ثم يعرج بنا على القرية وينيخ بنا عند دار العمدة وننزل من هذه الدار أحسن منزل، وإني لشديدة الرغبة في أن أنفق الليل حيث أنا، وإن أختي لتشاركني في هذه الرغبة، ولكن خالنا قد أزمع المسير مع الليل ولم تراجعه أمنا ولم تمتنع عليه، ولم يستطع مضيفنا أن يثنيه عما اعتزم؟
وبينما كنا نحن نأخذ حظنا من الراحة بعد أن أصبنا مما قدم إلينا من طعام كان خالنا قد خرج من القرية يريد فيما زعم أن يلم ببعض من كان يعرف في قرية مجاورة، فيغيب عنا ساعة وساعة وساعة، ويقبل الليل ويبسط ظلمته بسطا، ونكاد نستيئس من استئناف السفر ونكاد نطمئن إلى البقاء حتى يسفر الصبح.
ولكن هذا خالنا قد أقبل، وهذا صوته الغليظ القاطع يرتفع بالنداء إلى الرحيل، وها نحن أولاء نستجيب لندائه، وهؤلاء أهل الدار ينكرون عليه هذا السفر حين يقيم الناس وهذا الاضطراب حين يسكن الناس، ولكن خالنا إذا عزم أمضى. وما هي إلا ساعة أو نحو ساعة حتى كان الجملان قد دفعا بنا دفعا إلى الطريق العامة وقد أسدل الليل أستاره من حولنا إسدالا، وقد نامت الحياة وخلت الحقول وسكن كل شيء وانقطعت الأصوات، إلا هذه التي تأتينا من بعيد بين حين وحين فتنبهنا، فإذا هي أصوات الكلاب تنبح في القرى البعيدة، وإلا هذه الأصوات اليسيرة الخفيفة المختلفة المتصلة التي تحيط بنا وتمتزج بسكون الليل امتزاجا فتحدث شيئا من الموسيقى الرائعة المروعة معا، وهي أصوات الحشرات والضفادع المنبثة في الحقول وعلى شواطئ الأقنية.
وربما وصل إلينا من حين إلى حين صوت بعيد يأتينا من يمين أو من شمال فننكره ونرتاع له وهو نداء بعض الطير ولعله نداء البوم، وربما ارتفع صوت خالنا ببعض غناء البدو فرجع ترجيعا جميلا مخيفا معا، ولكنه لا يتصل إلا قليلا ثم ينقطع، ويمضي خالنا في حديثه مع أمنا، أو يغرق خالنا وتغرق أمنا في الصمت العميق، وأنا وأختي نسمع لهذا كله ونتحدث في شيء من الهمس الخائف الوجل كأنما نفر من شيء نخافه أو نقدم على شيء نخشاه، ومن يدري، لعلنا كنا ننتظر ظهور الأشباح الحمراء، ونشفق من أن تتراءى لنا وتمثل أمامنا وتكرهنا على أن نتحدث إليها أو نتحدث عنها؛ والجملان يسعيان بنا سعيا فيه إسراع ولكنه إسراع لا يكاد يحس، وكأنهما مثلنا يفران من بعض ما يكرهان فهما يجدان في السعي! وسكون الليل يثقل شيئا فشيئا، وظلمة الليل تزداد كثافة من حين إلى حين، ونفوسنا تريد أن تهيم في هذا السكون وتختلط بهذه الظلمة وتود لو احتواها النوم، ولكن أنى لها أن تهيم في سكون الليل وهي مضطربة، وأنى لها أن تختلط بظلمة الليل وفي جنباتها هذه الأنوار الضئيلة الشاحبة أنوار التفكير في غد والتذكر لأمس، والرؤية فيما نحن فيه؟! وأنى لها أن تنام وهذه بنات الليل قد أخذت تظهر شيئا فشيئا وتدنو منا قليلا قليلا، وتثير فينا هذا الإشفاق البغيض الذي لا يستطيع أن يكون أمنا ولا يبلغ أن يكون خوفا صريحا، وإنما هو قلق خفي ماكر يفسد من حوله كل شيء؟! ونحن نريد أن نقاوم بنات الليل هذه فنغمض أبصارنا حتى لا نراها ونسد آذاننا حتى لا نحس قربها منا! والجملان يسعيان في جد ونشاط لا يكاد يأخذ منهما الفتور، ثم يرتفع صوت خالنا غليظا مخيفا، كله شر وكله نكر وكله نذير: هنا يجب أن ننزل، وما هي إلا أن يناخ الجملان ولم تستطع واحدة منا أن تقول حرفا أو أن تنطق بكلمة أو أن تفكر في شيء، وإنما هو ذهول غريب كثيف قد أطبق علينا وملأ نفوسنا كما أطبقت علينا وملأت نفوسنا ظلمة الليل. وهذا خالنا قائم كالشيطان، وهو يأمرنا في غلظة وعنف أن ننزل فلن يمضي الجملان أمامها قيد أصبع.
