين.
كانت فتوح الإسكندر المقدوني لكثير من بلاد آسيا وأفريقيا سببا كبيرا من أسباب انتشار الثقافة اليونانية في الشرق؛ فقد كانت مملكته بلاد اليونان ومقدونية في أوروبا، ومصر وليبيا في أفريقيا، وسوريا وفلسطين والعراق وما إليه، وبلاد الفرس، وتركستان وأفغانستان وبلوخستان، وقسما من بلاد الهند في آسيا. وكان من سياسته التقريب بين هذه البلاد المفتوحة وبلاد الإغريق، ومزج الجنس الإغريقي بأجناس آسيا وأفريقيا في الحضارة والعمارة، ونظم الحكم والثقافة، ولهذا كان يحث اليونانيين على سكنى هذه البلاد، ومخالطة أهلها، وينظم مدنها تنظيما يونانيا، ويشجع الأدباء والكتاب والعلماء على نشر أدبهم وعلمهم؛ فكان من ذلك ومن الولاة اليونانيين الذين ورثوا الحكم من الإسكندر في الممالك الشرقية أن انتشرت الحضارة اليونانية والثقافة اليونانية من عهد الإسكندر. وكانت البلاد التي بين دجلة والفرات تغلب عليها الثقافة الإغريقية، حتى ليروون أنه لما وصل موت كراسوس
Crassus
إلى أوروديس
Orodes
الملك البرثي
2
كان يطالع مأساة من روايات يوريبيدس
Euripides . وظلت هذه الثقافة تنمو وتأتي ثمرها، حتى بعد أن انسحب الجيش اليوناني من هذه الأقطار، واشتهرت في الشرق قبل الإسلام إلى ما بعده مدن كثيرة كانت منبعا للثقافة اليونانية؛ من أشهرها جنديسابور، وحران، والإسكندرية.
فجنديسابور:
مدينة في خوزستان أسسها سابور الأول وإليه تنسب، واتخذها موطنا لأسرى الروم. ولعل هذا من الأسباب التي جعلتها فيما بعد منبعا للثقافة اليونانية، وأسس فيها كسرى أنوشروان مدرسة الطب المشهورة. وكانت تعلم فيها العلوم اليونانية باللغة الآرامية، وقد فتحها المسلمون فيما فتحوا من بلاد الفرس، وظلت المدرسة قائمة إلى العصر العباسي، ولم يبق من البلد في عهد ياقوت إلا أطلالها، وقد زالت هذه الأطلال، ولم يبق منها الآن أثر. وموقعها اليوم. أطلال «شاه أباد»
3
كان الذي أنشأه كسرى في جنديسابور بيمارستانا يعالج فيه المرضى، ويدرس فيه الطب وما إليه. يحكي القفطي: أن المدينة بنيت على شكل القسطنطينية، وأن أول من علم الطب بها أطباء من الروم: «ولما أقاموا بها بدءوا يعلمون أحداثا من أهلها، ولم يزل أمرهم يقوى في العلم، ويتزايدون فيه، ويرتبون قوانين العلاج على مقتضى أمزجة بلدانهم، حتى «برزوا في الفضائل».
4
وفي سنة عشرين من ملك كسرى، اجتمع أطباء جنديسابور بأمر الملك، وجرى بينهم مسائل وأجوبتها، وأثبتت عنهم، وكان أمرا مشهورا، وهذه المسائل والتعريفات إذا تأملها القارئ استدل على فضلهم، وغزارة علمهم.»
5
وكان أطباء جنديسابور يعتقدون أنهم أهل هذا العلم، ولا يخرجونه عنهم، وعن أولادهم وجنسهم. وقد رووا أن الحارث بن كلدة الثقفي طبيب العرب تعلم قبيل الإسلام في مدرسة جنديسابور، وعالج بفارس، وطبب بعض أجلاء الفرس، فأعطاه مالا وجارية، سماها الحارث سمية، وهي أم زياد بن أبيه. ومات الحارث في أول الإسلام ولم يصح إسلامه.
6
وقد كانت تدرس في مدرسة جنديسابور الثقافة الهندية بجانب الثقافة اليونانية، وكان يشترك بعض الهنود في التدريس باللغة الفهلوية.
وظلت مدرسة جنديسابور تؤدي عملها في الإسلام كما كان في عهد الفرس، وازداد اتصالها بالمسلمين في العهد العباسي، فإن أبا جعفر المنصور عندما بنى بغداد أصيب بمرض في معدته، لم يستطع أطباؤه معالجته، فدلوه على جورجيس بن بختيشوع رئيس أطباء جنديسابور.
7
ومن ذلك الحين اتصلت قصور الخلفاء بمدرسة جنديسابور، حتى إن الرشيد أمر جبريل بن بختيشوع أن يعمل ببغداد بيمارستانا على نمط بيمارستان جنديسابور، وتقلد رياسته أطباء جنديسابور وتلاميذهم.
8
وقد اشتهر من مدرسة جنديسابور في العصر العباسي جورجيس بن بختيشوع طبيب المنصور، وابنه بختيشوع طبيب الرشيد، وجبريل بن بختيشوع طبيب المأمون ... إلخ، وكانوا كلهم نصارى نساطرة.
حران:
وأما حران فمدينة في الجزيرة شمالي العراق، تقع بين الرها (أودسا) ورأس العين. وهي مدينة قديمة، عاصرت اليونان والرومان، والنصرانية والإسلام، وفي عهد الإسكندر سكن كثير من المقدونيين هذا الجزء الشمالي للعراق، وكان من أثر ذلك في حران أن الآلهة المعبودة عند الحرانيين اتخذت أسماء يونانية. وفي أول عهد النصرانيين كان شمالي العراق (ومنه حران) يسكنه أهله الأصليون، وهم السريانيون، وكثير من المقدونيين والإغريقيين والأرمن والعرب. ولما قويت النصرانية، وأصبحت دين الرومانيين الرسمي حاولوا أن يضغطوا على الحرانيين ليتنصروا فلم ينجحوا. ومن أجل ذلك كان رجال الكنيسة يطلقون على حران مدينة الوثنيين، «هيلينوبوليس»
Hellenopolis ،
9
وظلت حران (مدينة الوثنيين) يهرب إليها الذين لم يشاءوا أن يدخلوا في النصرانية من اليونانيين وغيرهم، ويظهر أن دينهم كان مزيجا من الديانة البابلية، واليونانية القديمة، والأفلاطونية الحديثة، حتى كان شأنهم كذلك في العصر الإسلامي، إلى عهد المأمون، فتسموا - إذ ذاك - بالصابئة؛ احتماء بما يفهم من القرآن الكريم من عد الصابئين من أهل الكتاب، ولم يكن ذلك الاسم يطلق عليهم من قبل، إنما كان يطلق على قوم لهم ديانة مزيج من اليهودية والنصرانية، كانوا يسكنون «البطيحة» كما ذكر القفطي (وهي أرض واسعة بين واسط والبصرة).
10
روى ابن النديم أن المأمون اجتاز في آخر أيامه ديار مصر، يريد بلاد الروم للغزو، فتلقاه الناس يدعون له، وفيهم جماعة من الحرانيين (الحرنانيين). وكان زيهم إذ ذاك لبس الأقبية، وشعورهم طويلة بوفرات، فأنكر المأمون زيهم! وقال لهم: من أنتم من الذمة؟ قالوا: لا، قال: فمجوس أنتم؟ قالوا: لا، قال لهم: أفلكم كتاب أم نبي؟ فجمجموا في القول. فقال لهم: فأنتم إذن الزنادقة عبدة الأوثان، وأصحاب الرأس في أيام الرشيد والدي، وأنتم حلال دماؤكم، لا ذمة لكم. فقالوا: نحن نؤدي الجزية! فقال لهم: إنما تؤخذ الجزية ممن خالف الإسلام من أهل الأديان الذين ذكرهم الله عز وجل في كتابه ولهم كتاب، فاختاروا أحد أمرين؛ إما أن تنتحلوا دين الإسلام، أو دينا من الأديان التي ذكره االله في كتابه، وإلا قتلتكم عن آخركم، فإني قد أنظرتكم إلى أن أرجع من سفرتي هذه. ورحل المأمون يريد بلد الروم، فغيروا زيهم، وحلقوا شعورهم، وتركوا لبس الأقبية، وتنصر كثير منهم، ولبسوا زنانير، وأسلم منهم طائفة، وبقي منهم شرذمة بحالهم، وجعلوا يحتالون ويضطربون، حتى انتدب لهم شيخ من أهل حران فقيه، فقال لهم: قد وجدت شيئا تنجون به، وتسلمون من القتل. فحملوا إليه مالا عظيما، فقال لهم: إذا رجع المأمون من سفره فقولوا له نحن الصابئون! فهذا اسم دين قد ذكره الله جل اسمه في القرآن، فانتحلوه فأنتم تنجون به، وقضى أن المأمون توفي في سفرته، وانتحلوا ذلك الاسم من ذلك الوقت؛ لأنه لم يكن بحران ونواحيها قوم يسمون بالصابئة، فلما اتصل بهم وفاة المأمون ارتد أكثر من كان تنصر منهم وطولوا شعورهم، إلخ،
11
وأطلق عليهم الصابئة منذ ذلك الحين. •••
على كل حال كان هؤلاء الحرانيون منبعا كبيرا من منابع الثقافة اليونانية في العهد الإسلامي، وقد اتصلت مدرستهم بالخلفاء العباسيين بعد اتصال مدرسة جنديسابور، وبعد العصر الذي نؤرخه. فأول من اتصل منهم ثابت بن قرة 2321-288ه) أوصله بالمعتضد بنو موسى بن شاكر) الذين رباهم المأمون. ومن ذلك الحين قرب الحرانيون من الخلفاء، ثم من بني بويه، واشتهر منهم ثابت بن قرة هذا الرياضي الفلكي، وابن سنان الطبيب العالم بالظواهر الجوية وقد أسلم، وحفيده إبراهيم بن سنان، كما اشتهر منهم أسرة هلال، ومنهم هلال بن إبراهيم، وكان طبيبا، وابنه الأديب المشهور إبراهيم أبو إسحاق الصابئ، صاحب الرسائل، وكان بليغا وله اليد الطولى في الرياضة والهندسة والهيئة. كما كان من الحرانيين «البتاني» أحد المشهورين برصد الكواكب، والمتقدمين في علم الهندسة، وصاحب الزيج المنسوب إليه. ومنهم أبو جعفر الخازن الرياضي، وابن وحشية المنسوب إليه الفلاحة النبطية ... إلخ. ولئن كانت مدرسة جندياسبور لها الأثر الكبير في نشر الثقافة اليونانية في الطب، وما إليه من فلسفة، فمدرسة حران كان أثرها الأكبر في الرياضيات، وخاصة الهيئة. ولعل ما في ديانتهم من تعظيم الكواكب، وإقامة الهياكل لها كان باعثا على نبوغهم في العلوم الرياضية والفلكية. •••
وأما الإسكندرية: فعاصمة مصر اليونانية، وبها ولد مذهب من أكبر المذاهب الفلسفية هو مذهب الإسكندرانيين، أو الأفلاطونية الحديثة. مؤسسه مصري هو «أفلوطين» (205-269م)، وهذا المذهب مدين بأهم أفكاره لفلاسفة اليونان، فعناصره الأولى مستمدة من آراء أفلاطون، وأرسطو، والرواقيين.
12
وقد امتاز بروحانيته ونقده للمذهب المادي، حتى لقد حكى أفلوطين أنه وصل في روحانيته إلى الاستغراق في الوحدانية، أو إلى التعبير الصوفي «الفناء في الألوهية» بضع مرات في حياته، ووصل إلى ذلك تلميذه مرة واحدة. وقد ظل مذهبه هو فورفوريوس
المذهب الفلسفي السائد في المملكة الرومانية نحو قرنين ونصف قرن بعد وفاة مؤسسه، حتى أتى الإمبراطور جوستنيان فأمر سنة 529م بإغلاق مدارس أثينا الفلسفية، وصادر أملاك الفلاسفة، وغل عقولهم وقيد ألسنتهم.
بجانب هذه الحركة الفلسفية كانت حركة واسعة في الأدب والعلم والفن، وأطلق على هذه الحركات كلها مدرسة الإسكندرية، وقد عاشت من سنة 306ق.م إلى 642ب.م. وكان يغذي هذه الحركة متحف الإسكندرية، ومكتبتها المشهورة.
ويقسم مؤرخو هذه المدرسة تاريخها إلى عصرين؛ العصر الأول: من قيام دولة البطالسة إلى غلبة الرومان (أعني من سنة 306ق.م، إلى سنة 30م) وقد عدت الإسكندرية في هذا العصر في مقدمة بلاد العالم في الأدب. والعصر الثاني: من سنة 30م إلى سنة 642م، وهي سنة فتح العرب للإسكندرية، وتمتاز في هذا العصر بالمذهب الفلسفي الذي أشرنا إليه، وكانت المدرسة في عصريها متصلة بالعالم حولها تمده بنورها.
انتشرت الديانة النصرانية في الإسكندرية، في العهد الروماني، كما انتشرت في غيرها، وقامت النصرانية فيها بجانب الفلسفة اليونانية، واختلفت النصارى فيما بينهم طوائف وشيعا، وتجادلوا في طبيعة المسيح، وناسوته، ولاهوته وعلاقة المسيح بالله، فلجئوا إلى الفلسفة يستعينون بما لها من منطق وترتيب في الجدل، وبما لها من أبحاث وراء المادة، ومن ثم اتصلت النصرانية بالفلسفة اليونانية، وكانت أول حركة للاتصال في الإسكندرية، كما اتصلت اليهودية بالفلسفة في الإسكندرية أيضا من قبل على يد فيلون. وكان من أوائل النصارى في ذلك «كليمان الإسكندري »
Clement
13
فمزج النصرانية بالأفلاطونية، ثم من بعده (185-254م) تلميذ أفلوطين «أوريجين»
Origen ، واضطهد أوريجين ففر من الإسكندرية، وأنشأ مدرسة على النمط الإسكندري في قيصرية في فلسطين. ثم أسست بعد مدرسة على هذا النمط في نصيبين، وأغلقت مدرسة نصيبين، فانتقلت إلى الرها. وهكذا انتشر النمط الإسكندري في مزج النصرانية بالفلسفة في أنحاء الشرق، وأصبح كثير من رجال الكنيسة يعلمون النصرانية مفلسفة أو الفلسفة منصرة، وجدوا في التوفيق بين ما يتعارض بينهما، فمثلا قالت النصارى: «إن المسيح ابن الله»، والأبوة مقدمة على البنوة، تقدم السبب على المسبب، وإذن كان الله قبل المسيح. وترى الفلسفة أن العلة الأولى، أو بعبارة أخرى «الله» لا يلحقه تغير، فكيف يكون أبا، وكان قبل غير أب، فيجب أن يفسر الابن تفسيرا يتفق والفلسفة، وهكذا.
وكان أغلب القائمين بهذه الحركة النصارى النساطرة، فبثوا مدارسهم وتعاليمهم في الشرق، وكانوا يعلمون باللغة السريانية، وينقلون الكتب اليونانية إلى السريانية. وكانت الحرب في ذلك العهد قائمة بين الفرس واليونان في آسيا، فكان كثير من البلاد يقع حينا في يد الرومان، وحينا في يد الفرس. وأقنع «برسوما» ملك الفرس «فيروز» بأن النساطرة يكرهون الرومانيين؛ بما لقوا منهم من عنت، وأنهم يوالون الفرس، فقبل منهم فيروز ذلك، وظلوا هم قائمين بما وعدوا
Oleary, Arabie Thought . •••
ولعل هذا الذي ذكرنا يلقي ضوءا على كثير من المسائل الغامضة التي تعترض الباحث: كيف اتصل الفرس بالفلسفة اليونانية، وكيف عرفوا «إيساغوجي» وأمثاله من كتب اليونان؟ وكيف كانت الأديار المبثوثة في الشرق مصدرا للفلسفة اليونانية؟ وكيف اتصل المسلمون بالفلسفة اليونانية؟ فظهرت في المجادلات الدينية وغيرها، وفي مناقشات المعتزلة وغيرهم، قبل أن تنقل الفلسفة اليونانية إلى اللغة العربية نقلا منظما في عهد المأمون ومن بعده. ولم كان المترجمون الأولون (من السريانية أو اليونانية إلى العربية) أكثرهم نصارى أو وثنيون؟ لعل القارئ يجد طرفا من الإجابة عن هذه الأسئلة فيما حكينا.
كانت الكنيسة الإسكندرانية والمصرية في الغالب على مذهب اليعاقبة، وكانت لغتها السريانية والقبطية، وكان إنتاج النساطرة في آسيا في الفلسفة باللغة السريانية أكثر من إنتاج اليعاقبة في مصر؛ لأن الجدل الديني في آسيا (وخاصة في العراق) بين النصارى بعضهم وبعض، وبين النصارى وغيرهم من أهل الديانات الأخرى؛ كان أكثر منه في مصر، وقد اشتهرت مدرسة الإسكندرية بالطب والكيمياء والعلوم الطبيعية، وكانت كذلك عند الفتح العربي، ولكن أبحاثها إذ ذاك كانت ممزوجة بالسحر والطلاسم والتنجيم. غلب على اليعاقبة في مصر مذهب الأفلاطونية الحديثة، والميل إلى التصوف، وحب معيشة الأديار والرهبنة، على حين غلب على النساطرة في آسيا الميل إلى التفكير الفلسفي، وحب المنطق من غير إغراق في الروحانية والرهبنة، وإن كانت لهم أديار.
وقد اتصل المسلمون بمدرسة الإسكندرية في العهد الأموي، فنرى أن خالد بن يزيد بن معاوية يترجم له بعض كتب «اصطفن» ويلقبه القفطي اصطفن الإسكندراني، ونرى بن أبجر (وهو طبيب سكندري) يسلم على يد عمر بن عبد العزيز، ويصحبه ويستطبه عمر، ويعتمد عليه في صناعة الطب.
14
وفي العصر العباسي، نرى ذكرا لبعض تلاميذ المدرسة الإسكندرانية؛ فابن أبي أصيبعة يروي أن «بليطيان» كان طبيبا نصرانيا مشهورا بديار مصر، وكان بطريركا على الإسكندرية في أيام المنصور، فلما ولي الرشيد مرضت له جارية مصرية فطلب لها طبيبا مصريا؛ لأنه أبصر بعلاجها، فأرسل إليه «بليطيان». وبعده كان سعيد بن توفيل طبيب أحمد بن طولون، وهكذا.
15
ولكن مما نلاحظ أن مدرسة الإسكندرية لم تتصل بالخلفاء العباسيين اتصال مدرسة جنديسابور وحران وأمثالهما، ولم يكن لها أثر كأثرهما، ولعل السبب في ذلك بعد مصر عن العراق، وقرب حران وجنديسابور، وأن مدرسة الإسكندرية كما أشرنا انغمست في العزائم والرهبنة والمكاشفة، على العكس من مدارس العراق؛ فقد كانت أعلم بشئون الدنيا، وأكثر اهتماما بعلومها، وهذا أنسب لدولة ناهضة كالدولة العباسية، أما نزعة الإسكندرية هذه فتناسب التصوف، وسنعرض لذلك عند الكلام في التصوف إن شاء الله. وسبب آخر، وهو ضعف مدرسة الإسكندرية قبيل الإسلام، واضطهاد أهلها، وإحراق كتبها، حتى اضطر كثير من معتنقيها إلى التنصر، أو الفرار من البلاد.
على كل حال فسر النساطرة واليعاقبة كثيرا من كتب اليونان، نقلوها من هذه اللغة إلى اللغة السريانية، فلما اتصلوا بالعرب كانوا هم أيضا البادئين بنقل هذه الكتب من السريانية إلى العربية وشرحها، وتاريخ هذه الحركة التي قام بها هؤلاء النساطرة واليعاقبة يدلنا على عيبين كبيرين فيها:
الأول:
قلة الابتكار، فلم يزيدوا على ما نقلوا علما جديدا، ولا نظريات جديدة، ولا كثيرا من الآراء الجديدة.
والثاني:
أنهم حتى في كثير مما نقلوا لم ينقلوا في دقة ما كان عند اليونان، بل غيروا فيه، وحرفوا، وكثير من الأخطاء التي وقع فيها العرب علميا كان منشؤه هذا الخطأ السرياني. والحق إن العرب في هذا كانوا أكثر ابتكارا وأدق نظرا. ويكاد مؤرخو علم المسلمين من طب وجبر وهندسة وكيمياء وفلسفة يقسمون ما وصل إليه المسلمون قسمين؛ قسم أخذوه عن اليونان، وقسم ابتكروه بأنفسهم.
نقل إلى العربية في هذا العصر أهم تآليف أرسطو، وشروح الإسكندرانيين عليها، وبعض مؤلفات أفلاطون، وأهم كتب جالينوس في الطب. وعلى الجملة أهم ما وصل إليه العقل اليوناني في العلم والفلسفة، ولسنا نريد أن نفصل الكتب التي ترجموها، ولكن يمكننا هنا أن نجمل القول بأنه يمكن تقسيم الترجمة إلى أدوار ثلاثة:
الدور الأول:
من خلافة المنصور إلى آخر عهد الرشيد؛ أي من سنة 136 إلى سنة 193ه. وفي هذا الدور ترجم كليلة ودمنة من الفارسية، والسند هند من الهندية، وترجمت بعض كتب أرسططاليس في المنطق وغيره، وترجم كتاب المجسطي في الفلك. ومن أشهر المترجمين في هذا الدور ابن المقفع وقد تقدمت ترجمته، وجورجيس بن جبرائيل، ويوحنا بن ماسويه، وكلاهما كان طبيبا نصرانيا، وفي هذا الدور اتصلت المعتزلة بالكتب التي ترجمت؛ فنجد الأولين منهم (كالنظام) عرفوا أرسطو، وعرفوا بعض كتبه في الفلسفة، وتأثرت أبحاثهم بالمنطق، وتكلموا في الطفرة والجوهر والعرض، وما إلى ذلك كما سيأتي بيانه، وكان كلامهم في هذا قبل المأمون؛ مما يدل على اتصالهم بالفلسفة من أول عهد الترجمة.
الدور الثاني:
من عهد المأمون من سنة 198 إلى سنة 300ه. وأشهر المترجمين في هذا الدور يوحنا أو يحيى البطريق (مولى المأمون)، وكانت الفلسفة أغلب عليه من الطب ، وترجم كثيرا من كتب أرسطو. والحجاج بن يوسف بن مطر الوراق الكوفي عاش سنة 214، وقسط ابن لوقا البعلبكي عاش سنة 220ه، وعبد المسيح بن ناعمة الحمصي عاش سنة 220، وحنين بن إسحاق توفي نحو سنة 260، وابنه إسحاق بن حنين توفي سنة 298، وعني بكتب الفلسفة عناية أبيه بالطب، وثابت بن قرة توفي سنة 288، وحبيش الأعسم بن أخت حنين، وغيرهم. وقد ترجم في هذا الدور أهم الكتب اليونانية في كل فن؛ فأعيدت ترجمة المجسطي، والحكم الذهبية لفيثاغورس، وجملة مصنفات لبقراط وجالينوس، وكتاب طيماوس لأفلاطون وكتاب السياسة المدنية لأفلاطون، وكتاب النواميس له أيضا، وكتاب المقولات لأرسطو. كل ذلك على يد حنين بن إسحاق ومدرسته، وترجمت أغلب كتب أرسطو على يد إسحاق بن حنين.
الدور الثالث:
من أتى بعد هؤلاء، ومن أشهر المترجمين فيه متى بن يونس، كان في بغداد سنة 320، وسنان بن ثابت بن قرة مات سنة 360، ويحيى بن عدي سنة 364، وابن زرعة سنة 398، وأهم ما ترجموا الكتب المنطقية والطبيعية لأرسطو، وتفسيرها.
16 •••
وقد كان الباعث على هذه الترجمة، ونشاطها في الدولة العباسية أمورا:
الأول:
أن العهد الأموي كان عهدا بدويا في الجملة، ظهرت فيه سيادة العرب على غيرهم من الأمم أوضح ظهور، والعرب في ذلك العصر لم يتأصل فيهم ميل إلى فلسفة؛ إنما كان يعجبهم الأدب العربي، والتحدث بأيام العرب، ولذة خلفائهم إنما هي في الإصغاء إلى قصيدة عربية، والاستفسار عن لفظ غامض، وما إلى ذلك. فلما جاء العصر العباسي، وأمعن المسلمون في الحضارة، وسادت العناصر غير العربية؛ رأوا أن حياة الحضارة لا بد أن تستند إلى العلم، فمالية الدولة تحتاج إلى حساب دقيق، وعيشة الحضارة المركبة تحتاج إلى أدوية مركبة، وعلاج مركب. ومتى لجأ الناس إلى نوعين من العلوم، وأخذوا يعالجونه عن الأمم الأخرى؛ دعاهم الشغف إلى تعرف ما عند الأمم المختلفة من العلوم جميعها، ولو لم يكن لهم بها حاجة ماسة مباشرة.
الثاني:
أن الحركة الدينية كانت قد بلغت في آخر الدولة الأموية شأوا بعيدا كما ذكرنا في فجر الإسلام، وجرهم البحث إلى أن يتكلموا في القضاء والقدر ونحوه، ورجحت عند قوم عقيدة الجبر، وعند آخرين عقيدة الاختيار، وتجادل المسلمون فيما بينهم، ثم تجادل المسلمون والنصارى واليهود: أي الأديان خير؟ وأي آراء الأديان في المسائل الجزئية أصح؟ وكان المعتزلة يحملون لواء الدفاع عن الإسلام، ومقارعة خصومه، وكان كل من اليهودية والنصرانية تسلح من قبل بالمنطق اليوناني، والفلسفة اليونانية يستخدمها في الجدل، فأحس المسلمون أنه لا بد من محاربتهم بآلاتهم، فعكفوا على المنطق والفلسفة يستخدمونهما في أغراضهم، وفيما هم كذلك شعروا بلذة عقلية من دراسة الفلسفة؛ فبعد أن كانت تطلب على أنها وسيلة للدفاع عن الدين أصبحت غاية في نفسها تطلب لذاتها.
وسبب ثالث:
حكاه الأستاذ نيللنو، وهو أنه «في أواخر مدة الدولة الأموية ثبتت سلطة الإسلام على جميع الأمصار والأقطار التي دخلتها ألويته عنوة أو صلحا أثناء المغازي المتواصلة والفتوح، من أقصى بلاد ما راء النهر في تركستان، إلى منتهى المغرب والأندلس؛ فعمت اللغة العربية الشريفة أهل تلك الولايات والبلدان، وغلبت على ألسنتهم الأصلية، فأخذ المسلمون كلهم من أي جنس أو أمة لا يستخدمون في الإنشاء والتأليف إلا لغة العرب، فابتدأت وحدة الدين تستوجب أيضا وحدة اللسان والحضارة والعمران، فصار الفرس وأهل العراق والشام ومصر يدخلون علومهم القديمة في التمدن الإسلامي الجديد.»
17
وسبب رابع:
وهو ميل أفراد من الخلفاء في العصر العباسي إلى العلوم الفلسفية، والخلفاء عادة أقدر الناس على التغريب فيما أحبوا، والناس أسرع ما يكون إلى تحقيق أغراضهم، والولوع بما أولعوا به، وأكثر الخلفاء العباسيين ميلا إلى ذلك في عصرنا كان المنصور والرشيد والمأمون. ويظهر أنه قد كان لكل منهم أسباب خاصة حملته على ذلك؛ فالمنصور كان ممعودا، ويظهر أن ذلك حمله على العناية بالطب والأطباء، جاء في الطبري عن علي بن محمد بن سليمان النوفلي عن أبيه، أنه كان يقول: «كان المنصور لا يستمرئ طعامه، ويشكو ذلك إلى المتطببين، ويسألهم أن يتخذوا له الجوارشنات. فكانوا يكرهون ذلك، ويأمرونه أن يقل من الطعام، ويخبرونه أن الجوارشنات تهضم في الحال، وتحدث من العلة ما هو أشد منها عليه، حتى قدم عليه طبيب من أطباء الهند، فقال له كما قال له غيره، فكان يأخذ له سفوفا جوارشنا يابسا، فيه الأفاويه والأدوية الحارة، فكان يأخذه فيهضم طعامه، فأحمده.. إلخ.
18
وكذلك كان يعتقد في التنجيم - كما سيأتي بيانه - فقرب إليه المنجمين. والرشيد رباه البرامكة على حب العلم، والمأمون رباه الرشيد والبرامكة، وقد حذا حذو الخلفاء كثير من أفراد الشعب كبني موسى بن شاكر.
إذا علمت ذلك؛ علمت فساد رأي من ينسب ترجمة الكتب اليونانية إلى رؤيا رآها المأمون أو نحو ذلك؛ فقد ذكر صاحب الفهرست «أن أحد الأسباب التي من أجلها كثرت كتب الفلسفة وغيرها من العلوم القديمة أن المأمون رأى في منامه كأن رجلا أبيض اللون مشربا حمرة، واسع الجبهة، مقرون الحاجب، أجلح الرأس أشهل العينين حسن الشمائل، جالس على سريره. قال المأمون: وكأني بين يديه قد ملئت له هيبة، فقلت: من أنت؟ قال: أنا أرسطاليس. فسررت به وقلت: أيها الحكيم، أسألك؟ قال: سل. قلت: ما الحسن؟ قال: ما حسن في العقل. قلت: ثم ماذا؟ قال: ما حسن في الشرع. قلت: ثم ماذا؟ قال: ما حسن عند الجمهور، قلت: ثم ماذا؟ قال: لا ثم. وفي رواية أخرى؛ قلت: زدني، قال: من نصحك في الذهب فليكن عندك كالذهب، وعليك بالتوحيد. فكان هذا المنام من أوكد الأسباب في إخراج الكتب.»
19
وروى ابن أبي أصيبعة هذه القصة بشكل آخر، فقال إن المأمون رأى في منامه كأن شيخا بهي الشكل جالس على منبر وهو يخطب، ويقول: «أنا أرسططاليس.» فانتبه من منامه، وسأل عن أرسططاليس، فقيل له رجل حكيم من اليونانيين، فأحضر حنين بن إسحاق؛ إذ لم يجد من يضاهيه في نقله، وسأله نقل كتب الحكماء اليونانيين إلى اللغة العربية، وبذل له من الأموال والعطايا شيئا كثيرا.
فهذه القصص وأمثالها لا يصح أن تكون سببا، وإنما كانت الترجمة لأسباب طبيعية، هي التي ذكرنا. ورواية ابن أبي أصيبعة أبعد عن الحقيقة؛ فمن المستحيل ألا يسمع المأمون باسم أرسطو حتى يأتيه في المنام ويقول له أنا أرسطو! وحكاية ابن النديم إن صحت دلتنا عل أن الحلم كان انعكاس صورة طبيعية لما كان يفكر فيه المأمون في اليقظة. •••
قال في طبقات الأمم لصاعد الأندلسي: «كانت العرب في صدر الإسلام لا تعنى بشيء من العلم إلا بلغتها، ومعرفة أحكام شريعتها، حاشا صناعة الطب، فإنها كانت موجودة عند أفراد من العرب، غير منكرة عند جماهيرهم، لحاجة الناس طرا إليها، ولما كان عندهم من الأثر عن النبي
صلى الله عليه وسلم
في الحث عليها حيث يقول: «يا عباد الله تداووا فإن الله (عز وجل) لم يضع داء إلا وضع له دواء إلا واحدا وهو الهرم.»
فهذه كانت حالة العرب في الدولة الأموية، فلما أدال الله تعالى للهاشمية، وصرف الملك إليهم ثابت الهمم من غفلتها، وهبت الفطن من سنتها، فكان أول من عني منهم بالعلوم الخليفة الثاني أبو جعفر المنصور، فكان رحمه الله مع براعته في الفقه مقدما في علم الفلسفة، خاصة في علم صناعة النجوم، كلفا بها وبأهلها.
ثم لما أفضت الخلافة إلى الخليفة السابع منهم عبد الله المأمون بن الرشيد بن محمد المهدي بن أبي جعفر المنصور؛ تمم ما بدأ به جده المنصور، فأقبل على طلب العلم في مواضعه، واستخرجه من معادنه بفضل همته الشريفة، وقوة نفسه الفاضلة، فداخل ملوك الروم وأتحفهم بالهدايا الخطيرة، وسألهم صلته بما لديهم من كتب الفلاسفة، فبعثوا إليه بما حضرهم من كتب أفلاطون وأرسططاليس وأبقراط، وجالينوس وإقليدس، وبطليموس، وغيرهم من الفلاسفة؛ فاستجاد لها مهرة التراجمة، وكلفهم إحكام ترجمتها، فترجمت له على غاية ما أمكن، ثم حض الناس على قراءتها، ورغبهم في تعلمها، فنفقت سوق العلم في زمانه، وقامت دولة الحكمة في عصره، وتنافس أولو النباهة في العلوم لما كانوا يرون من إحظائه لمنتحليها، واختصاصه لمتقلديها؛ فكان يخلو بهم، ويأنس بمناظرتهم، ويلتذ بمذاكرتهم، فينالون عنده المنازل الرفيعة والمراتب السنية، وكذلك كانت سيرته مع سائر العلماء والفقهاء المحدثين والمتكلمين، وأهل اللغة والأخبار والمعرفة بالشعر والنسب، فأتقن جماعة من ذوي الفنون والتعلم في أيامه كثيرا من أجزاء الفلسفة، وسنوا لمن بعدهم منهاج الطلب، ومهدوا أصول الأدب، حتى كادت الدولة العباسية تضاهي الدولة الرومية أيام اكتمالها، وزمان اجتماع شملها.»
20
وقال في موضع آخر : «إن أول علم اعتني به من علوم الفلسفة؛ علم المنطق والنجوم، فأما المنطق فأول من اشتهر به في هذه الدولة عبد الله بن المقفع الخطيب الفارسي، كاتب أبي جعفر المنصور، فإنه ترجم كتب أرسططاليس المنطقية الثلاثة التي في صورة المنطق، وهي كتاب «قاطغاورياس»، وكتاب «باري أرمنياس»، وكتاب «أنولوطيقا»، وذكر أنه لم يكن ترجم منه إلى وقته إلا الكتاب الأول فقط، وترجم مع ذلك المدخل المعروف «بايساغوجي لفورفوريوس الصوري»، وعبر عما ترجم من ذلك عبارة سهلة قريبة المأخذ، وترجم مع ذلك الكتاب الهندي المعروف بكليلة ودمنة، وهو أول من ترجم من اللغة الفارسية إلى اللغة العربية ...
وأما علم النجوم؛ فأول من عني به في هذه الدولة محمد بن إبراهيم الفزاري، وذلك أن الحسن بن محمد بن حميد المعروف بابن الآدمي ذكر في زيجه الكبير المعروف ب«نظم العقد» أنه قدم على الخليفة المنصور في سنة 156 رجل من الهند عالم بالحساب، المعروف بالسند هند في حركات النجوم، فأمر المنصور بترجمة ذلك الكتاب إلى اللغة العربية، وأن يؤلف منه كتابا تتخذه العرب أصلا في حركات الكواكب، فتولى ذلك محمد بن إبراهيم الفزاري، فكان أهل ذلك الزمان يعملون به إلى أيام الخليفة المأمون.
21
ونحن إذا استعرضنا ما حكي عن الترجمة ونشأتها أمكننا أن نستنتج منها النتائج الآتية: (1)
أن أول نقل حدث في الإسلام كان بفضل خالد بن يزيد بن معاوية، والذي نقل له هو «اصطفن»، وهو من الإسكندرية، وكان هذا النقل من اللغة اليونانية والقبطية إلى العربية. وإن خالدا إنما كان أهم ما يعنى به الصنعة أو الكيمياء، والغرض بها تحويل المعادن إلى ذهب، ويظهر أن الذي دعاه إلى ذلك أنه كان شابا يطمع في الخلافة؛ إذ كان أبوه (يزيد بن معاوية) خليفة، وأخوه (معاوية بن يزيد) خليفة، ثم نحي عن الخلافة، وغلبه عليها مروان بن الحكم، فصدم من ذلك صدمة قوية، فتحول إلى ملهى شريف يلهو به ويناسب أرستقراطيته، فكان ذلك هو «الصنعة» رأى أنه إذا استطاع أن يحول المعادن إلى ذهب استطاع أن يحول الناس إليه، أو على أقل تقدير كان له من المنزلة ما يحسده عليها الخلفاء. قال ابن النديم: «كان خالد جوادا، يقال إنه قيل له: لقد فعلت أكثر شغلك في طلب الصنعة! فقال خالد: ما أطلب بذاك إلا أن أغني أصحابي وإخواني، إني طمعت في الخلافة فاختزلت دوني، فلم أجد منها عوضا إلا أن أبغي آخر هذه الصناعة، فلا أحوج أحدا عرفني يوما أو عرفته إلى أن يقف بباب سلطان، رغبة أو رهبة.»
22
وقد اشتغل بالنجوم على أنها قد تكون وسيلة تساعد على الوصول إلى «الصنعة»؛ إذ كان علم النجوم ممزوجا بعلم أحكامها، وتأثيرها في العالم السفلي، فلعله أمل فيه عونا إلى الوصول إلى بغيته. (2)
أنه عني في الدولة الأموية بالطب بعض عناية؛ لأن الناس في حاجة مادية إليه، ولأنه أبعد العلوم الأجنبية عن أن يؤثر في الدين، ولهذا لم يتحرج من إجازة الترجمة فيه أتقى بني أمية عمر بن عبد العزيز. (3)
أن محاولة الترجمة في العهد الأموي كانت محاولات فردية، تموت بموت الأفراد القائمين بها، أما في الدولة العباسية فكانت الترجمة عمل أمة لا عمل أفراد، وإن شئت فقل: كان في الدولة العباسية مدرسة كبيرة للترجمة، لا يضيرها موت فرد أو أفراد منها. (4)
كانت الترجمة في العهد الأموي مقصورة على العلوم العملية كالصنعة والطب والنجوم (بالمعنى الذي فسرناه)، ولم يتعد ذلك إلى العلوم العقلية كالمنطق والفلسفة والهندسة، وما إلى ذلك؛ فهذه لم تكن إلا في الدولة العباسية. (5)
نرى أن المسلمين اتصلوا بالفلسفة اليونانية أول الأمر من طريق الفرس؛ فقد ترجم ابن المقفع كتبا من منطق اليونان، والظاهر أنه نقلها من الفارسية؛ إذ لم يعرف عنه أنه يعرف اليونانية، ثم تولى الترجمة بعد النصارى من النساطرة واليعاقبة من السريانية إلى العربية. (6)
كانت أول عناية الخلفاء العباسيين موجهة إلى الطب والتنجيم، والسبب في ذلك الحاجة الماسة إلى ذلك، فالمنصور احتاج إلى الطب لمرضه كما بينا، واحتاج إلى التنجيم؛ لأنه كان يعتقد أن هناك ارتباطا بين حركات النجوم وأوضاعها، وبين ما يحدث في عالمنا من نحس أو سعد. ومن ذلك الحين صار الطب والتنجيم عملين رسميين يتولاهما رجال رسميون؛ فجورجيس بن جبريل بن بختيشوع الجنديسابوري صار طبيبا للمنصور، ثم لما تقدمت به السن عين المنصور مكانه تلميذه عيسى بن شهلانا. واتخذ نوبخت الفارسي منجما له، فلما ضعف عين المنصور مكانه ابنه أبا سهل بن نوبخت. ولما تولى اتخذ المهدي طبيبه عيسى الصيدلاني الملقب بأبي قريش، واتخذ توفيل بن توما النصراني الرهاوي رئيسا لمنجميه. فلما تولى الرشيد اتخذ طبيبه بختيشوع بن جورجيس، ويوحنا بن ماسويه النصراني. ولما استخلف المأمون كثر في بلاطه الأطباء والمنجمون؛ فمن منجميه حبش الحاسب، وعبد الله بن سهل بن نوبخت، ومحمد بن موسى الخوارزمي، وما شاء الله اليهودي، ومن أطبائه سهل بن سابور، ويوحنا بن ماسويه، وجورجيس بن بختيسشوع، وعيسى بن الحكم، وزكريا الطيفوري، فلما آلت الخلافة للمعتصم كان طبيبه سلمويه، ثم يوحنا بن ماسويه.
23 ... إلخ.
فترى من هذا أن الطب والتنجيم أصبحا صناعتين تحميهما الخلفاء، وكانت حاجتهم إليهما حاجة عملية، فأمر الطب ظاهر، والتاريخ مملوء بالحكايات التي هرع فيها الخلفاء إلى المنجمين، فالمنصور استشار المنجمين في اختيار الوقت الذي يبدأ فيه ببناء بغداد، والمهدي لما هم بالخروج، على «ماسبذان» استشار توفيل بن توما النصراني المنجم،
24
والمعتصم نصحه المنجمون ألا يغزو «عمورية» إلا في أيام نضج التين والعنب فلم يصغ لقولهم وغزاها وفتحها. وقال أبو تمام في ذلك بائيته المشهورة: «السيف أصدق أنباء من الكتب». والواثق لما اشتد مرضه، أحضر المنجمين، منهم الحسن بن سهل بن توبخت، فنظروا في مولده فقدروا له أن يعيش خمسين سنة مستأنفة من ذلك اليوم، فلم يعش بعد قولهم إلا عشرة أيام
25 ... إلخ.
ولسنا ندعي أن الخلفاء لم يشجعوا من علم النجوم إلا هذا الضرب، فقد كان علم النجوم يشمل ما نطلق عليه علم الهيئة الآن، ويشمل كذلك البحث عن التغيرات التي تحدث في الأرض بسبب مواقع النجوم وتأثيرها. وكلا الأمرين كان عند اليونان، وكلا الأمرين عني به العباسيون، فرصدت الكواكب في عهد المأمون، وأصلحت آلات الرصد، وإنما الذي نريد أن نذكره أن الشغف بمعرفة أحكام النجوم هو الذي جذب الخلفاء أولا إلى تشجيع هذا العلم، ثم تدرجوا منه إلى تشجيع الفلك الرياضي البحت.
ويظهر لي أن هذين العلمين (الطب والنجوم) هما العلمان اللذان أوصلا المسلمين إلى ساحة العلوم الفلسفية، والسبب في ذلك أن التخصص الذي نفهمه الآن، ونراه في دراسة الطب والهيئة لم يكن معروفا في هذا العصر العباسي؛ فكان الطبيب والمنجم يلمان بكثير من المسائل الفلسفية. وتكاد تعد الفلسفة كوحدة، فروعها؛ الطب، والإلهيات، والحساب، والمنطق، والموسيقى، والهندسة، والهيئة، فالطبيب والمنجم يلمان غالبا بكل ذلك، ثم يتبحران في الطب أو التنجيم، وكانت رغبة الأطباء والمنجمين في إتقان فنونهم تحملهم على معرفة اللغات الأجنبية، وخاصة اليونانية، فإذا حذفوها أقبلوا على الكتب المؤلفة فيها من جميع فروع الفلسفة. وقد نقل إلينا ابن النديم ثبتا بأسماء الكتب التي كان يدرسها المتطببون، فإذا فيها طب وتشريح، وما إلى ذلك، ثم فيها منطق وأخلاق، وبحث فيما وراء المادة، وكان مما يقرءون كتاب موضوعه «أن الطبيب الفاضل يجب أن يكون فيلسوفا».
26
واستمر هذا الحال حتى في من نبغ بعد من الفلاسفة المسلمين؛ فيعقوب الكندي مثلا «كان عالما بالطب والفلسفة وعلم الحساب والمنطق، وتأليف اللحون والهندسة، وطبائع الأعداد والهيئة»،
27
وكذلك كان ابن سينا منطقيا طبيبا رياضيا طبيعيا فلكيا ... إلخ.
من أجل هذا نرى أن كثيرا من هؤلاء الأطباء والمنجمين الذين كان الخلفاء يمدونهم بالمال عنوا بترجمة كتب غير طبية ولا فلكية، أو أشرفوا على ترجمتها؛ فابن العبري يذكر «أن يوحنا بن ماسويه النصراني السرياني الطبيب ولاه الرشيد ترجمة الكتب الطبية القديمة، وكان له تصانيف جميلة، وكان يعقد مجلسا للنظر، ويجري فيه من كل نوع من العلوم القديمة بأحسن عبارة.»
28
ويقول: «إن يوحنا بن البطريق (الطبيب) الترجمان مولى المأمون كان أمينا على ترجمة الكتب الحكمية، حسن التأدية للمعاني، ألكن اللسان في العربية، وكانت الفلسفة أغلب عليه من الطب.»
29 ... إلخ. •••
كان لهذه الثقافة اليونانية أثر كبير في المسلمين، ومما زاد في أثرها أن اتصال المسلمين بها صاحب عصر تدوين العلوم العربية، فتسربت الثقافة اليونانية إليها، وصبغتها صبغة خاصة، كان لها تأثير كبير في الشكل، وفي الموضوع.
أما الشكل فيرجع إلى تأثير المنطق اليوناني، وقد صبغ العلوم العربية صبغة جديدة صبت في قالبه، ووضعت على منهاجه؛ إذ كان المنطق كما قال ابن سينا «خادم العلوم»، عني به المسلمون من أول عهدهم بالفلسفة، وقد رأينا أن ابن المقفع ترجم كتب المنطق لأرسطو، وتتابع المترجمون بعده يترجمون الكتب المنطقية، وكان المنطق الذي وصل إلى العرب هو منطق أرسطو معدلا ومضافا إليه، ومشروحا بمنطق الرواقيين والإسكندرانيين، ولم يزد العرب فيه شيئا يذكر؛ فكل المنطق الذي بين أيدينا هو منطق اليونان، لم يزد عليه الا بعض الشروح. وقد نقل نقلا صحيحا لم يدخله نقص ولا تهويش، كالذي كان في الإلهيات اليونانية. وقد كان منطق أرسطو وشروحه العربية أوسع وأعمق مما بين أيدينا من كتب المنطق اليوم؛ فكان القياس يشغل فيه حيزا كبيرا، وفيه كتاب واسع في البرهان، وآخر في الجدل وكيف يكون، وكيف تسلك في إفحام الخصم، وكان فيه باب للسفسطة، وباب في الخطابة، وباب في الشعر، وكانت الأبواب الخمسة الأخيرة، وهي: البرهان، والجدل، ولخطابة، والشعر، والسفسطة تبحث فيه بحثا وافيا.
30
ولكن المتأخرين حذفوا هذه الأبواب، أو ألموا بها إلماما يسيرا، واقتصروا على الكلام في الكليات الخمس والقضايا والقياس، مع أن الذي حذفوا أهم من الذي أثبتوا؛
31
وبذلك أفقدوا المنطق روحه.
على كل حال كان للمنطق سلطان كبير على العقول في العصر العباسي، وكان من جراء ذلك أن اصطبغت طريقة الجدل والبحث والتعبير والتدليل صبغة غير التي كانت تعرف من قبل، فإن أنت قارنت بين أسلوب القرآن الكريم، وأسلوب المتكلمين وجدت فرقا كبيرا يمكنك أن تلخصه في أن أساليب المتكلمين جارية على أساليب منطق أرسطو ، وليس كذلك أسلوب القرآن.
وبحق وضع محمد بن إبراهيم الحسني اليمني الصنعاني كتابه المسمى «ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان»
32
فأسلوب القرآن في إثبات وجود الله تعالى:
قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله . وقوله تعالى:
أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج * والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج * تبصرة وذكرى لكل عبد منيب * ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد * والنخل باسقات لها طلع نضيد
إلى كثير من أمثال ذلك. أما أسلوب المتكلمين فمثل: «العالم حادث، وكل حادث لا بد له من محدث، فالعالم لا بد له من محدث.» إلى أمثال ذلك، وما يستتبعه من الجوهر والعرض، والكيفية والكمية، والعلم الضروري والنظري، وغير ذلك مما هو من تعبيرات الفلسفة اليونانية.
وكذلك الشأن إذا أنت قارنت بين تعبيرات الفقهاء في عصر الخلفاء الراشدين، والعصر الأموي، وبين تعبيرات الفقهاء في العصر العباسي بعد أن عرفوا المنطق؛ فإنك تجد التعبير الأول عربيا بحتا، وتجد الثاني أرسططاليسيا بحتا، فمثلا تقرأ الباب في موطأ الإمام مالك فتجده يذكر الحكم، ثم يحكي ما يدل عليه من حديث أو أثر، ثم لا تجد فيه أثرا لعلم المنطق، وتقرأ في كتاب الهداية مثلا التدليل الفقهي، وخاصة في المسائل الخلافية بين أبي حنيفة والشافعي؛ فترى أن قواعد الجدل التي وضعها أرسطو، وقواعد البرهان مطبقة في دقة تامة، فمقدمة صغرى، ومقدمة كبرى، والنتيجة، وأشكال القياس مستوفاة شروطها.
وتقرأ كتاب سيبويه فتجد ترتيبا وتبويبا منطقيا، يبدأ بتقسيم الكلمة إلى اسم وفعل وحرف، ثم يعرف كل قسم، ويأتي بأمثلته ويذكر أحكامه، وهكذا. ومن ذلك أن أرسطو قال: «إن الزمان والمكان كالوعاء للأشياء؛ إذ لا بد لكل شيء مخلوق أن يكون واقعا في زمان من الأزمنة، وفي مكان من الأمكنة فهما كالوعاء له. وهذا أصل تسمية النحويين للمفعول فيه ظرفا؛ أي وعاء .»
33
وكما ألف إيساغوجي المقدمة أو المدخل في المنطق ألف ابن فارس «مقدمة في النحو».
وهذا القياس الذي شغل جزءا كبيرا من منطق أرسطو طبق تطبيقا دقيقا، وروعي في كثير من العلوم ؛ فالقياس في الفقه وأصوله، والقياس في النحو واللغة، والقياس في الفلسفة، وكان لهذا القياس أثر كبير في تفريع المسائل وتنويعها، ووضع المسائل المتشابهة تحت قاعدة واحدة، وطرد أحكامنا على ما لم يرد فيه حكم مأثور، سواء في ذلك الفقه والنحو واللغة، وكان لهذا كله أثر في تضخيم العلم وترتيبه وتبويبه.
34
هذا في الشكل، وأما في الموضوع؛ فقد كان للفلسفة اليونانية أثر كبير في تعاليم المتكلمين، نعرض له عند الكلام في المعتزلة. وكان للأفلاطونية الحديثة بعض الأثر في التصوف، نوضحه عند الكلام فيه. وكان لهما معا أثر كبير في الفلسفة الإسلامية، وهذا بتاريخ الفلسفة الإسلامية أشبه وأليق، وكان للبلاغة اليونانية أثر في علم البلاغة العربي، ولكنه دون بعد عصرنا الذي نؤرخه فلا نتعرض له الآن.
ولكن مما لا شك فيه أن العرب أو المسلمين استخدموا ما أخذوا من الثقافة اليونانية استخداما صالحا، وأخذوا منها ما أخذوا، ثم بنوا عليه، وزادوا فيه وابتكروا، ولم يكن موقفهم موقف الناقل فحسب. وكان كثير منهم ينظر بإحدى عينيه على الثقافة اليونانية، وبالعين الأخرى على التعاليم الإسلامية والثقافة العربية، فيختار من الأولى ما يتفق والثانية، ويؤلف منها مزيجا لا هو يوناني بحت، ولا إسلامي بحت؛ إنما أظهر ما كان ذلك في العصر الذي يلي عصرنا هذا هو العصر العباسي الثاني؛ فقد كانت الترجمة قد تمت وركزت، فأعقبها الأخذ بها والبناء عليها، وظهر أمثال إخوان الصفاء، والفارابي، وابن سينا، وابن رشد، وأمثالهم. •••
وهناك نوع آخر خفيف من الثقافة اليونانية الرومانية، وأعني به الثقافة التي تنشأ من امتزاج الجنسين؛ أعني الجنس العربي، والجنس اليوناني الروماني في الحياة الاجتماعية، فقد كان هؤلاء الرومان يعيشون بين سمع العرب وبصرهم، ولهم عادات وتقاليد، وأفكار وآراء في نظم الحكم، ولهم فنون من غناء وتصوير وما إلى ذلك، فكان العرب يقتبسون من ذلك ما تيسر لهم، لا عن طريق الدراسة المنظمة، ولا عن طريق البحث العلمي، وإنما عن طريق المشاهدة والنظر، وعن طريق الحديث والمشافهة. ولئن كان العراق أهم منبع للثقافة اليونانية العلمية فقد كان الشام على ما يظهر أهم منبع لهذا النوع من الثقافة الاجتماعية، وسبب ذلك: أن الشام كان محكوما بالرومان وقت الفتح الإسلامي، وكانت سلطة الرومان عليه أكبر من سلطتهم على العراق لقرب العراق من الدولة الأخرى القوية (وهي الفرس)، ووقوعه تحت سيطرتها في أغلب الأحيان، وكان في الشام عرب كثيرون، ورومان كثيرون، اختلطوا اختلاطا تاما. وترك الرومان عند خروجهم عادات وتقاليد وفنونا ونظما اقتبس منها العرب.
من الأمثلة على ذلك الغناء؛ فيحدثنا الأغاني أن المسلمين اقتبسوا من الروم بعض غنائهم، وكان موضع الاقتباس هو الشام، فيقول في «ابن محرز»: إنه «سقط إلى فارس فأخذ غناء الفرس، وإلى الشام فأخذ غناء الروم، فتخير من نغمتهم ما تغنى به غناءه.»
35
ويقول ابن مسجح «إنه رحل إلى الشام، وأخذ ألحان الروم.»
36
وقد رأينا عند الكلام في الرقيق أن كثيرا منه كان من الروم، وكان هذا الرقيق من غلمان وجوار في قصور الخلفاء والأغنياء والشعراء والعلماء، فكان للمأمون جوار روميات، يلبسن لبسهن الرومي من زنار وما إليه، وكان لأبي تمام الشاعر غلام رومي،
37
وهكذا.
ويحكي ابن أبي أصيبعة: أن الرشيد كانت له جارية رومية اسمها خرشى، وكان لها من قرابتها أخت أو بنت أخت، فتفقدها الرشيد فلم يجدها، فسأل خرشى عنها فأعلمته أنها زوجتها من قريب لها، فغضب من ذلك، وقال: كيف أقدمت على ذلك بغير إذني، وأنت إنما اشتريتها من مالي! وأمر سلاما الأبرش بتأديب زوجها على عمله، فما زال سلام يتعرف خبره، حتى وجده فخصاه، وكانت الجارية الرومية قد علقت منه بغلام، فلما ولدت الجارية (وكان الرشيد قد توفي) تبنت خرشى الغلام، وأدبته بآداب الروم وقراءة كتبهم، فتعلم اللسان اليوناني علما كانت له فيه رياسة، وكان يعرف بإسحاق ابن الخصي، وكان يتصل به كثير من أهل العلم والأدب.
38
وكانت الحروب بين المسلمين والروم متواصلة في عصرنا هذا، وتقع الأسرى من كل من الجانبين في يد الآخرين؛ فأسرى المسلمين قد يذهبون إلى القسطنطينية، وأسرى الروم إلى العراق. والحكايات كثيرة في التاريخ عن النوعين من الأسارى، وخاصة في عهد الرشيد، فكان هذا سببا من أسباب امتزاج الحياة الاجتماعية، واقتباس كل من كل. وليس من المعقول أن يمر هذا الاتصال (بحكم الروم لكثير من البلاد الإسلامية أولا، ثم بالرق والأسر، ثم بالرق والأسر، ثم بالاحتكاك الدائم السلمي أحيانا، والحربي أحيانا) من غير أن يترك بعضا من المسلمين يتكلمون الرومية، وبعضا من الرومانيين يتكلمون العربية؛ فالرقيق الرومي مثلا في البيوت كان يتكلم الرومية أولا بالضرورة، ثم يتكلم العربية محرفة، ثم العربية القريبة من الصحيحة، وهكذا الشأن في أسرى المسلمين في الروم إن استقروا، وهذا يحمل بعض الأفراد الراقين من الجانبين على أن يتبادلوا الآراء والأفكار والكلام في اللغة والأدب. ويروي الأغاني في ذلك خبرا طريفا؛ فيقول: قدم رسول لملك الروم إلى الرشيد فسأل عن أبي العتاهية، وأنشده شيئا من شعره. وكان (أي الرسول) يحسن العربية، فمضى الرسول إلى ملك الروم وذكره له، فكتب ملك الروم إليه، ورد رسوله يسأل الرشيد أن يوجه بأبي العتاهية، ويأخذ فيه رهائن من أراد، وألح في ذلك، فكلم الرشيد أبا العتاهية في ذلك فاستعفى منه وأباه.
39 •••
وهذا يسلمنا إلى مسألة تستوقف النظر، وهو ضعف تأثير الأدب اليوناني إذا قيس بتأثير العلم والفلسفة اليونانية، فإنك تقرأ أسماء الكتب التي ترجمت من اليونانية إلى العربية فتجد الكثير في كل فرع من فروع العلوم الرياضية والطبية والفلسفة، ولا تكاد تعثر على كتاب أدبي يوناني ترجم إلى العربية مع وفرة ما لليونان والرومان من كتب أدبية، وقد ألمحنا بشيء من أسباب ذلك فيما مضى.
40
ونزيد هنا سببا آخر، وهو: أن الفلسفة والعلوم عالمية، والأدب قومي؛ ذلك أن الفلسفة والعلم نتاج العقل، والعقل قدر مشترك بين الأفراد والأمم، وإن اختلفوا في أنصبائهم منه، والمنطق الذي يضبط هذه العلوم يسيغه عقل الناس جميعا، وقواعد الهندسة والطب تطبق على الناس جميعا؛ أما الأدب فلغة العواطف، وليس للعواطف منطق يضبطها، والأدب ظل الحياة الاجتماعية، ولكل أمة حياة اجتماعية خاصة بها تمتاز عن حياة الأمم الأخرى في أشكالها ومراميها . من أجل ذلك تذوق العرب منطق أرسطو، وطب جالينوس، ولم يتذوقوا إلياذة هوميروس. ألا ترانا اليوم حتى في عصرنا الذي اتصل فيه الناس والأمم اتصالا أوثق مما كان في القديم لا يتذوق العربي منا الإلياذة، إلا أن يكون قد وقف على الحياة الاجتماعية اليونانية وأدرك كنهها، ومرن ذوقه طويلا على أن يستسيغها.
وسبب ثالث يصح أن يكون، وهو: أن الأدب اليوناني أدب وثني، فيه آلهة متعددة، وفيه عبادة أبطال، والذوق العربي حين ترجمت العلوم ذوق مسلم، لم يستسغ هذا النوع من الأدب الوثني.
ومع هذا فقد كان لليونان أثر في اللغة العربية والأدب العربي من وجوه: (1)
ألفاظ يونانية عربت، ونلاحظ أنها أكثر ما تكون في أنواع ثياب يونانية أو رومانية لم يكن يعرفها العرب، ثم عرفوها ولبسوها، وأطلقوا عليها كلماتها الأصلية؛ مثل «البرجد»
(وهو كساء غليظ مخطط)، وأبو قلمون (وهو ثوب رومي يتلون للعيون ألوانا)، أو أسماء أشياء عرفها العرب بعد اتصالهم بالرومان، ولم تكن من نتاج جزيرة العرب؛ كالزبرجد والزمرد والياقوت، ومقاييس أو موازين رومانية؛ كالقيراط والأوقية، أو أسماء طبية أو نباتية؛ كالبلغم، والقولنج، والبرقوق، واللوبيا، والترمس، أو كلمات نصرانية كالجاثليق، والبطريق، أو نحو ذلك.
41
ويظهر أن أكثر هذه الكلمات تسربت إلى العرب عن طريق الشام للسبب الذي أبنا قبل. (2)
قصص يونانية نقلت إلى العربية، وقد نقل ابن النديم أسماء كتب للروم في الأسماء والتاريخ ترجمت إلى العربية.
42
وحكى الجاحظ في كتاب الحيوان، قال: «كان في اليونانيين ممرور له نوادر عجيبة، وكان يسمى ريسيموس، والحكماء يروون له أكثر من ثمانين نادرة، ما من نادر ة إلا وهي غرة، وعين من عيون النوادر؛ فمنها أنه كان كلما خرج من بيته مع الفجر إلى شاطئ الفرات (للغائط أو للطهور) ألقى في أصل باب داره وفي دورانه حجرا؛ كي لا ينصفق الباب فيحتاج إلى معالجة فتحه، وإلى رفعه، وكان كلما رجع من حاجته لم يجد الحجر، ووجد الباب منصفقا. فكمن في بعض الأيام ليرى هذا الباب من يصنع به ما يصنع، فبينا هو في انتظاره إذ أقبل رجل حتى تناول الحجر، فلما نحاه من مكانه انصفق الباب، فقال له: مالك ولهذا الحجر، ومالك تأخذه؟ فقال: لم أعلم أنه لك. قال: فقد علمت أنه ليس لك! وقال بعضهم: ما بال ريسيموس يعلم الناس الشعر ولا يقول الشعر! قال: ريسيموس كالمسن الذي يشحذ ولا يقطع. ورآه رجل يأكل في السوق، فقال: أتأكل في السوق؟ فقال: إذا جاع ريسيموس في السوق أكل في السوق.»
43 ... إلخ. (3)
الحكم؛ فقد ترجمت حكم نسبت لفيثاغورس، وسقراط، وأفلاطون وأرسطو، وملئت بها كتب الأدب في ذلك العصر، مثل البيان والتبيين، وعيون الأخبار. وقال ابن النديم: إن علي بن ربن النصراني نقل كتابا في الآداب والأمثال على مذاهب الفرس والروم والعرب.
44 ... إلخ.
والظاهر أن ولوع العرب كان بهذين النوعين «القصص والأمثال» دون غيرهما.
ونقرأ ثبت الكتب التي ترجمها أو ألفها حنين، والتي ذكرها ابن أبي أصيبعة في طبقات الأطباء؛ فنرى أنه تعرض لكثير من فروع العلم المختلفة، ففضلا عن كتبه الكثيرة في الطب كانت له كتب في الفلسفة وغيرها، فله كتاب في الهواء والماء والمساكن، وكتاب في تولد الفروج، بين فيه أن تولد الفروج إنما هو من بياض البيضة، واغتذاؤه من الملح الذي فيها، ومقالة في المد والجزر، وكتاب في أفعال الشمس والقمر، وكتاب السماء والعالم، وكتاب في المنطق، وكتاب في خلق الإنسان، ومقالة في تولد النار بين الحجرين، وكتاب في أحكام الإعراب على مذهب اليونانيين، وكتاب نوادر الفلاسفة والحكماء وآداب المتعلمين، وكتاب في الفلاحة، ومقالة في قوس قزح، وكتاب تاريخ العالم والمبدأ والأنبياء والملوك والأمم والخلفاء والملوك في الإسلام، ومقدمة كتاب فرفوريوس في المنطق، وكتاب في الفراسة، وكتاب في إدراك حقيقة الأديان.
ولو عددنا كل ما ترجمه وألفه، لخرج ذلك بنا عن القصد الذي قصدناه. ومن هذا نرى أنه هو ومدرسته نقلوا إلى العربية زبدة آثار اليونان، وتناولوها بالشرح والاختصار، وجعلوا الثقافة اليونانية في مختلف فروعها بين أعين العلماء من المسلمين والنصارى يقتبسون منها، وينتفعون بها. وكان عملهم هم وأمثالهم عزاء للمتكلمين في مذاهبهم، وفلاسفة المسلمين، الذي نبغوا في العصر الذي بعد عصرنا هذا.
وقد نقل حنين الترجمة نقلة جديدة لإتقانه اللغات المختلفة، فكان العلماء يدركون الفرق الكبير بين ما ترجمه حنين، وما ترجم قبله. قد كانت ترجمة حنين وافية دقيقة، وترجمة من قبله عليلة سقيمة، حتى إن ابن ماسويه لما قرأ قطعة من ترجمته أول أمره قال: «أترى المسيح في دهرنا هذا أوحى إلى أحد!» إعجابا بترجمته، واعترافا بأنها خارجة عن المألوف في الترجمة لعهده. «... إلى السريانية سجيس الرأسعيني، وأيوب الرهاوي، وسواهما من الأطباء المتقدمين.»
45
ومع هذا فنجد له كتبا كثيرة في غير الطب، فله كتب في المنطق، وفي الطبيعة والهيئة، في فلسفة أفلاطون وأرسطو. وقد أثبت البحث العلمي أن بعض الكتب التي نسبت إليه إنما هي من عمل تلاميذه ومدرسته لا من عمله.
وإذا نحن أدركنا أنه أخذ يترجم عن اليونانية - وقد اعترضته مئات الكلمات اليونانية التي لم يعرف لها نظير في اللغة السريانية والعربية من مصطلحات طبية وفلسفية، وأسماء للنبات والحيوان، والهيئة وغيرها، وأنه كان مضطرا أن يوجد لها ألفاظا عربية تقابلها إن أمكن، وأن يصقل الكلمات الأجنبية صقلا عربيا إن لم يمكن؛ علمنا أنه اضطلع بعبء ينوء بالعصبة أولي القوة، وأدركنا قدر عنائه، ومبلغ نجاحه.
وقد عاب الأستاذ «سيمون»
Simon (عند نشرة ترجمة حنين وحبيش لكتاب جالينوس) عليهما: «إن ترجمتها مملوءة بالفقرات الداخلية التي لم تكن في الأصل، وأن طريقتهما في التعبير حرفية، وليست دائما جميلة.» وقد رد عليه الأستاذ برجستراسر، ورأى أن حنينا وتلميذه حبيشا تجشما أكبر عناء في التعبير عن معنى أصول الكتب اليونانية بقدر ما يستطاع من الوضوح، وكانا يترجمان ترجمة حرفية حتى ولو ضحيا في ذلك بجمال اللغة وتنسيقها. لكن ترجمة حنين أفضل، ودقتها أعظم، ويخيل إلى الإنسان أنها ليست نتيجة مجهود صادق فقط، ولكنها نتيجة تمكن وثيق من اللغة، وحسن تصرف في مذاهبها، ويتجلى هذا في سلاسة التوفيق بين اليونانية والعربية، والدقة المتناهية في التعبير مع الإيجاز؛ تلك مميزات فصاحة حنين التي اشتهر بها.»