وها نحن أولاء ننزل مضطربات، ونسعى متعثرات، وهذه أمنا تريد أن تسأل فيم إناخة الجملين، وفيم النزول في غير منزل، وها أنا هذه أريد أن أقول شيئا ولكني لا أكاد أدير لساني في فمي، ولا أكاد أستوعب ما كانت أمنا تقول؛ إنما هي صيحة منكرة مروعة تنبعث في الجو، وجسم ثقيل متهالك يسقط على الأرض، وإذا أختي قد صرعت، وإذا خالنا هو الذي صرعها لأنه أغمد خنجره في صدرها، ونحن عاكفتان على هذا الجسم الصريع يضطرب ويتخبط ويتفجر منه الدم في قوة كما يتفجر الماء من الينبوع، ونحن عاكفتان في ذهول وغفلة وبله، لم نفهم شيئا ولم نقدر شيئا ولم ننتظر شيئا، وإنما أخذنا على غرة أخذا واختطفت هنادي من بيننا اختطافا، وجسمها يضطرب ويتخبط ودمها ينفجر ولسانها يضطرب ببعض الحديث في فمها، ثم يهدأ الجسم المضطرب، ويسكن اللسان المتحرك، ويخف تفجر الدم، ويمتلئ الجو حولنا بهذا السكون الأليم سكون الموت، ونحن فيما نحن فيه من ذهول وغفلة وبله، وخالنا قائم أمامنا كالشيطان إلا أنه قد أخذه الذهول كما أخذنا ...
وهذا نداؤك أيها الطائر العزيز يبلغني من بعيد، وهذا صوتك يدنو إلي قليلا قليلا، وهذا غناؤك ينتشر في الجو كأنه النور المشرق قد أظهر لنا ما كان يغمرنا من الهول دون أن نراه، وها أنت ذا تبعث صيحاتك يتلو بعضها بعضا، كأنما هي سهام من نور قد تلاحقت مسرعة في هذه الظلمة فطردت عن نفسي ذهولها وجلت عنها غفلتها وأيقظتها من هذا البله، وجلت لها الجريمة منكرة بشعة، والمجرم آثما بغيضا، والضحية صريعة مضرجة بالدماء ...
إن صوتك لم يوقظني وحدي وإنما أيقظ أمنا فها هي هذه تفيق وها هي هذه تسأل أخاها: أوفعلتها يا ناصر؟! وها هي هذه تغرق في بكائها السخيف بكاء الأنثى المستسلمة التي لا تملك حولا ولا طولا إلا سفح الدموع. ويلك أيتها البائسة! إنك لتستطيعين أن تسفحي دموعك إلى آخر الدهر فلن تغسلي قطرة من هذا الدم الذكي، ويلك أيتها الأم الآثمة! إنك لن تستطيعي أن تردي نفسك إلى البراءة والأمن.
نعم! إن صوتك أيها الطائر العزيز قد أيقظني وأيقظ هذه الأم المجرمة التي سفكت دم ابنتها بيد أخيها، وأيقظ هذا المجرم فنبهه إلى أن جريمته يجب أن تخفى، وإلى أن آثار إثمه يجب أن تزول. ولكنه لم يوقظ هنادي وما كان ينبغي له أن يوقظها لأن صوتك مهما يقو ومهما يلح فلن يستطيع أن ينفذ من أستار الموت. إنك لترسل صيحاتك متصلة متلاحقة وإني لأنشط مثلك للصياح، وإن صوتينا ليملآن الفضاء العريض لا يصرفان هذا الرجل عما هو مقبل عليه من إخفاء هذا الجسم في هذه الحفرة التي لم يفارقنا آخر النهار إلا ليهيئها.
لقد تمت الجريمة وبلغ الكتاب أجله، واستنفدت هنادي حظها من الحياة، وماتت لأن شابا آثما أغواها ولأنها لم تحسن أن تدفع عن نفسها غوايته.
إن صوتك لينبعث في الفضاء مستغيثا وليس من يغيث، وإن صوتي لينبعث في الفضاء داعيا وليس من يجيب، وإن هذا الرجل المجرم ليفرغ من إخفاء جريمته ومحو آثارها ثم يلتفت إلى هذه المرأة وإلي ويقول في صوت متهدج فيه الرعب وفيه الخوف وفيه النذير: هلم فقد آن أن نرتحل، فإذا أبطأنا عليه ردد هذه الكلمات في صوت أشد ترويعا وأكثر امتلاء بالنذير، ثم يمثل أمامنا ويقول: تعلمان والله أن هنادي ذهبت مع من ذهب من أهل المدينة بهذا الوباء الذي ألم بها منذ أسابيع!
Unknown page