46
أهم ما امتاز به حنين الترجمة من اليونانية إلى العربية والسريانية، بدأ ذلك وهو في السابعة عشرة من عمره، ولكن كانت ترجمته ضعيفة لم ترضه لما أن نضج، فأعاد بعد بعض ما ترجم وصحح بعضا.
اتصل أول أمره بالمأمون، وعين في بيت الحكمة الذي كان يزخر بالكتب اليونانية التي نقلت من آسيا الصغرى، ومن القسطنطينية، فأخذ حنين يترجم منها إلى السريانية أولا، ثم إلى العربية، ثم ترجم للمعتصم والواثق والمتوكل.
ولم يكتف بما جمع في بيت الحكمة، بل رحل في نواحي العراق، وسافر إلى الشام والإسكندرية وبلاد الروم؛ يجمع الكتب النادرة، ومات سنة 264ه بعد أن عمر نحو سبعين عاما، بذل فيها من الجهد العلمي ما لا يستطيع غيره أن ينهض به في مئات السنين.
كان يترجم بنفسه، وكان يشرف على جماعات تعمل بإرشاده؛ فقد «جعل له المتوكل كتابا نحارير، عالمين بالترجمة. كانوا يترجمون، ويتصفح ما ترجموا، كاصطفن بن بسيل، وموسى بن خالد الترجماني، ويحيى بن هارون.»
47
كان يترجم كثيرا، ويؤلف كثيرا، وكان أحيانا يضع الشرح لما ترجم، ويلخص المطولات، ويصحح تراجم السابقين. وعلى الجملة فقد كان حركة علمية دائمة، قل أن تبارى، بل ظلت حركته التي أنشأها تعمل عمله بعد وفاته على يد ولديه وتلاميذه.
48
أكثر ما ترجمه حنين كتب طبية، وخاصة كتب جالينوس؛ فقد ذكروا «أنه ترجم إلى السريانية من كتب جالينوس خمسة وتسعين كتابا، وترجم إلى العربية منها تسعة وثلاثين، وأصلح ما ترجمه تلاميذه - وهي ستة - إلى السريانية، ونحوا من سبعين إلى العربية، وأصلح معظم الخمسين كتابا التي كان قد ترجمها من أنواع الأدب كالإلياذة، وبقية الروايات، والأشعار، والخطب اليونانية؛ سببه ما قدمنا. فهذان النوعان من النوع العالمي، قد جردا مما يلابسهما من حياة اجتماعية خاصة، وليس فيهما أسماء يونانية ثقيلة على سمع العربي ولسانه ، ليس فيهما أوزان شعرية لا تسيغها العربية، ولا فيهما وصف لحياة اجتماعية بعيدة عما يألفه العربي المسلم.
وبعد؛ فقد كان تأثير اليونان واسعا عميقا في الفلسفة والعلوم الرياضية والطبية، ضيقا خفيفا في الناحية الأدبية.
فإن شئنا أن نختار من يمثل هذه الثقافة اليونانية؛ اخترنا لذلك «حنين بن إسحاق».
حنين بن إسحاق
حنين بن إسحاق، ويلقب بأبي زيد، ولد سنة 194ه من أب عربي من قبيلة عباد التي تسكن الحيرة، وكان أبوه إسحاق نصرانيا نسطوريا، فنشأ ابنه كذلك، وكان إسحاق صيدلانيا، فأعد ابنه لدراسة الطب. بدأ حنين يدرس على يوحنا بن ماسويه. وكان حنين يكثر السؤال على أستاذه، ويلح في الأسئلة فأحرج صدر يوحنا فطرده، وقال: «ما لأهل الحيرة والطب، عليك ببيع الفلوس في الطريق!» وكان في يوحنا عصبية لأهل جنديسابور ومدرستها، يعتقد أن العلم لا يخرج عنهم.
فذهب حنين إلى بلاد الروم، وأجاد تعلم اليونانية، ثم عاد إلى البصرة، ولازم الخليل بن أحمد يأخذ عنه العربية، ويروون أنه حمل كتاب العين المنسوب للخليل إلى بغداد.
وكان يجيد أربع لغات؛ الفارسية، واليونانية، والعربية، والسريانية.
ولنسق الآن مثلا من ترجمته، قال في أول كتاب الأسابيع لأبقراط، وشرحه لجالينوس، الذي ترجمه حنين:
قال جالينوس: إن أبقراط شبه الإنسان بالدنيا، وسماه الدنيا الصغيرة؛ لأن تدبيره على تدبير الدنيا، وهذا الكتاب هو لأصحاب القياس، أعني الصنف من الأطباء الذين يدعون «دغماطيقيين»، وهم ذوو الجدل والمحاورة، وقد ذكر ههنا جزأي الطب؛ الجزء الذي يسمى «فسيولوغيا» (وهو معرفة الطبائع والتوسم لها)، والجزء الذي يدعى «بطلوغيا»، وهو معرفة العمل.
49
وقال في موضع آخر: «قال أبقراط إن الفرقدين يشبهان الحرارة التي في الإنسان.» «قال جالينوس قد وعد هذا الرجل الفائق أن يجزئ العالم على سبعة أجزاء، فأنجز وعده، وأحسن فيما قسم وجزأ، فإنه بدأ بالعالم الأقصى، وانتهى إلى الأرض، ثم قرن بعد ذلك كل جزء من أجزاء العالم بأجزاء الإنسان فألطف النظر، وأتقن القول، وأحسن النظم، فبدأ من الأرض حتى انتهى إلى النار. وفسرنا قوله هذا، والوجه الذي أراده في ذكره الأرض وابتدائه بها؛ فإنه أراد أن يقرن أجزاء الإنسان بأجزاء العالم، والإنسان أرضي، يسلك على ظهر الأرض، فابتدأ بالأرض، وجعلها أول قوله، وكرر القول هنا ليذكركم ما قاله آنفا، فإن المعنى إذا ردد ذكره مرارا كان الفهم له أرسخ في القلب والحفظ.»
50
وقال في موضع ثالث: «واعلموا أن الغضب ينقاد للعقل، وإنا إذا تحركنا للغضب قدر العقل، وقوي على إمساك ذلك الغضب ولزومه، ومنه أن يفعل أفاعليه، فإن الغضب ربما هيج أفاعيل سيئة مكروهة، فيحول العقل بينه وبين أفاعيله، واعلموا أيضا أن الشمس هي المدورة للفرقدين، وليست الفاعلة لذلك، لكنها تصعد وتنحدر فتظهر للفرقدين على نحو صعودها وانحطاطها؛ فقال لذلك هذا المرء الفاضل: إن الشمس تدبر الفرقدين، وليست المحركة لهما بالحقيقة، لكنها تظهرهما على وجه ما ذكرناه آنفا ومعناه.
وقد ذكر ذلك «أراطس» الشاعر، ووصفه فأحسن الصفة وأحكمها، فمن أراد أن يستقصي معرفة ذلك فلينظر في كتابه الذي وضع في الفلك ويتفهمه.»
51
ومن هذا نستطيع أن نحكم أن عبارة «حنين» واضحة المعنى جيدة الأسلوب، وأنه إذا اضطر استعمل المصطلحات العلمية بألفاظها؛ مثل «دغماطيقيين»، و«فسيولوغيا»، و«بطلوغيا»، وأن يتبعها بشرح معناها إلى أن تؤلف الكلمة في العربية، ويتحدد مدلولها، وأنه يضع المتن بين قوسين، ويتبع ذلك مما عنده من شرح. وقد جرى على هذا النمط علماء المسلمين بعد في كتبهم.
وعلى الجملة؛ فقد كان حنين ومدرسته خير من يمثل الثقافة اليونانية، وخير من قدم إلى قراء العربية نتائج القرائح اليونانية.
الفصل العاشر
الثقافة العربية
للثقافة العربية ناحيتان هامتان (1)
ناحية دينية من دراسة للقرآن الكريم وحديث وفقه، ومن انتشار للثقافة الإسلامية بين أهل المملكة، وأثرها في عقولهم وأرواحهم. وهذا كله سنعرض له في مواضع متفرقة من الكتاب. (2)
وناحية لغوية أدبية، وهي ما سنتكلم فيه الآن، ذلك أن جزيرة العرب منبع اللغة العربية، ومولد الإسلام، والعرب هم الذين حملوا لغتهم معهم حيث يسكنون، وحيث يفتحون، ومحمد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
عربي، والقرآن عربي، ودعاة الأمم الأولون إلى الإسلام عرب، فمن الواضح بعد أن ينسب الدين واللغة وما لهما من فضل إلى العرب أن نسمي ما نتج عنهما ثقافة عربية.
اللغة
في الحق إن اللغة العربية أرقى اللغات السامية، كما يقرر دارسو تلك اللغات، فلا تعادلها اللغة الآرامية ولا العبرية، ولا غيرهما من هذا الفرع السامي، وهي كذلك من أرقى لغات العالم؛ فهي تمتاز حتى عن اللغات الآرية بكثرة مرونتها، وسعة اشتقاقها. فإذا قيس ما يشتق من كلمة عربية من صيغ متعددة، لكل صيغة دلالة على معنى خاص بما يقابلها من كلمة أفرنجية، وما يشتق منها، كانت اللغة العربية في ذلك غالبا أوفر وأغنى، فمثلا اشتقوا من الضرب: ضرب، ويضرب، واضرب، وضارب، ومضروب. وسموا آلة الضرب مضربا، ومضرابا، وقالوا: ضاربه اي جالده، وتضرب الشيء، واضطرب: تحرك وماج، وحديث مضطرب، وأمر مضطرب، والضريبة: ماضربته بالسيف، وضاربه في المال من المضاربة (وهي أن تعطي إنسانا من مالك ما يتجر فيه على أن يكون له سهم معلوم من الربح)، واشتقوا منه مضاربا، ومضاربا ... إلخ.. إلخ.
هذا إلى المعاني المجازية التي يستعملون فيها الكلمة، فيقولون: ضرب الدراهم والدنانير: (أي صكها)، واضطرب خاتما من ذهب: (أي أمر أن يصاغ له) وضرب في الأرض: إذا سار فيها مسافرا، وضربت الطير: ذهبت. وضرب في سبيل الله: نهض، وضرب على يده: كفه عن الشيء ومنعه. وأضرب عن العمل: كف. وأضرب البرد النبات، وضربه: إذا اشتد عليه البرد حتى يبس، والضريبة: الصوف أو القطن يضرب بالمطرقة، والضريب من اللبن: الذي يحلب من عدة لقح في إناء واحد، فيضرب بعضه ببعض، ثم أخذوا منه فلان ضرب فلان أي نظيره (والضرباء: الأمثال والنظراء)، والضرائب: الأشكال، وضرب المثل ذكره وقوله.. إلخ.. هذا قليل من كثير مما يدل على غنى اللغة العربية، غنى تاما في الاشتقاق والمجاز، قل أن تجاريها فيهما لغة أخرى. وكذلك ما لها من طرق متعددة في القلب والإبدال والنحت مما يطول شرحه. وقد أبنا في «فجر الإسلام» ما كان للعرب من ملاحظات دقيقة فيما يقع عليه حسهم؛ فالإبل والخيل والأرض لكل شيء منها اسم، فإذا طرأ أي تغيير وضعوا له اسما خاصا، فإذا قصرت اللغة في شيء ففي ما لم يكن يقع تحت حسهم كمستخرجات البحار، وأنواع النباتات والحيوانات التي تنتج في غير إقليمهم.
1
هذه المرونة التامة، وهذا الاشتقاق والمجاز والقلب والإبدال والنحت هو الذي جعل اللغة العربية تستطيع أن تكون لغة القرآن الكريم والحديث، وما فيهما من معان في منتهى السمو والرفعة، وما فيهما من تعبيرات دينية واجتماعية وتشريعية، لا عهد للعرب بها في جاهليتهم، كما استطاعت بعد أن تكون أداة لكل ما نقل من علوم الفرس، والهند واليونان وغيرهم. وفي نحو ثمانين سنة من بدء العهد العباسي كانت خلاصة كل هذه الثقافات مدونة باللغة العربية، والعرب الذين لم يكونوا يعلمون شيئا من مصطلحات الحساب والهندسة والطب، ولا شيئا من منطق أرسطو وفلسفته؛ أصبحوا في قليل من الزمن يعبرون بالعربية عن أدق نظريات إقليدس، وحساب الجيب الهندي، وما وراء المادة لأرسطو، ونظريات الهيئة لبطليموس، وطب جالينوس، وحكم بزرجمهر، وسياسة كسرى. وما كانت تستطيع ذلك كله لولا ما بها من حياة ومرونة ورقي.
واجه العرب في العصر العباسي صعوبة شديدة في نقل هذه الذخيرة العلمية الأجنبية إلى اللغة العربية، بل في وضع مصطلحات لعلومها كالنحو والفقه، ورأوا أنهم أمام علوم جديدة وأفكار جديدة، وأن رقعة المملكة الإسلامية قد اتسعت، واختلفت أقاليمها. ولكل إقليم نباتات، وحيوانات لم تكن تعرفها، ورأوا أنها قدمت على أنماط من النظم الاجتماعية لم تكن تألفها؛ فقد أنشئت دواوين لم تنشأ في العهد الأموي، واخترعت في الأغاني نغمات لا تعرف لها اسما عربيا، وآلات الموسيقى فارسية ورومية، ولكل اسمه. وملابس مختلفة الأنواع، لأمم مختلفة. ومآكل ومشارب كذلك. وعلى الجملة فقد واجه العرب الحضارة العباسية كما يواجه اليوم العرب الحضارة الغربية، وهكذا. فماذا تصنع أمام هذا السيل الجارف؟ أتنطق بكل هذه الأسماء كما ينطق أهلها؟ وفي ذلك إهدار لشخصيتها، أو تضع لها أسماء عربية من عندها؟ وفي تعميم هذا صعوبة شاقة؛ لقد تغلبت على ذلك كله في دقة ومهارة، وفي الحق إن معجم اللغة العربية تضخم في العصر العباسي من طريقين:
الأول:
وهو الأكثر، التوسع في مدلول الكلمات العربية، فالعربي لم يكن يعرف الفاعل، والمفعول بالمعنى الذي يفهمه النحوي ، ولا يعرف القضية ولا الموضوع والمحمول بالمعنى الذي يعرفه المنطقي. ولا يعرف الطويل والخفيف والمديد بالمعنى الذي يفهمه العروضي، وهكذا. وقد ملئت الكتب بحكايات ظريفة كانت تجري بين النحويين والأعراب الوافدين، فلا يستطيع الأعرابي أن يفهم النحوي؛ لأنه يكلمه بمصطلحات لا علم له بها،
2
وكان علماء اللغة يعملون جهدهم في الأخذ عن الأعراب، ويجتهدون في وضع الصيغة التي يفهمها الأعرابي، فإذا قيل له صغ من وفى على وزن مفعل لم يفهم؛ لأنه مصطلح علمي.
بهذا كثرت معاني الكلمات العربية، فلو عمل معجم لغوي في العهد الأموي ما وجدنا للطويل معنى أنه بحر من بحور الشعر، ولا وجدنا فيه فاعلا وظرفا بمعناهما النحوي، وهكذا. وقد سد هذا الباب أكثر الحاجات العلمية؛ فإنك تقرأ النحو والصرف والفقه، فلا تجد فيها لفظا أعجميا، بل تقرأ المنطق كله (وهو يوناني الأصل) فلا تكاد تجد فيه كلمة أجنبية إلا مثل سفسطة، وكذلك الشأن في الفلسفة والرياضة، فاستعملوا كلمة كيفية وكمية وجوهر وعرض، والمثلث والمربع والزاوية ... إلخ، ولم ينقلوا الكلمات الأعجمية إلى اللغة العربية.
والثاني:
نقل الكلمات الأعجمية نفسها إلى العربية، وأكثر ما كان ذلك في أسماء البلدان والنباتات والحيوانات، والآلات والأمراض والمآكل التي لم يكونوا يعرفونها من قبل، وفي هذا تصرفوا تصرفات مختلفة طوعا للسانهم، ولم يجروا في ذلك على سنن واحد، قال الجواليقي: «إن العرب كثيرا ما يجترئون على الأسماء الأعجمية فيغيرونها بالإبدال، قالوا: إسماعيل وأصله إسمائيل فأبدلوا لقرب المخرج، وقد يبدلون مع البعد من المخرج، وقد ينقلونها إلى أبنيتهم ويزيدون وينقصون.»
3
وفي الواقع لو قارنا بين أصل الكلمات الأعجمية وما عربت به وجدنا أنهم لم يتبعوا قواعد ثابتة، فتارة يبدلون الشين سينا وأحيانا يبقونها، وأحيانا يقلبون الثاء تاء، وأحيانا يبقونها، وتارة يغيرون تغييرا خفيفا، وتارة تغيرا كبيرا
4
والذي نلاحظه في ذلك أن النقل كان من مصدرين؛ مصدر العلماء الذين واجهوا كتب اليونان فعربوا بعض أسماء النبات والحيوان، وهؤلاء تعريبهم أقرب إلى الأصل، وأقرب أن يكون على نمط واحد. ونقل لم يكن من عمل العلماء، ولكن كان العرب الأميون وأمثالهم متروكين فيه لسليقتهم؛ فالعربي يسمع اسم بلدة فارسية أو شيء يوناني فينطقه كما يسهل عليه حسبما اتفق له. وقد يسمع عربي آخر اسما آخر في ناحية أخرى، فينطقه نطقا ليس على نمط الأول، بل إن الكلمة الواحدة قد ينطقها قوم من العرب نطقا خاصا، وينطقها آخرون نطقا مخالفا، فيكون في الكلمة لغتان أو أكثر. ومن أجل هذا صعب على الباحث أن يضع قواعد ثابتة لما تبعه العرب في نقل الكلمات مما ليس من موضوعنا. •••
خرجت اللغة العربية من هذا المأزق سليمة قوية واسعة؛ هي لغة الدين، ولغة العلم والفلسفة، ولغة الأدب، واضمحلت بجانبها كل لغات البلاد المفتوحة؛ فاللغة السريانية التي ترجمت إليها الكتب اليونانية أخذت تتدهور بعد أن نقل ما فيها إلى اللغة العربية. والفرس في ذلك العصر أصبحت لغتهم العلمية والأدبية هي اللغة العربية، إن ألفوا أو شعروا أو كتبوا فبالعربية، وحياة اللغة الفارسية إنما كانت عند التكلم العادي، أو في أوساط الديانة المجوسية، وكذلك اللغات الأخرى من رومانية وقبطية في الشام ومصر. وكسبت اللغة العربية من ذلك أنها أصبحت في تآليفها وأدبها وعلومها نتاج كل هذه الأمم، تلبس كل أفكارهم، وتعبر عن قرائحهم، وكسبوا هم منها ما لها من ثقافة إسلامية وأدبية.
ولئن أغنى الأعاجم اللغة العربية التحريرية فقد أفسدوا اللغة اللسانية بما أدخلوا من لحن. كانت جزيرة العرب سليمة المنطق قبل الفتح، وقبل دخول الأعاجم في الإسلام، ثم بدأ اللحن يفشو فيها، وللحن تاريخ من عهد النبي
صلى الله عليه وسلم
والخلفاء الراشدين والأمويين؛ لا نعرض له الآن، وإنما نريد أن نذكر كلمة عن اللحن في عصرنا؛ فقد زاد بغلبة الأعاجم سياسيا، وأصبحنا نرى بدء تكون لغتين: لغة الكتابة، والأعراب الفصحاء، ومن جرى مجراهم، ولغة يسميها الجاحظ لغة المولدين والبلديين، يقول: ومتى سمعت بنادرة من كلام الأعراب، فإياك وأن تحكيها إلا مع إعرابها، ومخارج ألفاظها، فإنك إن غيرتها بأن تلحن في إعرابها، وأخرجتها مخرج كلام المولدين والبلديين خرجت من تلك الحكاية ، وعليك فصل كبير. وكذلك إذا سمعت بنادرة من نوادر العوام، وملحة من ملح الحشوة والطغام، فإياك وأن تستعمل فيها الإعراب، أو أن تتخير لها لفظا حسنا، أو أن تجعل لها من فيك مخرجا سريا.» ويقول: «ولأهل المدينة ألسنة ذلقة وألفاظ حسنة، وعبارة جيدة، واللحن في عوامهم فاش، وعلى من لم ينظر في النحو منهم غالب.»
5
ويقول: واللحن من الجواري الظراف، ومن الكواعب النواهد، ومن الشواب الملاح، ومن ذوات الخدور الغرائر أيسر، وربما استملح الرجل ذلك منهن، ما لم تكن الجارية صاحبة تكلف.»
6
وقال في موضع آخر: «وزعم أبو العاصي أنه لم ير قرويا قط لا يلحن في حديثه، وفيما يجري بينه وبين الناس؛ إلا ما تفقده من أبي زيد النحوي، ومن أبي سعيد المعلم.»
وذكر ابن قتيبة أن أعرابيا دخل السوق، فسمعهم يلحنون، فقال: «سبحان الله! يلحنون ويربحون، ونحن لا نلحن ولا نربح!»
7
كان هذا اللحن أنواعا؛ فلحن في الإعراب فلا يصححون آخر الكلمات كما تقتضيه قواعد النحو، كالذي رووا أن رجلا قال لآخر: أحضرنيه. قال: قد دعوته لكل ذلك يأبى (برفع كل).
8
ولحن في بناء الكلمة؛ كالذي قيل: إن نبطيا سئل: لم اشتريت هذه الأتان؟ قال: أركبها، وتلد لي (بفتح اللام).
9
ولحن في تركيب الجمل كالذي حكى الجاحظ: قلت لخدام لي: في أي صناعة أسلم هذا الغلام؟ قال: أصحاب سند، نعال، يريد في أصحاب النعال السندية.
10
وأحيانا يلجأ الرجل منهم إلى إسكان آخر الكلمات، وترك الإعراب خوفا من اللحن، كان مهدي بن مهلهل يقول: حدثنا هشام بن حسان، ويجزم ذلك كله؛ لأنه حين لم يكن نحويا رأى أن السلامة في الوقف.
11
وكان هذا اللحن فاشيا حتى في العلماء؛ فقد لحن أبو حنيفة، ولحن عمرو بن عبيد، وبشر المريسي.
12
وهذا لا يطعن في علمهم، فهناك فرق بين معرفة اللغة علما والنطق بها كلاما؛ فقد يجيد الرجل معرفة قواعد لغة وضبطها وفهمها، ثم هو لا يحسن التكلم بها، كالذي حكي عن بعض أئمة النحو.
13
نستنتج من هذا كله أن فساد اللغة من الناحية اللسانية كثر في ذلك العصر، وأنه قد بدأ يكون للناس لغتان؛ لغة عامية هي التي يسميها الجاحظ لغة المولدين والبلديين، وهذه لها ألفاظ غير منتقاة، وتتسامح في الإعراب، وتميل إلى إسكان أواخر الكلمات.
14
ولغة الطبقة الراقية والمتعلمة، وهذه لغة معربة متخيرة، وإن كان اللحن يصدر منهم، وهذه اللغة الأخيرة هي لغة الكتابة. •••
ومن ثم لم يكن علماء اللغة والنحو يأخذون إلا عن سكان البادية؛ لأنهم رأوا الحضر قد فسد بالاختلاط، بل كانوا لا يأخذون عن البدوي إلا إذا لم يفسده الحضر، فكانوا لا يأخذون عن الأعرابي إذا فهم القول الملحون، «ومتى وجد النحويون أعرابيا يفهم هذا اللحن وأشباهه بهرجوه (زيفوه)، ولم يسمعوا منه؛ لأن تلك اللغة إنما انقادت واستوت واطردت، وتكاملت بالخصال التي اجتمعت لها في تلك الجزيرة، وفي تلك الجيرة.» ويقول الجاحظ: «ولقد كان بين زيد بن كثوة يوم قدم علينا البصرة، وبينه يوم مات بون بعيد، على أنه كان قد وضع منزله في آخر موضع الفصاحة، وأول موضع العجمة، وكان لا ينفك من رواة ومذاكرين».
15
وكان البصريون يفتخرون على الكوفيين فيقولون: نحن نأخذ اللغة عن حرشة
16
الضباب، وأكلة اليرابيع، وأنتم تأخذونها عن أكلة الشواريز، وباعة الكواميخ.»
17
وكان العلماء يمتحنون الأعرابي قبل أن يأخذوا عنه، من ذلك: أن أبا عمرو بن العلاء ارتاب في فصاحة أبي خيرة الأعرابي، فسأله: كيف تقول حفرت الإران؟ قال: حفرت إرانا. قال. أبو عمرو: «لان جلدك يا أبا خيرة!»
18
كان كثير من الأعراب يفدون على مدن العراق، فيأخذ العلماء عنهم اللغة، وقد عد ابن النديم في الفهرست عددا، منهم؛ أبو زياد الكلابي، وأبو سوار الغنوي، وقد أخذ عنه أبو عبيدة، وثور بن يزيد، وقد أخذ عنه ابن المقفع، وأبو خيرة العدوي، وأبو مهدية، وأبو مسحل، وأبو ضمضم الكلابي.
19
وقد اتصل بهم علماء اللغة يأخذون عنهم. ومن هؤلاء الأعراب من كان يكتب ويؤلف كتبا؛ كأبي زياد الكلابي، ألف كتاب النوادر، وكتاب الفرق، وكتاب الإبل، وكتاب خلق الإنسان، ومنهم من كان يعلم اللغة ويتعلم النحو على علمائه، كأبي مسحل؛ فقد أخذ النحو عن الكسائي، ومنهم من كان يميل إلى الغريب النادر، ويتقعر في كلامه، ويغلظ طبعه ليبرهن على إمعانه في البداوة، كأبي محلم الشيباني، وكانوا يتكسبون بذلك، فمنهم من كان يعلم الصبيان بأجرة كأبي البيداء الرباحي، ومنهم من كان يفد على الأمراء كأبي ضمضم الذي وفد على الحسن بن سهل، وكثير من الأعراب كانوا يفدون على إسحاق الموصلي.
20
وكما كا نت الأعراب ترحل إلى الحضر للكسب أو طلب العلم كان العلماء والأدباء يرحلون إلى البادية في طلب اللغة والأدب، فيحدثنا الأغاني أن بشارا «قيل له ليس لأحد من شعراء العرب شعر إلا وقد قال فيه شيئا استنكرته العرب من ألفاظهم، وشك فيه، وإنه ليس في شعرك ما يشك فيه. قال: ومن أين يأتيني الخطأ؛ ولدت ها هنا ونشأت في حجور ثمانين شيخا من فصحاء بني عقيل، ما فيهم أحد يعرف كلمة من الخطأ، وإن دخلت إلى نسائهم، فنساؤهم أفصح منهم، وأيفعت فأبديت إلى أن أدركت، فمن أين يأتيني الخطأ!»
21
ويقول: نزل في ظاهر البصرة قوم من أعراب قيس عيلان، وكان فيهم بيان وفصاحة، فكان بشار يأتيهم (وكان يأتيهم أبان اللاحقي).
22
وكان علماء اللغة من بصريين وكوفيين يتسابقون في الرحلة إلى البادية، والأخذ عن العرب، وقد اشتهر في عصرنا بهذه الرحلة أبو زيد الأنصاري، وأبو عمرو بن العلاء، والأصمعي والكسائي، فأبو زيد يقول في أول كتابه النوادر: «ما كان فيه من شعر القصيد فهو سماعي من المفضل بن محمد الضبي، وما كان من اللغات، وأبواب الرجز فذلك سماعي من العرب.» وسأل الكسائي الخليل بن أحمد: من أين علمك هذا؟ فقال: من بوادي الحجاز، ونجد وتهامة، فخرج الكسائي، وأنفذ خمس عشرة قنينة حبرا في الكتابة عن العرب سوى ما حفظه.
23
وأما أبو عمرو بن العلاء؛ فقد رووا أن كتبه عن العرب الفصحاء قد ملأت بيتا له إلى قريب من السقف.»
24
وتاريخ الأصمعي مملوء بالقصص عن الأعراب في البادية، وما سمع منهم من لغة وشعر وقصص.
ولم يكن عمل علماء اللغة في ذلك العصر إلا نقل ما يسمعون من العرب مشافهة إلى التقييد بالكتابة، فأكثر اللغة كتبت في العصر العباسي الأول لا قبله، وكانت أهم وسائل النقل هي ما ذكرنا من رحلة العرب إلى العراق، ورحلة علماء العراق إلى البادية، وتحرير اللغويين لما سمعوا من العرب مباشرة أو بواسطة.
وبعد، فهل كان كل الذي دونوه صحيحا؟ وهل كان الآخذون (وهم علماء اللغة)، والمأخوذ عنهم (وهم العرب) كلهم ثقة؟ الحق أن لا! وأن بعض العرب كانوا يخطئون أحيانا، ويكذبون أحيانا، وأن بعض علماء اللغة كانوا يخطئون أحيانا ويكذبون أحيانا، كان العلماء شغوفين بأن يقفوا على جديد لم يعرفوه، وكانت المنافسة بينهم شديدة، وحب الفخر والتظاهر شديدا، خصوصا في مجالس الخلفاء والأمراء. وكان يقضى على العالم في جهله بكلمة أو خطئه في كلمة، فدعا ذلك بعضهم لأن يتزيدوا ويختلقوا إذا أحرجوا، وأحس بعض الأعراب بهذه النفسية فكانوا يعربون أحيانا، ويختلقون أحيانا. وسبب آخر، وهو أن العداء بين البصريين والكوفيين بلغ مبلغا عظيما، فكان علماء كلتا المدينتين يتشيعون لمذهبهم، ويبرهنون عليه بالمصنوع أحيانا، وكتب النحو واللغة مملوءة بالأدلة على ما نقول.
أما خطأ العربي؛ فقد يكون من عدم فهمه لمعنى الكلمة، كقول عربي يصف امرأة بالغفلة:
لم تدر ما نسج اليرندج قبلها
ودراس أعوص دارس متخدد
ظن أن اليرندج ينسج،
وإنما هو جلد يصبغ
25
وقال عمرو بن كلثوم:
علينا البيض واليلب اليماني
وأسياف يقمن وينحنينا
قال ابن السكيت. سمعه بعض الأعراب، فظن أن اليلب أجود الحديد، فقال: «ومحور أخلص من ماء اليلب»، وهو خطأ؛ وإنما هو جلود تنسج.
26
وأحيانا يكون خطأ العربي ناشئا من عدم فهم طبائع الأشياء، كقول عربي يصف درة:
فجاء بها ما شئت من لطمية
يدوم الفرات فوقها ويموج
فجعل الدر من الماء العذب ، وإنما يكون في الماء الملح. وقد يكون خطأ في الحوادث التاريخية، فقد قال الكميت:
كأن الغطامط من غليها
أراجيز أسلم تهجو غفارا
27
فقال نصيب: ما هجت أسلم غفارا قط! وقد يكون من سوء تصريف العربي، فقد قال عربي، وكانت قد ماتت زوجاته تباعا:
غدا مالك يرمي نسائي كأنما
نسائي لسهمي مالك غرضان
فيا رب فاترك لي جهيمة أعصرا
فمالك موت بالقضاء دهاني!
ذلك أن هذا الأعرابي لما سمعهم يقولون «ملك الموت»، سبق إليه أن هذه اللفظة على زنة فعل (كفلك) فاشتق منها كلمة على وزن «فاعل»، مع أن ملك على وزن مفل؛ لأن أصله ملأك فالاشتقاق خطأ. وكهمزهم مصائب، قياسا على صحائف، وهو غلط لأن ياء مصيبة أصلية، وياء صحيفة زائدة ... إلخ.
وأما أكاذيبهم فقد عقد المبرد بابا في كتابه الكامل، سماه «أكاذيب العرب»؛ هذا شأن العرب.
وأما خطأ العلماء فنروي منه ما روى ابن الأعرابي، قال: لقيني أبو محلم، ومعه أعرابي، فقال: جئتكم بهذا الأعرابي لتعرفوا منه كذب الأصمعي، أليس كان يقول في بيت عنترة:
شربت بماء الدحرضين فأصبحت
زوراء تضنفر عن حياض الديلم
إن الديلم الأعداء لأنهم أعاجم، والعرب كانوا يعدون جميع الأعاجم أعداءهم، فسلوا هذا الأعرابي، ما معنى الديلم؟ فسألناه فقال: الديلم حياض بالغور أوردتها إبلي غير مرة!
والظاهر أن معاجم اللغة بعد ذلك جمعت كل ما روي وتأولت الخطأ، وصححت الغلط، وأخذت آراء العلماء على اختلافهم من غير تدقيق، فقد تأولوا كلمة «مالك» الواردة في البيت السابق، وقالوا في اليلب إنه الحديد أو الجلد، وصححوا الشطر الذي رويناه «يدوم الفرات فوقها ويموج» بقولهم تدوم البحار فوقها وتموج، وفسروا الديلم بأنها الأعداء أو حياض بالغور، وأسبغوا على العرب نوعا من العصمة ليس بصحيح، حتى زعموا أن العربي لا يطاوعه لسانه في الخطأ ولو تعمد، ورووا لذلك الحكاية المشهورة التي كانت بين سيبويه والكسائي، والحق إن العربي الصميم مثله كمثل الإنجليزي الصميم، والفرنسي الصميم. ولو أراد الفرنسي مثلا أن يحور لسانه لينطق بالخطأ عمدا لاستطاع ذلك في يسر ، وهو كذلك يخطئ في استعمال بعض الكلمات والتراكيب، ونحو ذلك، فالعربي مثال ذلك. ولكن مهما قلنا في الخطأ أحيانا، وفي الكذب أحيانا فهو صفة عارضة ونادرة، وكان الأغلب فيما نقل من اللغة الصدق والصواب.
وقد جد العلماء الأولون في تمحيص ما جمع من ألفاظ اللغة؛ فقد رأوا أن هناك كلمات كثيرة أخذت عن قبائل مختلفة، لكل قبيلة لفظ أو لهجة، وبعضها أفصح من بعض، ورأوا ألفاظا لم يستوثق من صحتها، والذي جاء بها لا يوثق به، ورأوا كلمات اختلف في تحديد معانيها؛ لأنها رويت في جمل، واللفظ فيها يحتمل أكثر من معنى واحد. ورأوا ألفاظا صحفت، وألفاظا كان ينطق بها عربي ألثغ؛ فيظنها الآخذ عنه لغة، وهكذا. فاضطروا أن يحرروا ذلك كله ويمحصوه، فبذلوا من الجهد ما يستدعي الإعجاب، وبينوا من اللغة ما هو صحيح وفصيح، وضعيف منكر، ورديء مذموم فقالوا مثلا: ثبطت شفة الإنسان ورمت، وليس بثبت. أرض حثواء كثيرة التراب، وليس بثبت، وهكذا. وألف ابن خالويه كتابا سماه «ليس في كلام العرب»، بين فيه ألفاظا تستعمل ولم يصح سماعها عن العرب، وقالوا: قال الأصمعي ما سمعنا العام قابة؛ أي صوت رعد، ولم يروه أحد غير الأصمعي، وإنما روى العلماء ما أصابتنا العام قابة؛ أي قطرة، وقالوا الغرز لغة أهل البحرين، والغرز اللغة العليا، وهكذا. وقد تكون الكلمة واحدة، ويختلف العرب في النطق بها، فقبيلة تقول الطبء في الطبع، وأما والله، وهما والله، وحما والله، والأباب والعباب، وأن له وعن له، والإعاء والوعاء، وهضم عليهم وهجم عليهم، إلى مئات من مثل ذلك. وليس لاختلافها من سبب إلا اختلاف القبائل العربية في النطق، وأحيانا يكون الخطأ من العلماء في الكتابة، وهو ما يسمى بالتصحيف، فقالوا: وبها سؤدة من شباب؛ أي بقية من شباب، ثم قالوا وبها سؤرة من شباب أي بقية، وليست الأولى إلا تصحيفا للثانية. وأحيانا يكون العربي ألثغ، فيقول في الشابة الثابة، وفي الديك الديش. وقد تعرض العلماء لشيء من ذلك ولم يستوفوه، ولكن المتأخرين، وبخاصة صاحب القاموس المحيط، كدسوا ذلك كله من غير تمحيص، وفخروا بأنهم زادوا مواد كثيرة عمن قبلهم، وكان الأولى أن تستبعد اللثغات، ويحقق التصحيف، ونترك اللهجات. وإذن لا تتضخم هذه المعاجم، وتملأ فراغا كبيرا نحن أحوج إليه في ألوف الأشياء التي ليس لها اسم واحد. •••
وكان المدونون الأولون للغة في هذا العصر يدونون المفردات حيثما اتفق، وكما يتيسر لهم سماعها، فقد يسمعون كلمة في الفرس، وأخرى في الغيث، وثالثة في الرجل القصير، وهكذا، فكانوا يقيدون ما سمعوا من غير ترتيب. وكانت الخطوة الثانية أن جمعوا الكلمات الخاصة بموضوع واحد، وأظهر ما كان ذلك في كتب الأصمعي، فله كتاب الأنواء، وكتاب الميسر والقداح، وكتاب خلق الفرس، وكتاب الإبل، وكتاب الشاء، وهكذا يجمع ما ورد من الألفاظ اللغوية في موضع واحد، ويسميه كتابا، وقد يكون الكتاب بضع ورقات، ثم كانت الخطوة الثالثة عمل المعاجم.
هذا موجز في القول من الناحية اللغوية للثقافة العربية، وهناك ناحية أخرى هي الناحية الأدبية؛ فقد كان للعرب أدب غزير ممتع، وكان بجانب رواية اللغة رواية الأدب، بل كثيرا ما تكون رواية اللغة في ثنايا رواية الأدب، وكان عرب البادية في ذلك العصر مصدرا للغة والأدب معا.
كان الناس إذ ذاك يتلذذون من سماع حديث الأعراب، لخفة روحهم وعذوبة نطقهم وبساطتهم، قال الجاحظ: «ليس في الأرض كلام هو أمتع ولا أنفع، ولا آنق ولا ألذ في الأسماع، ولا أشد اتصالا بالعقول السليمة، ولا أفتق للسان، ولا أجود تقويما للبيان؛ من طول استماع حديث الأعراب الفصحاء العقلاء، والعلماء البلغاء.»
28
وقال ابن عبد ربه في كلام الأعراب: «هو أشرف الكلام حسبا، وأكثره رونقا. وأحسنه ديباجا، وأقله كلفة، وأوضحه طريقة؛ إذ كان مدار الكلام كله عليه، ومنتسبه إليه.»
29
وقد عقد فصلا طويلا، نقل فيه شيئا من كلام الأعراب في الزهد والمدح والذم والغزل والخيل والغيث، والنوادر والملح، والطعام ... إلخ.
30
وعقد الحصري فصلا ممتعا عنوانه: «فقر من كلام الأعراب في ضروب مختلفة».
31
وفي الحق إنك تقرأ هذه الفصول فتؤمن بأن أدبهم جيد اللفظ، قريب المعنى ، قليل الكلفة.
يقول أعرابي في امرأة يحبها: «لقد نعمت عين نظرت إليها، وشقي قلب تفجع عليها، ولقد كنت أزورها عند أهلها فيرحب بي طرفها، ويتجه مني لسانها.»
وكره أعرابي البصرة وأهلها؛ فقال: «دخلت البصرة، فرأيت ثياب أحرار على أجساد عبيد، إقبال حظهم إدبار حظ الكرام، شجر أصله عند فروعه، شغلهم عن المعروف رغبتهم في المنكر.» ووصف أعرابي أميرا، فقال: «إذا ولى لم يطابق بين جفونه، وأرسل العيون على عيونه، فهو غائب عنهم، ساهد معهم، فالمحسن راج والمسيء خائف.»
وقدم أعرابي البادية وقد نال خيرا من البرامكة، فقيل: كيف رأيتهم؟ قال: «رأيتهم وقد أنست بهم نعمة كأنها من ثيابهم.» إلى كثير من أمثال ذلك.
ولهم النادرة الحلوة، والفكاهة العذبة يتفكه بها الخلفاء في مجالسهم، والخاصة في أحاديثهم، والأدباء في سمرهم، وروى الأصمعي مثلا في ذلك الشيء الكثير، يفرج به هم الولاة، ويضحك به السمار.
سافر أعرابي إلى رجل فحرمه، فقال لما سئل: «ما ربحنا في سفرنا إلا ما قصرنا من صلاتنا، فأما الذي لقيناه من الهواجر، ولقيت منا الأباعر، فعقوبة لنا فيما أفسدنا من حسن ظننا!» وقيل لأعرابي: ما عندكم في البادية طبيب؟ قال: حمر الوحش لا تحتاج إلى بيطار! وسأل أعرابي رجلا فاعتل عليه فقال: إن كنت كاذبا فجعلك الله صادقا. وقال الأصمعي: أصابت الأعراب مجاعة، فمررت برجل منهم قاعد مع زوجته بقارعة الطريق، وهو يقول:
يا رب إني قاعد كما ترى
وزوجتي قاعدة كما ترى
والبطن مني جائع كما ترى
فما ترى يا ربنا فيما ترى؟ .. إلخ.
ثم لهم الحكمة الرائعة يجرون فيه على سنن حكم أكثم بن صيفي، والأحنف بن قيس؛ هي أشبه ما يكون بالأمثال، قال أعرابي: «الدنيا تنطق بغير لسان، فتخبر عما يكون بما قد كان.» «لم أر صاحبا أغر من الدنيا، ولا ظالما أغشم من الموت، ومن عصف عليه الليل والنهار أردياه، ومن وكل به الموت أفناه!» وقال أعرابي: «الدراهم مياسم، تسم حمدا وذما؛ فمن حبسها كان لها، ومن أنفقها كانت له، وما كل من أعطى مالا أعطي حمدا، ولا كل عديم ذميم!» وقال أعرابي: «إذا كان الرأي عند من لا يقبل منه، والسلاح عند من لا يستعمله، والمال عند من لا يتفقه؛ ضاعت الأمور!» وقيل لأعرابي: لم لا تطيل الهجاء؟ قال: «يكفيك من القلادة ما أحاط بالعنق» ... إلخ.
ولهم الشعر الرقيق العذب، كالأعرابي يقول في رثاء ولده:
دفنت بنفسي بعض نفسي فأصبحت
وللنفس منها دافن ودفين
وكالأعرابي يقول في سوداء:
كأنها والكحل في مرودها
تكحل عينيها ببعض جلدها
وأنشد الرياشي لأعرابي:
ما كنت للقلب إلا فتنةعرضت
يا حبذا أنت من معروضة الفتن
تسيء سلمى وأجزيها به حسنا
فمن سواي يجازي السوء بالحسن
وقال أعرابي قتل أخوه ابنا له، فقدم إليه أخوه ليقتاد منه فرمى السيف من يده، وقال:
أقول للنفس تأساء وتعزية
إحدى يدي أصابتني ولم ترد
كلاهما خلف من فقد صاحبه
هذا أخي حين أدعوه وذا ولدي
ولهم القصص عن حروبهم وأيامهم؛ فكانوا يروون أيام العرب في جاهليتها وإسلامها، وما كان فيها من أحداث، فيتحدثون بيوم الفجار، ويوم ذي قار، وحروب قيس في الجاهلية، وحرب داحس والغبراء، ومقتل كليب بن وائل. كما يتحدثون بسيرة النبي
صلى الله عليه وسلم
وغزواته، والصحابة وما كان بينهم، ويروون شعر الشعراء من جاهليين وإسلاميين، وخطب الخطباء، وأمثال الحكماء، ونوادر الظرفاء.
كل هذا كان في البادية؛ فهم رواة الأدب القديم، ولهم إنشاء في الأدب الحديث، لذلك قصدهم العلماء يأخذون عنهم كل ذلك.
وفي الحق كانت سكناهم في البادية، وقلة امتزاجهم بغيرهم من الأمم أدعى لأن يسلكوا سبيل الأولين، ويتذوقوا ذوقهم، ويعجبوا بمآثرهم، ويسيروا في الأدب على منهاجهم، فإن تأثر شعراء العراق وأدباؤهم بالفرس ومن إليهم فإن هؤلاء تأثروا بآبائهم في الجاهلية وآبائهم في الإسلام، وكان أدبهم صورة حية للأدب القديم، وصدورهم واعية لآثار الأقدمين، ونوع معيشتهم أشبه بمعيشة الأولين. قال عمر بن عبد العزيز: «ما قوم أشبه بالسلف من الأعراب، لولا جفاء فيهم!».
32
فمما لا شك فيه، أنه كان في هذا العصر أدبان؛ أدب عربي صرف ليس فيه كبير أثر من حضارة، ولا من ثقافات الأمم المختلفة. وهذا أدب - كما قلنا - خفيف الروح، رشيق اللفظ، لا ترى فيه خمرا كثيرا، ولا ترى فيه تشبيبا بغلمان، ولا ترى فيه غزلا بقيان، ولا ترى فيه فجرا فاجرا، ولا فحشا داعرا، كما لا ترى فيه عمقا في تفكير، ولا إمعانا وفلسفة في تعبير. يعجبني في ذلك قول النمري؛ فقد قال: مما يدل على أن قصيدة
إن بالشعب الذي دون سلع
لقتيلا دمه ما يطل
ليست لتأبط شرا وإنما هي لخلف الأحمر؛ قوله فيها:
خبر ما نابنا مصمئل
جل حتى دق فيه الأجل
فإن الأعرابي لا يكاد يتغلغل إلى مثل هذا.
وأدب آخر حضري، كالذي تراه في كتابة عمرو بن مسعدة، وابن المقفع، وقد تأثر بالفرس أثرا كبيرا. وفي ذوقي إنه ليس في خفة روح الأول ولا رقته وعذوبته، يحتاج الذهن فيه إلى أن ينحرف بعض الانحراف ليفهمه، وكالذي تراه في شعر بشار، وأبي نواس؛ فيه العمق وفيه الفجر. والقصيدة التي كان يغني بها العربي ليعبر عن عاطفة قوية بسيطة أصبحت في الحضر مملة، يتصنع صاحبها العاطفة ويغلو فيها، والأدب الذي كان يشرح حياة البادية وما فيها من بطولة وشجاعة وقوة؛ أخذ يعبر عن حياة المدن وما فيها من نعومة ولين، وانتقل النثر من جمل صغيرة مفصولة مقطعة، أو خطبة قوية تقال شفاها، إلى كتابة يتنوع موضوعها بتنوع مرافق الحضارة، ويفصل فيها الكلام ويربط. وقد كان العربي الذي يعبر بلسانه خريج الطبيعة والبيئة، فأصبح الذي يكتب بقلمه وليد التربية العلمية، وخريج الكتب والدفاتر والمحابر. وعلى الجملة فكلا النوعين من الأدب ظل لحياته الاجتماعية، هذا في حضره وذاك في باديته. وإذ كانت البادية لم تتغير، وكانت في العهد العباسي مثلها في العهد الأموي كان أدبهم كذلك يجري في واد واحد، وإذا كان الحضر متغيرا (فالعراق العباسي غير العراق الأموي)؛ كان الأدب الحضري مختلفا عما قبله، فكتابة في أنواع جديدة، وغزل جديد، والكتب المؤلفة في الأدب تصف حياة اجتماعية جديدة، وهكذا. •••
وكما كان هناك خطأ ووضع في اللغة كان كذلك في الأدب، بل الباعث في الثاني أقوى منه في الأول، فالولاة الأمراء يعجبهم الشعر اللطيف، والقصص الغريب أكثر مما يعجبهم اللفظ، والتزيد من القصائد لفخر قبيلة أو ذمها، والنوادر في القصص تسترعي الأسماع، والحكايات لإعلاء شأن فرد أو قبيلة، والتوسع في المثالب والمناقب؛ كل هذا يجد مجالا في الأدب أكثر مما يجد في اللغة. وقد كان هؤلاء الوضاع من العرب أحيانا ومن العلماء أحيانا: «تكاذب أعرابيان؛ فقال أحدهما: خرجت مرة على فرس لي، فإذا أنا بظلمة شديدة، فيممتها حتى وصلت إليها، فإذا قطعة من الليل لم تنتبه، فما زلت أحمل عليها بفرسي حتى نبهتها فانجابت! فقال الآخر: لقد رميت ظبيا مرة بسهم، فعدل الظبي يمنة فعدل السهم خلفه، فتياسر الظبي فتياسر السهم، ثم علا الظبي فعلا السهم، ثم انحدر فانحدر حتى أخذه!» قال التوزي: سألت أبا عبيدة عن مثل هذه الأخبار من أخبار العرب، فقال: إن العجم تكذب أيضا، فتقول: كان رجل نصفه من نحاس، ونصفه من رصاص! فتعارضها العرب بهذا وما أشبهه.
33
وقد عقد الثعالبي في كتابه فقه اللغة فصلا في خرافات العرب، فوضعوا اسم الخس لمن يتولد بين الإنس والجنية، والغملوق بين الآدمي والسعلاة، والعلبان بين الآدمي والملك. ومن ذلك ما زعموا أن جرهما كانوا من نتاج حدث بين الملائكة والإنس، وأن بلقيس ملكة سبأ كانت من مثل ذلك النجل، وأن يأجوج ومأجوج هم نتاج ما بين النبات وبعض الحيوان ... إلخ.
34
واشتهر بالوضع من العلماء؛ حماد الراوية، وخلف الأحمر، وهشام بن الكلبي النسابة، وغيرهم، فهؤلاء ملئوا كتب الأدب العربي قصصا، وقصائد وأخبارا وأنسابا لم يتحروا فيها الحق والصدق، فحماد روى كثيرا من أخبار الجاهلية وشعر الإسلاميين، وحروب القبائل، وروى المعلقات السبع، وكان له من المقدرة ما يستطيع بها أن يقلد الشعراء الأولين، ويعمي بها على الناس. روى الأغاني: «أنه اجتمع في دار المهدي بعيساباذ، وقد اجتمع فيها عدة من الرواة والعلماء بأيام العرب وآدابها وأشعارها ولغاتها، إذ خرج بعض أصحاب الحاجب، فدعا بالمفضل الضبي الراوية، فدخل فمكث مليا، ثم خرج إلينا ومعه حماد والمفضل جميعا، وقد بان في وجه حماد الانكسار والغم، وفي وجه المفضل السرور والنشاط، ثم خرج حسين الخادم معهما، فقال: يا معشر من حضر من أهل العلم؛ إن أمير المؤمنين يعلمكم أنه قد وصل حمادا الشاعر بعشرين ألف درهم لجودة شعره، وأبطل روايته لزيادته في أشعار الناس ما ليس منها، ووصل المفضل بخمسين ألفا لصدقه وصحة روايته؛ فمن أراد أن يسمع شعرا جيدا محدثا فليسمع من حماد، ومن أراد رواية صحيحة فليأخذها عن المفضل.»
35
وخلف الأحمر يقول: «أتيت الكوفة لأكتب عنهم الشعر فبخلوا علي به فكنت أعطيهم المنحول، وآخذ الصحيح، ثم مرضت فقلت لهم: ويلكم! أنا تائب إلى الله، هذا الشعر لي، فلم يقبلوا مني، فبقي منسوبا إلى العرب لهذا السبب.»
36
وابن الكلبي كان عالما بالنسب، وأخبار العرب وأيامه ووقائعها، مكثرا في التصانيف، تزيد تآليفه على مائة وخمسين مصنفا، عدها ابن النديم في الفهرست. وقد قال فيه أحمد بن حنبل: كان صاحب سير ونسب، ما ظننت أن أحدا يحدث عنه.» وقال الدارقطني: «هشام متروك وقال غيره ليس بثقة.»
37
هؤلاء الوضاعون أفسدوا العلم والرواية، وأجهدوا الثقات من العلماء بنقد ما رووا؛ يتبينون صحيحه من فاسده، فوفقوا أحيانا، ولم يوفقوا أحيانا، لأن قولهم فشا في الناس، وتفرق في البلاد، وتساهل الناس في الأدب والأخبار ما لم يتساهلوا في الحديث. •••
كان نتاج الأمة العربية اللغوي والأدبي في هذه القرون الثلاثة (أعني قرنا ونصفا قبل البعثة وقرنا ونصفا بعدها) نتاجا عظيما، ولكن نتاجها لا في فلسفة ولا في علوم رياضية ونحوها، بل نتاج أدبي، وليس محررا في كتب كالتي دونها الفرس واليونان، وإنما هو شفوي إلا في القليل النادر، يتناقله جيل عن جيل، والذاكرة لا تعي كما يعي الكتاب، فدخل على هذه الثروة نقص وتزيد وتغيير وتبديل. ولكنها على العموم ثروة كبيرة وقيمة إذا قورنت بثروة أمة أخرى في مثل هذا الزمن، وفي موقف كموقف الأمة العربية.
وهذه الثروة متعددة النواحي؛ فشعر تدهشك كثرته حتى ليخيل إليك أن كل عربي شاعر، وأن لسانه ينطق بالشعر كما ينطق بالكلام، ثم هو متنوع الأغراض، متنوع الوزن، متنوع المعاني، فكان لنا من امرئ القيس، إلى بشار بن برد دواوين ضخمة لا تجمع كل ما قالوا، ولكن تجمع أقله، أودعوا فيه فخرهم وهجاءهم، وتغنوا فيه بعواطفهم وشعورهم، ووصفوا فيه لوعتهم وحنينهم إلى وطن، ووفاءهم لميت، ووصفوا طبيعة أرضهم، ونباتهم وحيوانهم.
وثروة من الخطب لا تقل شأنا عن الشعر، يستعينون بها في تهييج القبائل في الجاهلية، وفي تنظيم الأحزاب السياسية في الإسلام، ويصلون بها في الجاهلية والإسلام إلى تحقيق أغراضهم، وبث أفكارهم في السلم والحرب، وجمع الكلمة وتفريقها، ولهم الأمثال والحكم، وقد برعوا فيها وأكثروا منها، وقامت لهم مقام الفلسفة لليونان، أمدهم بها كثرة تجاربهم ودقة ملاحظتهم وحسن صياغتهم.
ولهم الأخبار الكثيرة عن أبطالهم في الكرم، وأبطالهم في الحرب، وأبطالهم في الوفاء، وأبطالهم في القيافة والكهانة ... إلخ.
ولهم القصص عن وفودهم وأسواقهم، وحكامهم وفرسانهم، وعدائيهم ولصوصهم، ولهم أساطيرهم وخرافاتهم، وتفاؤلهم وتشاؤمهم وتخيلاتهم.
ولهم الأخبار الطويلة عن أيامهم، وأصنامهم وعباداتهم، وحنفائهم ويهودهم ونصاراهم. •••
ولما جاء الإسلام اتصلت به الثقافة العربية اتصالا وثيقا، حتى كان من الدين التثقف بها، والعلم بلغتها وأخبارها، بل عمل الإسلام عملا كبيرا في رقيها وتقنينها؛ ذلك أن القرآن الكريم والحديث عربيان، ومن حسن الإسلام تعلم لغته، فكان الإسلام أكبر البواعث على نشر هذه الثقافة والعناية بها. دخل اللحن في العربية، فخاف المسلمون على القرآن أن يتسرب إليه لحن فوضعوا النحو، وحملهم وضع النحو على مشافهة الأعراب، والأخذ عنهم، حتى يصلوا إلى قاعدة في الرفع والنصب والجر والجزم يضعونها، وكانت حركة عنيفة ومجهودا كبيرا توج بكتاب سيبويه، وما كان يكون لولا القرآن،
38
ووردت في القرآن والحديث ألفاظ لغوية، فضربوا أكباد الإبل إلى البادية يستفسرون عن لفظ، أو يقفون على تعبير، ودعاهم ذلك إلى حفظ الأشعار، ففيها أحيانا ما يفسر لفظا قرآنيا، أو يساعد على فهم تعبير قرآني، فأكثروا من رواية اللغة والأشعار لذلك، ودققوا فيها وتحروا الموضوع من الصحيح، وما كان يبذل هذا الجهد، وذلك التحري لولا ما وراءه من باعث ديني.
39
وعنوا بلهجات العرب، وكيف تنطق تميم وقريش، ومن الذي يميل ومن لا يميل، ومن يبدل ومن لا يبدل؛ لتفهم قراءات القرآن، كما عنوا بالمعرب والأصيل لما في القرآن من معرب وأصيل.
بل جد بعض العلماء بعد في البلاغة، يضعون لها القواعد، ويستنتجون القوانين تفهما لمواضع الإعجاز في القرآن، وتذوقا لبلاغته.
40
وهكذا كان القرآن منبعا لثقافة روحية وعقلية، سنبينها بعد. وكان منبعا لثقافة عربية وعلمية، أشرنا إليها الآن. •••
وغنيت الثقافة العربية في الإسلام بما كان فيه من أحداث، فسيرة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وأخبار الخلفاء، والغزوات والفتوح، وما تخللها من شعر وأدب وقصص، وما كان يفد على الخلفاء والولاة من شعراء، وما كانوا يقولون، وما تكون من مذاهب دينية من خوارج وشيعة ومرجئة ومعتزلة، وما كان لذلك من أدب، وما كان من أحزاب سياسية وانحياز الشعراء والخطباء إلى هذه الأحزاب.
كل هذا كان ثقافة عربية، يتثقف بها من كانوا عربا في أصلهم، ومن كانوا فرسا أو روما أو يونانيين، وعلى الجملة من كانوا في المملكة الإسلامية، وخاصة من أسلموا وتعلموا، وما كان ينبغ النابغ إلا إذا عرفها، وأحاط بطرف منها، فكانت بذلك عنصرا من عناصر الثقافة العامة في ذلك العصر. •••
هجم العلماء - في عصرنا الذي نؤرخه - من عرب وموال على هذه الثقافة يبحثون عنها من نواحيها المتعددة، ويرحلون إلى البادية أحيانا، وإلى الأمصار أحيانا، ويسمعون للرجال والنساء والصبيان، والخاصة والعامة، حتى اختلفوا؛ هل يأخذون اللغة عن المجنون أو لا، يدخلون على المرأة في خبائها، وعلى راعي الإبل في مرعاه، أبو حاتم يسأل أم الهيثم، والأصمعي يقول: سمعت سبية يتراجزون، والجاحظ يروي عن عبد أسود لبني أسد. والواقدي يروي عن فاطمة بنت المنذر زوجة هشام بن عروة. وكان أهم عمل لهؤلاء تحويل الثقافة العربية من ثقافة لسانية شفهية في الغالب إلى ثقافة كتابية تحريرية، وكانت هذه هي الخطوة الأولى ليتناول العلماء بعد ما جمع ينقحونه، ويميزون خطأه من صوابه، ويضعون له القواعد.
وكان هؤلاء العلماء فرقا، كل فرقة يغلب عليها الميل إلى ناحية من نواحي هذه الثقافة؛ فالخليل بن أحمد وأبو زيد الأنصاري والأصمعي وأمثالهم غلب عليهم مفردات اللغة وجمعها والبدء بتبويبها. والمفضل الضبي وخلف الأحمر وحماد الراوية وغيرهم غلب عليهم جمع القصائد والأشعار والأمثال، وما إلى ذلك. ومحمد بن إسحاق والواقدي وأبو محنف والهيثم بن عدي والمدائني مالوا إلى تدوين الروايات عن الأحداث التاريخية؛ كفتوح الشام، وفتوح العراق، ووقعة الجمل، ووقعة صفين، ونحو ذلك، وفي أخبار النبي
صلى الله عليه وسلم
وكتبه إلى الملوك والمغازي، وأسماء المنافقين، والوفود. وابن الكلبي وأمثاله عنوا بالأنساب وما يتبعها من بيوتات ومنافرات وموءودات، وفي أخبار الأوائل من عاد الأولى والآخرة، والمعمرين والأصنام والقداح، وأيام العرب وأسمارهم ... إلخ. •••
وبعد، فإذا حاولنا أن نختار من يمثل هذه الثقافة العربية بفروعها، فلسنا نختار الأصمعي وما بين أيدينا من كتبه؛ فليست تمثل إلا الناحية اللغوية، ولا المفضل الضبي وكتابيه المفضليات والأمثال؛ فهما لا يمثلان إلا الناحية الأدبية، ولا كتب الجاحظ وابن قتيبة؛ فإنها تمثل نوعا آخر من الثقافة سيأتي بيانه، إنما الذي يمثل الثقافة العربية هو «المبرد» وكتابه الكامل أولا، ثم أمالي القالي ثانيا. وليست الأمالي مما ألف في عصرنا، فلندعها الآن ونجتزئ بالمبرد والكامل، وإن كان قد عاش زمنا في عصرنا، وزمنا في العصر الذي بعده، وقد اخترنا الكامل لأنه خير كتاب وصل إلينا من تراث ذلك العصر، يمثل شيئين هامين؛ يمثل الثقافة العربية في عناصرها المختلفة، ويمثل طريقة تعلم المعلمين في ذلك العصر لتلك الثقافة ومنهج التأليف فيها.
المبرد والكامل
كذلك لا نطيل في ترجمة المبرد، فالذي يهمنا كتابه.
هو محمد بن يزيد، عربي الأصل من قبيلة ثمالة، وثمالة من الأزد، والأزد من قحطان؛ فهو من عرب اليمن. وكان للأزديين أثر كبير في الدولة الأموية،أعانوا زياد بن أبيه وابنه من بعده، وتحالفوا مع ربيعة يناهضون حلفا آخر هو حلف تميم وقيس، ووقفوا بجانب المهلب بن أبي صفرة، وهو أزدي كذلك، يحاربون الخوارج.
ولد المبرد بالبصرة سنة 210، وأخذ العلم عن الجرمي والمازني، «وكان إمام العربية ببغداد، وإليه انتهى علمها، وكان حسن المحاضرة فصيحا بليغا مليح الأخبار، ثقة فيما يرويه كثيرا لنوادر، فيه ظرافة ولباقة.»
41
وكان يتنازع رياسة العلم في بغداد هو وثعلب، ومن أسباب نزاعهما اختلاف مدرستهما، فالمبرد بصري تعلم على المذهب البصري وطريقته، وثعلب كوفي تعلم على المذهب الكوفي وطريقته، وبينهما اختلاف كبير في النحو والصرف واللغة، وما يقاس عليه وما لايقاس ... إلخ. وقد ظفر المبرد بثعلب؛ لأن المبرد كان حسن العبارة حلو الإشارة، فصيح اللسان، ظاهر البيان، وثعلب متحفظ منكمش ليس في لباقة المبرد وفصاحته، وكان المبرد يحب الاجتماع بثعلب للمناظرة، وثعلب يراوغ.
كان يحفظ كثيرا من اللغة وغريبها، وأحفظ الناس في عصره للأخبار، واسع الاطلاع في النحو، وكان لا يعنى بالأسانيد فيما يروي من لغة وأدب كما يعنى غيره من علماء عصره. وقد ألف كتبا كثيرة في فروع الثقافة العربية المختلفة. ألف في النحو «المقتضب» وغيره، وألف في إعراب القرآن، وفي قواعد الشعر وضروب الشعر، وشرح كلام العرب وتخليص ألفاظها، وفي قحطان وعدنان ... إلخ.
42
وأهم كتبه الكامل، وقد مات ببغداد سنة 285 في خلافة المعتضد.
كتاب الكامل
المبرد مسلم عربي، أزدي يماني، وهو لغوي نحوي، وهو لبق ظريف، وهو لم يثقف بغير الثقافة العربية على ما يظهر. كان لكل كلمة من هذه الكلمات لون في كتابه الكامل؛ فهو صورة تامة لكل ما ذكرنا.
قال في صدر الكتاب: «هذا كتاب ألفناه يجمع ضروبا من الآداب؛ ما بين كلام منثور، وشعر مرصوف، ومثل سائر، وموعظة بالغة، واختيار من خطبة شريفة، ورسالة بليغة، والنية فيه أن نفسر كل ما وقع في هذا الكتاب من كلام غريب أو معنى مستغلق، وأن نشرح ما يعرض فيه من الإعراب شرحا شافيا، حتى يكون هذا الكتاب بنفسه مكتفيا، وعن أن يرجع إلى أحد في تفسيره مستغنيا.» ويقول في صدر باب من أبوابه: «نذكر في هذا الباب من كل شيء؛ لتكون فيه استراحة للقارئ، وانتقال ينفي الملل، لحسن موقع الاستطراف، ونخلط ما فيه من الجد بشيء يسير من الهزل ليستريح إليه القلب وتسكن إليه النفس.»
43
فالكاتب تغلب في مختاراته الناحية التي تبعث السرور والفرح والضحك، إلا قليلا من ذكر الموت والرثاء.
اختار فيه من أحاديث رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ومن أقوال الصحابة، والتابعين؛ مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعمر بن عبد العزيز، ومن أمثال الحكماء كأكثم بن صيفي في الجاهلية، والأحنف بن قيس في الإسلام، وشعرا كثيرا من الشعر الجاهلي وصدر الإسلام، وقليلا من شعر المحدثين، وأدبا لحوادث تاريخية ومذاهب دينية كأدب الخوارج، والكتب التي دارت بين أبي جعفر المنصور، ومحمد بن عبد الله بن حسن العلوي.
أكثر ما يعجبه ما جمع بين الأشياء ثلاثة؛ معنى جيد، في التعبير عنه شيء من غريب اللغة، وشيء من مسائل النحو أو مشكلاته. يورد ما اختار، ثم يعنى بشرح ما فيه من لغة ونحو. ويورد قول رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يمدح الأنصار: «إنكم لتكثرون عند الفزع وتقلون عند الطمع.» فلا يتعرض إلا لكلمة الفزع ومعانيها المختلفة، ويستشهد على كل معنى، وإذا ورد في الاستشهاد كلمة لغوية أو نحوية شرحها.
يعنون كل بضع مختارات بكلمة «باب»، ومن العسير في كثير من الأحيان أن نفرق بين باب وآخر، وتدرك أن هذا الباب وحدة مستقلة تجمع مختارات ذات صبغة خاصة، تخالف ما في الباب الآخر، اللهم إلا في القليل النادر كباب الخوارج، حتى ليخيل إلينا أن كلمة «باب» يستعملها في معنى «درس»؛ فكأنه يعنون كل درس أو جملة دروس بباب، والدرس أو الدرس تكون حيثما اتفق له، لا يتقيد فيها إلا بأنها مختار فيه أدب، وفيه لغة وفيه نحو.
والكتاب يمثل الثقافة العربية في جميع نواحيها؛ فهو يختار من الحديث ومن أقوال الصحابة، مثل كلمة أبي بكر في مرض موته، ورسالة عمر في القضاء إلى أبي موسى الأشعري، وكتاب عثمان إلى علي بن أبي طالب حين أحيط به، وكلمة علي حين بلغه أن خيلا لمعاوية وردت الأنبار، وقتلوا عامله حسان بن حسان، ثم يذكر بابا يعنى فيه بما كان من كلام العرب مختصرا مفهما، بين اللفظ حسن الوصف، جميل الرصف كقول الحطيئة:
وذاك فتى إن تأته في صنيعة
إلى ماله لا تأته بشفيع
وقول عنترة:
يخبرك من شهد الوقيعة أنني
أغشى الوغى وأعف عند المغنم
ويقارن بين ما ورد لبعض العرب؛ من ضرورة قبيحة، وألفاظ مستهجنة، وبين ما هو أوضح لفظا وأبين معنى، ثم ينتقل إلى نبذة من كلام الحكماء فينقل عن ابن عمر أنه كان يقول: «إنا كنا معشر قريش نعد الجود والحلم السؤدد، ونعد العفاف وإصلاح المال المروءة. وينقل عن الأحنف بن قيس قوله: كثرة الضحك تذهب الهيبة، وكثرة المزح تذهب المروءة، ومن لزم شيئا عرف به.» ثم يسترسل في ذلك فينتقل عن عبد الملك بن مروان، و أبى سفيان ومعاوية، ثم ينتقل إلى شعر لرجل يهجو بلال بن البعير المحاربي، ولأبي الطمحان يمدح بجير بن إياس، وآخر ينفي نسب آخرين ... إلخ. ويعقد بابا ثالثا، يذكر فيه نبذا من حكم العرب لمعاوية والأحنف بن قيس، ثم بابا رابعا يذكر فيه مختارا لرجل من بني سعد يرثي رجلا، ولحضرمي ابن عامر، وقد غبط بميراث ورثه من أحد أهله، وانتقل فجأة إلى قول جميل يشبب فيه ببثينة، ثم لأمية بن أبي الصلت في الغناء، ثم للهيثم بن الربيع في الغزل، ويأتي بعد ذلك باب خامس فيه نبذ من كلام حكماء العرب.
وعلى هذا النحو كل الكتاب؛ يتعرض في بعض فصوله لما قال العرب في الخمر، وما قالوه في السؤدد، وما قال جرير والفرزدق في الفخر، ووعظ الوعاظ أمثال عمر بن عبد العزيز وعلي بن أبي طالب، وينقل مختارا في مجالس العرب؛ فينقل عن الأحنف بن قيس وقد سئل: أي المجالس أطيب؟ وعن المهلب بن أبي صفرة، وقد قيل له: ما خير المجالس؟ وعن ابن عباس في الجليس، ويذكر نبذة من أمثال العرب؛ مثل: لم يذهب من مالك ما وعظك، ورب عجلة تهب ريثا، وأن ترد الماء بماء أكيس. ويذكر ما قاله بعض العرب في الرثاء، وما قالوه في اللغة والعيش الرغد، ويعرض لطرف مما دار من الكلام الحسن في الحروب الإسلامية الأولى كوقعة الجمل، وما كان بين الحكمين، ويذكر طرفا من الخطب المختارة؛ كخطبة زياد والحجاج، ثم الغزل وطرائفه، فأعرابي يشكو حبيبته، وعمر بن أبي ربيعة في النحافة، وأقوال في دهاء العرب وحلمهم وكرمهم وشجاعتهم، وما بينهم من مدح وهجاء، وعدائيهم ولصوصهم وتكاذيبهم، ونوادر الأعراب في زواجهم وطلاقهم، وطول لحية وقصرها، وبعض طرائف العشاق، وتهاجي القبائل. ثم ما ورد من العرب في الوصف؛ في وصف جمل وحمار وحمامة وحاد، ثم باب طويل في أخبار الخوارج، وحروبهم وعقائدهم وخطبهم وأشعارهم ونوادرهم. وبين هذا وذاك أبواب علمية، بعضها نحوي؛ مثل «باب ما يجوز فيه يفعل فيما ماضيه فعل مفتوح العين»، وبعضها بلاغي؛ مثل باب في التشبيه.
هذه نظرة الطائر إلى كتاب الكامل، أردنا بها أن نستدل على أن الكتاب يمثل الثقافة العربية، ونتبين منها الاتجاهات المختلفة التي اتجهتها هذه الثقافة، وعلى أن أنظار المعلمين في ذلك العصر كانت أنظارا فردية لمسائل فردية، فالموضوع الواحد كالسؤدد عند العرب، مفرق في ثنايا الكتاب من أوله إلى آخره، لا يجمع الباب ولا الكتاب، إلا أنه مختار فيه معنى جميل أيا كان، وفيه لغة ونحو، فأما أن تكون أبيات المديح في جانب، والذم والرثاء ونحو ذلك في موضع واحد؛ فليس هذا شأن الكتاب، ولا شأن معلمي ذلك العصر.
قلنا إن المبرد على ما يظهر لم يثقف الا الثقافة العربية، وذلك واضح في كتابه، فلم يتعرض لغيرهم إلا قليلا نادرا، لقد نقل عن بزرجمهر وأردشير ولكن في مواطن معدودة، وورد فيه كلام عن الموالي ولكن نظره إليهم نظر عربي، وقص ما كان بين عبد الله بن عبد الأعلى وأليون ملك الروم، وقد أرسل عمر بن عبد العزيز إليه يدعوه إلى الإسلام. وقص ما كان بين الشعبي وملك الروم، وقص ما كان من استئذان ملك الروم معاوية في أن يغالبه، فبعث إليه ملك الروم برجلين أحدهما طويل، والآخر قوي جسيم ... إلخ، ولكن هذه أمور لا تدل على ثقافة أجنبية لأنها حوادث متصلة بالمسلمين العرب، وقد رواها المبرد ما نقلت إليه عن العرب.
وقلنا إن المبرد عربي أزدي يماني، وكتاب الكامل يمثل هذا النوع من العصبية القبلية تمثيلا صحيحا، فهو يتعصب للأزد ولليمانيين، ويروي الكثير من الصحيح والسقيم لإعلاء شأنهم، فهو يعقد بابا يعنونه «باب ذكر الأذواء من اليمن في الإسلام»، فيذكر فيه الأذواء في الجاهلية، كذي كلاع وذي نواس وذي رعين، وفي الإسلام كخزيمة بن ثابت ذي الشهادتين، ويذكر خبرا عمن كان بينه وبين الملائكة سبب من اليمانية، فسعد بن معاذ الأنصاري هبط لموته سبعون ألف ملك لم يهبطوا إلى الأرض قبلها. وحنظلة بن أبي عامر الأنصاري غسلته الملائكة ... إلخ. هذا في آخر الكتاب وأما في أوله فيختار قول رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في الأنصار: «إنكم لتكثرون عند الفزع وتقلون عند الطمع» ، والأنصار من الأوس والخزرج (وهما قبيلتان يمانيتان أزديتان) في قول النسابين، ويختار قول أبي بكر في المهاجرين: «ولما لقيت منكم يا معشر المهاجرين أشد علي من وجعي، إني وليت أموركم خيركم فكلكم ورم أنفه أن يكون له الأمر من دونه.» ويختار الكلام في الخوارج ويطيل لسببين على ما يظهر: (1)
فهو يعارض الجاحظ، وقد ذكر في كتابه الشعوبية. والشعوبية حركة أعجمية تناهض العرب، والخوارج أكثرهم عرب خلص، لهم أدب عربي. (2)
والذي قاتل الخوارج المهلب بن أبي صفرة وبنوه، وهو أزدي كالمبرد، وكان يعاونه الأزديون؛ قبيلة المبرد، فالإشادة بالتنكيل بالخوارج إشادة بقبيلته. وهو في كتاب الكامل يعلي شأن المهلب ويتأول له: «لقد رمي المهلب بالكذب حتى في حديث رسول الله» فهو يذكر أنه إنما كذب في الحرب، والحرب خدعة، والكذب في الحرب جائز. والكتاب مملوء بالأخبار التي تعظم آل المهلب وترفع من شأنهم، ويروي في أخبار الخوارج قول أعشى همدان:
إن المكارم أكملت أسبابها
لابن الليوث الغر من قحطان
للفارس الحامي الحقيقة معلما
زاد الرفاق إلى قرى نجران
الحارث بن عميرة الليث الذي
يحمي العراق إلى قرى كومان
ود الأزارق لو يصاب بطعنة
ويموت من فرسانهم مائتان
44
ويروي المبرد عن علي أنه قال: «للأزد أربع ليست لحي؛ بذل لما ملكت أيديهم، ومنع لحوزتهم، وحي عمارة لا يحتاجون إلى غيرهم، وشجعان لا يجبنون.»
45 •••
وبعد، فإن كانت الثقافة الفارسية تمثل حياة كسروية فيها مدينة معقدة ونظم مركبة، وفيها مرافق المدنية الممعنة في الحضارة، وفيها محاسن المدنية ومساويها. فالثقافة العربية تمثل حياة بسيطة سهلة لا تركب فيها ولا التواء، فيها بساطة العيش، وفيها بساطة القول. وفيها محاسن البادية ومساوئها، كما تمثل قوما عاشوا في جاهليتهم في نزاع قبلي، يفخرون ويمدحون ويهجون، ويدينون بالأصنام، ثم يجمعهم دين واحد هو الإسلام فيرفع من نفسيتهم وعقليتهم، ويأخذون في حياة فيها أثر للقديم، من عصبية قبلية ونحوها، وفيها كثير من جديد؛ فتوحيد وتقوى، وخوف من الله وعذابه ورغبة في ثوابه، وفيها شعور بعزة الفاتح وسلطان الحاكم، وفيها اعتداد بأنفسهم، وخاصة من ناحيتين: لسانهم وسيفهم، واعتماد على غيرهم في مرافق مدنية دربوها ومرنوا عليها.
ولئن كانت الثقافة الفارسية دونت من قديم وتعاورها التلف والتجديد، وادخرت في كتب سلم منها شيء إلى العهد الإسلامي، فالثقافة العربية كانت كلها في جاهليتها ثقافة شفوية تعتمد على الذاكرة والرواية، وفي الإسلام إنما عني بتدوين القرآن وبعض الحديث. فأما الأدب واللغة فظل أغلبهما كما كان الحال في الشعر الجاهلي والأدب الجاهلي، يتناقل من طريق الحفظ والرواية، حتى كان آخر الدولة الأموية وأول العباسية فأخذ العلماء في تدوينه.
ولئن كانت الثقافة اليونانية قد مرت بالأدوار الطبيعية للعلم؛ من بحث في مسائل متفرقة، فتنظيم وتبويب، وجمع للمسائل المتشابهة وقواعدها في باب واحد، ووصلت إلى المسلمين بعد أن هذبها المنطق، ورتبتها الأجيال المتعاقبة من فلاسفة اليونان، فالثقافة العربية في عصرنا الذي نؤرخه من لغة وأدب وتاريخ ونحوها كانت في أول دورها من حيث الترتيب والتبويب؛ فنرى الفوضى في كتب اللغة المؤلفة في ذلك العصر، كما رأينا في كتاب الكامل، ولم تجتز الثقافة العربية هذا الدور إلا بعد أن انتهى عصرنا أو كاد.
ومهما يكن من شيء فالثقافة العربية كانت ركنا من أركان الثقافات في ذلك العصر، وعنصرا هاما من عناصرها، لا تقل عن غيرها من العناصر، إن لم تزد عليها، لأن لسانها لسان الحاكمين، ولغتها لغة الدين.
الفصل الحادي عشر
الثقافات الدينية
اليهودية والنصرانية والإسلام
بجانب هذه الثقافات المدنية - إن صح هذا التعبير - ثقافات أخرى روحية، تنشرها الأديان المختلفة، وأهمها الإسلام والنصرانية واليهودية.
اليهودية والنصرانية
يقول الأستاذ «متز»: «إن مما يميز المملكة الإسلامية عن أوروبا النصرانية في القرون الوسطى؛ أن الأولى يسكنها عدد كبير من معتنقي الأديان الأخرى غير الإسلام، وليست كذلك الثانية، وأن الكنائس والبيع ظلت في المملكة الإسلامية، كأنها خارجة عن سلطان الحكومة، وكلها لا تكون جزءا من المملكة، معتمدة في ذلك على العهود وما أكسبتهم من حقوق، وقضت الضرورة أن يعيش اليهود والنصارى بجانب المسلمين، فأعان ذلك على خلق جو من التسامح لا تعرفه أوروبا في القرون الوسطى. كان اليهودي أو النصراني حرا أن يدين بدينه، ولكنه إن أسلم ثم ارتد عوقب بالقتل. وفي المملكة البيزنطية كان عقاب من أسلم القتل.»
1
كانت الكنيسة تحرم على النصراني أن يتزوج غير نصرانية إلا إذا تنصرت، وكذلك النصرانية لا تتزوج إلا نصرانيا. أما الإسلام فقد حرم على المرأة المسلمة أن تتزوج غير مسلم، وأحل للرجل المسلم أن يتزوج كتابية؛ يهودية أو نصرانية، وإن بقيت على دينها لقوله تعالى
اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب
فكان كثير من المسلمين يتزوجون يهوديات أو نصرانيات، ومنهن من تسلم، ومنهن من تبقى على دينها، وكان هذا سببا من أسباب اتصال المسلمين باليهود والنصارى.
وقد كان بين الحنفية والشافعية خلاف شديد في قتل المسلم بالكافر، فكان الحنفية يرون أن المسلم إذا قتل ذميا قتل به، وخالفهم في ذلك الشافعي. وكان بين الفريقين جدال وحجاج، تراه مبسوطا في كتب الفقه. وكان مما احتج به الحنفية: أن عبيد الله بن عمر بن الخطاب لما قتل أبوه اتهم في الاشتراك في تدبير قتل «جفينة» وكان نصرانيا، فذهب إليه عبيد الله وقتله، ولما علاه بالسيف صلب بين عينيه، فلما استخلف عثمان بن عفان دعا المهاجرين والأنصار. فقال: أشيروا علي في قتل هذا الرجل (يعني عبيد الله بن عمر)، فتق في الدين ما فتق. فاجتمع المهاجرون والأنصار فيه على كلمة واحدة، يأمرونه بالشدة عليه، ويحثونه على قتله؛ فإشارة المهاجرين والأنصار دليل على أن المسلم يقتل بالذمي، ولم يفعل عثمان ذلك؛ لأن عمرو بن العاص أشار عليه بألا يفعل؛ لأن الحادثة كانت قبل أن يتولى عثمان ويكون له على الناس سلطان،
2 ... إلخ.
وقد وقع في أيام أبي يوسف القاضي؛ أن مسلما قتل كافرا، فحكم على المسلم بالقود، فقال أحد الشعراء:
يا قاتل المسلم بالكافر
جرت وما العادل كالجائر
يا من ببغداد وأطرافها
من علماء الناس أو شاعر
استرجعوا وابكوا على دينكم
واصطبروا فالأجر للصابر
جار على الدين أبو يوسف
بقتله المؤمن بالكافر
وخاف الرشيد الفتنة؛ فأمر أبا يوسف أن يتدارك الأمر بحيلة لئلا تكون فتنة، فطالب أبا يوسف أصحاب الدم ببينة على الذمة
3
وثبوتها، فلم يأتوا فأسقط القود.
4
وكان الشافعي يرى أن القود لا بد فيه من تساوي القاتل والمقتول في الحرية والإسلام، فإن فضل القاتل المقتول بحرية أو إسلام، فقتل حر عبدا، أو مسلم كافرا فلا قود عليه.
وكان الشافعي يرى أنه يصح أن يشترك أهل الذمة من يهود ونصارى في الحروب مع المسلمين (أي أن يجندوا في الجيش الإسلامي) إذا رأى الإمام ذلك، واستدل بأن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
استعان في غزاة خيبر بعدد من يهود بني قينقاع كانوا أشداء، واستعان في غزاة حنين بصفوان بن أمية وهو مشرك، فلا بأس أن يستعان بالمشركين على قتال المشركين، إذا خرجوا طوعا، ويرضخ لهم ولا يسهم لهم.
5
ولسنا نتعرض هنا لعلاقة اليهود والنصارى بالحكومة الإسلامية من حيث الضرائب، وعلاقتهم برؤسائهم، وعلاقة الرؤساء بالخلفاء، ومدى استقلالهم، والمقارنة بين حال النصارى في المملكة الإسلامية ، والمسلمين في الممالك النصرانية، وكيف كان اليهود والنصارى يتقاضون في الأصقاع الإسلامية، وعلاقتهم بالقضاة المسلمين، ونحو ذلك من الشئون، فهذا بالتاريخ السياسي أشبه، وإنما غرضنا هنا شرح ما كان لهم من أثر في الثقافة.
كان اليهود والنصارى منتشرين في المملكة الإسلامية، وكانوا عددا كبيرا؛ فقد ذكر بنيامين (أحد الرحالة اليهود الذين رحلوا سنة 1165م؛ أي نحو سنة 560 هجرية) أن «عدد اليهود في المملكة الإسلامية غير العرب، كانوا نحو ثلاثمائة ألف»، وكانوا منتشرين على نهر دجلة والفرات، وفي جزيرة ابن عمر والموصل وعكبرة وواسط، وفي بغداد والحلة، والكوفة والبصرة، وفي كثير من بلاد فارس، في همذان وأصفهان وشيراز، وكانوا في غزنة وسمرقند، وكان في فارس بلدتان تسمى كل منهما «اليهودية»، إحداهما بجرجان، والأخرى بأصبهان. وكان ببغداد إذ ذاك نحو ألف يهودي، وكان فيها درب يسمى درب اليهود، نسب إليه قوم من المحدثين؛ منهم أبو محمد عبد الله بن عبيد الله بن يحيى اليهودي.
6
وفي أوائل القرن الثالث الهجري كان يجبى من الجزية من أهل بغداد مائة وثلاثون ألف درهم، وفي أوائل القرن الرابع كان يجبى منهم ستة عشر ألف دينار. والعددان يدلان على أن من كان ببغداد إذ ذاك من غير المسلمين ممن يدفع الجزية نحو خمسة عشر ألفا.
7
ويقول ابن حوقل: إن النصارى في مدينة الرها وتكريت أكثر عددا.
وكان أغلب الماليين في الشام يهودا، وأغلب أطباء القصور في بغداد نصارى، واشتهر اليهود باحترافهم حرفا خاصة، كالصيرفة ودباغة الجلود والصباغة.
8
وقال الجاحظ: «إن النصارى اتخذوا البراذين الشهرية، والخيل العتاق، واتخذوا الجوقات، وضربوا بالصوالجة، وتحدقوا المدبنى، ولبسوا الملحم والمطبقة، واتخذوا الشاكرية، وتسموا بالحسن والحسين والعباس والفضل وعلي.»
9
على كل حال كان بين المسلمين كثير من أهل الأديان الأخرى، وخاصة اليهود والنصارى، وقد خالطهم المسلمون، بل اتخذوا منهم أصدقاء. قال الجاحظ: أنشدنا أبو صالح مسعود بن قنديل الفزاري في ناس خالطهم من اليهود:
وجدنا في اليهود رجال صدق
على ما كان من دين مريب
لعمرك إنني وابني غريض
لمثل الماء خالطه الحليب
خليلان اكتسبتهما، وإني
لخلة ماجد أبدا كسوب
وقال أبو الطمحان الأسدي (وكان نديما لناس من بني الحداء، وكانوا نصارى فأحمد ندامتهم) فقال:
كأن لم يكن في القصر مقاتل
وزورة ظل ناعم وصديق
ولم أرد البطحاء أمزج ماءه
بخمر من البروقتين عتيق
معي كل فضفاض الثياب كأنه
إذا ما جرى فيه المدام فتيق
بنو الصلب والحداء كل سميدع
له في العروق الصالحات عروق
وإني وإن كانوا نصارى أحبهم
ويرتاح قلبي نحوهم ويتوق
10
ويقول أبو نواس:
سألت أخي أبا عيسى
وجبريل له عقل
11
فقلت: الراح تعجبني
فقال كثيرها قتل
رأيت طبائع الإنسا
ن أربعة هي الأصل
فأربعة لأربعة
لكل طبيعة رطل
وبعد، فقد كان لكل من اليهودية والنصرانية ثقافة، وقد تسرب إلى المسلمين شيء منها، فلنحاول بيان ذلك.
اليهودية
أهم منبع للثقافة اليهودية التوراة، وقد ذكرت في القرآن الكريم، ووصفت بأنها كتاب من كتب الله المنزلة
إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور ، وورد فيه أن عيسى أتى بعد مصدقا لما في التوراة
وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين . وقد نص القرآن على بعض أحكام وردت في التوراة
وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص ، وأشير في الأحاديث كذلك إلى التوراة، وذكر فيها بعض أحكامها.
من ذلك ما روى أبو داود عن ابن عمر، قال: أتى نفر من اليهود فدعوا رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إلى القف، فأتاهم في بيت المدراس، فقالوا: يا أبا قاسم، إن رجلا منا زنى بامرأة فاحكم، فوضعوا لرسول الله
صلى الله عليه وسلم
وسادة فجلس عليها، ثم قال: ائتوني بالتوراة فأتى بها، فنزع الوسادة من تحته، ووضع التوراة عليها، ثم قال: «آمنت بك وبمن أنزلك.» ثم قال: «ائتوني بأعلمكم.» فأتي بفتى شاب، ثم ذكر قصة الرجم.
12
وقد اختلفت أنظار المسلمين إلى التوراة على أقوال ثلاثة؛ فقال قوم إنها كلها أو أكثرها مبدلة مغيرة، ليست هي التوراة التي أنزلها الله على موسى، وتعرض هؤلاء لتناقضها، وتكذيب بعضها لبعض.
13
وذهبت طائفة أخرى من أئمة الحديث والفقه والكلام إلى أن التبديل وقع في التأويل لا في التنزيل، وهذا مذهب البخاري، قال في صحيحه:
يحرفون الكلم عن مواضعه
يزيلون، وليس أحد يزيل لفظ كتاب من كتب الله تعالى، ولكنهم يتأولونه على غير تأويله، وهذا هو ما اختاره الرازي في تفسيره. ومن حجة هؤلاء أن التوراة قد طبقت مشارق الأرض ومغاربها، ولا يعلم عدد نسخها إلا الله، ومن الممتنع أن يقع التواطؤ على التبديل والتغيير في جميع تلك النسخ؛ بحيث لا يبقى في الأرض نسخة إلا مبدلة مغيرة، والتغيير على منهاج واحد وهذا ما يحيله العقل ويشهد ببطلانه. قالوا: وقد بين الله تعالى لنبيه عليه السلام محتجا على اليهود بها:
قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ... إلخ. وذهبت طائفة ثالثة إلى أنه قد زيد فيها، وغير ألفاظ يسيرة، ولكن أكثرها باق على ما أنزل عليه، والتبديل في يسير منها جدا. وممن اختار هذا القول ابن تيمية في كتابه «الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، ومثل لذلك بما جاء فيها: «إن الله سبحانه وتعالى قال لإبراهيم عليه السلام: اذبح ولدك بكرك أو واحدك إسحاق.»، فإسحاق زيادة منهم في لفظ التوراة، لأدلة ذكروها.
14
وكلمة التوراة يستعملها المسلمون كثيرا للدلالة على كل الكتب المقدسة عند اليهود، فتشمل الزبور وغيره، كما يستعملها اليهود أنفسهم أحيانا.
وكان لليهود بجانب ذلك سنن ونصائح وشروح، لم تنقل عن موسى عليه السلام كتابة، وإنما تدوول نقلها شفاها، ونمت على تعاقب الأجيال، ثم دونت بعد، وهذا هو المسمى بالتلمود، والتلمود مختلف فيه فيما بينهم، فمنهم من يقبله وهم طائفة الربانيين، ومنهم من لا يقبله وهم طائفة القرائين.
فأما التوراة بالمعنى الدقيق فخمسة أسفار؛ السفر الأول سفر التكوين أو الخلق، وقد ذكر فيه خلق العالم، وقصة آدم وحواء وأولادهما، ونوح والطوفان، وتبلبل الألسن، ثم قصة إبراهيم عليه السلام وابنه إسحاق وابنيه يعقوب وعيصو، ثم قصة يوسف.
والسفر الثاني يسمى الخروج؛ أي خروج اليهود من مصر، وفيه قصة موسى من ولادته وبعثته، وفرعون وخروج بني إسرائيل من مصر، وصعود موسى الجبل، وإيتاء الله له الألواح.
والسفر الثالث سفر اللاويين (أي الأحبار)، وفيه حكم القربان والطهارة وما يجوز أكله، وغير ذلك من الفرائض والحدود.
والسفر الرابع سفر العدد، بعضه في الشرائع، وبعضه في أخبار موسى وبني إسرائيل في التيه وقصة البقرة.
والسفر الخامس سفر التثنية؛ أي إعادة الناموس.
وفي العهد القديم غير التوراة سفر يوشع وهو في استيلاء بني إسرائيل على فلسطين، ثم سفر القضاة (أي الحكام)، ثم أربعة أسفار الملوك الأول في أخبار شمويل أو سمويل وشاول (أي طالوت)، والثاني في ذكر داود، والثالث والرابع في سليمان بن داود ومن ملك بني إسرائيل من بعده.
وأما التلمود فمجموعة من المناقشات الدينية الأولى، مع شروح لرجال الدين من الأجيال المتعاقبة، فيه القوانين اليهودية من قانون عقوبات وقوانين مدنية، وبعبارة أخرى فيه تحديد العلاقات الدينية والدنيوية. يسجل أفكار اليهود في حياتهم وتقاليدهم في نحو ألف عام، ويمزج مزجا تاما نواحي الشعب الخلقية بنواحيهم الدينية.
وقد جمع التلمود في نحو ثلاثة قرون، ابتدءوا بجمعه في أوائل القرن الرابع للميلاد، وتم في نحو نهاية القرن السادس. ويسمى القسم الأول منه المشنا “Micgna”
وهو مجموعة؛ أحكام استندت على العهد القديم، وقد كتب باللغة العبرية الأولى، والقسم الثاني يسمى الجيمارة “Gemara”
ويتضمن مباحثات لربانيهم - أي فقهائهم - وقد كتب باللغة الآرامية.
وحول هذه الكتب الدينية نسج كثير من الأدب اليهودي والقصص، والتاريخ والتشريع والأساطير.
وكان بين اليهودية والوثنية اليونانية، وبين اليهودية والمسيحية نزاع شديد في الشرق، وخاصة في الإسكندرية (أهم مراكز الثقافة اليونانية)، واضطر كثير من اليهود أن يتعلموا اللغة اليونانية ويتكلموا بها. وكان هذا النزاع في نوع الحياة الاجتماعية وفي الثقافة وفي الدين؛ فاضطر كثير من اليهود أن يبدلوا حياتهم وأنظارهم نحو الحياة اليونانية؛ كانوا يحرمون غشيان معاهد التمثيل التي تمثل فيها روايات يونانية، فنشأ جيل جديد لا يرى في ذلك من بأس، وهكذا. واضطروا أن يأخذوا بحظ من الثقافة اليونانية، وواجهوا مشكلة جديدة، وهي إلى أي حد يقبلون تعاليم اليونان مع الاحتفاظ بأصول اليهودية؟ وكان من أشهر هؤلاء «فيلو» الذي حاول أن يوفق بين المعتقدات الدينية اليهودية، وبين العلم اليوناني، فكان من ذلك يهودية مفلسفة، لا هي يهودية صرفة ولا فلسفة صرفة. اقتبس «فيلو» من أفلاطون والرواقيين، واستعمل المصطلحات الفلسفية، ولكنه استخدم ذلك كله لإحياء العاطفة الدينية، وتذليل الصعاب التي تواجهها اليهودية، وقد انتفعت الكنيسة النصرانية بعد بموقف اليهود إزاء الفلسفة اليهودية؛ لأنهم واجهوا ما واجه اليهود قبلهم.
15
وعلى الجملة، فقد كان لليهود ثقافة دينية وأدبية وتاريخية وقانونية، مزجت بعد بالثقافة اليونانية.
وقديما تسربت الثقافة اليهودية إلى من جاورهم من العرب؛ جاء في الحديث عن ابن عباس: «كان هذا الحي من الأنصار (وهم أهل وثن) مع هذا الحي من اليهود (وهم أهل كتاب)، فكانوا يرون لهم فضلا عليهم في العلم، وكانوا يقتدون بكثير من فعلهم.»
16
وكان ذلك قبيل الإسلام كما تدل عليه تتمة الحديث.
وكان بعض المسلمين في العصور الأولى يطلعون على الكتب الأخرى المنزلة ويتلونها، روى ابن سعد في الطبقات أن أبا الجلد واسمه جيلان بن فروة كان يقرأ الكتب، وروي عن ميمونة بنت أبي الجلد قالت: كان أبي يقرأ القرآن في كل سبعة أيام، ويختم التوراة في ستة، يقرؤها نظرا، فإذا كان يوم يختمها حشد لذلك ناس، وكان يقول: كان يقال تنزل عند ختمها الرحمة.
17
وفي الحديث عن أبي هريرة قال: «كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها لأهل الإسلام بالعربية، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالذي أنزل إلينا، وأنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد.»
18
ويروون عن وهب بن منبه انه كان يقول: «لقد قرأت اثنين وتسعين كتابا، كلها أنزلت من السماء، اثنان وسبعون منها في الكنائس، وفي أيدي الناس، وعشرون لا يعلمها إلا قليل.»
19
تسربت هذه الثقافة اليهودية إلى المسلمين من طرق أهمها: من دخل في الإسلام من اليهود، وخاصة مسلمة اليمن؛ ككعب الأحبار، ووهب بن منبه وأمثالهما، وقد دخل في الإسلام من اليهود كثيرون، كان منهم بعض الصحابة وبعض التابعين، وظلوا يتتابعون إلى عصرنا الذي نؤرخه، وكان منهم محدثون ومنهم قصاص ، ومنهم قراء، ومنهم أخباريون، وأشهر من عرفنا في عصرنا هذا ممن أصله يهودي: أبا عبيدة معمر بن المثنى.
والآن نعرض أنواع المعارف التي تأثرت باليهود:
فأول ذلك تفسير القرآن؛ ذلك أن القرآن الكريم والتوراة يتفقان - كما رأيت - في إيراد بعض المسائل، وخاصة في قصص الأنبياء، ولكن للقرآن منحى يخالف منحى التوراة؛ إنه يقتصر على مواضع العظة، ولا يتعرض لتفصيل جزئيات المسائل، فهو لا يذكر - غالبا - تاريخ الوقائع، ولا أسماء البلدان التي حصلت فيها، ولا أسماء الأشخاص الذين جرت على يدهم بعض الحوادث، ولا يدخل في تفاصيل الجزئيات، إنما يتخير ما يمس جوهر الموضوع وموضع العبرة.
لنأخذ لذلك مثلا قصة آدم؛ فقد وردت في القرآن الكريم في مواضع أطولها ما ورد في سورة البقرة منها
وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين * فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين * فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم * قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون * والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون .
فترى من هذا أن القرآن لم يتعرض لمكان الجنة، ولا لنوع الشجرة التي نهى آدم عن الأكل منها، ولا بين الحيوان الذي تقمصه الشيطان ليزلهما، ولا ما كان من تفصيل الحوار بين الله تعالى وآدم، ولا للبقعة التي طرد إليها آدم بعد خروجه من الجنة ... إلخ. ولكن التوراة تعرضت لكل ذلك وأكثر منه، فأبانت أن الجنة في عدن شرقا، وأن الشجرة التي نهيا عنها كانت في وسط الجنة، وأنها شجرة الحياة، وأنها شجرة معرفة الخير والشر ، وأن الذي خاطب حواء هو الحية، وذكرت ما انتقم الله به من الحية التي أغوتهما بأن جعلها تسعى على بطنها وتأكل التراب، وانتقم من حواء بتعبها هي ونسلها فيحبلها ... إلخ، فجاء المفسرون للقرآن ينقلون عن مسلمة اليهود ما جاء في كتبهم، ويضعونه شروحا، فيحكي الطبري مثلا عن وهب بن منبه أن هذه الشجرة كان لها ثمر تأكله الملائكة لخلدهم، فلما أراد إبليس أن يستزلهما دخل في جوف الحية، وكانت للحية أربع قوائم كأنها بختية من أحسن دابة خلقها الله، فلما دخلت الحية الجنة خرج من جوفها إبليس، فأخذ من الشجرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته ... إلخ، فلما أكلا قال الله لحواء: يا حواء، أنت التي غررت عبدي فإنك لا تحملين حملا إلا حملته كرها فإذا أردت أن تضعي ما في بطنك أشرفت على الموت مرارا، وقال للحية: أنت الذي دخل الملعون في جوفك حتى غر عبدي، ملعونة أنت لعنة تتحول قوائمك في بطنك، ولا يكن لك رزق إلا التراب ... إلخ. وروي عن ابن عباس نحو هذه القصة.
20
ونقرأ تفسير الطبري على هذه الآيات فيتجلى لك بوضوح أنهم أخذوا ما في التوراة وشروحها، والأخبار التي رويت حولها، ووضعوها تفسيرا لآيات القرآن الكريم. وهم يروون ذلك عن وهب بن منبه تارة، وعن إسرائيل عن أسباط عن السدي مرة أخرى. وهكذا فعلوا في كل ما ورد في القرآن من قصص وردت في التوراة. ولم يكن كل هؤلاء اليهود علماء باليهودية مدققين، بل كان منهم عوام يعرفون كما يقول ابن خلدون ما تعرفه العامة من أهل الكتاب، وتساهل المفسرون في مثل ذلك، وملئوا كتب التفسير بهذه المنقولات.
21
وما زالت هذه الإسرائيليات تكثر وتنمو، حتى امتلأت بها الكتب؛ أمثال قصص الأنبياء للثعلبي.
وعني المسلمون بنقل تاريخ بني إسرائيل وأنبيائهم كما فعل الطبري في تاريخه، وكما فعل ابن قتيبة في كتابه المعارف. وقد أثبت العلم أن كثيرا مما نقل من تاريخ بني إسرائيل غير صحيح؛ مما يدل على أن الروايات التي نقلت كان كثير منها ينقل عن العوام وأشابههم. ونجد ابن قتيبة يقارن بين ما يرويه وهب بن منبه، وبين ما في التوراة، ويبين أحيانا ما بينهما من خلاف.
وكان لليهود أثر غير قليل في بعض المذاهب الإسلامية، فابن الأثير يروي عند الكلام على أحمد بن أبي دواد: «أنه كان داعية إلى القول بخلق القرآن، وغيره من مذاهب المعتزلة، وأخذ ذلك عن بشر المريسي، وأخذ بشر عن الجهم بن صفوان، وأخذه الجهم عن الجعد بن درهم، وأخذه الجعد عن أبان بن سمعان، وأخذه أبان عن طالوت بن أخت لبيد بن الأعصم وختنه، وأخذه طالوت عن ختنه، لبيد بن الأعصم اليهودي الذي سحر النبي
صلى الله عليه وسلم ، وكان لبيد يقول بخلق التوراة، وأول من صنف في ذلك طالوت، وكان زنديقا فأفشى الزندقة.»
22
وروى صاحب العقد الفريد عن الشعبي أنه قال لمالك بن معاوية: «أحذرك الأهواء المضلة، وشره الرافضة، فإنها يهود هذه الأمة، يبغضون الإسلام كما يبغض اليهود النصرانية. ولم يدخلوا في الإسلام رغبة ولا رهبة من الله، ولكن مقتا بأهل الإسلام وبغيا عليهم، وقد حرقهم علي بن أبي طالب ... وذلك أن محبة الرافضة محبة اليهود. قالت اليهود لا يكون الملك إلا في آل داود، وقالت الرافضة لا يكون الملك إلا في آل علي بن أبي طالب، وقالت اليهود لا يكون جهاد في سبيل الله حتى يخرج المسيح المنتظر وينادي مناد من السماء، وقالت الرافضة: لا جهاد في سبيل الله حتى يخرج المهدي وينزل بسبب من السماء.
واليهود يؤخرون صلاة المغرب حتى تشتبك النجوم، وكذلك الرافضة، واليهود لا ترى الطلاق الثلاث شيئا، وكذا الرافضة. واليهود لا ترى على النساء عدة، وكذا الرافضة، واليهود تستحل دم كل مسلم، وكذلك الرافضة، واليهود حرفوا التوراة، وكذلك الرافضة حرفت القرآن، واليهود تنتقص جبريل وتقول هو عدونا من الملائكة، وكذلك الرافضة تقول غلط جبريل في الوحي إلى محمد يترك علي بن أبي طالب، واليهود لا تأكل لحم الجزور وكذلك. الرافضة ...» إلخ.
23
واجه اليهود كثيرا من المسائل، وبحثوا عنها، واختلفوا فيها؛ فقد بحثوا في النسخ، وقالوا إن الشريعة لا تكون إلا واحدة، وقد بدأت بموسى وتمت به، فلا يجوز النسخ لأن النسخ في الأوامر بداء ولا يجوز البداء على الله.
وتكلموا في التشبيه؛ لأنهم وجدوا التوراة مملوءة بألفاظ تشعر بالتشبيه مثل الصورة والمشافهة، والتكلم جهرا، والنزول على طور سيناء، والاستواء على العرش، وجواز الرؤية.
وتعرضوا للرجعة (أي رجوع بعض الأفراد إلى الحياة بعد الموت)، وجاءهم ذلك من أن عزيرا أماته الله مائة عام ثم بعثه. وقالوا إنه مات وسيرجع، وقال بعضهم غاب وسيرجع.
24
وهذه الأقوال والخلافات كلها تسربت إلى المسلمين عمن أسلم من اليهود، فرأينا المسلمين يبحثون في جواز النسخ في القرآن، كما بحث اليهود في نسخ التوراة. ويذهب جمهور المسلمين إلى جواز نسخ الحكم دون النص، وإلى أن ذلك وقع فعلا، ويخالف في وقوعه أبو مسلم الأصفهاني. ونرى المسلمين في كتب أصول الفقه (عند الكلام على النسخ) يناقشون اليهود في رأيهم، يجادلونهم ويردون عليهم.
25
مما يؤيد وجهة نظرنا في أن اليهود هم السبب في إثارة هذه المسألة، ورأينا بعض الشيعة يرى البداء الذي أنكره اليهود. وأقدم من قال به المختار بن عبيد الذي كان يدعو لمحمد بن الحنفية. ويقول الشهرستاني: «إنما صار المختار إلى البداء؛ لأنه كان يدعي علم ما يحدث من الأحوال إما بوحي يوحى إليه، وإما برسالة من قبل الإمام، فكان إذا وعد أصحابه بكون شيء وحدوث حادثة فإن وافق كونه قوله جعله دليلا على صدق دعواه، وإن لم يوافق قال قد بدا لربكم، وكان لا يفرق بين النسخ والبداء فإذا جاز النسخ في الأحكام جاز البداء في الأخبار.»
26
وقد اعتنق كثير من الشيعة مذهب البداء وطبقوه في كثير مسائلهم التاريخية، وقال أحد أئمتهم: «لا يعبد الله بأحسن من القول بالبداء.» لأنه يفتح باب التوبة في طلب العفو من الله، وكان اليهود أقوى المعارضين في البداء.
27
كذلك انتقل إلى المسلمين ما دار بين اليهود في التشبيه؛ فقد وضعت للبحث الآيات القرآنية التي تشعر بذلك، مثل
يد الله فوق أيديهم
الرحمن على العرش استوى
ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ... إلخ. وما ورد في الحديث كقوله: «قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن.» وانقسم المسلمون فيها أقساما؛ فقال قوم من السلف نؤمن بذلك ولا تتعرض للتأويل بعد أن نعلم قطعا أن الله لا يشبه شيئا من المخلوقات، وذهب جماعة من غلاة الشيعة وجماعة من أصحاب الحديث الحشوية إلى التشبيه، وقالوا إنه يجوز عليه الانتقال والنزول والصعود والاستقرار ... إلخ. فحذوا في ذلك حذو اليهود في اختلافهم. ويقول الشهرستاني في الكلام على المشبهة: إنهم أجروا الأحاديث الواردة في ذلك على ما يتعارف في صفات الأجسام، وزادوا في الأخبار أكاذيب وضعوها، ونسبوها إلى النبي (عليه السلام) وأكثرها مقتبس، من اليهود، فإن التشبيه فيهم طباع حتى قالوا في الله تعالى اشتكت عيناه فعادته الملائكة، وبكى على طوفان نوح حتى رمدت عيناه، وإن العرش ليئط من تحته كأطيط الرحل الجديد. وروى المشبهة عن النبي أنه قال: «لقيني ربي فصافحني وكافحني، ووضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله ...» إلخ.
28
ويقول في موضع آخر: «ولقد كان الشبيه صرفا خالصا في اليهود لا في كلهم، بل في القرائين منهم؛ إذ وجدوا في التوراة ألفاظا كثيرة تدل على ذلك.»
29
وقال الشيعة في الرجعة على نحو ما قال اليهود؛ قد كان عند اليهود أن النبي «إلياس» صعد إلى السماء، وسيعود فيعيد الدين والقانون، فقال ابن سبأ اليهودي (كما حكى ابن حزم) لما قتل علي: «لو أتيتمونا بدماغه ألف مرة ما صدقنا موته، ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا». ونمت هذه الفكرة عند الشيعة؛ فقالوا كذلك في بعض الأئمة الذين اختفوا، ثم قالوا كذلك في المهدي المنتظر.
فترى من هذا أن كثيرا من المسائل الكلامية وغيرها، كان منبعها اليهود، وأنها قيلت على مثال ما قالوا. وحق قول رسول الله: «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم. قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال فمن!»
وكان بعض المتكلمين في العقائد من أصل يهودي، كبشر المريسي، وله آراء كثيرة انفرد بها، وكرهه الناس من أجلها حتى كادوا يقتلونه، وكان من أشهر القائلين بخلق القرآن.
وروى ابن قتيبة: «أن هارون الأعور بن موسى أحد القراء كان يهوديا ثم أسلم، قال الأصمعي: قال هارون: كنت أقرأ إيذام بالعبرانية يعني آدم.»
30
ودخلت كتب الأدب نصائح يهودية تروى عن أنبيائهم وصلحائهم، كالذي روي أن شعياء قال لبني إسرائيل: «إن الدابة تزداد على كثرة الرياضة لينا، وقلوبكم لا تزداد على كثرة الموعظة إلا قسوة، إن الجسد إذا صلح كفاه القليل من الطعام، وإن القلب إذا صلح كفاه قليل من الحكمة! كم من سراج أطفأته الريح، وكم من عابد أفسده العجب! يا بني إسرائيل اسمعوا قولي، فإن قائل الحكمة وسامعها شريكان، وأولاهما بها من حققها بعمله.»
31
وقد ذهب بعض الباحثين (كالأستاذ شوفان) إلى أن بعض قصص ألف ليلة وليلة من أصل يهودي.
وعلى كل حال، فقد كانت هناك ثقافة يهودية، بعضها صحيح علميا وبعضها غير صحيح. بعضها أخذ عن أهل العلم بالكتاب، وبعضها أخذ عن عوام اليهود، وهذا وذاك نفذ منه إلى المسلمين شيء غير قليل، وتجادل اليهود والمسلمون كل يدعو إلى دينه ويقيم الحجة على صحته، وقد حكت لنا الكتب الكثير من هذا الجدل، من أقدمها ما روي عن أوس من بني قريظة؛ فقد أسلمت امرأته ودعته أن يسلم فأبى وقال:
دعتني إلى الإسلام يوم لقيتها
فقلت لها لا بل تعالي تهودي
فنحن على توراة موسى ودينه
ونعم لعمري الدين دين محمد
كلانا يرى أن الرشادة دينه
ومن يهد أبواب المراشد يرشد
وكالذي حكى الصفدي في «الغيث» من مناقشة بين يهودي ومسلم يقول بالجبر.
32
كل هذه المناقشات كانت تضطر كل جانب أن يكون على علم بدين مناظره، يستمد منه حجته، ويدفع به حجة خصمه، فكان ذلك من أسباب انتشار الثقافتين.
النصرانية
كذلك ورد في القرآن الكريم آيات تشير إلى الإنجيل، وتعده كتابا من كتب الله السماوية
ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل
إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل
وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ... إلخ. وكان موقف المسلمين إزاء الإنجيل واختلافهم في صحته وتحريفه كاختلافهم في التوراة، بل ذهب ابن حزم وابن تيمية، وغيرهما في عدم الاعتراف بالإنجيل الذي بين أيدينا إلى أكثر مما ذهبوا إليه في التوراة.
33
على كل حال كان للنصرانية ثقافة دينية أهمها الإنجيل، وما أحاط به من شروح، وما زاد عليه من قصص وأخبار. وقد تسرب ذلك كله إلى المسلمين من طرق؛ أهمها نصارى العرب. وقد كانت النصرانية قد انتشرت بين بعض قبائلهم، ولا سيما في قبيلة تغلب ونجران، وكذلك من طريق من أسلم من النصارى. ونلمس هذا الأثر في كثير من النواحي، فأول ذلك تفسير القرآن.
ذلك أن القرآن الكريم اشتمل على مواضع وردت في الإنجيل، كقصة عيسى عليه السلام، وأسلوب القرآن - كما ذكرنا - أسلوب موجز، يقتصر على موضع العظة، فجاء المفسرون ينقلون عن مسلمة اليهود والنصارى شروحا لهذه الآيات، إن شئت فاقرأ تفسير سورة مريم في الطبري تجده ينقل شروحا كثيرة من الإنجيل وتفسيراته، وما وضع حوله، ينقل ذلك عن وهب بن منبه وعن أسباط وعن ابن جريج، وعن زكريا بن يحيى بن زائدة. وانظر كذلك تفسيره لقوله تعالى في سورة آل عمران في تعداد معجزات عيسى عليه السلام:
ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله ... الآية، فيأتي ابن جريج فيفسر الطير بالخفاش، ويروي الطبري عن ابن حميد عن سلمة عن ابن إسحاق قصة في كيفية ذلك إلى آخره.
34
وتضخم ذلك بعد حتى رأينا القصص الطويلة عن زكريا ويحيى بن زكريا، ومريم وعيسى عليهم السلام والحواريين، وحديث المائدة في كتاب قصص الأنبياء للثعلبي،
35
وأمثاله.
كذلك أدخل مسلمة النصارى أقوالا من الإنجيل دست على أنها أحاديث لرسول الله
صلى الله عليه وسلم .
وقد مثل الأستاذ جولدزيهير لما دخل عن النصرانية في الحديث بحديث: «ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه.»
وحديث قال لنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «إنكم سترون بعدي أثرة، وأمورا تنكرونها. قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: «أدوا إليهم حقهم، وسلوا الله حقكم.»
فقد أخذ مما ورد في إنجيل متى: «أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله»، وكذلك الإمعان في تفضيل الفقراء على الأغنياء، فإن هذا نظر نصراني. وقد ورد في الحديث: «يدخل فقراء أمتي الجنة قبل أغنيائها بخمسمائة عام.»
ومثل حديث: «كونوا بلها كالحمام.»
فقد ورد مثله في إنجيل متى: «ها أنا أرسلكم في وسط ذئاب، فكونوا حكماء كالحيات، وبسطاء كالحمام.» وكذلك حديث أبي داود عن أبي الدرداء، قال سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: «من اشتكى منكم شيئا أو اشتكاه أخ له فليقل: ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض، كما رحمتك في الأرض، اغفر لنا حوبنا وخطايانا أنت رب الطيبين، أنزل رحمة من رحمتك، وشفاء من شفائك، على هذا الوجع، فيبرؤ.»
فإنه دعاء نصراني مشهور.
ونحن مع موافقتنا للأستاذ جولدزيهير في أن بعض الأقوال النصرانية دخلت في الحديث، ونسبت إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
لا نوافقه على كل ما قال، ولا على نسبة كل الأحاديث التي ذكرها إلى النصرانية، فمثلا نظرة تبجيل الفقر وتعظيمه ليست نصرانية بحتة، فكل الديانات الإلهية (من يهودية ونصرانية وإسلام) ترى هذا النظر، وطبيعي لها أن تراه، فمن أركان الأديان اتخاذ المقياس العمل الصالح لا المال، وهي تهاجم ما ألف الناس من تقديرهم الإنسان بغناه، فالدين يرى أن العمل الصالح له قيمته الذاتية، سواء أتى من غني أو فقير، بل طبيعي أن يكون بعض الأعمال من الفقير أفضل كالأعمال الخيرية المالية؛ إذ تضحية الفقير أعظم، فعدل أن يكون ثوابها أعظم، ومحمد رسول الله عف عن الغنى ولم يشأ أن يكون غنيا، وكان في إمكانه أن يكونه، ووردت في القرآن نفسه آيات تمجد الفقراء الصالحين:
للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم
للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض
فاتحاد الإسلام والنصرانية في مدح الفقر لا يدل على أخذ الإسلام ذلك من النصرانية، قالوا: إن العربي كان يفضل الغنى على الفقر، فقد قال عروة بن الورد:
دعيني للغنى أسعى فإني
رأيت الناس شرهم الفقير
ولكن قد قال عربي غيره، وهو قيس بن الحطيم:
غني النفس ماعمرت غني
وفقر النفس ما عمرت شقاء
وليس في هذا ولا ذاك دليل على قولهم، فكلامنا في الإسلام، والإسلام حكمه ما بينا
فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره
ما أغنى عنه ماله وما كسب
ولكن من غير شك رويت في النصرانية واليهودية أخبار كثيرة، وقصص عن الفقراء وفضلهم، أدخلها المسلمون في كتبهم، كالذي روي في الإحياء «أن المسيح (صلى الله عليه وسلم) مر في سياحته برجل نائم ملتف في عباءة، فأيقظه، وقال: يا نائم قم فاذكر الله تعالى، فقال: ما تريد مني؟ إني قد تركت الدنيا لأهلها. فقال له: فنم إذن». ومر موسى (عليه السلام) برجل نائم على التراب وتحت رأسه لبنة، ووجهه ولحيته في التراب، وهو متزر بعباءة، فقال: يارب عبدك هذا في الدنيا ضائع! فأوحى الله تعالى إليه: يا موسى أما علمت أني إذا نظرت إلى عبد بوجهي كله زويت عنه الدنيا كلها، وقال المسيح (صلى الله عليه وسلم): بشدة يدخل الغني الجنة، وقال موسى (عليه السلام) «يارب من أحباؤك من خلقك حتى أحبهم لأجلك؟ فقال كل فقير فقير.»
36
ويظهر لنا أن هذه الأخبار وأمثالها لونت حياة المسلمين بلون خاص؛ فقد كان الإسلام في أصله يدعو إلى العمل في الحياة، ولا يحب الرهبانية. ويقدر العمل ممن عمل، غنيا كان أو فقيرا. ثم رأينا الأخبار التي وردت بعد من مثل ما حكي في الإحياء تحث على نزعة جديدة، هي الهرب من الغنى، وحب العبادة، وإن ترك صاحبها العمل في الدنيا، وهي نزعة أشبه ما تكون بالرهبانية لم نعرفها كثيرا في الأيام الأولى من تاريخ الإسلام.
روي أن رفقة من الأشعريين كانوا في سفر، فلما قدموا قالوا: ما رأينا يا رسول الله بعدك أفضل من فلان كان يصوم النهار، فإذا نزلنا قام من الليل حتى نرتحل. قال: فمن كان يمهن له ويكفله؟ قالا: كلنا، قال: كلكم أفضل منه.
وفي التاريخ عني مؤرخو المسلمين بتاريخ النصارى، وكان من أولهم في ذلك اليعقوبي؛ فقد ذكر في تاريخه مقتبسات من الإنجيل. وفي تاريخ الطبري طرف من تاريخ النصارى، ففيه خبر طائفة من الحواريين وخبر جرجيس وهو كما يقول الطبري: عبد صالح من أهل فلسطين، أدرك بقايا من حواريي عيسى، وأطال في قصته. وفيه خبر أصحاب الكهف ... إلخ، وكذلك فعل المسعودي. وقد خلطوا فيما كتبوه بين الأخبار الصحيحة، والأقاصيص المتداولة على الألسنة، كما فعلوا فيما نقلوا من تاريخ اليهود.
وغير هذا الذي ذكرنا كانت المناقشات الدينية بين المسلمين والنصارى؛ فقد فتح المسلمون البلاد كالشام والعراق، وكانت مملوءة بالنصارى، فلما هدأت الحرب بالسيف بدأت الخصومة باللسان. كان المسلمون يدعون إلى الإسلام، فيضطرهم ذلك إلى ذكر الحجج والبراهين على صحة هذا الدين، فكان رؤساء النصرانية يقابلون الحجج بحجج، فنشأ من هذا جدل كثير، وكثر ذلك في الدولة الأموية. وكان أكثر ما يكون في الشام؛ إذ دمشق عاصمة الخلافة، وفي الشام كثير من النصارى؛ لأنها كانت في يد الرومان النصارى. ولأن قصور الخلفاء الأمويين في دمشق كان فيها نصارى يتولون مناصب كبيرة، من ذلك ما حكي لنا عن يحيى الدمشقي؛ فقد كان نصرانيا شديد التمسك بنصرانيته، وعمل هو وأبوه في قصر عبد الملك بن مروان، وألف يحيى كتابا للنصارى يدفع به دعوة المسلمين؛ من أمثال ما جاء فيه: «إذا قال لك العربي: ما تقول في المسيح؟ فقل له: إنه كلمة الله، ثم ليسأل النصراني المسلم: بم سمي المسيح في القرآن؟ وليرفض أن يتكلم بشيء حتى يجيبه المسلم؛ فإنه سيضطر إلى أن يقول: «كلمة الله ألقاها إلى مريم وروح منه.» فإن أجاب بذلك فاسأله: هل كلمة الله وروحه مخلوقة أو غير مخلوقة؟ فإن قال مخلوقة فليرد عليه بأن الله إذن كان ولم تكن له كلمة ولا روح، قال يحيى: فإن قلت ذلك فستفحم العربي؛ لأن من يرى هذا الرأي زنديق في نظر المسلمين. والمسلمون ردوا على هذا الاعتراض بأن المراد بالكلمة أنه وجد بكلمة الله وأمره، من غير واسطة قال:
إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون
وأما الروح فتستعمل بمعنى الرحمة، كقوله تعالى
وأيدهم بروح منه ، وأن عيسى لما لم يتكون من نطفة الأب، وإنما تكون من نفخة الملك وصف بأنه روح، وقد سمى الله جبريل روحا، ولم يقل أحد فيه ما قالوا في عيسى، وقال الله في آدم:
ونفخت فيه من روحي
كما قال في عيسى، وسمى القرآن روحا؛ فقال
وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ... إلخ. قالوا: وحينئذ لا يرد اعتراض يحيى الدمشقي؛ لأنه اعتراض وارد على فهم ظاهر لفظ «كلمة» و«روح». على كل حال كان هناك جدال بين المسلمين والنصارى، وكان ذلك يضطر كلا لقراءة كتب الآخر، يستعين بها على تأليف حججه.
وفي الفرق الإسلامية نجد ظلا للتعاليم النصرانية؛ فقد تجادلت الكنائس النصرانية مثلا في خلود العذاب، وذهب آباء الكنيسة اليونانية إلى إنكار أبدية عذاب النار،
37
فرأينا جهم بن صفوان يقول: إن الجنة والنار يفنيان ويفنى أهلهما.
38
ويذهب الأستاذ فون كريمر «إلى أن فرقة المعتزلة نشأت من النصرانية؛ لأن آباء الكنائس كانوا يتجادلون في حرية الإرادة، وأن الإنسان مجبور ومختار. وبعبارة أخرى في مسألة القدر، كما كانوا يتجادلون في صفات الله. وقد تسربت هذه العقائد إلى المعتزلة من طريق النصارى بعد فتح المسلمين للشام. ومن أشهر من احتك بالمسلمين في ذلك العصر الأموي يحيى الدمشقي، وثيودور أبو كارا
Abucara
وقد تكلم يحيى في أن الله مصدر الخير، وقال: إن الخير يصدر من الله كما يصدر الضوء من الشمس، فتكلم المعتزلة الأولون في القدر وفي صفات الله أخذا عن النصارى.
ولكني لا أرى هذا الرأي، بل أرى أن مسألة القدر صدرت عن المسلمين أنفسهم، وكان سبب ذلك أن القرآن الكريم وردت فيه آيات ظاهرها الجبر مثل قوله تعالى:
ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون
أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار
ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة
وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى
وبجانب هذا آيات ظاهرة الاختيار، وأن الإنسان مسئول عن عمله؛ مثل:
وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله
فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر
ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما * ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما ، ووردت أحاديث كثيرة تتعرض للقدر، وكان ذلك قبل فتح المسلمين للشام والعراق، مثل ما روي عن جابر قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.» عن علي قال: «كنا في جنازة ببقيع الغرقد، فأتانا رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وبيده مخصرة فجعل ينكت بها الأرض، ثم قال: «ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة.» فقالوا: يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا؟ فقال: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاء فسيصير إلى عمل الشقاء.» ثم قرأ:
فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى
39
وروي أن عليا لما انصرف من صفين قام إليه شيخ، فقال أخبرنا عن سيرنا إلى الشام أكان بقضاء وقدر؟» ... إلخ، إلى كثير من أمثال ذلك.
فنرى من هذا أن فكرة القضاء والقدر كانت عند المسلمين قديما، ويظهر أنها فكرة تحدث حول كل دين تقريبا، فقد كانت في اليهودية والنصرانية والمجوسية، فلم لما ظهرت في الإسلام، وكان شأنها شأن الديانات الأخرى؛ عدت نصرانية الأصل؟ بل تاريخ المعتزلة يدلنا على أن جدالهم مع مجوس الفرس كان أكثر من جدالهم مع اليهود والنصارى، وأن كثيرا من أصول مذهبهم وضع للرد على الفرس لا على النصارى، وأكبر ردهم كان على الجهمية أصحاب جهم بن صفوان الخراساني الأصل، لهذا نرى أن المعتزلة كانت نشأتهم الأولى إسلامية بحتة، وإن تأثروا بغيرهم من أهل الديانات الأخرى؛ فمن ناحية إن هذه الديانات كانت تقترح على المعتزلة موضع النزال، فإذا قال المجوسي الذي دخل الإسلام بالتجسيم، أو قال بالجبر نازلهما المعتزلة، ولكنهم يستندون في حججهم على الإسلام والعقل، أما بعد عصرهم الأول فهذا موضوع آخر سنتناوله عند الكلام في المعتزلة في العصر العباسي إن شاء الله. •••
واستمر الجدل بين المسلمين والنصارى في عصرنا العباسي، وقد حكت لنا الكتب منها الشيء الكثير كرسالة الجاحظ «في الرد على النصارى»،
40
فهي تصور لنا ما كان يثيره النصارى واليهود من شبهات، وما كان يدفع به المسلمون تلك الشبهات. كما تذكر لنا طرفا من أخبار اليهود والنصارى، والسبب الذي من أجله كانت العداوة بين المسلمين والنصارى أقل من العداوة بين المسلمين واليهود ... إلخ. ونقل إلينا أن عبد الله بن إسماعيل الهاشمي كتب رسالة إلى عبد المسيح إسحاق الكندي يدعوه بها إلى الإسلام، فرد عليه عبد المسيح يدعوه إلى النصرانية، وكان ذلك في عهد المأمون.
41
وحكى الجاحظ في الحيوان جدالا كان بينه وبين النصراني في القرابين والذبائح،
42
إلى كثير من أمثال ذلك. وكل هذا الجدل يدل على معرفة اليهود والنصارى لكتب المسلمين يأخذون منها حججهم، ومعرفة المسلمين لكتب اليهود والنصارى كذلك.
وفي الأدب تسرب بعض ما للنصرانية إلى الأدب العربي من وجوه عدة: (1)
أن بعض الشعراء كانوا نصارى، فأدخلوا في شعرهم العربي شيئا من النصرانية، وكان أوضح مثل لذلك في العصر الأموي «الأخطل»؛ فقد ورد في شعره أثر من النصرانية مثل قوله:
ولقد حلفت برب موسى جاهدا
والبيت ذي الحرمات والأستار
وبكل مهتبل عليه مسوحه
دون السماء مسبح جأر
لأحبرن لابن الخليفة مدحه
ولأقذفن بها إلى الأمصار
ويقول: «والصليب والقربان لأتخلصن إلى كليب خاصة دون مضر، بما يلبسهم خزيه ويلزمهم عاره.»
43
وروى ابن الأثير أن الأخطل لما قال:
لما رأونا والصليب طالعا
ومار سرجيس وسما ناقعا
والخيل لا تحمل إلا دارعا
وأبصروا راياتنا لوامعا .. إلخ.
قال جرير:
أفبالصليب ومار سرجس تتقي
شهباء ذات مناكب جمهورا!؟
وقال أيضا:
يستنصرون بمار سرجس وابنه
بعد الصليب، وما لهم من ناصر
ولكن أثر النصرانية في شعره قليل، كما لاحظ الأستاذ «لامانس»، بل هو متأثر في إيمانه بالإسلام أكثر من تأثيره بالنصرانية، كقوله:
إني حلفت برب الراقصات وما
أضحى بمكة من حجب وأستار
وبالهدي إذا احمرت مذارعها
في يوم نسك وتشريق وتنحار
وما بزمزم من شمط محلقة
وما بيثرب من عون وأبكار
44
وقوله:
وقد حلفت يمينا غير كاذبة
بالله رب ستور البيت ذي الحجب
وكل موف بنذر كان يحمله
مضرج بدماء البدن مختضب
كذلك هو في حياته مضطرب بين عادات من حوله من النصارى والمسلمين؛ فهو يشرب الخمر ويعلق الصليب، وهو يطلق امرأته ويتزوج أخرى بل ويتسرى!
وفي العصر العباسي لم يشتهر كثير من النصارى بالشعر العربي، وعرف منهم أبو قابوس. وقال في العمدة: «كان أبو قابوس الشاعر رجلا نصرانيا من أهل الحيرة.» وكان منقطعا إلى البرامكة يمدحهم ويمنحونه، روي من شعره قليل، من ذلك أنه استمنح عفر بن يحيى البرمكي ثوبا يلبسه يوم العيد في الكنيسة، فقال من قصيدة:
أبا الفضل لو أبصرتنا يوم عيدنا
رأيت مباهاة لنا في الكنائس
فلا بد لي من جبة من جبابكم
طيلسان من خيار الطيالس
ولكن على العموم شعراؤهم في عصرنا قليلون، وليس لهم كبير أثر في الشعر العربي، ولم يكن لهم مثل الأخطل، أو ما يقرب منه.
45 (2)
كان أكبر من ذلك أثرا ما نقل من المواعظ عن الرهبان في الأديار، وما نقل عن الكتب النصرانية، كالذي حكى ابن قتيبة: «قال بعضهم أتيت الشام فمررت بدير حرملة وبه راهب كأن عينيه عدلا مزاد، فقلت: ما يبكيك؟ فقال: يا مسلم، أبكي على ما فرطت فيه من عمري، وعلى يوم مضى من أجلي لم يحسن فيه عملي! قال: ثم مررت بعد ذلك فسألت عنه فقالوا: أسلم وغزا فقتل في بلاد الروم.»
46
ويقول ابن قتيبة أيضا قرأت في الإنجيل: «لا تجعلوا كنوزكم في الأرض حيث يفسدها السوس والدود، وحيث ينقب السراق، ولكن اجعلوا كنوزكم في السماء، فإنه حيث تكون كنوزكم تكون قلوبكم ...»إلخ.
47
وفي العقد الفريد: «قال عيسى (عليه السلام) للحواريين: «لا تنظروا في أعمال الناس كأنكم أرباب، وانظروا في أعمالكم كأنكم عبيد، فإنما الناس رجلان، مبتلى ومعافى، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية.»
48 «ولقي رجل راهبا فقال: يا راهب، صف لنا الدنيا، فقال: الدنيا تخلق الأبدان وتجدد الآمال وتباعد الأمنية وتقرب المنية.»
49
إلى كثير من أمثال ذلك.
ومن غريب الأمر أن هذه الأديار كانت منبعا لشيئين متناقضين أشد التناقض؛ كانت منبعا لزهد وورع وبعد عن الدنيا وشئونها، ومحطا لبعض زهاد المسلمين، يروون عن الرهبان أقوالهم في الهرب من اللذات كالذي روينا، وكانت كذلك مناح الخليعين من الشعراء والأدباء يخرجون إليها، ويتشببون بفتيانها وفتياتها، ويقولون في ذلك القول الخليع والشعر الجميل؛ ذلك أن الأديار كانت غالبا في أجمل المواضع، وأحسنها هواء وأجملها منظرا، تحيط بها أنواع البساتين، وتجمل فيها الأزهار والرياحين، قال البحتري:
ما تقضى لبانه عند لبنى
والمعنى بالغانيات معنى
نزلوا ربوة العراق ارتيادا
أي أرض أشف دارا وأسنى؟
بين دير العاقول مرتبع أشرف
محتله إلى دير قنى
حيث بات الزيتون من فوقه
النخل عليه ورق الحمام تغنى
وشاع عند الشعراء ما فيها من خمر معتق، وشراب جيد مصفى.
إن عجزا كما نكون وغبنا
أن نرى صاحيين في دير قنى
حبذا روضه المدبج ليلا
وهواه ذاك الممسك ردنا
قد جرى السلسبيل بالمسك فيها
فحوته الدنان، دنا فدنا
ويظهر أن الخمارين استغلوا شهرة الأديار بالشراب، فأنشئوا حولها الحانات. قال ابن فضل الله العمري: «وكانت حول دير العذارى حانات للخمارين وبساتين ومتنزهات.»
50
وكانت تقام لبعض الأديار أعياد سنوية. قال الخالدي في دير الكلب: «وله عيد في وقت من السنة يخرج إليه خلق من النصارى نساء ورجال للإقامة عنده، وخلق من المسلمين للنظر إليه والنزهة فيه، ويجتمع إليه أهل الرفث والمجان، وتسمع به الأغاني وأنواع الملاهي، وتذبح به الذبائح وتشرب الخمور.»
51
اغتنم المجان من الشعراء هذا كله، فأنشئوا حول الأديار أدبا غزيرا، وشعرا كثيرا، هو من الناحية الفنية بديع ممتع، مثل قول ابن المعتز:
يا ليالي بالمطيرة والكر
خ ودير السوسي بالله عودي
كنت عندي أنموذجات من الجنة
لكنها بغير خلود
أشرب الراح وهي تشرب عقلي
وعلى ذاك كان قتل الوليد
وقول آخر:
ما ترى الدير، ما ترى أسفل الدير
وقد صار وردة كالدهان؟
لو رآه النعمان شق عليه
ما يرى من شقائق النعمان
وآخر:
فتنتنا صورة في بيعة
فتن الله الذي صورها
زادها الناقش في تحسينها
فضل حسن إنه نضرها
وجهها لا شك عندي فتنة
وكذا هي عند من أبصرها
أنا للقس عليها حاسد
ليت غيري عبثا كسرها
وسرت هذه العادة في كل الأقطار، فتجد شعراء العراق والشام ومصر يتشببون بالأديار ومن فيها وما فيها، وتقرأ كتاب الديارات للشابشتي، ومسالك الأبصار لابن فضل الله العمري، فتعجب من كثرة ما قيل من الشعر فيها وسكانها. وتراهم قد سلكوا في ذلك كل مسلك، وتفننوا كل فن، وهم بين مستهتر ومحتشم وطريف مؤدب وخليع ماجن. وهكذا كانت الأديار مصدرا لنغمتين كان الناس يسمعونهما كثيرا في ذلك العصر؛ نغمة حزينة زاهدة، تعدو إلى الفرار من الحياة وارتقاب الموت، ونغمة مرحة لاهية، تدعو إلى احتساء الكأس إلى آخر قطرة من قطراته، كل يوقع على الوتر الذي يهواه، وكل يغني على ليلاه. •••
كذلك نفذ إلى المسلمين بعض عادات اليهود والنصارى الدينية، فقد اتخذ بعض المسلمين أعياد النصارى عيدا، فيوم السعانين
52
عرف في العصر العباسي وما بعده، وقالت فيه الشعراء شعرا كثيرا، من ذلك ما يقوله عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع:
يا شادنا رام إذ مر
في السعانين قتلي
يقول لي كيف أصبحت
كيف يصبح مثلي؟!
ويقول:
يا ليلة ليس لها صبح
وموعدا ليس له نجح
من شادن مر على وعده ال
ميلاد والسلاق والذبح
53
وفي السعانين لو أني به
وكان أقصى الموعد الفصح
فالله أستعدي على ظالم
لم يغن عنه الجود والشح
ويقول:
إن في القلب الظبي كلوم
فدع اللوم فإن اللوم لوم
حبذا يوم السعانين وما
نلت فيه من نعيم لو يدوم!
إن تكن أعظمت أن همت به
فالذي تركب من عذلي عظيم
لم أكن أول من سن الهوى
فدع اللوم فذا داء قديم
54
ويقول:
إن كنت ذا طب فداويني
ولا تلم فاللوم يغريني
يا نظرة أبقت جوى قاتلا
من شادن يوم السعانين .. إلخ.
ويرى ابن تيمية أن اتخاذ المسلمين القبور مساجد كان تقليدا لليهود والنصارى، وروي في ذلك الأحاديث الكثيرة؛ مثل: «إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد.» ويقول الشافعي: «وأكره أن يعظم مخلوق حتى يجعل قبره مسجدا مخافة الفتنة عليه وعلى من بعده من الناس.»
55
وعدد كثيرا من البدع التي أدخلت على زيارة القبور من أبنية الأضرحة، وإيقاد المصابيح، والتوجه بالدعاء نحو القبور، وختم ذلك بقوله: «وكل هذه الأشياء من البدع التي تضارع دين النصارى.»
56
وعلى الجملة، فنظرة إلى هذا كله ترينا أنه قد تسرب إلى المسلمين في العصر العباسي شيء غير قليل من اليهودية والنصرانية في التفسير والحديث، والمذاهب الدينية والعادات والتقاليد، وأنهما كانتا عنصرين من عناصر الثقافة العامة في ذلك العصر.
الإسلام
ليس من غرضنا - هنا - أن نبين تعاليم الإسلام وما دعا إليه، وما أتى به من أصول وفروع، فموضع ذلك قد مر في فجر الإسلام، وإنما غرضنا أن نبين تاريخ الإسلام في العصر العباسي، فهو بموضوعنا أليق.
ليس من شك أن العباسيين لم يضيفوا كثيرا من البلدان والأقطار إلى رقعة المملكة الإسلامية، فنحن إذا قارناها في ذلك بالدولة الأموية رأينا العهد الأموي أكثر فتحا، وأعظم نشرا للإسلام؛ ففيه فتح السند وبخارى وسمرقند إلى كاشغر، في حدود الصين، وفتحت الأندلس، وكان الفاتحون كما رأينا فيهم الدعاة إلى الدين، وفيهم العلماء، فلم يكن الفتح فتحا سياسيا حربيا فقط، بل كان أيضا نشرا للدعوة الإسلامية، وتعليما لأصول الإسلام وفروعه، ووضعا للنظم الإسلامية وتعليما للغة العربية وما إليها، وتبع ذلك دخول عدد كبير من أهل البلاد المفتوحة في الإسلام.
57
وكان أكبرهم العباسيين أن يبقوا على التراث الذي ورثوه عن الأمويين، ويحافظوا على وحدته، فنجحوا بعض النجاح أولا وفشلوا أخيرا، وعلى العموم لم يزيدوا شيئا يذكر من الأقطار الأجنبية على المملكة الإسلامية.
ولكن - مع هذا - كان للعباسيين أثر كبير في دخول عدد عديد في الإسلام من اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم، مما فتح في عهد الخلفاء الراشدين والأمويين.
وفي نظري أن العباسيين من حيث هم أصحاب السلطان وأولياء الأمر والقابضون على زمام الدولة بذلوا في هذا الباب جهدا أكثر من الخلفاء الأمويين إذا استثنينا عمر بن عبد العزيز؛ فقد كان نشر الدعوة في العهد الأموي عمل قواد وعلماء وأفراد متدينين أكثر منه عمل حكومة، ولم يكن للخلفاء الأمويين - غالبا - مظهر ديني من هذا القبيل. أما الخلفاء العباسيون فقد صبغوا صبغة دينية ظاهرة، ونظر إليهم كأنهم حماة الإسلام. وكان أبو جعفر المنصور أكبر من أحاط الخلافة بالإجلال الديني، وقوى من حرمة البيت العباسي، لا من ناحية القوة المادية - فحسب - بل من ناحية القوة الروحية كذلك. وكان من أثر هذا أن الخلفاء العباسيين لما ضعف نفوذهم المادي، وفقدوا السلطان على الرعية، ولم يك شيء من القوة في أيديهم؛ ظلت هذه السلطة الروحية فيهم، يستغلها القواد والأمراء والوزراء وأصحاب السلطان المادي، فيستجلبون رضى العامة بإعلان رضى الخليفة عنهم وإمدادهم الروحي لهم، ومن مظاهر ذلك في هذا العهد أن رأينا البيعة للخلفاء تحاط بأنواع من المراسم والشعائر لم تكن معروفة، وتؤكد البيعة في الحرم، ويعلى شأن إجماع أولي الحل والعقد، ونحو ذلك.
صبغة الخلفاء العباسيين بهذه الصبغة جعلتهم يشرفون على الدين من نواح مختلفة، ويتدخلون في المسائل الدينية بأكثر مما كان الأمويون. من ذلك أنا نرى المهدي كما سبق يتعقب الزنادقة، ويعين من يلي أمرهم، ويعاقب من ظهر منهم، ويحث العلماء على وضع الكتب في الرد عليهم، ويسير من بعده من الخلفاء سيرته، وذلك ما لم نعهده من قبل المهدي. ونرى الرشيد يتصل بالقضاة والعلماء اتصالا لم نعرفه في العهد الأموي، فلا نجد - مثلا - قاضيا كان من الخليفة الأموي من القرب والاتصال؛ ما كان أبو يوسف من الرشيد.
ويصور أبو يوسف نظر الناس إلى الخليفة في عصره، فيقول للرشيد في أول كتابه الخراج: «وإن الله بمنه ورحمته وعفوه جعل ولاة الأمر خلفاء في أرضه، وجعل لهم نورا يضيء للرعية ما أظلم عليهم من الأمور فيما ينهم، ويبين ما اشتبه من الحقوق عليهم.» وقعد إبراهيم بن السندي أمام المأمون على ركبتيه، فقال له المأمون تمكن في قعودك، فقال إبراهيم: والله لا أضع قدر الخلافة، ولا أجلس إلا جلوس العبد بين يدي مولاه!
58
ويقول البحتري للمتوكل ويذكر خروجه يوم عيد الفطر:
أظهرت عز الملك فيه بجحفل
لجب يحاط الدين فيه وينصر
خلنا الجبال تسير فيه وقد غدت
عدد يسير بها العديد الأكثر
والخيل تصهل والفوارس تدعي
والبيض تلمع والأسنة تزهر
والأرض خاشعة تميل بثقلها
والجو معتكر الجوانب أغبر
حتى طلعت بضوء وجهك فانجلت
تلك الدجى وانجاب ذاك العثير
وافتن فيك الناظرون فإصبع
يومى إليك بها وعين تنظر
يحدون رؤيتك التي فازوا بها
من أنعم الله التي لا تكفر
ذكروا بطلعتك النبي فهللوا
لما طلعت من الصفوف وكبروا
حتى انتهيت إلى المصلى لابسا
نور الهدى ببدر عليك ويظهر
ومشيت مشية خاشع متواضع
لله لا يزهو ولا يتكبر
فلو أن مشتاقا تكلف فوق ما
في وسعه لمشى إليك المنبر
أبديت من فصل الخطاب بحكمة
تنبي عن الحق المبين وتخبر
ووقفت في برد النبي مذكرا
بالله تنذر تارة وتبشر
حتى لقد علم الجهول وأخلصت
نفس المروي واهتدى المتحير
صلوا وراءك آخذين بعصمة
من ربهم وبذمة لا تخفر
وكان من أثر ذلك نشاط الخلفاء في نشر الدعوة على الإسلام، مع ما كان من حمية الناس وحماستهم للدعوة. ولذلك رأينا كثيرا من أهل الملل الأخرى يدخلون في الإسلام أفواجا، ولم يكن السبب لدخولهم واحدا، فهناك - من غير شك - أسباب لذلك متعددة.
منهم من كان يسلم اقتناعا بالإسلام، وإيمانا ببساطة عقيدته ويسرها وسهولة فهمها، فيكفي أن يقول الرجل: «لا إله إلا الله محمد رسول الله»؛ ليعد مسلما من غير مراسم ولا طقوس، وفي أي مكان وعلى يد أي إنسان.
وساعد على ذلك ما لاحظه الأستاذ أرنولد «من أن المذاهب النصرانية من يعاقبة ونساطرة وملكانية وغيرها، كان بينها من العداء واضطهاد بعضها بعضا أشد مما كان بين أهل دين ودين آخر، فليس عجيبا أن يهرب آلاف من هذا الاضطهاد والعذاب، ويلجئوا إلى عقيدة سهلة هي عقيدة الوحدانية.»
59
وقد عمل - بجد - في نشر الدعوة في ذلك العصر المتكلمون من المسلمين وعلى رأسهم المعتزلة؛ ذلك أن هؤلاء المتكلمين هم الذين كانوا يبحثون في الإسلام، ويعللون آراءه وتعاليمه من طريق العقل، على حين أن المحدثين والمفسرين وأمثالهم كانوا يخدمون الإسلام من طريق النقل، فاضطر المتكلمون تمشيا مع العقل أن يتسلحوا بكل ما يعينهم في سبيلهم، فاستعانوا بالمنطق اليوناني يصوغون في قوالبه قضاياهم، وعرفوا آداب الجدل والمناظرة وتقيدوا بقوانينها، وقرءوا بعض كتب الفلسفة اليونانية، فيذكر المرتضى «أن النظام كان قد نظر في شيء من كتب الفلاسفة، فلما ورد البصرة كان يرى أنه قد أورد من لطيف الكلام ما لم يسبق علمه إلى أبي الهذيل العلاف. قال فناظرت أبا الهذيل في ذلك، فخيل إلي أنه لم يكن متشاغلا قط إلا به لتصرفه فيه وحذقه في المناظرة فيه.»
60
ويقول في موضع آخر: «إن جعفر بن يحيى البرمكي ذكر أرسططاليس، فقال النظام: قد نقضت عليه كتابه، فقال: جعفر كيف وأنت لا تحسن أن تقرأه؟ فقال: أيما أحب إليك أن أقرأه من أوله إلى آخره، أم من آخره إلى أوله؟ ثم اندفع يذكر شيئا فشيئا وينقضه عليه فتعجب منه جعفر.»
61
ثم نظروا في كتب الديانات الأخرى وتبحروا فيها، فيقول المرتضى أيضا: «إن النظام كان يحفظ القرآن والإنجيل وتفسيرهما.»
62
ووصف رجل واصل بن عطاء فقال: «ليس أحد أعلم بكلام غالية الشيعة ومارقة الخوارج ، وكلام الزنادقة والدهرية والمرجئة وسائر المخالفين والرد عليهم منه.»
63
وبعد أن أعد المتكلمون (وخاصة المعتزلة) أنفسهم هذا الإعداد نزلوا في الميدان وقاموا بعملين؛ أحدهما: أنهم نازلوا الطوائف الأخرى الإسلامية المخالفة لهم يجادلونهم ويردون عليهم، ويدعونهم إلى عقائدهم الخاصة؛ فالمعتزلة تحارب المجبرة، والمعتزلة تنازل الرافضة، تجادلوا جميعا في الجبر والاختيار، وفي صفات الله وفي التجسيم، وفي الثواب والعقاب، وروت لنا الكتب الشيء الكثير من هذا الجدال، وليس هذا الوضع محله. وثانيهما: منازلتهم لأهل الديانات الأخرى من مجوس ويهود ونصارى، ودعوتهم إلى الإسلام، وكانت هذه الحركة عنيفة في عصرنا، على أشد ما يكون من العنف؛ مانوية يدعون إلى دينهم ويظهرون محاسنه، ويهاجمون الإسلام ويأتون بالحجج، ويهود ونصارى كذلك. ولم يكن المحدثون وأمثالهم يستطيعون أن يقوموا بمناهضتهم، إنما الذين استطاعوا ذلك وانتدبوا أنفسهم للقيام به هم المتكلمون، حكى المرتضى «أن ملك السند طلب إلى الرشيد أن يبعث إليه من يناظره في الدين فبعث الرشيد إليه قاضيا لا متكلما؛ لأن الرشيد كان قد منع الجدال في الدين وحبس علماء الكلام، فانتدب ملك السند سمنيا ليجادل القاضي فسأل السمني القاضي: أخبرني عن معبودك هل هو القادر؟ قال: نعم. قال: أفهو قادر على أن يخلق مثله؟ فقال القاضي: هذه المسألة من علم الكلام، وهو بدعة وأصحابنا ينكرونه. فقال السمني للملك: قد كنت أعلمتك دينهم. وكتب ملك السند بذلك إلى الرشيد فقامت قيامته وضاق صدره، وقال: أليس لهذا الدين من يناضل عنه؟! قالوا: بلى يا أمير المؤمنين، هم الذين نهيتهم عن الجدال في الدين، وجماعة منهم في الحبس. فقال: أحضروهم فلما حضروا قال ما تقولون في هذه المسألة؟ فقال صبي من بينهم: هذا السؤال محال؛ لأن المخلوق لا يكون إلا محدثا، والمحدث لا يكون مثل القديم؛ فقد استحال أن يقال يقدر على أن يخلق مثله أو لا يقدر، كما استحال أن يقال يقدر أن يكون عاجزا أو جاهلا. فقال الرشيد: وجهوا إليه بهذا الصبي. فقالوا: إنه لا يؤمن أن يسألوه على غير هذا، فقال: اختاروا غيره. فاختاروا معمر بن عباد السلمي (من شيوخ المعتزلة) فسم في الطريق.»
64
عرف المعتزلة المانوية واليهودية والنصرانية معرفة واسعة، كما عرف علماء هؤلاء الطوائف الإسلام، وبذل كل فريق الجهد في الدعوة إلى دينه والرد على مخالفيه، فأسلم على يديهم كثيرون. يقول المرتضى إنه أسلم على يد أبي الهذيل العلاف (شيخ المعتزلة) أكثر من ثلاثة آلاف رجل.
65
ويقول ابن خلكان: «إن لأبي الهذيل كتابا يعرف بميلاس، وكان ميلاس رجلا مجوسيا فأسلم، وكان سبب إسلامه أنه جمع بين أبي الهذيل المذكور، وجماعة من الثنوية فقطعهم
66
أبو الهذيل، فأسلم ميلاس عند ذلك.»
67
وحكى الجاحظ «أن قسا نصرانيا راهن على أن الصليب الذي في عنقه من خشب لا يحترق؛ لأنه من العود الذي كان المسيح عليه السلام صلب عليه، وكاد يفتن بذلك ناسا من غير أهل النظر حتى فطن له بعض المتكلمين، فأتاهم بقطعة عود تكون بكرمان، فكانت أبقى على النار من صليبه.»
68
وحكى المرتضى في أماليه «أن أبا الهذيل في حداثته بلغه أن رجلا يهوديا قدم البصرة، وقطع جماعة من متكلميها، فقال لعمه: يا عم امض بي إلى هذا اليهودي حتى أكلمه. وألح عليه في ذلك، فذهب إليه وما زال به حتى أفحمه.»
69
ويذكر ابن خلكان أن واصلا ألف فيما ألف كتابا في الدعوة، والظاهر أنه في الدعوة إلى الإسلام، أو الدعوة إلى مذهب الاعتزال. وقد رأينا قبل أن الجاحظ يؤلف رسالة في النصارى، يذكر حججهم ويرد عليها، ويرى ابن النديم: أن المأمون أرسل إلى يزدانبخت (أحد رؤساء المانوية)، فأحضره من الري بعد أن أمنه، فقطعه المتكلمون، فقال له المأمون: أسلم يا يزدانبخت فلولا ما أعطيناه إياك من الأمان لكان لنا ولك شأن! فقال له يزدانبخت: نصيحتك يا أمير المؤمنين مسموعة وقولك مقبول، ولكنك ممن لا يجبر الناس على ترك مذاهبهم . فقال المأمون: أجل، ووكل به حفظة خوفا «عليه من الغوغاء، وكان فصيحا لسنا.»
70
وبجانب هؤلاء العقليين الذين يدعون إلى الإسلام من طريق العقل والحجج المنطقية؛ كان من يدعو إلى الإسلام من طريق السيرة الطاهرة ، والخلق النبيل، والحياة الصالحة، فكان داعيا من طريق المثل، ومن ذلك ما حكى ابن خلكان «قيل إنه أسلم يوم مات أحمد بن حنبل عشرون ألفا من النصارى واليهود والمجوس.»
71
أو من طريق الوعظ والتصوف، فأبو القاسم الجنيد يقف على حلقته في المسجد غلام نصراني ويسلم،
72
وبعد هذا العصر كان أبو الفرج بن الجوزي واعظا مؤثرا، وقد أسلم على يده كثيرون.
وكان الخلفاء العباسيون من أنشط الخلفاء في الدعوة إلى الإسلام للصبغة الدينية التي شرحناها قبل.
وكان المأمون من أحرصهم على ذلك، فحوله المتكلمون، يدعون إلى الإسلام، وهو بجنده ينشر دعوته. روى البلاذري قال: «لما استخلف المأمون أغزى السعد وأشرثوسنه، ومن انتقض عليه من أهل فرغانة، الجند، وألح عليهم بالحروب بالغارات أيام مقامه بخراسان وبعد ذلك، وكان مع تسريته الخيول إليهم يكاتبهم بالدعاء إلى الإسلام والطاعة، والترغيب فيهما.» وقال: «وكان المأمون - رحمه الله - يكتب إلى عماله على خراسان في غزو من لم يكن على الطاعة والإسلام من أهل ما وراء النهر، ويوجه رسله فيفرضون لمن رغب في الديوان، ويستميلهم برغبة فإذا وردوا بابه شرفه وأسنى صلاتهم وأرزاقهم، ثم استخلف المعتصم بالله فكان على مثل ذلك حتى صار جل شهود عسكره من جند أهل ما وراء النهر من السعد والأشروسنه وأهل الشاش، وغيرهم، وحضر ملوكهم بابه وغلب الإسلام على من هناك.»
73
وكان رجل من خراسان نصرانيا فأسلم فارتد، فأمر المأمون بحمله إلى بغداد، فسأله: ما الذي أوحشك من الإسلام؟ فقال المرتد: أوحشني ما رأيت من كثرة الاختلاف في دينكم! قال المأمون: فإن لنا اختلافين؛ أحدهما كالاختلاف في الآذان، وتكبير الجنائز، والاختلافات في التشهد وصلاة الأعياد، وتكبير التشريق، ووجوه القراءات، واختلاف وجوه الفتيا، وما إلى ذلك، وليس هذا باختلاف، إنما هو تخيير وتوسعة وتخفيف من المحنة، فمن أذن مثنى وأقام فرادى لم يؤثم من أذن مثنى وأقام مثنى، لا يتعايرون ولا يتعايبون، أنت ترى ذلك عيانا، وتشهد عليه بيانا. والاختلاف الآخر كنحو الاختلاف في تأويل الآية من كتابنا، وتأويل الحديث عن نبينا
صلى الله عليه وسلم ، مع إجماعنا على أصل التنزيل، واتفاقنا على عين الخبر، فإن كان الذي أوحشك هذا، حتى أنكرت كتابنا؛ فقد ينبغي أن يكون اللفظ بجميع ما في التوراة والإنجيل متفقا على تأويله كالاتفاق على تنزيله، ولا يكون بين الملتين من اليهود والنصارى اختلاف في شيء من التأويلات ... ولو شاء الله أن ينزل كتبه ويجعل كلام أنبيائه وورثة رسله لا تحتاج إلى تفسير لفعل، ولكنا لم نر شيئا من الدين والدنيا دفع إلينا على الكفاية. ولو كان الأمر كذلك لسقطت البلوى والمحنة، وذهبت المسابقة والمنافسة. فرجع الرجل إلى الإسلام فخر المأمون ساجدا لله، ثم قال لأصحابه: لا تبروه في يومه ريثما يعتق إسلامه كيلا يقول عدوه إنه يسلم رغبة، ولا تنسوا نصيبكم من بره ونصرته وتأنيسه.
74
على كل حال نشط الخلفاء العباسيون الأولون في الدعوة إلى الإسلام، ولكن قل أن كان منهم إكراه على الدخول في الإسلام، كما رأينا في موقف المأمون نحو يزدانبخت، فقد اعترف بأن المأمون لا يجبر الناس على ترك مذاهبهم، وأقره المأمون على قوله، يقول الأستاذ «فنسنك»: «ومع أن نصارى الشرق كان يقل عددهم باعتناقهم الإسلام، فقل منهم من أسلم كرها.»
75
نعم، صدر من بعض الخلفاء في ذلك العصر من اشتد في معاملة المسيحيين، كالذي رواه الطبري في حوادث سنة 191؛ فقد قال: «إن الرشيد أمر بهدم الكنائس بالثغور، وكتب إلى السندي بن شاهك يأمره بأخذ أهل الذمة بمدينة السلام بمخالفة هيئتهم هيئة المسلمين في لباسهم وركوبهم.»
76
ولكن هذا وأمثاله كان أثرا من آثار سوء العلاقات السياسية بين الدولة الإسلامية والمملكة البيزنطية، لا أثرا للتعاليم الدينية، وإلا فلم كان أمر الرشيد مختصا بأهل الذمة في بغداد، دون سائر الأقطار الإسلامية؟ وظلت الأوامر بمخالفة الذميين في لباسهم والتشديد عليهم تنمو مع نمو سوء العلاقات السياسية، حتى بلغت أشدها في أيام الحروب الصليبية؛ صدى لما كان من معاملة الروم للمسلمين.
كذلك لا ننكر أن بعض من أسلم إنما أسلم لنيل الجاه والمنصب، كالذي كان من كاووس ملك أشروسنه، فإنه لما غلب في الحرب أظهر الإسلام، وكذلك ابنه حيدر المعروف بالأفشين، والذي مات في سجن المعتصم لزندقته كما أبنا من قبل.
77
وحكى الجهشياري أن الفضل بين سهل (وكان مجوسيا) نقل ليحيى بن خالد البرمكي كتابا من الفارسية إلى العربية، فأعجب بفهمه وبجودة عبارته، فقال له يحيى: إني أراك ذكيا وستبلغ مبلغا رفيعا، فأسلم حتى أجد السبيل إلى إدخالك في أمورنا، والإحسان إليك. فقال: نعم، أصلح الله الوزير، أسلم على يديك. فقال له يحيى: لا، ودعا بسلام مولاه فقال: خذ بيد ذا الفتى وامض به إلى جعفر وقل له يدخله على المأمون (وكان المأمون في حجر جعفر) حتى يسلم على يديه. ففعل وأسلم على يد المأمون.
78
وهو الذي صار فيما بعد وزير المأمون، والذي لقب بذي الرياستين. كما أسلم بعض الناس فرارا من الجزية، حتى إن بعض الولاة كتب إلى الحجاج: «إن الخراج قد انكسر، وإن أهل الذمة قد أسلموا، ولحقوا بالأمصار، فأخذ الحجاج منهم الجزية مع إسلامهم، وجعل قراء البصرة يبكون لما يرون!»
79
ولكن هذه الجزية لم تكن بالمرهقة؛ «فهي لا تؤخذ من المسكين الذي يتصدق عليه، ولا من أعمى لا حرفة له ولا عمل، ولا من ذمي يتصدق عليه، ولا من المترهبين الذين في الديارات إذا لم يكونوا من أهل اليسار، ولا تؤخذ الجزية من الشيخ الكبير الذي لا يستطيع العمل ولا شيء له.»
80
ويدفع الغني 48 درهما كل سنة، ويدفع الوسط 24 درهما، والعمال والصناع ونحوهم 12 درهما
81
وهذا مقدار محتمل، لا يدعو كثيرين أن يهربوا من دينهم.
وكما أثر النصارى في المذاهب الإسلامية، والعادات كما أسلفنا أثر المسلمون في النصارى، فقد ظهر بين النصارى نزعات يظهر فيها أثر الإسلام. من ذلك أنه في القرن الثامن الميلادي (أي في القرنين الثاني والثالث الهجريين) ظهرت في سبتمانيا
Septimania
82
حركة تدعو إلى إنكار الاعتراف أمام القسس، وأن ليس للقسس حق في ذلك، وأن يضرع الإنسان إلى الله وحده في غفران ما ارتكب من إثم، والإسلام ليس له قسيسون ورهبان وأ حبار، فطبيعي ألا يكون فيه اعتراف.
83
وكذلك كانت حركة تدعو إلى تحطيم الصور والتماثيل الدينية (Iconoclasts) ؛ ذلك أنه في القرن الثامن والتاسع الميلادي أو القرن الثالث والرابع الهجري ظهر مذهب نصراني يرفض تقديس الصور والتماثيل؛ فقد أصدر الإمبراطور الروماني ليو الثالث أمرا سنة 726م يحرم فيه تقديس الصور والتماثيل، وأمرا آخر سنة 730م يعد الإتيان بهذا وثنية. وكذلك كان قسطنطين الخامس وليو الرابع، على حين كان البابا جريجوري الثاني والثالث وجرمانيوس بطريرك القسطنطينية والإمبراطورة إيريني من مؤيدي عبادة الصور، وجرى بين الطائفتين نزاع شديد لا محل لتفصيله وكل ما نريد أن نذكره أن بعض المؤرخين يذكرون أن الدعوة إلى نبذ الصور والتماثيل كانت متأثرة بالإسلام، ويقولون إن كلوديوس (Claudius)
أسقف تورين (الذي عين سنة 828م حول 213 هجرية) والذي كان يحرق الصور والصلبان، وينهى عن عبادتها في أسقفيته؛ ولد وربي في الأندلس الإسلامية.
84
وكراهية الإسلام للتماثيل والصور معروفة، روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي لله عنها قالت: «قدم رسول الله
صلى الله عليه وسلم
من سفر وقد سترت سهوة لي بقرام فيه تماثيل، فلما رآه هتكة وتلون وجهه، وقال: يا عائشة أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله. قالت فقطعناه فجعلنا منه وسادة أو وسادتين.»
85
والأحاديث في هذا الباب مستفيضة.
كذلك وجدت طائفة من النصارى شرحت عقيدة التثليث بما يقرب من الوحدانية، وأنكرت ألوهية المسيح (عليه السلام).
86 •••
ومسألة أخرى كبيرة الأهمية في عصرنا الذي نؤرخه؛ تلك هي أن تصور كثير من المسلمين الإسلام في ذلك العصر يختلف عن تصور المسلمين له في العصور الأولى، فحياة العربي الساذجة البسيطة السهلة تعقدت، والديانات المختلفة تسربت والأعاجم الذين كانوا وثنيين أو مانويين أو نحوهم دخلوا في الإسلام ولم تنق رءوسهم من كل ما علق بها من الديانات القديمة. وقد عاشوا في المدنيات المركبة المعقدة ، فنظروا إلى الإسلام بعيونهم، لا بالعين العربية الأولى. وحق ما يقال: إن الأمم وإن اتحدت دينا فكل أمة يختلف نظرها في تفاصيل دينها عن الأمم الأخرى، وهي تنظر إلى الدين من خلال تاريخها ونظمها الاجتماعية، من خلال أديانها المتعاقبة، ومن خلال لغاتها وتقاليدها، ومن خلال ثقافتها وتربيتها، إلى غير ذلك. كل المسلمين يقولون: «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، ولكن نظر العالم الواسع الثقافة إلى الإسلام غير نظر العامي الجاهل، وكلاهما غير نظر الصوفي، وهكذا. بل نظر المسلمين المصريين (على وجه العموم) إلى الإسلام يختلف في تفاصيله عن نظر الهنود المسلمين والأتراك المسلمين، لأن كل أمة تداول عليها من العوامل ما يخالف غيرها، وذلك من غير شك خالف بين أنظارهم وعقلياتهم، والناس كانوا ينظرون إلى الإسلام نظرا يختلف باختلاف العصور. يعجبني في ذلك ما رواه البخاري والترمذي عن أنس بن مالك المتوفي سنة 90ه، قال: «ما أعرف شيئا مما كان على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، قيل: الصلاة؟ قال: أليس صنعتم ما صنعتم فيها!»
87
فأنس (رضى الله عنه) قد شاهد عصر النبي
صلى الله عليه وسلم
وعصر الأمويين، ومع قرب العصرين لاحظ اختلاف الأنظار والأعمال، فكيف إذا شاهد العباسيين ومن بعدهم. قد كان الإسلام سهلا يسيرا، يقول رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه.» ويقول: «لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم، فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد عليهم؛ فتلك بقاياهم في الصوامع والديار، رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم.»
88
وكان القاسم بن محمد يلبس الخز، وسالم بن عبد الله يلبس الصوف، ويقعدان في مسجد المدينة، فلا ينكر هذا على هذا، ولا ذا على هذا.»
89
وكان هناك نزعة لبعض الصحابة في الغلو في الدين، فقاومها رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؛ كالذي كان بينه وبين عبد الله بن عمرو؛ فقد بلغه أنه لا ينام ولا يفطر، ولا يؤدي حقوق أهله انهماكا في العبادة. فقال له رسول الله: «يا عبد الله إن لك في رسول الله أسوة حسنة، فرسول الله يصوم ويفطر ويأكل اللحم، ويؤدي إلى أهله حقوقهم. يا عبد الله إن لله عليك حقا، وإن لبدنك عليك حقا، وإن لأهلك عليك حقا.»
وبعد هذا رأينا تشددا في دين ، وابتداعا لتقاليد، وغلوا في نواح مختلفة؛ منهم من يلبس الصوف ويلتزمه، ومنهم من يغلو في الإنكار عليهم: «قدم حماد بن سلمة البصرة، فجاءه فرقد السبخي، وعليه ثياب صوف؛ فقال له حماد: دع عنك نصرانيتك!»
90
وقال ابن السماك لأصحاب الصوف: والله لئن كان لباسكم وفقا لسرائركم، فقد أحببتم أن يطلع الناس عليها، وإن كان مخالفا لقد هلكتم.» وكان بعض الموالي يتشدد في الوضوء والطهارة، ويغلو في ذلك غلوا لا يعرفه العرب، فكان العرب يكرهون منهم ذلك.
91
إلى كثير من أمثال هذا.
وهناك ما هو أهم من هذا، ذلك أن الناس في عصر النبي
صلى الله عليه وسلم
وبعده كانوا يقرءون القرآن أو يسمعونه فيعنون بتفهم روحه، فإن عني علماؤهم بشيء وراء ذلك فما يوضح الآية من سبب للنزول، أو استشهاد بأبيات من أشعار العرب تفسر لفظا غريبا، أو أسلوبا غامضا. وأكثر ما روي لنا في الطبري وغيره عن الصحابة في تفسير القرآن هو من هذا القبيل، وما عرفنا في العصر الأول انحياز الصحابة إلى مذاهب دينية، وآراء في الملل والنحل، فلما كنا في آخر العصر الأموي رأينا الكلام في القدر، ورأينا المتكلمين فيه ينظرون إلى القرآن من خلال عقيدتهم، فمن قال بالجبر أول كل آيات الاختيار، ومن قال بالاختيار أول كل آيات الجبر. وسال بعد ذلك السيل في العصر العباسي، فصارت كل طائفة وأصحاب كل مذهب ينظرون إليه من خلال مذاهبهم. ولئن كان هذا النظر أفاد من ناحية الجدال بين المسلمين وغيرهم، والدعوة إلى الإسلام كما بينا في موقف المعتزلة؛ فقد أساء بإضعاف الروح الدينية وما كانت توحيه من إحياء القلب. أصبح علماء الكلام والمذاهب الدينية ينظرون إلى القرآن من خلال الفلسفة اليونانية، وذلك إن كان فيه مران عقلي وتوسيع لبعض مناحي الفكر ، ففيه إضعاف لقوة الروح وحماسة القلب؛ سواء في ذلك المعتزلة والأشعرية والماتريدية، فكلهم استخدموا الأدلة اليونانية في العقائد الدينية، وهي غير الطريقة التي نحاها القرآن الكريم في الدعوة إلى الدين، لقد كادوا بعملهم هذا يقطعون الصلة بين العقل والقلب، وينمون الناحية العقلية على حساب قوة العاطفة، إن شئت فاقرأ لإثبات قدرة الله قوله تعالى:
وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون * ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون
ثم اقرأ في كتب علم الكلام الجدل بين الأشعرية والماتريدية في أن القدرة صفة أزلية تتعلق وفق الإرادة، بمعنى صحة صدور الأثر والتمكن من الترك كما يقول الماتريدية، أو هي صفة تؤثر في المقدورات عند تعلقها بها كما يقول الأشاعرة، فكم من الفرق بين المنهجين والروحين! أهم غرض للقرآن الكريم أن يحيي الشعور ببيان علاقة الإنسان القوية بالله والعالم، وأن يعمل على ذلك بتغذية الحياة الروحية، أما المتكلمون فأرادوا أن يصلوا إلى ذلك من طريق المنطق، وشتان بين الطريقين! فحياة المنطق لا تملأ القلب حماسة، ولا تبعث في النفس حرارة إيمان، إنما تفعل ذلك الحياة الروحية.
لقد كثرت المذاهب والنحل في ذلك العصر كثرة مدهشة، حتى يصفهم المأمون فيقول: «وطائفة قد اتخذ كل رجل منهم مجلسا، اعتقد به رئاسة، لعله يدعو فئة إلى ضرب من البدعة. ثم لعل كل رجل منهم يعادي من خالفه في الأمر الذي عقد به رئاسة بدعة ويشيط بذمه، وهو قد خالفه من أمر الدين بما هو أعظم من ذلك، إلا أن ذلك أمر لا رئاسة له فيه فسالمه عليه.»
92 ... إلخ. ونستعرض أسماء الفرق والمذاهب في كتاب الملل والنحل للشهرستاني، فندهش لكثرتها واختلافاتها. وهذه كلها كانت تنظر إلى القرآن الكريم بعين مذهبها، وتفسره بما يلائمه؛ فالمعتزلي يطبق القرآن على مذهبه في الاختيار والصفات والتحسين والتقبيح العقليين، ويؤول ما لايتفق ومذهبه، وكذلك يفعل الشيعي، وذلك يختلف كل الاختلاف عن نظر المسلمين الأولين إلى القرآن.
كان القرآن يدعو إلى الإيمان من طريقين: طريق النظر إلى العالم نفسه، وطريق التاريخ؛ فهو يرى أن نظر الإنسان إلى العالم يدعم إيمانه ويقوي يقينه؛ ففي الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض، والإبل كيف خلقت والأرض كيف سطحت، آيات على الله، كما أن في الأحداث التاريخية من الأنبياء وأممهم ما يدعو إلى الإيمان، وهذا النظر يناسب الناس على اختلافهم؛ ففي استطاعة العالم والجاهل أن ينال الإيمان من هذا الطريق، والدعوة إلى الحياة الروحية وحدها هي الدعوة التي يمكن أن توجه إلى الناس كافة، فلما أولع العلماء بالفلسفة اليونانية في العصر العباسي حولوا اتجاه القرآن نفسه إلى نوع من الثقافة العقلية والبراهين المنطقية، ودرسوا القرآن على النحو الذي يدرسون به الحساب والهندسة والهيئة، فكان في ذلك إضرار بالدين من ناحيته القلبية، ونتج عن ذلك تعقيد العقيدة الإسلامية السهلة السمحة، حتى صار يمثلها تعاليم المتكلمين من معتزلة وأشعرية، وأصبح أخيرا يمثلها «العقائد النسفية» و«متن السنوسية»، وشعر بهذا النقص قوم من الصوفية المخلصين، فدعوا إلى الإسلام من منهجه الأول، ولكن سرعان ما تحول بعضهم أيضا إلى الفلسفة يستمد منها، كما سنبينه إن شاء الله.
وكان كلما تعمق المسلمون في العلوم والفلسفة نظروا إلى القرآن من خلالها، فإذا أتت آية في الرعد والبرق شرحوها بكل ما وصل إليه علمهم في الظواهر الجوية، وإذا أتت آية في النجوم والسماء طبقوا ما علموا من علم الهيئة، وإذا أتت إشارة في آية إلى جبر أو اختيار عدوا مذاهب المتكلمين فيها، وإذا أتت مسألة نحوية أفاضوا في الخلافات النحوية بين البصريين والكوفيين. وعلى الجملة، فقد كدسوا كل ما عرفوا من علوم الآيات القرآنية، وتضخم ذلك على توالي الأزمان، كما ترى بعد في تفسير الفخر الرازي؛ فيه كل شيء وصل إليه المسلمون إلا شيئا واحدا، هو شرح روح القرآن. •••
ولكن إن كانت هذه نقطة ضعف في الفلسفة والعلوم من ناحية الدين؛ فقد كان لها فضل كبير من الناحية الدينية أيضا ، ذلك أن الناس واجهوا مشكلة كبرى في العصر العباسي، رأوا مدنيات عظيمة لأمم مختلفة ورثتها المملكة الإسلامية، ورأوا عادات مختلفة لأمم متعددة في جميع مناحي الحياة، ورأوا معاملات تجارية، ونظما للأحوال الشخصية تأثرت بديانات الأمم المختلفة. وهكذا في كل ناحية من النواحي الاجتماعية؛ سواء كانت نواحي اقتصادية أم سياسية أم قانونية. ورأوا من ناحية أخرى أن الإسلام أتى بأصول يجب المحافظة عليها، وأتت فيه نصوص كذلك على جزئيات يجب مراعاتها، ولكن في كل عصر تحدث من الأقضية والأحداث ما لم يكن حدث من قبل، ولم يرد فيه نص، فكان أمام العلماء أن ينظروا بإحدى العينين إلى قواعد الإسلام وتعاليمه، وبالعين الأخرى إلى المدنية العباسية، وما جد فيها من مظاهر وأحداث شتى، وكان لا بد من أن يطبقوا قواعد الإسلام على تلك الأحداث، ولم يكن هذا بالأمر الهين. نعم عرضت هذه المشكلة في تاريخ الإسلام من قبل العباسيين، قد واجهها عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) بعد أن فتحت الفتوح ومصرت الأمصار، ودخلت أمم مختلفة العقائد والنظم واللغات تحت حكم الإسلام، وبذل من الجهد هو ومن حوله من العلماء ما لا يقدر، وضرب مثلا صالحا لمن يأتي بعده، ولذلك نص المشرعون على العمل برأيه في كثير من نظم الفتح والجهاد والضرائب، ونحو ذلك، وعدوه مثلهم الذي يحتذى، وواجه هذه المشكلة الأمويون فحوروا في نظم الدواوين والنقود ونحوها، فخطوا بذلك خطوة ثانية، ولكن المشكلة أمام العباسيين كانت أعقد؛ لأن دهشة الفتح قد زالت، والأمم التي دخلت في الإسلام استقرت ونسلت جيلا جديدا، ورث من آبائه وورث من المسلمين. والعباسيون كما رأينا قبل لم يشاءوا أن يعيشوا عيشة ساذجة كمن قبلهم من الأمويين، وتغلبت العناصر الأخرى كالفرس ذات الحضارة المركبة، فكان من ذلك كله أن أرادوا أن يضعوا نظما كاملة شاملة، وأن يواجهوا هذه المشاكل ويحلوها حلا بقوانين ومبادئ لا بأمر جزئي، ولا برأي فرعي، فأعانتهم العلوم في ذلك العصر على هذا كله، ولولا العلوم ما استطاعوا، فرأينا أبا يوسف في كتابه «الخراج » يضع النظام المالي لدولة الرشيد، فيقرر نظام الأرض ومسحها، وما يؤخذ منها وكيف يكون ذلك، ويضع نظام ضرائب غير الأرض مما يخرج من البحر ونحوه، ويضع نظام الري من الآبار والأنهار، ونجد الأئمة الأربعة وغير الأربعة يجتهدون في وضع القوانين من مالية وجنائية، وما يسمى بالأحوال الشخصية، وغير الفقهاء يضعون نظما إدارية كنظام الشرطة والجند والجيش، وقد تتعارض نظم الفقهاء مع نظم الإداريين فينظر في التوفيق بينهما، ويوضع نظام البريد والمصانع والتجارة ونحوها؛ كل هذه حركات كانت في الدولة العباسية نشيطة قوية، وكانت خاضعة في مبادئها للقواعد الأساسية للإسلام. وبذلك نستطيع أن نقول: إنه في هذا العصر قنن الإسلام وأصبح هو النظام لحكومة ممدنة بالمعنى العصري. نعم كان هناك خروج عن الإسلام في بعض التصرفات، وكان هناك نقص في تنفيذ الأحكام القضائية، وكان هناك نقص في إعطاء الأحكام الفقهية سلطة القانون، ولكن هذا لا ينقض ما ذكرنا من أن الروح العامة في التشريع ووضع النظم كانت تتقيد بأصول الإسلام، وأنه لولا اشتغال المسلمين بالعلم في فروعه المختلفة ما كان يمكن ذلك.
وهذا الإسلام بتعاليمه ونظم حكمه أظل كل الأمم الإسلامية على اختلاف أنواعها؛ من آريين وساميين وحاميين، يخضعون لسلطانه، ويجرون في نظامهم وقضائهم ومعاملاتهم على ما قنن من أحكامه. ومن أجل هذا أخذت الفروق بين الأمم تتقلص ويحل محلها وحدة إسلامية. ومن أجل ذلك أيضا كانت هذه الوحدة متجلية في العصر العباسي أكثر مما كان في العهد الأموي، ودخل الإسلام في الحياة العامة وفي السياسة وفي الإدارة، وتأثر التشريع بعادات الناس، وتأثرت عادت الناس بالتشريع.
كان الإسلام دينا في مكة، وكان دينا وحكما في المدينة، وكان دينا وحكما ومدنية في بغداد وسائر المملكة الإسلامية في العصر العباسي. ولعل هذا من الأسباب التي دعت إلى دخول كثيرين في الإسلام في ذلك العصر؛ فقد كان الناس يتنفسون إسلاما أينما حلوا؛ في البيت، في الشارع، في المحكمة، في المعاملات التجارية، في الضرائب، في التعليم، في كل مرافق الحياة. •••
وبعد فقد كان للإسلام ثقافة واسعة؛ من تفسير للقرآن، واشتغال بالحديث، وتشريع للأحكام، ولكن محل ذلك كله الكلام في الحركة العلمية إن شاء الله.
الفصل الثاني عشر
امتزاج الثقافات
هذه الثقافات التي ذكرنا؛ من فارسية، وهندية، ويونانية وعربية، ومن يهودية ونصرانية وإسلام التقت كلها في العراق في عصرنا الذي نؤرخه. ولكن كل ثقافة في أول أمرها كانت تشق لنفسها جدولا خاصا بها، يمتاز بلونه وطعمه، ثم لم تلبث إلا قليلا حتى تلاقت، وكونت نهرا عظيما تصب فيه جداول مختلفة الألوان والطعوم، مختلفة العناصر.
والعلماء على اختلاف أنواعهم لم يكونوا كلهم يستسيغون ماء النهر الأعظم، ولا يتذوقون طعمه؛ فكان منهم من يخرج إلى بادية العراق يرد الجدول العربي صافيا، قبل أن تكدره الحضارة، يستقي منه ما شاء أن يستقي، ويعود إلى الحضر وقد تزود مما استساغه من ماء يعيش عليه، ولا يشرب إلا منه، وإذا استسقي فلا يسقي إلا منه. أولئك أمثال الأصمعي الذي حفظ كما يقولون اثني عشر ألف أرجوزة من أراجيز العرب، وحفظ الكثير من قصائدهم ونوادرهم ولغتهم، وتخصص لذلك، يؤلف فيه ويعلم في المسجد ويحاضر، وكحماد الراوية، وخلف الأحمر، والمفضل الضبي، وأبي عمرو الشيباني، ومحمد بن سلام الجمحي، فهؤلاء كانوا لا يعجبهم إلا الجدول العربي، يرحلون إليه، ويأخذون منه، ويتنقلون في قبائله، ويروون شعره ولغته وأدبه، ويقصون نوادره مهما تفهت، ويحبون كل شيء له، ثم يذهبون إلى العراق يعلنون عن مائه، ويبشرون بعذوبته وصفائه، فإن عرض لهم ماء من جدول آخر عافوه واستكرهوه ومجته نفوسهم.
ومنهم من كان لا يحب إلا الجدول اليوناني، يتعلم كتبه ولغته، ويستلهم مؤلفاته، ولا يرى العقل إلا فيه، ولا الحكمة إلا صادرة عنه ومقتبسة منه؛ كأطباء السريان في ذلك العصر، وهكذا.
ومن الناس من يستقي من جدولين، يرد هذا مرة وذاك مرة، حتى إذا عل ونهل ملأ منهما كل آنيته، وعاد فمزج العنصرين، وكون منهما شرابا جديدا يستسيغه الناس فيعجبون به ويستطعمونه؛ كالذي فعل أبو عبيدة معمر بن المثنى، فهو مولى فارسي، اطلع على آداب الفرس وأخبارها وملوكها وحكمائها ومحاسنها ومساوئها، وعرف أخبار العرب وقبائلها ولغتها وأقاصيصها، وحقائقها وخرافاتها، وروى أيام العرب التي يتناقلها المؤرخون إلى اليوم. فكان واسع الاطلاع في الأدبين العربي والفارسي، وكان يجلس إلى الناس فيحدث بأخبار هؤلاء وهؤلاء، ويقارن بين مفاخر العرب ومفاخر الفرس، ويؤلف الكتب في هذا وفي ذاك، يؤلف في «فضائل الفرس»، و«مآثر العرب» ومثالبهم، فطلع على الناس بثقافتين في وعاء واحد، فكرهه من تعصب للعرب، ورأوا ماءه ليس صافيا، ولا طعمه بالذي ألفوه واعتادوا الري به. وأحبه من ينزع إلى الفرس كالموصلي وأبي نواس، ومن يفسح صدره لكل علم وخبر، ويرى الحكمة ضالة المؤمن ينشدها حيث وجدها كالجاحظ.
ومنهم من تثقف بأكثر من ثقافتين، وتأدب بأكثر من أدبين كما سيأتي بيانه.
وفي الحق، إن الجدول العربي كاد يكون مستقى الناس جميعا، إذا نحن استثنينا طائفة من السريانيين الذين يثقفون بالثقافة اليونانية، أو المجوس الذين يتأدبون بالآداب الفارسية، ويدينون بالديانة الزرادشتية وأمثالهم. أما غير هؤلاء فكانوا يأخذون بحظ من الجدول العربي قل أو كثر؛ ذلك لأن الدولة السياسية عربية بخلفائها ولغتها ودينها، ودولة الأدب عربية، فلا يحيا فيها إلا ما كان عربيا، فاضطر كل ذي أدب وكل ذي علم، وكل ذي لغة أن يتعلم اللغة العربية، يصوغ فيها أفكاره وأدبه وعلمه، فمن تبحر في العلوم اليونانية وجب أن يخرج ما علم إلى اللغة العربية، ومن تأدب بالأدب الفارسي فلا قيمة له إلا أن يخرج أدبه باللغة العربية. وإذا كان رياضيا هنديا، أو طبيبا هنديا فليس له حظوة إلا أن يعرب ما علم، وهكذا. لذلك كان هذا الجدول موردا للأدباء والعلماء، وكان من ذلك أن قوما وفروا جهدهم له، يتبحرون فيه ولا يستقون إلا منه. وقوما تبحروا في غيره، ولكن اضطروا إلى وروده فوردوه، يستعينون بمائه على إساغة ما عندهم للناس. •••
وهنا يعترضنا سؤال لا بد منه، وهو: أي أنواع الثقافات كان أكبر أثرا وأشد نفوذا وأقوى سلطانا؛ الثقافة العربية بما لها من لغة وأدب ودين؟ أم الثقافة الفارسية بما لها من نظام وأدب؟ أم الثقافة اليونانية بما لها من علم وفلسفة؟ وإن شئت وضعت السؤال بهذه الصيغة: أي الثقافات كان أكثر تأثيرا في الثقافة العربية؛ الثقافة الفارسية، أم الثقافة اليونانية؟ نعم، كلتا الثقافتين لونت الثقافة العربية بلون ما كان يكون لولاها، ولكن أي اللونين كان زاهيا ناضرا، وأيهما كان ضعيفا شاحبا.
ذلك سؤال عويص، ولكن يظهر لي أن أسد طريق ألا نجيب إجابة مطلقة، أن نقول: إن كل ثقافة من هذه الثقافات كانت لها «منطقة نفوذ» لا تكاد تزاحمها فيهما الثقافة الأخرى، فالعلوم الرياضية من حساب وجبر وهندسة وفلك وطب وما إليه، وفلسفة وما إليها؛ كانت منطقة النفوذ اليوناني، تزاحمها فيها الثقافة الهندية، ولكن مزاحمة غير عنيفة. فأساس هذه الأشياء كلها عند المسلمين هو الأساس اليوناني، وإن كان بعض أركانه هنديا، والمنهج الذي اتبع في هذه العلوم منهج يوناني في منطقه وطريقة تأليفه، وما علق عليه من شروح. وكتب هذه العلوم عليها مسحة خاصة؛ هي غير المسحة الأدبية، وهي غير المسحة الجغرافية والتاريخية؛ هي مسحة يونانية بحتة؛ لأنها تأثرت كل التأثر بما ترجم من اليونان، وظلت حافظة لشكلها، حتى ألف المسلمون فيها. وقد بدأت الرياضة الهندية والفلك الهندي تدخل في ثنايا ما ألف المسلمون في هذه العلوم، ولكنها ما لبثت أن ذابت.
أما الأدب، فلم يتأثر كثيرا بالأدب اليوناني، وهذا ظاهر فيما ألف من الكتب في هذا العصر، فمنهجها غريب لا يتصل بسبب إلى المنهج اليوناني، فلا أثر للترتيب المنطقي فيه، ولا ترى وحدة للكتاب ولا للباب، كما رأينا في كتاب الكامل للمبرد، وكما نرى في البيان والتبيين للجاحظ؛ إنما هي جزئيات جمعت حيثما اتفق، هي أشبه بسمر العلماء في المجالس. فأما موضوع واحد يرتب فيه كل ما يراد أن يقال وتسلسل أفكاره، وتسلمك ألفه إلى يائه بالتدريج كما يفعل العقل اليوناني؛ فذلك ما لا نجده في كتب الأدب العربي.
هذا من ناحية الشكل، وأما من ناحية الموضوع؛ فإن ما فيها من أدب شرقي فارسي أو هندي أكثر مما فيها من أثر يوناني، ففيها الحكم عن أردشير وبزرجمهر أكثر مما عن أفلاطون وأرسطو، وفيها نظام الحكم الفارسي لا نظام الحكم اليوناني، وفيها تصور للعدل وطبقات الناس، كما يتصوره الفرس، وفيها توقيعات الملوك وقصصهم مع رعيتهم على النحو الفارسي لا النحو اليوناني، وعلى الجملة فنفوذ الفرس في الأدب نفوذ اليونان. وقد حاولنا فيما سبق بيان السبب في ذلك.
ومما يجب التنبه له أن كثيرا من حاملي لواء الأدب في ذلك العصر، من شعراء وكتاب، كانوا من أصل فارسي من ناحية الأبوين معا، أو أحدهما، ثم تعلموا اللغة العربية وحذقوها، فكان تجديدهم للأدب مدينا للفرس والعرب معا، فأدخلوا على الأدب العربي عناصر جديدة لم تكن، فبشار الفارسي يخترع تشبيهات جديدة لم يستعملها العرب، وأبو العتاهية زعيم الشعر الديني، والسابق إليه من الموالي، وأبو نواس المتخصص في الخمر وما إليه، والفاتح للناس بابا من الهجاء لم يلجوه من قبل هو نصف فارسي، وكذلك الشأن في الكتاب، وما أدخلوا من أسلوب، كابن المقفع، وسهل بن هارون. كل هؤلاء كانوا من أصل فارسي أو ما يقرب منه، فما أنتجوه من غير شك نتاج للأصل الفارسي والثقافة العربية، وملون بالحياة الاجتماعية التي كان يعيشها العراق. وقل أن نجد من هؤلاء الأدباء من كان من أصل رومي، يتلون بلون الروم، ويتثقف بثقافتهم، وإذا كان الأدب العباسي أساسا كبيرا من أسس الأدب جرى الناس بعد على منواله، وحذوا حذوه. وإذا كان من ساهم في هذا الأساس هم الفرس لا اليونان أمكننا أن نستنتج أن نفوذ اليونان في الأدب العربي ضعيف.
ثم من الحق أن نقول: إن نفوذ العرب في أدبهم، وخاصة في شعرهم؛ كان أقوى من أي نفوذ آخر، فقد ظل الشعر حافظا لأوزانه الجاهلية وتقاليده إلى عصرنا هذا، ولم تستطع أمة بنفوذها مهما عظم أن تحوله. وكل ما قلنا من أثر فارسي فإنما كان في بعض العناصر التي تصب في القالب، لا في القالب نفسه، وأبو نواس يحاول أن يخرج على الجاهليين، ويقول:
صفة الطلول بلاغة القدم
فاجعل صفاتك لابنة الكرم
ولكنه مع هذا لا يستطيع أن يتحرر من قيوده، ولو فعل لما قرئ ولا سمع. ويصف الجاحظ شعور الناس في عصره نحو الشعر الجاهلي والتراث الجاهلي، فيقول: «إنهم يفضلونه على الشعر الإسلامي، وهم به أكثر ولوعا، وأشد تقديرا.» ويقول: «إنهم يعدون حاتما أجود العرب، ولو كان الأمر مفوضا إلى تقدير الرأي لكان ينبغي لغالب بن صعصعة أن يكون من المشهورين بالجود، دون هرم وحاتم. فإن زعمت أن غالبا كان إسلاميا، وكان حاتم في الجاهلية، والناس بمآثر العرب في الجاهلية أشد كلفا فقد صدقت!» ويقول: «إن أيام الإسلام ورجالها لم تكن أكبر في النفوس، وأجل في الصدور من رجال الجاهلية مع قرب العهد ... ومع الإسلام الذي شملهم، وجعله الله تعالى أولى بهم من أرحامهم.»
1
كل هذا جعل تأثير الأدب الجاهلي في الأدب الإسلامي شديدا قويا، وجعل الإسلاميين يحتذون حذوه ولا يخرجون كثيرا عن قيوده، فلئن كانت الثقافات الأجنبية في العلوم واضحة الأثر فأثرها في الأدب خفيف، ولو كان شديدا قويا لأدخلوا على بحور الشعر الجاهلية بحورا فارسية أو يونانية، ولتحرروا أحيانا من القافية، ولأدخلوا ضرب الشعر القصصي والتمثيلي، ولرسموا طريقة جديدة لنهج القصيدة؛ فلم يتقيدوا ببكاء أطلال، ولا وقوف على ديار، ولهجروا الغزل الطويل يدخلون به على مدح الممدوح، ولفعلوا كثيرا من أمثال ذلك، ولحدثت ثورة في الشعر والأدب، فنقلته نقلة جديدة كما حدث في العلوم. نعم حدث تغير من دخول بعض الفنون الشعرية، واصطباغها بصبغة الحياة الاجتماعية ونحو ذلك، ولكنه تغيير خفيف، لا يكاد يرى إلا بالمجهر. كم بين طب العرب في الجاهلية، وطب حنين بن إسحاق وبختيشوع من فرق! وكم بين نظر العربي إلى الأنواء والنجوم، ونظر نوبخت! بل كم بين ما روي من فقه عن ابن مسعود، وما روي عن محمد بن الحسن، ونحو أبي الأسود الدؤلي كما يروون، ونحو سيبويه! ولكنك لا تجد هذه المسافات الواسعة بين الشعر الجاهلي والشعر الإسلامي والعباسي.
وعلى الجملة، فقد كانت نواحي التأثير ومصادره ومقداره مختلفة اختلافا كبيرا، وعلى أشد ما يكون من دقة، إن أنت حاولت أن تعبر عن ذلك بأرقام خانتك قوتك، ولم تجد سبيلا لذلك. كل ما نستطيع أن نقوله: إن طبيعة الثقافة اليونانية عقلية منطقية؛ تحاول أن تجعل لكل شيء مقدمات ونتائج. وهذا الضرب تجلى عند المسلمين في الرياضيات والفلسفة وما إليهما، وأتت هذه الأشياء في العهد العباسي ومواضعها خالية تقريبا، فكان من السهل أن تصبغ بالصبغة اليونانية من غير كبير مزاحمة، وطبيعة الثقافة الفارسية على ما وصلت إلينا فلسفة عملية؛ من حكم تصاغ حول العدل والظلم ونظام الحكم، ونحو ذلك مما تراه في الأدب الكبير والصغير لابن المقفع، ليس فيها مجال كبير للنظريات، كما هو الشأن عند اليونان، ولكن تجارب عملية تجرب فتصاغ في قالب حكمة أو مثل، وهذا النوع استساغه العرب في أدبهم؛ لأنه أشبه بأمثالهم، وطبيعة الثقافة الهندية مزيج من حكمة (كالتي قلنا في الفرس تتجلى في مثل كليلة ودمنة)، ومن نظريات فلسفية ورياضية كالتي عند اليونان، ولكن يلاحظ البيروني أنهم لا يجيدون تعليلها، ولا البرهان عليها كما يفعل اليونان. وطبيعة الثقافة العربية الأدبية لسانية، أبين شيء فيها جمالها الفني، وأنها بنت البادية، ونتيجة السليقة، ووليدة الفطرة. وهذا هو السبب فيما حكى الجاحظ؛ إذ يقول: «وقد نقلت كتب الهند وترجمت حكم اليونان، وحولت آداب الفرس، فبعضها ازداد حسنا، وبعضها ما انتقص شيئا. ولو حولت حكمة العرب لبطل ذلك المعجز الذي هو الوزن، مع أنهم لو حولوها لم يجدوا في معانيها شيئا لم تذكره العجم في كتبهم التي وضعت لمعاشهم وفطنهم وحكمهم.»
2
وسبب ذلك: أن أسهل شيء في الترجمة المعاني المحددة، وأصعب شيء جمال الأسلوب، وإذا كانت طبيعة الأدب العربي ما بينا كان نقله أصعب نقل، وكان أداؤه بلغة غير اللغة العربية ذاهبا ببهجته، مضيعا لجماله.
عمل على نشر نتاج هذه الطبائع المختلفة قوم مختلفون، فوزراء العباسيين ومن نحا نحوهم يؤيدون الثقافة الفارسية، ومدرسة جنديسابور وما تفرع منها تؤيد الثقافة اليونانية، والعرب والأدباء وعلماء اللغة والنحو يؤيدون الثقافة الهندية. وقد نشر هؤلاء جميعا في الجو هذه الثقافات المختلفة، يتنفس كل منها حسب ميوله واستعداده ونوع تعلمه، وكان الوزراء والكتاب أكثر الناس ثقافة فارسية عربية، وكان أطباء القصور النساطرة أكثرهم ثقافة يونانية عربية، وكان المتكلمون على ما يظهر أكثر ثقافة من كل نوع. يقول الجاحظ: «المتكلمون يريدون أن يعلموا كل شيء، ويأبى الله ذلك.»
3
وفي الحق، إن المتكلمين كانوا أكبر عامل من عوامل المزج بين الثقافات المختلفة، من نواح متعددة، فقد كانوا بطبيعة موقفهم الذي شرحناه قبل من دعوة إلى الإسلام مضطرين أن يطلعوا على الأديان الأخرى؛ من مجوسية ويهودية ونصرانية، وكانت اليهودية والنصرانية قد تسلحت بالفلسفة اليونانية والمنطق اليوناني، فاضطر المتكلمون أن يتسلحوا بنفس سلاحهم، فكانوا أول من أدخل الفلسفة اليونانية في الإسلام، وكان المتكلمون حلقة الاتصال بين من أتى بعدهم من فلاسفة المسلمين كالفارابي وابن سينا وابن رشد، وكان موقفهم جديدا لأنهم سلكوا غير طريق السلف، وتعرضوا لمسائل كثيرة لم يتعرض لها من قبلهم، فقام في وجوههم طبقة المحافظين، وعلى رأسهم رجال الحديث، وكانت حربا عوانا نشرحها عند الكلام في المتكلمين إن شاء الله.
كذلك كانوا صلة بين الفلسفة اليونانية والأدب؛ فقد تثقفوا ثقافة يونانية كما رأينا، وتثقفوا ثقافة عربية من لغة وأدب، ومزجوا الاثنتين مزجا تاما. رأوا معاني يونانية وأسماء يونانية، فوضعوا لها كلمات عربية، كما أنهم لدعوتهم إلى الإسلام مضطرون أن يتخيروا خير الألفاظ، وخير التعبيرات، فمرنوا على الخطابة والبلاغة، ووضعوا أسسها، كما وضعوا أساس آداب البحث والمناظرة. قال الجاحظ: «كان كبار المتكلمين ورؤساء النظارين فوق أكثر الخطباء، وأبلغ من كثير من البلغاء، وهم تخيروا تلك الألفاظ لتلك المعاني، وهم اشتقوا لها من كلام العرب تلك الأسماء، وهم اصطلحوا على تسمية ما لم يكن له في لغة العرب اسم، فصاروا في ذلك سلفا لكل خلف، وقدوة لكل تابع، ولذلك قالوا العرض والجوهر وأيس وليس، وفرقوا بين البطلان. والتلاشي، وذكروا الهدية والهوية والماهية، وأشباه ذلك.»
4
وقدموا معاني للأدباء والشعراء لم تكن معروفة من قبل، كما قدموا لهم تعبيرات لم تكن، يقول أبو نواس:
تكل عن إدراك تحصيله
عيون أوهام الضمائر
تنتسب الألسن من وصفه
إلى مدى عجز وتقصير
ويقول:
تنازع الأحمدان الشبه فاشتبها
خلقا وخلقا كما قد الشراكان
اثنان لا فصل للمعقول بينهما
معناهما واحد والعدة اثنان
ويقول:
كمن الشنآن فيه لنا
ككمون النار في حجر
ويقول أبو تمام:
جهمية الأوصاف إلا أنهم
قد لقبوها جوهر الأشياء
وقال سعيد بن حميد:
قد قلت بالعدل ولكنني
عدلت في الحب عن العدل
فقلت بالإجبار مستغفرا
لله من قولي ومن فعلي
ويقول ابن الرومي:
ما عذر معتزلي موسر منعت
كفاه معتزليا مثله صفدا
أيزعم القدر المحتوم يبسطه
إن قال ذاك فقد حل الذي عقدا
ويقول الناشئ يفتخر بالكلام والمتكلمين:
ونحن أناس يعرف الناس فضلنا
بألسننا زينت صدور المحافل
ننير وجوه الحق عند جوابنا
إذا أظلمت يوما وجوه المسائل
صمتنا فلم نترك مقالا لصامت
وقلنا فلم نترك مقالا لقائل
ويقول أبو نواس:
وذات خد مورد
قوهية المتجرد
تأمل العين منها
محاسنا ليس تنفذ
فبعضها قد تناهى
وبعضها يتولد
والحسن في كل عضو
منها معاد مردد
5
ويقول:
تركت قلبي قليلا
من القليل أقلا
يكاد لا يتجزا
أقل في اللفظ